الساعة السادسة مساء يوم 20 مايو 2021
فى هذه اللحظة وطوال أمس واليوم تتزايد ملامح الاقتراب من وقف إطلاق الناروإن لم يكن هناك أى شىء أكيد فى هذه الظروف الملتبسة ولكن الترجيح يعود إلى هذه الملامح : التقليل التدريجى للقصف الاسرائيلى وتقليل القوة النيرانية الموجهة لغزة وفى نفس الوقت فإن المقاومة تقلل من استهداف تل أبيب ووسط الكيان مع تركيز شديد على مستوطنات غلاف غزة ، حتى إن صور آثار الصواريخ توضح أن سيدروت وعسقلان قد أصابهما تدمير كبير ثم أشدود وبئر سبع ، ولاشك أن مسألة القدس : المسجد الأقصى وحى الشيخ جراح الذى دخل التاريخ هى العقدة المفصلية فى المفاوضات التحتية لوقف إطلاق النار . وهذا الموضوع يتصل بحديثنا اليوم عن الوضع الدولى .
الوضع الدولى شهد فى السنوات الأخيرة تحولات غير عادية فى موازين القوى ، ورغم أن معظم المحللين الذين يسمون ” استراتيجيون ” مايزالوا يشنفون آذاننا بمعزوفة نشاز، ويقولون إن حالة الحرب الباردة التى كانت قائمة قبل 1991 بين الاتحاد السوفيتى وأمريكا لم تعد موجودة ولا حتى بين الصين وأمريكا ، وأن أمريكا لاتزال هى القوة العظمى الوحيدة فى العالم !!وهذا لعمرك شىء عجيب . فالعالم يعيش أكثر من الحرب الباردة السابقة ، وأمريكا لم تعد مسيطرة ومتحكمة فى العالم والعالم انتقل منذ عدة سنوات إلى حالة من التعددية بين أمريكا وروسيا والصين ثم فى مستوى أقل الاتحاد الاوروبى والهند واليابان . وهذا مايعترف به كبار الاستراتيجيين الأمريكيين ولكن تلامذة أمريكا فى العالم العربى لايقرأون فيما يبدو أهم ماينشر فى الولايات المتحدة والغرب والعالم . وأصبحت ثقافتهم محصورة فى الفضائيات وماتبقى فى عقولهم من زمن القراءة والدراسة . لاتشارك روسيا والصين أمريكا فى الصراع حول الكرة الأرضية فحسب بل إن القوة الامريكية فى حد ذاتها تتراجع باستمرار عسكريا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا ( لاحظ تراجع مستوى الانتاج السنيمائى وإصدارات المجلات والكتب والمسلسلات التلفزيونية وانتاج الأدب من مسرح وقصة ورواية وشعر وموسيقى وهذا ينطبق إلى حد كبير على أوروبا الحليفة ، وهذا مايسمونه هم القوة الناعمة ، وهى فى تقديرى أهم مظاهر القوة الحضارية ، أهم من المدفع والدبابة والطائرة لقد سارت جموع عالم الجنوب خلف الحلم الأمريكى الذى أضحى كابوسا كما رأينا فى الآونة الأخيرة فى مجال تصدع الديموقراطية والانقسام الطائفى والعرقى . لقد سارت نخب مايسمى العالم الثالث خلف الانتاج الفكرى للغرب ، سارت مبهورة بروسو ولوك ومونتسكيو وفولتير وماركس وجون ستيوارت ميل وهوبز وهيجل فى مجال الفلسفة وجوته وهيمنجواى وهوجو فى مجال الأدب ، وباخ وبيتهوفن وهندل فى مجال الموسيقى ، فهل يوجد مثل هؤلاء الآن . الحضارة الغربية الامريكية الاوروبية بدأت منذ فترة تنجب البيتلز ( الخنافس ) موسيقى البوب والجاز الصاخبة وأفلام الانحطاط الاخلاقى وكتب أبعد ماتكون عن الدسامة أو تقديم أى شىء حقيقى للبشرية حتى وإن اختلفنا معه . نحن الآن أمام غثاء تتم التغطية عليه بالموسيقى الصاخبة والأضواء المبهرة للعيون . تعمدت أن أبدأ بذلك لأننى عادة أركز على ماهو سياسى وعسكرى واقتصادى ولكن فى هذا المجال حدث ولا حرج . فأمريكا أكبر مستدين فى العالم وصاحبة أكبر عجز فى الميزانية