رسائل الإيمان

كتبها فى السجن: مجدى أحمد حسين

تقديم

استطال بى السجن وأنا أعيش فيه وحيدا إلا من معية الله عز وجل, وما أجملها من صحبة. عندما سجنت بحكم عسكرى لمدة عامين بتهمة زيارة إخوتى فى غزة اخترت كعادتى هذه الصحبة مع الله (المعيشة فى زنزانة انفرادية), ولكن السجان أراد أن يخدمنى أكثر وهو يتصور أنه يعذبنى!! فوضعنى فى عنبر كامل بمفردى, فكنت إذا خرجت للتريض بين الثامنة صباحا والثالثة عصرا لا أقابل أحدا إلا حارسى الذى أراه لماما يأتى ليعطينى الخبز والطماطم والفول وما أشبه, ثم ينسل خارجا!! فكنت وحدى مع الله قرابة ثلاث وعشرين ساعة يوميا. وكان اليوم طويلا ولا أنكر أننى عانيت من هذه الوحدة الممتدة أكثر مما طلبت, ولكننى وجدت فوائد هذه العزلة أكثر بكثير من معاناتها؛ فكان القرآن سميرى الذى أفزع إليه, وكان الله حبيبى الأكبر الذى أبثه لواعج شوقى وكمدى, وأحدثه بالصلاة والدعاء, وأسمع ردوده من خلال تلاوة القرآن.

كنت فى حاجة إلى هذه الراحة لروحى وجسدى المتعب من طول السفر, وكنت أستمتع فى هذه الوحدة بهذه الرياضة الروحية التى أحرم منها خارج السجن.

وفى ظل هذه الوحدة المطبقة كان لابد أن أنوع من نشاطاتى وكتاباتى دفعا للملل, وكان لابد لى أن أخرق جدار العزلة المضروبة علىّ, فقررت من بين ما قررت ألا أكتب مذكراتى الشخصية التى تعودت على كتابتها فى السجن لأنشرها بعد الإفراج عنى, وأن أستبدل بذلك رسائل الإيمان المبسوطة فى هذا الكتاب, على أن أكتبها وأرسلها أسبوعيا ليقرأها أحبائى والشباب الملتف حول دعوتنا لأشد من أزرهم وأتواصل معهم, فإذا أنا تمكنت من ذلك, أى من مواصلة نشر أفكارى, فإننى أكون بذلك قد ضربت الغرض الأساسى من حبسى وراء الأسوار.

وكانت سعادتى لا توصف عندما كنت أعلم من زوجتى المجاهدة الصـابرة “د. نجلاء القليوبى” أن قراء هذه الرسائل يتفاعلون معها والبعض يثنى عليها, وأن هذه الرسائل التى كتبت فى قبو تصل إلى قراء فى كل مكان فى مصر, بل فى مختلف البلاد العربية وحيثما وجد العارفون بلغة الضاد عبر الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) ولم أكن أعرف أى إحصاء عن عدد هؤلاء القراء, فقد كنت مهتما بالكيف أكثر من اهتمامى بالكم.

وكانت كتابة هذه الرسائل من أسعد لحظات فرحى, وكنت أتشوق لكتابتها كل أسبوع, عقب تسريب كل رسالة, فلم أكتب رسالة إلا بعد الاطمئنان على خروج الرسالة السابقة.

واليوم أكتب هذه المقدمة وأنا خارج من سجنى أتمتع مع الشعب المصرى بحرية غير مسبوقة بسبب بركات ثورة 25 يناير, ولكننى أتمنى أن أعود لمواصلة كتابة هذه الرسائل أسبوعيا, فلابد أن نظل نذكر الله فى اليسر كما ذكرناه واستمسكنا بحبله فى ساعة العسر, وسيشجعنى على مواصلة كتابة هذه الرسائل أن أعرف رأيك فيها أيها القارئ العزيز, فإذا رأيت فيها فائدة فراسلنى على هذا البريد الإلكترونى:

magdyahmedhussein@gmail.com

*****

برقية إيمانية:

لا يسعنى فى نهاية هذه المقدمة إلا أن أسجد لله شكرا على آياته, فقد لفت نظرى أحد الإعلاميين إلى الحقيقة التالية التى كنت غافلا عنها؛ أن الحكم العسكرى بحبسى لمدة عامين كان 11 فبراير 2009, وأن تاريخ سقوط الطاغية مبارك هو 11 فبراير 2011, أى بعد عامين بالتمام والكمال وفى اليوم نفسه!! وأترك التعليق للقارئ الكريم.

(رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8).

مجدى أحمد حسين

القاهرة فى 13مارس 2011

(1)

المكان

فى مستهل رسائل الإيمان.. إلى إخوتى الأعزاء لابد أن أحدد مكانى أولا!.. لا شك أنكم تعلمون أننى فى سجن المرج فى ضواحى القاهرة بالخانكة التابعة للقليوبية، وليس هذا هو المقصود بالمكان، بل المقصود أننى أقيم فى زنزانة انفرادية طولها 6 خطوات × عرض 5 خطوات، تكاد تكون مربعة، وبها حمام خاص، لا توجد بها نوافذ بل مجرد فتحات عليا لإدخال بعض الهواء! وهذه هى الموضة الجديدة فى السجون: إلغاء النوافذ والقضبان الحديدية وجعلها علبا أسمنتية، بل لا توجد نافذة على الباب تسمح للسجان بمتابعة ما يجرى داخل الزنزانة فى ساعات الإغلاق كما نرى فى أفلام السينما أو فى السجون القديمة. لذلك لابد من إبلاغ رسامى الكاريكاتير والشعراء بأن يكفوا عن الحديث أو عن رسم نوافذ ذوات قضبان، فهذا ترف لم يعد موجودا فى السجون الحديثة فى مصر لأن وزارة الداخلية فى أزهى عصور الديمقراطية قررت تقليل دخول الأوكسجين الزنزانات وتقليل التهوية إلى الحد الأدنى، ومنع رؤية صفحة السماء. ولكن فى المقابل لقد كانوا كرماء بوضع مروحة فى السقف رغم أن لها أضرارا صحية إذا استخدمت على مدار الساعة فى فصل الصيف، ولعل مرضى الشديد فى العمود الفقرى كان بسبب هذه المروحة!

ولكن ليس هذا هو أهم شىء فى وصف المكان، فأهم وصف للمكان، وربما أكثره فكاهية أننى موجود داخل سجن خاص اسمه “سجن التجربة” وهو سجن داخل سجن المرج ويتبع له إداريا وجغرافيا, ولكنه منفصل ببوابة خاصة وأسوار خاصة، وأيضا ليس هذا هو الأمر الأكثر أهمية أو الأكثر إثارة للفكاهة، بل فى الحقيقة أننى النزيل الوحيد فى هذا السجن منذ 9 شهور، وأننى لا أرى إلا السجان الخاص بى!! أما مكان الفسحة حيث يمكن الخروج إليه، بين الساعة الثامنة صباحا حتى الثالثة بعد الظهر، فهو ساحة داخل أسوار هذا السجن المعزول نفسه، حيث أقوم بالتريض وحدى! وخلال الأسابيع الماضية وفى إطار سياسة محاربة الأوكسجين ورؤية القبة السماوية فقد تم تسقيف هذا الفناء بشبكة من الحديد المحكم، حيث يمكن رؤية السماء من خلف هذه الشبكة. وفى حدود معلوماتى فمن المفترض أن تسجل حالتى فى موسوعة جينيس للأرقام القياسية، فأنا المسجون الوحيد فى مصر وربما فى العالم الذى أقطن فى سجن كامل بمفردى. وبالتالى فهو سجن انفرادى، وليس زنزانة انفرادية.

والحقيقة فإن الزنزانة الانفرادية كانت بناء على طلبى، أى الانفراد بالمعيشة حتى أتفرغ للعبادة والتأمل والقراءة. ولكن وضعى فى سجن كامل منفردا لم يكن طلبى بطبيعة الحال. وأنا أكتب الآن الساعة الثالثة صباحا قبيل الفجر، ولا أسمع إلا صوت قلمى الذى أكتب به، ورغم أن هذه الوحدة مبالغ فيها، إلا أننى لا أتبرم بها، فأنا فى الأصل أحب الوحدة، والعزلة، والهدوء، وما كل الصخب الذى أعيش فيه وأحدثه خارج السجن إلا خروجا عن طبيعتى وأداء للواجب! وقد قرأت حتى الآن قرابة 200 كتاب معظمها من الأحجام الثقيلة ومن أمهات الكتب، بالإضافة إلى الصحف والمجلات – التى حصلت عليها بعد الإعلان عن إضراب عن الطعام – بالإضافة إلى ختم القرآن عدة مرات، وإضافة قرابة جزأين لحصيلة حفظى للقرآن، بالإضافة إلى إعداد عدد من الدراسات، فالحصيلة مهولة بإذن الله، والمكاسب جمة، ولم يخسر إلا الطغاة والمبطلون. أما المكسب الحقيقى فإننى كسبت نفسى.. وكسبت علاقتى مع الله عز وجل. ويبدو أننى تسببت فيما جرى لى، فقد كنت أتمنى بينى وبين نفسى أن أعيش فى مغارة أو كهف، لا أفعل فيها شيئا إلا عبادة الله، وأن أغادر هذا العالم بعد أن استوحشت الناس، واستوحشت الدنيا الفانية. فأعطانى الله ما أريد، وأرجو أن يتقبل منى؛ فهو الوحيد المطلع على خائنة الأعين وما تخفى الصدور. لقد كنت أتمنى أن أعتكف ولو لمرة واحدة العشر الأواخر من رمضان, ولكن نداء الواجب والجهاد بالكلمة جعلنى لا أمتنع عن تلبية دعوات اللقاءات فى هذه الأيام، ولم أكمل قط عشرة أيام اعتكاف ولو حتى فى بيتى. فهأنذا معتكف منذ 9 شهور تقريبا والحمد لله رب العالمين.

وأنا أكتب هذه الرسائل ليس على سبيل الفخر، والحديث عن الذات، ولكن بنية (وأما بنعمة ربك فحدث). فى هذه العزلة الربانية ترى زوايا جديدة فى القرآن الكريم لم تكن تراها، فكم مرة قرأت سورة الكهف ولم أنتبه لهذه الآية الكريمة: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) (الكهف: 16) لاحظ كلمة “ينشر” وهى تشير إلى السعة والاتساع رغم الوجود فى الكهف, فالاتساع ليس بالمساحة ولكن بالإحساس النفسى، والاتساع هنا لرحمة الله التى وسعت كل شىء فكيف بسكان الكهف، ليس هذا فحسب بل (يُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) وكأن الكهف سيتحول إلى قصر منيف!

ويعلم الله أننى لم أشعر بالضيق فى هذا الكهف إلا قليلا ولماما (حتى أكون صادقا) بل أشعر أننى فى سعة لا تحدها حدود، ولم ينتابنى إحساس قط بأننى أريد أن أحطم هذا الباب لأخرج؛ لسبب بسيط أننى لن أجد خارج هذه الزنزانة ما هو أعظم أو أجمل مما فى داخلها: راحة الضمير، والعزلة مع الله عز وجل. وإلى اللقاء فى رسالة قادمة.

(2)

وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم

الإخوة الأعزاء.. لا أزال فى رحلتى مع القرآن الكريم، فى ظروف الوحدة والعزلة المطلقة فرصة نادرة وفريدة للتأمل. وأنا أعيش منذ عدة أيام مع سورة الحديد.. لقد شبهت مرة القرآن الكريم بماء المحيط، إذا أخذت منه قطرة من أى مكان وحللتها ستصل إلى المكونات نفسها، وستصل إلى النتيجة نفسها. وكثيرا ما نسمع أن العالم الفلانى أو الشخص العلانى قد دخل الإسلام لأنه قرأ أو استمع إلى آية محددة. فكل الآيات تصل بك إلى النتيجة نفسها.. إلى حقيقة الألوهية والتوحيد, ولعل هذا هو سبب تكرار القرآن الكريم للمعانى الرئيسية بأشكال مختلفة ومداخل متنوعة، فلكل إنسان مداخله واهتماماته، كذلك فإن الناس حتى إن أسلمت فهى لن تقرأ القرآن كله بعناية وتدبر، أقصد غالبية الناس؛ فقد يحفظون آيات قليلة، أو يسمعون أو يقرءون طرفا من القرآن، فحتى إن كان هذا شأنهم فإنهم سيصلون إلى حقيقة التوحيد ويتثبتون منها، وتترسخ فى قلوبهم.

كان ينام بجوارى فى سجن العريش مسلم من بوركينافاسو، يعرف بعض القرآن ويحفظه ولكنه لا يجيد اللغة العربية وقد كان صافى النفس، نقى الإيمان، وكان هو مؤذن العنبر، وكان يخلع قلبى بحلاوة أدائه للأذان، وكنت أتدارس معه القرآن وأشرحه له باللغة الإنجليزية، ورغم أن لغته الأولى هى الفرنسية ولكنه يعرف الإنجليزية أيضا، وكان يصير فى ذروة السعادة والاستمتاع! وكان يقرأ القرآن بالعربية وأنا أصحح له القراءة، ومع ذلك فهو لا يفهم كل معانى الكلمات التى يقرؤها، ولكن البعض الذى يفهمه يصل به إلى أعلى مراتب الإيمان. وقد كان يخاصم من لا يواظب على الصلاة!

فى سورة الحديد توقفت عند شطر من الآية الكريمة ونفذت إلى أعماق قلبى، لأنها تتوافق بشكل خاص مع حالتى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد: 4). فإذا آمن الناس بهذه الآية وحدها وفهموها وتدبروا معانيها، لحلوا كل مشكلاتهم فى الدنيا والآخرة!! فنحن فى زحمة الحياة بأحداثها وضجيجها وصخبها وتقلباتها ومشغولياتها المتلاحقة ننسى هذا المعنى الجليل أو لا نستصحبه معنا طوال اليوم، فأنت إذا استصحبت هذا المعنى معك دائما، لكنت أكثر الناس سعادة واطمئنانا فى الأرض (اذكروا الله يذكركم).. فإذا كان الله معك فممن تخشى؟ وممّ تخاف؟! ولماذا توجل؟! ومن أى الأحداث والمصاعب الدنيوية يضطرب فؤادك، ويطير جنانك؟! عندما شعر موسى بالخوف من مواجهة فرعون قال له الله عز وجل: (إِنَّنِي مَعَكُمَا) – أى موسى وهارون – (أَسْمَعُ وَأَرَى)!! فهل يوجد دفاع وحماية أكثر من ذلك، وهل يوجد درع صاروخى أكثر مناعة من قدرة الله؟ لذلك وصف القرآن النفس المسلمة السائرة على الصراط المستقيم المؤمنة حقا بالله بـ (النفس المطمئنة) ويروى التاريخ أن أحد قادة الثورات الإسلامية، نام نوما عميقا فى الليلة التى سبقت الانتفاضة الكبرى للاستيلاء على الحكم بعد أن كان قد أعد كل شىء. وفى الصباح نصره الله وانتصرت الانتفاضة. فهذا نموذج حى للنفس المطمئنة.

وكلما تعرضت فى حياتى لتحديات كبيرة أو مخاطر تذكرت هذا المعنى فشعرت بالسكينة فورا. إذن كل إنسان فى هذه الدنيا أمامه هذا الخيار، أمامه أن يستفيد من هذا الدفاع الاستراتيجى، دون مقابل، فإذا أعرض فهو الظالم نفسه.. وهو فى الحقيقة ليس بدون مقابل، ولكن المقابل ليس ماديا، المقابل أن تبيع نفسك لله، وتتوكل عليه، وتلقى كل أحمالك عليه بعد أن تأخذ بالأسباب، ويصدق هذا فى الحياة الشخصية كما فى حياة الجهاد. لذلك فالمؤمن الحق لا يعرف الأمراض النفسية، ولا يعرف القلق المرضى.. ولا الهواجس المرضية أو هو بالأحرى قادر على محاصرتها والتغلب عليها إذا ذكر الله: (أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

ولا شك أن حياة العزلة الانفرادية تجعل هذا المعنى مجسما وحيا, وحقيقة لا مراء فيها على مدار الساعة.. ولكن الأفضل أن يصل الإنسان إلى هذه الحالة وهو فى زحمة الحياة وضجيجها، فيكون بينك وبين الدنيا حاجز زجاجى فتكون فيها ولست فيها، تكون فيها وتشارك فى كل شىء، ولكن هذا الحاجز يمنع عنك الانشغال بالصغائر وسفاسف الأمور وأهواء الدنيا، حاجز أشبه بالفلتر الذى يمنع الأشعة الضارة والأصوات المزعجة، فلا تصل إليك إلا الأشعة المفيدة للجسم والمعانى الحقيقية التى تستأهل التفاعل معها.

(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران: 160).

بالحسابات المادية، الباطل أقوى منا بكثير، وبالحسابات الربانية تنقلب الأمور رأسا على عقب، وإدخال إرادة الله عز وجل فى حسابات موازين القوى، يجب أن يحدث أولا فى عقول المؤمنين، قبل أن يترجم إلى أرض الواقع. نعم, الله على كل شىء قدير، ولكنه أولا (يَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، الله قادر على كل شىء، ولكن على المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب أولا.

نعم, يكفى أن نؤمن حقا بأن الله (مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) حتى تهتز كل عروش الطغيان وحتى نستهزىء بالشيطان ونزدريه، ونتركه مخذولا محزونا، وحتى نسير فى حياتنا الدنيا القصيرة مطمئنين واثقى الخطوة لا نخشى مصائب الدنيا.. نعم, استحضر هذا المعنى معك دائما ستكون سعيدا، شاعرا بسكينة لا حدود لها، تعالج أمورك بمنتهى الثقة، وتسير فى طريقك على الأرض هونا، وتتجنب كثيرا من الذلل والخطايا.

(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 53).

(3)

استقرار الحالة النفسية.. أو السكينة

الإيمان غاية ووسيلة، فإذا كان الإيمان بالله غايتنا، وتمحور الحياة حول الله عز وجل، هو هدف المؤمن المنشود، فإن الإيمان فى الوقت ذاته وسيلة لسعادته. وأنت كلما تصورت أنك تحب الله إلى أقصى مدى، وجدت نفسك فى معارج التقوى والعبادة والإخلاص لله، أشد حبا لله. قد يتصور أحد أن استطالة مدة السجن تزيد المسجون فى سبيل الله ألما، والواقع عكس ذلك تماما، فكلما طال عليك الأمد ازدادت الحالة النفسية لك استقرارا، وازداد شعورك بالسكينة، وكلما ازددت تقربا إلى الله ازددت حبا له. والعجيب أن هذه السكينة تكون تكيفا روحيا وماديا فى آن معا، فأنت تتنفس بعمق أكبر وراحة أشد وتشعر بأن حالتك الصحية المادية أفضل, وقد ذكرتنى هذه الحالة بفيلم تسجيلى رائع عن تسلق أعلى قمم الجبال فى العالم (قمة إفرست بجبال الهيمالايا) فقد أوضح أن المتسلقين بعد صعود 15 ألف قدم لابد أن يخيموا لعدة أسابيع قبل مواصلة الصعود. للتكيف مع نقص الأوكسجين، وخلال هذه الأسابيع يزيد عدد كرات الدم الحمراء فى الدم فيصبح المتسلق أكثر قدرة على التقاط الأوكسجين! سبحان الله العظيم. وقد روى لى يوما أحد المساجين أن التهوية عندما تكون سيئة فى الزنازين فإن شعر الأذن ينمو بصورة أكبر ليحمى الأذن من الأتربة!

إذن فحالة التكيف والاستقرار النفسى تتحول أيضا إلى حالة استقرار بدنى، وهذا هو سبب استمرار كثير من المساجين وغير المساجين فى الحياة بصورة معقولة رغم طول تعرضهم لظروف بيئية سيئة.

وأنا لا أستهدف القيام بدعاية مجانية للسجن الانفرادى أو غير الانفرادى، فمواجهة تحديات الحياة خارج السجون أصعب وأكثر تعقيدا، وهناك فرص لا تحصى للتقرب إلى الله شريطة الانتباه لعدم الغرق فى تفاصيل الحياة الدنيا التى لا تنتهى. بإمكانك أن تحول يومك كله إلى عبادة لله سبحانه وتعالى، فتحقق أعلى درجات ممكنة لاختبار الآخرة، ولكنك فى الوقت ذاته ستكون أكثر سعادة بمعنى الرضا والسكينة والانسجام النفسى. كيف تكون العبادة 24 ساعة (عدا ساعات النوم)؟ حياتك ما هى إلا سلسلة من القرارات المتوالية، وأنت تتخذ فى اليوم عشرات أو مئات القرارات، وكلما اتخذت قرارا توخيت فيه الالتزام بمرضاة الله، فأنت تنتقل من سكينة إلى سكينة، وأنت وحدك الذى يمكن أن تراقب نفسك، فالمسألة مسألة نية، والنية كلها محلها القلب. والله وحده كما وصف نفسه (عليم بذات الصدور)، وأنت لا تريد أن ترضى أحدا غيره. ولذلك ستراعى انطباق قراراتك اليومية مع أوامر الله ونواهيه. طبعا من الممكن أن يجانبك الصواب فى بعض قراراتك، بل سيحدث ذلك حتما، وليس هذا هو المهم، المهم هو النية الخالصة لله. ولأنها أيضا ستساعدك على تصويب هذه القرارات الخاطئة، عندما تكتشف ذلك بنفسك، أو من خلال صديق أو من خلال الأيام وهو أكبر معلم! وستساعدك هذه النية الخالصة لله أن تعترف بالخطأ على الأقل بينك وبين نفسك، بحيث تمتنع عن التكرار فى الوقوع فى الخطأ وقد يتعجب أحد فيقول: ما هى عشرات ومئات القرارات التى تتخذ يوميا؟! وعلى سبيل المثال وبعد العبادات اليومية من وضوء وصلوات. وهل تصلى فردا أو جماعة! فى البيت أو المسجد؟ فى الوقت أو بعد الوقت؟! فالقرارات الأخرى لا تعد ولا تحصى.. هل تذهب إلى العمل فى الموعد المضبوط؟ هل تذهب فى مواعيدك الشخصية فى الموعد؟ هل تعتذر عن تأخيرك أو غيابك عن الموعد؟ كيف تتعامل مع زوجك أو أبنائك، هل تعدل بينهم؟ والطالب فى الدراسة قراراته كثيرة ومعروفة بمدى التزامه بالدرس والتحصيل والواجبات.

ستجد فى القرآن الكريم وحده العديد من القواعد والآداب التى تساعدك فى اتخاذ القرارات السليمة: كالاستئذان فى دخول البيوت – والأكل عند الأقارب – دخول الأبناء على الوالدين ومواعيد ذلك – المناداة من خلف الحجرات (المناداة من الشارع الآن!) – رد السلام – غض البصر.. إلخ, فإذا أضفنا السنة النبوية المؤكدة سيتضح لنا أن هناك أمورا عديدة فى حياتنا اليومية لها قواعد ثابتة، وبالتالى يمكن القياس عليها.

ومن ثم فإن العلاقة مع الله سبحانه وتعالى يمكن أن تتواصل طوال الليل والنهار، مع ملاحظة أن يتم ذلك بدون تفاخر أو منظرة أو إدعاء الأستاذية، فالأساس أن يؤثر المؤمن فى غيره بالقدوة، أقول ذلك بسبب بعض الممارسات المنفرة التى وقع فيها سبقا بعض المنتمين إلى التيار الإسلامى، والتى تنتمى إلى الكبر (بكسر الكاف) ولا تنتمى إلى التقوى.

وكل ما تنطق به طوال اليوم من كلام وأحاديث هو سلسلة متواصلة من القرارات، فاللسان سبب كثير من المصائب (وهل يكب الناس على وجوههم فى النار يوم القيامة إلا حصائد ألسنتهم) حديث. وبالتالى فإن تقوى الله تحتاج لمراقبة للنفس ويقظة دائمة وهى مسألة تحتاج إلى تدريب بين المرء نفسه. وربما يكون التأمل جلوسا قبل الصلاة أو بعدها فرصة لمراجعة النفس خمس مرات على الأقل يوميا. وهذا هو المعنى الأعمق للتقوى والتيقن.

ولكن اللطيف فى كل ذلك، أنك إذا بدأت هذه الممارسة خوفا من الله وطمعا فى الآخرة، فإنك ستتحول إلى إنسان سعيد تدريجيا، يشعر أنه ينتزع السعادة من أشواك هذه الدنيا القصيرة الفانية، وأنه أكثر استمتاعا بالحياة، وقد امتلك الكنز الأثمن: السكينة. ولعلها أكثر دقة من السعادة، لأن الفهم الشائع للسعادة أنها حالة من الحبور المستمر والمتواصل، وهذا لا يستقيم مع أحوال الدنيا المليئة بالمتاعب والمصاعب. وأيضا يخطىء بعض المتدينين عندما يتصورون أن هذه الحالة من السكينة تعنى القبول بالقهر والظلم والتنكب عن طريق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والهروب من مشكلات (المجتمع العامة) والاعتصام فى كهف فردى أو أسرى، على خلاف حديث رسول الله (من لم يهتم للمسلمين فليس منهم).

(4)

سنة الابتلاء

الابتلاء سنة من سنن الله فى الحياة الدنيا, وكل إنسان يبتلى فيها فى نفسه وصحته وماله وأسرته, حتى خارج ميدان الجهاد فى أكثر العوارض والحوادث التى يتعرض لها المؤمن, فعندما يصبر فإن له أجرا (حتى الشوكة يشاكها). أما الابتلاء فى سبيل الله فأجره أعظم، أقول ذلك بمناسبة ما تعرض له الأخ العزيز عماد عرب من اعتداء الشرطة عليه فى جامع عمرو بن العاص فى إطار تحرك شعبى لشباب وأعضاء حزب العمل لمناصرة المسجد الأقصى، وأيضا ما تعرض له من تلفيق قضية التظاهر بدور العبادة، ورغم أن النيابة أفرجت عنه فإنه لا يزال محتجزا فى براثن الشرطة، وأيضا ما تعرض له الأخوان عادل الجندى وضياء الصاوى من أذى وتعديات. ونحن نحتسب كل ذلك عند الله عز وجل. والله لقد نجوتم أنتم أيها الثلة المجاهدة الذين خرجتم لنصرة الأقصى وعلى رأسكم الأخ الأكبر/ محمد السخاوى. هل معقول أن يحاصر الأقصى بحقراء الصهيونية اليهود، فى إصرار متزايد على اقتحامه يوما بعد يوم للبرهنة على أنه مكان الهيكل لا المسجد الأقصى, بينما لم يجد مجاهدو فلسطين إلا الأحذية والمقاعد وبعض الحجارة لافتداء الأقصى الذى ورد ذكره فى القرآن الكريم: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1) والله إن هذا الموقف جلل بالفعل، المسجد الأقصى يحارب من فوق الأرض بالحصار والاقتحام، ومن تحت الأرض بالحفر، وأمة الإسلام نائمة، وحكامنا يرون أن دورهم أن يتكاملوا مع إخوتهم الصهاينة بمنع الصلاة فى الأزهر أو بالاعتداء على المحتجين فى جامع عمرو بن العاص. لذلك أقول لشباب وأعضاء “العمل” لقد نجوتم من المساءلة يوم القيامة حين يسأل الله المسلمين: ماذا فعلتم للدفاع عن مقدساتى؟!

وهو موقف جلل لأنه اختبار الإيمان، فما معنى أن تمتلئ المساجد عن بكرة أبيها بالمصلين وتزدحم فى رمضان فى صلاة القيام، ونرى صراعا مهولا من أجل الحج والعمرة رغم أنفلونزا الخنازير، ومع ذلك عندما يحاصر الفلسطينيون العزل داخل المسجد الأقصى والمعتصمون داخله لحمايته تقف الأمة تشاهدهم. فى مثل هذه المواقف يتضح الإيمان الصادق الحقيقى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (الأنفال: 74).

وهذا اختبار أى ابتلاء لنا ليعلم الله صدق إيماننا، والابتلاء سنة من سنن الله فى خلقه لكل من يسعى لنصرة الحق، ونحن لدينا مهمة مقدسة: تحدى قانون منع التجمع فى المساجد لأنه يخالف القرآن والسنة، ولأنه يريد أن يحول المساجد إلى حظائر تدعو للحاكم، لا مكان لتجمع المسلمين كى يعبدوا الله ويتدارسوا شئونهم ومشكلات مجتمعهم ومخططات أعداء الإسلام وكيف نواجهها. لقد كان المسجد فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: مقر العبادة والسياسة والتعليم والعلاج الطبى واحتجاز أسرى العدو، وممارسة الرياضة، وعقد الصفقات التجارية واستقبال الوفود السياسية وعقد المؤتمرات السياسية والجماهيرية، بل وحتى النوم (عندما غضب سيدنا على رضى الله عنه مع زوجته فاطمة ذهب ونام فى المسجد!!) أما الآن فإن السلطان يأمر بغلق المساجد عقب انتهاء الصلاة، وبعد الدعاء لحاكم البلاد!

ومن ثم فنحن فى حزب العمل الذين حاولنا إعادة المسجد إلى دوره الأصلى بلقاءات الجمعة بين عامى 2002-2007م فى الأزهر, واليوم مهمتنا أن نعيد تحرير المساجد المحتلة، ويجب أن ندفع الثمن من سجن وضرب واعتداءات. فالمسجد بيت الله ولن يكون أبدا بيت الحاكم أو الأمن.

وعلى الأقل فى الأحداث الكبرى لابد أن نذهب إليها لا يرهبنا بطش أو تهديد، لأننا نخاف عقاب الآخرة أكثر بكثير من عقابهم الدنيوى. والساكت عن الحق شيطان أخرس. سئل الإمام الشافعى: أيهما أفضل للمؤمن أن يُبتلى أم يُمكّن؟ قال: لن يُمكن حتى يُبتلى!

لذلك يجب أن نوطن أنفسنا على ملاقاة هذه الابتلاءات بقلب راض وبروح مفعمة بالأمل، ولنلحظ المجاهدين حولنا وهم يضحون بأرواحهم فى سبيل الله, فى لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان, إن قوافل الشهداء تصعد إلى السماء كل يوم، وأيضا الذين ابتلوا بالجراح، أذكر أننى التقيت فى أحد المواقع السكنية المدمرة فى غزة، حشدا من الجمهور الفلسطينى، كان أكثرهم وعيا وحماسا وإيمانا شاب مقعد على كرسى متحرك.

نحن لا نهاب الجراحات والابتلاءات لأنها عربون ندفعه بقلب راض لله عز وجل متبعين رضاءه وجنته وإذا لم يتملكنا هذا اليقين، فلن نقف صامدين أمام أية نفخة من الطغيان، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

عندما كان والدى فى فراش الموت وكنا جزعين حوله، كان يحاول أن يقول لنا كلمة بصوت خفيض ونحن لا نسمعها، وأخذنا نسأله، وأخذ هو يكرر حتى علمنا أنه يقول: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) وكانت هذه آخر كلمة سمعتها من والدى أحمد حسين فى منزلنا قبل أن يدخل إلى المستشفى ثم الموت والرحيل عن هذه الدنيا الفانية.

يا شباب “العمل” اصبروا واحتسبوا واذكروا أن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هى الجنة. واعلموا أن الدنيا قصيرة جدا، وأن ما تسجله فى كتابك ليكون بيمينك يوم القيامة هو الكسب الحقيقى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد: 20).

وسلام عليكم أينما كنتم, والحمد لله رب العالمين.

(5)

لا تخشَ أن تكون وحيدا!

يخشى الإنسان أن ينعزل عن الناس, ولديه ميل ليكون مع المجموع وأن يسير مع التيار، ولا غرو فالإنسان كائن اجتماعى ويستشعر وجوده مع المجتمع كجزء لا يتجزأ منه، لذلك من التحديات التى تواجه المؤمن أنه وخوفا من العزلة يساير التيار أيما كان حتى وإن كان خاطئا، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكن إمعة بين الناس) فإن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت. فالمؤمن يدور مع الحق أيما كان ولا يخشى خطر العزلة، ولا يخشى من خطر أن يكون وحيدا. والحق أبلج والباطل لجلجل، الحق معروف والانحياز له يكون بيقين واطمئنان حتى لقد سمى الله الحق (المعروف) لأنه معروف بلا خلاف حوله وسمى الباطل (المنكر) لأن الفطرة السليمة تنكره. وأنت تقول عن الشخص غير المعروف أنه نكرة، فالباطل تنكره النفس أى لا تعرفه وأنت تقول (هذا أمر غير منكور) بمعنى أنه لا شك فيه، أى معروف وثابت! فالحق قديم ومعروف ولكن ضعف النفس البشرية وأحابيل الشيطان والركون إلى الدنيا هى التى تدفع الإنسان للابتعاد عن الحق, أما المؤمن فهو فى حالة انتباه ويقظة دائمة حتى لا يحيد عن الحق بغض النظر عن العواقب.

وهناك أمور متشابهة عديدة يختلط فيها الحق والباطل أحيانا, أو هكذا يتصور الإنسان ولكنها على أى حال فى التفاصيل، أما الأمور الجوهرية والحاسمة فهى معروفة فى كل زمان ومكان ولدى الأمم كافة إن كانت حقا أم باطلا، صوابا أم خطأ، والانحراف يأتى بسبب التسيب الأخلاقى والتساهل النفسى والركون للطبيعة الطينية للإنسان دون روح الله التى نفخها فيه: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 28-29) وهناك مقولة شائعة تقول (كلمة الحق لم تترك لى صديقا) وهى مقولة صحيحة وخاطئة فى آن معا بمعنى أن بها بعض الحقيقة, فالناس لا تحب الحق لأن له تكلفة وله تبعات على مستوى السلوك الشخصى أو على مستوى إصلاح المجتمع، فالناس تميل إلى السهولة وتصدف عن الصعوبة، كالماء يتجه إلى السهول والوديان والمنخفضات ولا يتجه إلى أعلى الجبال. ولكن الإنسان المكلف بالأمانة من المفترض ألا يسلك مسلك الجماد! لذلك فإن أصحاب الحق كانوا دائما قلة, ولكن القانون الاجتماعى الذى وضعه الله، يشير إلى انتصار القلة على المدى الطويل، إذا ثبتت أقدامها وظلت متمسكة بالحق قابضة على دينها وإن كان قطعة حجر من النار، وتلتف غالبية الناس فى النهاية حولهم، فإذا من بعدهم (خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم: 59) وهكذا يظل تاريخ البشرية فى دوائر متصلة بين سيادة الحق، وسيادة الباطل (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) ولم يقل نداولها بين المؤمنين أصحاب الحق وحدهم!

عندما ذهب مسلم بن عقيل بن أبى طالب ابن عم الحسين رضى الله عنه إلى الكوفة لاستطلاع استعداد أهل العراق لمبايعة الحسين استقبله 20 ألفا من الناس، وذهب بهم إلى المسجد لصلاة المغرب، وأثناء الصلاة شعر المصلون بأن القوات بدأت تحاصرهم (وهى قوات أرسلها والى الكوفة) فأخذوا يتسللون، وعندما سلم مسلم لم يجد وحدا خلفه!!

وفى واقعة كربلاء حاصرت قوات يزيد الحسين ومعه سبعون من آل البيت، وطلب الحسين أن يسمح له بالعودة من حيث أتى، ولكن القوات خيرته بين المبايعة بالإكراه ليزيد أو القتل فرفض الحسين حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم (علام تقاتلوننى أيها القوم؟ هل قتلت لكم نفسا؟ وهل سلبتكم مالا؟ وهل انتهكت لكم عرضا؟) ومن ضمن الآلاف التى تستمع إليه من قوات الحصار لم يستجب له إلا شخص واحد! هو الحر بن يزيد الذى انضم إليه.

وقد ورد فى القرآن الكريم مشهد يعبر عن هذا الحال عندما عصى بنو إسرائيل سيدنا موسى ورفضوا أن يدخلوا الأرض المقدسة (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 24-25) وهذا هو سبب التيه أربعين سنة.

فالضغط على صاحب الحق – حتى وإن كان رسولا – يصل به فى لحظة ليكون وحده ومعه أخوه النبى هارون. ولكن ليست هذه هى الصورة النهائية فالصبر يثبت الحق ويعود ليتمدد من جديد وينحسر الباطل.

ولذلك لا تخشَ أن تكون مع الحق، لأن الحق هو الله سبحانه وتعالى، على مستوى حياتك الخاصة سيعمل قانون الحق وستكون استقامتك محل عرفان وتقدير المحيطين بك على المدى الطويل. وفى كل أسرة وتجمع إنسانى يشار بالبنان إلى أشخاص محددين ويوصفون بالصالحين، وإذا كانت النية هى إرضاء الله سبحانه وتعالى، فإن حب الناس واحترامهم إياك حتى من الأعداء جائزة دنيوية من الله سبحانه وتعالى. وعلى المستوى العام انظروا كم من الناس كانوا أقرب الناس إلينا ومن صلبنا، وكيف تخلوا عنا، ويتخلون، وكيف طعنونا فى الظهر، ويطعنون، ولو حسبنا أعدادهم منذ إعلان التوجه الإسلامى فى 1986م لحزبنا حتى الآن، لرأيتهم جيشا لجبا، ولكن هذا لم يفت فى عضدى أو عضدكم لأننا موقنون أننا على الحق، ولو كان الذين تخلوا أو طعنوا أو ضعفوا أو استكانوا على حق، فليقولوا لنا ما هو حتى نتبعهم، لقد امتصتهم الحياة كما تمتص الإسفنجة المياه, فلا تكاد تراهم ولم يتجمعوا فى أى شىء, بل تناثروا فى دروب الدنيا بلا رابط، ومهما حققوا من مكاسب دنيوية فإننا لا نحب أبدا أن نلحق بهم, ولا أن نفنى فى مجلس الشورى. لقد احترفنا أن نقبض على الجمر, وهذه هى سعادتنا العظمى, ولم نيأس يوما من رحمة الله, ويظل يحدونا الأمل فى نصر الله.

(6)

وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً

صلاة الفجر فى السجن الانفرادى هى سكينة داخل السكينة، ومستوى أعلى للصعود الروحى؛ فطوال النهار والليل هناك أصوات ما تأتى من البعيد، أما فى الفجر وبعد هدوء أصوات الأذان المتناغمة المنبعثة من مساجد المرج أو الخانكة فإن الهدوء يصبح عميقا، وحتى أسراب الغربان تنحنى للحظة الخلود هذه، فتلتزم الصمت لمدة ساعة على الأقل، ولا تبدأ بالنعيق إلا قبيل الشروق. وخلال هذه الساعة لا تسمع إلا صوت الصمت وتلاوتك القرآن سواء داخل الصلاة أو خارجها. وتشعر بالأسى على الحياة فى تلك البلاد التى أتيت منها حيث تم تركيب الحياة لتحاصر صلاة الفجر، نعم أنا أشعر أننى فى بلاد أخرى مساحتها 6 متر×4 متر (الزنزانة) ولكنها أشبه بقارة منعزلة كالقطب الجنوبى مثلا، عالم آخر، ليس فيه بشر, فأنا لا أرى البشر إلا دقائق متناثرة, مجموعها فى المتوسط اليومى نصف ساعة، أما لمدة 23 ساعة ونصف الساعة، فأنا مع الله، والملائكة، ولا يتبدى هذا الإحساس بصورة عميقة بأكثر من لحظات الفجر. أما فى الدنيا البعيدة التى أتيت منها فكما ذكرت فقد تم تركيب الحياة فيها وكأن ذلك بشكل مقصود لمحاربة صلاة الفجر. فالحياة الحقيقية تبدأ بعد صلاة العشاء، والبرامج والأفلام التليفزيونية تبدأ بعد العاشرة مساء وتصل إلى ذروتها فى منتصف الليل أو بعده، فينام أغلب الناس متأخرين ولا يصلون الفجر, أو يصلون الفجر وهم فى حالة كدر شديد من قلة النوم! فتضيع أبهى لحظات الوجود للصلاة والتفكر، لحظات الانتقال من الليل إلى النهار: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ).

وهناك طرفة تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم عاد إلى الحياة واستقل مركبة طائرة. وطلب من السائق أن يهبط فى البلد الذى يستيقظ أهله ساعة الفجر، فهبطت المركبة فى اليابان!

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) يقول المفسرون: أى تشهده الملائكة. وهكذا يضيع على معظم المسلمين أبهى لحظات هذا الاحتفال السماوى.

لو سألنى أحد هل تحتمل نفسيا أن تبقى وحيدا لا ترى البشر تقريبا لمدة عام عدا زيارة واحدة لمدة ساعة كل أسبوعين أو حتى كل أسبوع؟ لقلت له بلا تردد: لا أستطيع أو سيكون وضعا صعبا للغاية. ولكننى فى التجربة وجدت العكس؛ فأنا أزداد ارتياحا يوما بعد يوم، ورغم أننى قد يضيق بى المقام للحظات كل يوم أو كل بضعة أيام، لأن الإنسان حيوان اجتماعى كما يقولون، أعود فأشعر بمشاعر مضادة إذ أصبحت خائفا من الخروج من هذا القمقم، والاحتكاك مرة أخرى بممارسات البشر. وتذكرت كلمة عجيبة قالها أحد العارفين بالله (غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وخفاء مكانه عنهم!!).

وقد عانيت كثيرا فى البلاد البعيدة التى أتيت منها من الكذب والنفاق وضعف النفوس وحسدها وحقدها وحرصها على حطام الدنيا، وهذه أكثر الأشياء التى جعلتنى أكره الدنيا، ولطالما هفت نفسى إلى الرهبانية، أو الصوفية المتطرفة, ولم يردعنى إلا علمى اليقينى أن ذلك ليس من الإسلام. ولكننى فهمت معنى ما يروى عن سيدنا يحيى عليه وعلى محمد الصلاة والسلام أنه – قبل بعثته – (استوحش الناس وآنس إلى الوحوش فعاش فى البرارى)، وكنت أتفاعل مع مشاعر الإمام أبى حامد الغزالى وهو يتحدث عن رغبته الجارفة فى الانعزال عن العالم فى المرحلة الأخيرة من حياته، ولكننى ظننت أبدا أن مخالطة الناس هى الجهاد الأصعب، حتى هيأ لى القدر هذه التجربة التى لم أكن أحلم بها، أن أعيش بدون بشر!!

ومع ذلك فأنا أحسن الظن بالناس على المدى الطويل، وأدرك جوانب الخير فى الإنسان، ولن أتخلى بإذن الله حتى الرمق الأخير عن أهلى وأحبائى وأبناء عشيرتى وموطنى, وأنا مشغول بعيوبى عن عيوب الناس، ولكننى أمقت الخيانة والغدر والكذب والنفاق والنفوس الوضيعة التى تسعى إليك عندما تريد منك شيئا، وتزاور عنك عندما تتصور أن البعد عنك غنيمة، أمقت الذى ينفذ أوامر السلطان ويكسر أوامر الله، أمقت الذى يتقرب إليك وينافقك عندما تكون لك سلطة ما، وينكرك عندما يرى مصلحته الأنانية فى ذلك كما فعل بطرس عندما أنكر المسيح ثلاث مرات عند صياح الديك (أى عند الفجر).

وأصل الداء هو الانشغال بحب الدنيا والانهماك فى سفاسفها، لذلك كم كانت رائعة كلمات الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه التى قالها وهو خليفة المسلمين، عندما خاطب الدنيا قائلا:

(قد أبنتك ثلاثا لا رجعة فيها! فعمرك قصير.. وعيشك حقير.. وخطرك كبير.. آه من قلة الزاد وبُعد السفر.. ووحشة الطريق).

لذلك ما أجمل هذا الدعاء القرآنى:

(وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا).

نعم نحن نحتاج إلى سلطان نصير من الله لمواجهة ظلم القريب والبعيد. فحتى الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعانى مما يقولون عنه، وهو من هو من حيث قوة الإيمان والصلابة فعزاه الله وقال له: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر: 97-99).

(7)

الوقت.. ذلك السر الرهيب!

بالأمس نمت 12 ساعة متصلة بدون أى انقطاع.. وعندما استيقظت قبيل الفجر أخذت أدقق النظر فى الساعة لأتأكد من هذه الحقيقة أين يقع العقرب الصغير؟ وأين يقع العقرب الكبير؟ كنت أتصور أننى غفوت لمدة ساعة أو ساعتين. وهذه ليست تجربة فريدة فهذا يحدث لكل منا عندما يستيقظ فلا يعرف كم مر من الزمن إلا عندما ينظر فى الساعة. وعلى المستوى الشخصى المباشر فقد شعرت بالسعادة فلقد سرقت من الدنيا نصف يوم دون أن تستطيع أن تنال منى؟! وكذلك سرقت نصف يوم من عقوبة الحكومة لى بالسجن؟! ولكن هذه أبسط الدلالات. فالوقت.. أو الزمن هو سر الحياة الرهيب. وما يحدث فى حالة اليقظة أهم بكثير مما يحدث فى النوم. فأنت تقول أثناء سير الحياة (لقد سرقنا الوقت) عندما يمر الوقت بأسرع مما تشعر. فالأحرى أن نقول إن الإحساس بالوقت هو السر الرهيب. فقد تمضى عليك الدقيقة وكأنها دهر ثقيل طويل، وقد يمر اليوم وكأنه برهة، حسب الظروف المحيطة. فإذا كنت سعيدا ومتوافقا مع نفسك وأحوالك ومشغولا بعمل ما أو بشىء تحبه فالزمن يمر سريعا، ولكن فى الملمات والظروف الصعبة واللحظات الكريهة فإن الزمن يكاد يتوقف أو يتحول إلى حالة من البطء الشديد. وهكذا فإن الزمن يتحول إلى مسألة داخلية خاصة أنت الذى تصنعها، وتشعر بها وفقا لشخصيتك وتفاعلك مع الظروف المحيطة بك.

والزمن حالة خاصة جدا من صنع الإنسان وقدراته المحدودة.. فنحن نقسم الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل. فى حين أن الحاضر مسألة وهمية! أو تكاد! فالحاضر بعد لحظة يتحول إلى ماض. فأنا الآن أكتب رسالة ولكن السطور الماضية تحولت إلى ماض! وهذا السطر سيتحول إلى ماض بمجرد الانتهاء منه! وكل كلمة بل وكل حرف تكتب تتحول إلى ماض بمجرد كتابتها, فالحاضر مجرد ذبذبات مستمرة تتحول أولا بأول وبسرعة البرق إلى ماض!!

وأنا أستعد لكتابة رسالة مطولة حول الوقت، ولكن حتى ذلك الحين أقول إن أهم ما فى هذا الموضوع (الوقت) ما يتعلق بالعقيدة. فهذا الإحساس الذاتى والزائف بالوقت يجعلنا نتراخى فى العمل للآخرة، ونغرق فى الدنيا, فنحن يتملكنا إحساس زائف أن الدنيا طويلة وزمنها ممتد بصورة رهيبة، وعندما يكون الطريق طويلا فإنه يكون مبلغ همك وعلمك أن تنتهى منه ولا تفكر فيما وراءه. إحساسنا الزائف بطول زمن الدنيا يجعلنا ننشغل بها وبأمورها على حساب الآخرة، فالآخرة جد بعيدة ولا نراها ولا نعرف متى نصل إليها، والمرء يتلهى بما هو محيط به وكأنه مستمر أبد الدهر. وقد أشار القرآن الكريم مرارا إلى هذا المعنى حتى لا يغتر الناس بالدنيا، ومن ذلك: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا – أى الساعة – لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) أى أن الدنيا سيصبح تقديرها عند كل إنسان مجرد نصف اليوم.

وهناك أمور غيبية يجب أن نسلم بها إذا وردت فى القرآن الكريم أو السنة. ولكن ليس ذلك هذا الشعور بالزمن، لأننا يمكن أن نختبر هذه الحقيقة فى حياتنا. فإذا كان عمرك عشرين عاما فما هو إحساسك بما مضى من حياتك إلا مجرد برهة, والشعور نفسه سيكون لديك عندما تكون فى الثلاثين أو الستين.. إلخ.

بمجرد انتهاء الزمن يتحول إلى ذكرى وتتحول الذكرى إلى لحظة أو مجموعة من اللحظات. هذا مجرد إحساس ولكنه إحساس صادق. طبعا يمكن لإنسان أن يكتب مذكرات حياته فى مئات الصفحات، ولكن يبقى أن إحساسه بالعمر الماضى مجرد برهة.

ويمكنك أن تختبر هذا الإحساس الواقعى فى الرحلات الطويلة.. فإذا ركبت القطار مثلا من القاهرة إلى أسوان ولم تكن فى عربة النوم، فإنك ستشعر فى البداية أن هذا الوقت طويل لن ينتهى إلا بشق الأنفس (12 ساعة) والشعور نفسه إذا سافرت إلى الولايات المتحدة بالطائرة (12 ساعة) ولكنك بمجرد وصولك يتحول زمن الرحلة إلى برهة.

وأحيانا يشعر الإنسان بمرور الزمن بصورة صادمة مفاجئة، عندما يجد شعرا أبيض فى لحيته أو رأسه، أو عندما يرى نفسه وقد أصبح جدا له حفيد، أو عندما يجد صعوبة فى صعود السلالم!

فإذا أضفت إلى كل ذلك، أن العمر غير مضمون، وقد تكون نهايته قبل متوسط الأعمار المعروف فى بلدك، سيزداد الأمر قصرا. لذلك إذا تجردت لهنيهة من مشاغل الدنيا وفكرت هكذا ستدرك مقولة الإمام على بن أبى طالب أن الدنيا (عمرها قصير) وأن الجدوى الاقتصادية – بمفاهيم العصر – للخلود فى الجنة لا تقارن بلحظات الدنيا. فليكن شغلك الشاغل أن تحولها إلى مزرعة للآخرة. ولا تضيع الوقت كثيرا فيما لا جدوى حقيقية منه. ولنأخذ من الدنيا حاجتنا الإنسانية المادية والروحية بالحد الأدنى المعقول لتيسير الأمر فيها، ولقتل إحساسنا الزائف بطول وقتها، وأفضل تعبير عن هذه الحالة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وغريب هنا معناها عدم الانغماس فى الدنيا إلى حد نسيان الآخرة، فلا تندمج فى الأحداث المباشرة وتنس الحدث الأكبر والهدف البعيد. أما عابر السبيل فهو يأخذ ما يحتاجه من أكل وشرب واحتياجات إنسانية, كمسافر عندما يمر على واحة أو محطة استراحة ثم يمضى فى طريقه. والحديث ذو شأن ويحتاج كما ذكرت إلى رسالة أطول.

