لحلقة 67 من دراسة المستطيل القرآنى لمجدى أحمد حسين( كل حلقة يمكن قراءتها كمقال مستقل. وقريبا تصدر الدراسة فى ملف واحد ككتاب إن شاء الله )ا
نعود للمرة الثالثة لقصة بناء الكعبة ! ولما لا؟فهى مركز المستطيل والعالم معا . هى درة الاسلام والبشر لأنها لاتكف عن دعوتهم لدين الله بما يصدح فيها من آذان يسمع فى أركان الأرض الأربعة ! وكلما تقدمنا فى الدراسة علمنا أكثر قيمة عمود الخيمة . كلما درسنا الجسد ( المستطيل ) أكثر علمنا قيمة القلب ( الكعبة ) أكثر . وبالتالى نحن لانعود للكعبة لمجرد الرغبة الجارفة فى الحديث عنها ( وهو أمر لايمكن انكاره ) بل لكى نفهم أكثر وظيفتها فى الحركة العظمى التى تدور حولها وعلى محورها على مستوى الكرة الأرضية ولمدة 24 ساعة فى اليوم .الحقيقة ان تفاسير القرآن الكريم تقدم لى على طبق من ذهب ولا أقول من فضة مادة كافية لتأصيل نظرية المستطيل القرآنى من خلال قصة الكعبة . فالكعبة هى أساس المستطيل وهى أساس القصة كلها وإن بدت مجموعة من الأحجار ، فهى فى الحقيقة بيت الله الوحيد . نحن نبنى بيوتا لعبادة الله فى كل مكان ، ونعبده ونسجد له فى كل مكان ولكن البيت الحرام هو البيت الذى بناه الله سبحانه وتعالى لنا كى نعبده ونتجمع فيه على مدار العام وليس فى الحج وحده لنعلن التوحيد ونتعبد فيه لعدة أيام ربما لمرة واحدة فى العمر ولكن من يفعل ذلك أو حتى لم يتمكن من حج البيت أو أداء العمرة ولا حتى لمرة واحدة .. يظل الجميع قلبه معلقا بالكعبة ، ومع ظهور التلفاز يتابعون شعائر الحج والدموع تنسكب من مآقيهم حزنا أن لم يتمكنوا من الذهاب . اذا نحن لسنا أمام حجارة بل ديننا قام من بين ماقام على لعن الحجر اذا تحول إلى وثن . نحن أمام واحدة من أكبر فضائل الله على عباده المؤمنين .. البيت الحرام .. هو المسجد الذى بناه الله لعباده الصالحين ، كى يأتوا جميعا اليه ليوحدوا الله فيه لافى أى بيت آخر كى يتعلموا أن يكونوا أمة واحدة فى مواجهة أعدائهم .. أعداء الدين وليشعروا بأقصى درجات الاطمئنان . وقد التزمت فيما كتبت سابقا بنض القرآن وأن سيدنا ابراهيم وابنه اسماعيل هما اللذان رفعا القواعد بأمر مباشر من الله إلى ابراهيم . قواعد الكعبة لاشك كانت موضوعة ومطمورة تحت الأرض وبالتالى فان أطوال الأضلاع كانت محددة سلفا ولم يكن لابراهيم أو اسماعيل أى آراء هندسية فهو بناء الله .وقد كنت أعلم وأتجاهل أن التفاسير تصر على أن الكعبة كانت موجودة كاملة من قبل وليس القواعد فحسب ، أتجاهل لأننى لا أريد فى مسائل العقيدة ( ولا أقول التاريخ ) أن أكتب شيئا من خارج القرآن أو الحديث الصحيح . وأخيرا رأيت أن من الأمانة أن أعرض الموضوع برمته وتوضيح رأيى المتواضع فى النهاية .أغلب التفاسير تصر على أن الكعبة بنتها الملائكة من أحجار الجنة بعد هبوط آدم الى الأرض.. وأن آدم طاف بها وكذلك نوح وهناك من يذكر أنبياء أخر دون استناد لأى دليل قرآنى أو من الحديث ولكن على سبيل الاستنتاج وتناقل الروايات من تفسير لتفسير .ولا مجال لدى لمناقشة ذلك ، فهى أمور الاتفاق والاختلاف حولها لايغير شيئا من طبيعة الكعبة كمسجد الله الحرام الذى بناه الله لنا حتى وإن كان بأيدى النبيين ابراهيم واسماعيل أو الملائكة من قبل .