وفى الميزان التجارى . وعسكريا خسرت كل معاركها بعد الحرب العالمية الثانية . وخسرت أخيرا فى صراعاتها مع ايران وكوريا الشمالية وفنزويلا وخسرت أمام روسيا فى أوكرانيا وأبخازيا ( جزء من جورجيا ) وسوريا ولكنها لاتزال تعاند من موقع متأخر . وهزمت حتى انسحبت مؤخرا من أفغانستان بعد أن انسحبت من العراق الا قليلا . وفى أمريكا اللاتينية عادت لتخسر مرة أخرى الأرض التى كسبتها فى بوليفيا والبرازيل ( بخروج لولا دا سيلفا من السجن ) وغيرهما . الصين تركز على الزحف الاقتصادى حتى أصبحت تسمى بجدارة مصنع العالم ، وهى كالبلدوزر اكتسحت أسواق أمريكا وأوروبا وباقى قارات العالم وقد حققت قفزة تكنولوجية ذاتية وليس من خلال القرصنة الصناعية . وروسيا تمثل معادل ومكافىء للقوة العسكرية الامريكية إن لم تزد فى بعض المجالات. وهى مرشحة للمزيد من التطور الاقتصادى فى مختلف المجالات . أوروبا أكبر تجاريا من أمريكا وإن كانت لاتزال أقل عسكريا وهذه هى معضلتها التى لايبدو أنها قادرة على حلها فى المدى المنظور . الهند تتراوح بين المركزين الرابع والخامس على مستوى الاقتصاد العالمى ، وهى قوة نووية وفضائية واقتصادية والكترونية لايستهان بها . وبعد ذلك توجد تجمعات اقليمية لايستهان بها لم تعد تحت طوع وسيطرة أمريكا وعلى رأسها تجمع الأسيان فى جنوب شرق آسيا ، وتجمع شنغهاى الذى يضم روسيا والصين ودول وسط أسيا .
هذا الوضع الدولى فرصة ذهبية لأمتنا كى تتحرر من الهيمنة الامريكية وعلينا ألا نضيع هذه الفرصة . فوجود ظهير روسى أو صينى أو الاثنين معا ليس بالأمر القليل ، والشطارة أن يتم الاستفادة بالعلاقة بهما فى اطار الحفاظ على الاستقلال الوطنى والعربى وهذا ممكن . كذلك من الممكن الاستفادة من التعامل مع كل هذه التكتلات الاقليمية . ولكن نهضتنا هى التى نقوم بها بأنفسنا فى المحل الأول ووفقا لمشروعنا المستقل الخاص . فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وتطوراتها الحالية يمكن الاشارة إلى دور روسيا كالتالى :
روسيا بوتين قطعت شوطا كبيرا فى إنقاذ روسيا من المستنقع الذى سقطت فيه عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وروسيا لم تأت لتحتل سوريا عنوة ولكنها كانت موجودة دوما منذ الخمسينيات فى علاقات مع النظم السورية المتعاقبة ، والاستدعاء العسكرى كان من قبل التحالف الايرانى السورى لأن قوى داعش والنصرة كانت مدعمة من 75 دولة على رأسها أمريكا ودول الغرب ، وقال ترامب لقد انفقنا تريليونات فى سوريا !! ( سأشرح ذلك بالتفصيل فى دراسة عن سوريا قريبا إن شاء الله ) روسيا تعطى صواريخ كورنيت لسوريا ومنها وصلت لحزب الله وغزة ، وصواريخ كورنيت متخصصة فى ضرب الدروع ولم تستخدم فى معارك سوريا الداخلية ولكنها كانت وراء مذبحة الدبابات الاسرائيلية ميركافا 4 فى جنوب لبنان عام 2006 . وهى الآن أصابت عدة مركبات اسرائيلية ودمرتها تماما على حدود غزة وهى فى انتظار أى غزو برى لغزة لأبادة الدبابات الاسرائيلية والعربات المصفحة التى تحمل الجنود . وقد كان لى شرف مقابلة الكورنيت شخصيا !! فى إحدى زياراتى لجنوب لبنان . الكورنيت مدفع صغير مزود بشاشة فإذا رأى المقاتل الهدف على الشاشة وأطلق صاروخه عليه فلابد أن يصيبه بنسبة 99 % . وهو قادر على اختراق الدروع السميكة والميركافا الاسرائيلية ماهى الا الدبابة الامركية الحديثة إم وان .