(8)

لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ

أهم ما كشفت عنه هستيريا كرة القدم التى أججها نظام الحكم للتغطية على عوراته وفشله فى كل المجالات أن المجتمع المصرى لديه قابلية بقيادة حكامه للخروج عن أبسط مبادئ وتعاليم الإسلام: فمهما كانت تصرفات مجموعة صغيرة من مشجعى الجزائر فى الخرطوم، فإنها لا تبرر هذا الموقف الجاهلى الذى تبناه رموز النظام وأبناء الحاكم والإعلام الرسمى ضد 40 مليون مسلم جزائرى، مع ملاحظة حالة من المبالغة الشديدة مما حدث فى الخرطوم, فلا يوجد قتيل مصرى واحد, ولا حتى إصابة واحدة تستدعى دخول المستشفى فى حين دخل (20 جزائريا المستشفى فى القاهرة!!) كما أنه فى حكم المؤكد أن الاعتداء على أتوبيس اللاعبين الجزائريين فى القاهرة كان مدبرا من جهة رسمية (اتحاد الكرة المصرى). ولكن بلا شك فإن المحصلة الإجمالية أن تجاوزات مشجعى الجزائر خاصة على أرض الجزائر هى الأكبر، ولكن كل التباينات فى التقديرات لا تبرر تكفير الشعب الجزائرى بأسره!

يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات: 11).

يحذرنا الله عز وجل من الوقوع فى المشاجرات والخلافات التى لا تستند إلى مبدأ، يحذرنا من سخرية قوم من قوم، أو السب أو التنابز بالصفات التى لا يحبها الناس، وسمى ذلك فسوقا وأنه ينقص الإيمان، وأنه يستدعى التوبة وإلا كنا من الظالمين.

وهذا ينطبق بحذافيره على ما جاء فى تليفزيون الحكومة المصرية: تكفير 40 مليون جزائرى (قال مذيع إن الجزائريين أعراب والأعراب أشد كفرا ونفاقا)، وجاء على لسان مذيع فى محطة خاصة أن الجزائر بلد “المليون لقيط” بدلا من المليون شهيد، فوصل الأمر إلى إهانة الشهداء وليس الأحياء فحسب، بهذا اللفظ البذىء. ووصف متحدث السفير الجزائرى فى مصر بأنه “خنزير” وهذا مما لايجرؤ أن يقوله على سفير إسرائيل. وقال علاء مبارك (على الجزائريين أن يتعلموا اللغة العربية أولا قبل أن يتحدثوا معنا) علما بأن كثيرا من الجزائريين يعرفون العربية أكثر منه. وأن معايرة الجزائريين بأثر الاحتلال الفرنسى سقطة لا تجوز. وتكررت الدعوات لغزو الجزائر! وطلب البعض فتح باب التطوع لحرب الجزائر!! فهل بإمكان مصر أن تحتل الجزائر؟ إن كان يجوز ذلك شرعا، وبسبب مباراة كرة قدم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم!

فى صدر الإسلام نجح اليهود فى إعادة إذكاء الفتنة بين الأوس والخزرج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجاهلية وأنا بين أظهركم!).

ويقول الله عز وجل: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات: 10), ويحرم الإسلام سب المسلمين بغير حق (طبعا ولا غير المسلم) ونحن نقول إن السب شمل الشعب الجزائرى كله, وفى ذلك يقول الله عز وجل: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليه. وأيضا: (لا يرمى رجل رجلا بالفسق أو الكفر، إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) البخارى. وأيضا: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) مسلم.

أما مسألة الافتخار بمصر وأيديها البيضاء على العرب فهذا عيب أخلاقيا ودينيا، يقول الله عز وجل: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى), وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أوحى إلىّ أن تواضعوا حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد) مسلم. فإذا كانت مصر قد قدمت خيرا للعرب فهذا يحتسب فى سبيل الله، وأيضا هذا من مصلحة مصر، فلا يوجد تعارض بين العمل لله، وبين تحقيق المصالح فالاثنان فى طريق واحد، ونحن مأمورون بأن نتعاون ونتآلف معا سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفى كل المجالات: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) فكيف يمن مؤمن على مؤمن أنه والاه، إنه فى الحقيقة لا ينفذ إلا أمر الله. وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ومنهم “المنان” وفى القرآن: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى).

الإسلام لا يعرف العنصرية التى تدين جماعة بشرية بأكملها حتى بالنسبة إلى غير المسلمين، وقد أشرت من قبل إلى بنى إسرائيل: (فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)، وهناك فى القرآن دائما عدم تعميم بالنسبة إلى أهل الكتاب (ليسوا سواء)، وقد أدان القرآن الأعراب, ولكنه قال أيضا: (وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِى رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 99).

وقد يكون لما حدث بسبب مباراة كرة قدم خير عميم إذا أدرك الشعب المصرى مستوى التفاهة والانحطاط الذى وصلنا إليه فى ظل هؤلاء الحكام وهذا الإعلام الرسمى، وليذكروا أنه فى الوقت ذاته تصالح الترك مع الأرمن بعد عداء دام 100 سنة، إذ يتهم الأرمن الأتراك بإبادة مليون أرمنى. والمفارقة أن المصالحة أخذت شكل مباراة كرة قدم بين البلدين!!

لابد أن نفيق من هذه الغيبوبة, وأن ندرك أن الوطنية المصرية حقا هى التى تقودنا إلى إعمار بلدنا بالعدل والالتزام بمرجعيتنا الإسلامية فى كل شئوننا الداخلية قبل الخارجية، وأن ندافع عن كرامة المصريين المذبوحة على يد الشرطة وبلطجية الحزب الحاكم وضحاياهم بالآلاف, وتذكروا أن إسرائيل قتلت من رجال الشرطة العديد من أفرادها فى السنوات الأخيرة، ولم نشهد حملة للدفاع عن مصر، بل استقبل مبارك بيريز فى اليوم التالى لقتل اثنين من رجال الشرطة المصريين, وفى حرب غزة الأخيرة دمرت إسرائيل عشرات من منازل المصريين فى رفح ولم يصدر تصريح إدانة واحد من مسئولينا الكرام! فأين العمل بالآية الكريمة: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم ْ) (الفتح: 29), نحن نعمل بعكس توجيه هذه الآية.

ملاحظة: كل ما ذكرناه آنفا ينطبق أيضا على الإعلام الجزائرى، والنظام الجزائرى, وفئة ضالة من الشعب الجزائرى أصابها بتأثير الإعلام العداء المطلق للمصريين كشعب.

(9)

ومات رفيقى الوحيد

لابد من باب الوفاء، ومن باب التعبير الصادق عن لحظة فى حياتى، أن أقف اليوم هنيهة لنعى رفيق سجنى الوحيد “كيمو”, الذى مات فى حادث أليم ليس له شهود، ولكن على سبيل الاستنتاج، فلا شك أنه أغلق على جسده باب حديدى ثقيل حطم عظامه وأجزاء من جسده الداخلى، فقد وجدته فى الصباح ينزف دما وعاجزا عن الحركة، وعزوفا عن الأكل والشرب، وعاجزا عن النطق، وعندما حملته فى صندوقه الذى وضعته له ليحميه من برد الشتاء، وحملته إلى زنزانتى لأتابع حالته، وجدت الحياة تدب فيه.. قفز إلى سريرى حيث اعتاد أن ينعم بالنوم على البطانية الصوف، تصورت أن حالته تتحسن، ولكنها كانت صحوة الموت، وكأنه ود أن يموت فى المكان الأثير لديه، وعندما جلست أتفقد جروحه كان ينظر إلىّ بعين دامعة، وهذه أول مرة أجد فيه “قطة” تبكى. وعندما أخرجته مرة أخرى للفناء ووضعت بجواره كل ما يحتاج من أكل وشرب كان يحدونى الأمل أن أزمته الصحية عارضة، ولكنى فى صباح اليوم التالى وجدته قد أسلم الروح وارتاح من متاعب الدنيا.

ليس من عادتى تربية القطط فى السجون، ولكن “كيمو” كما أطلقوا عليه، فرض نفسه علىّ، فيبدو أن أمه تخلت عن رضاعته، وعندما استضفته لعدة ساعات – بعد أن صرخ مرارا صرخات استغاثة الجوع – مرة لوجبة زبادى، ومرة لوجبة سمك، ارتبط بالمكان، وظل واقفا على بابى, وبمجرد أن يفتح باب العنبر صباحا يدخل بنداءات الاستغاثة نفسها، وبالوجه الطفولى الجميل نفسه، وبراءة الأطفال فى عينيه! رغم أن فضلات المطبخ على بُعد أمتار منه، ولكنه اختار أن يكون معى، فلم أستطع التخلى عنه. وأصبح السجين الثانى معى فى عنبر التجربة, وتدريجيا لاحظت أنه يخفف من وحدتى المستمرة قرابة عام، وشعرت أنه يسدى إلىّ خدمة المؤانسة, وهى خدمة أكبر من تلك التى أوفرها له (الطعام النظيف!)، وأصبح رفيقى بكل معنى الكلمة؛ نقتسم كل أنواع الطعام المتوافر لدينا، ويقتسم معى ساعات الصباح بألعابه ومناوراته وسيره خلفى فى الفناء أثناء أوقات التريض، وفى المساء نفترق 17 ساعة حيث يمضى الليل وحيدا فى الفناء. وبمجرد أن تفتح الأبواب أجده واقفا فوق رأسى فى الفراش، إما لينام معى أو ليدعونى إلى وجبة الإفطار!! وقد شاركنى فى أحزانى وهمومى, وكان يتوقف عن اللعب ويتأملنى بعمق عندما يجدنى حزينا، وبمجرد وجوده أصبحت هناك معالم مجتمع.. فلابد من مراعاة تقسيم الغداء بيننا, وعلى ضوء الأشياء التى يمكن أن يقبلها “كيمو”، أما الأمور المعيشية الأخرى فقد دبرها هذا الصغير وحده، فقد خصص ركنا به رمال كدورة المياه، وحّول بلاعة غير مستخدمة إلى غرفة نوم. وهو يفعل كل ما تفعله القطط مع أنه مولود صغير وأصبح معزولا عن عالم القطط، وهذه من عجائب صنع الله، ونتصور أننا نحل المشكلة بأن نقول غريزة، فما هى الغريزة؟ وأين موضعها فى الجسم؟ ومن الذى أودعها بهذه البرمجة التى لا تخطئ!

وقد ردد كثير من الحراس عندما رأوا تعلق هذه الهرة بى أن بعض الحيوان أوفى للإنسان من الإنسان, وأن الإنسان معرض للغدر من أخيه الإنسان، ولكن الحيوان عندما يصادق فلا يغدر بك أبدا.

وغير صحيح أن الحيوان يحبك من أجل الأكل فحسب، فهو لا يستغنى عن المحبة والود والحنية والملاطفة والملاعبة.. فالأكل متوافر فى كل مكان وما أكثر حقول القمامة! باختصار لقد تحول هذا الهر الصغير إلى عنصر مهم فى حياتى على مدار شهرين، وشغلنى باحتياجاته، وتخصيص وقت للعب معه، حتى لقد خشيت على حالة الاعتكاف المطلق التى أحياها. ولكن ما كان لى أن أتخلى عنه، كما أن لى 17 ساعة منفردا كل يوم.

وكنت قد بدأت أنشغل بمستقبل “كيمو” فماذا لو خرجت أنا من السجن؟ كيف سيعيش فى السجن بعيدا عن هذه الحياة المرفهة والأكل النظيف. لذلك كنت أشجع خروجه من العنبر حتى يظل متصلا بعالم الحياة الأوسع داخل السجن. حتى جاء اليوم الذى عاد فيه محطما ينزف دما.

سبحان الله تعالى.. سبحان الله فى مخلوقات الله.. فهذا الهر حفر فى قلبى ذكرى عطرة بخلاف بعض البشر الذين عرفتهم وادعوا يوما ما أنهم أصدقاء ومحبون. لقد كان فى هذا الهر فرصة للتفكر والتأمل فى خلق الله.

وعدت من جديد إلى حالتى الأصلية سجينا منفردا فى سجن خاص من المفترض أنه يسع العشرات، ولكن لا يوجد فيه غيرى، ولكنه يظل عالما واسعا يتصل بالكون ما اتصل التسبيح بالله العظيم.

(10)

.. وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ..

من السهل أن تضع (لا إله إلا الله) على علم السعودية، ولكن من الصعب على هؤلاء الحكام أن يلتزموا بمضمون هذا الشعار العظيم، أى الالتزام بالقرآن والسنة، وسورة الحجرات منذ بدايتها حتى الآية 13 تتضمن دستورا كاملا للعلاقات بين المسلمين وكيفية تنظيمها بالعدل والإحسان. وفيما يتعلق بحالة الاقتتال بين المسلمين جاء فيها: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ولكن حكام المملكة السعودية وفقهاء السلطان لديها يتجاهلون هذا النص القرآنى, كما تجاهلوا النصوص العديدة التى أمرت بعدم موالاة الأعداء (أمريكا والغرب), فسموهم الدول الصديقة, وسلموا لهم ثروات البلاد، وعقدوا معهم المعاهدات العسكرية التى استخدمت لضرب واحتلال العراق وأفغانستان, وهادنوا إسرائيل, ولم يشاركوا يوما فى قتالها رغم تعدد الحروب العربية, ورغم أن حدودهم لصيقة بالأردن وفلسطين.

وبمناسبة عيد الأضحى وموسم الحج – ويا للغرابة والعجب – أعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز العاهل السعودى أن بلاده “لن تسمح لكائن من كان أن يدنس شبرا من أراضيها” فى إشارة إلى تسلل الحوثيين، مضيفا أنه “لا خيارات مفتوحة للدفاع عن النفس سوى النصر بعزة وكرامة أو الشهادة فى سبيل الله ثم الوطن” والإسلام برىء من هذه الأقاويل الجاهلية (فكيف لمسلم أن يدنس أرض المسلمين)! فهذا الاقتتال يجرى أساسا فى دول مجاورة, ولا يستهدف نظام الحكم السعودى, ومن واجب حكام اليمن أن يتفاوضوا مع الحوثيين، ومن باب أولى أن تلعب الجارة المسلمة الكبيرة (السعودية) هذا الدور، لا رفع راية الجهاد فى غير موضعها، والحديث عن سبيل الله بينما هم يسيرون فى سبيل الشيطان. والقرآن الكريم يدعو إلى الحل السلمى بغض النظر عن الطرف المخطئ أو الذى بدأ بالعدوان. وهذا ما حاولته قطر فى مرحلة سابقة، ولكن النظام اليمنى خرق الاتفاق. بينما لم نسمع هذه الأقاويل “الجهادية” عندما كانت إسرائيل تذبح مئات المسلمين فى غزة 2008 أو مئات المسلمين والعرب فى لبنان 2006. وهؤلاء الحكام سمحوا لمئات الآلاف من قوات أمريكا والغرب بتدنيس جزيرة العرب لتحطيم العراق عدة مرات واحتلاله، بينما يرون فى اضطرار الحوثيين فى إطار معارك الكر والفر وفى إطار التداخل الجغرافى بين اليمن والسعودية إلى عبور الحدود الوهمية بين البلدين لمنع الجيش اليمنى من الالتفاف حولهم من الشمال، ومن داخل الأراضى السعودية، أى أن العبور كان اضطراريا ولأسباب تكتيكية لا بهدف النيل من المملكة, لأن استهدافها ليس على جدول أعمال الحوثيين وليس فى قدرتهم!

والآية الكريمة صريحة بضرورة الإصلاح بين فئتى المؤمنين بغض النظر عن من المخطئ، فحقن دماء المسلمين واجب، ثم تأتى بعد ذلك مراحل أخرى: (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أى إذا خرقت وقف إطلاق النار ولم تعتزم الصلح الذى تولاه طرف ثالث (والطريف أن السعودية هى الطرف الثالث الطبيعى المرشح لهذا الدور) فلابد من قتالها حتى تعود إلى طاولة المفاوضات السلمية، وتوقف القتال، فإذ تحقق ذلك تأتى المرحلة الثالثة: (فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وهنا يأتى الانتقال من مجرد وقف إطلاق النار وحقن الدماء إلى السلام العادل الذى يعطى كل ذى حق حقه، ولقطع جذور أسباب هذا الشقاق حتى لا يتجدد مرة أخرى. وهذا ما تؤكده الآية التالية أيضا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

أين هذا الموقف الرائع الذى أخذ به القانون الدولى المعاصر (وقف إطلاق النار – مباحثات سلام – معاهدة سلام) وهو قانون لحل مختلف الصراعات المسلحة وليس بين المؤمنين فحسب. أين هذا الموقف من موقف حاكم السعودية الذى يتحدث عن تطهير كل شبر من السعودية من أى مسلم يمنى!! وأن يسمى اشتراك السعودية فى الحرب مع النظام الفاسد فى اليمن جهادا فى سبيل الله، والموت فيه استشهادا! بينما لم نسمع منه هذه المصطلحات والأقصى يتعرض للتدمير والمسلمون تفيض دماؤهم أنهارا فى فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.

وفى إسلامنا بعد القرآن والسنة نجد سوابق دستورية مهمة فى التعامل مع المعارضة المسلحة، لعل أبرزها موقف الإمام علىّ بن أبى طالب من الخوارج، وقد وصل بهم الأمر إلى تكفيره, بل وحملوا السلاح. وكان رده عليهم أنه لم يلغ وجودهم ولم يأمر بمطاردتهم وملاحقتهم حتى لا يبقى لهم أثر، بل قال لهم فى صراحة وجلاء: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نحرمكم من الفىء ما دامت أيديكم فى أيدينا, ولا نبدأكم بقتال. وظل الإمام علىّ ينتهج معهم أسلوب الحوار والتفاوض, وكان ينتصر عليهم بالحجة والبرهان مع الوفود التى كانت تأتيه منهم لمناظرته.

وهكذا دون أن يربكنا الإعلام الرسمى بتفاصيله وأكاذيبه فإن نصوص القرآن تدين حكام اليمن والسعودية، وباعتبارهم الطرف الأقوى فإنه ينطبق عليهم ما جاء فى الأحاديث النبوية: (المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه) الترمذى – مسلم.

(سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه.

وإن كانت معلوماتنا عن الحوثيين محدودة إلا أنهم بالتأكيد حركة مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل وشعارهم الأساسى (الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل) ونحن واثقون من فساد واستبداد اليمن وتبعيته لأمريكا والغرب، والموقف الشرعى الذى لا يحتمل أى لبس لوضوح النص القرآنى، هو الوقف الفورى للقتال، وبداية التفاوض بين النظامين اليمنى والحوثيين، وقد يكون الإشراف للمعارضة الحزبية اليمنية أو أى طرف عربى أو مسلم من خارج اليمن.

ملاحظة: هل نسى علماء وحكام السعودية أننا فى الشهر الحرام ذى الحجة وأنه لا يحل فيه قتال المشركين ومن باب أولى المسلمين!!

(11)

الملك.. وارتياد الفضاء!

انشغلت منذ صباى وشغفت بمشاريع ارتياد الفضاء, منذ قام جاجارين أول إنسان بالخروج من الغلاف الجوى والدوران حول الأرض فى كبسولة صغيرة، وقد اعتبرت أن التحدى الأكبر فى هذا الارتياد للفضاء هى قدرة الإنسان باختياره على البقاء فى كبسولة صغيرة لعدة أيام أو أسابيع، وأن الشعور بالملل والضيق بالأماكن الصغيرة المغلقة هو التحدى الأكبر، والتغلب عليه يكشف الأبعاد العميقة للطاقة الإنسانية التى أودعها الله فيه، رغم أن جاجارين نفسه لم يكن مؤمنا بالله، فقال قولته الضعيفة: “لقد بحثت عن الله فلم أجده”، ولا أدرى من الذى قال له إن الله موجود وظاهر بعد الغلاف الجوى للأرض مباشرة!! لعل هذا القول كان وراء موت جاجارين بعد سنوات فى حادث تحطم طائرة داخل الغلاف الجوى! فإذا كان خرج بقدرة الله – التى أودعها فى الإنسان – إلى خارج الغلاف الجوى، فها هو يموت داخل الآلة القديمة المخترعة منذ عشرات السنين (الطائرة).

ويبقى تحدى البقاء داخل مركبة فضائية صغيرة لعدة أيام وأسابيع أو شهور هو العائق الأكبر من أجل الوصول إلى أجرام سماوية أبعد من القمر مع البقاء فيها لبعض الوقت، ومن أهم ما يؤخر رحلة الإنسان إلى المريخ أنها تستغرق جيئة وذهابا بين عامين أو ثلاثة, وتقوم وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) بحل المعضلات المادية لتوفير الغذاء والماء لرواد الفضاء طوال هذه المدة، ويتم حل هذه المشكلات الفنية رويدا رويدا، ولكن تبقى المأثرة الأعظم فى ذلك الإنسان الذى يقبل البقاء فى مركبة فضائية لمدة 3 أعوام يتخللها بعض الوقت على أرض المريخ المجهولة!

ويشبه ذلك من بعض النواحى هواة تسلق الجبال الشاهقة، الذين يواصلون الصعود والسير لأيام وأسابيع وربما لشهور للوصول إلى قمم الجبال، وكيف لا يصيبهم الملل وهم يسيرون وسط الثلوج فى مناطق موحشة وهم بأعداد قليلة، وحيث يمرون بمراحل من الرتابة حيث تسد الأفق مجرد مساحات بيضاء. كيف يتغلبون على الملل فى هذا الجو المخيف. بل لقد مات العشرات فى محاولة الوصول إلى قمة إفرست بجبال الهيمالايا, والبعض فقد أطرافه بسبب التجمد.. ما أعجب هذا الإنسان وقدرته على المغامرة ومواجهة المخاطر. ولكن يبقى الأمر المحير كيف استطاعوا أن يتغلبوا على الملل والرتابة من أجل تحقيق نصر معنوى، وبعيدا عن الأضواء وشاشات التلفزة.

ومن ذلك أيضا الرحلات الخطرة فى جوف الصحراء، حيث الملل من تكرار المشاهد لا يقل خطورة عن التيه أو التعرض للموت. إن الإنسان يتغلب على الملل بوجود دافع عميق لمغامرته، فإذا كان الدافع قويا فلن يشعر بالملل، أو يصبح قادرا على التغلب عليه وجعله مشكلة ثانوية.

والبقاء فى زنزانة انفرادية بل وعنبر انفرادى كامل خال من البشر، لمدة عام يشبه تلك من بعض الوجوه، تلك التجارب التى لا أجرؤ على القيام بها أو حتى مجرد التفكير فيها، ارتياد الفضاء، تسلق الجبال، الغوص تحت الماء، رحلات الصحراء. ووجه الشبه الأساسى هو البقاء فى كبسولة أو موقف ثابت لمدة شهور وأعوام، ولولا أن لدى دافعا قويا ما أمكننى احتمال ذلك ولا ليوم واحد. والدافع الأساسى هو أنه لابد أن يكون من بيننا من يقول الحق ويفعل الحق, وأن يتحمل عواقب ذلك حتى وإن كان الموت ذاته. أن تقول الحق لا تخشى فى الله لومة لائم هو الشعار الذى عاشت به الأمم، ولابد لقلة أن تظل تقوم بهذا الدور وتحمل المشعل وتسلمه لغيرها، بل إن أكثر ما يثبتنى فى موقعى، هو استمرار سيادة الباطل فى الدنيا المحيطة بنا، ولذلك لا يكون هناك دافع قوى للعودة لهذه الدنيا، بل يكون البعد عنها غنيمة.

لماذا تبقى مصر محرومة من الحكم العادل والحاكم العادل؟ لماذا لا ينصف المظلومون؟ لماذا تتحول مصر إلى أداة لخنق مقاومة شعب غزة وتسعى لبناء سور حديدى تحت الأرض لمنع الأنفاق التى تعطى غزة الغذاء؟ لماذا نتحول إلى ألعوبة فى يد إسرائيل وأمريكا؟

كيف أصابنا النسيان السريع لكارثة أننا نأكل طعاما مغموسا بمياه المجارى؟ كيف تم إغلاق هذا الملف دون إصلاح؟ وكيف صمت الحكام والمحكومون؟

كيف يتواصل ابتذال الوطنية المصرية ورفع أعلام مصر بمناسبة لقاء فى الدورى بين الأهلى والإسماعيلى. لقد دخلنا بالفعل فى طور التخلف العقلى حيث فقدت العلاقة بين الأشياء, وحيث فقدت المعانى معانيها، وانقطعت العلاقة بين المعانى والكلمات!

لقد وصلنا إلى مرحلة حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا، ويؤمر بالمنكر وينهى عن المعروف.

لقد انقلبت الأمور فأصبحت وظيفة الشعب المصرى أن يعمل على بقاء العائلة المقدسة فى الحكم، لا أن يعمل الحاكم على إرضاء المحكومين.

من حقنا ومن حق الشعب أن نظل نحلم بالحكم العادل لأن الله سبحانه وتعالى يأمر بالعدل والإحسان. وفى سبيل هذا الحلم الشرعى والمشروع لا بأس من بقاء بعضنا فى كبسولة السجون, وسأظل بإذن الله تعالى صابرا ضد خطر الملل، والعبادة خير معين على ذلك، وكما جاء فى الحديث: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، وطالما أن القرآن الكريم سمير ورفيق الزنزانة فلن نمل بإذن الله.

(12)

قصة طالوت وجالوت.. تكرر عبر التاريخ

قصة طالوت وجالوت التى وردت فى سورة البقرة تتكرر عبر التاريخ، كقانون اجتماعى، وكسنة من سنن الله فى خلقه، والقصص القرآنى هو مستودع القوانين الاجتماعية والسياسية كافة التى تحكم حياة البشر، لذلك قال القرآن عن القصص أن فيه (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ), فما هى المفاصل الأساسية فى هذه القصة:

  1. أعرب بنو إسرائيل عن رغبتهم فى القتال فى سبيل الله.
  2. فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم.
  3. عندما بعث الله لهم طالوت ليقود القتال أثاروا مماحكات حول أحقية القيادة (نزعة البشر للصراع حول القيادة والتنافس فيها والغيرة).
  4. عندما بدأ القتال قام طالوت باختبار من معه فى الصلابة والطاعة لله، فأمرهم ألا يشربوا من نهر إلا من اغترف غرفة بيده، وأن الذى سيلتزم بذلك هو الذى سيواصل معه، فلم يلتزم إلا قليل!
  5. وبعد مجاوزة النهر هو والذين آمنوا معه قالت الأغلبية من هذه القلة: (لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)!!
  6. وقالت القلة الباقية من القلة: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
  7. انتصرت هذه القلة الباقية!

وينطبق هذا القانون على الصراع العسكرى والسلمى، فكلما زادت المخاطر والتحديات، تعرضت الفئة المؤمنة الصلبة للمزيد من التقلص والانكماش، ولكنها فى المقابل تزداد صلابة وإيمانا ويقينا بالله، فإذا صبرت يكون النصر حليفها بإذن الله.

وقد تعرض حزب العمل لشىء من هذا منذ اعتداء السلطة عليه فى عام 2000، فقبل هذا الاعتداء كان الحزب يمارس نشاطه بصورة قانونية طبيعية, وكان الناس يقبلون على الانخراط فى عضويته بعشرات الألوف، وكانت الجموع تسعى للكتابة فى جريدة “الشعب”، أو للترشيح فى قوائم الحزب فى الانتخابات المختلفة. وعندما أصبح الحزب مجمدا بقرار من الطغاة وتم إيقاف جريدة “الشعب”، ابتعد كثير من الأعضاء عنه، وهربت مجموعات إسلامية من صفوفه باعتباره لم يعد ملاذا آمنا، بل أصبحت عقوبة الإسلامى الذى ينضم إلى حزب العمل مغلظة.

ولكن فى المقابل انضمت إلى حركة الحزب عناصر أكثر عقائدية وصلابة، وهكذا فإن الحزب كغيره من الفرق المجاهدة يتعرض للاختبار, فإن كان على حق سيستمر ويقوى وينتصر، وإن كان زائفا وخبيثا يتبخر بسبب هذه الابتلاءات والمحن. والأصل اللغوى للفتنة، من فتن الذهب, أى صهره حتى يتخلص من الشوائب. ولذلك فإن أصحاب الحق إذا تعرضوا للفتنة أى للصهر والانصهار فإن معدنهم الأصيل يتخلص من الشوائب، ويصبحون أكثر قوة وأصالة وصلابة وقيمة. لذلك فإن الابتلاء يتحول من نقمة إلى نعمة، وهذا قانون ثابت: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ولكن كيف يواجه المؤمنون هذا الموقف الرهيب إذ لا توازن ماديا فى القوى مع الباطل، واحتمالات المخاطر عالية تتراوح بين الموت والعذاب وشظف العيش؟

تستند المواجهة إلى ركنين أساسين وردا أيضا فى ذات القصة:

  1. الإيمان بالآخرة: فالذين ثبتوا إلى النهاية مع طالوت وصفهم القرآن الكريم بأنهم: (يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ)، فاليقين بالآخرة، وأنها المستقر والمستودع النهائى والخالد لبنى البشر، هو أساس الاستهانة بمخاطر الدنيا العرضية، وهذا اليقين يعطى المؤمن قوة مضاعفة غير منظورة, أى معنوية، وهذا اليقين يثبته على الحق حتى آخر قطرة من دمه، والطغاة لا يستطيعون قياس هذه القوة الكامنة فى معسكر المؤمنين، وتخرج عن حساباتهم، وهذه من أهم عناصر غفلتهم.
  2. الصبر: (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) و (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمفهوم الشائع عن الصبر أنه موقف سلبى يشير إلى الاستكانة والخنوع والرضا بالظلم, وهذا مفهوم خاطئ، فالصبر موقف إيجابى يعنى تحمل المصاعب والمتاعب والمخاطر بثبات. وهذه الآية تؤكد ذلك, فالصبر مطلوب خلال القتال، وليس بالهروب منه، بل جاء الحديث أكثر تعبيرا، طلبا لفيض من الصبر أى أكثر من الصبر المعتاد: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) لأن الموقف جد صعب والتوازن المادى لصالح العدو. وهكذا فإن الإيمان بالآخرة لا يكفى إذا لم يكن مشفوعا بالصبر، فقد يؤمن إنسان بالآخرة، ولكن عند شدة النزال لا يصبر على المكاره، والمتاعب، والعطش، والجروح والإصابات, فيفر من ساحة الوغى!

والجهاد السلمى لا تقل مخاطره عن الجهاد الحربى، كما أنه يتسم بالبطء, وهذا يستدعى المزيد من الصبر. وبطبيعة الحال فإن الصبر يفيض على المؤمن كلما كان يقينه بالآخرة أشد وأقوى. واليقين يعنى أن تكون الآخرة فى بؤرة شعوره وتفكيره، فكل المسلمين لا ينكرون الآخرة، ولكن القضية تكمن فى حضور هذا الإيمان فى الذهن والقلب طوال الوقت, لضبط السلوك والحركة فى الدنيا على أساسها.

نحن على الحق بإذن الله، لأن خصومنا ومعارضينا والذين سقطوا من مسيرة الجهاد، لا يقولون إننا نقول شيئا خاطئا، ولكن يقولون “لنكن واقعيين”.. “ليس هذا وقته”.. “لا طاقة لنا اليوم بجالوت” إن صاحب الحق يعرفه، والناس كلها تعرف الحق (كما قال المسيح تعرفون الحق والحق يحرركم) ولكنها تخشى من دفع التكاليف، ودفع الثمن. والقرآن الكريم لم يضع أبدا الكثرة كمعيار للصواب، بل العكس هو صحيح، كان الحق دائما مع القلة، حتى تنتصر.

(13)

(يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)

لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم ليكون مرشدا ودستورا للمؤمنين، فالذين يؤمنون بالله حقا وصدقا يتعين عليهم أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة الكبرى بما يليق بها وبما تعنيه حقا، فإذا جاز لغير المؤمنين ألا يعيروا انتباها لأحكامه، فكيف يجوز للمؤمنين أن يجمعوا بين إيمانهم بالله وهجرانهم لأحكام كتابه: (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 30).

وسأظل أعود وأكرر الحديث حول إثارة النظام الحاكم فى مصر للنعرة المصرية، واستغلال الوطنية المصرية فى غير موضعها بالحديث عن السيادة والأمن القومى عندما يكون الأمر متعلقا بالعرب والمسلمين، بينما ينسون الوطنية والسيادة تجاه إسرائيل والولايات المتحدة والغرب. وهذا المرض الذى تعانيه مصر عمره من عمر كامب ديفيد (30 سنة) إذ رأى أهل الحكم ألا وسيلة للدفاع عن الصلح المنفرد مع العدو الصهيونى ونكران باقى الأرضى المحتلة وفى مقدمتها القدس والمسجد الأقصى، ألا وسيلة للدفاع عن ذلك إلا بإعلاء مصطلح “المصرية” و”المصلحة المصرية” حتى لقد وصل الحال إلى استخدام هذه المصطلحات فى مباريات كرة القدم وإثارة العداء للشعب الجزائرى برمته, والآن نجد الخط العنصرى الذى يضع مصر فوق العروبة والإسلام ينتقل من كرة القدم ليعود إلى مساره الأصلى ضد الشعب الفلسطينى المحاصر فى غزة. وهكذا فإن حكامنا لا يرون فى إسرائيل أى خطر علينا بل هى طرف مأمون وصديق موثوق به, فلا يوجد جدار بيننا وبينه، ونستقبل نتنياهو وبن إليعازر المتهم بذبح الأسرى المصريين وأى مبعوث صهيونى، ولكن لا يلتقى حكامنا بخالد مشعل أو إسماعيل هنية إلا عن طريق الأجهزة الأمنية، والآن جاء دور إقامة جدار عنصرى لإحكام محاصرة غزة وقطع شرايينها بالمخالفة لقول الله عز وجل: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ) وتشير الأنباء إلى استمرار نظام مبارك فى عقد المزيد من الصفقات لتصدير المزيد من الغاز الطبيعى الرخيص لإسرائيل, بينما نحظر كل أسباب الطاقة والحياة على مسلمى غزة. ونثير فى مواجهة غزة المحاصرة، غزة المسلمة, مسألة قدسية الحدود. بينما لا نثيرها مع اليهود الذين يدخلون بدون تأشيرة عبر معبر طابا إلى مصر كل يوم، ورغم ما ثبت من مضار ذلك فى جلب المخدرات والأسلحة والعملات المزيفة.

إن استمرار إثارة نظام مبارك للنعرة المصرية ضد أهلنا فى غزة هو ممارسة جاهلية مرفوضة بنص القرآن, الذى لا يفرق بين المؤمنين, ولا يعلى شأنهم على شأن بعض على أساس العرق أو اللون أو الوطن، وقد أمر القرآن بالقوميات (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) ولكن ليس للتفاخر والتعالى, ولكن (لِتَعَارَفُوا) على أساس (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وهذا قانون للبشرية جمعاء. والمثير للسخرية أن المصريين وأهل غزة من قومية واحدة، هى العربية، بل وأكثر من ذلك فإن روابط تاريخية ربطت بين مصر وغزة، وكانت غزة فى معظم مراحل التاريخ جزءا لا يتجزأ من مصر, وفى العصر الحديث تعتبر غزة نقطة تواصل بين مصر وفلسطين، حتى أصبحت غزة ذات شخصية مصرية فلسطينية انتقالية، وقد وصل الأمر إلى حد أن علاقة مصر بالغزيين أصبحت صلة رحم فما أكثر علاقات التزاوج بين أسر الطرفين، بالإضافة إلى أن مصر مكان تعليم ودراسة معظم شباب غزة، بل وحتى اللهجة المصرية فى الحديث هى السائدة فى غزة! ومع ذلك يواصل نظام مبارك تصوير غزة – دون إسرائيل – بأنها هى الخطر على مصر.

ما أعنيه بالأساس فى هذه الرسالة أن القرآن الكريم لم يتحدث عن أقوام المسلمين, ولم يفرق بين جماعات المسلمين, والقرآن لا يعرف مصطلحات: المصريون – العراقيون – الفلسطينيون.. إلخ, ولكنه يقسم البشر على أساس: المؤمنون – الكافرون – المنافقون – أهل الكتاب، أو تقسيم آخر: المعاهدون – المحاربون.

وفى إطار هذا التقسيم فإننا مأمورون بموالاة المؤمنين, أى التحالف والتعاون والصداقة معهم دون الأعداء. وحكامنا يعملون بالعكس تماما, فهم يتعاونون مع المحاربين للإسلام من أعداء الله, ويسمون العلاقات معهم إستراتيجية (أمريكا وإسرائيل) ضد المسلمين المحاصرين فى غزة, ويمنعون عنهم الغذاء والدواء, بل ويحرمون حتى التجارة المشروعة معهم (سوق غزة يحتاج سنويا إلى بضائع بأكثر من مليار دولار).

وهم يتحدون صريح الآيات القرآنية: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَيْءٍ) أى أن القرآن جعل موالاة الأعداء من نواقض العقيدة.

ولا يمكن للمسلم فى مصر أن يفر بنفسه ويقول أنا لست مسئولا عن ذلك، فهؤلاء الحكام يحكمون بادعاء أنهم يمثلون الشعب المصرى وأنه انتخبهم، كما أن قراراتهم وتشريعاتهم تسرى على البلاد بأسرها, وواجب نصرة مسلمى غزة وهو أمر قرآنى آخر: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِى الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فى رقبة المسلمين فى مصر قبل أى بلد آخر بحكم الجوار. وبحكم مشاركة حكام مصر لإسرائيل فى الحصار. إن هذه الفتنة هى اختبار ربانى لمدى صدق إيماننا, فهل نصمت على ذبح أهلنا فى غزة بإغلاق معبر رفح ومحاربة الأنفاق فى الوقت ذاته.. هل نصمت باعتبارها قضية خارجية وأن لدينا ما يشغلنا فى الداخل؟ ورغم أن القاتل واحد فى الحالين, الذى عذب المصريين هو نفسه الذى يعذب أهل غزة، ولكن بغض النظر فإن واجب المؤمنين فى مصر أن يهبوا هبة رجل واحد ضد سياسة الحصار والتجويع التى يمارسها نظام مبارك ضد غزة، وإلا كانوا شركاء فى هذه الجريمة، وهى جريمة تتحدى أحكام الله فى كتابه، وترتكب عكس ما أمر الله: (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

(14)

وليت الذى بينى وبينك عامر..

وبينى وبين العالمين خراب

“وليت الذى بينى وبينك عامر.. وبينى وبين العالمين خراب” كلمة أو بيت شعر على لسان أحد العارفين بالله.. ووصف المتصوفة أحد العارفين بالله بأنه “يعرف مدارج ومسالك وطرق السماء بأكثر مما يعرف من دروب الأرض”. وهذه المقولات التى تخلع القلوب لا تتعارض مع التوازن الذى دعا إليه الإسلام بين الدنيا والآخرة: “ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة” أو “ولا تنس نصيبك من الدنيا”، فالتوازن فى الإسلام لا يعنى أن الدنيا مساوية للآخرة. ويعبر عن ذلك بشكل دقيق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لى وللدنيا، ما أنا والدنيا، إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها). كذلك تظهر أهمية هذه المقولات “وبينى وبين العالمين خراب”.

فى اللحظات الفارقة، فى لحظات التحدى والقرارات المصيرية على مستوى الفرد والجماعة، قد يكون إرضاء الله له عواقب وخيمة، أو نصرة الحق تتعارض مع مصالح دنيوية أساسية، وقد يكون إرضاء الناس المحيطين بك يعنى التخلى عن جوهر الإيمان والعقيدة، فى هذه اللحظات يجب أن توضع الدنيا وناسها فى وزن ما هو أقل من وزن جناح بعوضة.

فى لحظة فارقة طلب المسيح من أتباعه ترك منازلهم وأسرهم وأموالهم وكل ما يمتلكون ويتبعونه. وفى لحظة فارقة أخرى طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المؤمنين أن يتخلوا عن كل شىء ويهاجروا إلى المدينة. وهذا الصنف من الناس يكون عادة قلة قليلة، ولكنها القلة القادرة على حمل الرسالة والانتصار للحق. فى لحظة محددة تنفصل الأقلية الصابرة الصامدة عن مجمل المجتمع، ولكن هذا الفصل يكون هو أول خطوة نحو الانتصار الحقيقى. فالجماعات الرخوة والمائعة تعود لتذوب من جديد فى المجتمع الأوسع، أما الجماعات العقائدية الصلبة فمهما صغرت فهى بانفصالها عن رخاوة المجتمع الفاسد وعناصر الضعف تزداد قوة وتمثل نواة لقطب معاكس لقطب الفساد السائد، والصبر فى اللحظات الحالكة السواد هو الأهم (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ففى هذه اللحظات ترى النظرة السطحية أن الصبر بعيد أو مفقود، كلحظة صد الطائف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقب وفاة عمه أبى طالب وزوجته السيدة خديجة، فى حين كانت هى أقرب لحظة لبداية النصر (بيعة العقبة)، فالمهم عندما تنفرج الأمور أن تكون النواة الصلبة حاضرة وجاهزة لإقامة الجسور مع أوسع الناس. وبالفعل فإن الرسول لم يرسل سوى اثنين من الصحابة لنشر الدعوة فى المدينة (يثرب)، وقد كان ذلك كافيا لانقلاب الأوضاع فيها.

تحدثت فى رسالة سابقة عن قصة طالوت وجالوت, وأضيف اليوم قصة سيدنا يوسف، الذى تكالب عليه إخوته (غير الأشقاء) ولاحظ أنهم أبناء بنى (يعقوب) ومع ذلك لم تسلم قلوبهم من الغيرة والحسد على أخيهم فأرادوا قتله لمجرد أنه: (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ) ولكن واحدا منهم اقترح عدم قتله وإلقائه فى غياهب الجب يلتقطه بعض السيارة. وهكذا تحول يوسف إلى غلام يباع ويشترى كالعبيد، أى وصل إلى مرحلة دون الصفر. ثم تكررت المحنة عندما دخل السجن بضع سنين أى عاد من جديد إلى دون الصفر. ولكننا نعرف ما الذى حدث بعد ذلك, فقد انقلبت الأحوال وأصبح يوسف هو الحاكم المتنفذ فى مصر وهو الذى يُئوى إخوته – الذين خانوه – وهو على العرش! (قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنَّ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وأضاف (وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِي).

وهنا نرى كيف تحول يوسف من مجرد فرد معزول ومقهور ومسجون بضع سنين إلى ما وصفه القرآن: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

فيا إخوتى المجاهدين لا تقنطوا من رحمة الله، ولا تقلقوا من حلكة الظلام التى تسبق الفجر، ولا تهتزوا إذا خانكم الإخوة أو أقرب الناس إليكم, فهذا القصص القرآنى نواميس اجتماعية وليست مجرد حكايات، وبتحليل التاريخ ووقائع الحياة التى نحياها نتأكد من ذلك، إنها نواميس, أى قابلة للتكرار فى كل عصر وأوان. وكما يضعف بعض الناس أمام إغراءات الدنيا أو مخاوفها، فإن الصابرين المحتسبين هم الفائزون فى النهاية، ولا نقول فى الآخرة فحسب, بل فى الدنيا أيضا كما وعدنا الله: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى) فالله لن يتخلى عن المؤمنين فى الدنيا، ولكن الجائزة الكبرى فى الآخرة.

(15)

السلاح السحرى الذى ننساه

الحديث فى الإيمانيات قد يبدو مكررا لا جديد فيه، وبالفعل فلن يضيف أى كاتب أمرا جوهريا فى هذا الموضوع لم يرد فى القرآن العظيم، ولكنه حديث “التذكرة”.. (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ), وهو تأملات من زوايا مختلفة، وإزالة للأتربة عن الجواهر الكريمة كى تعود مرصعة براقة من جديد، وهو حديث يواجه عوادى الدهر بالأسلحة الماضية ولابد أن نشحذ (إيماننا) بين حين وآخر.

كان الصحابى ابن رواحة يحب مجالس العلم التى يُتلا فيها القرآن الكريم ويسميها مجالس الإيمان, وكان إذا رأى صديقا له ناداه وقال: تعال بنا نؤمن بالله!

وحديثى اليوم عن القضاء والقدر الذى هو مفتاح الطمأنينة والسكينة، وأيضا مفتاح القوة وتفجير طاقة الإنسان بلا حدود. ونحن ننسى هذا السلاح فى كثير من أحوالنا؛ رغم أنه هو القاتل الأساسى للقلق، وهو سلاح المؤمن الذى حُرمه الملحدون وضعيفو الإيمان. والسائد بين المؤمنين فى أيامنا هذه هو الاعتصام بالإيمان بالقضاء والقدر بعد وقوع الكارثة والمصيبة، وهذا أمر محمود ويساعد فى صلابة وقوة التحمل لدى وقوع المصيبة أو الكارثة. ولكن هذا نصف الموضوع، بل أقل من النصف، لأن غير المؤمن مضطر بدوره إلى التعامل مع الأمر الواقع بعد حدوثه، أما الجزء الأكثر أهمية فى الإيمان بالقدر، يتعلق بالمستقبل والمجهول الذى لم يأت بعد. وهذا ما يجعل المؤمن مقداما فى مواجهة المخاطر، لا يخشى فى الله لومة لائم، ولا يخشى عواقب الصدع بالحق، ويرمى أحماله على الله، ويعلم أن مستقبله مكتوب فى كتاب. فكيف يخشى من مخاطر الدنيا، أو بطش الجبارين (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلا فِى أَنْفُسِكُمْ إِلا فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد: 22-23).

وهذه الحقيقة القرآنية المتكررة فى آيات أخرى، حقيقة مذهلة تفوق قدرتنا العقلية، ولكننا نسلم بقدرة الله المطلقة. وأيضا نسلم بعدم وجود تعارض بين هذه الحقيقة وحقيقة أن الإنسان مخير، وأنه يحاسب فى الآخرة لامتلاكه حق الاختيار.

وكثيرا ما كتب الفقهاء فى هذا الموضوع, ولكنهم لم ولن يحلوا هذا اللغز بصورة شافية, لأنه من الغيب ومن قدرات الله سبحانه وتعالى التى حدثنا عنها، وإيماننا العام بوجود الله، وبأن القرآن هو كتابه، ومحمد رسوله، هذا الإيمان العام هو مدخلنا لتصديق كل ما آتانا عبر محمد صلى الله عليه وسلم. فإذا آمنا بالقضاء والقدر كما أوضحه القرآن الكريم، فكيف نكون ضعفاء، وكيف نسمح لبنى البشر أن يذلونا وأن نصمت على ذلك ولماذا نخشاهم، ولا نخشى الله، لماذا نتصور أن مصائرنا فى أيديهم أخذا بظواهر الأمور، ومن الممكن أن نروى قصصا لا تنتهى حول الطغاة الذين أرادوا أشياء ولم يتمكنوا من تحقيقها، كالخليفة الذى أمر بحبس أحد الأئمة, وقبل أن يصل الإمام من دمشق إلى بغداد حيث يتعين سجنه كان الخليفة قد مات, والملك فاروق الذى قرر إعدام أحمد حسين, فأطيح بفاروق قبل أيام من تحقيق هدفه، ومات فى الستينيات من القرن العشرين, وعاش أحمد حسين حتى عام 1982. وهناك القاضى الذى حكم بحبسنا فى قضية يوسف والى لمدة عامين فى المحاكمة الأولى، فمات ونحن فى السجن قبل أن يحصل على ما وعدوه به وهو منصب محافظ، وخرجنا من السجن بحكم النقض بعد 4 شهور! وما يحدث فى عالم الجهاد والسياسة يحدث فى مختلف ميادين الحياة، فالمؤمن حقا بالقضاء والقدر لا يمكن إرهابه، أو رده عن سبيل الحق أو استعباده. وعندما يستعبد طاغية وأسرته 80 مليون مصرى فكيف يكون إيمانهم بالقضاء والقدر فى أحسن أحواله.

من كان يتخيل أن يكون شخص بمكانة وصلات ومال طلعت مصطفى فى السجن بالزى الأحمر منتظرا الإعدام، رغم أن الحاكم نفسه لم يسع لذلك ولم يرد ذلك، ولكنها إرادة دبى والإمارات! فحدث ما لا يمكن يتصوره أحد من الحكام أو المحكومين, لا يعرف أحد ما الذى يمكن أن يحدث غدا أو بعد ثانية واحدة. ليس الموت وحده مكتوبا فى اللوح المحفوظ بل سقوط الورقة!

(وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).

لذلك كان المؤمن الحق، والإيمان بالقضاء والقدر شره وخيره من أركان هذا الإيمان، هو إنسان فولاذى لا يقهر يمضى فى طريق الحق لا يرمش له جفن، لا يجفل ولا يتردد، وفى الوقت نفسه يتمتع بطمأنينة عميقة وهو يواجه صروف الدهر، ماضيا فى سبيله لا يلوى على شىء إلا أن يرضى ربه، ويحصل المزيد من النقاط لصالحه فى ميزان حسناته، عينه على الآخرة، ولا يلتفت فى الدنيا إلا إلى ما يعينه فى هذا السبيل, وقد عبر عن المعنى الذى أريده بأروع وأبسط الكلمات شاعر المهجر ميخائيل نعيمة حين قال فى قصيدة بعنوان “الطمأنينة”:

وحليفى القضــــــــاء
فاقدحى يا شـــــرور
وأحضرى يا منــــون
لست أخشى العذاب
وحـليـــفى القضـــاء
ورفـيقى القـــــــدر
حـول قلبى الشــرر
حـول بيتى الحفــر
لست أخشى الضرر
ورفيقى القــــــــدر

(16)

الكهف يتسع!