ولكن من الملفت للنظر ان احساسى كان ولايزال قريبا من ما تذكره التفاسير فيما يتعلق بسيدنا آدم . ولكن وقائع الدراسات لا تقوم على الاحساس ، حتى لقد ذكرت فى بداية الدراسة أن آدم لاشك كان يحوم حول أو قريبا من مكة !! ولكن لماذا قلت ذلك ؟!لأن دراستى أثبتت بأدلة قرآنية أن 24 من 25 نبيا ورسولا مذكورين فى القرآن عاشوا فى المستطيل القرآنى ، عدا آدم لم أجد دليلا يساعدنى على ذلك ، وقلت فى نفسى : لماذا يشذ عن القاعدة وكلهم من المستطيل وهو أولهم لاشك أنه كان هناك أيضا . ولكننى طبعا لم أجزم .باقى رؤية التفاسير لاتتحدث عن بناء الملائكة للكعبة وطواف الأنبياء حولها فحسب ولكن تشير إلى وجود مؤمنين عاشوا فى تلك المنطقة ولكنهم تدهوروا فى عقيدتهم واندثروا كما اندثر غيرهم وهذا ما أدى إلى تهدم الكعبة واختفاء قواعدها حتى جاء سيدنا ابراهيم .كما قلت فإن كل هذه المادة جواهر على طبق من ذهب لا من فضة لتدعيم نظرية المستطيل القرآنى . ولكننى لا أستطيع أن أبنى دراستى إلا على القرآن والسنة الصحيحة بالإضافة لوقائع التاريخ الدامغة إن وجدت وهى غير متوفرة بالتأكيد فى هذا الموضوع حتى الآن على الأقل .ولكن لابد من الاشارة إلى مسألتين أثارهما شيخ المفسرين المعاصرين محمد متولى الشعراوى وهما فى منتهى الأهمية لأنهما تستندان إلى نص قرآنى :1- ان الشيخ يستند إلى الآية الكريمة ( إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين ) آل عمران – 96 ليقول إن الله قد وضع أول بيت للناس أى للجنس البشرى أى منذ بدء الخليقة ( طبعا بكة هى مكة ) وكان هذا البيت فى مكة .2- ويستند الشيخ إلى الآية الكريمة ( ربنا إنى أسكنت من ذريتى بوادغير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) ابراهيم – 37يستند إليها ليؤكد أن البيت المحرم كان قائما واسماعيل لايزال رضيعا . وبعد سنوات شارك اسماعيل أباه فى بناء الكعبة من جديد برفع القواعد .وهذا فعلا دليل دامغ على وجود المسجد الحرام قبل مجيىء سيدنا ابراهيم وهذا لامراء فيه . ولكنه كان مطمورا ومكانه محدد بشكل عام من خلال الأحجار المتناثرة. والذى تعلمه أن المنطقة كانت مهجورة ولم يكن بها نفس انسان واحد ، وكان بئر زمزم مطمورا.فى مثل هذه الأمور ليست لى آراء شخصية ولكن أقول من نصوص القرآن. الحقائق القاطعة هى التالية : أولا : ان البيت الحرام كان موجودا قبل مجيىء سيدنا ابراهيم بنص الآية الأخيرة حتى وإن كان مهدما .ثانيا : ان ابراهيم واسماعيل رفعا القواعد الموجودة فعلا وفق الأضلاع الموجودة فعلا وأوحى الله له بمستوى الارتفاع وهذا ما جعله يبحث عن حجر ليقف عليه ليستكمل الارتفاع المطلوب .ثالثا : ان الله هو الذى وضع وبنى لنا بيته المحرم ليكون مثابة للناس وأمنا وهنا تتمحور قدسيته ، ويتمحور هو فى عقيدتنا بشعائر الحج.لاتوجد شعيرة مماثلة للحج فى أى دين آخر . أصحاب هذا الدين يزحفون كل عام فى مظاهرة عالمية كبرى كانت تحدث من قبل باستخدام الجمال وسيرا على الأقدام والآن تحدث بريا وبحريا وجويا . قد يأتى مسلم عدة مرات ولكن قطاعا كبيرا يأتى لمرة واحدة. دائما يتجدد جمهور الحجيج .. يتوحدون فى تقشفهم فى الملبس ويتحركون كمنظومة النجوم فى السماء وفق الخطة الموضوعة : مكة – منى – عرفه – المزدلفة – منى – مكة . واذا أنت أديت الحج مرة واحدة بإخلاص فسيحفر فيك كل معانى الايمان والمساواة أمام الله ، والقدرة على سحق الشيطان ، ولكن كل ذلك فى اطار الوحدة التى عندما تتحقق لايمكن أن يتغلب أحد على المسلمين.