ايه وان . ووجود هذه الصواريخ فى غزة من أهم أسباب تراجع اسرائيل عن فكرة الغزو البرى لغزة . ليست هذه الفائدة الوحيدة من روسيا فى هذا الصراع . فروسيا رفضت الضغط الامريكى الاسرائيلى للعمل على اخراج القوات الايرانية من سوريا وهى الآن لاتعمل الا ضد اسرائيل وتستعد لذلك وأخيرا بعد اندلاع أحداث القدس أطلقت عدة رشقات صاروخية من سوريا على اسرائيل وعدة طائرات مسيرة . روسيا هى التى أنشأت المفاعل النووى الايرانى فى بوشهر . وتعمل لبناء مفاعل نووى فى مصر . روسيا أجرت مؤخرا مناورات عسكرية بحرية فى بحر العرب مع ايران بالاشتراك مع الصين . وروسيا أبلغت اسرائيل ان استمرار قصف غزة غير مقبول وأرسلت نائب وزير الخارجية لحضور اجتماع مجلس الأمن بينما أرسلت الصين وزير الخارجية نفسه . علاقة بوتين مع اسرائيل معقدة وشرحتها فى دراسة منفصلة عن تاريخ ودور روسيا فى المنطقة والعالم منذ أيام بطرس الأكبر وزوجته كاترينا . ولكن فى صراع روسيا المميت مع أمريكا الذى وصل الى حد العقوبات والخنق الاقتصادى فسيكون من مصلحة روسيا معاداة أمريكا فى أهم منطقة فى العالم وهى الشرق الأوسط . وقد رأينا أن روسيا أرسلت قوات فاجنر إلى شرق ليبيا ليكون لها موطىء قدم آخر على البحر المتوسط . وتحاول روسيا الآن بيع أسلحة للعراق وأمريكا تهدد بتوقيع عقوبات!! كذلك تلعب روسيا مع تركيا أردوجان لعبة حواة متبادلة لإبعاد تركيا عن الناتو وأمريكا ولكن أردوجان يلعب على الحبلين . ولكن لاشك أن روسيا حققت انجازا جزئيا مهما مع تركيا فى السنوات الأخيرة . من التطورات المهمة أن روسيا منذ سنوات تقيم علاقات جيدة مع طالبان ومع حماس . وتحدثت الصين فى مجلس الأمن بلغة حازمة ضد اسرائيل وعادت إلى الأيام الخوالى عندما كانت نصيرة قوية لقضايا العرب . والتحالف الصينى الايرانى الأخير فى صورة اتفاقية دولية متغير استراتيجى بالغ الأهمية . الصين لعبت دورا مهما فى خرق حصار ايران من خلال شراء كميات هائلة من النفط الايرانى قد تصل الى مليون برميل يوميا وهذا لاشك خفف من الأزمة المالية لايران . وهى مصلحة متبادلة للطرفين . الصين تقدم أسلحة لايران . وهنا تجب الاشارة إلى تطور استراتيجى ، فنتيجة لخيبة العرب وتخليهم عن القضية الفلسطينية فى السنوات الأخيرة بحثت الصين عن مصالحها مع اسرائيل فى مجال التقدم الالكترونى وهو ما أثار حفيظة أمريكا وحدثت أزمة بين اسرائيل وأمريكا حتى فى عهد ترامب بسبب ذلك ، بسبب مشروعات صينية فى اسرائيل ودور الصين فى إدارة ميناء حيفا ، وقالت أمريكا إنها تستخدم ميناء حيفا وانها معرضة لتجسس صينى فيه . من مصلحتنا أن نستعيد الصين حليفا للقضايا العربية وأن نبعدها عن اسرائيل . كان من المهم أن تتقدم الصين مع النرويج وتونس بمشروع قرار لمجلس الأمن حتى وإن عطلته أمريكا ، فهذه التمارين الدبلوماسية تكشف المواقف . وقالت الصين فى مجلس الأمن كلاما جديدا بالنسبة لها قالت ( الولايات المتحدة تقف على الجانب المعاكس من المجتمع الدولى فى الصراع الحالى بين اسرائيل وحماس وتقوض جهود الأمم المتحدة للضغط من أجل إنهاء الضربات الاسرائيلية لغزة ) وقال وزير خارجية الصين فى المجلس ( من الضرورى أن تتوقف اسرائيل عن هدم المنازل وإخلاء الشعب الفلسطينى ).