أشرت فى رسالة سابقة إلى آية سورة الكهف: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) وقلت إننى فهمت لأول مرة معنى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه)، أى كيف يتسع الكهف الصغير ويتحول إلى دنيا كاملة. والسجن الانفرادى أشبه بالكهف، وقد طلبته كى استمتع بالعزلة وعبادة الله، ولكننى لم أطلب أن أعزل حتى فى ساعات التريض، حيث أمارس التريض وحدى أيضا, وهكذا يمر اليوم دون أن أرى سوى السجان لبضع دقائق، وهذا وضع غير قانونى، بل يسمى فى السجون (تأديب)، ولكننى لم أحتج على ذلك، ورأيت أن أخوض التجربة، وقد تجاوزت العام، ولم أشعر بالضجر والحمد لله. والكهف الذى أقيم فيه يتسع بأشكال متعددة, ومن زوايا مختلفة. والأساس كما ذكرت من قبل هو عبادة الله، والتفقه فى الدين، فهذا أهم وأعذب شىء تفعله خارج الكهف، وهو ما أقوم به الآن بشكل أكثر تركيزا وتجردا وتفرغا, ومن ثم فإن السموات العلا منفتحة أمامك, بل وبانسياب أكبر من خارج السجن، وهى خليط من المشاعر الروحية، والمفاهيم الجديدة التى تكتشفها أو تصل إليها، والمعلومات التى تضيفها لمعرفتك. وهى أيضا فرصة لمراجعة نفسك وتنقيتها من كل سوء، والتثبت من مواقفك وإيمانك. إذن العلاقة مع الله من عبادة وتفكر وتلاوة وبحث علمى هى أساس اتساع هذا الكهف، تدريجيا رغم مرور الأيام. وهى فرصة لاختبار مدى صدقك وأنك غير متكالب على الدنيا، لأنك لو كنت كذلك ما تحملت العزلة يوما واحدا، ولكن هناك أحداث تمر عليك كبيرة أو صغيرة تؤدى إلى ازدياد تقبلك هذا الكهف. الأحداث قد تكون إيجابية من أخبار مفرحة تأتيك من الخارج عن الصمود والمقاومة فى مصر وخارجها. أو أخبار سيئة تشعرك أن الوجود فى السجن غنيمة بعيدا عن هذه الدنيا الحقيرة. والأحداث داخل الكهف لها أهمية كبيرة.

منذ شهور أصبت بمرض عضال فى ظهرى منعنى من الحركة عدة أسابيع، وشعرت بأشد أشكال الألم، فلما تعافيت منه شعرت براحة غامرة، وكأن كل مشكلاتى قد حلت، وأصبح الكهف أكثر رحابة فقد أصبح بإمكانى التحرك داخله عدة خطوات, ولم أكن أقدر على ذلك فى مرضى, وعندما تعرضت لهجمة من الفئران أصابنى الضيق لمدة يومين أو ثلاثة، فلما اكتشفت الثغرة التى يأتون منها وسددتها، تحولت إلى أسعد إنسان فى الوجود. فقد عدت من جديد أعيش بمفردى.

وعندما تنقطع الكهرباء لفترة طويلة، فهذا يعرقل القراءة والأكل والشراب الساخن, ويضيق عليك الكهف فى حدود ضوء شمعة، ولكن إذا تمكنت من القراءة على ضوء الشمعة تشعر براحة بالغة، أما عندما تعود الكهرباء فكأنه قرار الإفراج!

وهكذا تأتى الحوادث الصغيرة أو الكبيرة كمنغصات, فإذا زالت تشعر بانقلاب حالك إلى حالة من الرضى أعمق وأشد مما كانت قبل هذه الوقائع. بل وتظل سعيدا أن المرض لم يعاودك، وأن الكهرباء لم تنقطع، وأن الفئران ذهبت بلا عودة! وهكذا تنقلب المنغصات لتصبح أحد أسباب الطمأنينة والسكينة بعد زوالها. والطمأنينة والسكينة هى أقصى ما يمكن أن يحققه الإنسان على الأرض فى الدنيا، أما السعادة فهى غير موجودة على الأرض سواء داخل السجن أو خارجه، والقرآن الكريم لم يشر إلى السعادة إلا مقرونة بالآخرة (الجنة) وعلى وجه الحصر فى آيتين: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا) (هود: 108), (يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (هود: 105), واستخدم القرآن فى وصف حال المؤمنين فى الدنيا: (أَصْلَحَ بَالَهُمْ)، أما السعادة التى لا ينغصها أى كدر أو حزن أو مآس فلن تكون إلا فى الجنة. أما الدنيا فهى كدح وعناء ومشقة, وبها بعض محطات للراحة الهدوء والمتعة. والذى يغفل عن هذه المعانى تأتى الدنيا بحوادثها لتذكره لعله يفيق من غفلته. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) وفى حديث آخر وصف الصبر بأنه (ضياء).

واتسع الكهف من زاوية أخرى عن طريق السجان، فالسجان كان يضيق على دخول الكتب والصحف والمجلات، وتحملت لفترة لأنه كان لدى ما يكفى (المصحف وبعض الكتب) وكنت على وشك الدخول فى إضراب عن الطعام، وعندما حلت المشكلة، أصبحت فى بحبوحة من العيش. وأصبحت بالمعنى الحرفى فى بعثة علمية, فإذا لم أستفد بها فلا ألومن إلا نفسى. إن رحمة الله وسعت كل شىء، وهى تظللنا فى كل مكان حتى وإن كنا فى جحر صغير، وفى هذا يمكن أن نروى كثيرا من القصص العجيبة؛ فإلى رسالة قادمة.

(17)

النعناع وكرامات السجون

وأما بنعمة ربك فحدث, رغم أن القارئ يتساءل: ما علاقة النعناع برسائل الإيمان؟! أقول إن السجن فى سبيل الله له كرامات، أو علامات تستعصى على التفسير المادى, ولكنها رسالة رحمة من الله عز وجل لعباده المستضعفين.

وعدت فى الرسالة السابقة أن أروى قصصا من عجائب السجن وأبدأ بآخرها:

  1. النعناع الأخضر الطازج: على مدار أكثر من عام فى السجن لم تصبنى اضطرابات معوية والحمد لله, إلا مرتين مختلفتين ومتباعدتين، ولم تكن معى أية أدوية لمواجهة ذلك، وحدث ذلك أثناء إغلاق الزنزانة, حيث تنقطع علاقتى بالعالم الخارجى لمدة 17 ساعة. وفى المرتين لم أشكُ للحارس ولم أقل له إنى متوعك ولكن فى المرة الأولى وبدون مناسبة نادى علىّ الحارس وقال لدى لك هدية, وأعطانى من تحت عقب الباب حزمة نعناع أخضر طازج.. فقلت له من أين لك هذا؟ قال: هو مزروع فى السجن, وشكرته، ووضعت أوراق النعناع فى الشاى وشفيت سريعا. حتى ذلك لا شىء غير عادى إلا مجرد الحديث عن الرزق الذى يأتى للكائن وهو فى جحر. وهذا يمكن أن يكون مصادفة عادية. ولكن الأمر الذى أثار انتباهى أننى عندما أصبت بنزلة معوية ثانية بعد عدة شهور، وأيضا لم أتحدث مع الحارس عنها، إذا به ينادى علىّ (وهو حارس آخر غير الحارس الأول) ويقول: لدى لك نعناع أخضر طازج، وهو ما لم أطلبه منه، ووضعه تحت عقب الباب، ووضعت أوراقه فى الشاى، وشفيت فورا, والحارسان لم يعلما أى شىء عن هذه المفارقة اللطيفة, والألطف من كل ذلك أنه لم يتكرر أن يأتى إلىّ أى حارس بأى نعناع فى أى يوم آخر سوى هذين اليومين!! سبحان الله.. يقول الماديون إنها صدفة تكررت مرتين، والمؤمن يقول إنها رحمة الله. وعلامة من العلامات التى تقوى الإيمان، وتجسيد مادى بأن الله معنا أينما كنا، ويحنو علينا كما يشاء، وأن رحمته تظللنا فى كل ركن من أركان العالم حتى وإن كنا فى جحر: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً) وإذا قلت إن هذه الواقعة وما سيأتى بعدها مجرد صدفة فلو طبقت عليها قانون الاحتمالات الإحصائى العشوائى لوجدت أنه احتمال بين آلاف وملايين الاحتمالات.
  2. كتاب البشرى: خلال حبسى فى قضية يوسف والى كنت أعد دراسة (أحكام القرآن الكريم فى موالاة الكفار والمشركين) وعندما وصلت فى الكتابة إلى الفصل الخاص بالتفرقة بين أهل الكتاب المحاربين، وأهل الكتاب من مواطنى الدولة الإسلامية، شعرت بأهمية العودة إلى كتاب المستشار طارق البشرى (المسلمون والأقباط فى إطار الجامعة الوطنية) وعزمت أن أطلب من زوجتى إحضار الكتاب عندما تأتى فى الزيارة القادمة، ولكننى أدركت أن ذلك سيعطل كتابة الدراسة لمدة أسبوع أو أسبوعين. ولكن بعد يوم أو اثنين حضر صديق لزيارتى فى السجن ومعه بعض الكتب منها هذا الكتاب!! ولم أقل لصديقى شيئا، ولكننى عدت إلى زنزانتى وأنا أقول: سبحان الله، هل كلما أرغب فى شىء يتحقق فورا وكأننى فى الجنة؟!
  3. الخروب: كنت فى سجن “القطا” عام 1999 بدون أى نوع من الزيارات, لأننا كنا فى بداية الحبس, ودخل علينا مسجون قديم لتقديم العون، وعرض علىّ علبة عصير، فقلت له لا شكرا لا أريد عصير معلب فأنا أحب المشروبات الطازجة. هل لديك خروب فأنا أحبه؟! وضحك الموجودون, وأنا بطبيعة الحال أحب الخروب ولكننى كنت أمزح.

بعد يوم أو اثنين تم نقلنا إلى سجن المزرعة، وفى اليوم الأول لوجودى هناك دخل علىّ مسجون لا أعرفه لتحيتى مُرحبا بى لمقدمى, وكانت هديته زجاجة بها مشروب الخروب الطازج المثلج وكنا فى الصيف!! وشرب الخروب بالنسبة إلىّ ليس مسألة مصيرية, ولكنه القانون نفسه يعمل؛ أن تطلب شيئا فى غيابات الجب فتجده فورا أو خلال ساعات!!

  1. صينية المكرونة وشرائح اللحم: فى عام 1991 كنت فى سجن الاستقبال، وتم وضعى فى إحدى زنازين التأديب تحت الأرض، بدون مياه أو كهرباء، فى اليوم التالى ذهبت إلى النيابة وعدت بأطايب الطعام, وفى المساء سمعت صوتا يأتى من تحت الأرض، فإذا المتحدث هو فى زنزانة مجاورة, وقام بحفر فتحة بينى وبينه، وكان من الجماعات الإسلامية, وكانوا فى التأديب لتمردهم, ولذلك فهم لا يخرجون من الزنزانة, وليست لهم زيارات, لا يأكلون إلا أكل السجن. وكان لدى أكل كثير, فأعطيته هو وزملائه صينية مكرونة بالفرن وشرائح لحم عبر هذه الفجوة. فهل كان هذا الشاب يتخيل أن يصل إليه هذا النوع من الطعام الفاخر فى هذا الجب. وهذه الكرامة تحسب لهؤلاء الشباب المظلومين.
  2. كشف الغيب: لم يكشف لى الغيب عبر الأحلام إلا فى السجن, وقد حدث هذا مرتين على وجه الحصر أيضا خلال حبسى فى قضية يوسف والى، فقد حلمت بوفاة عمى محمد حسين فى يوم وفاته، رغم أنه لم يكن لدى أية معلومات عن تدهور حالته الصحية ولا أية معلومات عنه من أى نوع. وحلمت بنبأ حبس أحد زملاء جريدة الشعب لمدة عام فى يوم صدور الحكم، وتأكدت من صحة الحلم فى اليوم التالى من الصحف, وكان الحبس لمدة عام. والغيب يتصل بالماضى والحاضر والمستقبل. وهذا غيب الحاضر, أى واقعة حدثت بالفعل, ولكن فى مكان بعيد عنك ولا توجد وسيلة لكى تصلك أنباؤها (كالتليفون مثلا). هذه مادة خام ببعض الوقائع أكتبها بأمانة والتعليق للقارئ!

(18)

حفظ القرآن الكريم

الخلوة مع الله تفتح الباب واسعا للعلاقة مع كتاب الله وتطرح المسألة نفسها كالتالى: تلاوة أم حفظ؟ أيهما له الأولوية. ومن الطبيعى أن يجمع المرء بين الاثنين والوقت متاح ومتسع!! ولكن عموما فالمسألة تظل هكذا حتى خارج هذه العزلة. ولا شك أن حفظ القرآن كله ليس فريضة، ولكن تلاوة القرآن فريضة سواء فى الصلاة أو خارجها: (اتْلُ مَا أُوحِى إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ….), (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ….).

ولا شك أن حفظ بعض القرآن فريضة لتمام إقامة الصلاة. وقد كان النظام التعليمى الإسلامى يجعل حفظ القرآن كله أشبه بالمرحلة الابتدائية من خلال الكتاتيب، وكان كل من يرسل أبناءه للتعليم يحفظون القرآن كله خلال عدة سنوات، ولم يعد الأمر هكذا حتى فى التعليم الأزهرى الآن! إن حفظ القرآن هو البنية الأساسية لبناء المسلم المتوازن من النواحى العقائدية والأخلاقية والثقافية, ثم ينطلق بعد ذلك يسعى فى الحياة, وينهل من شتى المعارف.

التعليم المتغرب المعاصر الذى عانى منه جيلى والأجيال اللاحقة، أضاع هذه الثروة الإيمانية والمعرفية, وأضاع الاستفادة من الحكمة الصحيحة (التعليم فى الصغر كالنقش على الحجر)، فكل ما تعلمناه فى الصغر لا يُمحى من الذاكرة، والآيات والسور القليلة التى حفظناها فى المدرسة أو خارجها هى التى تبقى راسخة فى الذاكرة. فالآيات التى حفظتها صغيرا لا تُمحى أبدا من الذاكرة (شريطة تلاوتها فى الصلاة) ونادرا ما يحدث فى تلاوتها خطأ أو نسيان، وبصورة متدرجة وكأنه جدول دقيق، فالآيات التى حفظتها فى العشرينيات تكون ألصق بالذاكرة من تلك التى حفظتها فى الثلاثينيات.. وهكذا.. فالذاكرة تضعف مع الأيام وتملؤها أشياء أخرى عديدة من زحمة الحياة ومشكلاتها وضرورات العمل. وبالتالى فإن كل عام يمر بدون حفظ آيات جديدة هو ضياع فرصة لاستظهار هذه الآيات بسهولة أكبر. بينما هى ذخيرة الإنسان الأساسية على الأرض. وكلما حفظت من القرآن أكثر استمتعت بالصلاة وأدركت عذوبتها.

وكلما كانت الآيات معك فى الذاكرة تصاحبك، كنت محاطا بمجموعة أكبر من النجوم الهادية. وقد أثبت العلم أن مخ الإنسان مجهز لاستقبال وحفظ ملايين المعلومات، وهكذا فإننا نهدر هذا المخزن النفيس فى حفظ أسماء لاعبى كرة القدم، وأسماء من سجل الأهداف فى كل مباراة من المباريات، وأسماء الفنانين والفنانات، وتحفظ مئات الأغانى، وآلاف الإعلانات، ومئات من أسماء السلع والمحلات التجارية، وغير ذلك كثير، فالمخ هذا المخزن النفيس ممتلئ بكثير من “الكراكيب” التى لا تسمن ولا تغنى من جوع، والإعلام الحديث أداة جهنمية لإرسال مزيد من هذه الكراكيب، إلى المخزن، بدلا من الألماس والذهب والفضة، والقرآن على رأسها بالإضافة إلى كل أشكال وأنواع المعرفة.

وإن كان حديثى موجها للشباب أساسا، حتى يلحقوا ويعوضوا ما فاتهم من الاستزادة من حفظ القرآن قبل أن تضعف الذاكرة، فإن حديثى موجه لجميع الأعمار، من واقع تجربتى الشخصية، فأنا أقترب من الستين، ولكن ما زلت أحاول الاستزادة من حفظ الآيات، وأنجح فى ذلك رغم صعوبته. وأقترح على الجميع حفظ آية واحدة كل يوم، ولو فعلت ذلك لحفظت القرآن كله خلال 9 سنوات تقريبا، على أساس أن عدد آياته 6236 على طريقة العد الكوفى.

أعلم أن قوة الذاكرة تتفاوت بين إنسان وآخر، وأن حفظ أى جديد معرض لخطر النسيان، ولكن على المرء أن يقوم بذلك بأعصاب هادئة ودون توتر ووفقا لقدراته, ولا يشعر بالذنب إذا لم يحفظ القرآن كله، ولكن لا شك أن كلا منا لديه القدرة على زيادة الكم المحفوظ، خاصة إذا تواكب ذلك مع تدبر معنى الآية, وقراءة أحد التفاسير حولها. فإذا شعرت أن ذاكرتك ضعيفة لماذا لا تحفظ آية كل أسبوع؟! ولماذا لا تحفظ سورة كل سنة؟!

وفى كل الأحوال عليك بالبداية بقصار السور, واحفظ بدءا من جزء “عم”, أى من الخلف للإمام. كذلك تذكر الآيات التى كنت حفظتها ونسيتها، فاسترجاعها يكون أسهل بكثير من حفظ آيات جديدة، كذلك احفظ الآيات فى الموضوعات التى تشغل تفكيرك، فنتيجة اهتمامك بالموضوع سيساعدك ذلك على الحفظ. ويمكن لبرنامج الحفظ أن يكون فرديا، ويمكن أن يكون مع مجموعة للتشجيع والتفكر والتدبر. ولكن إذا لم تتلُ ما حفظته فى الصلاة بصورة دورية ومنظمة فإنك ستنسى ما حفظته لا محالة. وأعنى أن تكتب قائمة بالآيات والسور التى تحفظها إذا كانت متناثرة بحيث تصلى بها وفق ترتيبها فى القرآن فلا تنسى شيئا على مدار الأيام.

وفى كل الأحوال. ومهما كانت درجة تقدمك فى الحفظ، فاحرص على تلاوة القرآن يوميا فرديا أو فى جماعة، جزء كل يوم وهذا يستغرق 40 دقيقة, أو حزب وهذا يستغرق 20 دقيقة بالقراءة المتأنية, وبذلك تختم القرآن مرة كل شهر أو كل شهرين, والمهم خلال الحفظ والتلاوة، هو التدبر وربط ما نقرأه بالواقع حولنا: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ).

(19)

مرة أخرى حول حفظ القرآن

لو كان النظام التعليمى لدينا سليما ما احتجنا للحديث فى هذا الموضوع البديهى، ولكنها محاولة لتدارك هذا النقص التعليمى الفادح، ودعوة لخير الدنيا والآخرة بطريقة الإسعافات الأولية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من العمر الضائع.

ولا شك أن حديثى موجه إلى الشباب بالدرجة الأولى، ولكنى لا أغلق الدعوة على كبار السن إذا كانت لديهم الرغبة والعزيمة وبعض الذاكرة. فالإنسان يتعلم من المهد إلى اللحد.

من خبرات حفظ القرآن أن تلتزم خلال الحفظ بمصحف محدد لأن المصاحف تختلف فى وضع الآيات فى الصفحات، وذلك حتى تكون الصفحة الواحدة هى الوحدة الواحدة، والذاكرة تربط بين أول كلمة وأول آية فى الصفحة، وآخر آية فى الصفحة ذاتها, وقد يحتاج المرء قبل الصلاة كى ينظر إلى أول الصفحة حتى تتداعى باقى الآيات حتى نهاية الصفحة فى ذهنه.

وإذا قررت أن تحفظ آية كل يوم، فانقلها بخطك على ورقة صغيرة مع التشكيل والعلامات ويمكن أن تظل تراجعها طوال اليوم، وأنت فى الأتوبيس، أو فى إشارات المرور إذا كنت تسوق سيارة، أو تسير فى الشارع، أو فى مكان ما تنتظر شيئا ما.

وإذا حفظت آية جديدة فى اليوم التالى، فاحرص على ربطها بالآية السابقة، حتى تحفظ تسلسل الآيات، وافعل ذلك مع كل صفحة من الصفحات، فإذا حفظت الآية الثالثة فى الصفحة فسمع لنفسك الآيتين السابقتين، وهكذا حتى نهاية الصفحة.

كما ذكرت فإن تلاوة الآيات التى حفظتها فى الصلاة بشكل دورى ومنتظم هى الوسيلة الرئيسية لضمان تثبيت الحفظ. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَ الَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُو أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ مِنْ عَقْلِهَا). متفق عليه.

التكرار يعلم الشطار:حفظ القرآن يتطلب اتباع أسلوب الصبية نفسه فى الكتّاب. وهو تكرار قراءة الآية المطلوب حفظها عشرات المرات، لا تقل عن عشر مرات، وإذا كانت الآية طويلة فيمكن تجزئتها إلى جزأين أو ثلاثة, تجزئة منطقية حسب علامات الوقوف. وحفظ القرآن لا يحتمل تبديل حرف واحد. وهذا لا يتم باستخدام المنطق، ولكن بحفظ الآية كما هى. وإن كثرة تكرار الآية بصوت عال يشبه عملية المسمرة، إذ يقوم الشاكوش بضرب المسمار عدة مرات حتى يثبت فى الحائط، والتكرار هنا هو الشاكوش، والذاكرة هى الحائط!

تسميع ما حفظته مع جماعة يكون أفضل حتى يكون هناك حافز والتزام جماعى، وأيضا لمراجعة صحة الحفظ بالتجويد والتشكيل.

التدبر فى معنى الآيات ودراستها ضرورى لأن الهدف هو الفهم والتدبر, وهذا أمر ثابت مع الحفظ أو مع التلاوة. وأرشح تفسير المنتخب الصادر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية كأفضل تفسير مختصر. أما بالنسبة إلى التفاسير المطولة فأرشح من التفاسير القديمة: ابن كثير, ومن التفاسير المعاصرة: المنار للشيخ محمد عبده، الظلال لسيد قطب, وتفسير أحمد حسين.

إن الهدف من كل ذلك أن يكون القرآن الكريم محور حياتنا الخاصة والعامة على السواء. وبالتالى فإن العمل بالقرآن هو الأساس، فما أكثر حافظى القرآن الكريم الذين لا يعملون به, وسيكون شاهدا عليهم يوم القيامة. والقرآن الكريم هو معجزة سيدنا محمد، فهو يخاطب العقل وينظم الحياة بصورة تعجز عنها كل كتب البشر, ولقد خبرت فى تجاربى الخاصة والعامة أنه ليست هناك مشكلة تواجه الإنسان إلا ومفتاح حلها فى القرآن الكريم.

وقد حرصت فى عدد من المؤلفات أن تكون دراستى لمشكلة واقعية من خلال القرآن الكريم، بدون أى تكليف أو افتعال، ولم أقدم من خلالها تفسيرا جديدا بقدر ما قدمت تطبيقا لها فى واقعنا المعاصر، فالهدف هو إحياء القرآن بمعنى إدراك معانيه وفقا لأحدث مشكلات العصر، وفهم مشكلات العصر وفقا لمنهج القرآن. وقد بدأت أحيانا بدراسة الواقع كمشكلة “اليهود والصهيونية” ووجدت أن حقائق الواقع تتوافق مع القرآن الكريم. وقد تعاملت بعض التفاسير القديمة والمعاصرة مع القرآن بصورة تؤدى إلى تحفيظ آياته من خلال التوقف عند مناسبة النزول فحسب، وحولوا القرآن إلى كتاب تاريخ فى حين أن مناسبة النزول – إن وجدت – فهى تساعد فى فهم وكشف عمق الآية، ولكن الآية لا تقتصر على تسجيل المناسبة التاريخية.

وكدستور للحياة ستجد فى القرآن الكريم رؤية متكاملة تبدأ بالفرد والأسرة وتنتهى بالعلاقات الدولية، وفى كل تلك الموضوعات نتحدى أهل الغرب أن يأتوا بأفضل منها (وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) ولأنهم غير قادرين على هذه المناظرة السليمة فإنهم يحاربون المسلمين بالقوة المسلحة.

(20)

إعجاز الأحلام.. ورؤيا الرسول

الأحلام هى إحدى معجزات خلق الله، المعجزة هنا فى هذا العقل أو المخ العجيب الذى يعمل فى اليقظة والمنام، ورغم صغر حجم المخ فلا يزال العلم يحاول أن يسد أغواره ويكشف فيه بلا نهاية, وكأنه يستكشف صحراء واسعة أو فجوة كبرى فى السموات العلا (وَفِى أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

وأركز اليوم على الأحلام من زاوية الإبداع والإخراج السينمائى، وهذا فن لا يحذقه إلا عدد محدود من العاملين فى الإخراج السينمائى، ويبرع فيه عدد قليل منهم، ولكن سائر الناس يحلمون بروايات قصيرة أو طويلة، أو لقطات أو اسكتشات، بغزارة شديدة، ويتذكر بعضها بعد اليقظة. المهم أن كل عناصر الفن السينمائى تتبدى فيها: السيناريو، الفكرة، الإخراج، الديكور، الملابس، المونتاج، وهى أنواع فمنها الدراما أو الفكاهة ومنها السياسة, أو الدين ومنها الأفلام التسجيلية!! وهى لا ينقصها إلا معمل التحميض والطبع لإعادة عرضها!!

وهذا الصندوق الصغير: المخ داخل علبة الجمجمة، يقوم بذلك رغم أن النائم غالبا لا يعرف شيئا عن كل هذه الفنون. والنوم هو الموت الأصغر حيث تتعطل كثير من الوظائف لدى الإنسان إلا أن هذا الصندوق يعمل بنشاط وينتج كل هذا الإنتاج الفنى دون إرادة من الإنسان النائم. ولا يمكن لأى بحث علمى تجريبى أن يصل إلى الآلية التى يحدث بها ذلك وكيف؟ ولكن علم النفس استطاع أن يتعرف بعض وظائف الأحلام، دون أن يفهم كيف تحدث أصلا؟! وهى أمور سهلة يمكن لأى إنسان غير متخصص أن يصل إليها. فالأحلام مثلا تساعد أحيانا على الاستمرار فى النوم رغم وجود ظواهر تستدعى اليقظة، ولكن لأن جسم الإنسان يحتاج إلى النوم أو إلى المزيد منه، فيأتى الحلم ليساعد على ذلك، فقد يشعر النائم بالجوع، ولكنه يريد أن يستمر فى النوم فيحلم أنه يأكل حتى لا يستيقظ. وأيضا الأحلام قد تكون وسيلة لتحقيق ما لا يمكن تحقيقه فى الواقع, وهناك من الأحلام ما لم يستطع علم النفس أن يصنفها أو يفهم مغزاها, بعضها أضغاث أحلام أى أحلام باطلة ومشوشة, وبعضها رؤيا صالحة (أو صحيحة) وهى تتحقق فى الواقع بعد ذلك. المهم أن هذه الظاهرة تحدث بالاستقلال عن إرادة النائم، وإن كنا ندرى كيف تحولت الفكرة والسيناريو إلى شريط سينمائى يعرض فى الفن السينمائى، إلا أننا لا ندرى كيف يحدث ذلك فى الحلم!! هذا من حيث الشكل, أما من حيث المضمون فلا شك أن هناك معلومات صحيحة أو رؤى صحيحة تفد على الإنسان النائم أى هو اتصال خارجى لا علاقة له بأحواله وأفكاره ومعلوماته. وهذا يصل بنا إلى الرؤيا الصحيحة وهى نوعان:

1- رؤيا صحيحة تتنزل على شخص غير مؤمن أو غير ورع فيها خبر صحيح من المستقبل ويتحقق، وهذه تؤكد مسألة الاتصال بالعالم الخارجى. كمسألة مادية لا علاقة لها بالشفافية الروحية، كحلم ملك مصر فى قصة سيدنا يوسف, ولكنه حلم احتاج إلى تأويل وتفسير, وكان هذا من ملكات سيدنا يوسف نبيا (وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) (يوسف: 21). ولكن فى تجاربى الشخصية هناك واقعة حلم صريحة لم تحتج إلى أى تأويل. ففى إحدى المرات كنت مسجونا مع سجين يصلى ولكنه ليس شديد الورع أو الإيمان، روى لى حلما تحقق بحذافيره، قال لى: حلمت أنك دخلت علىّ من الباب وقلت لى إنك حصلت على الإفراج وستخرج وتتركنى. وهذا ما حدث بالضبط بعد 24 ساعة عندما ذهبت إلى النيابة وعدت إليه.

2- الرؤيا الصحيحة للمؤمنين الورعين، وهذه ما قال عنها النبى صلى الله عليه وسلم: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) والمعروف أن النبوة انقطعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن المقصود أن الرؤيا فيها اطلاع على الغيب من وجه ما، وهذا الاطلاع هو أساسا للأنبياء (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً{26} إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً{27}) (الجن).

رؤية النبى فى المنام:

ومن أهم صور الرؤيا الصالحة رؤية النبى فى المنام؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رآنى فقد رآنى فإن الشيطان لا يتمثل بى) (البخارى – مسلم), وهناك روايات مماثلة: (من رآنى فى المنام فسيرانى فى اليقظة أو لكأنما رآنى فِى اليقظة لا يتمثل الشيطان بى) و(من رآنى فى النوم فقد رآنى إنه لا ينبغى للشيطان أن يتمثل فى صورتى) ويقول د. أحمد شوقى إبراهيم (أن رؤية النبى صلى الله عليه وسلم فى المنام رؤية صحيحة وصادقة لأنها متعلقة بشخص النبى, ورؤية النبى فى المنام نعمة من الله تعالى على الإنسان الذى يراه فى رؤياه, لأن ذلك يرفعه عند الله درجات كثيرة. وهو يكون كالصحابى لأن الصحابى فى الحد الأدنى هو من رأى الرسول. والذين يرون رسول الله فى الرؤيا درجات، فأعلاهم درجة الذين كلموا الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمهم، وأقلهم درجة من رآه فحسب ولم يكلمه, وبين هاتين الدرجتين درجات كثيرة حسب القرب من النبى فى الرؤيا).

فى الرسالة القادمة إن شاء الله أروى كيف أكرمنى الله بلقاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أرويها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يُحبها فإنها من اللَّه فليحمد اللَّه عليها وليحدث بِها).

(21)

فى الرؤيا: رسول الله يستجيب لاستغاثتى

كما ذكرت فى الرسالة السابقة، لولا اطلاعى على حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم والذى جاء فيه: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هى من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هى من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره)، وأعنى بالذات (وليحدث بها).. لولا هذا الحديث لما بحت بهذه الرؤيا فى هذه الرسالة لأنى كتمتها لأكثر من عامين ونصف، ولم أحدث بها سوى زوجتى وأبنائى فى حينه, ونيتى من ذلك هى تثبيت إيمان من حولى من المجاهدين من أننا نسير على الطريق القويم الذى يرضاه الله ورسوله. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رآنى فقد رأى الحق) أى كما يقول د. أحمد شوقى إبراهيم: (أى قد رأى الحق الذى قصد به إعلام الرائى به، فإن كانت على ظاهرها، وإلا سعى فى تأويلها، لأنها إما إنذار بخير أو إنذار بشر، وإما للتنبيه على حكم يقع فى دينه أو دنياه).

رؤيتى أو مقابلتى الرسول عليه الصلاة والسلام كانت واضحة على ظاهرها, ولا تحتاج فيما أظن إلى أى تأويل. وقد كانت نبوءة بما تعرضت له من أحداث بين عامى 2008-2010. كذلك أرويها عملا بقول الله عز وجل: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

زمن الرؤيا: فى شهر رمضان من عام 1428 الموافق أكتوبر 2007 فى إحدى ليالى العشر الأواخر من رمضان، ولعلها كانت ليلة القدر، كنت أصارع النوم فى سريرى لإدراكى أن الفجر كان وشيكا, يتبقى عليه قرابة نصف ساعة أو ساعة لا أذكر. ولكننى نمت. ورأيت هذه الرؤيا, واستيقظت بعدها على صوت أذان الفجر. ساعتها لم أفكر فى تسجيل اليوم فى مفكرتى, ولكننى متأكد أنه كان فى العشر الأواخر من رمضان. وبعد ذلك بشهر وفى يوم الجمعة الموافق 16 نوفمبر 2007 رأيت أن أسجل الرؤيا كتابة حتى لا تتآكل تفاصيلها من ذاكرتى, وهذا نص ما كتبته فى هذا اليوم, رغم أن الرؤيا لا تزال محفورة فى ذاكرتى.

المشهد: أنا مع عدد من الأصدقاء نقف فى مسجد كبير ممتلئ بالمصلين.. الضوء خافت للغاية.. وكأن الوقت فى الفجر قبل الشروق أو فى العشاء. المهم الظلام هو السائد, ومصابيح المسجد الكبير خافتة. وكنت أتحدث مع من حولى, وبالأحرى كنا نتحدث بقلق شديد عن انسحاب مجموعة كبيرة من الحشد الموجود بالمسجد فى أقصى يسار المسجد إذا كنت تنظر إلى القبلة, وكنا نتحدث عن انسحاب مئات, وكان المعنى الضمنى أن هؤلاء انسحبوا من حشد يتأهب للجهاد, ولا نتحدث عن انسحاب من أداء الصلاة. وكأن الحدث يبدو جللا, والصخب بدأ يتعالى من أركان المسجد, وكنت وأصدقائى وهم نفر قليل ولا يمثلون أى أشخاص معروفين لى فى الحقيقة, كنا نشير إلى مكان الفراغ الذى تركه المنسحبون فى أقصى يسار المسجد.

وبينما أنا وصحبى نتجه فى اتجاه المنبر أو المحراب سمعنا همهمات تقول إن الرسول نفسه قادم ليتحرى هذا الأمر الجلل.. وجاء الرسول فى مواجهتى تماما أثناء السير, أنا أسير إلى اتجاه وسط المسجد, وهو عليه الصلاة والسلام يأتى من الطريق المعاكس من مكان الحراب, وكان معه شخص آخر غير معروف. لم يكن وجه الرسول عليه الصلاة والسلام واضحا فقد كانت الأنوار كما ذكرت فى البداية خافتة للغاية, وكان يرتدى غطرة تغطى معظم وجهه أو كله, أو تغطى جزءا والظلام يغطى الجزء الباقى. لم أتبين إلا جسد الرسول الذى كان مغطى بجلباب أبيض وربما عباءة بيضاء أو فاتحة اللون فوقها، كان جسم الرسول عليه الصلاة والسلام معتدلا بين الطول والقصر, ومعتدلا بين السمنة والنحافة. وقد أصابتنى رهبة غير عادية, وقد أصبحت فى مواجهته, ولكنى كنت أندفع لليمين لأفسح له الطريق, وأيضا حتى لا أراه, فقد تملكتنى الرهبة, وتذكرت أننا لا يجب أن نرى وجه الرسول, ودفعت الصديق الذى كان على يمينى ليفسح لى الطريق حتى لا أرى وجهه, بل إننى أدرت وجهى بالفعل متأثرا بهذا المعنى, وربما قد سقطت على الأرض وأنا أقوم بدفع صديقى مع إدارة وجهى بعيدا عن وجه الرسول, وكنت أردد بصوت مسموع: لا يجوز أن نرى وجه الرسول, وقد حدث هذا عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمامى بخطوة واحدة. وهنا كان ذهنى مركزا حول الفتاوى المعاصرة التى تحرم رسم صورة للنبى أو تحرم قيام أى شخص بتمثيل دوره فى فيلم أو مسرح وسينما!!

الرسول عليه الصلاة والسلام كان يسير ومعه شخص آخر لم أهتم بالنظر إليه أو معرفته، كان عليه الصلاة والسلام يسير بهرولة ويتجه إلىّ, حيث كنت أنا والآخرين نشير إلى الفراغ الذى تركه هؤلاء المنسحبون. وهو ما يعنى أنه أخذ المشكلة على محمل الجد وجاء بنفسه ليستوثق منها. وبمجرد أن تخطانى انتهت الرؤيا, واستيقظت وسمعت أذان الفجر. ولاستكمال الصورة فإن هذا التجمع كما قلت كان لأمر متعلق بالجهاد. ولم يكن هناك أى حديث أو إشارة إلى أن هذا الجمع على وشك الصلاة.

*****

ولا تعليق لى إلا أنها نصف رؤيا ظهرت مع الرسول فى رؤيا واحدة، استجاب هو لانزعاجى ولانزعاج من حولى, ولكننى لم أحظ بشرف الحديث معه ولا رؤية وجهه الكريم. ولكننى راض الآن وأشكر الله سبحانه وتعالى.

تعقيب فى أوائل عام 2010:

يتضح من تعليقى أننى كنت سعيدا بلقاء رسول الله باعتبار ذلك فضلا من الله، وكما هو واضح فإن الرسول ظهر فى الرؤيا, وجاء استجابة لاستغاثتى من انسحاب بعض المجاهدين، وقد كانوا أقلية بالنسبة إلى عدد الجمهور الذى يغص به المسجد. ولم أفهم من الرؤيا إلا أننى أسير على الحق، ولكننى لم أفهم المقصود بهؤلاء المنسحبين، ففى عام 2007 لم أكن محاطا بأية مشكلات من هذا النوع.

طويت أمر هذه الذكرى الجميلة، ولكننى فى عام 2008 وفى خضم أحداث الدعوة إلى إضراب عام فى 6 إبريل, والذى نجح نجاحا كبيرا، إلا أنه كان يؤلمنى تخاذل الإسلاميين وعدم مشاركتهم معنا فى التعبئة والحشد والتنفيذ. وتذكرت الرؤيا, وتصورت أن هذه الأحداث تفسرها, أو أن الرؤيا تنبأت بهذه الأحداث. ولكننى منذ أواخر عام 2008 وحتى أوائل 2010، تزايدت دوائر المنسحبين من الجهاد, ووصلت إلى أناس كان يفترض أن يكونوا أقرب الناس إلىّ, رغم أن معظم ما دعا إليه القلب المجاهد لحزب العمل ينتشر بين العاملين فى الحقل العام وبين قطاعات متزايدة من المجاهدين، وعلى رأس ذلك شعار (لا للتمديد.. لا للتوريث) وقد كتبت فى ذلك ودعوت إليه منذ عام 2002 والتف حول هذه الدعوة نفر من المجاهدين حول حزب العمل. ثم تأسست حركة كفاية فى أواخر 2004 بالشعارات ذاتها. ثم أصبحت شعاراتنا هى شعارات الحركة الوطنية المعارضة الحية فى مصر بأسرها. ولا أشعر بالقلق عندما يتخلى بعض الناس عن الجهاد فقد قال الله عز وجل: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ).

إن حزب العمل سيتواصل جهاده وستتسع صفوفه بالمجاهدين المخلصين, وهو لا يرتبط بشخصى الضعيف, ولكنه يمثل اجتهاد فريق من المؤمنين بالإصلاح والتغيير, وإذا كان اجتهادهم صحيحا فسوف تنتصر رؤيتهم، وإذا أخطئوا فسيكون لهم أجر ما داموا يعملون لوجه الله.

فهل كانت هذه الرؤية للرسول لتثبيت فؤادى فى مثل هذا الموقف؟ ربما, ولكننى أحمد الله على السكينة التى تتنزل علىّ مهما كانت الظروف تبدو معاكسة.

إن المجاهدين فى حزب العمل الآن فى مرحلة أشبه بمرحلة الطائف فى السيرة النبوية، ففى مرحلة التوجه إلى الطائف كان عم الرسول قد توفى وكذلك السيدة خديجة، وعندما كشرت الطائف عن أنيابها وضربت الرسول بالحجارة عاد إلى مكة لا يأمن أن يدخلها إلا فى جوار مطعم بن عدى، وفى الطريق كان دعاء رسول الله الشهير: (اللهم أنت ربى ورب المستضعفين, إلى من تكلنى, إلى بعيد يتجهمنى, أم إلى عدو ملكته أمرى.. إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى).

فى هذه اللحظة بدت الدعوة وكأنها وصلت إلى تحت الصفر من الناحية التنظيمية، فى حين كان الإسلام ينتشر فى دوائر أكبر وعدد المسلمين فى ازدياد.. ثم كانت الطفرة ببيعة العقبة الأولى ثم الثانية ثم الهجرة خلال فترة وجيزة, أى خلال عامين. وفى الهجرة تم حل المعضلة, أى الفجوة بين الوضع التنظيمى للدعوة، والوضع الجماهيرى لها. فانتشار الدعوة قبل الهجرة كان أكبر من قواها التنظيمية.

ويثرب مصر عام 2010 قد تكون القواعد الإسلامية النائمة فى التيار الإسلامى. وقد تكون الأغلبية الصامتة المؤمنة أو مزيج من كليهما. إن قضيتنا فى المبتدأ والمنتهى هى الدين، وليست السياسة بمعناها المبتذل الشائع. (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، وقد قال لنا الله عز وجل إن الكفر بالطاغوت هو مدخل الإيمان الصحيح: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا). لذلك فإن شعار التوحيد الحق يبدأ بالنفى (لا) إله إلا الله. أى نفى وجود أى إله أو آلهة إلا الله. وبالتالى فإن كفرنا بالطاغوت (الذى لا يحكم بما أنزل الله) فريضة لا خيار لنا فيها إن كنا مؤمنين حقا: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ونحن لا نخدع أحدا، فطريقنا ملؤه الشوك والمخمصة والآلام, ولكن من أراد الجنة فليتبعنا ويتبع أمثالنا فى مصر وغيرها (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ).

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يطهرنا بآلام الجهاد, وأن يتقبلنا فى الصالحين، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر, وأن يتم نعمته على هذه الأمة المكلومة.

(22)

لا دين بدون سياسة!

يروج الحكام مقولة (لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين) وهذا مفهوم, فهذه هى مصلحتهم, لأن الدين يقيدهم بقيود شتى، وهم يريدون أيديهم طليقة, وقد شعروا أنهم امتلكوا الدنيا وما فيها، ولكن الأمر لا يقتصر على الحكام المستبدين, فهذا ما يروجه أيضا رجال الدين الرسميين، وأيضا بعض القيادات الإسلامية تروج للمقولة ذاتها كى ترتاح من مطاردة السلطات، وتستقر لهم بعض المنابر والمساجد وبرامج التليفزيون، وما أكثر البرامج الدينية, ولكن لا يسمح لها بالبث إلا إذا التزمت هذه القاعدة (لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين)، وسار على الدرب نفسه الدعاة المستقلون حتى يسمح لهم بالانتشار فى الفضائيات الخاضعة للحكومات العربية، بل ظهرت قنوات إسلامية متخصصة وفقا للقاعدة ذاتها, وإلا لما سمح لها بالظهور أصلا.

وهذا الأمر جلل وخطير, لأن السياسة هى قواعد تنظيم المجتمع، والدين الإسلامى اهتم كثيرا بتنظيم المجتمع وإعمار الأرض وإصلاحها، حتى إن نصف آيات القرآن يتصل بأمور تنظيم المجتمع، وبالتالى فإن ترويج هذه المقولة يصيب عقيدة المسلمين فى مقتل، ويصيبهم تحديدا بحالة من ازدواج الشخصية. وإذا كان الطريق مفروشا بالورد، ولا علاقة له بالسياسة ومتاعبها، فإن الأحمق وحده هو الذى يشتغل بالسياسة! وهذا ليس صحيحا على الإطلاق.

إن السياسة وطبيعة نظم الحكم تشغل حيزا حيويا من القرآن الكريم.. قصص الحكام والملوك والموقف منهم سواء بالسلب أو الإيجاب عامرة فى القرآن الكريم، بل وجرى تعيينهم بالاسم أو الصفة التى تشير إلى شخص محدد فى العديد من الآيات.

وليس فرعون موسى إلا أكثرهم شهرة وذكرا, وهو شخص محدد دون ذكر اسمه ولكنه ليس الوحيد المذكور فى القرآن الكريم، فهناك ملكة سبأ (بلقيس)، والملك الذى حاوره سيدنا إبراهيم (يقال إنه النمرود) وحكام الأخدود، وهناك الأنبياء الذين تولوا الحكم كداود وسليمان ويوسف.. إلخ.

وقد أجريت إحصاء فى دراساتى لعدد مرات ذكر فرعون فى القرآن الكريم, فوجدته الشخصية الثانية فى القرآن الكريم حيث ورد اسمه 74 مرة, أما الشخصية الأولى فكانت سيدنا موسى الذى ورد اسمه 136 مرة, وهو وارد مع فرعون فى القصة نفسها.

وأحصيت فى دراسة أخرى عدد الآيات المتعلقة بقصة موسى وفرعون, فوجدتها تمثل 1 من 14 من القرآن الكريم. ولكن الأمر لا يتوقف على ذلك, فكل أعداء الرسل والأنبياء كانوا من الحكام الذين وصفهم القرآن بأسماء عدة: المستكبرون – الجبارون – الملأ – المفسدون فى الأرض – المترفون.. إلخ.

والحكام المستبدون أعدى أعداء دين الله، لأنه يسوى بين البشر فى الدنيا والآخرة, وإذا أنت استبعدت هذا البعد من تصورك الدينى، فكأنك ألغيت القطب الآخر للمشهد, وأصبحت الصورة مشوهة وغير مفهومة، فالقطبان هما: الإيمان والكفر، الحق والباطل، حزب الله وحزب الشيطان، ولكن الدعاة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه لم يفتهم هذا المأزق، فحولوا الخير إلى العمل الفردى، والشر هو وسوسة الشيطان للإنسان فى الأمور الفردية (الشخصية)، وبالتالى لم يعد للشيطان دوره فى القضايا الكبرى التى تمس أحوال المسلمين ككل. وبالتالى لا علاقة للمؤمن باحتلال فلسطين، ولا بالمسجد الأقصى ولا بالشرائع الدولية التى تفرض على المسلمين، ولا علاقة للمؤمن بقيام أعداء الله بقتل المسلمين بالملايين فى العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان، فكل هذه الأمور من أمور السياسة التى لا تخص الدين. وأن حكامنا الراكعين أمام أمريكا وإسرائيل يتمتعون بالحكمة حتى لا نتعرض بدورنا لنقمة الأمريكان والصهاينة، حتى وإن خربوا اقتصادنا وصحتنا ومجتمعنا، فالمهم ألا يضربونا بالصواريخ، يقتلوننا بالمبيدات المسرطنة فهذا جيد ومعقول, المهم ألا يقتلونا بالقنابل!

وتصدير الغاز لإسرائيل لا علاقة له بالعقيدة، رغم أن ذلك يمثل دعما لكيان غاصب ومغتصب لمقدسات المسلمين وأراضيهم. وعدم الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية فى كل شئوننا الداخلية والخارجية لا يعنى المؤمن المتدين ما دام يؤدى الصلاة ويصوم رمضان ويحج البيت الحرام.

وتعديل الدستور حتى يحرم تأسيس حزب على أساس إسلامى، لا علاقة له بالعقيدة، رغم أن صحابة رسول الله إذا وجدوا فى هذا الزمان لن تعترف بهم لجنة الأحزاب، وسيحولون إلى المحاكم العسكرية.

ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى إدارة الحكم, إلا أن هذا أصبح محرما فى هذا العهد، وبالتالى أصبحت سنة رسول الله وكل آيات القرآن المدنية لا محل لها من الإعراب. فقد استبدلنا حكمة الحاكم بالقرآن والسنة، رغم أن القرآن الكريم صريح: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) (النساء: 59), وهذا ما لم يقم به حكامنا ولا مرة واحدة فى أى موضوع من الموضوعات.

إن سلطة الدولة هى أخطر فتنة وتهديد للعقيدة, أو أهم وأكبر راعية وداعمة لها، لذلك أمرنا الله بالكفر بالطاغوت (مَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) وأمر بالجهاد للتمكين لدين الله فى الأرض, أى إقامة الحكم الصالح: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ).

(23)

تأملات فى الثلث الأخير من الليل

تحلو مناجاة الله فى الثلث الأخير من الليل, كما هى هذه اللحظات الآن حيث السكون تام ومطبق ورائع، تشعر وكأن الزمن قد توقف، بل لا تشعر بأهمية الزمان، بل تشعر أنك خارج الزمان والمكان تسأل الله سبحانه وتعالى وتنتظر إشاراته، وإشاراته علامات فورية، نبضات من السكينة تغزو قلبك. حتى الطيور غفت وتوقفت تماما عن تغريدها، والحراس غلبهم النعاس، فأصبحت نداءاتهم قليلة ومتباعدة، وتوقفت تحرشات القطط بعضها ببعض. تضاءلت الدنيا إلى حد التلاشى والتفاهة، وكأنها مسرحية هابطة انتهت فلم تعد تذكر منها شيئا. وقد وصفها الله جل شأنه بأنها “لعب ولهو وزينة وتفاخر”.. ولم تعد تفاهات السفهاء تقلقنى, بل تدفع الابتسام إلى شفتى؛ والسخرية فى أعماقى.

بدأت الشهر الخامس عشر فى الكهف، ضاربا رقما قياسيا فى حياتى القصيرة، رغم أننى لم أهب يوما السجون، إلا أن فى السجون معاناة بلا شك، وقد ترفق الله فأخذنى إليها بتدرج عجيب وكأنه مخطط له. فتاريخى مع السجون بدأ بأسبوع، وفى المرة الثانية استمر شهرا، وفى الثالثة استمر 4 شهور، وفى الرابعة 4 شهور أخرى، وفى الخامسة 9 شهور، وهذه المرة 15 شهرا حتى الآن، وذلك مع إسقاط الاحتجازات لمدة يوم فى الأقسام ومعسكرات الأمن المركزى فهذه لم أحصها. ولم أحص الأيام التى أمضيتها أمام النيابة أو جلسات المحاكم فكل هذا ربما يعد من الترفيه!!

مع ذلك لم أشعر حتى الآن أن هذه الفترة الحالية أطول من غيرها، فالإحساس بالزمن نسبى جدا وشخصى جدا، ونفسى جدا. وما أنجزته حتى الآن من العبادة والتلاوة والتفكر والبحث والدراسة والتأمل يكفينى لأحمد الله عليه، وأن السجن ليس فترة ضائعة أو ساقطة من العمر، بل لعلها تكون إحدى المنجيات فى يوم يفر فيه المرء من أمه وأبيه وأخيه وصاحبته وفصيلته التى تئويه وبنيه.