والذى حج البيت أو الذى لم يتمكن من ذلك كلهم جميعا يتوجهون فى صلاتهم خمس مرات فى اليوم إلى نفس القبلة ( الكعبة ) ويتحول المسلمون إلى وردة كبيرة تتفتح طول اليوم حول الكعبة من كل الاتجاهات وعلى مدار الساعة لاختلاف التوقيت من نقطة إلى أخرى . مليار ونصف مليار مسلم ينبضون معا بذكر الله فى نفس الاتجاه وعلى نفس المحور( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ).ولكن من أجل الدقة فهناك تفسير آخر لنفس الآية الكريمة ( انى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم) حيث يقول ابن كثير فى كتابه البداية والنهاية 🙁 لم يجىء فى خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام. ومن تمسك فى هذا بقوله ( مكان البيت ) فليس بناهض ولا ظاهر لأن المراد مكانه المقدر فى علم الله المقرر فى قدره ، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمن ابراهيم .)ولكن ماذا بعد؟قبل مجيىء سيدنا ابراهيم إلى قلب الجزيرة لدينا فراغ كبير فى المعلومات . أقصى ما يمكن استنتاجه وجود مؤمنين سابقين اندثروا واندثرت معهم الكعبة وبئر زمزم. وبعد الحياة التى صنعها ابراهيم واسماعيل فى المكان : الحياة الايمانية والحياة المجتمعية وحيث ينسب لقبيلة جرهم أنها هى التى استقرت حول بئر زمزم أولا ثم حول الكعبة بعد بنائها. وربما توجد روايات عديدة عن تاريخ جرهم وتشير إليها بعض الكتب الا انها قد تفتقد للمصداقية التاريخية الكافية وهى من نتاج رواة ونسابة العرب الذين تحدثوا بعد وقوع الأحداث بفترة طويلة. القرآن الكريم أنبأنابأن مجتمع مكة وما حولها سيشهد نمو مجتمع مسلم بعد أن كان قفرا ، وانه سيكون منه المؤمن والكافروهذه طبيعة كل المجتمعات وأن ابراهيم سيكون إمام هذه الأمةومن بعده اسماعيل .سنقرأ تاريخ مكة والكعبة بعد مجيىء سيدنا ابراهيم بطريقة فريدة ، من خلال أوامر الله لابراهيم والحديث المتبادل بين رب العزة وأبى الأنبياء، ونستنتج ماالذى حدث خلال عهدى ابراهيم واسماعيل . بعد كل هذه الابتلاءات والاختبارات الخطيرة من القذف فى النار حتى الأمر بذبح الابن ، كان هناك إعداد الهى إضافى لانعلمه لسيدنا ابراهيم(واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) بعد ذلك أخبره الله عز وجل أنه جعله للناس إماما ( إنى جاعلك للناس إماما ) فسعد ابراهيم وسأل لفوره ( ومن ذريتى ؟!) قال الله سبحانه وتعالى ( لاينال عهدى الظالمين )البقرة 124هذا هو الاستنتاج الأول : اننا أمام بناء كيان أو دولة ( بلغة العصر ) قائدها نبى أى أن القائد رجل مؤمن وعادل . والامام يعنى القائد أو الرئيس لجماعة من البشر .ثانيا : أن بناء الكعبة سيكون هو المنارة التى تجمع البشر من مختلف أنحاء العالم ، ولكن من الطبيعى أن تكون النواة الأولى ولفترة طويلة من أهل جزيرة العرب الذين يعيشون بالقرب من مكة لأن مكة ذاتها كانت خالية من البشر فى هذه اللحظة .ثالثا : كان الآذان هو الدعوة إلى الله لتجميع بنى البشر وهى لاتعتمد على قوة صوت المؤذن ولكن مع تداعيات أنباء بناء بيت الله الحرام ورفع قواعد الكعبة ، والدعوة إلى إقامة شعائر الحج.