أوروبا ظلت كما هى لاتستطيع أن تفعل شيئا بعيدا عن المظلة الامريكية وتقول نفس الكلام السقيم ، ان من حق اسرائيل أن تدافع عن نفسها وهى كلمة لاتستقيم بدون إكمالها بأن من حق أطفال ونساء فلسطين أن يموتوا !! وتقدمت فرنسا بمشروع معتدل لمجلس الأمن يدعو لوقف القتال وحماية المدنيين وإحياء عملية السلام ولكن أمريكا ألقته فى سلة مهملات الأمم المتحدة فى جلسة رابعة فاشلة لمجلس الأمن . وقالت ميركيل إنها ستعطى مدنييى غزة 40 مليون يورو كتر خيرك !!
فى المدى القريب فإن أمريكا هى الوحيدة التى يمكن لاسرائيل أن تضعها فى عين الاعتبار فى محيط مايسمى المجتمع الدولى . ولكن هناك متغير خطير يهدد اسرائيل عالميا وهو الرأى العام العالمى المتنامى ضدها وتزايد أعداد اليهود الغربيين الرافضين لسياسات نتنياهو . اسرائيل تعيش على العلاقات العامة ، فهى الدولة الديموقراطية الوحيدة فى الشرق الاوسط ( وهذا كذب وقح وصريح ) وهى الدولة المتقدمة تكنولوجيا وواحة الحضارة والعلم والفنون والثقافة و(الشذوذ الجنسى والمخدرات باعتبارها من ملامح حقوق الانسان فى الغرب الآن ) وهى متخصصة فى أساليب الزراعة الحديثة والصناعات الالكترونية . اسرائيل لاتتحمل أن ينقلب الاعلام الغربى عليها ولوبنسبة 50% . اسرائيل لاتتحمل ظهور رموز يهودية شهيرة فى الاعلام الامريكى تهاجمها مثل بيتر بينارت الذى كتب فى الواشنطن بوست يطالب بالاعتراف بحق العودة للفلسطينيين !! أو يظهر مقال فى النيويورك تايمز يقول ( إن أموال دافع الضرائب الامريكى تستخدم لقتل أطفال غزة ) . لقد أصبحت صورة اسرائيل أنها أقامت أكبر مجزرة للمدنيين مع سبق الاصرار والترصد . 50% من شهداء غزة نساء وأطفال . موقف أشهر الفنانين فى السنيما والتلفزيون يهاجمون اسرائيل ومنهم يهود وكذلك المطربين والموسيقيين . والمعروف أن هوليود معقل يهودى تاريخيا فإذا سقط هكذا لصالح فلسطين فإن هذا أخطر من تدمير عسقلان وسيدروت وغيرهما من مدن اسرائيل . اسرائيل خسرت بالفعل فى هذه الجبهة وهى لاتدرى كيف ستعوض هذه الخسارة . ورئيس الأركان الاسرائيلى الأحمق يعد بقطع الكهرباء نهائيا عن غزة كخطوة تالية !!
ولكن ماذا عن النظام الامريكى وادارة بايدن ؟ لنؤجل هذا لحلقة الغد . فأمريكا الرسمية طرف أصيل ودائم فى كل جرائم اسرائيل هذه المرة وكل مرة .