لا أزال أعيش وحيدا فى عنبر بأكمله, لا يوجد فيه سواى، وفناء للتريض لا يوجد فيه سواى، ولكننى كما ذكرت من قبل – والحمد لله – مع الله (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ) والحوار معه مستمر طوال الليل والنهار من خلال الصلاة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم, ومع الرسول صلى الله عليه وسلم فى رياض الصالحين أو البخارى ومسلم، ولكن الإنسان خلق اجتماعيا يعيش بين الناس حتى فى السجون إلا أنا، وكما ذكرت فأنا لم أحتج ولم أتبرم ولا أشكو من ذلك، وكما ذكرت من قبل طالما هفت نفسى – من كثرة ضيقى من الدنيا وألاعيبها – إلى الرهبانية، ولكننى أعلم أنها محرمة علينا فى الإسلام، إلا إذا فرضت علينا، فالجهاد هو رهبانية الإسلام، وأنا فى وضع يفوق الراهب الناسك فى دير منعزل فى الصحراء، لأن الدير يوجد به رفاق ومجتمع صغير، وحتى هذا غير متوفر لى، والعجيب أننى اعتدت على ذلك بقلب راض، أحيانا أشعر بالغربة حين أخرج من الكهف للعلاج أو لأى سبب آخر، فقد ألفت الكهف وألفنى، والواقع أننى لست وحيدا تماما عن مخلوقات الله، رغم وفاة (القط كيمو) منذ عدة شهور، فلا أزال محاطا بمجموعة لا بأس بها من مخلوقات الله التى هى أمم أمثالنا. وقد نجحت فى إقناع مصلحة السجون بعدم قطع الشجرة الوحيدة فى الفناء، وهى شجرة ضخمة عمرها أطول من عمر السجن، وربما أطول من تاريخ الاستبداد. وهى موئل العصافير والغربان والحمام. ولكن تم بناء سقف حديدى للفناء أحاط الشجرة بحيث أصبحت فروعها كلها خارج الفناء، ولا يوجد سوى جذعها، ومع ذلك فأصوات الطيور تصل إلى أذنى، فى سيمفونية ممتدة تبدأ قبيل الفجر حتى المغرب بارتفاعات وانخفاضات ذات مغزى، فالعصافير تتوقف ساعة القيلولة لتتيح لك الراحة والسكون، وأيضا بين المغرب والفجر تتوقف تماما. ورغم السقف الحديدى فإن به ثغرات تسمح بدخول بعض العصافير، بل تمكن عصفوران متزوجان من الاستيطان داخل الفناء، وبنيا عشا أو عشين بمنتهى المهارة فى ثغرات ألواح الحديد من الداخل، وتابعت كيف يبنيان العش بدأب غريب، فهما يجمعان الأعواد الجافة المتساقطة من الشجرة، وبعض الحشائش وبعض قطع البلاستيك (من أكياس البلاستيك) ويبنيان عشا خمس نجوم فى مكان لا يمكن لأى عدو طائر أن يصل إليهما فيه. وبمجرد أن يفتح باب زنزانتى صباحا يدخلان ويطيران حولى لإيقاظى ثم يخرجان ويقفان على الباب وكأنهما يتأكدان من استيقاظى، وهما يتحركان كزوجين سعيدين. والثغرات فى السقف الحديدى تسمح بدخول الحمام أو اليمام ولكنها لم تستوطن بعد! ولكن السقف الحديدى منع الهدهد، وكانت له زيارات شبه يومية إلىّ. وكذلك الغربان ولكنها مستوطنة فى الشجرة من أعلى ولا أضيق بأصواتها، ولكنها تقوم أحيانا بحفلات طويلة من النعيق المستمر إذا حدثت بينها حالة وفاة. ويقول الحراس إنه عقب هذا يحملون الغراب الميت لدفنه فى مكان ما بعد الجنازة.

انتهت الرسالة ولكن لم ينته الحديث عن باقى الأصدقاء والزوار الذين يؤنسون وحشتى، ولن أتحدث عن الذين عرضوا صداقتهم ورفضتها، فقد رفضت المعيشة المشتركة مع الفئران، والفأر مخلوق عجيب يجمع بين الذكاء والجبن كبعض البشر، وقد أحكمت إغلاق البلاعة لوقف هذه الصداقة، وقد أدى ذلك بالإضافة إلى إحكام عتبة الباب إلى رفض صداقة أخرى عرضتها الصراصير، ولذا أنصحكم بإحكام إغلاق البلاعات وسد عتبات الأبواب.. وللحديث بقية مع مخلوقات الله وحشراته.

(24)

قدر القلة المؤمنة الصلبة الصابرة

أشرت فى رسائل سابقة إلى قدر القلة المؤمنة الصابرة، وأن الإصلاح الحقيقى للعمران يتوقف على هذه القلة, وأشرت إلى دروس قصة يوسف وطالوت وجالوت ومذبحة كربلاء باعتبارها قوانين اجتماعية ثابتة لكل العصور وليست مجرد قصص لها عبرة عامة. واليوم أذكر بقصة الإمام علىّ بن أبى طالب، وهى قصة تفوق الخيال من زاوية أنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم من الذكور، وأنه فى مقام ابن الرسول وتربى فى أحضانه، وأيضا من زاوية دوره الأساسى فى نصرة الدعوة وكيف شهد مع الرسول كل الغزوات ما عدا تبوك إذ أمره الرسول بتولى رئاسة المدينة.

وكان حامل الراية، وكان المبارز فى المبارزات الفردية، وكان قائد فتح خيبر، وحين استعصى فتح خيبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين هذه الراية لرجل يحبه الله ورسوله، ثم أعطاها لعليّا. والرسول له أقوال عديدة فى علىّ مثل: (أنت أخى فى الدنيا والآخرة), وأيضا: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا كافر), وأيضا: (من كنت مولاه فعلىّ مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه), وأيضا: (أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى). المكانة الخاصة لعلىّ فى قلب رسول الله لا تحتاج إلى كثير إثبات بالأقوال والأفعال.

وقد كان سعيدا به زوجا لابنته الأثيرة فاطمة، وعندما قال له علىّ: لا مال لى. قال رسول الله له: أليس لديك درع بعه وتزوج فاطمة بثمنه. وهو الذى أرسله رسول الله إلى بعثة الحج بآيات من سورة براءة (التوبة) ليتلوها على الحجيج.. وغير ذلك كثير.

بعد عقدين من وفاة رسول الله بايع المسلمون عليا وضغطوا عليه كثيرا ليقبل البيعة.

ثم يفاجأ علىّ بأن السيدة عائشة أم المؤمنين ترفض بيعته, بل وتعد الحشود للزحف إلى البصرة لتأليب المسلمين ضد ولاية علىّ, وكان من أبرز الصحابة معها طلحة والزبير وتراجعا بعد ذلك، وكانت موقعة الجمل التى انتصر فيها علىّ وحرص على سلامة وكرامة السيدة عائشة حتى عادت إلى محل إقامتها. وانتهت هذه الفتنة، ثم عادت للبروز فتنة معاوية الذى ظل على رفضه إعطاء البيعة لعلىّ, وكان حاكما للشام, رغم أن كل البلاد الأخرى بايعت عليا، وكانت معركة صفين التى انتصر فيها علىّ عسكريا، وحدثت لعبة التحكيم ليظل الانقسام قائما بين ولاية علىّ وسلطة معاوية التى امتدت إلى مصر. ثم انشق الخوارج – وهم أعجب خلق الله – وكفروا عليا لأنه قبل التحكيم! وكانت معركة نهروان التى انتصر فيها علىّ أيضا. وأخيرا انتهت ولاية علىّ بالاغتيال على يد أحد هؤلاء الخوارج.

وهكذا فى فترة حكمه القصيرة تكالبت على الإمام علىّ كل هذه الخطوب، وكلها من جبهات إسلامية أو ترفع راية الإسلام. وهو من هو! هو الذى وصف المؤمنين (ومن سيماهم أن يكونوا خمص البطون من الطوى، يبس الشفاه من الظمأ، عمش العيون من البكا).

وقد كانت حياته مصداقا لأقواله, فلو فتشت بيته ما وجدت فيه صفراء ولا بيضاء، ولم يلبس ثوبا جديدا ولا اقتنى ضيعة ولا ربعا! نعم لم يعمر علىّ فى الحكم, ولكن ماذا ترك لأجيال المسلمين؟ ترك أهم شىء وهو القدوة التى تعيش بها الأمم, ويكفى أن نشير إلى وصيته الأخيرة لولديه الحسن والحسين وهو يحتضر: (أوصيكم بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شىء زوى عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الضائع، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصيما وللمظلوم ناصرا، وأعملا بما فى كتاب الله ولا تأخذكما فى الله لومة لائم).

وأنا أهدى هذه الوصية للشباب المجاهد الصابر فى أيامنا هذه.. إن هذه الوصية برنامج عمل كامل: أن تكونوا للظالم خصيما، وللمظلوم ناصرا، وأن تقولوا الحق، لا تخشوا فى الله لومة لائم، أن تكون عيونكم على الآخرة لا الدنيا، ويبدأ كل ذلك بتقوى الله واعتماد كتاب الله ميثاقا للحياة.

هذه المفاصلة بين الظلم والظالمين هى رسالتنا فى الحياة، ليس من المهم إطلاقا كم عددنا فى لحظة محددة، بل من المحتم أن نكون قلة فى البداية, بل وسنظل قلة نسبيا حتى النصر، وبعد ذلك تنضم الأكثرية الساحقة بعد النصر: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا). ولا تسألنى: وكيف نتأكد أن هذه الأقلية على حق؟ والواقع أن الحق قديم ومعروف وأبلج للجميع، ولكن الناس تنحرف عنه حبا فى الدنيا, أو بدافع الحسد والغيرة, أو بالوقوع فى نفسية القطيع، فليست المشكلة أن الحق غامض أو مشوش, ولكن المشكلة فى ضعف النفوس ومرضها وقلة تجردها والتكالب على حطام الدنيا. وأيضا لأن التمسك بالحق مكلف وله تبعاته وعواقبه، حتى يكون أحيانا كالقبض على الجمر. ولأنه أيضا يحتاج إلى شجاعة نفسية عالية للتغلب على النوازع الأنانية والمكاسب العاجلة والأحقاد الشخصية.

هل توقفت يوما أمام هذه الآية؟ هل لفتت انتباهك؟ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 26).

فحتى فى ذرية الأنبياء نجد أن كثيرا منهم فاسقون!! وهذا فى حد ذاته إنذار شديد اللهجة لعامة الناس أن ينتبهوا ولا يتعاملوا مع أنفسهم، ومع عقيدتهم بخفة، وأن يدركوا أن الأمر جد وما هو بالهزل. وأن اختبارنا فى الدنيا ليس هينا، بل هو صعب ورهيب بقدر ما أن المقابل عظيم وكبير: خلود فى جنة عرضها كعرض السماء والأرض.

لقد فتحت موضوعا كبيرا والرسالة قصيرة، فعسى أن نكمل المسألة فى رسالة أو رسائل قادمة.

(25)

تصحيح العقيدة

سأظل – بإذن الله – أعود إلى موضوع الدين والسياسة فى هذه الرسالة وغيرها، لأن الأمر يتعلق بتصحيح العقيدة،وليس بهدف الحض على تحقيق مآرب سياسية، فسحقا لأى مآرب سياسية لا تنضبط بالعقيدة، سحقا لأى مآرب سياسية لا تستهدف وجه الله عز وجل. فحياتنا ومماتنا جميعا لله رب العالمين. وإسقاط السياسة من الدين يعنى إسقاط نصف الدين، ونصف القرآن، ونصف السُنة، وإسقاط أى جزء من ثوابت الدين – ولا نقول نصفه فحسب – يخرجنا من صحيح العقيدة، لذا فإن الهدف من هذا الإلحاح هو السعى لتصحيح العقيدة، ولا يوجد أهم من ذلك فى حياة المؤمن.

والإسلام يحضنا على إصلاح النفس وإصلاح المجتمع، فلا يمكن أن نكتفى بإصلاح النفس دون إصلاح المجتمع، فيتضح من النظر العميق للواقع أن صلاح النفس لا يتحقق فى أعلى صوره إلا فى إطار إصلاح المجتمع. لأن فساد المجتمع يعود ويضغط على الإنسان الصالح ويضعه فى فتنة شديدة. مثلا كيف تضمن صلاح أخلاقك ومرتبك 99 جنيها فى الشهر؟ وكيف يلتزم المعلم أو الصحفى أو المهندس أو صاحب أية مهنة بالأخلاق الحميدة وآداب مهنته إذا كان دخله الشرعى لا يفى أبسط متطلبات حياته الضرورية. وكيف يكون المسلم صحيح الإيمان وهو يرضخ ويلتزم شرائع تتعارض مع شريعة الله؟ والأمثلة لا تنفد.

وما أقوله فى هذا الموضوع ليس اجتهادا شخصيا، وليس وجهة نظر، بل هذا هو الإسلام الوحيد الذى لا يوجد غيره، فثوابت العقيدة لا خلاف عليها، وكل خلافات الفقهاء تدور حول بعض الفروع ومنها الاجتهاد فى أمور ووقائع جديدة، وليست السياسة بالأمور المحدثة أو الجديدة، فهى قديمة قدم وجود الإنسان.

وأتوقف اليوم عند أقوال الشيخ الجليل أمين الخولى فى دراسته (المجددون فى الإسلام) وهى تدور حول المجدد الذى يجدد الدين كل مائة عام.. والمقصود بالتجديد ليس استحداث شىء جديد، ولكن إحياء صحيح الدين، ونفض الأفكار الوافدة على الدين وهى ليست منه فى كل عصر. وهو يشير إلى انضباط السياسة بالدين باعتباره من أبرز موضوعات هذا التجديد. لأن الحكام هم أكثر المستفيدين من تحريف الكلم عن مواضعه، لأن صحيح الدين يقيد سلطانهم وامتيازاتهم واستمتاعهم حتى الحد الأقصى من ملذات الحياة الدنيا: اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر فى الأموال والأولاد.

فيقول الشيخ أمين الخولى: (إن الأصل فى حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذى تحقن به الدماء، ويتمكن من إقامة قوانين الشرع) وفى موضع آخر يقول: (يجب على الداعين فى الجماعة علماء أو مشتغلين بالسياسة أن يقوموا بواجب التجديد الإسلامى. وهذا يقضى على فكرة التواكل، التى أراد بعض المنحلين, المخلين بواجبهم الاجتماعى أن يأخذوه من قريب المعنى وظاهره فى آية: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ليواطئوا به الأكتاف للظالمين المعتدين على روح الحيوية الدينية على ما هى العادة فى مساندة غير الصالحين، من محترفى الدين للفساد السياسى).

وورد فى كتاب للسيوطى أن أربعين شيخا شهدوا ليزيد بن عبد الملك بن مروان الذى تولى الحكم بعد عمر بن عبد العزيز بأنه: (ما على الخلفاء حساب ولا عذاب)!!

وقد لاحظت من خلال حوارى مع بعض المواطنين فى أماكن شتى فى مصر حول هذا الموضوع أنهم يردون بإجابات جاهزة مماثلة، وهذا يعنى أن هناك جهازا جبارا لتلقينهم دينا محرفا، من خلال خطب الجمعة الرسمية أو برامج التليفزيون أو الدروس الدينية الرسمية، فإذا حدثتهم عن الجهاد، قالوا الجهاد جهاد النفس وهذا يكفى. ولكن ليس هذا هو التعريف الأصح للجهاد فى القرآن والسنة. وجهاد النفس صحيح بمعنى الامتناع عن المعاصى والكبائر, ولكنه لا يسقط جهاد الكلمة أو جهاد القتال أو الجهاد بالمال. ولابد من ملاحظة أن اليهود المتدينين فى إسرائيل وغيرها يلتزمون الامتناع عن شرب الخمر ولعب الميسر والزنا ولحم الخنزير، وتلتزم النساء بالحجاب! وأن أمتنا خير أمة أخرجت للناس بالسياسة!!أى بالعمل السياسى الذى يستهدف الإصلاح فى الأرض (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ). فإذا ذكّرت المتحدثين بهذه المعانى الأساسية، بدءوا يتحدثون عن العواقب الخطيرة للعمل السياسى (قول الحق) من سجون ومعتقلات وقطع أرزاق. ثم يكتشف المتحدث أنه يقول أشياء متعارضة مع الدين فيقول لى: طبعا الأرزاق بيد الله وحده ولكن! قلت له المشكلة دائما فى “لكن” لأنها تخرجنا عن الأوامر الصريحة لله عز وجل. ولا شك أن أباك علمك ذلك، قال نعم، وهكذا تنطبق عليك الآية الكريمة: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)!

وهكذا يتم عرض وقائع السيرة النبوية وكأنها قصة تاريخية، وليس باعتبار ما جرى خلالها من قوانين وسنن ستظل تحكم البشرية حتى نهاية الدنيا. وما تعرض له الرسول والصحابة الأوائل لم يكن قصة معزولة عما سبقها وعما يلحقها، بل يظل تاريخ البشرية فى دوائر متصلة فى الصراع بين الفساد والإصلاح، الإيمان والكفر، بين العدل والظلم، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

إن إصلاح الأوضاع السياسية فى مصر عبر عزل حكم مبارك، واجب دينى عقائدى فى المحل الأول والأخير بالنسبة إلى المؤمنين، وليس قضية اختيارية، لأن الخلاف مع هذا الحكم حول ثوابت العقيدة وليس حول بعض الفروع.

(26)

القتل أحسن!

وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين المجاهدين بالنصر: (وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) وأيضا: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ).

وقد بشرت فى العديد من كتاباتى بإمكانية نصر المؤمنين فى كل جيل استنادا إلى هذه الآيات ومثلها كثير، وأيضا من خلال دروس السيرة النبوية، وأيضا من درس التاريخ القديم والمعاصر، والمؤمن المجاهد يجب أن يستهدف النصر ويسعى إليه بكل طاقته ويأخذ بكل أسبابه، ولذلك فإنى أعترض على مقولة (الإخوان المسلمين) على لسان المرشد الجديد وهى ليست جديدة (إننا لا نسعى للحكم) فهذا يخالف نصوص القرآن حول ضرورة السعى للتمكين لدين الله فى الأرض. ولا يجوز قول هذا الكلام على سبيل المناورة أو على سبيل الحق. فهذا الكلام لا يطمئن الطغاة، ولا يساعد – فى ذات الوقت – على حشد المؤمنين من أجل التغيير. مع العلم أنه قد لا يتحقق النصر الكامل فى بلد ما أو مكان ما فى زمن ما لأسباب عديدة أهمها عدم أخذ المؤمنين بأسباب النصر أو لأسباب خارجة عن إرادة المجاهدين, وقد أشار القرآن عدة مرات إلى هذا الاحتمال كما جاء فى الآية الكريمة: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) (يونس: 46).

أى إما ترى بعض الذى وعدنا به من نصرك عليهم يا محمد أو نتوفينك قبل ذلك ويكون حسابهم العسير فى الآخرة.

إذن هناك نوعان من النصر فى الدنيا, النصر الناجز الكامل فى الدنيا بإقامة الدين الحق، أو النصر المعنوى بتقديم النموذج الصحيح وتسليم الراية إلى جيل صاعد. والمجاهد فى كلا الحالين يستهدف النصر الكامل ويترك العواقب لله، ولكنه لابد أن يكون ممتلئا باليقين، فهو لا يعرف الغيب ولكن يعرف شيئا واحدا وهو الصمود والصبر وتقديم المثل فى التضحية حتى يفتح الدرب لمن بعده على الأقل، وأن يتعامل على أساس أنه باع نفسه وجسده لله وحده. وهذه هى القيمة الأساسية فى الدنيا والآخرة. وقد كان صمود الحسين وآل الرسول فى موقعة كربلاء مثالا على هذا النوع من النصر المعنوى الذى يصنع القدوة للأجيال القادمة، وأتوقف اليوم عند واقعة عبد الله بن الزبير وأمه العظيمة أسماء بنت أبى بكر، وكانت الناس قد بايعت عبد الله بن الزبير فى بلاد الجزيرة العربية وانضمت إليه العراق، وفى المقابل سيطر الأمويون على الشام ومصر، وفى عهد عبد الملك بن مروان أرسل الحجاج بن يوسف الثقفى لتقويض سلطة عبد الله بن الزبير فى مكة. وتقول مصادر التاريخ إن الحجاج قتل مائة وعشرين ألف نفس وسجن ثلاثة وثلاثين ألفا من المسلمين لتثبيت حكم الأمويين. ولا وجه للمقارنة بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير ابن الصحابى الجليل الزبير بن العوام ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الإمام علىّ بن أبى طالب قد أقنع الزبير بالانسحاب من موقعة الجمل عندما ذكره بقول رسول الله له (ستقاتل عليا وأنت ظالم)، وأثناء انسحابه من المعركة اندفع أحد المقاتلين وراءه وقتله وظن أن عليا سيسعد بذلك، فإذا علىّ يقول: من قتل ابن صفية (وصفية مجاهدة عظيمة وليست مجرد عمة الرسول) فقال القاتل: أنا, وكأنه ينتظر جائزة، فبشره علىّ بالنار!! وعبد الله بن الزبير كان صواما قواما و لا يقارن بأبناء بنى أمية. فأصر على عدم التسليم حتى الموت، وتمكنت جيوش الحجاج من محاصرته فى الكعبة، بل وأخذ فى حادث نادر يقصف الكعبة بالمدفعية (المجانيق) وهو الأمر الذى حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة, وقد انفض كثير من أتباع عبد الله بن الزبير من حوله كما يحدث فى مثل هذه المواقف العصيبة. ودار حوار تاريخى معروف ولكننى أكتبه للشباب, بين عبد الله بن الزبير الذى ذهب يستشير أمه المجاهدة ذات النطاقين والتى كانت قد تجاوزت المائة من عمرها فقالت له: (أنت أعلم بنفسك يا بنى.. فإن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو، فأمض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك غلمان بنى أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: كنت على حق، فلما وهن أصحابى ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، فلم بقاؤك فى الدنيا؟ القتل أحسن! فقال عبد الله: يا أماه أخاف إن قتلنى أهل الشام أن يمثلوا بى ويصلبونى. فقالت: (إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها، فامض على بصيرتك، واستعن بالله) فمضى إلى المواجهة الأخيرة وهى تدعو له: اللهم ارحم طول ذلك القيام فى الليل الطويل.. وبره بأبيه وبى. اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبنى فيه ثواب الصابرين الشاكرين. وانتهى القتال باستشهاد عبد الله بن الزبير وقطعت رأسه وحملت إلى الحجاج الذى حملها معه إلى المدينة!! وصلبوا جثته لأيام فى الكعبة. ثم كانت هناك مواجهة رائعة لأسماء فى مواجهة الحجاج لا يتسع المقام لذكرها. المهم أن موقف أسماء هو الذى ألهم بعد 14 قرنا على سبيل المثال لا الحصر – أم الشهداء فى غزة – التى زفت ثلاثة من أبنائها للعمليات الاستشهادية. فإن المجاهدين وإن سعوا للتمكين لدين الله فى الأرض، إلا أنهم إن لم يتمكنوا فى عهد ما، وزمن ما، فإن صمودهم وصلابتهم وموتهم على الحق يلهم أجيالا قادمة من المجاهدين، وتحيا الأمم بهذه النماذج الفدائية التى تنير لها الطريق, فتذكر الإمام مالك وأبو حنيفة وابن حنبل والحسين وعبد الله بن الزبير وأسماء ولا تذكر أسماء جلاديهم.

(27)

التضحية من أجل انتصار المبادئ

امتدادا للرسالة السابقة التى ركزت حول النصر المعنوى، أضيف اليوم أمثلة جديدة من تاريخنا الإسلامى الذى يكشف دور القادة فى الانتصار للحق، فالقائد فى مجال الفكر والسياسة يجب أن يكون قدوة للأجيال الصاعدة والقادمة فى تقديم التضحية بلا حدود، والأمم عاشت بهذه الرموز, واهتدت بتلك النجوم (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). أما الآن فنرى على ساحة السياسة والفكر والعلم، رموزا من قش، غير مستعدة لتقديم أدنى شكل من أشكال التضحية، وهذا يعكس عدم إخلاصهم لما يطرحون, ويعكس أنهم عقدوا صفقة مع الشيطان (النظام) أن يتكلموا ويتحركوا فى حدود المسموح به، فحتى الأنبياء احتاجوا إلى تقديم تضحيات وصلت إلى حد أن يُقتلوا، وقد كان هذا من علامات صدقهم.

الفقيه الشافعى ابن سريج عرض عليه الحاكم فى بغداد منصب قاضى القضاة، ورفض ابن سريج ربما لأنه يريد أن يتفرغ للعلم، أو لخشيته من عدم تمكنه من إقامة العدل فى ظل هذا النظام، فأمر الوزير (وهو بمقام رئيس الوزراء الآن) أن يُسمر عليه بابه فيكون أكثر من سجن، ولكن ابن سريج لم يتراجع، وعندما سئل عن سبب قبوله هذا الوضع المروع ولم يستجب لطلب الحاكم قال: (حتى يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب الشافعى عومل على تقليد القضاء بهذه المعاملة وهو مصر على إبائه زهدا فى الدنيا) وعندما سئل الإمام مالك عن سبب مشاركته فى ثورة سياسية وهو شيخ محطم قال: (يرانى الجاهل فيقتدى بى). أما ملحمة ابن حنبل فقد سارت بها الركبان عندما رفض من الحاكم (المأمون) الإقرار بخلق القرآن أى أنه خلق ساعة نزوله ولم يكن قديما موجودا منذ الأزل. وكان من يرفض هذه البدعة (أو هذه القضية المفتعلة السخيفة) يقتل! وكان ابن حنبل فى الخامسة والخمسين من عمره, وكانت له مكانته وشهرته الأدبية فى عصره لعلمه وتقواه, وقد كان فارسيا ولكنه تربى فى بغداد. وكان الإمام أحمد فى طرسوس عندما أرسل إليه المأمون بكتاب يطالبه فيه بالاعتراف بخلق القرآن أو تقطع يداه ورجلاه فقال: القرآن كلام الله وكلام الله غير مخلوق. فحاول العسكر تنفيذ الحكم فيه, ولكن ثورة الناس حالت دون ذلك. فحملوه مقيدا بالسلاسل إلى بغداد وألقوه فى زنزانة ضيقة جدا دون أن ينزعوا منه السلاسل, فكان يصلى بالناس فى السجن وهو مقيد, وكلما أرسل إليه من يطالبه بالتراجع عن موقفه رفض فزادوا عليه السلاسل لتشمل قدميه, ثم تم حمله أخيرا إلى المعتصم الذى تولى الحكم بعد موت المأمون, وهدده بالقتل ليعترف بالإيمان (خلق القرآن) فقال له ابن حنبل: الإيمان هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, واستمر الجلادون فى جلده, حتى خرجت أمعاؤه من بطنه, وتسرب النبأ فى بغداد أن ابن حنبل مات, فثار الناس وتراجع الحاكم, وأفرج عنه حيث عاش بعد ذلك عشرين عاما متأثرا بجراحه, وانتصر موقف ابن حنبل وهذا هو الأهم. بينما كان المنافقون وعلماء السلطان يحرضون على قتله، فماذا بقى من هؤلاء؟! لا شىء إلا الخزى والعار. وبقى ابن حنبل زعيما لأحد أبرز المذاهب، وإماما فى علم الحديث النبوى وترك لنا كتابه الشهير (المسند). ولو سقط ابن حنبل – لا قدر الله – فى هذه المحنة ما نظر أحد فى كتبه ولما وصلت إلينا. فالقائد أو الفقيه هو موقف قبل أن يكون (مجموعة من المعلومات)، فمن الذى يثق فى عالم أو مفكر أو فقيه عندما يراه رعديدا جبانا أمام السلطان. ولذلك نرى أن أعداء الدين وأهل الحكم يسعدون عندما يقع قادة المعارضة فى الخطايا أو يجبنون، ويذيعون ذلك، حتى يؤكدوا أنه لا توجد مثل عليا ولا أشخاص مثاليون، والكل يخضع لأهوائه ومصالحه الشخصية (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) (النساء: 27) وأيضا: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) (النساء: 89).

وهكذا فإن صمود قلة قليلة من القادة فى لحظة من لحظات التاريخ هو الذى يحفظ للأمة عقيدتها وفكرها وحضارتها وسيرها على الطريق القويم، وعندما تتسع دائرة أنصار هؤلاء القادة الذين يصبحون على استعداد للتضحية على دربهم ينفتح الأفق للنصر, لذلك أعجب من أشخاص وحركات وأحزاب تتحدث كثيرا عن التغيير، ولا تقدم أى نوع من التضحية فى سبيل ذلك، إما لأنها تعرف الخطوط الحمراء التى يجب أن تتوقف عندها، وإما لأنها تقوم بدور تفريغ الشحنات لدى الجماهير, ويستغلها النظام فى ذلك وهى تنفذ بوعى أو بدون وعى، باتفاق أو بدون اتفاق، أو تكون مفرزة بالفعل من الأمن للقيام بهذا الدور، وهناك حركات تستخدم الشباب كوقود بينما الكبار فى حرز مكين, وتفسير الشهيد سيد قطب (فى ظلال القرآن) أصبح أكثر الكتب الدينية رواجا وترجم للغات عدة وعلى رأسها الفارسية والتركية بعد إعدامه، وكتابه لم ينتشر بسبب إعدامه فحسب, ولكن لأنه كان لديه ما يقدمه من إسهام حقيقى فى تجديد الدين، ولكن تضحيته (التى وصلت إلى حد الإعدام) كانت بمنزلة التصديق أو الختم عليها بالإخلاص والمصداقية. أما الحركات الإسلامية التى تعيش وتتعايش مع نظم الحكم الفاسدة فهى تبقى بلا فاعلية، وهى والفشل صنوان, لأنه لا يوجد بين قادتها من قدم فكرا وعملا يستحق الإعدام!!

(28)

عندما تنظر إلى السماء فأنت تنظر إلى الماضى!

عودة مرة أخرى إلى القضاء والقدر، فهو مفتاح سكينة المؤمن واطمئنانه وأيضا مفتاح شجاعته وإقدامه، ومعادلة القضاء والقدر عسيرة على العقل إلى حد الاستحالة، لذلك فهو جزء لا يتجزأ من الإيمان بالغيب الذى نسلم به لأنه وردنا فى القرآن والسنة. وهو جزء من إيماننا بقدرة الله الكلية، فالإنسان يبات لا يعلم ماذا يكسب غدا، ولكن الله يعلم ما سيحدث غدا وما تخفى الصدور. ومعادلة القضاء والقدر: (أن الإنسان يملك تماما حرية اتخاذ قراراته وهو بذلك مسئول عنها، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلم الغيب تماما، وعلمه لا ينفى عنك المسئولية ولذلك فأنت تحاسب على قراراتك). والمهم أن نسلم بهذه المعادلة رغم صعوبة حلها بعقلنا القاصر، ومع ذلك فهناك الكثير من الشواهد التى تقرب لعقولنا هذه المعادلة الصعبة على الفهم. فمسألة الماضى والحاضر والمستقبل، ثبت علميا أنها مقياس خاص بالإنسان على الأرض فى الحياة الدنيا. أما الله سبحانه وتعالى فليس لديه ماض وحاضر ومستقبل, فالكون كله ملك يمينه مكانا وزمانا. فقد ثبت علميا أن النجوم البعيدة التى نراها فى السماء ليست سوى صورا للماضى، وأن هذه النجوم قد تكون تحورت أو انفجرت ولا وجود لها الآن لأننا نراها بما يصدر عنها من أشعة، فإذا كانت هذه النجوم على بعد عدة سنوات ضوئية لأننا لا نراها إلا بعد وصول هذه الأشعة لنا وهذا يحتاج إلى وقت طويل يتجاوز عمر الإنسان بل عمر الأجيال، فمثلا نجم الشعرى وهو ألمع النجوم يبعد عن الأرض 9 سنوات ضوئية, والنجم الأحمر العملاق (الدبران) يبعد 68 سنة ضوئية، والضوء الذى نراه منه انطلق منذ 68 سنة ضوئية، فنحن إذن نرى الماضى لا الحاضر!! فالسنة الضوئية = 6 تريليون ميل أى 6 آلاف مليار ميل (186 ألف ميل فى الثانية) = سنة أرضية. أما الشمس فلأنها قريبة جدا من الأرض (93 مليون ميل) فإن ضوءها يصلنا بعد 8 دقائق ضوئية أى أن الشمس أيضا من الماضى, ولكنه ماض قريب جدا!! وفى العام الماضى رصدت أجهزة الرصد الأمريكية والأوروبية انفجارا عمره 13 مليار سنة, أى استطاعت رصده بعد مرور هذه السنين, عندما وصل فيض أشعة الانفجار إلى مجال أجهزة الرصد!! وكانت نظرية النسبية لأينشتاين فتحا للتأمل فى هذه الحقائق العسيرة على العقل! فإذا تصورنا أن رائد فضاء سافر فى مركبة بسرعة الضوء وعاد إلى الأرض سيجد نفسه عاد بعد آلاف السنين رغم أن عمره لم يزد كثيرا. ولكن حتى الآن لم يتوصل العلم إلى مركبة بسرعة الضوء, ولكن الافتراض لا يزال صحيحا من الناحية النظرية الزمنية. وعندما قام علماء الغرب بإرسال رسائل لاسلكية إلى الفضاء بحثا عن مخلوقات حية فقد صممت لتصل إلى 25 ألف سنة ضوئية، وهذا يعنى أن الرد إذا كان هناك مخلوقات غير الجن! سيصلنا بعد 50 ألف سنة!! وتقول نظرية أينشتاين: (كل شىء يجرى فى الكون يحمل زمنه معه، وكلما كانت سرعة جريه أكثر قل زمنه، فإذا صارت سرعة الشىء مثل سرعة الضوء، فإن الزمن فى ذلك ينعدم، وإذا زادت عن سرعة الضوء عاد الزمن بذلك الشىء إلى الوراء). وقد تقول إن هذه الحقائق لم تقربنا ولكنها زادت الأمر صعوبة! نعم إنها حقائق تدوخ العقل ولكن تقرب فكرة أساسية، أن مسألة الزمن أمر خاص بالإنسان لنقصه وقصر عمره، وأن تقسيمه الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل مسألة خاصة به، أما الله عز وجل وهو الكمال المطلق والقدرة المطلقة والبقاء المطلق فقد تنزه عن الزمان والمكان. هذه الحقائق العلمية تساعدنا على التسليم لله وقدرته, وأن الاستخدام الحقيقى للعقل والعلم يصل بنا إلى أن هناك مستويات ومناطق دون إمكانياتنا العقلية. وأهمية هذه الحقائق العلمية أنها تكشف أن أمر الزمن وتقسيمه إلى ماض وحاضر ومستقبل مسألة قاصرة على مساحة ضيقة جدا من الكون (الأرض)، وأن ما نسميه غزو الفضاء حتى الآن أشبه بلعب طفل صغير على شاطئ المحيط فى حدود بضع أمتار, ونحن نسلم لله وبكل ما جاء فى القرآن لأن القرآن ينطق بإعجازه. وهذه معجزة سيدنا محمد حتى يوم الدين. ففى هذا الموضوع ذاته ذكر القرآن مرارا مسألة نسبية الزمن فقال: (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ)، بل هناك مستويات للأزمنة, ففى يوم القيامة سيكون اليوم “مقداره خمسين ألف سنة”، ونسبية الزمن لم تكن أمرا معروفا ولا مطروقا منذ 14 قرنا، ناهيك عن العرب فى قلب الصحراء، ناهيك عن النبى الأمى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، نظرية نسبية الزمن هى وليدة القرن العشرين الميلادى، وهى كما ذكرنا تقربنا من الفهم, ولكنها لن تحل هى ولا غيرها كل الألغاز، ولا كل أسرار الله. وحتى الآن لم يتوصل الإنسان إلى شىء مادى يتحرك إلا أقل من سرعة الضوء, والآية الكريمة فى سورة المعارج تقول: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ{4} فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً{5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً{6} وَنَرَاهُ قَرِيباً{7}(.

ويقول د. أحمد شوقى إبراهيم: (أما الأرواح فهى لا مادية فيمكنها أن تتحرك أسرع من الضوء، وقد يكون هذا هو سر ما يراه الإنسان الحالم فى نومه من أحداث تحدث مستقبلا) لأنه نوع من الاتصال والتحرك الروحى. وصدق الله العظيم إذ يقول: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59).

(29)

أنت بخير ما بكيت من خشية الله

أنت بخير ما دمت بكيت من خشية الله، فالله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده والعليم والبصير والعادل والحكيم، يعلم أننا لا نراه فى الحياة الدنيا، لأن هذا يفوق إمكانيات البشر فالله عندما أظهر نفسه للجبل انهد وتحول إلى حطام، وأيضا لحكمة لا نعلمها. ولذلك فإنه جل شأنه أهدانا وسائل مادية ملموسة، لنتأكد من التواصل معه، ولنتأكد من حسن علاقتنا به والتواصل معه، ومن ذلك نعمة البكاء من خشية الله. فهى وسيلة مادية ملموسة يمكن للمؤمن من خلالها أن يطمئن على إيمانه وأنه فى الطريق الصحيح. وهو اختبار سهل للغاية فى مقدور أى مؤمن، شريطة أن يحدث ذلك منفردا وخاليا إلى الله، حيث تنتفى احتمالات الرياء والمظهرية والادعاء، فمع الأسف علمنا نماذج من الشخصيات تبكى علنا أمام الناس خلال حديث دينى دون أن تكون صادقة. وهو اختبار تلقائى بمعنى أنك لا تحضر نفسك له ولا تحدد له ساعة، ولا تستعد له، ولكنك تجد نفسك فجأة فاضت عيناك كالمطر المفاجئ فى ساعة صيف! فهذا البكاء من خشية الله يأتى بصورة تلقائية من خلال الانقطاع والتوافر الكامل للعبادة فى لحظات أو ساعات محددة، فى حالة من التركيز بعيدا عن المؤثرات والانشغالات الخارجية، وفى حالة التوجه المخلص بجميع روحك إليه, ولذلك فهذا البكاء من خشية الله يأتى عادة خلال الصلاة أو تلاوة القرآن خاصة بصوت عال، إذ تتعاون حاسة النظر مع حاسة السمع مع حاسة حركة الشفاه واللسان، أو خلال الدعاء الحار إلى الله، أو بمجرد التفكر فى حكمة الله وعظمته بينك وبين نفسك. وهذا ما ورد فى القرآن الكريم: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم: 58) وأيضا: (قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً{107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً{108} وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً{109}) (الإسراء) ولاحظ تعبير (خروا – يخرون) فلم يقل سجدوا، بل سقطوا بوجوههم سريعا إلى الأرض فهو رد فعل وجدانى انفعالى تلقائى فى حالة الانجذاب المغناطيسى.

وفى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء عن سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله منهم (رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)، (عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس فى سبيل الله).

وقد كان يسمع لرسول الله أزيز كأزيز المرجل وهو يصلى باكيا لله خاصة فى النوافل، وكان يبكى إذا استمع تلاوة للقرآن، وعندما كانوا يدعونه إلى صلاة الفجر كانوا يجدونه أحيانا غارقا فى البكاء بعد نزول آيات من الله عليه. كذلك ترقرقت عينا رسول الله أثناء دخوله مكة (فى فتح مكة) وليس عيبا أن تبكى من خشية الله أمام إخوانك أو أمام الناس، فالأمر يحدث عفو الخاطر وبدون ترتيب, ولكننى ذكرت البكاء المنفرد كعلامة أو اختبار صادق تماما على حسن العلاقة بالله. فإذا كنت لم تتعرض لهذه الظاهرة أبدا فأنت فى مشكلة كبرى, وهذا معناه أنك لا تتعبد بصورة كافية ومركزة، وإذا مر أسبوع أو شهر أو أكثر دون أن تتعرض لهذه الظاهرة، فعليك أن تراجع نفسك, وتعيد ترتيب خريطة يومك, فهذا معناه أن الانشغال بأحداث الدنيا اليومية يشغل فكرك ووجدانك عن أصل وجودك وهدف هذا الوجود.

إن تفجر العيون بالبكاء حبا وخشية من الله, يوصلك لحالة من انشراح الصدر والطمأنينة, وهو نوع من الاغتسال الروحى الذى يعيد خلقك خلقا جديدا، وتشعر أن روحك خفيفة تكاد تحلق فى السماء، وتشعر بحالة غير عادية من الشفافية والسعادة الداخلية, تشعر وكأن كل هموم الدنيا قد أزيحت من على صدرك، وتشعر أنك تتنفس بحرية وبعمق غير مسبوق، لذلك قال أحد العارفين بالله: (ما زلت أسوق نفسى إلى الله وهى تبكى حتى سقتها إليه وهى تضحك). فالبكاء يؤدى إلى حالة من انشراح الصدر وهو من أبرز علامات الإيمان والصفاء النفسى: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام: 125)، فمن علامات الكفر الشعور بضيق الصدر والاختناق وكأن الهواء قد فقد الأوكسجين أو قل فيه إلى حد كبير. وكما أن الكفر درجات فإن الإيمان أيضا درجات، والمؤمن الذى لا يزيد إيمانه كل يوم, فمعنى ذلك أن إيمانه ينقص فلا توجد حالة من الثبات. وأكبر خطر يتعرض له المؤمن أن يظن أنه قد وصل إلى بر الأمان بصورة نهائية وحاسمة، وهذا يعرضه للغرور والتعالى، لأن معركة الكفر والإيمان، الخير والشر، حزب الله وحزب الشيطان، تظل محتدمة داخل كل نفس وأيضا داخل المجتمع, حتى النفس الأخير للإنسان أو الدنيا ككل. ولذلك قال رسول الله: (الشرك أقرب إليك من شراك نعلك)، والاستزادة من الإيمان، أشبه بالاستزادة بالمزيد من المياه لإطفاء نار الذنوب، ولتمدك بقوة إضافية مستمرة لمواجهة طواغيت الأرض. نحن نريد أن نغير وجه العالم بأن نمكن لدين الله فى الأرض، وهذا يقتضى الانخلاع النفسى من هذه الدنيا والتبتل إلى الله (راجع سورة المزمل) لنعد أنفسنا لإصلاح الدنيا، وهى عملية متواصلة أشبه بشحن البطارية بصورة دورية، أو أشبه بمخازن السلاح التى يرجع إليها المجاهدون أثناء المعركة للتزود بالمزيد من الأسلحة والذخيرة. وهذه هى المعادلة الصعبة نحن فى قلب الدنيا ولسنا فيها. نحن نصلح الدنيا ولكننا غرباء عنها، نحن نريد إقامة العدل ولكننا مجرد عابرى سبيل.

(30)

لا تنس أن الملائكة معك

كثيرا ما نتذكر الشيطان وأنه عدو لنا, وندرك وسوسته الشريرة ونحاول مقاومتها, ولكننا كثيرا ما ننسى حلفاءنا الملائكة، ويجب أن نتذكرهم دائما, لأنهم ذخيرتنا وقوتنا الاحتياطية وعمقنا الاستراتيجى فى مواجهة الشيطان. وتذكر الملائكة مهم لأنهم معين لنا وقوة دفع، وهذا ما يعطينا ثقة أكبر فى النفس ونحن نخوض معارك الخير. فمن رحمة الله علينا أن أمدنا بالملائكة طوال الوقت وليس فى المعارك الحربية وحدها، وإن كانت الملائكة تتنزل بحشود وكثافة كبيرة فى معترك الجهاد القتالى ضد الأعداء، لأن معارج الجهاد المسلح هى أعلى مراتب الجهاد, ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يدعمنا بقوة أكبر فوق العادة، وعلى قدر نيتنا وعلى قدر إخلاصنا فى الجهاد فى سبيله وحده سبحانه وتعالى. فيمكن أن يمدنا (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ) (آل عمران: 124) أو (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (آل عمران: 125) أو (بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (الأنفال: 9), والإيمان بالملائكة جزء لا يتجزأ من الإيمان (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (البقرة: 285).

الإيمان بالملائكة جزء لا يتجزأ من الغيب، وكما نؤمن بالله دون أن نراه، فنحن نؤمن بالملائكة دون أن نراها. ونحن نشعر بوجودها وآثارها دون أن نراها أو نسمع لها صوتا. والشائع لدى المؤمنين هو الشعور بالملائكة فى زمن القتال، ويفسر مجاهدو المقاومة كثيرا من الأحداث التى يتعرضون لها بمساندة الملائكة، عندما تحدث وقائع عجيبة وتبدو غير منطقية بحسابات العقل، وهو ما يسميه البعض كرامات المجاهدين فى ساحة الوغى. وإذا جلست إلى المجاهدين فى المقاومة اللبنانية بجنوب لبنان أو المجاهدين فى غزة تسمع منهم قصصا عجيبة عن توفيق الله. فهذا مجاهد يضطر إلى إخلاء خندق والانتقال إلى خندق آخر بسبب كثافة النحل، فيتعرض الخندق الأول للتدمير فور تركه. أو سيارة الإمداد التى تصل إلى المجاهدين فى أقل من الوقت الممكن بحساب أعلى سرعات للسيارة، أو المجاهد الذى يستخدم منصة الصواريخ عدة مرات رغم اكتشاف العدو إياها إلكترونيا، وتعرض المنصة للقصف المباشر مرارا دون جدوى فتظل سليمة وتعمل. أو المجاهد الذى حوصر بالأعداء من كل مكان فقرر الانسحاب، ثم يجد دبابة العدو واقفة تماما بجوار العبوة الناسفة فيفجرها ثم ينسحب سالما، وقد سمعت من أسرة شهيد فى غزة قصة عجيبة لها برهان، فبعد استشهاد المجاهد، ظهر فى الحلم لأخيه، وقال له أذهب إلى فلان للحصول منه على اللاب توب الذى أخذه ليصلحه، وبه معلومات مهمة لابد من إعادتها لقيادة المقاومة، ويذهب أخوه للشخص المعنى ويتأكد بالفعل من وجود اللاب توب لديه ويستعيده منه ويعطيه للمقاومة! وكل الأسرة كانت موجودة وشاهدة على هذه الواقعة. ولكن الأمر (دور الملائكة) لا يتوقف على ساحة القتال الجهادى، فالملائكة يلازمون المؤمنين على مدار الساعة، ولكن الناس لا تنتبه لذلك. فى إحدى جلساتى مع الشباب عندما ذكرت لهم هذه الآية من سورة فصلت تعجبوا، وقالوا إنهم لم ينتبهوا لهذه الآية رغم صلتهم الحميمة بالقرآن: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ) أى تقول لهم الملائكة: نحن نصراؤكم فى الحياة الدنيا بالتأييد وفى الآخرة بالشفاعة والتكريم. وتتنزل بمعنى تنزل عليهم الملائكة مرة بعد مرة قائلين: لا تخافوا من شر ينزل بكم ولا تحزنوا على خير يفوتكم، وأبشروا بالجنة التى وعدكم بها الأنبياء والمرسلون. والملائكة لا تتنزل هكذا المرة تلو المرة إلا على الذين استقاموا على الإيمان الصحيح بالعمل الصالح.

والحقيقة أننى لا أشعر بهذا المعنى بقوة إلا فى السجن الانفرادى, أشعر بطاقة جبارة تغزونى بين لحظة وأخرى تضخ علىّ زخات متواصلة من السكينة والاطمئنان, وأخشى أن أقول السعادة حتى لا أتهم بالمبالغة. وهذه الموجات تحدث حتى خارج أوقات الصلاة والتلاوة، وتحدث بدون مؤثر خارجى (كخبر سعيد تسمعه فى الزيارة) وتحدث دون أن تكون تفكر فى شىء ما، فربما تكون شارد الذهن فى موضوع تافه أو تقوم ببعض الأعمال المنزلية (الزنزانية!)، وهذا لا يعنى أن الملائكة لا تحف بك وأنت تصلى أو تتلو القرآن، ولكننى أبحث عن تفسير لهذه الموجات التى تحدث بعيدا عن هذه المؤثرات المفهومة (قراءة القرآن).

فى الحبس الانفرادى الأول منذ 11 سنة كتبت فى مذكراتى أننى أشعر أن الزنزانة الصغيرة مزدحمة بالملائكة، وهو إحساس شعرت به ولكننى لم أر شيئا ولم أسمع شيئا. ولكنى فى ساعة صلاة الفجر كانت تحدث معى أحداث لطيفة كى أستيقظ، فمرة أسمع وأنا نائم هاتف يقول بصوت عال بصورة آمرة: قم، فأستيقظ والصوت يرن فى أذنى وبعد ثوان ينطلق أذان الفجر، وفى يوم آخر تأتى عصفورة على النافذة لتغرد بشكل مركز حتى أستيقظ فتتركنى. أما فى هذه المرة فلم أتعرض لهذه الظواهر، إلا مسألة موجات الطمأنينة الزاحفة التى تغزو قلبى بين وقت وآخر بدون مبرر ظاهر، وفى وقت أكون مشغولا بتوافه الأعمال (كغسيل طبق أو كتلميع حذاء!) أو شاردا فى موضوع أكثر تفاهة مما تتصور.

الحديث عن الملائكة رغم أننا لم نرها بعد حديث جميل, ولكن الرسالة انتهت والكلام لم ينته, فقد نعود إليه مرة أخرى إن شاء الله.

(31)

الصبر مفتاح الفرج

نعم الصبر مفتاح الفرج فى الدنيا والآخرة. وهو عملية خاصة وبالغة الأهمية فى حياة المؤمن متمايزة عن الإيمان, وإن كانت جزءا لا يتجزأ منه، ومتمايزة عن التقوى, وإن كانت جزءا لا يتجزأ منها، فهى صفة خاصة تحتاج إلى الرعاية والتنمية، وهى كما ذكرت من قبل منتهى الإيجابية، وليست صفة سلبية – كما يردد البعض – مرتبطة بالهوان والذلة والمسكنة، بل هى مرتبطة بالدوام على العبادة والعمل الصالح والجهاد. فالصبر يماثل ما يقول الرياضيون عن قوة الأحمال، وزيادة الأحمال فى الرياضة تعنى ارتفاع اللياقة البدنية، والقدرة على تحمل العدو أو السباحة لفترات طويلة، وهو أمر يحتاج إلى تدريب، حتى لا تتقطع أنفاس الرياضى بعد عدة أمتار. والنفس البشرية لا تختلف عن الجسد من هذه الزاوية، فهى تحتاج إلى مران وتدريب وتربية وتقويم. الصبر يعنى التمسك بالحق والطريق المستقيم والثبات عليه رغم المصاعب والعقبات والحواجز التى تواجه المؤمن فى الحياة، يعنى قوة التحمل وعدم استعجال النتائج فى الدنيا والآخرة. فالتمكين لدين الله فى الأرض ليس طريقا مفروشا بالورود, فدونه الصخور والهضاب والجبال الوعرة، والتمكين لدين الله فى الأرض أشبه بالسفر البعيد, والمسافر فى حاجة إلى دابة لتوصله إلى هدفه، والصبر هو هذه الدابة (جمل أو سيارة أو أتوبيس أو قطار.. إلخ) فقد يقول البعض للداعية يا أخى كلنا مؤمنون بالله ونسعى للآخرة.. ولكن هذا السعى لا يتحقق لمنتهاه إلا باستخدام وسيلة مواصلات! فبين التصديق بالله والنطق بالشهادتين وبين نقطة الانتصار مسافة لابد من قطعها, أما الإيمان بالله والانكماش على العبادة والعزلة عن المجتمع فهى لا تحتاج إلى كثير من الصبر، أما الانتقال من المحطة الأولى (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) وإقامة الدين فى المجتمع فهو الذى يحتاج إلى الصبر، وهو ليس مجرد تحمل مرور الوقت، بل لابد أن يكون هذا الوقت مشغولا بالعمل الصالح المؤدى إلى المحطة النهائية وإخلاص النية لله فى عملية إقامة الدين فى الدنيا (إقامة الدولة الإسلامية) هو فى الوقت ذاته الطريق إلى الجنة، سواء لحق المؤمن بلحظة الانتصار أو مات أو استشهد قبلها، وبالتالى فإن الصبر هو وسيلة الانتقال إلى جنة الخلد. وقد قرنت آيات القرآن الكريم بين الصبر ودخول الجنة فى ثمانى آيات, أما الصبر كصفة أساسية للمؤمنين فقد وردت فى القرآن 90 مرة. بل إن المدد بالملائكة مرهون بالتحلى بالصبر: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ) (آل عمران: 125), بل لقد قدمت بعض الآيات الصبر على الصلاة! (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45), بل كانت من أوائل الآيات التى نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (المدثر: 7), (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا) (المزمل: 10).