( واذ بوأنا مكان البيت أن لاتشرك بى شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن فى الناس بالحج يـأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) الحج 26 – 28هنا اعجاز لغوى بلاغى فهو نفس التوجيه ونفس الصورة الممتدة من زمن سيدنا ابراهيم وحتى الآن ، والتى بدأت بالعشرات والمئات وانتهت بالملايين.رابعا : ابراهيم يدعو الله أن يكون البلد آمنا وأن يتوفر فيه الرزق لأهله من الثمرات. وهنا تنتقل الصورة إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لمشروع الأمة الاسلامية .وابراهيم يؤكد ان وادى مكة غير ذى زرع ويدعو الله أفئدة من الناس تهوى إليهم انجذابا للكعبة وأن يرزقهم من الثمرات . لايمكن للمشروع الايمانى أن يستقر بدون مقومات الحياة من المياه والارزاق من مختلف الثمرات . وهنا الآيات تتحدث عن المستقبل القريب ثم البعيد . فمياه زمزم لما تزل تتفجر بكل القوة والاندفاع بالاضافة لوجود أبار أخرى فى مكة . معلوماتنا بعد ذلك أن مكة وان كانت مدينة ( قرية ) تعتمد أساسا على التجارة لقلة وندرة مياه الأمطار ، الا انها تمكنت من زراعة بعض المساحات وزرعت النخيل .اذا كل هذه الأدعية والحوار الربانى رسمت صورة حقيقية وواقعية لما حدث فعلا بعد بناء الكعبة . والآيات تشير إلى حدوث ذلك سريعا وهو ما يؤكد الرأى الذى يقول ان الكعبة كانت مبنية فعلا من قبل وكان مؤمنون يطوفون بها ويتعبدون حولها قبل تدهور أحوالهم الايمانية واندثار وجودهم ، فهذا الماضى جعل للمكان ( مكة ) و ( الكعبة ) سمعة سابقة ، فلم يكن أمر إعادة البناء يحتاج إلى زمن ( وحملة اعلانية بتعبيرات العصر ) كى ينعش فى الناس الشوق للعودة إلى صحيح الايمان . حركة وتنقل وترحال البدو والقبائل أكبر أداة لنشر الخبر فى ربوع الجزيرة ذلك أن الله سبحانه وتعالى عهد إلى ابراهيم واسماعيل ( أن طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة 125 فى اشارة صريحة إلى أن الجمهور على الأبواب وسيأتى قريبا للطواف والعبادة فلا يجوز أن تبنى الكعبة وتترك القاذورات أو أى حجارة وأكوام تراب هنا وهناك فى الحرم .وفى نفس الوقت فان ابراهيم واسماعيل يسألان الله أن يريهما مناسكهما أى مختلف أصول وقواعد العبادة والدين وليس مناسك الحج فحسب ولا شك ان ذلك استغرق بعض الوقت . واذا مرة أخرى لقد تمت اعادة خلق البلد والحرم والكعبة وعادت سيرتها الأولى ونشأ مجتمع مسلم له رأس ( قيادة ) قيادة تجمع بين الايمان والعدل . اذا لقد نشأت دولة أو مجتمع مسلم فى كنف ابراهيم ثم اسماعيل . وأعيد إعمار البلاد وبدأت الناس تعود وتحتشد وتتعبد وبدأ الأمن يتوفر للعابدين والطائفين والركع السجود . وهذه مرحلة استمرت لفترة ما لا نستطيع تقديرها بالضبط . ولكن ماذا حدث بعد وفاة اسماعيل ؟ملامح الدولة الاسلامية :ولكن قبل تتبع الأحداث بعد اسماعيل يتعين ألا نضيع الفرصة الذهبية الواردة فى الآية 124 من سورة البقرة . وكما نقول دائما إن القرآن كتاب هداية لا كتاب رواية. وأهم ما فى القصص القرآنى هو مافيه من شرائع وقواعد ومبادىء نستضيىء بها ، ولكن كثيرا من الناس لاينتبهون لذلك ويتصورون أن القصص بها عبرة عامة وتسلية فحسب .