ومن الآيات التى تمس شغاف القلوب: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: 48), ما أجمل وما أروع أن يكون الصابر المحتسب بأعين الله، فهل توجد حماية وحفظ ورعاية أكبر من ذلك، وهل توجد لغة حميمة أكثر من ذلك، من الخالق للمخلوق, والذين يتخلون عن الجهاد مكتفين بأداء العبادات, ما حاجتهم إلى الصبر، هل لمجرد القيام مبكرا لأداء صلاة الفجر؟ هل لتحمل الصيام فى رمضان بينما يقوى الصبية عليه؟! إن المكتفى بالعبادات لا يزال فى المحطة الأولى لا يكاد يتحرك منها. وبالتالى لا يحتاج إلى وسيلة مواصلات (الصبر) للمحطة النهائية. ولا شك أن المؤمن يحتاج إلى الصبر لتحمل ما يتعرض له من كوارث شخصية كموت عزيز أو نكبة مالية, ولكن كل ذلك يظل على حواف المحطة الأولى, فهذه الكوارث يتعرض لها المؤمن والكافر على السواء. ولكن الابتلاء الخاص بالمؤمنين هو الذى يتعرضون له فى طريقهم لنصرة الدين: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) (الصف: 14) وهذا هو اختبار الصبر الحقيقى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان: 20), وقصة سيدنا يونس هى قصة الصبر: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ) (القلم: 48), إذ يوجه الله سيدنا محمدا أن يصبر على قومه ولا يضيق بهم وأن يتحمل شكهم، وعنادهم، وكفرهم, وأن يصبر على مشاق الدعوة وعنائها وآلامها, ولا يتصرف كما تصرف يونس من قبل، إذ ضاق صدره بعناد قومه فخرج من بلده غاضبا على قومه هائما على وجهه، فعاقبه الله على تسرعه ثم تاب عليه ونجاه مما وقع فيه من ضيق. فالصبر مرتبط بشيئين:

1- أنه اختبار للإنسان على الابتلاء فى سبيل الله، فإذا لم يصبر فهو عمليا رفض البيعة مع الله، فكيف يحصل على سلعة الله الغالية (الجنة) ما الذى قدمه ثمنا لها؟!

2- أنه من سنن الله فى خلقه أن التغيير والإصلاح يحتاج إلى زمن، بل ينطبق ذلك حتى على قوانين الطبيعة: خلق السموات والأرض فى ستة أيام (أى ستة مراحل) وكل الظواهر الكونية مرتبطة بتفاعل يحتاج إلى زمن محدد. كذلك فإن إصلاح المجتمعات ليس نزهة قصيرة، بل يحتاج إلى السنين والعقود من المعاناة والمكابدة.

المهم أولا أن تتأكد أنك على الطريق المستقيم, وإذا كان الأمر كذلك, فليس أمامك سوى الصبر, أى المتابعة والإصرار وتثبيت الأقدام حتى تصل إلى النهاية أو تموت أو تستشهد دونها. أعلم أن الصبر يشمل الصبر على العبادة وعلى الاستقامة الشخصية والخلق الحميد والعمل الصالح عموما، ولكن ليس هذا كافيا بدون الجهاد لإعلاء كلمة الله، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بافتتاح مدرسة للأخلاق الحميدة، ولكنه ربط ذلك بمحاربة الشرك، والظلم والطواغيت، ولقد عُذب الصحابة وعانوا ليسوا لأنهم على الأخلاق الحميدة، ولكن لأنهم حاربوا الطاغوت وسعوا لإقامة الدين، أى إقامة دولة إسلامية. والجهاد كما ذكرنا له ثلاث شعب: الجهاد بالكلمة وبالمال والقتال. والجهاد بالنفس يدخل تحت بندى جهاد الكلمة، وجهاد القتال.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) (الإنسان: 24).

(32)

غزة هى فتنتكم أيها المصريون!

أيها المصريون.. إن غزة هى فتنتكم التى يختبركم بها الله، إن غزة أقرب إلى القاهرة من مكة إلى المدينة، وقد كان أنصار المدينة يعلمون أنهم بمساندتهم مسلمى مكة سيعرضون أنفسهم لمخاطر جمة وتضحيات جسيمة, ومع ذلك لم يترددوا عن نصرة إخوانهم المسلمين, رغم أن الأنصار كانوا حديثى عهد بالإسلام. إن مسلمى غزة على مرمى حجر منكم، وثلثهم على الأقل لكم معهم صهرا ونسبا. والتخلى عن أهل غزة يتضمن مجموعة مركبة من الجرائم:

* قطع الأرحام: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ {22} أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ {23}) (محمد).

* موالاة الأعداء دون المؤمنين: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِى شَيْءٍ ….{28}) (آل عمران).

* حكومتكم تمد إسرائيل بالغاز الرخيص حتى انخفضت أسعار الكهرباء فى إسرائيل بنسبة 20%، بينما أهلكم فى غزة محرمون من الغاز المصرى، وتنقطع عنهم الكهرباء كل يوم 10 ساعات على الأقل، بتعمد من إسرائيل لتعذيبهم.

* التخلى عن الجهاد وهو من ثوابت العقيدة الإسلامية, فحكومتكم تقول إنها ترفض الاعتراف بحماس لأنها لا تزال تؤمن بالمقاومة وترفض الاعتراف بإسرائيل.

* التخلى عن جهاد الفلسطينيين يعنى التخلى عن القدس والمسجد الأقصى.

والقائمة تطول ولكن الأساس الذى يتفرع عنه كل ذلك هو ضرب (الإيمان بالله) فى مقتل، فالإيمان بالله يعنى أن يتوحد ويتكاتف المؤمنون جميعا فى كل واحد: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)، والأمة الإسلامية لا تعرف الحدود. الإيمان بالله نقيض الأنانية. فلا يمكن الهروب من المسئولية عن رفع الحصار عن غزة تحت دعوى تجنب المشكلات مع أعداء الله (أمريكا – إسرائيل)، المؤمن بالله لا يمكن أن يكون هو الشخص الذى يعيش لنفسه حتى ولو مات جاره جوعا (ليس مِنّا مَنْ باتَ شبعاناً وَجاره جائِع وهُو يَعلمْ) حديث. وقال رسول الله أيضا: (‏‏لا يُؤْمِنُ ‏أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ – أوْ قَالَ لجاره – مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) صحيح مسلم.

ثقافة كامب ديفيد حاربت جوهر الإيمان وقتلته فى قلوب كثير من المصريين, لأنها أخذت تضرب على وتر (مصر أولا) وهذا وتر جاهلى لا علاقة للإسلام به، ثقافة كامب ديفيد نشرت فكرة الفرار بالنفس فى الدنيا وترك إخوة الإسلام يُقتلون حولنا، ولكننا حقيقة لم ننجُ, فيموت فى مصر 52 ألف مواطن سنويا بالسرطان، ويتعرض 150 ألف آخرين سنويا للمرض ذاته. وتتصدر مصر دول العالم فى الإصابة بأورام سرطان الكبد, والمصابون بالفيروسات الكبدية لا يقلون حاليا عن 12 مليونا. وهذا النظام الذى تقولون إنه نجاكم بحكمته من الدمار الذى تعرضت له فلسطين والعراق ولبنان، لم يقدم تفسيرا رسميا لحالة الهلاك هذه، بينما يؤكد الخبراء دور إسرائيل الفعال من خلال المبيدات المسرطنة والبذور المهرمنة التى لا تزال تدخل مصر بصورة اعتيادية أو مهربة فى ظل التطبيع الزراعى مع العدو الصهيونى. فهل فررتم حقا بأنفسكم وهل خسارتكم فى الأرواح أقل من غزة ولبنان؟! وهذا عقاب الدنيا الذى لا يغنى عن عقاب الآخرة. من كان سيلوم شهداء تركيا لو قبعوا فى بلادهم الجميلة واستمتعوا بالحياة الدنيا ولم يأتوا على متن سفن أسطول الحرية لفك الحصار عن غزة التى يحاصرها حاكمكم بالتعاون مع إسرائيل. من كان سيلومهم إلا ضمائرهم، بل جاء على القافلة أناس من مختلف الأديان والقوميات واللادينيون، لم يتحملوا من الناحية الإنسانية ما يجرى فى غزة. أما شعب مصر جار غزة فإنه عاجز عن تأديب حكامه والضرب على أيديهم ليكفوا عن وقاحتهم وادعاءاتهم بأن غزة مسئولية الاحتلال، (وإحنا مالنا؟!) أو (الخلاف الفلسطينى – الفلسطينى هو السبب) وهذه رؤية إسرائيل. ولكن ما علاقة تجويع النساء والأطفال والشيوخ بالخلاف الفلسطينى الذى هو بالأساس خلاف حول المقاومة أو الاستسلام؟ وليس خلافا حول مقاعد الحكم كما يقول الهاربون من الجهاد.

لا تخدعوا أنفسكم وترددوا ما يقوله الإعلام المصرى الرسمى. لأنكم تعرفون أسس دينكم، لذلك قال الله عز وجل مخاطبا المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ {27}) (الأنفال), والمقصود هنا خيانة الله ورسوله بموالاة أعداء الحق أو بالقعود عن الجهاد. ليست هذه هى الآية الوحيدة التى تخاطب المؤمنين بهذه القسوة وبهذا التهديد، وتقول (وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أى أن العلة ليست فى الجهل ولكن فى الجبن وإيثار السلامة، كل مسلم يقرأ القرآن أو يسمعه يعلم أن تعليلات النظام وإعلامه فارغة ولا تصمد أمام القرآن والسنة. وحديثى موجه إلى قطاع عريض من المصريين غير المنخرطين فى العمل السياسى وهم لا يحبون السياسة الداخلية للنظام المصرى، ولكنهم يؤيدون سياسته الخارجية، لأنها أراحتنا من وجع القلب مع أمريكا وإسرائيل ولا قبل لنا بهما! وأصبحت هذه “حكمة الدهر” التى عطلت كثيرا من آيات القرآن، وأصبح الله سبحانه وتعالى خارج المعادلة، فهو لن ينصرنا ضد هؤلاء الأعداء، وبالتالى فلن نسمع كلامه!! هذا هو لسان حال أكثر من 50% من المصريين, وهذا هو سبب طول بقاء هذا النظام الموالى لأمريكا وإسرائيل، لسان حالهم أنهم لا يسمعون ولا يلتزمون كلام الله: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ {21}) (الأنفال), فهؤلاء ليسوا مصابين بالصمم ولكنهم يسمعون ولا يلتزمون، ويخرج كلام الله من الأذن الأخرى, والقرآن يوجه هذا الخطاب الحازم إلى المؤمنين، لأنهم يتعرضون للفتن, وقد يضعفون وقد يغويهم الشيطان، ولذلك فإن الإنسان قد ينطق بالشهادتين ويصلى ويصوم ويزكى (ولذلك وصفهم بالمؤمنين) ولكنه معرض لأن يخون الله ورسوله وهو يعلم أنه على خطأ! طمعا فى الحياة الدنيا وفرارا مزعوما وموهوما من الموت!

فلا تطمئنوا, وكونوا على حذر على دينكم, لأنكم تسألون يوم القيامة ماذا قدمتم لغزة المحاصرة. كيف تركتم حاكمكم يتحول إلى كنز استراتيجى لإسرائيل وأنتم صامتون؟!

ونزعم أن إيمان المصريين لن يصح بدون جهادهم لكسر الحصار عن مسلمى غزة.

(33)

هل أصابتك الحمى بسبب حصار غزة؟!

لا يزال حديثى موجها أساسا إلى أهل مصر بحكم القرب والجوار لغزة, وبحكم أنه لا منفذ لأهل غزة إلا عبر مصر، وحصار غزة بدأ عام 2005 أى منذ خمس سنوات، عندما انسحب شارون منها وطلب من نظام مبارك تأمين ظهره، وسلمه محور (فيلا دلفيا) وهو خط الحدود بين غزة ومصر (نحو 12 كيلو مترا).

ثم تصاعد الحصار الإسرائيلى – المصرى عام 2006 بعد فوز حماس فى الانتخابات، ثم تصاعد أكثر بعد إحباط انقلاب عملاء إسرائيل (بقيادة دحلان) عام 2007، ثم تكليف النظام المصرى بخنق شعب غزة اقتصاديا وعسكريا، حتى ترفع المقاومة راية الاستسلام، وتتم إعادة تسليم غزة لعملاء إسرائيل من سلطة عباس.

وقد وقع مائة عالم إسلامى على بيان أو فتوى تقول إن محاصرة مسلمى غزة من نواقض الإسلام، وهم مشكورون, ولكن أين هم من متابعة هذا الموقف؟ ولماذا لم يتجمعوا فى قافلة لدخول غزة والاعتصام أمام معبر رفح حتى يفتح للبضائع والأفراد. كان العلماء والفقهاء فى زمن الازدهار الإسلامى لا يتخذون الفتاوى ويقعدون فى منازلهم، بل يتحركون ويحرضون الشعوب ويضغطون على الحكام للالتزام بالفتوى. ولكن يظل حديثى للمواطن المصرى, فموقف الإسلام واضح لا يحتاج أى اجتهاد، انظروا إلى هذه الآية الرائعة فى وضوحها وبساطتها وصرامتها: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) (الحشر: 7) الموضوع بهذه البساطة واليسر والوضوح، فمن منكم لم يقرأ هذه الأحاديث النبوية:

(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) – (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) – (مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) – (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) – (المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه، اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله).

فهذا اختبار لصحة إيمانك وقوته، هل تنام قرير العين منذ 3 سنوات وأنت تعلم أن إخوانك فى غزة يواجهون يوميا مشكلة فى شربة ماء أو رغيف خبز، أو دواء أو علاج، وقد أصاب أطفال غزة أمراض سوء التغذية. وأن سكان 60 ألف منزل يعيشون فى العراء منذ 16 شهرا عندما دمر العدوان الصهيونى منازلهم، وحكومة مصر “الدولة الإسلامية” تمنع عنهم مواد البناء امتثالا لأوامر إسرائيل، بل تمنع عنهم مواد الغذاء، حتى نبش الغزاويون الأرض لإدخال الغذاء عبر الأنفاق، واستشهد منهم العشرات بسبب الهدم الإسرائيلى والمصرى لهذه الأنفاق، بل شمرت حكومتنا عن سواعد الجد لبناء جدار فولاذى تحت الأرض لإحكام تجويع أهل غزة، تحت إشراف أمريكى وبتمويل أمريكى. وإذا لم تكن تصيبك نوبات من السهر والحمى بسبب معاناة أهل غزة فتشكك فى إيمانك أو تأكد من نقصان إيمانك أو ضعفه. إن أسطول الحرية ضم من اليهود أكثر من المصريين، ضم أكثر من 650 ناشطا من 35 دولة ولم يكن بينهم إلا اثنان من المصريين!! من المفترض – رغم كل مشكلاتنا الداخلية التى نعانيها – أن نعلن حالة الطوارئ الشعبية وإعلان الانتفاضة على هذه الحكومة حتى تفتح معبر رفح للبضائع والأفراد بدون شروط إلا الشروط التى تطبق فى باقى المعابر المصرية مع ليبيا والسودان والأردن (وإسرائيل مع الأسف). نحن نتعبد بالقرآن الكريم، ولكن حكامنا يقولون إن اتفاقية المعابر التى وقعت عام 2005 أكثر قدسية من القرآن. وهذه الاتفاقية وقعتها سلطة عباس مع إسرائيل والاتحاد الأوروبى, لفتح معبر رفح للأفراد, وأن لا تدخل مصر أى بضائع لغزة إلا عبر معابر إسرائيل (العوجة – كرم أبو سالم)، ورغم أن مصر لم توقع على هذه الاتفاقية، ورغم أن الاتحاد الأوروبى انسحب من الاتفاقية، ورغم أن الاتفاقية سقطت لأنها لم تجدد وهى تجدد كل عام. إلا أن حكامنا يعتصمون بها لستر عورتهم، يسترون عورتهم بورقة توت لم تعد موجودة أصلا؛ ويلتزمون بها رغم أن الموقعين عليها لا يلتزمون بها، فإسرائيل لم تلتزم بفتح معبر بين غزة والضفة الغربية، ولكن حكومة مصر تلتزم بنص الاتفاقية المتعلق بها، رغم أنها لم توقع عليها، ورغم أنها أصبحت ملغاة منذ 3 سنوات، ولا قيمة لها بمعايير القانون الدولى. ولكن حتى وإن كانت موجودة ومصر موقعة عليها فإنها ساقطة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية, فلا قيمة لأى عقد أو اتفاق يخرق مبادئ أساسية فى الشريعة فإذا كانت الاتفاقية تضمن تحكم إسرائيل فيما يدخل ولا يدخل للقطاع رغم أنها انسحبت منه, فإنها لا تساوى الحبر الذى كتبت به لأن قرآننا يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا), وقد كانت أول غزوة للرسول صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة بسبب أنهم كشفوا عورة امرأة مسلمة واحدة, وهى الحادثة التى أدت إلى مقتل مسلم واحد بعد أن قتل اليهودى الذى كشف عورة المسلمة. أما الآن فـ 1500 شهيد و5 آلاف مصاب ومعاق, فى عدوان 2008 /2009 لم تدفع نظامنا إلا لتحميل حماس المسئولية!! ثم مواصلة تشديد الحصار, ثم مكافأة إسرائيل بالمزيد من الغاز الرخيص، بعد إقامة سوق مشتركة مع إسرائيل اسمها (الكويز) بدلا من إقامة سوق مشتركة مع العرب والمسلمين! إن حكام مصر يعلنون الحرب على الله ورسوله (وليس على أهل غزة) ويستهزئون بثوابت العقيدة ونصوص القرآن والسنة, بل يتبجحون بالقول (لابد أن ننأى بالدين عن السياسة)، وإذا لم يكن بإمكاننا الخلاص منهم بصورة فورية، فالواجب أن نهب فى وجوههم لإنهاء دور مصر فى سحل مسلمى غزة، وإذا نجحنا فى ذلك فإن الطريق سيكون مفتوحا لخير كبير، فسنتعلم أن بإمكاننا أن نرفع الحصار عن شعب مصر أيضا.

(34)

تجربة مع الموت

أحمد الله سبحانه وتعالى أن بدأت فى التعافى من تجربة فريدة مع الموت استمرت قرابة ثلاث ليال. فإذا كنت قد قرأت الرسالة رقم 1 فقد كانت تصف الصومعة التى أعيش فيها, وهى علبة أسمنتية لا يوجد فيها نوافذ إلا فتحات تهوية صغيرة، وهى مع ذلك محتملة، وتعايشت معها, ورغم أن مسكنى على النيل مباشرة، ورغم أننى أعشق النيل، إلا أننى نادرا ما أنظر إليه، فما دمت فى البيت فأنا عادة منكب على كتبى أو أوراقى أو الكمبيوتر أو القنوات الإخبارية, وأنسى أن أمتع نظرى بجريان النيل, والاطمئنان على أنه لا يزال يسرى!! وبالتالى لا فرق كبير بين معظم وقتى فى منزلى، وهذه الصومعة الأسمنتية. ولكن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن الأوكسجين! وفى موجة الحر الخانقة الأخيرة، تفاعل ارتفاع فى ضغط الدم مع شدة الحرارة والرطوبة، والنقص الحاد فى الأوكسجين، على مدار 16 ساعة كل يوم، وهى فترة إغلاق الباب الذى هو المصدر الأساسى للأوكسجين فى النهار، فدخلت فى حالة أقرب ما تكون إلى الغيبوبة المستمرة، حتى امتدت آثارها إلى فترات النهار، فتوقفت تقريبا عن تناول الطعام، والشراب عدا المياه، وفقدت قدرتى على التفكير أو التركيز فى أى شىء, حتى الصلاة أصبحت جلوسا, ثم رقودا, وأيضا بدون تركيز، توقفت عن قراءة القرآن, وأية قراءة, ودخلت فى حالة من النوم المتقطع والمتواصل، الذى هو أقرب إلى الإغماء منه إلى النوم، أستيقظ لتناول جرعة مياه والسقوط مرة أخرى، الرؤى أضغاث أحلام بمعنى الكلمة. الشىء الوحيد الذى استطعت تذكره هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: خذ من شبابك لهرمك، ومن صحتك لمرضك.. إلى آخر الحديث.

والمعنى العميق لهذا الحديث أن الشباب يجب أن يستغل قوته وطاقته فى العبادة وعمل الخير، لأنه فى مرحلة الشيخوخة لن يستطيع أن يفعل بالقوة نفسها, حتى وإن رغب، لأن جسده لن يساعده، وحالة الجسد تؤثر فى التركيز العقلى.

كذلك فإن من يتمتع بالصحة يجب ألا يدخر وسعا فى إنفاق هذه الصحة فى سبيل الله, عبادة وجهادا وعملا للخير، لأنه عندما يمرض لن يستطيع حتى وإن رغب. إذن فالذى يبدد شبابه وصحته فى غير سبيل الله سيندم فى أخريات حياته أو عند المرض (المؤقت أو الطويل) لأنه سيكون كالغنى الذى بدد ثروته، وعندما احتاجها لتستره فى فقره، لم يجدها.

فكل ما أنفقت من شبابك وصحتك فى سبيل الله فسيظل مدخرا عند الله، وسيشفع لك فى لحظات الشيخوخة والمرض فى الحياة قبل أن يشفع لك فى حساب الآخرة.

فستأتى عليك لحظات (كتلك التى مررت بها فى هذه الأزمة والأزمات الصحية السابقة) لا تتمنى إلا أن تناجى الله عز وجل، ولكنك لن تقوى حتى على ذلك!! لن يقوى لسانك على المناجاة، ولن يقوى فمك على النطق, وستعجز حتى عن الإمساك بالمصحف لتقرأ، أو تقرأ ما تحفظ، وعندما تفتح محطة القرآن الكريم فإنك لن تتفاعل كالعادة مع آيات الله، وربما تستريح نفسيا لسماع كلام الله، ولكنك ستظل تسقط فى الغيبوبة أو (النوم) بينما محطة القرآن مفتوحة! ولكن ستظل عين الله تحرسك ببركة العبادة وأعمال الخير التى أنفقتها من صحتك وشبابك، فهذه ستكون بمنزلة المال المدخر الذى ينفع فى ساعة العسر!

فى تجربة الموت هذه لم أقو إلا أن أقول (يا رب) (يا رب) فحسب، وهو يعلم كل شىء، ويعلم ما تريد، وهو أرحم الراحمين، بل هو اللطيف الخبير حتى مع عباده العصاة، حتى مع الذين صدوا عن سبيله، لعلهم يرجعون! الله اللطيف يشفى البر والفاجر، التقى والعاصى، المؤمن والكافر، حتى يظل باب التوبة مفتوحا، ويظل أمامك خط الرجعة، فهل أنتم منتهون؟! ولا شك أن رحمة الله أشد على عباده المؤمنين، فيجعلهم صابرين على البلاء محتسبين، ويفتح لهم طاقات نوره حتى لا يجزعوا فى مرضهم, ولا يقنطوا من رحمة الله. ورغم كل ما مررت به فلم أكن جزعا، رغم أننى إذا أصابنى مكروه أشد فلن يسمعنى أحد، وسأموت فى صمت هذه العلبة الأسمنتية، ولكننى لم أنزعج من هذا الاحتمال، ولكننى سألت الله أن يخفف عنى سكرات الموت، وألا يؤخر عنى ملك الموت عندما يأتى موعده، فأراه وأطمئن به، وأن أمتلك القدرة على النطق بالشهادتين حتى وإن كانت بالنية دون القدرة على تحريك الشفاه.

والدليل أننى كنت فى حالة أشبه بالاحتضار، أننى لم أبدأ فى التحسن إلا بعد جلسة من تنفس الأوكسجين بالمستشفى ومحلول جلوكوز ربما تعاملت معه لأول مرة فى حياتى!! ولا أكتب هذه الكلمات أو أمليها لأثير أى قلق عنى فأنا بخير والحمد لله، ولكننى أكتب حمدا لله، وشكرا على نعمته، أن أطال فى عمرى ومدنى بالصحة كى أنفقهما أو ما تبقى منهما فى سبيله. وأن نتعظ من أن الموت أقرب إلينا مما نظن، وكى أوصى الشباب بإنفاق صحتهم فى الجهاد والعبادة، فقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة بهذا الدعاء أن يقوله عقب كل صلاة: (اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

(35)

لا تسبوا الحيوانات.. فأين نحن من شريعة الغاب؟!

من الأخطاء الشائعة جدا أن بعض المثقفين عندما يريدون أن يفحموا الحكومة أو يعارضوها بشدة فى تصرفاتها الهمجية، خاصة فى مجال الحريات أن يهتفوا قائلين: “هذه هى شريعة الغاب”!! وهذه إهانة كبرى للحيوانات ولشريعة غابتهم، فأين نحن من شريعة الغاب؟! إن الإنسان عندما ينحرف يكون أسوأ من الحيوانات بكثير. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى فى محكم كتابه: (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا) وقد كتبت دراسة حول هذا المعنى, ذكرت فيها أن بعض حيوانات الغابة تتغذى من لحوم حيوانات أضعف منها، وهذا ما يفعله الإنسان بدون استنكار حين يأكل الأنعام. ولكن كل نوع من الحيوانات لا يأكل من نوعه نفسه، ولا يعتدى عليه، ولا يؤذيه ولا يحاربه ولا يعذبه كقاعدة عامة، وأضيف فى هذه الرسالة: إن كثيرا من علماء الطبيعة يؤكدون أن الأسود لا تقاتل بعضها بعضا، كما لا تهاجم الحيَّات بنات جنسها, وكذلك القردة فى أعماق الغابة لا تصب جام غضبها على بعضها. غير أن معظم المصائب التى تحل بالإنسان يتسبب فيها إخوته من الإنسانية (بلينى الأكبر). الإنسان هو الحيوان الوحيد الذى يسبب أذى لرفيقه (لودو فيكو أريوستو). الحيوانات المتوحشة لا تقتل أبدا من أجل اللعب أو التسلية. فالإنسان هو الوحيد الذى يعتبر غيره من المخلوقات وموتها مصدر تسلية فى حد ذاته (جيمس فرود). إن الإنسان هو ببساطة أكثر الحيوانات المفترسة رعبا، بل إنه بحق الحيوان الوحيد الذى يفترس أبناء نوعه بشكل منتظم (بلن وليامز). ومثل هذه الأقوال لم تطلق على عواهنها, ولكن بعد دراسات ميدانية طويلة للحياة فى الغابات. وقد ثبت حدوث بعض المشاحنات والمعارك بين أبناء النوع نفسه فى صراع جماعى حول الأرض، ولكن هذه المشاحنات والمعارك ليست متواترة وليست هى الأسلوب الأساسى لحل المشكلات داخل الجماعة، وإذا حدثت فإنها لا تؤدى عادة إلى قتلى أو جرحى مصابين بجروح بليغة مثل المعركة التى نشبت بين مجموعة من حيوان النمس ضد مجموعة أخرى فى صراع حول الأرض، وقد تخللت المعركة عدة هدنات, وانتهت المعركة دون قتيل واحد من الطرفين!! وهذا ما لا نعرفه فى حروب البشر أو صراعاتهم حول قطعة أرض, ولم يتمكن العلماء من إثبات أن الضوارى تقوم بتعذيب فريستها وتبتهج بمعاناتها, كذلك لم توجد أدلة ذات أهمية تؤكد أن القطط تمارس القسوة مع غيرها من القطط، ولا الثعالب مع الثعالب ولا الضباع مع الضباع.

* لو تصرف الشهيد خالد سعيد كما يتصرف صغار وحيد القرن (الخرتيت) لربما تم إنقاذ حياة خالد. فقد اكتشف أحد الباحثين أن صغير وحيد القرن عندما يتعرض للخطر، يصرخ صراخا عاليا تكون نتيجته ليس اندفاع أمه فقط نحو نجدته بل اجتذاب كل حيوانات وحيد القرن على مدى السمع لنجدته.

لماذا لا نتدرب على صرخة معينة يطلقها الذى يتعرض لهجوم من الشرطة كى يتحرك أهل الحى كلهم وفورا لإنقاذه؟ كيف يموت الإنسان بالضرب أمام عشرات الشهود, ولماذا لم يصرخ أحد الشهود لتجميع الناس فورا. فالمعادلة لها طرفان: صرخة الصغير واستجابة كل الخراتيت فورا!!

ولنلحظ أن هذا الصغير كان يتعرض لخطر من حيوان من نوع آخر، فلا يمكن لأهل الخراتيت أن يقتل بعضهم بعضا ولا أن يعتدوا على صغارهم.

* فى الدراسة السابقة أشرت إلى أبحاث علمية تؤكد أن الحمار والثور والإنسان هى الحيوانات الأشهر فى عالم اغتصاب النساء!! وأن الأغلبية الساحقة من الحيوانات والحشرات لا تعرف هذه الجريمة، وأن العلاقات لا تقوم إلا بالتراضى (الزواج) ولكنى قرأت مؤخرا عن اكتشاف وقوع هذه الجريمة بشكل محدود فى نطاق الدرافيل، ولكن الباحث يقول إن هذه الحالات المحدودة لا تقارن بإحصاءات عن تعرض نصف نساء إحدى المدن الأمريكية للاغتصاب أو محاولة اغتصاب. كما أن طفلة من كل ثلاث فى عموم الولايات المتحدة تتعرض لسوء المعاملة الجنسية!

* وفى المقابل فإن الإخلاص فى الزواج حتى الموت ليس غريبا فى عالم الحيوان. فهذا معروف بين الأفيال، ويحرص الذكر على حماية أنثاه من اقتراب أى ذكر غريب، وفى هذا المناخ فإن البنات (إناث الأفيال الصغيرة) تسعى للزواج المبكر!! كذلك لاحظ أحد الباحثين أن أنثى وحيد القرن (الخرتيت) تظل وفية له حتى عندما يكون بعيدا عنها. وتضرب بعض الطيور أمثلة شهيرة على الوفاء. فالأوز والبجع والبط الصينى كلها رموز للإخلاص للحياة الزوجية، ويؤكد علماء الأحياء الميدانيون أن هذه حقيقة دقيقة ومؤكدة. وفى السيرك تزوج جوادان، وعاشا فى إسطبل واحد, ويوما ما توفى الزوج فأخذت الزوجة “تصهل باستمرار” وتوقفت عن الأكل والنوم، وحاول أصحاب السيرك تزويجها من حصان آخر فرفضت، عرضوها على الأطباء فلم يجدوها مصابة بأى مرض عضوى وأخذت الزوجة تزوى على مدار شهرين حتى ماتت.

ولتحسين صورة الدرافيل لابد من الإشارة لذكر الدرفيل الذى حزن على وفاة زوجته, فامتنع عن الأكل 3 أيام حتى مات. وهذه حالات متكررة لمختلف الأنواع, والتى تحدث فى حالات الأسر ويمكن ملاحظتها بسهولة. كذلك بعض الحيوانات تمارس نظام تعدد الزوجات ولكن فى إطار من الإخلاص المتبادل بين الزوج وزوجاته، وعدم ممارسة أية علاقة خارج مؤسسة الزواج!!

*****

صدق الله العظيم إذ يقول: (وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً) عندما تقرأ وتتعمق فى عالم الحيوان تكتشف أن وصم الإنسان السيئ أو المنحرف بأنه “حيوان” أو “كلب” ليس سبة، بل قد يكون مديحا له، فأين هو من وفاء الكلاب؟ وأين هو من الحيوان الذى يرعى حقوق أخيه الحيوان؟

بقيت بعض القصص من عالم الأفيال فى الرسالة القادمة إن شاء الله.

(36)

قيم وممارسات الحيوان التى لا يرقى إليها بعض البشر!

استكمالا للرسالة السابقة نقول إن عالم الغابة الذى نظلمه ملىء بقيم وممارسات لا يرقى إليها بعض البشر, وأحيانا كثير من البشر، فالتواضع مطلوب عند الحديث عن عالم الحيوان, وأنه لنا فيه لعبرة يتعين أن نتعلم منها, كما علم الغراب ابن آدم كيف يوارى جثة أخيه؟

* تحدثنا عن القتال الذى ينشأ بين الحيوان من النوع نفسه, وكيف أنه ليس هو القاعدة, وإذا حدث يكون أقرب إلى التحرش بدون إصابات خطيرة أو قتل على طريقة مشاجرات المصريين التى تنتهى عادة بمجرد الشتائم المتبادلة!! بل إن القتال قد يتوقف إذا أبدى الطرف الآخر استسلاما. وتظهر عند كثير من الحيوانات مواقف الاستسلام التى تكبح جماح المهاجم من النوع نفسه. فالذئب يتدحرج على ظهره، أو ينظر القرد بعيدا، فيتوقف المهاجم مكتفيا بالنصر المعنوى!

* ومن أهم الظواهر المتواترة، حالة التكاتف الجماعى التى تحدث داخل جماعة محددة لصد العدوان الخارجى، فالحيوان لا يترك أخاه الحيوان عرضة للعدوان ويعدو بعيدا عن مكمن الخطر، بل يتكاتف الجميع لحماية الفرد المهدد من نوع آخر حتى إنقاذه. فالحمير الوحشية المخططة تدافع بكل قوة عن الصغار والكبار من جماعتها على حد سواء ضد الضوارى. هاجمت مرة الكلاب البرية مجموعة من الحمير المخططة, وتمكنت من حصار 3 من الحمير, وبدأت فى الاعتداء على أصغرهم, وظنت أن المعركة قد انتهت، ولكن فجأة اهتزت الأرض من تحتهم وظهر نحو عشرة حمير، وهى تصدر أصواتا كالرعد متجهة نحو موقع الحدث، وفكت الحصار عن الحمير الثلاثة, وأدخلتها فى صفوفها ثم انطلقت بعيدا، واضطرت الكلاب البرية إلى الانسحاب!

* والتكاتف والتراحم الاجتماعى يظهر فى مواقف أخرى، إذ لوحظ أن قطعان الأفيال الإفريقية تسافر دائما ببطء, لأن واحدا من أعضائه لم يشف تماما من كسر فى ساقه. وفى قطيع آخر لوحظ أن إحدى الإناث تحمل طفلا كان قد مات منذ عدة أيام, وكانت تضعه على الأرض إذا ما أكلت أو شربت، فكانت تسافر ببطء شديد, وكانت بقية الأفيال تنتظرها! ربما كانت الأم تأمل فى عودة ابنها إلى الحياة, وربما تسعى لدفنه فى مكان ما (فهناك مقابر للأفيال) ولكن المهم هو التزام الجماعة بهذه المشكلة, وعدم ترك هذه الثكلى وحدها!! وحيوانات النمس فعلت الشىء نفسه مع أنثى مصابة, فظلت تحيطها بالرعاية, وتوفر لها الطعام, وتقوم بتنظيفها حتى لاقت حتفها، توقفت الجماعة عن الحركة، ولم تواصل المسير إلا بعد أن تحللت جثتها. كذلك شوهدت الأفيال الذكور تحمل الطعام (أفرع أشجار طازجة) إلى فيل ضخم طاعن فى السن وهو راقد على الأرض فى حال لا تسمح له بالبحث عن طعامه بنفسه. وفى عالم الدرافيل والحيتان غالبا ما تقوم الجماعة بمساندة أى عضو مصاب, وتحمله إلى السطح إذا ما واجه متاعب فى التنفس. وهذا ما تفعله القابلات (الدايات) من الدرافيل لإحدى الإناث وهى تضع مولودا! وقد عرف عن الحيوانات أنها تخاطر بنفسها من أجل حيوانات من النوع نفسه, وإن كانت لا تربطها بها صلة قرابة, وهذا ما تفعله الدرافيل والحيتان عندما يصاب أحد أفرادها من سفن الصيد, فتفعل المستحيل لإنقاذه وتمزق الشباك التى تحيط بها، وتنجح أحيانا فى إنقاذ الجريح الأسير.

فى عالم الإنسان يعتدى الإنسان على الإنسان بينما يقف المجموع يتفرج.

عبود الزمر يحتضر فى سجنه رغم انتهاء محكوميته، وكذلك طارق الزمر انتهى الحكم الصادر ضده، وهناك معتقلون من 7 أو 8 سنوات وأكثر، وخيرت الشاطر وإخوانه مختطفون بغير حق، ولكننا تركناهم فى شباك الصياد اللئيم, ومضينا بضمير مستريح فى الحياة، فأين نحن من الدرافيل والحيتان والحمار الوحشى!!

قصة ما حدث فى حالة شهيد الإسكندرية (خالد سعيد). أننا بدأنا نرتفع إلى مستوى الدرافيل والحيتان، ولكن من المهم أن تكون هذه ممارسة دائمة مع كل الحالات المستجدة، وقد دعوت منذ عدة سنوات لإنشاء لجنة طوارئ شعبية للتصدى الجماعى لأى انتهاك لحقوق الإنسان.

* السجن اختراع بشرى يستخدم فى الشر أكثر من استخدامه فى الخير، فالصغير يحبس دون الكبير عادة، وأنصار الحق يحبسون, والمجرمون مطلوقون فى طول البلاد وعرضها وعلى دست الحكم. وعالم الحيوان لا يعرف هذه الممارسة العجيبة, فلا يحبس حيوان حيوانا. وقد اخترع الإنسان السجون للإنسان والحيوان. والحيوان فى الأقفاص بحدائق الحيوان لا يفهم هذه الممارسة المجنونة حتى وإن وفرت له الطعام والماء والزواج. فالحيوان أسمى من هذه الغرائز، وهو يحب الحرية أكثر من الأكل والتناسل.

بينما الإنسان يجبن ويقول: نمشى جنب الحائط ولا نقول الحق, ونأكل ونشرب ونتناسل, وهذا هو السجن الحقيقى, لأنه يسجن أثمن ما فى الإنسان, وهو حرية الاختيار. ورغم أن الحيوان لا ينقصه شىء فى حديقة الحيوان, بل لعله يأكل أفخر الطعام، ولكنه ينتهز كل فرصة ممكنة للهرب. والحيوان فى الأسر يصاب بأشياء عجيبة، فمعظمهم يتوقف عن التناسل. وبعض الحيوانات الأسيرة تموت حزنا، وبعضها يمتنع عن الطعام حتى الموت (إضراب) وفى حديقة حيوان بهامبورج ماتت غوريلا صغيرة بأزمة قلبية, لأنها لم تتحمل الانتقال من الغابة إلى القفص. وترتفع نسبة الموت فى الكائنات البحرية وهى أسيرة فى أحواض حدائق الأسماك. والحوت يعيش فى البحر بمتوسط عمر الإنسان، ولكنه فى الأحواض مهما اتسعت فلا يزيد متوسط عمره عن 11 سنة. ومن النادر أن يلد الحوت فى الأسر. وفى جزر هاواى لاحظوا أن كلاب (عجل) البحر تذوى حتى الموت إذا وضعت فى أحواض بحدائق الحيوان حيث تمتنع عن الأكل.

وأنا لا أقارن بين سجون البشر وحدائق الحيوان, رغم أنه يوجد أوجه شبه عديدة, وهذا موضوع يطول شرحه، وكتبت فيه من قبل، ورفضت التوسع فى عقوبة السجن الطويل أو المؤبد لأنه عقوبة غير إنسانية. ولكن ما يعنينى الآن أن السجن الحقيقى للإنسان هو أن يمنع من الاختيار أو يمنع هو نفسه من الاختيار تحت وقع الخوف من البطش، والاكتفاء بالأكل والشرب والتناسل. بينما يرفض الحيوان الأكل والشرب والتناسل إذا فقد حريته المحدودة أى حقه فى التنقل واختيار الغذاء بنفسه واختيار رفيق حياته بنفسه واختيار مسكنه. التمرد على الطغيان يعيد الإنسان إلى حقيقته، وإلى الأمانة التى حملها (الاختيار)، وهذا هو جوهر الإيمان بالله، عندما نصدق بالعمل ما نقوله بألسنتنا: (إننا لا نركع إلا لله).

* مصدر المعلومات: حين تبقى الأفيال. جيفرى ماو ساييف ماسون. وسوزان مكارثى.

(37)

الكذب.. الجريمة التى لا ندرك خطرها!

الكذب هو الجريمة التى استخفينا بها, فكان ذلك وبالا علينا على مستوى الأفراد ومستوى المجتمع.

“أنت بتكذب؟! حتروح النار” كلمة أصبح يقولها بعض الأطفال ونضحك عند سماعها، والأولى أن يقولها الكبار لا بعض الأطفال ولا نضحك! فى بعض دراساتى استخدمت منهج تحليل المضمون فى التعامل مع القرآن الكريم، وهو منهج حديث يعتمد على بحث الوزن النسبى لموضوع ما فى وسائل الإعلام أو الكتب، أو أى نص. وله جانبه الإحصائى, أى كم مرة وردت كلمة محددة أو موضوع محدد فى إجمالى النص، وما هى دلالة ذلك؟

واكتشفت بشكل عرضى خلال دراستى (العصيان المدنى.. رؤية إسلامية) حول الجرائم وألفاظ القدح والذم التى وردت فى القرآن الكريم، أن الكذب هو الجريمة الثالثة فى القرآن الكريم (بعد الكفر أولا ثم الظلم ثانيا) وأن عدد مرات ورود هذه الجرائم الثلاثة عالية جدا، وبعدها تأتى بمسافة كبيرة باقى الجرائم. وأن عدد مرات ورود الكذب قريب جدا من الجريمة الثانية: الظلم, ويمكن الرجوع إلى الإحصاء فى الدراسة المذكورة. وأعترف أننى لم أكن أدرك خطورة هذه الجريمة بهذا الوزن، وقد كنت أرجعها عند بعض الناس – لحسن ظنى أو سذاجتى – إلى ضعف ذاكرتهم!! وأحيانا كنت أفسرها بضعف الشخصية والجبن، وهذا التقدير الأخير قد يكون صحيحا لتفسير بعض الأكاذيب التى يتورط فيها بعض الناس, ولكن التفسير لا يبرر الجريمة! فمرتكب جريمة الزنا قد يكون شابا يعانى من الكبت الجنسى, ولكن ذلك لا يبرر الجريمة. وفى حياتنا كثيرا ما نقول (إن فلان إنسان جيد ولكن فيه عيبا واحدا أنه يكذب)! دون أن ندرك أن هذا العيب يدمر تقديره العام, ويجعله “ضعيف جدا” كما نقول فى التقديرات الدراسية بالجامعة.

وقد كان والدى (أحمد حسين) يقول لنا إن الكذب هو علة العلل, وهو معيار التفرقة بين الإنسان المستقيم والإنسان المنحرف. فإذا قرر الإنسان ألا يكذب فهذا يعنى أنه لن يتورط فى أخطاء أو انحرافات، لأن الإنسان يكذب لإخفاء أخطائه أو انحرافاته أو أطماعه أو سوء طويته أو غيرته أو حسده. والإنسان المستقيم لا يكذب, لأنه ليس لديه ما يخشاه أو ما يريد إخفاءه، فالإثم هو ما حاك فى الصدر وخشيت أن يعرفه الناس, كما ورد فى أحد الأحاديث النبوية. والإنسان الذى قرر ألا يكذب والتزم ذلك هو الإنسان الذى اختار بحزم طريق الاستقامة. والإيمان والصدق متلازمان, حتى لقد وصف القرآن الكريم المؤمنين بالصادقين عشرات المرات. (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 3). ومن الأحاديث الصحيحة (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان) ويضاف فى روايات أخرى (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) (صحيح مسلم).

والمنافق فى المصطلح الإسلامى هو الذى يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وليس بالمعنى العامى السائد حاليا أنه الإنسان الذى ينافق آخر بوصفه بما ليس فيه من فضائل حتى يحصل منه على مصلحة ما! وإن كان هذا المعنى متضمنا فى المعنى الإسلامى, ولكنه ليس الأساس. ولا يفهم من ذلك أن الكذاب كافر بالمعنى البسيط، لأن كل مؤمن معرض للكذب ولو بنسبة ضئيلة (عدا أولى العزم وأولياء الله الصالحين والصديقين)، ولكن محترف الكذب لا يمكن أن يكون مؤمنا، لأن محترف الكذب يعنى أنه محترف انحرافات أو جرائم يحاول إخفاءها بالكذب, وهذه لا يمكن أن تكون حياة المؤمن. فالإيمان كما الكفر درجات، وعلى مسطرة الإيمان توجد مسطرة موازية اسمها الصدق, وكلما زاد الإيمان زاد الصدق والعكس وبالعكس, فالكفر قرين الكذب بدرجات متصاعدة, وبالتالى كلما كذب المرء، والكذب مرفوض فى حد ذاته لأنه يؤدى إلى خلل فى العلاقات السوية بين الناس، ويوقع بينهم، وكذلك لأنه يخفى جريمة ما أو انحراف ما، نقول كلما كذب المرء ضعف إيمانه على المسطرة, حتى يصل الإيمان إلى نقطة الصفر. ولنلحظ فى حديث رسول الله أن مواقف المنافق كلها كذب إما فى الحديث (إذا حدث كذب) أو فى الممارسة (إذا أؤتمن خان) فهذا نوع آخر من الكذب، (وإذا وعد أخلف) فهذه صورة ثالثة للكذب. ومن الكبائر فى القرآن والسنة (قول الزور) وهذا هو الكذب فى موضع الشهادة. فمن صفات المؤمنين فى القرآن (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) وفى الحديث أيضا: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور) وأيضا الغش نوع من الكذب فقال رسول الله (من غشنا فليس منا)، ومن حلف كذبا ليقتطع حق مسلم فهو فى النار, فيقول صلى الله عليه وسلم (من اقتطع حق امرئ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيبا من أراك (السواك)!

ولخطر مسألة الصدق والكذب. فقد أجاز الإسلام الكذب فى ثلاثة مواضع على وجه الحصر والتحديد:

  1. الحرب.
  2. الإصلاح بين الناس.
  3. الحديث بين الزوجين.

والمقصود بالإصلاح بين الناس أن يقوم المصلح بإضافات من عنده تعرب عن تقدير كل طرف للآخر, بقصد تليين القلوب وإنهاء الخصام. والحديث بين الزوجين المقصود به أن بعض المبالغة فى الإعراب عن مشاعر الحب يقوى العلاقات بين الزوجين، شريطة ألا يكون بسوء نية أو لإخفاء أمر مريب. فحديث الزوج مع زوجته أو العكس ليس من قبيل البيانات السياسية التى يجب أن تصاغ بدقة!! ولنا فى كلام الشعراء فى الغزل أوضح مثال, فهو لا يعكس الموضوعية بالتأكيد, ولكن المحبين يحبونه ويحبون سماعه! (وسنتحدث عن الحرب والسياسة والكذب فى رسالة قادمة). وفى حديث لرسول الله (يظل المرء يكذب حتى يكتب عند الله كذابا) وتتدرج خطورة الكذب وجريمته عند الله وعند الناس، بقدر آثاره الخطيرة، فهذا كذب يوقع بين الناس ويدمر العائلات، وهذا كذب يؤدى إلى الإضرار بزميل فى العمل، وهذه شهادة زور قد تؤدى إلى سجن إنسان برىء أو إعدامه!

خلاصة هذه الرسالة هو تحذير المؤمن من الكذب, وأيضا تحذيره من الكاذبين، فلا تصادق كاذبا ولا تصاحبه, ولا تعمل معه فى الأعمال الحرة، وتجنبه إذا كان مفروضا عليك فى العمل. ولا توهم نفسك أن فيه صفات أخرى يمكن أن تخفف من هذا العيب، لأن الله سبحانه وتعالى وضعه فى كبائر العيوب كما بدأنا الحديث – بعد الكفر وبعد الظلم.

(38)

الكذب “جريمة كبرى فى السياسة والأمور العامة”

فى الرسالة الماضية تحدثنا عن الكذب وخطورته على المستوى الشخصى والاجتماعى، واليوم نتحدث عن الكذب فى السياسة والأمور العامة, لندرك أكثر لم جاء الكذب كجريمة ثالثة من حيث الخطورة فى القرآن. قلنا إن الإسلام أباح الكذب فى ثلاثة مواضع: الصلح بين الناس، والحديث بين الزوجين، والحرب. وتستند إباحة الكذب فى الحرب على حديث (الحرب خدعة)، ولكن كثيرا ما يساء فهم ذلك، فالخداع فى الحرب فى الأمور الفنية والعسكرية، كإرسال العيون (الجواسيس). وإحداث الوقيعة بين الحلف المعادى، إخفاء موعد الهجوم، وإخفاء كل الأسرار العسكرية الممكن إخفاؤها، عدم إفشاء الأسرار فى حالة الوقوع فى يد العدو.. إلخ.

ولكن أخلاق الإسلام فى السياسة والحرب لا تدانيها أى أخلاق أخرى، وستجد أن كل ما هو عادل ومنصف فى القانون الدولى المعاصر له أصل فى الإسلام. والأخلاق الرفيعة لا تظهر إلا مع الأعداء، وبالتالى فإن الوفاء بالعهود مقدس، ومتصل بالإيمان بالله وبتقوى الله, حتى مع المشركين الأعداء المحاربين، وقد وردت فى سورة التوبة آيتان متواليتان حول الوفاء بالعهد مع المشركين ووصفتا ذلك بتقوى الله (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (4) (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (7).

وفى حالة الشعور بعدم التزام العدو بالاتفاق، فلابد من إبلاغه صراحة بنقض العهد قبل شن الحرب عليه: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58).

وتمثل واقعة فتح مكة نموذجا حيا لهذه التفرقة بين إعلان العدو بنقض العهد، وبين موعد الحرب. فعقب صلح الحديبية خرق مشركو قريش الاتفاق, واعتدوا على حلفاء رسول الله فاتجهوا إلى الرسول الذى وعدهم بالرد والانتقام وإسقاط الالتزام بصلح الحديبية, وهرول أبو سفيان زعيم المشركين إلى المدينة لتصفية الأجواء وتثبيت صلح الحديبية، ولكن رسول الله رفض مجرد الحديث معه, فكان فى ذلك إعلان صريح عن سقوط الالتزام بصلح الحديبية, ولكن رسول الله سعى لإخفاء موعد فتح مكة, حتى على أقرب الصحابة الذين لم يعرفوا وجهة الجيش إلا بعد التحرك، وكان عنصر المفاجأة مهم جدا فى دخول مكة بدون إراقة دماء, وهذا ما حدث بالفعل باستثناء حادث وحيد.