فى كتابى ( النظام السياسى فى الاسلام) الطبعة الثالثة وهو موجود على الانترنت – اعتبرت هذه الآية أول آية فى القرآن الكريم وفقا لترتيبه الحالى تحدد مبادىء وأصول الحكم ، وهى فعلا أول وأهم نقطة : مواصفات وشروط الحاكم . ( واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتى قال لاينال عهدى الظالمين ) الحاكم الصالح الذى يرتضيه الله سبحانه وتعالى هو الحاكم المؤمن وطيد الايمان مختبر فى الابتلاءات ونجح فيها . طبعا لن نجد حاكما ولوبحثنا فى الكرة الأرضية بمواصفات سيدنا ابراهيم ولا أى نبى آخر لأن النبوة قد انقطعت ولايمكن لأى بشر أن يرتفع إلى مستوى النبوة من الناحية الأخلاقية ولكن هذا هو النموذج المثالى الذى نقيس عليه . اذا الايمان والتقوى والإخبات إلى الله هى أهم مواصفات الحاكم مع امتلاك قدرات قيادية فى الادارة وحصيلة علمية عامة وهذا ما سيأتى فى القرآن الكريم فى قصة طالوت وجالوت . ولكن من المهم جدا أن نلحظ أن الله سبحانه وتعالى علم ابراهيم ان المؤمن الحق ( خاصة الحاكم ) لابد أن يكون عادلا . لذلك فعندما سأله ( ومن ذريتى ) قال ( لاينال عهدى الظالمين ).قلت إن هذه الدراسة تدعو إلى الاعداد لإقامة دولة اسلامية فى المستطيل كنواة أساسية للدولة العربية الاسلامية ، ولذلك يتعين تحديد معالمها الأساسية بدون تفاصيل ، لأن التفاصيل متغيرة ولا توجد فرصة قريبة لاقامة دولة اسلامية حقيقية وفقا للمعطيات الراهنة وبالتالى لايهمنا إلا التركيز على المبادىء العامة .اذا إمام الناس لابد أن يكون من نوعية سيدنا ابراهيم فى الايمان وأن يكون عادلا مثله . وبالتالى لايجوز الحديث عن المستبد العادل أو عن جواز إقامة نظام يكتم الأنفاس مقابل إقامة نهضة اقتصادية أو التركيز على الأمور العملية ( البراجماتية ) وترك الدين على الرف. ومع الأسف فقد وقع اسلاميون فى هذه المحظورات خلال الممارسات الأخيرة . وليس من قبيل الصدفة أن الثورات العربية فشلت جميعا فى كل البلاد العربية بسبب ( ترك الدين على الرف ).الدرس الربانى الثانى كان بالغ الخطر ولو أدركته الحركات الاسلامية المندفعة إلى تأسيس دولة اسلامية مزعومة لما انتهى الأمر إلى مجازر دموية ودمار لبلدين عربيين ( سوريا والعراق ).ابراهيم دعا ربه ( رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب النار وبئس المصير) البقرة 126كلمات قليلة تحمل معانى ضخمة وخطيرة ، عدم تبينها والتوقف عندها حمل الاسلاميين الكثير من الأوزار . سيدنا ابراهيم تصور أن اغداق الله بالثمرات والأمن يكون على المؤمنين فحسب . ولكنه سبحانه وتعالى قال إن رزقى وخيراتى وأشعة شمسى وأمطارى وماتنبت الأرض من مزروعات وكل النعم التى يغدق بها على خلقه فى إطار الربوبية ( فهو رب الجميع ) تعم الجميع وحساب الكافرفى الآخرة . ولاتوزع النعم بالضرورة على أساس الايمان فهناك العديد من الابتلاءات ، كذلك فإن الدنيويين يبذلون جهودا حثيثة لتثمير أموالهم ( من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريدحرث الدنيا نؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب ) الشورى 20 وقد يكون هذا المعنى واضحا ولا خلاف عليه ، ولكن هناك معنى آخر بالغ الأهمية حيث يقول الله عز وجل ان مجتمع المؤمنين لن يكون خالصا دائما بل سينطوى دوما على من يكفر بالله واليوم الآخر ، وهؤلاء ليس لهم عقاب فى الدنيا وحسابهم فى الآخرة . وليس معنى ذلك أن يكون المجتمع المسلم بلا ضابط ، ولكن المقصود ان الناس لا تحاكم ولا تعاقب على العقيدة .المبدأ الأول وهو وجود الامام العادل يضمن الحفاظ على الطابع الاسلامى العام للدولة ، فطالما أن الكفار لايمارسون أنشطة عامة جهرية ضد الاسلام فلن يحاكموا على ضمائرهم. وهذا سيتضح فيما بعد فى أيات توضح قواعد التعامل مع غير المسلمين . أما هذه ألآية فتتحدث عن الموقف الجاحد للايمان ولكن بدون محاربة نشيطة .أى أن الكافر يحاسب فى الدنيا على الاعتداء لا على العقيدة .تصور الداعشيون ولأنهم يكفرون الشيعة أن الشيعة مستباحون بدون أى محاولة للتصنيف بين المقاتل والمدنى أو بين الرجل والمرأة والطفل ، فإذا دخلوا قرية أو مدينة يبيدون أى شيعى كذلك الدروز والبعث حتى وإن كانوا موظفين مدنيين . الدولة الاسلامية الحق تجمع بين الحد الأقصى للتسامح والحد الأقصى للدفاع عن الدولة ولكن بوسائل شرعية بطبيعة الحال وعندما يكون الخطر حقيقيا ووشيكا وحالا . وهى تحاسب على أعمال محددة لا على العقيدة ، فهذا عمل محاكم التفتيش الاوروبية فى العصور الوسطى وهو الأمر الذى نرفضه تماما فى الاسلام .وبالتالى نتصور من خلال آيات القرأن الكريم السابقة ان مجتمعا اسلاميا نشأ وقام تحت إمامة ابراهيم واسماعيل من بعده وتمحور عليها .مع اقتراب موعد بعثة سيدنا محمد وصلت إلينا بعض الروايات عن أحوال مكة والكعبة. من المؤكد ان مكة تطورت فى اتجاه مدينة ( أم القرى )وأصبحت محورا لخط التجارة العالمى الأساسى ( رحلة الشتاء والصيف ) . فهذه ليست رحلة بين اليمن ومكة والشام والعراق فحسب ، بل هى قوافل تحمل كل منتجات آسيا من الصين والهند وغيرهما وتعود بمنتجات الشام والعراق وأوروبا. من المؤكد ان انتعاش شعيرة الحج جعل مكة مركزا روحيا للعرب مهما دخلت التحريفات على العقيدة الحنيفية .كذلك كانت مكة مركزا ثقافيا لعدد من المنتديات التى تقام قريبا منها وأشهرها عكاظ ومجدة وذو المجاز وهى أسواق لالقاء الشعر والخطابة وذكر الأنساب . وانعكس كل ذلك على العمران وحركة البناء وتطوير وتخطيط المدينة . كانت مكة والطائف هما القريتين المتألقتين فى وسط الجزيرة فى ذلك الوقت .من الروايات التى تتوارد فى مقدمات السيرة مايفهم منه أن بئر زمزم قد تعرض للاختفاء وانه طمر تحت الأرض وأن مكانه لم يكن معلوما لأحد وهذا يشير الى وقوع ذلك منذ فترة زمنية ليست قليلة مع عدم متابعة أحد من أهل مكة لهذا الحدث . وتقول الرواية إن جد الرسول صلى الله عليه وسلم عبد المطلب قد رأى رؤية أدت إلى إرشاده لمكان وجود بئر زمزم وانه حفر بمساعدة أبنائه حتى اكتشف البئر فعلا وتفجر بالمياه ، وانه حدث خلاف مع القبائل الأخرى التى أرادت أن تشارك فى ادارة البئر ولكنه رفض وانتهى الأمر إليه . لاشك ان اختفاء بئر زمزم ارتبط بحدث غير عادى قديكون زلزالا أو عواصف رملية ولكن الأمر يشير إلى تراجع تجمع المؤمنين حول الكعبة وتراجع تواترهم عليه والا لما تعرض للإختفاء. ××××××××××حادث الفيل الذى ورد الحديث عنه فى القرآن الكريم يؤكد أن الكعبة كانت مبنية وفى أحسن أحوالها عندما توجه أبرهه فى محاولة مجنونة لهدمها حتى لاتنافس كنيسة القليس فى اليمن . ودفع حياته هو ومن معه ثمنا لذلك بعقاب الهى لعله كان درسا حتى لايفكر أحد بعد ذلك فى إعادة الكرة سواء من الجنوب أو من الشمال ( سورة الفيل ).فى هذا العام كان ميلاد الرسول محمد ضلى الله عليه وسلم (570)، وهذا الحدث كان لاشك كالقارعة التى أعادت للكعبة أهميتها وذكرت بقدسيتها ، وكان مقدمة للحدث الأكبر وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أربعين عاما تقريبا .