ومن القصص الطريفة فى مسألة الالتزام بالعهد مع الأعداء، أن حذيفة بن اليمان لم يشارك فى غزوة بدر بسبب هذا المبدأ، فقد تصادف أن المشركين أسروه هو ووالده قبل الحرب، واشترطوا عليهما لإطلاق سراحهما عدم المشاركة فى القتال، وروى حذيفة لرسول الله هذه الواقعة، فرأى عليه الصلاة والسلام الاستعانة بالله، والالتزام بهذا العهد، رغم أنه عهد من أفراد غير مسئولين، ورغم أنه عهد تم تحت الأسر، ورغم أنه عهد شفهى!!

فإذا تصرف المسلم كغيره، فما الفضل الذى يمكن أن ينسب إليه، وإذا عامل المسلم غيره معاملة المثل، فلن يكون للإسلام رسالة لعامة الناس.

الإسلام ليس دينا موجها إلى شعب مختار (العرب) أو حتى إلى كل من ينتسب إلى الإسلام، الإسلام دين موجه إلى العالمين. وبالتالى فإن قيم العدالة والنزاهة وعلى رأسها الصدق هى التى تحكم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين.

ومن باب أولى أن يحكم الصدق العلاقات بين الحكام والمحكومين فى الدولة الإسلامية، وقد علمونا فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أن ميكافيللى أحد المؤسسين البارزين لعلم السياسة، وقد كان مستشار أحد الأمراء فى إيطاليا بالعصور الوسطى, وقد نصحه فى كتاب (الأمير) بأن يستخدم كل الوسائل للبقاء فى الحكم, بما فى ذلك المؤامرات والدسائس والاغتيال، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق. وهذا الكلام لا عبقرية فيه، وهو معروف من قبل أن يكتبه ميكافيللى، معروف فى كل التاريخ الجاهلى للبشرية. ولكن الإسلام قدم صورة معاكسة للسياسة وممارستها, يقول رسول الله: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) وأن ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة أحدهم (الملك الكذاب) – مسلم.

ومن المفارقات أن قيمة الصدق فى العمل السياسى – ولو من الناحية النظرية – أصبح لها اعتبارها فى الغرب، وأن محاكمة كلينتون دارت أساسا حول (الكذب تحت القسم) أو ما ورد فى القرآن (شهادة الزور). أما فى بلادنا الإسلامية فلم يعد أحد يحاسب الحاكم على مسألة الصدق والكذب، وكأنها مسألة شكلية أو فرعية. فإذا كان كذب المواطن على المواطن يحدث اضطرابات فى محيطهما فكيف يكذب الحاكم على 80 مليونا!! كيف تقوم علاقة صحيحة وصحية على معلومات غير صحيحة وبيانات كاذبة تتلى فى الخطب، وحين يحدث تعارض بين بيانات البنك المركزى ووزارة البترول على سبيل المثال، لا يتحرك أحد وكأنها مسألة فنية، بينما الأمر يتعلق بمليارات الدولارات من ثروة الأمة. وعندما يقسم الحاكم على احترام الدستور بينما يقوم بانتهاكه كل يوم، فكيف يمكن أن تقوم علاقة سوية تتسم بحد أدنى من العدالة بين الحاكم والمحكوم. كذلك عندما يخدع الحاكم المجتمع والصحفيين, ويقول إنه أمر بإلغاء الحبس فى قضايا النشر، ويعلن ذلك جلال عارف نقيب الصحفيين ويؤكد ذلك صفوت الشريف وزير الإعلام فى ذلك الوقت.

وتمر السنوات، ويستمر قانون الحبس فى قضايا النشر وينفذ على بعض الصحفيين. وما زال الآخرون يحاكمون.

واحترام الشعب والوفاء بالعهد الذى هو مبدأ أساسى فى الإسلام، يجبر الحاكم على الإعلان عن سبب تراجعه عن موقفه، فربما جد جديد, أما الصمت فهو يتعارض مع شرف الكلمة. نحن فى حياتنا العادية نقول (يا سيدى الكلام لا سعر له وليس عليه رسوم!) وهذا ينافى مفاهيم ديننا الحنيف: (وهل يكب الناس يوم القيامة على وجوههم فى النار، إلا حصائد ألسنتهم) حديث شريف. وفى أقوالنا الشعبية ما يتطابق مع مفهوم الوفاء بالعهد فى الإسلام (إن الرجل يتمسك من لسانه).

وفى الإسلام – على عكس المفهوم الغربى – فإن ما هو أخلاقى يرتبط بما هو عملى وسياسى، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق مصلحة المجتمع. إن مصلحة المجتمع لا تقوم إلا على أساس التقدير الصادق والسليم لأحوال البلاد من أجل معالجة الأخطاء، وتطوير الأوضاع. والمجتمعات الغربية لا تزال تدار بصورة أكثر رشدا من مجتمعاتنا، لأن البيانات الرسمية للنظام أقرب إلى الصدق من بيانات حكامنا, فمؤشرات البطالة والتنمية والتضخيم وإن خضعت لبعض التلاعب، ولكنها لابد أن تكون سليمة بالأساس وإلا لتعرض المجتمع للانهيار.

ومن أسباب السقوط المخيف والسريع للاتحاد السوفيتى أن الأرقام والبيانات والتقارير المتصاعدة من الوحدات الإنتاجية كانت تبالغ فى الإنجازات، ولا تشير إلى مواطن الضعف والتخلف. وبالتالى لم يعد بإمكان القيادة العامة – حتى وإن حسنت النوايا – أن تتخذ القرارات السليمة.

وهكذا فإننا نلمس بالأيدى ونرى بالأعين كيف يتحول الانحراف الأخلاقى (الكذب) إلى كارثة سياسية عامة فى البلاد.

ويأتى تزوير الانتخابات كأكبر جريمة كذب يرتكبها النظام، وقد تحدث الناس كثيرا عن التزوير، ولكن أحدا لم يتحدث عن جريمة (الكذب) فى إعلان نتائج مغشوشة، وإن أى مجتمع سوى – ولا نقول مجتمع مؤمن فحسب – لا يمكن أن يعيش على أساس الكذب المفضوح. فهذا يقوض مشروعية النظام، ومشروعية العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأن الكذب فى هذا المجال، يؤدى إلى سرقة إرادة الأمة، وإسناد الحكم والتشريع إلى أناس لم ينتخبهم الشعب. وقد كانت بداية هذه الكوارث هى الكذب، والاتفاق الضمنى بين الحكام وبعضهم، وبين الحكام والمحكومين على أن الكذب أصبح قاعدة مستقرة فى هذا المجال، ولذلك فإن المعارضين يتحدثون عن مشروعية الانتخابات فى هذه الدائرة أو تلك، ولكنهم لا يثيرون – بما فى ذلك الإسلاميون – جريمة الكذب، حتى لا يتهمهم أحد بالسذاجة ويقول: أنتم لا تفهمون فى السياسة, وهل توجد سياسة بدون كذب؟! دعوا هذا الكلام للأطفال!

بمناسبة اقتراب شهر رمضان نذكر هذه الأحاديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه), (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله، ذو الوجهين الذى يأتى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) البخارى.

ثم ليقل لنا أحد من العلماء أو غير العلماء، من المختصين أو غير المختصين ما هى مشروعية الحاكم الذى ينطبق عليه هذا الحديث.

(إن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الرجل ليَصْدُقُ؛ حتى يكون صِدِّيقا، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل لَيَكْذِبُ، حتى يكْتَبَ عند الله كذابا) البخارى.

هل يصلح أن يحكم المسلمين رجل كذوب هداه كذبه إلى الفجور ثم إلى النار، وأنه كتب عند الله كذابا؟

(39)

أسرار الدعاء

نحن نقترب حثيثا من شهر رمضان، وهو شهر الدعاء وشهر مناجاة الله، وإياك أن تنخدع من العنوان فتتصور أنه بإمكانى أو غيرى أن يكشف أسرار الدعاء, ولكننا نحوم حولها ونحاول الاقتراب من بعض معانيها، فنحن هنا فى لب الإيمان، فى مخ العبادة، فى العلاقة الخاصة بين المؤمن وربه, والتى لا يعرف وتيرتها الخاصة إلا الله عز وجل.

فى القرآن الكريم أتوقف كثيرا عند حرقة الدعاء وحرارته لدى الرسل والأنبياء، فنوح يدعو ربه 🙁 رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً{26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً{27}) (نوح).

وموسى دعا ربه: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس: 88).

وروى عن سيدنا محمد أنه رفع يديه إلى السماء يوم بدر وقال: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض) حتى سقط الرداء عن منكبيه.

فهل الله سبحانه وتعالى راعى معسكر الإيمان حتى لقد نسبه إلى نفسه (حزب الله) لا يعلم كل مخاطر الكفر والشرك، بل إن كثيرا من الأدعية المأثورة عن أولياء الله تتضمن القول: (إنه لا يخفى عليك، وإننا نعلم أنك تعلم) ولكن الدعاء هو مخ العبادة، نحن نتعبد إلى الله بالدعاء إليه، والتذلل إليه، وأن نوقن من خلال الدعاء رويدا رويدا، إننا لا نملك من أمرنا شيئا وأن الله بيده كل شىء (لا حول ولا قوة إلا بالله)، نعم نحن نأخذ بالأسباب ونتدبر الأمور كلها, ولكن النتائج غير مضمونة إطلاقا بدون أمر الله. السر الدينى فى الدعاء هو سر القضاء والقدر نفسه الذى تحدثنا عنه من قبل؛ أن تعمل واجبك على أفضل وجه ممكن وتأخذ بالأسباب، ولكن الواقعة التى ستحدث معروفة سلفا عند الله ومكتوبة عنده.

إن التعامل مع المعضلة الكبرى أن نعمل بما أمرنا به الله، ولا نحاول أن نفهم شيئا هو فوق قدرات البشر، وقد قرأت – على سبيل المثال – دراسة من ثلاثة مجلدات حول القضاء والقدر, وهى دراسة جادة ورصينة, ولكنها لم تقربنى من فهم الموضوع أكثر مما كنت قبل قراءتها, إذن نحن لا نعرف شيئا عن المشيئة الإلهية إلا أنها كلية وقادرة على كل شىء ونحن ندعو الله لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: 60) (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).

ونحن ندعو الله كما ذكرت تأكيدا لمعنى أن الأمر كله بيديه، ونحن نؤكد هذا المعنى فى نفوسنا, وإلا فإن الله غنى عن العالمين.

نحن ندعو الله لأننا من خلال الدعاء نتصل به مباشرة، ونعقد معه اجتماعا خاصا فى أى وقت من أطراف الليل أو آناء النهار، بينما لا تستطيع أن تفعل ذلك مع أى مخلوق بهذا اليسر, سواء أكان أعلى منك أو أدنى فى السلم الاجتماعى, وفى هذا اللقاء تبث لواعج قلبك وتبكى, وتنقل همومك إلى المتصرف فى الكون، تنقل شكواك ومظلمتك وطلبك لأحكم الحاكمين، فتستطيع أن تهدأ بعد ذلك وتواصل حياتك، بما فى ذلك محاولة التصدى لمعضلتك ومشكلتك التى دعوت ربك من أجلها. وإذا بكيت خلال الدعاء فاعلم أن نصف المشكلة قد حلت, لأن البكاء من علامات صدق التواصل، وأن طلبك أصبح مصدقا عليه بأعلى الأختام (دموع الصدق) فدموع الرياء لا تتسلل من العيون وأنت وحدك مع الله فى جوف الليل، أو خلال النهار, بل إن المشكلة كلها قد حلت، فما دام الطلب قد وصل إلى أحكم الحاكمين، فما وجه القلق إذن؟! نحن فى الدنيا نخشى من القاضى المرتشى أو الجاهل أو الخاضع لتعليمات الحاكم، وهذا هو وجه القلق الذى يعتريك بعد المرافعة الصادقة التى قمت بها أمام المحكمة، أما أمام محكمة الله عز وجل فلا وجه لهذا الأمر على الإطلاق. وبالتالى فإن الدعاء أمامه 3 احتمالات:

1- الاستجابة الفورية أو القريبة, وهذا يحدث كثيرا فى حياة المؤمنين.

2- الاستجابة الفورية أو القريبة، ولكنك لا تعلم أن ذلك قد حدث، وقد تعلم فيما بعد.. مثلا لطالما دعوت الله أن ينتقم من الظالمين، وقد تحدث لهم مصائب وأنت لا تعلمها.

3- عدم الاستجابة لأن الله يعد لك ما هو أفضل منها.

لا أذكر أننى دعوت يوما على القضاة الذين حبسونى، لأننى كنت أدعوا على الذين أملوا عليهم الأحكام!! ولكن لا شك دعوت على الظالمين عموما، وفى إحدى مرات سجنى وجدت القاضى الذى حبسنى فى قضية سابقة محبوسا معى ولكن فى قضية مخلة بالشرف، وهو الذى عرفنى بنفسه، فأنا عادة لا أتذكر شكل القضاة الذين حاكمونى لأنهم كثر!! وفى مرة ثانية مات رئيس المحكمة الذى حبسنى وأنا لم أمض فترة العقوبة التى قررها، ذهب إلى المقابر وكان من المفترض أن يتولى موقع محافظ. ولا أدرى ماذا أصاب الآخرين؟ ولا شك أننى دعوت على من ظلمنى خلال فترة سجنى, وأنتم ترون الآن أن يوسف والى قد اختفى وهى أقصى عقوبة يمكن أن يحصل عليها فى ظل هذا النظام, بعد أن كان الأمين العام للحزب الحاكم والنائب الأوحد لرئيس الوزراء ووزير الزراعة. وأنا غير مشغول به بعد خروجه من السلطة, ولكن أذكر هذه الأمثلة للشباب كى يكفوا عن اليأس، ويعلموا أن التغيير ممكن بالاعتماد على الله، ففى معاركى ضد وزير الداخلية وضد والى لم يكن معى إلا الله عز وجل، ولطالما تعرضت لتقريع بعض الشخصيات العامة لأننى دخلت فى معارك أكبر من إمكانياتى، ولكن كيف كانت النتيجة؟ تمت إقالة وزير الداخلية، وتم ركن والى، وتمت محاكمة وسجن قيادات وزارة الزراعة.

(اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه.

ومن أسرار الدعاء هذا الحديث الجميل: (من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين) البخارى.

(40)

الفنـاء فى الله

أحب بين الفينة والأخرى أن أنهل من منابع الصوفية بمدارسها المختلفة الأساسية, ولكننى لا أستطيع أن أسير معهم إلى آخر الشوط، فكتابات الصوفية المنضبطة بالقرآن والسنة تفتح القلوب للعبادة، وتعمق ما يمكن أن نسميه العلاقة الشخصية بين الإنسان وربه، وهذا مهم جدا للمؤمن الذى يسعى إلى الصراط المستقيم، وهذه العلاقة الحميمة مع الله لا غنى عنها للمجاهد فى سبيل الله، وقد نحت بعض الصوفية تعبيرات جميلة, كالفناء فى الله, وهو يعنى بالنسبة إلىّ الاستغراق الكامل فى الله نحو أن تكون حياتك كلها لله، وغايتك الله، وعلاقاتك بمن حولك وكل الأشياء حتى الحيوان والنبات والجماد متمحورة حول الله، لأن الله سبحانه وتعالى علمنا كيف نتعامل مع كل من حولنا بمنهج القرآن والسنة، وهذا الكلام سهل أن يقال، بل يمكن أن يردده أى إسلامى بطرف لسانه بمناسبة أو بدون مناسبة، بل وأحيانا يتحول الورع لديه إلى نوع من التعالى على خلق الله، بينما من لم يردد بعلمه وعمله افتقارا لربه وتواضعا فهو هالك.

معركة الفناء فى الله هى معركة كل المؤمنين يتقدمهم أولياء الله الصالحين، والإيمان درجات، ولكن فى ذلك فليتنافس المتنافسون، وهى لا تعنى التفرغ, وهى لا تعنى العبادة وترك العمل والجهاد، بل إنك لن تعرف القرب الحقيقى من الله إلا بالعمل والجهاد، ومن لم يضح فى سبيل الله فكيف يحبه فعلا؟ إن المرء لا يشعر بحبه لزوجه وأولاده إلا عندما يضحى من أجلهم، وهل شعر الأب وابنته بالحب بينهما، إلا عندما تبرعت البنت الشابة بإحدى كليتيها لوالدها؟! لماذا نفهم هذه المعانى؟ ولماذا نقدم عليها؟ ثم لماذا نفر من التضحية فى سبيل الله، كما يفر السليم من الأجرب؟ أو كما تفر الحمر الوحشية من الأسد.

عيب كتابات الصوفية أنها لم تتحدث عن الجهاد، مع أن الوصول إلى مراتب الإيمان العليا لا يكون إلا بالجهاد، وحتى الكرامات التى يتحدثون عنها، لا نراها ولا نسمع عنها فى عصرنا الحديث إلا فى معارك الجهاد، والآن فإن عشرات القنوات الفضائية والبرامج بالإضافة إلى آلاف مؤلفة من خطب الجمعة تتحدث فى كل شىء إلا عن الجهاد القتالى وجهاد الكلمة (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) وكوجه آخر للعملة لا تتحدث عن موالاة أعداء الله، وهو الأمر الأشد خطورة على العقيدة بنص القرآن, ولا تتحدث عن كلمة حق عند سلطان جائر.

وبالتالى فإن ما يتعرض له ملايين المسلمين هو نوع من الإسلام المحرف الذى يقول أشياء صحيحة عديدة, ولكنه يسكت أيضا عن أشياء صحيحة عديدة, بل وأساسية.

أما الذين نذروا حياتهم فى سبيل الله، فهم وحدهم الذين يعرفون أقصر الطرق وأقربها إلى الله، لأنهم لم يذهبوا إلى الله بمنطق الذاهب للمول، فيختار ما يحب ويترك ما لا يحب، أو يشترى ما يستطيع أن يشتريه، ويعرض عن البضائع الغالية.

الذاهبون إلى الله ليس لديهم أى خيارات (ما كان لهم الخيرة) إلا الله، ولذلك فهم يطيعون كل أوامره وينتهون عن كل نواهيه. وحكاية (كل) هى المشكلة، لأنك ستقول إذا استطعت أن التزم بكل شىء، فسأكون أقرب إلى الملاك، منى إلى الإنسان الخطاء, ولكن هنا عدة مغالطات، فالله لم يأمرنا بأشياء يعرف استحالة قيامنا بها، فإذا قمنا بها فلن نكون ملائكة، ولكن سنكون من أولياء الله الصالحين، وهذا سباق مفتوح للجميع، لا يمكن أن ندخل السباق ونقول لن نصل إلى نقطة النهاية! أو نقول لن نستطيع أن نحطم الرقم القياسى السابق.

إذن هدفنا كهدف التلميذ “الشاطر” أن نحصل على 100%، أو لاعب الرياضة الذى يحطم الرقم القياسى العالمى. ومن أجمل الأقوال فى ذلك الرواية المأثورة حيث يقول الله (من أطاعنى فى كل شىء، أطعته فى كل شىء). تأمل فيها ما أجملها, تبدو غير واقعية, ولكنها واقعية جدا, فهذه هى البوصلة, فإذا كان أولوا العزم هم من سيحقق 100% أو 99.9% منها فإن المعادلة تقول بقدر طاعتك لله يستجيب الله لك, وهذا ما ينساه كثير ممن يدعون الله ولا يعرفون لماذا لا يستجيب الله لهم؟!

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) شرط (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186).

إذن نحن أمام معادلة جبارة, فأنت كلما اقتربت من الله, أى استجبت إلى ما أمرك به أصبح الله معك بالقدر نفسه، فإذا كان الله معك فمن يكون عليك؟!

أو إذا كان الله معك أيفوتك شىء؟! والله كريم ورحمن ورحيم فهو يحسب لك الحسنة بعشر أمثالها على الأقل, ويسجل لك السيئة كما هى, ويفتح لك باب المغفرة لكل ما قلل من مجموعك عن 100%، المهم هنا هو النية، نية السعى لـ 100%، وهنا يمكن العفو عن الهفوات واللمم, ولكن استهداف الهفوات واللمم خطر, لأن المعاصى تبدأ بها, لذلك قيل (البصيرة كالبصر أدنى شىء يخل فيها يعطل النظر) إذن الفناء فى الله لا علاقة له بالغيبوبة أو الدروشة، الفناء بأن يكون كل شىء لله وفى سبيل الله. سأل أحد الصوفية الله اعوجاج الخلق عليه (حتى لا يكون ملجأ إلا إليك) وأقول له اطمئن إن اعوجاج الخلق متوافر ولكننا لا ندعو إليه ونسأل للناس الهداية والاستقامة، ولا نبحث عن خلاصنا الشخصى فحسب (من أطاعنى فى كل شىء أطعته فى كل شىء) – هذا إذن سبيلك لتنهل من هذه القوة اللانهائية، فمن الذى يملك أن يضرك من جبابرة الأرض، إن محصلة المواجهة فى الدنيا والآخرة – بنص القرآن – لصالحك، فممن تخشى؟ إن خشية الله هى التى تعطيك قوة فى مواجهة السلطان، أما خشية السلطان فتبعدك عن الله، فإذا حسمت أمرك مع الله بنسبة 100% فأنت الفائز لا محالة، والفوز فى الدنيا لا يعنينا إلا لأن الله أمرنا به.

الجبابرة معهم السجون والأمن المركزى، وأنت معك هذا الحديث القدسى الجبار: (من عاد لى وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء، أحب إلى مما افترضته عليه، وما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، ولئن استعاذنى لأعيذنّه) – البخارى.

(41)

الغيرة.. ذلك المرض القاتل

لا أقصد بالغيرة هنا ما يسمى الغيرة الزوجية، ولكن الغيرة العامة بين البشر بعضهم البعض، وبين رفاق العمل والجماعة، ورفاق الدراسة، ورفاق المهنة.. إلخ.

والأمر المثير أنك لا تجد هذه الكلمة فى القرآن الكريم، ولكن تجد مضمونها، كأوضح ما يكون فى سورة يوسف, فإخوة يوسف وهم أبناء النبى يعقوب وصلت بهم الغيرة من يوسف لمجرد أنه أحب إلى أبيهم منهم، إلى التفكير فى قتله، ولكن أحدهم طرح فكرة إلقائه فى بئر، بحيث يمكن أن يلتقطه السيارة، وهو اقتراح لا يخلو من خطورة وقسوة وإجرام أيضا, ولكن صفة خطيرة بهذا التأثير كيف لم يسمها القرآن الكريم؟

فى رأيى أن ما نسميه نحن الغيرة لوصف هذه الحالة، هو الحسد الذى ورد فى سورة “الفلق”. فالحسد فى الأساس هو تمنى الحاسد زوال نعمة المحسود، وقد انشغل كثير من المفسرين والناس بما يسمى أثر العين لدى الحاسد، حتى وإن كان ذلك صحيحا إلا أن الحسد لا يقتصر على مجرد التمنى, فقد يقترن بالعمل وحبك الدسائس لتحقيق الهدف، وهذا أخطر أشكال الحسد, وقد وصف بعض المفسرين حالة إخوة يوسف أنها حالة حسد, وهذا هو الحل السليم لمعضلة تسمية هذا المرض.

وقد اعتبر القرآن الكريم أن هذه الحالة من عمل الشيطان، وهو عدو مضل مبين للإنسان، والمعضلة الكبرى أنه يوسوس ويحاول أن يكون منطقيا، ولا يظهر أمامك كما تراه فى رسم الكاريكاتير مثلا بوجه كريه وذيل.. إلخ. والوسوسة تلعب على الوقائع وتقول لك لماذا (فلان) هذا يتولى هذا المنصب دونك، ألست فى سنه؟ هل تم تعيينه قبلك؟! ما الذى ينقصك حتى تكون أنت مكانه؟! إذن فلنعد العدة للإطاحة به, وسنجد لدى الآخرين المشاعر نفسها ولابد أن نستثمرها.

حالة إخوة يوسف لم تكن بسبب المناصب أو المال، ولكنها المكانة الروحية، ووراثة النبوة، فحتى وراثة النبوة لا تخلو من غيرة، رغم أنها قرار إلهى!!

لذلك فإن التنظيمات الإسلامية – بعد انقطاع النبوة – لا تخلو من هذا المرض, وهو أخطر الأمراض التى تهددها، لأنه صراع على المكانة الروحية, وليس مجرد المنصب أو المال، والقوة المعادية للتيار الإسلامى تستثمر هذا الشرخ لأنه حقيقى وله أساس، والمؤامرات الناجحة هى التى تعمل على أساس المشكلات الواقعية الموجودة.

إن المؤمن يحتاج إلى أعلى درجة من التجرد (التقوى), ليقر بمبايعة فلان قائدا, وهو ما يعنى ضمنا أنه فى ظل الظروف الراهنة أنه أفضل الموجودين. وكل إنسان ضعيف النفس لا يقبل بهذا المعنى, أما المتقون فهم يقولون لأنفسهم إن اختيار فلان قائدا لا يلغى وجودنا وأهميتنا المتنوعة فى مسائل شتى، والقرارات ستكون بالشورى، وبدون الشورى لا يمكن أن تكون القرارات سليمة, أما الذين فى قلوبهم مرض، الفاشلون خاصة, أولئك الذين لا يملكون ملكات القيادة, وليس لديهم الاستعداد لبذل الجهد ليحسنوا من قدراتهم ويرفعوا من مستوى أدائهم، فيرون أنه بدلا من تحسين دورهم وأدائهم فى الجماعة وفى الحياة عموما، فإنه من الأسهل أن ينتقصوا من دور الآخرين ويشوهوا صورتهم, أى أن الذى يجد فى البناء صعوبة، يرى الهدم أسهل، وإذا لم يكن لديه ما يعطيه بحيث يحصل على احترام الجميع، لماذا لا تتساوى الرءوس وتصبح جميعا منخفضة.

كارثة الحسد (الغيرة) ليست فى خطأ التطلع نحو الأفضل، وليست فى خطأ أن تسابق أخاك فى الخير وتسبقه، كارثة الحسد (الغيرة) أنك لا تريد أن تدخل فى هذا السباق، وتسعى لتحطيم أقدام المتسابق الذى يسبقك على أرض المنافسة، بدلا من تقوية عضلاتك لتسبقه. كارثة الحسد (الغيرة) فى اللجوء إلى وسائل غير مشروعة للتأثير فى نتائج السباق الإنسانى, بل واستخدام وسائل دنيئة أخلاقيا لتحقيق الهدف غير المشروع.

إذن لابد من الاعتراف بأن هناك نوعا من السباق أو المنافسة بين البشر فى المجالات الروحية والمادية. الأفضل أن نعترف بذلك حتى نتعامل مع هذه الحقيقة بشكل صحى وسليم على أساس القاعدة القرآنية (وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) أى فى الخير المؤدى إلى الجنة.

وأن يدرك الناس أن قدرات البشر متفاوتة, وهذا من معانى (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) (الأنعام: 165) فالمسألة ليست مجرد تفاوت فى الإمكانات المادية. وفى حالة تفاوت القدرات فإن الإنسان قد يحطم نفسه فى محاولته للقضاء على من يتصور أنه غريمه دون أن يصل إلى شىء. وأن الإنسان المؤمن السوى يدرك أن البذل فى سبيل الله مفتوح بغير حساب، وفى هذا يسبق كثير من الناس الذين لا نعيرهم اهتماما، مشاهير الفقهاء، الذين باعوا أنفسهم للدرهم والدينار، واشتروا الشهرة والبرامج التليفزيونية بقول الحق، أو عقدوا صلحا مبرما مع الجهات الأمنية لبتر بعض أساسيات الدين خلال أحاديثهم.

ونعترف للأجهزة الأمنية بالذكاء فهى تخترق التنظيمات الإسلامية من خلال هذا الفالق (الحسد)، ومن يكون فلان؟! ألست أنت فلانا وفلانا وأحق بالقيادة؟! أما المنشغلون بأهمية تحقيق النصر على حزب الشيطان فإن تجردهم (أو تقوى الله عندهم) هى التى تحميهم من هذا المنزلق التافه. نحن نسعى لنصر الله بغض النظر عن شخص القائد، فلكل شخص مثالبه، ولكن العمل الجماعى قادر على معالجة ذلك، المهم أن ترفع كتيبة حزب الله رايات النصر وتسلمها مرفوعة.

(42)

اصنــع لـك كهفـا

ليس من الضرورى مثلا أن تنتظر حتى تفرض عليك العزلة عن الناس بالقوة الجبرية (السجن), بل عليك دائما أن تصنع لك كهفك الخاص الذى تأوى روحك إليه، فاللؤلؤة الجميلة فى قاع البحر لا تنمو ولا تعيش إلا داخل قوقعة محكمة، وكل الكائنات خلق الله لها درعها ونظامها الخاص للحماية، قد تكون فى اللون أو الحجم، أو ما تنطوى عليه من جهاز ردارى أو من أسلحة متنوعة, وكلها تحقق معنى (الدرع الواقى)، والكهف الذى تبنيه لنفسك، هو كهف افتراضى، تبنيه حول روحك بحيث يقيها الأشعة الضارة المنبعثة من الناس. الإسلام يرفض العزلة المادية عن الناس، حتى وإن كان هدفها التفرغ للعبادة. لأن هدف الدين هو إصلاح الدنيا بمبادئ وقيم الدين. لذلك عندما أمر الله الملائكة أن تدمر قرية جاحدة بأنعم الله، قالوا له إن فيها عبدا متفرغا ومنقطعا للعبادة، فقال لهم الله عز وجل ابدءوا به فإنه لم يتمعر وجهه مرة من أجلى قط. فالعزلة عن المجتمع وتركه نهبا للفساد وانتهاك شرائع الله، ليس من الإسلام فى شىء, ولكن المقصود هو العزلة النفسية عن موبقات الدنيا وسخافاتها ومهاتراتها، وسخافات القوم التى لا مفر منها فى الحياة، والتى يشير إليها حديث رسول الله: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها. إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم) الترمذى, وبالتالى فإن المؤمن يمر فى يومه بحقول ألغام، وأفخاخ عدة, ومهمته أن يمر بها وكأنه لا يراها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

والمؤمن يصنع كهفه أو درعه الخاص، بتقوى الله التى تغذيها العبادة: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ{39} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ{40}) (ق).

إذن المطلوب العزلة المادية والمعنوية عن اللغو. عن الهيافات والتفاهات والنميمة والمسلسلات التافهة والبرامج الأكثر تفاهة, وكما ذكرت فى رسالة سابقة فإن الإسلام لا ينهى عن اللهو البرىء, والذى لا يجرح أحدا ولا يسىء لأحد, ولا يخرج عن حدود الآداب، ولكن أيضا هناك نسبة مئوية حتى لهذا اللهو, فإذا زادت عن 1-5% مثلا من زمن اليوم فمعناه أن المعادلة مختلة. وقد قال رسول الله مرة لأصحابه ما معناه إذا عرفتم ما أعرفه لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا, ويقصد ما أُطلع عليه من غيب الآخرة. ومن يتعامل مع الآخرة – فى حدود ما نعلمه من القرآن الكريم – يكفى كى يأخذ الدنيا بمنتهى الجدية.

هذا هو المحور العام لملوثات البيئة التى نحتاج إلى كهف خاص للابتعاد عنها وتوقى شرها، وهى عزلة بالمعنى المادى والروحى معا.

أما المحور الثانى، الذى يتعرض له المجاهدون، فهو حملات الإساءة التى يشنها عليهم المنافقون وضعاف النفوس، والمتراجعون عن الجهاد (ليبرروا مواقفهم) بالإضافة إلى الأعداء الأصليين للتوجه الإسلامى من أهل الحكم.

والمطلوب إزاء هذه الحملات عزلة روحية ونفسية، بمعنى عدم التأثر بهذه الحملات، بحيث لا تفت فى عضد المجاهدين، وأن يدركوا سوء مراميها وسوء نيتها، وأن الأكاذيب ليس لها مستقبل، وأن الحقائق ستفرض نفسها فى النهاية, وأن هذه الإهانات من ضريبة الجهاد, وأنها مبعث للحسنات, بل ومطهرة من الذنوب, وهذه الحملات التى يواجهها المؤمنون بغلاف كثيف من العزلة النفسية، إلا أنها لا يمكن الانعزال عنها ماديا، لضرورة متابعة ومعرفة ما يردده معسكر الأعداء.

ويبقى جدار العزلة فى الحالين (المحورين) قائم على الاحتماء بالله سبحانه وتعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ{17} وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{18}) (الذاريات).

فهذه العبادة والتسبيح والاستغفار تظل تذكر المؤمن بالسبب الأصلى للموضوع, حتى لا ينجرف إلى حالة من الحزن الشخصى, أو الوقوع فى ردود أفعال شخصية، فالموضوع هو الصراع الأكبر حول منهج الحياة، ولمن تكون السيادة فى الأرض, لمنهج الله، أم منهج المتكالبين على الحياة الدنيا. وفى القرآن حوار طويل مع رسول الله حول هذا الموضوع نقتطع منه هذه الآية: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) (الأنعام: 33), أى لا تحزن يا محمد, فالخلاف ليس معك، والتكذيب ليس لك، بل لله سبحانه وتعالى.

ونحن فى العصر الحديث لن نستطيع أن نواجه شياطين الإنس والجن، بدون هذا الكهف المعنوى (الملاذ), وهو قيام الليل ومواصلة التسبيح والاستغفار آناء الليل وأطراف النهار. حتى يتحقق فينا الحديث القدسى الذى أشرت إليه من قبل: (من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب…).

المجاهدون الآن فرسان النهار رهبان الليل, هم معزولون عن المجرى السيئ للدنيا، ولكنهم فى قلب معارك إصلاح الدنيا، هم فى الدنيا وليسوا فيها, وكأن هناك حاجزا زجاجيا يفصلهم عن ملذاتها وشهواتها، هم الغرباء عابرو السبيل، المسافرون، ليست الدنيا بالنسبة إليهم إلا شجرة فى طريق السفر يستظلون بفيئها، مجرد محطة على الطريق الأساسى, وهذه هى المعادلة الصعبة, أن تكون فى الدنيا ولا تكون فيها، أما العزلة عن الدنيا فهى أسهل الحلول وأبعدها عن الإسلام.

(43)

الاستشهاد فى سبيل الحكم الصالح العادل أهم درس فى كربلاء

لم يكد يمر خمسون عاما على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقعت مذبحة كربلاء, وهو أمر أدى إلى زلزال فى العالم الإسلامى, فأنصار يزيد بن معاوية يقتلون ابن رسول الله (حفيده) ويعرف المسلمون مدى حب الرسول له، ويقتلون كل أبنائه الذكور حتى الأطفال منهم (عدا زين العابدين الذى كان مريضا) وتقطع رأس الحسين الشريفة, وغيره من آل البيت, وتوضع على الرماح هدية للحاكم الماجن (يزيد), وتسلب وتنهب حلى نساء أهل البيت, ويتحولن إلى سبايا. وأحداث ذلك اليوم وما سبقها وما لحقها كافية وحدها لينشأ تيار التشيع لآل البيت، ولو لم ينشأ هذا التيار لأصبح الأمر عجيبا ومؤشرا على غلاظة جلد هذه الأمة. وبغض النظر عن الرؤية المتكاملة للمذهب الشيعى الآن، فإن ما حدث فى ذلك الزمان طبيعى للغاية، حيث ظهر الترصد لآل البيت فى خلافة علىّ بن أبى طالب، ثم فى مذبحة كربلاء وما أعقبها من 60 عاما من استمرار لعن علىّ بن أبى طالب وحتى نهاية حكم الأمويين. ومن حسن الطالع أن جزءا من المسلمين تخصصوا فى إحياء ذكرى كربلاء, وتخصصوا فى البكاء سنويا على الحسين, وكأنهم يقومون بفرض كفاية، بينما لا يملك أى مسلم عندما يطالع وقائع كربلاء إلا أن يبكى.

ويزيد من بشاعة الجريمة أن حكم يزيد لم يكن فى خطر حقيقى مباشر, فالشام والعراق والمدينة تحت السيطرة, ومكة ليس بها حركة تمرد, وكانت قوة الحسين 72 مسلحا مقابل 4 آلاف مجهزين تجهيزا كاملا, وكان أهل الكوفة قد تخلوا عن بيعتهم، واتضح للحسين أن المواجهة محسومة عسكريا لصالح أعدائه، ولذلك عرض على خصومه أن يتركوه ليعود من حيث أتى (من الحجاز)، ولكنهم أصروا على أن يأتى بالقوة ليبايع يزيد بن معاوية وهو (فتى عربيد يقضى ليله ونهاره بين الخمور والطنابير ولا يفرغ من مجالس النساء والندمان إلا ليهرع إلى الصيد فيقضى فيه الأسبوع بعد الأسبوع) (الحسين أبو الشهداء. عباس محمود العقاد). وهنا فى تقديرى جوهر الحدث، ومغزى تضحية الحسين, وإن كان فى كربلاء عشرات الدروس، إلا أن الدرس الأول هو فى العقيدة ونظام الحكم. تضحية الحسين تقول إن تولى الحاكم الصالح لأمور المسلمين مسألة لها الأولوية القصوى فى العقيدة. فالحاكم هو القدوة وهو الحارس على أمور الدنيا والدين، ولا يمكن إقامة الدين على نحو صحيح إلا فى ظل الحاكم الصالح العادل، وإن الاستشهاد فى هذه القضية، هو فى سبيل الله، حتى وإن تحول الاستشهاد إلى قضية رمزية لأجيال قادمة, فهذا أفضل من تشويه العقيدة بالوصول إلى اتفاق غير مبدئى مع الحاكم، فقد كان بإمكان الحسين أن يذهب معهم ليزيد, وأن يسالمه أو يبايعه بنية التخلص من خطر الموت، ثم العودة إلى مكة إما للاعتكاف أو إعادة تدبير الأمور. وكثيرا ما فضل السياسيون هذه التصرفات, ولكن بعد أن يكونوا قد فقدوا ثقة الأمة. والحسين هنا سياسى, ولكن السياسة عنده مندمجة فى العقيدة بصورة لا انفصام لها, فها هو يخاطب القوات التى تحاصره فيقول: (أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه قال: “من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، مخالفا لسُنة رسول الله، يعمل فى عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله أن يدخله مدخله” ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالغى، وأحلوا حرام الله, وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيرى، وقد أتتنى كتبكم ورسلكم ببيعتكم وأنكم لا تسلموننى ولا تخذلوننى، فإن بقيتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم.. إلخ).

هذا إذن هو جوهر القضية, وأهم درس فى كربلاء، لأن الذى ضيع الإسلام والمسلمين مسألة التساهل مع الحكام, وترك من استولى على الحكم يستقر فيه، والادعاء بأننا يمكن أن نخدم الإسلام بوسائل أخرى. لا والله فكل الوسائل الأخرى هى فى خدمة إقامة الحكم الصالح, وهذا هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا إقامة حقيقية للإسلام بدون حكم إسلامى صالح. وقد غلب على الفقه الإسلامى بعد ذلك مسألة “إمارة التغلب” وأن الحاكم الذى استولى على الحكم بالقوة نتركه كما هو حتى لا نحدث فتنة. فأصبحت إمارة التغلب هى القاعدة، وإمارة الشورى الصحيحة هى الشذوذ عن القاعدة. والحقيقة فإن الذى حمى الإسلام خلال فترة الحكم العضوض الأموى والعباسى، هو استمرار الممارسات الحسينية – الكربلائية لكبار الأئمة والعلماء, الذين تحدوا السلطان, وإن لم يتمكنوا من إزاحته, قالوا قولتهم الحق ولم يخشوا فى الله لومة لائم, ليس فى مجرد شرعيته العامة فحسب, بل فى كل قراراته وسياساته.

لقد ضحى الحسين بنفسه وآل بيته ليؤكد هذا المعنى الخالد. فكيف يحكم أمة عظيمة كانت هى الأولى فى العالم فى ذلك الوقت يزيد الذى يوجد إجماع حتى بين الأمويين أنه ليس أصلح فرد لقيادة الأمة. وذلك لمجرد أن والده معاوية قد أمر قبل موته بأخذ البيعة له بالقوة والإحراج والغصب.

والآن نحن نعيش قصة التوريث بالأسلوب نفسه وبالمهانة نفسها، فإذا زعم شيخ فى الإسلام أن هذا موضوع سياسى لا علاقة له بالعقيدة، فهو يخطئ فى ثوابت الدين أو يخاف المواجهة فى الله. والاحتمال الأخير هو المرجح لأن ثوابت الدين يعرفها التلميذ قبل الشيخ.

ولن تتحرر أمتنا المصرية والعربية من بؤس أوضاعها وهوان أحوالها إلا بالعودة من جديد لربط الحكم بالعقيدة، وأن الاستشهاد فى مواجهة سلطان جائر لا يقل عن الاستشهاد فى ساحة الوغى, بل هو أهم وأفضل بنص حديث رسول الله، لأن الحفاظ على سلامة الحكم هو الضمان الأول لحماية الإسلام والمسلمين، وأهم من الانتصار فى معركة عسكرية ما.

فى كربلاء بدت المعركة العسكرية محسومة, والصراع على السلطة محسوما, ولكن ظلت شرعية الحسين ترعبهم، الحسين وحده له شرعية حتى بدون العشرات حوله، إذن لابد من قتله والتمثيل بجثته, فرغم وجود 120 إصابة فى جسده, تم تخصيص عشرة فرسان يطئون جثته كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مقبلين ومدبرين حتى تداخل الصدر والظهر فى كتلة واحدة. لماذا كل هذا الغل وهذا الإجرام؟ وكأنهم بفعلتهم هذه يزيلون الحسين وشرعيته من الوجود، ولكن الذى حدث ويحدث هو العكس، فقد انتهى حكم يزيد بعد 4 سنوات ولم يترك أثرا، وظل الحسين وموقفه مرجعية لكل المسلمين.

(44)

بعد ما جرى للحسين وآل البيت فى كربلاء.. لا تحزن!

ليس بإمكان رسائل الإيمان القصيرة أن تعرض وقائع التاريخ الإسلامى, وإلا خرجت عن وظيفتها الظاهرة فى عنوانها، لذا وامتدادا للرسالة السابقة أرى أن مذبحة كربلاء يجب أن يقرأ وقائعها الشباب من أى مصدر تاريخى إسلامى, ولن يجدوا خلافا فى روايتها الأساسية. كان الدرس الأول الذى ذكرناه هو “الاستشهاد فى سبيل إقامة الحكم الصالح”، أما الدرس الثانى، أن نتعلم الصبر والجلد وتحمل مشقة انقلاب أصدقاء أمس إلى أعداء اليوم، وتحول من كان قلبه معك إلى سيف عليك، خوفا من السلطان وأجهزته، ورغبة فى الدنيا، وإشباعا لغرائز منحطة، فربما لا يحقق بعض هؤلاء المنقلبين إلا إشباع الرغبة فى إثبات الذات من خلال العداء لشخصية كبيرة. فإذا تعرض الحسين رضى الله عنه لهذه المذبحة، فقد قتل أطفاله من حوله عطشا (بمنع مياه النهر عنهم) أو برشقات الأسهم المقصودة، وليست العشوائية، وإذا تعرضت حفيدات رسول الله لكل هذه البشاعات، فمن الواجب كلما تعرضنا لخيانة الأصدقاء أو انقلاب رفاق السلاح أن نتذكر هذه الوقائع ونتحلى بالصبر، فأين نحن من الحسين؟ كما علينا أن نتذكر أن الشيطان أقوى مما نتصور، وأن الناس أضعف مما نتصور، وأن همنا الأساسى أن نحافظ على أنفسنا من الفتنة والسقوط فى البئر ذاتها، وأن تكون دعوتنا دائما لله (ألا تكون مصيبتنا فى ديننا) وهذا هو معنى الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: 105) فهى لا تعنى التخلى عن رسالة الإصلاح والتغيير والاكتفاء بالنجاة الشخصية، ولكن تعنى أن الأساس أن يحافظ كل منا على هداه وتقواه ولا ينجرف فى تيارات وأمواج الضلال، حتى يستطيع أن يواصل مسيرة الإصلاح ويضمن النجاة فى الآخرة.

ماذا أعنى بأن الشيطان أقوى مما نظن وأن الإنسان أضعف مما نعتقد؟ لأن أنصار يزيد كانوا يعرفون أن الاقتراب للحسين بسوء عواقبه وخيمة فى الدنيا والآخرة, ولكن أغلبهم لم يرتدع واتبع أهواء السلطان، بل كان كثير منهم يعتقدون بكرامة الحسين وحقه.

أمر يزيد عامله بالمدينة الوليد بن عتبة أن يأخذ “حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا” أى أنه أباح له استخدام كل وسائل القوة والإكراه, واقترح مروان بن الحكم على الوليد أن يدق عنق الحسين فأنكر الوليد ذلك وقال: أتشير علىّ بقتل الحسين! والله إن الذى يحاسب بدم الحسين يوم القيامة لخفيف الميزان عند الله.

وكانت القوات المحاصرة للحسين فى كربلاء يصيب بعضها ارتعاشات الخوف وتتجنب المواجهة، وبعضها انسحب بالفعل من أرض المعركة، فصدر أمر بقتل كل من ينسحب من المواجهة. كان بعضهم موزعا بين الخوف من إيذاء الحسين والخوف من عواقب عدم الالتزام بأوامر السلطان وخضعوا للخوف الثانى ولم يخافوا الله، كما فعل جنود الطغيان عبر التاريخ: (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص: 8) كانوا يقاتلون من أجل مدمن خمر, وهو الأمر الذى أجمعت عليه الروايات فى مجال انحرافات يزيد, ويعللون موته المبكر فى السابعة والثلاثين بإصابة الكبد من إدمان الشراب والإفراط فى اللذات. ولم تذكر له كتب التاريخ من المناقب ما يمكن مقارنته مع الحسين، أما الحسين فلم يكن مجرد حفيد رسول الله, وهذا يكفى لحسن معاملته وأخذه بالحسنى فى كل الأحوال، بل كان مقاتلا من الطراز الأول كأبيه, وشارك فى حروب فى إفريقيا الشمالية وطبرستان والقسطنطينية, وحضر وقائع الجمل وصفين. أما يزيد فقد تثاقل وتمارض حتى رحل جيش سفيان بن عوف إلى القسطنطينية فى عهد والده معاوية. نحن أمام حالة لا وجه فيها للمقارنة بين الشخصين, ولكن قوى السلطة والسلطان انحازت ليزيد فى مشهد قد لا يعقله عقل وصدر الإسلام ليس ببعيد.

ولكن الصورة لم تكن قاتمة، ولن تكون أبدا قاتمة تماما, فلما نعى الحسين فى الكوفة نادى واليها ابن زياد إلى الصلاة الجامعة وصعد إلى المنبر وقال: (الحمد لله الذى أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن على وشقيقه) فما أتمها حتى وثب له من جانب المسجد شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدى الذى فقد عينيه فى مشاهد الجهاد فصاح بالوالى (يا ابن مرجانة! أتقتل أبناء النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين؟ إنما الكذاب أنت وأبوك والذى ولاك وأبوه) فما طلع عليه الصباح إلا وهو مصلوب.

نعم أقول هذه صورة مشرقة، فهذه روح كربلاء التى ستظل تدوى عبر الأجيال. فأصحاب المبادئ والرسالات لا يسعون لتحقيق مجد فى حياتهم ولأشخاصهم، إنهم يضعون الأسس ويفتحون الطريق، ولا يقيسون أهدافهم بمدى عمرهم. ولذلك فقد حيروا الطغاة حتى طاش صوابهم, فإذا قتلوهم أصبحوا شهداء وانتشرت أفكارهم، وإذا حبسوهم اكتسبوا مصداقية لدى الناس، وانتشرت أفكارهم أيضا، وإن تركوهم التف الناس حولهم، والمجاهدون الذين باعوا أنفسهم لله لا يخشون كل هذه العواقب, بمعنى أن مواقفهم لا تتأثر بأية حملة اضطهاد ضدهم أو ضد أنصارهم، هم يرون أن الاستشهاد جيد والسجن جيد والسير من أجل نشر الدعوة فى ربوع البلاد أمر جيد، ويتركون الله يختار لهم ما يريد. إن الطاغية لا يعرف كيف يعاقبهم, لاحظوا أن فرعون هدد موسى بالسجن ولم يفعل, وهدده بالقتل ولم يفعل, كان فى حيرة من أمره أمام هذا “الكائن الضعيف” (المهين الذى لا يكاد يبين). وفى كربلاء بدا أن السلطان صفى كل الحركة التى تنتمى للحسين فلم يبق مقاتل واحد على قيد الحياة، ولكن حركة الحسين هى الباقية حتى الآن, وتتوسع على مدار العالم الإسلامى, أما قاتلوهم فأين هم؟! وهذا هو الدرس الثالث لكربلاء وإن لم يكن الأخير.

(45)

إعادة الاعتبار لقضية الإيمان والكفر

ذكرت فى دراسات سابقة أن قضية القرآن الكريم الأولى, بل والوحيدة، هى قضية الإيمان والكفر, بمعنى أن كل القضايا والأمور والمسائل الأخرى كالتشريعات والأخلاق هى مجرد تفريعات وتطبيقات لقضية الإيمان بالله. فالقرآن الكريم كتاب هداية إلى الله عز وجل، كما كانت كتبه ورسله من قبل هى وسيلة الوصل والاتصال بين الله وخلقه من بنى البشر.

وكل ما دعانا الله إليه من أوامر, وما نهانا عنه, هى كلها تطبيقات متنوعة ومتواصلة لعبادته، وإعمار الأرض وسيلة (اختبار) للوصول إلى الله.. وهكذا.

وقد قدر العزيز الحميد أن الإيمان به هو مفتاح الفلاح فى الدنيا والآخرة، مفتاح الفلاح فى كل صغيرة وكبيرة، وأن هذه هى القضية، وهذه هى المسألة، هذه هى النقطة التى يجب الانطلاق منها، وبقدر اليقين فيها، فإن كافة مشكلات الدنيا سيمكن للإنسان أن يواجهها وأن يحلها, خاصة أنه لديه دليل للطريق مشتق من هذا الإيمان هى كل التعاليم التى وردت فى القرآن الكريم, والتى أضاءت الطريق فى كل السبل الرئيسية للحياة، والإيمان يعنى أخذ هذه التعاليم بقوة وجدية, وعلى أساس أنها مسألة مصيرية, ثم جاءت السنة النبوية شارحة ومفسرة ومطبقة ومفصلة لهذه التعاليم.

وبقدر ما يحثنا القرآن الكريم على الإيمان بقدر ما يحذرنا من الكفر، وكما يقال: بضدها تتميز الأشياء. إذن نحن أمام معادلة لا يمكن فهمها والتعامل معها بشكل صحيح إلا بطرفيها وقطبيها. فإذا قلت إن الحياة هى النهار لأصبح قولك ناقصا وفهمك معتلا يصل إلى حد الخطأ الكامل فالحياة (نهار وليل)، وكذلك الأمر إذا قلت إن الحياة خير ولم تقل (خير وشر) وإذا قلت إن الإسلام هو السلام وتوقفت فهذا هو تشويه للإسلام, لأن الإسلام سلام وحرب, ولذلك أحكام واضحة لكل حالة من الحالات.

وفى السنوات الأخيرة بل قل فى العقود الأخيرة شاعت بين الإسلاميين جماعات وأفرادا فكرة عجيبة, وهى الحديث عن الإيمان دون الكفر، فالإيمان هو كذا وكذا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!! فى إحدى دراساتى أحصيت عدد ورود كلمة الكفر بمشتقاتها فى القرآن فكانت نحو 500, وكلمة الشرك فكانت نحو 300 مرة, والمجموع 800, وهذا يؤكد الفكرة التى بدأنا بها, وهى أن مسألة الإيمان والكفر هى قضية القرآن التى يشتق عنها حديثه فى أى موضوع وفى أية صفحة وفى أية سورة, فإذا كان عدد صفحات القرآن فى الطبعات المختلفة فى المتوسط 600, فذلك يعنى عدم خلو أية صفحة فى المتوسط من الحديث عن الكفر والشرك. فلماذا لم يصبح حديثنا متسقا مع هذا المسار القرآنى، على الأقل فى الأحاديث الدعوية, والكتب الإسلامية، وبيانات الأحزاب والتجمعات الإسلامية، وخطب الجمعة؟!

وللإنصاف فإن كل المسلمين، أعنى الدعاة والنشطاء والأحزاب والجماعات يتحدثون عن الكفر والشرك, ولكن بصورة تاريخية عندما يسردون حوادث السيرة النبوية، بل وبعضهم يتحدث بغلظة شديدة عن أبى لهب وأبى جهل ومن لف لفهما, حتى إن المستمع تلتهب مشاعره ويتمنى لو كان يعيش فى ذلك العهد ليفتك بأمثالهم ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وللإنصاف أيضا فإن البعض القليل والذين يزدادون قلة يتحدثون فى عصرنا الحديث عن الكفر والشرك بشكل نظرى باعتباره نظرية لها حججها, أو باعتباره خطرا يمكن أن يقع فيه المسلم إذا لم يفعل كذا وكذا. ولكن دون أن يتطرق الحديث إلى أية جهة محددة, ودون الحديث عن حزب شيطان محدد، وكأن لجنة أحزاب ما قد حلت حزب الشيطان. وبقى الشيطان المسكين بدون حزب وبدون شياطين إنس، لا يملك إلا الوسوسة الفردية.

وتختل المعادلة مرة أخرى فنتحدث عن حزب الله دون حزب الشيطان، وكأن حزب الله يحارب طواحين الهواء، رغم أن القرآن فى أحد إعجازاته الرقمية ذكر الحزبين بالتساوى 3 مرات لكل منهما (التساوى العددى بين كثير من الأضداد من معجزات القرآن).

وللإنصاف ثالثا، فإن بعض الدعاة فجروا معارك ضد بعض المثقفين العلمانيين وأعلنوا كفرهم بسبب بعض كتاباتهم، وقد أصبحت هذه الكتابات دليلا على ذلك, وهذه مسألة لا يصح فيها الحكم العام, ويمكن أن نقول رأينا فى كل حالة على حدة. ولكن بشكل عام كانت هذه الممارسة سلبية من زاوية أساسية أنها خاضت معارك كبرى فى غير موضعها، ومع أهداف هامشية، وكان فى ذلك هروب من مواجهة الطواغيت الكبار الذين يحاربون الإسلام بشكل مؤثر وحقيقى، ومحاولة اصطياد فريسة سهلة لا خطر منها، أستطيع أن أنشب أظافرى فى لحمها وأصرخ: واإسلاماه وأنا مطمئن من العواقب، وأننى لن أصاب بسوء، وسأخرج بصورة المدافع الأشوس عن الله ورسوله والمؤمنين. وليست هذه من شيم المجاهدين ولا كبار الدعاة.

ولعل تراجع الحديث عن قضية (الإيمان والكفر), ونعنى تطبيق هاتين الفكرتين على عصرنا الراهن، بتحديد معسكر المؤمنين (حزب الله)، ومعسكر الكافرين (حزب الشيطان) حدث كرد فعل على ممارسات سطحية لبعض الجماعات الإسلامية فى سنوات سابقة، والتى استسهلت خطاب التكفير فى غير مواضعه، وربطت ذلك بممارسات أكثر سوءا استخدمت فيها العنف مع الأهالى ومع أهل الحكم، ولكن هذه الممارسات والآراء الخاطئة، لا تبرر الهروب من أصل المسألة كما وردت فى القرآن الكريم, ولابد أن نجيب على سؤال أساسى: أين الكفر فى أواخر القرن العشرين وأوائل الواحد والعشرين, أم أن هذه القضية لم تعد مطروحة فى عصر العولمة!! وما ورد عنها فى القرآن قضية تاريخية، وانتهت. إذن لقد فتحنا موضوعا شائكا يحتاج إلى المواصلة فى عدة رسائل.

(46)

بحثا عن الشيطان الأكبر!

أنهينا الرسالة الماضية بأنه يتعين على المؤمنين فى كل عصر أن يحددوا عدوهم, وهذه أبسط الخطوات البديهية التى يجب اتخاذها لتجنب مخاطره، ودراسة نقاط القوة والضعف به. والاستعداد لمواجهته. فمن سنة الحياة أنه فى كل عصر يوجد معسكر الباطل أو حزب الشيطان، ومعسكر الصد عن سبيل الله. معسكر الكفر والنفاق بألوان مختلفة، وهذا المعسكر من شياطين الإنس مدعوم وفى حالة تحالف استراتيجى مع شياطين الجن. وهناك تقسيم أدوار بينهم. وحتى وسوسة شياطين الجن فإنها تتلاءم مع الأحداث وظروف العصر حتى تكون مؤثرة وفعالة. وما كانوا يوسوسون به منذ عدة قرون غير الذى يوسوسون به فى عهد العولمة!! والحقيقة فإن شياطين الإنس والجن جبهة واحدة, والقتال ضدهم معركة واحدة وليس معركتين منفصلتين. فهؤلاء يقسمون أنفسهم إلى ميمنة وميسرة وقلب كما تقسم الجيوش قواتها، ولكنهم فى النهاية جيش واحد يستهدف إسقاط قلعة الإيمان.

والشائع الآن بين الدعاة هو التركيز على شياطين الجن لأنهم – كما يتصور الدعاة – لا يملكون سجونا ومعتقلات وآلات تعذيب, ولن يقطعوا مرتباتهم، ولن يوقفوا برامجهم فى الفضائيات, ولن يمنعوا سفرهم لدول الخليج وغيرها فى المناسبات الدينية لإلقاء محاضرات. ولكن التعرض لشيطان إنسى واحد بما يغضبه قد يؤدى إلى سلسلة من الكوارث المشار إليها. إذن فليتم التركيز على شياطين الجن وزعيمهم إبليس المذكور بالقرآن, أليس ذلك فى منتهى الالتزام؟!

ثم بقليل من الخبرة السياسية بدأ بعض الدعاة والتنظيمات الإسلامية يدركون أن مهاجمة شياطين الإنس التى لا حول لها ولا قوة أمر جائز, ولا خوف منه, كمحاولة اصطياد مفكر ملحد هنا أو هناك كما أشرنا فى الحلقة السابقة، ثم تطور الأمر إلى محاولة اصطياد شياطين الإنس البعيدة عن محل إقامتنا، ويستحسن ألا يكون سلطة أو تتبعه أية قوات مسلحة، كرسام كاريكاتير فى الدانمرك. أو قس مهووس فى فلوريدا، بينما يغفل كل هؤلاء أن القوات الأمريكية حرقت ودنست المصحف الشريف مرارا وعلنا فى العراق، وأنها دخلت المساجد بالأحذية وفعلت فيها كل ما تريد, وأن هذه الوقائع مصورة ومنشورة على الإنترنت منذ سنوات، ناهيك عن وقائع اغتصاب البنات، وبعضها معروف بالتفصيل. وأخيرا ما كُشف عنه من قيام 12 جنديا بريطانيا وبعض الجنود الأمريكيين بقتل المسلمين المدنيين فى أفغانستان على سبيل التسلية، من أجل أخذ صور فوتوغرافية مع جثثهم، ثم قطع أصابعهم والاحتفاظ بها كذكرى (لا تشمئز أيها القارئ لأن هذه كانت عادة عند الأوروبيين أثناء إبادتهم لسكان أمريكا الأصليين، فكانوا يحتفظون بالأصابع، أو يستخدمون الجمجمة كطفاية سجائر أو يحولون جلودهم إلى حقائب وأكياس!).

ولأن أوباما اعترض على مبادرة القس بحرق المصحف فقد تلقى الشكر من الأزهر ومن المسئولين المسلمين، بينما أوباما هو المحارب الأول والحقيقى للإسلام، أما هذا القس فهو يقوم بدور إعلامى مساند فحسب. إن أوباما هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية التى تقتل يوميا عشرات المسلمين على الأقل فى باكستان وأفغانستان والعراق واليمن, وتبارك قتل الإسرائيليين لأى عدد من الفلسطينيين يقتضيه “أمن إسرائيل” ولم يعارض قتل إسرائيل (9 مواطنين أتراكا بينهم أمريكى من أصل تركى!) وهو لم ينسحب من العراق, وقواته (نحو 50 ألف غير الشركات الأمنية) تشارك يوميا فى قتال المقاومة وتقصفهم بالطائرات. نحن إذن نشكر أوباما لأنه لم يحرق المصحف رغم أنه يبيد ويقتل المؤمنين بهذا المصحف!!

وتسمح السلطات فى الدول العربية للإسلاميين وغيرهم بالهجوم “السياسى” لا “العقائدى” على الولايات المتحدة وإسرائيل حتى يبعدوا أفئدة الجماهير عن الحكام العرب، وليركزوا غضبهم على هدف بعيد عبر الحدود!! ولكن إذا تحول الهجوم على أمريكا وإسرائيل إلى المنهج العقائدى فإن ذلك يقتضى إغلاق القنوات الفضائية الإسلامية التى فعلت ذلك، لأن المنهج العقائدى هو الذى يعترض الغربيون عليه، وهو الذى إذا تم انتهاجه على امتداده المنطقى سيصل إلى رءوس الحكام العرب!!

إن إطلاق صفة الشيطان الأكبر على الولايات المتحدة هو الموقف الفقهى الصحيح فى أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادى والعشرين، فأمريكا هى زعيمة الكفر فى العالم التى تحارب رسالة المؤمنين القويمة (الإسلام)، والمقصود هو النظام السياسى أو القيادة السياسية بجناحيها الديمقراطى والجمهورى وليس الجمهور الأمريكى المغلوب على أمره والواقع بين مطرقة الإعلام وسندان الحياة الاستهلاكية.

عندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر 1798 لم تعرف الاستقرار يوما واحدا, لأن صيحة المواجهة كانت “التصدى للكفار وطردهم من البلاد”, ولم تفلح معهم ادعاءات نابليون بأنه دخل الإسلام, لأن كل مسلم يعرف ما هى تصرفات المسلم الحقيقى, وهو ما لم يجدوه فى نابليون. أما فى عصرنا فإن الأمريكان يجوسون خلال الديار, ولهم وجود عسكرى فى 10 دول عربية على الأقل تحت مسمى أنهم أصدقاء، والإعلام يتحدث عن أن مجىء الأمريكان بسبب أخطاء صدام والبشير ونجاد وبشار، وأن إسرائيل تحتل فلسطين بسبب الخلاف بين فتح وحماس!! والإسلاميون يردون على هذا الغثاء بالتحليلات السياسية المعقدة ليثبتوا أنهم لا يقلون ذكاء عن العلمانيين فى السياسة. ولم نجد شيخا واحدا يقول ما قاله عمر مكرم فى مواجهة الفرنسيس: “حى على الجهاد.. حى على مواجهة الكفار”. قال ذلك أسامة بن لادن ولكن بمنهج لا يصلح معه تجميع الأمة وحشدها لأنه فى إطار مسلح، وقال ذلك حزب العمل فى مصر فى إطار سياسى جماهيرى شامل دون استبعاد المقاومة المسلحة فى محلها فتم تجميده وإغلاق صحيفته، (والحديث متصل).

(47)

لا نعادى أمريكا لكفرها ولكن لعدوانها

فى دراستى (أمريكا طاغوت العصر) خاصة فى الطبعة الثالثة المزيدة, بحث حول طبيعة النظام الأمريكى من الزاوية الدينية، وهل هو نظام يمثل ويقود الكفر العالمى (أئمة الكفر) من زاوية أنه نظام لا يؤمن إلا بالقوة والمادة وبالفلسفة العملية (البراجماتية) وهناك من الأدبيات والممارسات الرسمية ما يؤكد ذلك، أم أنه نظام ينتمى لأهل الكتاب (المذهب البروتستانتى وفقا للرؤية الأمريكية!) وانتهيت أن لأمريكا الوجهين معا، وأنه لا تعارض بينهما، وأن الطبقة الحاكمة والسائدة هى مزيج من العنصرين، وأن هناك فريقا من أهل الكتاب لا يقلون كفرا وعدوانا عن أهل الكفر والشرك الصريح: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) وفى الحالة الأمريكية ليس لنا معضلة فقهية، ففى كل الأحوال هم أعداء سواء أحسبتهم على معسكر الكفر الصريح أم على معسكر فريق من أهل الكتاب، لأن النظام الأمريكى محارب للمسلمين، وقد أمر الله ألا نعادى ونحارب ونقاطع إلا المحاربين، فالحرابة هى على العداء والتقاتل: (وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ).

وهناك فهم خاطئ شائع بين العلمانية وبعض الإسلاميين فى مصر وغيرها, وحتى لدى الغرب، بأن المسلمين يعادون الناس على أساس كفرهم, وهذا غير صحيح إطلاقا بنص القرآن المتكرر, بل لقد أمرنا الله بإقامة أفضل العلاقات مع غير المسلمين عموما, أى المشركين وأهل الكتاب وأهل أية ملة (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المسلم يمكن أن يشفق على المشرك, ويحاول أن يدعوه للإسلام إذا قبل الحوار, ولكنه لا يطعنه بسكين. فالله خلق الإنسان ووضعه على محك الاختيار، وهذه المواجهة الكبرى بين كل إنسان ونفسه, وبينه وبين الله. ولكن المشكلة تبدأ فى حالة العدوان: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9) ولابد من ملاحظة أن هذه الآيات من أواخر الآيات نزولا (بعد صلح الحديبية).

فالأصل فى الموضوع أن المباراة بين الإيمان والكفر سلمية تعتمد على الحجج والبراهين، كما تعتمد على ممارسة حق الاختيار لكل إنسان، والمسلم لا يضره أن يكفر غيره: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ), ولكنه يشفق عليه من مصيره فى الدنيا والآخرة، ولكنه لا يسعى لقتله كما يردد البعض، لأنه بذلك يكون قد أقام محكمة إلهية لعقابه، بينما هذه المحكمة ستقام أصلا فى الآخرة, والحاكم فيها هو أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى, فلماذا أقتله فى الدنيا لمجرد كفره فقد يهتدى فيما بعد: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الممتحنة: 7), وهذا ما حدث بالفعل مع أهل مكة فى النهاية، وهذا ما حدث فى كل العصور التالية, إذ عاد كثير من الذين زاغت أبصارهم عن الإيمان إلى الإيمان, وقدموا للحركة الإسلامية خدمات جليلة. لماذا أقتل إنسانا لديه حرية القرار والاختيار؟ وقد يأخذ قراره فى اليوم الأخير من حياته. من أكون أنا حتى أنهى حياة إنسان وأمنعه من الاستمرار فى ممارسة حق الاختيار؟ وكيف أجعل من نفسى إلها؟ فالقتل بنص القرآن لسببين لا ثالث لهما: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا).

فالقتل والقتال لا يحل لنا كمسلمين إلا إذا اعتدى علينا, والمقصود هو الاعتداء علينا بسبب ديننا لنتراجع عنه (كما حدث فى البوسنة مؤخرا امتدادا للتاريخ الأوروبى الكريه فى قتل المخالفين فى المذهب, وليس الدين فحسب) أو الاعتداء على أوطاننا واحتلالها وإخراجنا من ديارنا، أو معاونة الأعداء فى تحقيق هذه الأهداف العدوانية: (وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ).

وهذا هو الفساد فى الأرض الذى أشارت إليه الآية السابقة، فالفساد فى الأرض يعنى أعمالا محددة وقاطعة فى تخريب المجتمع المسلم, وليس (الأفكار)، فلا يوجد قتل بسبب الأفكار العقائدية، ولكن يوجد قتل لأعمال التجسس والتعاون مع الأعداء, خاصة فى زمن الحرب، كما هو معمول به فى مختلف البلدان, وفى إطار النظم المختلفة.

الأصل فى مسألة الكفر والإيمان عند الإسلام هو المباراة السلمية، وكان طلب رسول الله الأساسى لحكام مكة أن يخلوا بينه وبين الناس، أو أن يخلوا بينه وبين العرب, ولكن أهل الشرك هم البادئون دائما بالإكراه والعنف واستخدام القوة، لإدراكهم فى قرارة أنفسهم، أن حجج أهل الإيمان أقوى، أو أن الناس إذا تُركت وشأنها فستميل إليهم، فلم يحدث أن بدأت دعوة نبى أو رسول بحمل السلاح، ولم يحدث لأية حركة إصلاحية أن بدأت بحمل السلاح، أو إراقة دم إنسان واحد. كان الطغاة دائما هم البادئون, ولم يكن رد أصحاب الدعوات السماوية مبادلة العنف بالعنف إلا فى حالات محدودة ارتبطت بالإخراج من الديار (قصة طالوت وجالوت)، ولأن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء فقد شرع الجهاد فى الكتاب الأخير، دفاعا عن دعوة الإسلام، ودفاعا عن دولة الإسلام ومجتمع المسلمين الذى كان فى علم الله أنه سينمو، وأن هذه هى الصورة النهائية لرسالات السماء. وقد برهنت السنون على حكمة هذا التشريع الإلهى، فالمسلمون لم يتركوا وشأنهم قط. ولم يتوقف العدوان عليهم على مدار أكثر من 14 قرنا. والجهاد له أصوله وقواعده وفقهه, ويعتمد أساسا على حماية العقيدة، والدفاع عن المسلمين حتى لا يفتنوا فى دينهم (كما حدث فى البوسنة وكوسوفا) وحماية الأراضى (الديار الإسلامية)، ولكننا لا نغزو بلدا لفرض الإسلام عليه، ولابد من إعادة قراءة تاريخ الغزوات الإسلامية للتثبت من ذلك (راجع على سبيل المثال كتابات الشيخ محمد الغزالى).

كان تشريع الجهاد من عند الله لمواجهة سنة من السنن، وهى أن أهل الشرك لن يقبلوا المباراة السلمية لأنهم يخسرون فيها، وأنهم حتما سيلجأون إلى البطش والقوة والعنف، وما الجهاد إلا درعا لحماية المسلمين ومجتمعاتهم من هذا العدوان، أو مظلة واقية لأمنه واستقراره من مكر الأعداء (والحديث متصل).

(48)

الحكام العرب أعوان الشيطان الأكبر

ذكرنا فى الرسائل السابقة أن الحياة الدنيا قائمة على صراع بين قطبين الإيمان والكفر, وهذا هو موضوع القرآن الكريم، وأن واجب العلماء والفقهاء فى كل عصر أن ينزلوا هذه الآيات على الواقع، وأن يحددوا للمؤمنين عدوهم حتى لا يحاربوا طواحين الهواء, وحتى لا ينشغلوا بسفاسف الأمور: هل دم البعوضة ينقض الوضوء؟ وهل البصقة تفطر فى رمضان؟! بينما القدس محتلة والمسجد الأقصى مهدد بالهدم، والفلسطينيون والعراقيون والأفغان والصوماليون والباكستانيون يُقتَّلون كل يوم، وجيوش الغزاة جاثمة على معظم أراضى العرب، وأموال المسلمين مُستولى عليها وموضوعة فى بنوك الأعداء، الذين يسميهم حكامنا أصدقاء، وقرارنا السياسى والاقتصادى فى أيديهم، وشرائعهم أصبحت هى شرائعنا من دون شريعة الإسلام. فإذا كانت أمريكا لم ترتدع بعد، رغم كل ما حاق بها من هزائم هى وحليفتها الصغرى إسرائيل ولا يزال الحلف الصهيونى – الأمريكى هو الذى يتصدى لصحوة الإسلام والمسلمين، ويمارس دور الشيطان الأكبر، إذا كان هذا هو المحور أو القطب العالمى للكفر، فإن الصحوة الإسلامية المجاهدة هى القطب العالمى للإيمان، وحول كل محور (أو قطب) تقوم تحالفات إقليمية ودولية بدوافع مختلفة. ومعظم حكام العرب والمسلمين يتراصون مع الحلف الصهيونى – الأمريكى, بل إن معظم قوة هذا الحلف فى منطقتنا ترجع إلى تواطؤ وتحالف هؤلاء الحكام معه.

وبالتالى فإن الشيطان الأكبر له شياطين صغيرة عديدة، والمنافقون أشد خطرا من الكافرين الصرحاء، لأنهم يزعمون أنهم منا وما هم منا! فيخلخلون الصف، ويدخلون الأعداء وسط حصوننا بدون عناء. والأمر اللافت للانتباه أن القرآن الكريم لم يذكر الدرك الأسفل من النار إلا مرة واحدة وأنه للمنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) (النساء: 145). وتعريف المنافق وفقا للمصطلح الإسلامى أنه الذى يبطن الكفر ويظهر الإيمان.

وبالتالى فإن معظم حكام العرب والمسلمين والمتعاونين بشكل وثيق مع أمريكا وإسرائيل أحدهما أو كلاهما لا يخرجون عن أحد الاحتمالات:

  1. الردة والكفر الصريح: استنادا إلى الآيات المتكررة فى سورة المائدة:

– (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44})

– (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {45})

– (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {47})

وهذه الآيات تشمل ما هو أبعد من مجرد موالاة الأعداء، وتشير إلى التخلى عن المرجعية الإسلامية العامة للمجتمع فى مختلف شئونه ومجالاته، وهذا هو الواقع فى معظم بلاد العرب والمسلمين.

  1. موالاة أعداء الله, وهى جريمة اعتبرها القرآن من أكبر الكبائر، بل اعتبرها من نواقض العقيدة: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51), (وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9), (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة: 80), (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِى شَيْءٍ) (آل عمران: 28), (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (الممتحنة: 1).
  2. النفاق: وقد حددنا حكمه فى القرآن, والآية الخاصة بالدرك الأسفل من النار مرتبطة بموالاة الكفار.
  3. الجهل بالإسلام وأحكامه، أو الخوف من تطبيق الشريعة الإسلامية لعدم استفزاز الأعداء (كما سحب السادات تقنين الشريعة من مجلس الشعب وأطاح بصوفى أبو طالب رئيس المجلس بسبب الضغوط الأمريكية).
  4. القول بأن حكام العرب والمسلمين ليسوا من الكفار، ولكنهم فاسدون ومستبدون وظالمون وفاسقون فحسب!!

ولأننا نسعى لتوحيد التيارات الإسلامية، ولا نريد إلا الإصلاح ومصلحة الأمة، ولا نريد تفرق الجماعات حول اجتهادات متباينة لا تؤدى إلى نتائج عملية مختلفة فى نهاية المطاف، فإننا نرى أن إجماع (أو شبه إجماع) التيارات الإسلامية المخلصة حول التفسير الخامس. ونرى أن حيثيات هذا التفسير كافية للمطالبة بعزلهم, والسعى لذلك بكافة الوسائل السلمية والجماهيرية. فليس صحيحا أن الكفر هو السبب الوحيد للمطالبة بعزلهم. لأن الظلم والفساد والفسق أسباب كافية شرعا لذلك، وفقا لمعايير الحكم فى الإسلام.

وقد انشغلت الجماعات من قبل بتكفير الحاكم, وكأن ذلك هو السبب الوحيد لعزله, ثم ربطوا ذلك بالخروج المسلح, وهذا خطأ فقهى آخر. ثم ربطوا ذلك بمجرد اغتيال الحاكم, وهذا خطأ فقهى ثالث (ولعل اغتيال السادات يكون فيه عظات كافية على فشل هذا الأسلوب).

باختصار فإن أصحاب التفسيرات الخمسة السابقة، يمكن أن يتعاونوا معا من أجل التغيير السلمى والشعبى. فتكفير الحاكم ليس ضروريا للإطاحة به، كما أن تكفير الحاكم لا يعنى بالضرورة أن ذلك شرطا للخروج المسلح. فيمكن للخروج المسلح أن يتم ضد حاكم غير كافر، إذا توفرت شروط الخروج المسلح. ويمكن إسقاط الحكم الكافر بوسائل مدنية عند توافر شروط الخروج المدنى. ونحن نميل إلى الخيار الشعبى المدنى وفقا لظروف أغلب البلاد العربية، وإن كان كل بلد أدرى بظروفه، وحق الاجتهاد مكفول ومفتوح.

الأمر المؤكد والذى لا خلاف عليه أن حكام اليوم هم العقبة الأساسية أمام استقلال الأمة وعودتها إلى مرجعيتها الإيمانية، وأنهم يفتنون الناس فى دينهم بالفسق والفساد الإعلامى والفنى، وبإشاعة الفقر والتمييز الطبقى، وبممارسة القهر عند الخلاف فى الرأى، وبإشاعة روح الهزيمة والانهيار النفسى أمام الأعداء. وأنهم يرفضون المرجعية الإسلامية تحت أية دعوى من الدعاوى. والحال أنه لا يمكن مواجهة الشيطان الأكبر (أمريكا) بدون مواجهة هؤلاء الحكام، فقد وضعوا أنفسهم معه فى خندق واحد.

(49)

دور الخمينى وسيد قطب فى اجتهاد العصر

لابد أن نعيد الفضل لأهله، فالإمام الخمينى رحمه الله عليه هو صاحب مقولة “الشيطان الأكبر” فى وصف أمريكا, وهى ليست شتيمة أو تعبيرا بلاغيا كما يتصور البعض, بل هو موقف فقهى. وبالتالى فإن الخمينى هو العالم الإسلامى الوحيد منذ أكثر من ثلاثة عقود الذى قام بتنزيل الآيات العامة عن الكفر والإيمان فى القرآن الكريم على أرض واقع العالم فى أواخر القرن العشرين, وأقام موقفه الحازم من حكم الشاه الخائن على أساس تبعيته للشيطان الأكبر.

ولم يظهر عالم سنى بثقل ووزن الخمينى يقول بهذا الموقف, فقد كان العالم السنى مستغرقا فى مسألة الجهاد ضد الاحتلال السوفيتى فى أفغانستان وهو أمر صحيح نؤيده, حتى وإن تقاطع مع المصالح الأمريكية, ولكن المشكلة كانت فى “الاستغراق”, ودائما فإن العالم أو القائد الإسلامى فردا كان أو حزبا يتعين عليه أن ينظر إلى الكرة الأرضية ككل, وينظر إلى كافة التهديدات التى تحيط بالعالم الإسلامى. فى أواخر السبعينيات من القرن العشرين لم يكن هناك عالم إسلامى يتحدث عن الإمبريالية السوفيتية والإمبريالية الأمريكية معا إلا الخمينى, فمهما كانت أهمية أفغانستان فإن المعارك كانت مستقرة فى فلسطين وجنوب لبنان, وأمريكا هى الداعم الأكبر للكيان الصهيونى, الذى أعلن الخمينى أنه غدة سرطانية لابد من استئصالها.

بل حتى الآن ونحن فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين لم يظهر عالم سنى أو تجمع علماء سنة, (وبعد أن فرغنا من الإمبريالية السوفيتية) يعلن أن أمريكا هى الشيطان الأكبر أو العدو الأول للإسلام, ثم يربط موقفه الفقهى بموقف جهادى عملى حركى من أجل التغيير والإصلاح فى بلده, على هذا الأساس. نحن لدينا أزمة علماء ويجب أن نعترف بذلك لأن المؤسسات الدينية وعلى رأسها الأزهر خضعت للسيطرة الرسمية لفترات طويلة, وهو الأمر الذى قضى على حيويتها وثرائها الفكرى وحريتها العقلية فى الاجتهاد, واستنادا للأدلة الشرعية لا لمطالب الحكام!! ولأن الإسلام ليس دينا كهنوتيا فقد حمل اللواء علماء غير معممين (من منازلهم), وفى نفس فترة ظهور الخمينى فى إيران (كانت ثورته الأولى 1965) كان ظهور سيد قطب فى عالم السنة, ومن المفارقات أن جمال عبد الناصر دعم الخمينى وأعدم سيد قطب, لكن ما يهمنا الآن أن سيد قطب من خلال تفسيره (فى ظلال القرآن) طرح نفس الموقف الفقهى المخالف على نفس الدرجة للسوفييت وللأمريكان, وحدد من هو طاعون العصر: الغرب بشقيه (الرأسمالى – الشيوعى), ورحل سيد قطب عن عالمنا ولم يحمل عالم آخر حركة أو تنظيم لواء فكره, بل الطريف أن لسيد قطب وكتاباته شعبية كبيرة فى إيران, خاصة بين أوساط رجال الدين والمفكرين الإسلاميين, بعد أن ترجمت كتاباته للفارسية (خاصة الظلال), وقد أشرف على الترجمة آية الله خامنئى المرشد الحالى للجمهورية الإسلامية, أما فى مصر والعالم السنى فقد انتشرت كتابات سيد قطب بدون حركة, وقد يقال إن هناك تنظيما اسمه “القطبيون”, وليس هذا هو المقصود, ففكر سيد قطب لأمة بأسرها وليس لمجرد مجموعة من المريدين والمحبين. وتطور العالم بعد رحيل سيد قطب, ولا توجد كتابات صالحة لكل زمان ومكان إلا القرآن الكريم والسنة النبوية. ولذلك يحتاج كل زمن إلى مجتهدين ومجددين يحذفون ويضيفون من كتابات السابقين. وغير صحيح ما يشاع أن الإخوان المسلمين أو تيارا داخلهم يعمل وفقا لسيد قطب، وبالتالى لم تكن هناك حياة فكرية داخل الإخوان قادرة على تطوير فكر سيد قطب، واستمرارا لظاهرة غياب العلماء فى العالم السنى بعد أن تحولوا بصورة عامة لموظفين لدى الدول المختلفة, استمرت ظاهرة العلماء غير المعممين كبعض المفكرين الإسلاميين (عادل حسين كمثال الذى قاد التحول الإسلامى لحزب العمل) أو النشطاء الذين بدءوا يتوفرون على البحث والدرس, وكان منهم قادة تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن – أيمن الظواهرى) وهؤلاء حملوا لواء الموقف الفقهى الصحيح نفسه فى تنزيل الآيات على أرض واقع أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين. وحددوا أن أمريكا هى الشيطان الأكبر, وحددوا الموقف من الحكام العرب على أساس تبعيتهم لهذا الشيطان. ولكن خطأ القاعدة المميت بعد التحديد الفقهى الصحيح جاء فى خطة العمل وأساليب الجهاد، حيث انحسر الفكر, وضاقت الخطة فى العمل العسكرى الإرهابى، وقد أدى ذلك إلى بعض الأعمال التى تضر أكثر مما تنفع، ولا تلتزم بالضوابط الشرعية الصحيحة, وهى عموما أعمال تزعج العدو, ولكنها لا تشكل خطة سليمة للنصر. وقد رأى الأمريكان عن حق أن خطة حزب العمل المصرى أخطر على مصالحهم على المدى البعيد، لأنها خطة شاملة تقوم على أساس المقاومة الفكرية والسياسية والشعبية والإعلامية والجماهيرية وتضع المقاومة المسلحة فى مكانها الصحيح، ولذلك فإن تجميد حزب العمل وإغلاق صحيفته عام 2000 كان قرارا أمريكيا فى المحل الأول، ونعود لما بدأنا به، فإن ضعف الموقف الفقهى الصحيح فى عالم السنة (بسبب غياب العلماء المعممين عن المواجهة) هو الذى رفع من وزن وشأن الموقف الإيرانى، كما أن الموقف الإيرانى لم يعد مجرد رأى فقهى للإمام الخمينى، بل أصبح موقفا مدعوما بأقوى دولة فى المنطقة، وقد أصبحت إيران – وحتى إشعار آخر – هى عمود الخيمة لمعسكر المقاومة والاستقلال (حزب الله) فى المنطقة والعالم ضد (حزب الشيطان), وليس من قبيل الصدفة أن حلف الشيطان الصهيونى – الأمريكى لا هم له إلا القضاء على الجمهورية الإسلامية فى إيران، حتى وإن تخلت عن مشروعها النووى. إن إيران هى المحور العميق والوتد الركين الذى يلتف حوله حلف المقاومة والصمود فى فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وأفغانستان, لذلك فإن الدفاع عن إيران هو الواجب الإيمانى الأول فى هذه الأيام. وهذا ينقلنا للفتنة بين السنة والشيعة فى الرسالة القادمة.

(ولابد من قراءة الرسائل بدءا من رقم 44 حتى إشعار آخر كموضوع واحد بعنوان: إعادة الاعتبار لقضية الكفر والإيمان فى القرآن).

(50)

مواجهة الحملة الصهيونية – الأمريكية على إيران واجب إيمانى.. والفتنة من عمل الشيطان

إن تكفير الشيعة أى إخراجهم من دائرة الإيمان الإسلامى وإشعال فتنة سنية – شيعية من أشد المخاطر التى تهدد العالم الإسلامى فى هذه الآونة. ففى مقابل المعادلة الصحيحة التى تدعو لوحدة المسلمين, بل وحدة الإنسانية فى مواجهة الهيمنة الأمريكية – الصهيونية، تخرج الحملات المشبوهة لتقول لنا إن الشيعة هم الخطر الرئيسى على الإسلام، مما يؤدى بالضرورة لفكرة التعاون والصداقة مع الحلف الصهيونى – الأمريكى ضد هذا الخطر الرئيسى المزعوم، أو على الأقل بدفع فكرة الخطر الرئيسى للحلف الصهيونى – الأمريكى إلى الوراء فى وقت يقتل فيه المسلمون صباح مساء وتحتل أراضيهم.

وقد شاء الله عز وجل أن تكون القوة الضاربة للمسلمين فى هذه اللحظة فى يد الشيعة (إيران – حزب الله), وبالتالى فإن إثارة هذه الفتنة تستهدف نزع هذه القوة من يد المسلمين، بل وتستهدف تهيئة الأذهان لتأييد كل إجراءات حصار إيران التى تقوم بها أمريكا وصولا لاحتمالات استخدام القوة المسلحة. وأصحاب هذه الفتنة يرون أن قوى 14 آذار ونظم مصر والسعودية والخليج والأردن أفضل من إيران لأنها نظم سنية!! وهكذا فإن أصحاب الفتنة يدعوننا للاصطفاف – بلا مواربة – خلف الشيطان الأكبر وعملائه المحليين!! وبدون الدخول فى مقارنات مذهبية أقول للمواطن المؤمن الذى يتم تضليله، إن تكفير الشيعة خروج عن الإجماع الذى استقر فى العالم الإسلامى فى الحقبة الأخيرة، بل فى القرون الأخيرة، ذلك أن الشيعة يؤدون فريضة الحج بلا جدال ولا إثارة لأية معضلات، ولا يدخل مكة سوى المؤمنين المسلمين، وبالتالى فإن هذا الإجماع المستقر منذ سنوات بعيدة، هو الأساس الذى يتم خرقه الآن لصالح الأعداء. كذلك فقد أقر الأزهر الشريف أن المذهب الجعفرى الاثنى عشرى (وهو المذهب الشيعى السائد الآن) هو من المذاهب التى يتم تعبد الله بها إلى جوار المذاهب الأربعة الحنفية والشافعية والحنبلية والمالكية, وأيضا الإباضية والزيدية. وهذا ما يقول به أكبر علماء السنة الثقاة حاليا وعلى رأسهم الشيخ يوسف القرضاوى، ود. نصر فريد واصل مفتى الجمهورية السابق, الذى يقول: (إن من يقول على المذهب الشيعى إنه ليس من الإسلام فإنه يريد بذلك فسادا فى الأرض لأنه بذلك سيشعل الفتنة بين المسلمين سنة وشيعة), ويقول (هناك بعض الخلافات بين المذهبين, لكنهم ما داموا يؤمنون بالله ورسوله فإنهم مسلمون وما بينهم يطلق عليه فقط خلاف مذهبى). وقد أوضح الشيخ القرضاوى فى أحاديث مؤخرة أن من واجب المسلمين التضامن مع إيران فى كل ما تتعرض له من حصار وعدوان أمريكى. والطريف أن دعاة الفتنة يشككون فى جدية حزب الله فى عدائه لإسرائيل رغم أن حرب التحرير استمرت 18 عاما (1982-200) وإن حرب 2006 برهنت أن حزب الله كان يستعد لها استعدادا جادا, حتى إن العدو الصهيونى فوجئ بأداء حزب الله. وهو أداء لا يمكن فصله عن الدعم الإيرانى، كذلك فإن أداء المقاومة الفلسطينية فى غزة (حماس – الجهاد) لا يمكن فصله عن الدعم الإيرانى. فأين دعم نظم (الدول السنية) لحركة حماس السنية؟! لا نجد إلا الحصار والمحاربة واحتضان العميل أبو مازن. ولا نجد أية محاولة لفك الحصار عن الشعب السنى فى غزة!! رغم أن غزة واقعة على حدود العالم السنى!!

ومع ذلك لابد من لمحة سريعة عن الخلاف المذهبى، فالأسواق ممتلئة بكتب عن مذاهب وفرق شيعية اندثرت ولا وجود لها وهى بالعشرات، أما فى عصرنا الراهن فإن المذهب الجعفرى هو المذهب السائد بين الشيعة عموما وفى إيران خصوصا، وإن بقايا الفرق المندثرة مرفوضة من المذهب الجعفرى.

والخلاف المذهبى الأساسى بين أهل السنة والمذهب الجعفرى، يقوم على إيمان الأخير بأن النبوة يتبعها وصاية من أئمة معصومين، وقد كانوا أحد عشر بدءوا بالإمام على بن أبى طالب ثم الحسن والحسين ولم يتبق سوى الأخير، وهو المهدى المنتظر, وبالتالى فنحن فى زمن انتظاره، ورغم الخلاف حول نظرية الإمامية باعتبارها فريضة على المؤمنين، فإن هؤلاء الأئمة هم من آل البيت الذين لهم مكانتهم فى كل الأحوال عند كل المسلمين، كمصدر للسيرة والأحاديث النبوية، وأيضا كنماذج وقدوة بشرية، كذلك فإن المهدى المنتظر مسألة مشتركة بدورها بين السنة والشيعة وما أكثر الأحاديث حول المهدى فى كتب الحديث السنية. والإمام الخمينى كمجدد أخرج الشيعة فى إيران وغيرها من حالة الانتظار للمهدى، واستخرج من الفقه الشيعى، مسألة “ولاية الفقيه” وما هى إلا إقامة الدولة الإسلامية بقيادة علماء الدين الموثوق فيهم وتطبيق الشريعة الإسلامية, وعدم تأجيل ذلك حتى يأتى الفرج (المهدى) بل لعل ذلك هو الذى يعجل به.

قام الخمينى بثورة فقهية أدت إلى تقارب فعلى وعملى شديد بين الشيعة والسنة، فأصبح الحكم بالشورى – انتظارا للإمام المعصوم الأخير – وأصبحت إقامة الدولة الإسلامية شبيهة تماما بمفهوم الدولة الإسلامية عند السنة. وقد خاض الخمينى معركة كبرى فى الحوزة العلمية للشيعة, وكان له معارضون كثر على رأسهم آية الله شريعت مدارى الذى كان ضد الثورة على الشاه. فقد كان الرأى السائد هو الابتعاد عن السياسة وانتظار المهدى، وهو موقف يؤدى عمليا إلى تأييد الشاه, وهذا هو الموقف السائد بين علماء السنة, أى الابتعاد عن السياسة أو الالتصاق بها من زاوية تأييد الحكم!!

وقد جاء المدد للخمينى من الشعب الإيرانى الذى انحاز لموقفه من الشاه ولاجتهاده الفقهى، وزعامته الروحية فكانت إحدى الثورات التاريخية (1978-1979) التى أسقطت الشاه وأقامت الجمهورية الإسلامية. ومهما اختلفت مع سياسات الجمهورية يظل موقفها ثابتا وراسخا من قضية العصر (الحلف الصهيونى – الأمريكى)، وأفضل ما فى مواقف أحمدى نجاد أنك تشعر أنه ابن أو حفيد الخمينى الذى عاد من جديد إلى النبرة النارية المحرقة ضد أعداء الأمة، ولكن المهم أنها على أرض صلبة من القوة العسكرية المختبرة، والقوة الاقتصادية المتنامية رغم العقوبات (الحصار) إنه يقول ما لا يجرؤ أى حاكم فى بلاد المسلمين أن يقوله، وتفعل بلاده ما لا تفعله أى بلد عربى أو مسلم، وهو بناء القوة الاقتصادية – السياسية – العسكرية – العلمية – التقنية – المستقلة. وانضمام تركيا – بنهج مختلف – إلى هذا التوجه العام يفتح آفاقا كبيرة أمام الأمة الإسلامية لتبنى محورها الخاص أو القطب المعاكس لقطب الشيطان الأكبر.

(51)

تحديد الموقف من عقائد النصرانية واجب إيمانى

ما زلنا فى السلسلة التى بدأت بالحلقة (45) حول إعادة الاعتبار لقضية الإيمان والكفر باعتبارها القضية الوحيدة للقرآن الكريم, والهدف منها لفت الانتباه إلى أن معركة المؤمن الأساسية مع الكفر (ويتساوى مع ذلك أن تقول مع الشيطان أو الطاغوت أو الاستكبار), وأن الإيمان والكفر قطبان لا ينفصلان فى الوجود وإن تضادا فى الاتجاه, كالليل والنهار والنور والظلام، والخير والشر, فهذه الثنائيات معا لا تنفصل ولا معنى لوجود أحدهما دون الآخر. وإن سطحية بعض الجماعات فى تناول الأمر فى أوقات سابقة لا تبرر محو مصطلح الكفر من حياة المسلمين، رغم وروده فى القرآن نحو 500 مرة!!

وإن تجنب الحديث حول الكفر هو خضوع للهجمة العلمانية الملحدة, المدعومة من ترسانة الإعلام الرسمى, والتى تثير الغبار حول مسألة “التكفير”, والتى اعتبرت أن من علامات التقدم إلغاء كلمة “التكفير” و”التخوين” من قاموس اللغة، وليس لدينا أى مانع بشرط واحد بسيط أن يتم إلغاء الكفر والخيانة على أرض الواقع أولا!!

فى يوم من الأيام زرت مفكرا إسلاميا وأهديته كتابى “أحكام القرآن فى موالاة الكفار والمشركين” فبادرنى بمجرد قراءة العنوان: هذا موضوع مهم للغاية ولكن لم يكن هناك داع لاستخدام كلمتى “الكفار” و”المشركين”، وقلت له ما حيلتى وهكذا طرح الموضوع فى القرآن الكريم؟! إذن فإن استخدام المصطلح القرآنى “الكفر” أو “الشرك” أصبح يثير الفزع عند المسلمين قبل غيرهم. وأنا لا أطرح بالمقابل كثرة استخدامهما ولكن أرى استخدامهما عندما يكون ذلك ضروريا للتعبير عن واقع الحال. وأردت أن أقول إن القرآن الكريم سيتحول إلى “تميمة” بدلا من أن يكون مرشدا هاديا, إذا لم ننزل أحكامه على الواقع فى كل عصر. وهذا هو السبب البديهى والظاهر للعيان لتخلف معظم مجتمعات المسلمين عن ركب الحضارة, رغم أن القرآن فى أيديهم وفى كل بيت. وكما ذكرت فإن قضية (الإيمان والكفر) الأساسية هى مع الطواغيت الذين يصدون عن سبيل الله، وليس مع ملحد منعزل يعاقر الخمر فى بيته أو فى أحد الحانات المنزوية.

ومؤخرا أثيرت القضية من زاوية أخرى، وهى الموقف من عقائد المسيحيين وهو أمر بالغ العجب، فلا توجد مجاملة فى العقيدة، ومع ذلك تقود الحكومة حملة ضد التعرض للعقائد تحت شعار الوحدة الوطنية، ووصل الأمر بالتهديد بالمحاكمة والسجن، استنادا إلى قوانين بالية موجودة تدعى الحفاظ على الوحدة الوطنية, بل وصلت الصفاقة إلى حد سحب كتاب د. محمد عمارة من السوق لأنه يرد على كتاب مسيحى يطعن فى الدين الإسلامى، رغم أن كتاب عمارة صادر كملحق لمجلة الأزهر التى لا يقرؤها إلا المسلمون، ووصلت الصفاقة إلى حد تقديم بلاغ ضد المفكر يوسف زيدان للنائب العام بتهمة الطعن فى العقيدة المسيحية, وهى تهمة عقوبتها السجن 5 سنوات. وهكذا انقلب الحال وكأن المسيحيين المصريين الذين لم يحكموا مصر قط قبل دخول الإسلام، أصبحوا يحكمون الآن، ويحكمون بشكل استبدادى أكثر من مسيحيى الغرب الذين لم يصادروا القرآن الكريم بعد. فقد أصبح القول بأن المسيح نبى وليس إلها تعرضك للسجن 5 سنوات، وأصبح ترديد آيات القرآن مثل: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) (المائدة: 72) جريمة تدخلك السجن 5 سنوات وفقا لقانون الوحدة الوطنية. وعلى كثرة الحديث حول “الكفر” فإن الغالبية لا تعرف المعنى اللغوى للكفر، والكفر هو الستر أو التغطية، وكل شىء غطى شيئا فقد كفره، ويسمى الزارع كافرا لأنه يغطى البذور بالتراب، ويسمى الزراع كفارا لذلك!! وكأن الكفر فى المصطلح الدينى الغطاء الذى يحجب رؤية الله والإيمان بوجوده، أو يعنى الرفض المطلق لعقيدة الآخر، فالمؤمنون أيضا يكفرون بالطاغوت!! (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

وكذلك كفر أصحاب إبراهيم بعبادة الأصنام: (كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ), إذن كل منا كافر بطريقته، فهناك من يكفر بالأصنام ويؤمن بالله، والعكس بالعكس. والمعنى المستقر للكفار فى القرآن الكريم أو الاستخدام الشائع للمصطلح هو نقيض الإيمان، وبالمناسبة فهو مصطلح قرآنى لا تجده فى نصوص التوراة أو الإنجيل الحالية. والقول بأن التعرض للعقائد جريمة سيؤدى إلى سيادة العقيدة المسيحية. لماذا؟ لأن العقيدة المسيحية إذا عرضت كما هى فلن تتناول الإسلام لأنه جاء بعدها ولا داعى للتعرض له (وما قال به بيشوى حول القرآن الكريم هو خروج على النص ووقاحة غير مسبوقة خاصة وقد قالها فى محفل عام وفى وجود الصحافة ثم عاد وكررها فى أحاديث صحفية)، أما المسلم فلابد لعرض عقيدته بصورة صحيحة أن يتعرض للأديان السابقة، خاصة اليهودية والمسيحية, وانعكاس هذه البديهية واضح ونصوص التوراة والإنجيل الحالية والمعتمدة من رجال الدين لا يوجد فيها أى ذكر للإسلام. أما نصوص القرآن فيوجد بها ذكر كثير لبنى إسرائيل وللنصارى، وبالتالى فإن الداعية الإسلامى لابد أن يتعرض لذلك, ومنعه من ذلك يعنى مصادرة جزء من القرآن الكريم والعقيدة الإسلامية. فى حين أن الطرف الآخر لا يصادر منه شىء, لأنه لا يتحدث أصلا عن الإسلام.

وهذا ما نعنيه بأن تطبيق قانون عدم التعرض للعقائد يعنى أن تكون العقيدة المسيحية هى السائدة. ولا يعنى ذلك أننا ندعو لتنظيم حملات إعلامية ضد العقيدة المسيحية، ونحن لا نحتاج لذلك، بل يؤدى ذلك إلى رد فعل عكسى، فقد انتشر الإسلام فى مصر بدون هذه الحملات الإعلامية، وقبل أن توجد أدوات العصر الإعلامية الرهيبة, ولكن فى كافة مجالات الدعوة والتربية الإسلامية, أى فى المساجد وبرامج تفسير القرآن الكريم، وإذاعة القرآن الكريم، ومطبوعات الأزهر، والكتب التى لا تقرأها عادة إلا النخبة، والمجلات العلمية المتخصصة، وكتب تفسير القرآن الكريم, فلابد من عرض الموقف الإسلامى من المسيح بن مريم فهو حبيبنا وأحد أنبيائنا, وإجلاء صورته وحقيقته جزء لا يتجزأ من عقيدتنا الإسلامية (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ).. والحديث متصل.

(52)

شرح الخلاف العقائدى مع النصارى ضرورى لشرح عقيدة التوحيد للمسلمين

انتهينا فى الرسالة الماضية إلى ضرورة أن يوضح الدعاة الموقف الإسلامى من عقيدة التثليث, لأن رفض هذه العقيدة جزء لا يتجزأ من عقيدة الإسلام، وهو موضوع بالغ الخطر اهتزت له السماوات والأرض والجبال أن قالوا للرحمن ولدا: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً{88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً{89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً{91} وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً{92}) (مريم).

وعقيدة التوحيد لا تنجلى دون رفض عقيدة التثليث (أن الله واحد فى ثلاثة!! أو ثلاثة فى واحد!!) وهى عقيدة يأخذ بها ملياران من البشر, والموضوع لا يخص المسيحيين المصريين وحدهم. وقد كانت هناك فرق كالنساطرة تؤمن بأن المسيح نبى ولكن هذه الفرق اندثرت فى عصرنا الحالى، وإن وجد أفراد متناثرون فى العالم بين النصارى يؤمنون بذلك, ولكننا لم نتعرف إلى فرقة أو تيار واضح فى عصرنا الراهن وفى بلادنا تقول بأن المسيح رسول الله وليس ابنه.

وأريد أن أوضح ما ختمت به الرسالة السابقة، وهو ضرورة توضيح الموقف من عقيدة التثليث ورفض الإسلام لها, لأن ذلك جزء لا يتجزأ من عقيدة الإسلام، ومن القرآن الكريم، وضرورة عدم تمييع الأمور العقيدية بالقول بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا, وأن كل الأديان مقبولة عند الله.. إلخ.. إلى آخر هذا النفاق الذى يفسد عقيدتنا ولا يصون الوحدة الوطنية!! وأن عرض هذا الموقف يكون فى كل المنابر المتصلة بالدعوة الإسلامية: دروس المساجد – خطب الجمعة – كتب الأزهر والكتب الإسلامية عموما – والمحطات المتخصصة فى الإذاعة والتليفزيون – وكذلك البرامج المتخصصة, فمثلا كان بعض النصارى يحتجون على إذاعة تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد متولى الشعراوى فى التليفزيون، لأنه يتناول الآيات المتعلقة بالمسيح، وهذا تجاوز غير مقبول منهم، فهذه ليست حملة ضد المسيحيين، هذا تفسير القرآن الكريم, وما يتعلق بهذا الموضوع لا يستغرق 1 أو 2% منه، ولا يجوز أن نحذف الحلقات الخاصة بالمسيح عليه السلام، لأن فى هذا اجتراء على الله عز وجل، والتليفزيون وسيلة لتثقيف المسلمين (الذين يمثلون 94% من الشعب. وقد ورد اسم المسيح 11 مرة فى القرآن الكريم و25 مرة عيسى بن مريم ولكن الآيات المتعلقة بطبيعة المسيح وأنه رسول الله وليس الله أو ابنه أقل من ذلك) ومن المؤسف أن محطة القرآن الكريم تخضع لهذه الغوغائية، ولكن بأوامر عليا من الحكومة بطبيعة الحال، فلا تذيع تلاوة للقرآن الكريم كله بشكل متوالى، ولكن تنتقى سورا وآيات، أغلبها فى النصف الثانى من القرآن الكريم، وذلك لعدم إذاعة الآيات الخاصة بأهل الكتاب (بنى إسرائيل والنصارى), وكانت إسرائيل قد طلبت ذلك, وحصلت على موافقة حسب مذكرات السفير الإسرائيلى ساسون، ولكن يبدو أن الإذاعة تخرق هذا الالتزام أحيانا فتذيع آيات من القرآن بها بعض التعرض لبنى إسرائيل، وهذا قليل جدا لأننى أستمع لإذاعة القرآن الكريم بصورة شبه يومية، كما أننى لم أستمع مرة واحدة لآيات تتعرض لعقيدة النصارى, وهذه ذلة وصغار، فهذه عقيدتنا ويجب أن نعرضها كما هى بدون افتعال، فى المنابر المتخصصة بذلك. فهناك محطة مونت كارلو المسيحية مسموعة جيدا فى مصر منذ سنوات ولم ندعُ لإغلاقها. ولكن هذه الموضوعات لا تطرح فى الإعلام السيار العام بمعنى الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية غير المتخصصة ولا تطرح فى 99% من برامج الإذاعة والتليفزيون ولا فى الندوات العامة والمؤتمرات الجماهيرية. لأن هذا ليس مكانها، وطرحها فى هذه المنابر غير مفيد؛ كما أننا لسنا فى حملة ضد عقائد النصارى، لأننا لا نخشى على عقيدتنا منها. ولكننا نخشى من أفكار التغريب، والنزعات المادية والاستهلاكية الغربية وموالاة أعداء الله (الحلف الصهيونى الأمريكى) كما قال رسول الله فى خطبة الوداع أنه لا يخشى علينا من الكفر ولكن يخشى علينا من الشيطان.

سيقولون كيف تتهم المسيحيين بالكفر ثم تتعامل معهم كمواطنين؟

أولا: العقيدة تعلو على أى شىء, ورابطة الإيمان بالله تعلو أية رابطة أخرى.

ثانيا: مسألة الكفر مسألة نظرية وليست مقدمة لإعلان حرب أو قتل وإبادة كما يروج بعض العلمانيين، ووصف الكفر هو بالأساس تحذير من عواقب يوم القيامة والله هو الذى يحكم بيننا يوم القيامة، ولكننا لن نحاكم أو نعاقب أحدا على عقائده فى الدنيا.

ثالثا: إن المشكلة مع أى فرد أو فئة أو طائفة تبدأ فحسب فى حالة التعاون مع الأعداء، وإظهار العداء للدولة الإسلامية، وهذه الأفعال هى التى تجرم، ولا توجد فى الإسلام عقوبة على أى إنسان لأنه يهودى أو نصرانى أو صاحب أى فكر مخالف.

رابعا: إن العقيدة المسيحية لا تعترف بالديانة الإسلامية وهى ترى أن القول بأن المسيح إنسان كفر، ولكن العقلاء منهم لا يرون فى ذلك تعارض مع الإخوة فى الوطن أو الإنسانية. فالكفر ليس سُبة، ولكنه موقف فكرى, ولكنها أصبحت كلمة مؤذية لأنها تحمل معنى الإدانة، ولذلك ففى التعاملات الإنسانية (والإعلامية والكتابة فى الصحف والإعلام السيار)، لن يقول المصرى المسلم لأخيه المسيحى: صباح الخير أيها الكافر. فيرد المسيحى صباح النور أيها الكافر المسلم!! وهذا معنى الآية الكريمة: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125), وحديث رسول الله مع المشركين فى مكة نموذج أدبى وحى وممتع فى آن، فهو لا يتنازل عن عقيدته قيد أنملة, ولكنه لا يؤذى مشاعرهم, يدعوهم إلى لا إله إلا الله فحسب, فإن غضبوا من ذلك فهذا شأنهم، ولكنه لم يجرح مشاعرهم ويرميهم بالكفر والشرك والانحراف والفساد فى وجوههم، وقد يتلو عليهم بعض آيات القرآن، وهى آيات عامة لا تطعن فى أحد بصورة شخصية. ومع كل ذلك فإن لأهل الكتاب منزلة خاصة فى الإسلام, فهم فى منزلة بين منزلتين. وهذا موضوع الرسالة القادمة بإذن الله.

(53)

الوضع الخاص لأهل الكتاب فى مسألة الكفر والإيمان

رغم الخلاف العقائدى مع أهل الكتاب, ومن بينهم النصارى, إلا أنهم فى منزلة خاصة عند المسلمين وفقا للرؤية القرآنية, وهذه من الأمور التى تشير إلى أن الكفر درجات, كما أن الإيمان درجات. وأن أهل الكتاب أقرب الناس إلى فهم وقبول الإسلام من غيرهم, لأنهم يقفون مع المسلمين على أرض مشتركة, من زاوية الإيمان بوجود خالق للكون, وبأنه أرسل الرسل, ويؤمنون بالغيب, ويستندون فى معتقدهم إلى كتاب سماوى, وإن تم تحريفه يظل به شىء من حقيقته الأصلية.

ووفقا لعقائد الكنيسة الأرثوذكسية المصرية.. نجد تحريم الخمر والربا ولحم الخنزير, ونجد الالتزام بتحريم الزنا (الذى لم يعد لتحريمه وجود فى الغرب), وباقى الوصايا العشر. لذلك نجد القرآن الكريم يوجه نداءه وخطابه لأهل الكتاب يدعوهم للدخول فى الإسلام, أو على الأقل التوحد حول رؤية مشتركة أو ما نسميه فى السياسة الآن برنامج حد أدنى, وهو عدم الشرك بالله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64), وتشير هذه الدعوة إلى مسألة ألوهية المسيح, واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله, أى اعتبارهم الوساطة بين العبد وربه, واعتبارهم مرجعا للحلال والحرام دون كتب السماء. وفى إطار أهل الكتاب سنجد القرآن الكريم يفرق فى الخطاب بين النصارى واليهود, ويعتبر النصارى أقرب للمؤمنين, بينما اليهود أشد عداوة لهم, ونجد المساحة التى تتناول بنى إسرائيل أكبر كثيرا, وهى نبوءة قرآنية بالدور السلبى لهم فى حياة البشرية, وهذا ما أصبح أمامنا الآن حقيقة واقعة بعد أكثر من 14 قرنا من نزول القرآن.

ولكن أهل الكتاب يظلون أقرب للمؤمنين, ودخولهم للإسلام أسهل من غيرهم, لأنه يستوعب كل ما هو إيجابى فى عقائدهم بعد وضعه فى إطاره الصحيح, وعلى رأس ذلك بالنسبة إلى النصارى إعادة المسيح إلى طبيعته الإنسانية كرسول, وإعادة مريم إلى طبيعتها رمزا لطهارة النساء لا أما للإله!! (توجد لدينا مدرسة فى مصر اسمها أم الله – ميردى دييه mère de dieu) إن ظاهرة تحول النصارى إلى الإسلام بيسر أكثر من غيرهم ظاهرة عالمية وليست مصرية, ويخطئ قادة الكنيسة الحاليين إذا تصوروا أنهم يمكن أن يواجهوا ذلك بالتحصن الطائفى, واعتقال نساء القساوسة اللاتى يسلمن, وتهديد المتحولين إلى الإسلام, وإثارة مناخ الكراهية والادعاء باختطاف المسيحيات, ولكن ماذا عن تحول الرجال هل يتم اختطافهم أيضا؟! هذه التشنجات الطائفية، والتى ولدت مناخا ساعد على زيادة استخدام العنف إلى حد قتل الرجال المتحولين إلى الإسلام, لن يؤثر فى هذا التحول, لأن ذلك يعيد إلى الأذهان عهد الشهداء, حين كان التمسك بالعقيدة يؤدى إلى موت القبطى على يد الرومان, فالآن أصبح تمسك المسيحى المتحول إلى الإسلام بعقيدته يعرضه للاعتقال والموت, وهذا مناخ يؤدى إلى زيادة التحول إلى العقيدة الصحيحة وليس العكس. وقد مر تحول المفكر الماركسى الكبير روجيه جارودى إلى الإسلام, بمرحلة تحوله إلى المسيحية, وبمجرد الخلاص من فكرة ألوهية المسيح, يصبح النصرانى وكأنه مسلم أو فُتح الطريق أمامه ليصبح مسلما.

وبالتالى نفهم لماذا صنف القرآن الكريم أهل الكتاب, فى منزلة خاصة دون الكفار والمشركين الذين لا يؤمنون بأى دين على الإطلاق, ولم يضعهم جميعا فى سلة واحدة: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 62) وأيضا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الحج: 17). لنلحظ هنا التمييز فى التصنيف بين النصارى والذين أشركوا. مع أن النصرانى الذى يؤمن بألوهية المسيح مشرك, ولكن إجمالى عقيدته كانت فى الأصل صحيحة وانحرفت, وما تزال أصول الصحة موجودة عندهم فى الأناجيل, أما المشرك بدون تمييز فالمقصود به غير المؤمن أصلا بأى دين سماوى (بالمناسبة هذه الآية تشير إلى أن الصابئة والمجوس أصحاب ديانة سماوية تم تحريفها ولكن هذا خارج موضوعنا الآن).

فى هذا الإطار يمكن أن نفهم لماذا سمح الإسلام بالزواج من الكتابيات؟ ولماذا دعا إلى علاقة أكثر حميمية معهم: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ) (المائدة: 5) ونكرر مرة أخرى: لا توجد عداوة مع أهل الكتاب أو غيرهم بسبب الخلاف العقائدى, ولكن بسبب الظلم والعدوان: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت: 46), وقيادة الكنيسة الحالية ومن يتبعها دخلوا فى دائرة الظلم باستقوائهم بأمريكا والغرب, ومراكز قوة لا توجد عند المسلمين, فكنائسهم محصنة من أى تدخل من الدولة, بينما مساجد المسلمين مستباحة!! ثم وصل الأمر إلى حد اعتقال مسلمات فى الأديرة التى تحولت من أماكن للعبادة إلى سجون شديدة الحراسة!!

ولا يستطيع أحد فى الدولة أن يحاسبهم عن مصادر تمويلهم أو إنفاقهم, وهم يعلنون أنهم فوق أحكام القضاء. ولكن كل ذلك لا يغير من ثوابت أحكام الإسلام فى التعامل مع أهل الكتاب, ولكن كل حالة تقدر بقدرها, ولن نأخذ أى مواطن نصرانى بجريرة مواقف الكنيسة: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8).

بدأنا الحديث بأن موقف الإسلام من أهل الكتاب يؤكد حقيقة أن الإيمان والكفر درجات, وأنهما يزيدان وينقصان, وأن هذا قانون عام لكل البشر, بما فى ذلك المسلمون!! إن نطق المسلم بالشهادتين لا يعنى أنه أخذ حصانة أبدية من السقوط فى هاوية الشرك والكفر, مع التفرقة بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر, ومن يستهين بالشرك الأصغر يعرض نفسه لمخاطر الانحدار – والعياذ بالله – إلى الشرك الأكبر, وهذا موضوع إحدى الرسائل القادمة إن شاء الله.

(54)

العودة إلى الكهف!

أعتذر اليوم عن عدم مواصلة سلسلة “إعادة الاعتبار لقضية الكفر والإيمان”, فاليوم وجب الشكر علينا ما دعا لله داع, اليوم احتفال روحى واستراحة محارب وتذلل إلى الله العلى القدير, اليوم عدت إلى الكهف من جديد, فمرحبا بالكهف, اليوم وكـأننى أعود إلى الله, وكأننى – والعياذ بالله – زغت عنه وعن نوره, اليوم جاء الفرج والإفراج, من عند الله تعالى مقدر الأقدار, اليوم عدت إلى كهفى الانفرادى, بعد أن حرمت من لذته ومن لوعته, وما بى لوعة, والحمد لله. اليوم لقاء الأحبة محمد وصحبه. اليوم أقرأ القرآن وأتلوه بصوت مرتفع فأكحل عينى بكلام الله, أتفكر فى آياته بعقلى ووجدانى كله, وبكل حواسى، فكلمات الله تملأ المكان، ثم تعود فتسكن فى عظامى, فتشفى أوجاعى وكل أسقامى وما بى علة, ويتطهر جسدى من كل الأمراض, وتحلق روحى فى السموات العلا، ويشفى صدرى, وأتنفس بشفافية وهدوء ليس كالشهيق والزفير المعهودين. ثلاثة شهور وثلاثة أسابيع مضت حُرمت فيها الخلوة مع الله. واستخرت الله كثيرا حتى اطمأن قلبى فاخترت الموت (الإضراب عن الطعام) أو العودة إلى هذه الخلوة. واختار ربى لى الخلوة, أرجو أن يكون ذلك من علامات رضائه وغفرانه وعفوه وقبوله.

ثلاثة شهور وثلاثة أسابيع مضت كنت وكأنى أعبد الله خلسة، وبصوت منخفض أو صامت, وأبكى من خشيته ومحبته فى جنح الظلام بدموع صامتة. أما الآن فقد عدت من جديد أجهر بالدعوة وأنهى عهد السرية, ليكون الوقت كله لله!! سألوا أحد الحكماء: ما أصبرك على الوحدة؟ فقال: ما أنا وحدى, أنا جليس الله تعالى, إذا شئت أن يناجينى قرأت كتابه, وإذا شئت أن أناجيه صليت. وقال ذو النون المصرى: سرور المؤمن ولذته فى الخلوة بمناجاة ربه. وقال مالك بن دينار: من لم يأنس بمحادثة الله عز وجل عن محادثة المخلوقين فقد قل علمه, وعمى قلبه, وضيع عمره. ويقول الإمام أبو حامد الغزالى: إن من فوائد العزلة أن ينقطع طمع الناس عنك، وينقطع طمعك عن الناس, فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد, فإن رضا الناس غاية لا تدرك, فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى!

فعلا ما أروع العزلة ولكن ديننا وسط فى كل شىء, وهو فى هذا المجال وسط بين العزلة ومخالطة الناس. والمؤمن يحتاج فى حياته إلى العزلة, ولكن لا يمكن أن يؤدى رسالته التى استخلفه الله فيها إلا مع الناس, وأن يتحمل عناء مخالطتهم, والتى هى أيضا لا تخلو من فائدة ومتعة إن كانت فى سبيل الخير. ولأن ديننا يحرم علينا الرهبانية, فإن متعة العزلة لا تتحقق إلا فى حالة مثل حالتى, أما خارج الأسوار وخارج الكهف فيصعب جدا أن تضبط ذلك, ومن هنا تأتى أهمية العبادة فى جوف الليل, لأنها تنشئ لك كهفا مؤقتا لمدة ساعة أو ساعتين. الخلوة الحقيقية مع الله لا تحدث وحولك ضجيج من أى نوع, أو موعد تخشى أن يفوتك, أو رنين هاتف يناديك. الخلوة الحقيقية مع الله تحتاج إلى ما يسميه الصوفية (الفراغ) بمعنى الانقطاع الكلى المادى والمعنوى عما حولك لفترة من الزمن حتى لا يشغلك خبر أو حادث أو مشكلة أو طلب. المقصود بالفراغ هو خلو الذهن تماما إلا من ذكر الله وعبادته والتفكر فى ملكوته. فأنّى لك ذلك فى عصر الإنترنت والمحمول والفضائيات وما لف لفهم. ومن هنا تأتى أهمية صلاة الفجر لأن النوم قبلها يقوم بدور مسح مؤقت لشريط المخ, فعندما يستيقظ الإنسان فكأن عقله شريط جديد أو أسطوانة مدمجة جديدة بلا أى تسجيلات, فيكون الذهن صافيا لترتيل القرآن أو سماعه. وهناك حالة غير السجن أو صلاة الفجر, حالة المتقاعدين عن العمل, فبعضهم يشغل فراغه بالجلوس على المقاهى, أو جلسات النميمة أو الجلوس الدائم أمام التلفاز, فى حين أن عزلته هنا لفترات طويلة نسبيا أفضل ما يمكن أن يمضى به وقته, وهناك حالة رابعة مفترضة؛ أن تنقطع مجموعة من الشباب فى مكان معزول لمدة يوم أو يومين بلا انشغالات أو اتصالات ويتفرغوا للعبادة, ويمكن للفرد الواحد أن يفعل ذلك ولو لمرة واحدة فى الشهر.

أقول ذلك حتى لا أبدو من المحرضين على التطرف الصوفى الذى يؤدى إلى العزلة الدائمة عن المجتمع, وكما ذكرت من قبل إن الصوفية فيها ما يمكن ويجب أن نتعلمه, دون أن نسير إلى نهاية الخط مع بعض أفكار وممارسات بعض طرقها. فكل المذاهب والطرق يؤخذ منها ويرد, ومن ذلك العزلة الدائمة, فذلك مما يتعارض مع اتباع سيرة رسول الله قدوتنا وإمامنا. وهنا مكمن سعادتى, فأنا أستمتع بالخلوة والعزلة الكاملة بشكل شرعى, ولا يمكن أن يتهمنى أحد بالتطرف, لأننى مجبر عليها، ولذلك قال المجاهدون عن السجن إنه (منحة) كما يحدث فى الجامعات والمؤسسات (منحة تفرغ) لإنهاء بحث أو رسالة علمية. هى منحة وهبة من الله يحقق المؤمن فيها ما يستحيل أن يحققه بالقدر والنوعية والجودة نفسها خارج الأسوار. وكما ذكرت من قبل هذه ليست دعاية أو ترويج للسجون أو للطغاة، ولكن كشفا لسنن الله, فالرحمة فى باطن العذاب، والخير ينتزع من باطن الشر!!

وغير صحيح أن الأمام أبى حامد الغزالى كان صوفيا بالمعنى المتطرف فى العزلة إلا فى أيامه الأخيرة, وهذا كما ذكرنا طبيعى مع تقدم السن، وهذا ما ذكرناه كأحد أشكال العزلة الطبيعية. أما موقفه الفقهى فهو واضح وقاطع, فهو مع التوازن بين العزلة ومخالطة الناس. وهذا واضح فى كتابه: إحياء علوم الدين.

هأنذا أعود من جديد للتفكير العقلانى والتنظير, بينما اليوم يوم احتفال وحبور وإفراج, فقد عدت من جديد إلى الحبس الانفرادى، إلى كهفى العزيز, أو كبسولة الفضاء التى أسبح بها فى الفضاء, ولكن بدون دفع تذاكر بالملايين, وعندما تضيق المساحات حولى دائما ما أتذكر هذه الآيات: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً{1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً{2} وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً{3}) (الفتح).

(55)

مسطرة الإيمان والكفر:

لماذا قال الله لسيدنا محمد: ولا تكونن من المشركين؟!

كما ذكرنا فى الرسالة 53 إن الله هو العدل يضع الميزان القسط لكل الناس, ولا يحابى المسلمين إذا نطقوا بالشهادتين, فالإسلام لا يعرف هذا التحريف اليهودى الذى يتحدث عن شعب الله المختار, فالعمل هو الذى يفرق بين الناس, لأن العمل الصالح هو الذى يصدق صحيح الإيمان أو يكذبه, يزيد منه أو ينقص. وبالتالى فإن الداخلين فى الإسلام لا يخرجون عن القياس نفسه (المسطرة). فى المسطرة الحديثة تجد السنتيمترات على حافة والبوصات على الحافة الأخرى. مسطرة الإيمان والكفر كذلك: على حافة درجات الإيمان, وعلى الحافة الأخرى درجات الكفر, ولكن مع فارق أساسى أن تدرج الدرجات معكوس, فإذا كانت درجات الإيمان تبدأ من اليمين، فعلى الناحية الأخرى نجد درجات الشرك والكفر تبدأ من اليسار, وكل زيادة فى ناحية, نقصان من ناحية أخرى. فكلما زادت درجات الإيمان تقلصت درجات الكفر أو الشرك إلى أقصى حد, والعكس بالعكس. ولا يعنى ذلك أن معسكر المؤمنين ومعسكر الكفار مختلطان إلى درجة تفقد التمييز بين المعسكرين, ولكن يعنى أن المؤمنين لا يحسمون أمرهم فى لحظة فارقة وكفى, بل يظلوا فى اختبار دائم ما ظلوا على قيد الحياة, وأنهم سيكونون هدفا دائما للشيطان: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) هكذا قال الشيطان لله عز وجل, وأنه سيسعى للنفاذ من أية ثغرة لدفعهم إلى المعاصى. وفى المعاصى نقصان فى الإيمان, وإذا لم يتم تداركها بالتوبة فإنها تدفع إلى الكبائر, وإذا لم يتم تداركها بالتوبة, وحدث إصرار عليها, فإنها تفتح الطريق للكفر الصريح والعياذ بالله. وكل هذه المراحل موثقة فى القرآن الكريم. وهذه المسطرة العقائدية تشير إلى حافة الكفر لدرجات, فهناك الكفار الذين لا دين لهم ولا يؤمنون بوجود إله, وهناك من هو أسوأ منهم (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) أى ذلك القسم النشيط فى عدوانيته ومحاربته للإيمان, وهناك الأقل منهم درجات فى الكفر (أهل الكتاب), وهناك المنافقون, ونحن لا نوزع الدرجات على أحد, ولكننا نستشف المعايير من القرآن, أما ميزان العدل والحساب الدقيق فهو فى يد الله يوم القيامة, وليس معنى وجود درجات, أن بعض الكفار سينجو من عذاب الآخرة (جهنم) ولكننا فهمنا من القرآن أن بجهنم درجات حين قال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

ولكن أهمية مفهوم الدرجات فى الحياة الدنيا, أن الأقل عدوانية من الكفار أو غير المحاربين للدين دون أن يدخلوا فيه (كحالة بعض بنى هاشم فى صدر الدعوة) وبعض أهل الكتاب تكون فرصة تحولهم للإيمان أكبر كقاعدة عامة وإلا فإن الله يهدى من يشاء, ويمكن لأكثر غلاة أعداء الدين أن يهتدوا للإيمان فى لحظة! أما المنافقون فهم أخطر خلق الله, لأنهم مستترون ويدَّعون الإيمان ويندسون فى قلب المؤمنين, يثيرون بينهم الفتن ويخلخلون جبهتهم الداخلية, لذلك هم أخطر من الأعداء السافرين الذين تعرف كيف تتقى شرهم بسهولة وتجمع الناس ضدهم بيسر, وسنعود إلى مسألة المنافقين. ولكن دعونا الآن نستكمل ما بدأناه ونعود إلى الجانب الآخر من المسطرة (الإيمان) فهناك عدة زوايا مهمة للنظر إلى هذا الأمر وفهمه ضرورى لحسن الإيمان, وله انعكاسات عملية بالغة الأهمية, نبدأ اليوم بالفرق بين دخول الإسلام ودخول الإيمان فى القلب بشكل حقيقى, فإعلان الدخول فى الإسلام, وهو يعنى أيضا من يكتسب إسلامه بالوراثة, لا يعنى بصورة آلية أن الإيمان قد تغلغل واستقر فى القلب. فهناك لدى الداخلين فى الإسلام أو الوارثين إياه, أسباب عملية كثيرة تدعوهم لذلك: المصلحة التى قد تكون وراء ذلك, أهمية الارتباط بالأسرة والعشيرة, الرغبة فى عدم الخروج عن المألوف فى المجتمع المحيط, العادة واتباع الآباء. أما المصلحة فهى تتنوع من الرغبة فى الزواج من مسلمة مثلا, حتى تحقيق مكاسب سياسية عندما تجد معظم المجتمع قد دخل فى دين الله, أو عاد إليه بعد انقطاع, وضرورة أن تجارى التيار العام. هذه المعانى وغيرها يمكن استنباطها من الآية الكريمة: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ) (الحجرات: 14). أما علامة الإيمان الصادق فهى الجهاد بالمال والنفس, وهذه مهمة جدا لمن يعيش فى كامب ديفيد حيث يتم تحريم الجهاد!! (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات: 15), وأجمع جمهور أهل السنة على أن الإيمان أخص من الإسلام استدلالا بالآية، ونقول ذلك لا لنصيب المؤمن بالحيرة والارتباك, بل لنسلحه بالحذر خاصة وأن الحلال بين والحرام بين، وبالتالى لا يجوز للمؤمن أن يقع فى الحيرة من حقيقة إيمانه، ولكن يتعين عليه أن يراقب نفسه ويحاسبها أولا بأول, ولا يظن أن حقيقة إيمانه قد حسمت بالنطق بالشهادتين. ويؤكد ذلك أن القرآن يعلمنا مرارا فى مواضع عدة أن الإيمان يزيد وينقص، فيقول عن المجاهدين: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ) (الفتح: 4), وأيضا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) (الأنفال: 2).

لذلك يخاطب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى شخصه الكريم فيقول له: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (القصص: 87), وقبلها: (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِّلْكَافِرِينَ) (القصص: 86), ثم يختتم السورة: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) (القصص: 88)، والله يعلم مكنون فؤاد سيدنا محمد، ولكنه يوجه الخطاب إلينا من خلاله، حتى نثبت على الحق، ونتبع آياته، ونتمسك بها، وإن لم نفعل فسنكون عونا للكافرين، بل سنكون من المشركين، لذلك فإننا فى عصرنا الراهن عندما نحذر من اتباع رغبات أمريكا والصهيونية خشية الوقوع فى مصيدة الشرك، فإننا لا نكفر أحدا بقدر ما نحذر المؤمنين من السقوط فيه، أما إذا أصررنا على اتباع أمريكا وعملائها من دون الله فإننا نسقط فى مهاوى الشرك فعلا: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

(56)

نحن فى معركة متواصلة مع الشيطان.. فاحذروه!

فى الأحاديث النبوية شرح تفصيلى لمسألة مسطرة الإيمان والكفر التى تحدثت عنها فى الرسالة السابقة، والتى تدعو المؤمن للحذر الدائم، فهو يجب أن يدرك أنه فى معركة مستمرة صامتة أو صاخبة مع الشيطان ليأمن على إيمانه، ذلك أن دخول الجنة فوز عظيم دونه المشقة والبذل، إنها سلعة الله الغالية التى يتعين أن ننفق الكثير للحصول عيها. وقد كان عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه أكثر الناس حذرا من النار، رغم أنه كان أكثر الناس تقوى وإيمانا واستقامة. حتى قالت عنه زوجته إنه كان يتصرف فى حياته خاصة بعد توليه الحكم، ويعمل وهو يحذر جهنم, وكأن النار لم تخلق إلا له!!

ومن أهم الأحاديث فى مجال مسطرة الإيمان والكفر (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن).

وهذا يعنى أن مرتكب الكبيرة أثناء ارتكابه إياها فإنه يخرج عن الإيمان. لأنه يعلم أنه يعصى أهم أوامر الله، ويقبل على ما نهى عنه، ففى حياتنا عندما نرى المرءوس يكسر أوامر رئيسه علنا أو سرا فنحن نعتبر ذلك عدم احترام وتقدير للرئيس، فكيف مع الله؟!

وفى رواية أخرى أضيف (ولا يُغلُّ أحدكم حين يُغلُّ وهو مؤمن فإياكم إياكم), ومن الواضح أننا أمام أمثلة يمكن أن نقيس عليها, فنقول: لا يظلم الظالم حين يظلم وهو مؤمن ولا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن.. وهكذا, والمقصود هنا أن الشيطان قد استولى عليه بصورة مؤقتة خلال إعداده وتنفيذه الجريمة. فإما أن يدرك المؤمن ذلك فيرتدع ويتراجع بالتوبة النصوحة, أو يظل سادرا فى غيه, فإذا ظل مصرا ومستمرا على الكبائر فإنه يفقد صلته بالإيمان الحق ويدخل فى عداد أهل النار (أى الكفار). ورغم أن التوبة يمكن استنتاجها من معرفتنا بعموم القرآن والسنة، إلا أن هناك رواية أخرى للحديث تؤكد ذلك بإضافة (والتوبة معروضة بعد).

وقد انشغل الفقهاء فى أزمنة سابقة بهذا الموضوع حتى كتبوا فيه المجلدات (هل مرتكب الكبيرة كافر؟) ولو أنهم اقتصروا على القرآن والسنة ما انشغلوا بهذه القضية إلى هذا الحد، لأن هذا الموضوع من أصول الإيمان, وما كان للقرآن والسنة ألا يحددان فيه القول الفصل. وقد حسمت سورة الفرقان هذا الأمر: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً{68} يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً{69}), وقد جاءت هذه الآية فى إطار سلسلة من صفات المؤمنين، وأشارت إلى أن هذه الأعمال الثلاثة تخرج من الإيمان، (1) الشرك بالله, والأمر لا يقتصر على عبادة الأوثان، فالتبعية للطاغوت الذى لا يحكم بما أنزل الله، واتباع الحاكم الذى لا يقيم للقرآن ولا السنة وزنا، هو أبرز أشكال الشرك المعاصر. (2) قتل النفس بغير حق. (3) الزنا.

وهذه الأعمال تؤدى إلى الخلود فى النار (وهو مكان الكفار) بل يضاعف لهم العذاب. إلا أن الطرف الآخر من المعادلة يأتى فورا: (إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{70} وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً{71}). فالتوبة تمحو هذه السيئات وتثبت الحسنات بدلا منها, وذلك مقترن بالتوبة النصوح التى تنعكس فى العمل الصالح والاستقامة الفعلية, ولا تكون توبة باللسان. وسنجد أن المؤمنين بأعداد غير قليلة يقعون فى هذه المصائب الثلاث، خاصة المصيبة الأولى التى تضرب حقيقة التوحيد فى مقتل، وهى التسليم والاتباع لغير ما أنزل الله لمجرد الخوف من الحاكم وبطشه، أو بطش القوة العظمى التى خلفه, وهذه المصيبة تكون جماعية غالبا. بمعنى أن المجتمع يتعرض لها ككل، لذلك لابد من حلها بصورة جماعية بإعلان الكفر بالطاغوت كمقدمة لإزاحته (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ) (البقرة: 56), وهذه كبيرة الكبائر لأنها تتعلق مباشرة بحقيقة الإيمان وجوهره (التوحيد).

هذه الآيات القاطعة فى دلالتها توضح أن الكفر والإيمان يصطرعان دائما, ولا يوجد بينهما سور عظيم, الأمر الذى يستدعى ويفرض يقظة المؤمن. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشرك أقرب إليك من شراك نعلك), وفى كثير من الأحاديث تحذير للمؤمنين من السقوط فى مهاوى الكفر: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) – (لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) – (اثنتان فى الناس من هما بهما كفر: الطعن فى النسب والنياحة على الميت) – (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) – (لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كِبر) – (من يحمل علينا السلاح فليس منا) – (من غشنا فليس منا) – (لا يدخل الجنة نمام) من النميمة – (لا يدخل الجنة قتَّات) أى ذلك الذى يرفع إلى السلطان أقوال وأحاديث، وهو عمل المخبرين والبصاصين – (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وفى رواية أخرى أضيف (شيخ زان، وملك كذاب). وهناك أحاديث عديدة عن كفر المنتحر ومنها (من قتل نفسه بشىء عذب به يوم القيامة). ويحدثنا رسول الله عن فتن قادمة حديثا تقشعر له الأبدان لأنه يكاد يصف أحوالنا الراهنة (يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا, أو يمسى مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا). فنحن نرى الآن من الناس من يصلى حتى تعلو جبهته علامة الصلاة، ولكنك إذا دعوته إلى جهاد، أو أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فر منك فرار السليم من الأجرب.

فى أحد الأماكن العامة التقيت شابا ذا لحية وعلامة صلاة وأسلوب مهذب فى المعاملة، وفى إحدى المرات أعطيته أحد كتبى، ولكن بعد دقائق أعاده إلىّ، وقال إنك تهاجم الحاكم، بينما نحن إذا كان لنا دعوة مقبولة واحدة من الله لدعونا للحاكم. قلت له: فهل أنت خائف من أخذ وقراءة الكتاب. فقال لى بصراحة: نعم!! أعرف وزراء ومسئولين وقادة أمنيين يصلون بانتظام ويؤدون فريضة الحج ويصومون رمضان، ولا أعرف ما علاقة هذه العبادة بما ينفذونه من تعليمات وأوامر وسياسات!! (مصدر الأحاديث: البخارى ومسلم).

(57)

نصير الحق

نصير الحق وكأنه يمشى وحيدا تنهال عليه الصخور من كل مكان، ومن كثرة ما يصيبه لا يعد مطمعا لأحد أن يسير معه، وتفر الناس منه فرارهم من الأسد. يمشى وحيدا، يحيا وحيدا، وأحيانا يموت وحيدا، ويبعث وحيدا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبى ذر الغفارى رضى الله عنه (رحم الله أبا ذر يعيش وحيدا، ويموت وحيدا، ويبعث وحيدا)، وقد صدقت فيه نبوءة رسول الله، قاوم انحراف بنى أمية وحيدا، وتم نفيه فى مكان قصى بجزيرة العرب، وحين مات لم تكن معه إلا زوجته، فأوقفت قافلة تمر بها، كى يساعدها الناس فى غسله وكفنه والصلاة عليه صلاة الجنازة، وإهالة التراب عليه!! وقد قال رسول الله ما معناه إن من أحسن الناس من إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا (أى الجنود المجهولون).

نصير الحق أمره عجيب؛ يستمسك باليقين، ولكن الناس تراه يتحدث فى أمور عجيبة، وهو يحدثهم عن الآخرة، بينما هم مشغولون بترقية أو عمل له راتب أكبر، أو شقة أوسع، أو سيارة يواجهون بها غائلة المواصلات!! هو يحدثهم عن الجهاد بينما هم مشغولون بالإعداد للزواج, يتصورونه مأفونا (ضعيف الرأى)، هو يحدثهم عما ورد فى القرآن والسنة، فيقولون: هذا مسكين.. والظروف الحالية لا تسمح بتطبيقها، وأين نحن من عهد الصحابة؟ وعندما يصيبه مكروه يقولون له: ألم نقل لك إنك تضيع حياتك سدى.. لماذا لا تلتفت لعيالك وشئونك الخاصة وتعيش حياتك فى هدوء!

لذلك كان الحسين رضى الله عنه على حق حين قال: (إن الدنيا تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها واستمرئت حتى لم يبق منها إلا كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه. ليرغب المؤمن فى لقاء الله، إنى لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ندما).

هكذا قال الحسين وهو يواجه الاستشهاد، والدنيا تدور دورات مستمرة، حتى كأن الحسين يحدثنا عن أحوالنا الراهنة.

إن أكبر تحد يواجه نصير الحق أن انفضاض الناس عنه عمليا وإن كانت معه قلبيا، وقلة أنصاره ومريديه، تجعله يتشكك فى صحة مواقفه أو طرائقه، لذلك دعا الله سبحانه وتعالى محمدا للصبر: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: 49), (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (القلم: 48), وربما أشرت من قبل إلى هذه الآية, وقصة سيدنا يونس التى جاءت فى القرآن مثلا؛ فقد ضاق صدر يونس بعناد قومه, فخرج من بلده غاضبا منهم هائما على وجهه، حتى ركب سفينة وسقط منها فالتقمه الحوت، ولكن الله تاب عليه وأعاده إلى قومه حيث حققت دعوته نجاحا (مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات: 147).

ونصير الحق من غير الأنبياء معرض لهذه المشكلة بصورة أكبر, فهو لا يضيق صدره بقومه فحسب, بل قد يتشكك فى لحظات فى صحة أساليبه وطرائقه، ويتشكك أساسا من إمكانية النصر! ولعل هذه الفكرة وراء هذا الزخم الكبير من الكتب والدراسات السطحية التى تملأ الأسواق عن اقتراب الساعة وظهور علاماتها، فهذه الكتب تدخل فى روع الناس أن القيامة أصبحت قاب قوسين أو أدنى, والترويج لهذه الفكرة خاطئ بنص القرآن:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِى عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (الأعراف: 187), وهذه الدعوات السطحية تدفع الناس إذا اقتنعوا بها لعدم الاهتمام بإصلاح الدنيا، فأنت إذا قلت إن غدا ستنفجر الزلازل والبراكين فمن سينشغل ببناء بيت!! وإن أخذنا هذه الدعوات بحسن نية فإنها ستؤدى على الأقل إلى حالة من الانكماش الذاتى، فإذا كانت الساعة قد اقتربت جدا فإن العمل المناسب هو الجلوس فى البيت للعبادة وتلاوة القرآن, وعدم الانشغال بأمور عرضية كإقامة العدل ومقاومة الظلم والدفاع عن بيضة الإسلام ورد المعتدين عن أراضيه.

ولكن نصير الحق الأصيل لا يتأثر من كل هذه الأجواء المحيطة, ولكنه يحزن لأحوال أمته وعدم قدرته وحده وقلة من معه على التغيير. ولذلك قال جمال الدين الأفغانى (يندر فى أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها ومجدها إليها), وأضاف: (وإن كان المتشبهون بهم كثيرين!!) وهم منافقو السياسة فى عصرنا الراهن.

سعيد بن المسيب نموذج آخر لنصير الحق الوحيد، وهو فقيه وعلامة التابعين، فعندما طلب منه عبد الملك بن مروان مبايعة ابنه لولاية العهد، رد عليه: (إن كنت تريد أن تبايع لابنك فاخلعها من عنقك واعتزل هذا الأمر فإن هاهنا (بالمدينة) من هو أولى بها منك ومن ابنك), وقال لمن حوله: (يريد أن يجعلها هرقلية)!

فقام والى المدينة بتأديبه فجرده من ثيابه وجلده، ثم حلق رأسه ولحيته وألبسه ثيابا رثة وطاف به فى الأسواق. وخسر عبد الملك من ذلك وأنب الوالى على خطئه: (والله ما أحسنت! لا أنت قتلته فأرحت منه، ولا أنت تركته فأخذته. ولكنك ضربته فشهرته)!

ومع ذلك لم تثر المدينة من أجله، ولا قامت حركة تطالب بعزل هذا الحكم الهرقلى غير الشرعى.

ولكن حكام أمس أفضل من حكام اليوم, فقد حاول عبد الملك إصلاح الأمر بطلب تزويج ابنة ابن المسيب لولى العهد الوليد بن عبد الملك، كوسيلة لاسترضائه وأخذ مبايعته بطريقة أخرى. ولكن ابن المسيب رغم فقره رفض “شرف” هذه المصاهرة ولم يبع موقفه، وتجنبا للحرج سارع بتزويج ابنته من أحد تلامذته الفقراء.

والخلاصة أن زمن الإصلاح والتغيير لا يأتى إلا عندما لا يصبح نصير الحق وحيدا!

(58)

الفرائض قبل النوافل

إذا تحدثنا عن الاستزادة من الإيمان, فإن أول ما يطرأ على ذهن السامع هو الاستزادة من النوافل, لأن هذا هو الذى يردده كثير من الدعاة المسموح لهم بالوصول إلى الناس عبر المساجد أو القنوات الفضائية أو الصحف السيارة. ولا شك أن النوافل إحدى وسائل المؤمن للتقرب إلى الله، ورفع درجات إيمانه على مسطرة الإيمان، وما يشعر به من حلاوة الإيمان من خلال ذلك، ولكن النوافل لا تسبق الفرائض، والفرائض لا تنحصر فى الصلوات الخمس وصيام رمضان وغيرها من الأركان الخمسة, فالعمل الصالح وعلى رأسه الجهاد من الفرائض التى لا يصح إسلام المؤمن إلا بها, وهو جزء لا يتجزأ من بطاقة أو استمارة دخول الجنة بنص القرآن الكريم.

ونحن نرى خلال العقود الثلاثة الماضية تزايدا كبيرا فى الصحوة الإيمانية, ولكنها تتجه أساسا إلى النوافل، فنحن نرى المصريين يقبلون على أداء العمرة بشكل متكرر، وعدد كبير منهم يصوم فى عاشوراء ويوم عرفات، ونرى إقبال الملايين على أداء صلاة القيام فى رمضان، وعلى أداء صلاة السنن طوال العام، والذى يتبادر إلى الذهن لأول وهلة أن ذلك أفضل من إضاعة الوقت فى توافه الحياة الدنيا. ولا شك أن ذلك صحيح لحد ما, ولكن المعيار الأساسى هو الالتزام بدين الله كما نزل، وكما هو فى القرآن والسنة، بحيث نأخذه متكاملا ووفقا للأولويات الواردة فيها.

دائما ما أتوقف عند هذا الحديث الشريف.. جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام فقال رسول الله: خمس صلوات فى اليوم والليلة. فقال: هل علىّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع, وصيام رمضان. فقال هل علىّ غيره؟ فقال:لا، إلا أن تطوع، وذكر له رسول الله الزكاة فقال: هل علىّ غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق (أو لئن صدق ليدخلن الجنة). صحيح أن هذا الرجل كان لا يزال فى بداية إسلامه، ولكنه إذا أخذ هذه الفرائض بجدية فسيصل إلى كل تعاليم الإسلام. فالصلاة تكون بالقرآن، ومعنى العبادة بالقرآن أن تلتزم بما تتلوه أو تسمعه فى حياتك كلها، وإلا تحول الأمر إلى هزل، أو مجرد رسوم لا انعكاس لها فى الواقع على العمل والسلوك. لذلك فى حديث آخر مكمل له أن رجلا وافق على ذلك، ولكنه أكثر معرفة بالإسلام، وسمع عن الجهاد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفيه من الجهاد على أن يكتفى بالصلاة والصوم والزكاة والحج، رفض رسول الله بيعته وسحب يده وقال: ألا إن سلعة الله غالية (وكررها ثلاث مرات) ألا إن سلعة الله هى الجنة.

ويفهم من الحديث الأول أن التمسك المخلص بالفرائض كاف كى يصل الإنسان لكمال الإيمان, بمعنى أن يعقل ويفقه ما يتعبد به من قرآن، حتى لا يكون كبنى إسرائيل (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا).

وحتى بالنسبة إلى تلاوة القرآن, فالقرآن يحضنا على ذلك بجوار الصلاة (اتْلُ مَا أُوحِى إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) وجاء فى الحديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له) أى أن معيار صحة الصلاة أن تسهم فى ضبط السلوك وتؤدى إلى الاستقامة. أما بالنسبة إلى تلاوة القرآن فقد عجبت من روايات تتحدث عن صحابة يقرأون القرآن كله كل يوم. فهو أمر غير مطلوب، لأن قراءة القرآن كله بقراءة متأنية تحتاج إلى 16 ساعة (حسب خبرتى الخاصة فى الاعتكاف) ومعنى ذلك أن القراءة اليومية للقرآن على مدار السنة (وليس فى الاعتكاف) تعنى ألا يوجد أى وقت لتنفيذ كل ما ورد فى القرآن الكريم من توجيهات!! لأن الوقت المتبقى يكفى بالكاد للأكل والنوم والصلاة. قال رسول الله لأحد أصحابه: (علمت أنك تجمع القرآن فى ليلة وإنى أخشى أن يطول بك العمر وأن تمل قراءته. اقرأه فى كل شهر مرة، اقرأه فى كل عشرة أيام مرة، اقرأه فى كل ثلاث مرة). أما بالنسبة إلى صيام التطوع فقد جاء صحابى إلى رسول الله وقد غاب عنه فترة والشحوب باد على وجهه وقال للرسول: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل. فقال رسول الله: لم عذبت نفسك صم رمضان وعن كل شهر يوما. قال الصحابى زدنى. قال: يومين. قال الصحابى زدنى: قال ثلاثة أيام.

ومن تأملاتى وخبرتى الخاصة فإن تلاوة القرآن الكريم إذا جرت فى حالة من الاعتكاف التام، والانقطاع عما حولك، بحيث تكون متأنية ومتعمقة، فإنها تفضى إلى البكاء الشديد حتى يشعر المرء وكأن قلبه وجسده ينفطران من شدة التأثر، ولا يستطيع المؤمن أن يتحمل ذلك 16 ساعة متواصلة، فى هذه اللحظات أتذكر الآية الكريمة: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21). ومع ذلك فإن حالة الخشوع والتصدع لدى قارئ القرآن تؤدى إلى حالة لا محدودة من السكينة والراحة النفسية والجسدية، لذلك فالعبرة بالكيف لا بالكم، فهى أعلى درجات اللذة التى قال عنها العارفون بالله إن الطغاة إذا عرفوها لجالدونا عليها!! والحمد لله أن هذه الحلاوة الإيمانية ليست شيئا ماديا يمكن أن يقتنصوه من المؤمنين، بل هى آيات بيانات فى صدور الذين أوتوا العلم.

ولكن تظل ذروة التعانق مع آيات الله. هى العمل بها بعد ذلك، وهذا هو الذوبان أو الفناء الحقيقى فى الله وبيع النفس والمال والولد, أى التضحية بكل شىء فى سبيل الله, وفى سبيل أن تكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وهذا معنى حلاوة الإيمان. قال رسول الله: (ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممن سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف فى النار).

وحب الله ورسوله ليس بالأناشيد والأشعار, ولكن بتكريس حياة المؤمن لإعلاء كلمة الله. فما أعجب من أمة تزحف بالملايين لصلاة التراويح. وتصمت عن حصار حكامها للمؤمنين فى غزة. وتقبل أن تحكم بغير ما أنزل الله، وتقبل بالظلم والعدوان والفساد، وتقبل أن تكون كلمة أمريكا وإسرائيل وعملائها هى العليا فى أهم شئون المجتمع.

ألم يقرءوا أو يسمعوا فى صلاة التراويح الآية التى تقول: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِى سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِى اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة: 24).

(59)

قانون القلة/الكثرة: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ

ذكرت فى دراسة (الرؤية الإسلامية لحزب العمل)، مسألة الكثرة فى القرآن الكريم، وأن الكثرة لم تذكر بالخير, بل وردت فى انتقادها بل ودمغها بالضلال أكثر من 90 آية. وأشهرها الآية التى تقول: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) (الأنعام: 116), وامتدحت القلة فى أكثر من 30 آية مثل: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).

ويتهرب بعض الدعاة من هذه القضية الواضحة وضوح الشمس فى القرآن، لأنها مسألة غير شعبية. فالداعية يريد أن تلتف الناس حوله، ويخشى أن هذا المعنى ينفر الناس منه أو من الدعوة، وقد يرى الداعية أن هذا المعنى قد يشيع اليأس ولا يبشر بانتصار الحق فى الدنيا. فلا يتوقف كثيرا عند هذا المعنى، بل إن أحدهم قال مرة إن هذا الكلام نوع من التهديد والوعيد! ويتهرب آخرون بطريقة أخرى بنسبة هذه الحقيقة إلى الماضى. وقد رفضنا مرارا هذا المنهج الذى يحول القرآن الكريم إلى كتاب تاريخ بينما هو كتاب هداية ويتضمن النواميس الأساسية التى تحكم الكون ومجتمعات الكرة الأرضية.

نرى فى المقابل أن التعامل المباشر مع معانى القرآن الصريحة والواضحة التى لا تحتمل رأيين فى اللغة أو التأويل، هو المنهج الذى ساعدنا على فهم واستخراج جواهر القرآن.

ونحن بعد 14 قرنا ونصف القرن نستطيع أن نؤكد أن قانون الكثرة والقلة كما ورد فى القرآن قانون اجتماعى قد عمل بدقة طوال هذه الحقب وحتى الآن، كما عمل قبل البعثة المحمدية، منذ عرفت الحياة على الأرض. ففى القصص القرآنى اختار الله لنا ما يفيدنا من التاريخ الذى يمكن أن تملأ صفحاته مجلدات لا نهائية، اختار الله لنا ما يريد أن يرشدنا به إلى أشياء محددة, ولذلك فقد قص علينا أحسن القصص!! (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) (يوسف: 3).

وبالتالى فقصة نوح مثلا هى قصة الماضى والحاضر والمستقبل. فقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح: (وَأُوحِى إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ) (هود: 36) وأوحى إليه ببناء السفينة. وبالتالى مهما كبرت هذه السفينة، فستبقى سفينة لا تحمل إلا قلة قليلة من المجتمع. وعندما نقول إنها أيضا قصة للمستقبل, فلا يعنى ذلك أن المستقبل قاتم بالضرورة، ولكننا أمام دورة حضارية متواصلة: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود: 48), فظلت الدورة مستمرة بعد إقامة مجتمع جديد كله من المؤمنين: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ) (المؤمنون: 31), وتكررت الدائرة نفسها بشكل آخر غير الطوفان (الصيحة), ثم تواصلت الدوائر: (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ) (المؤمنون: 42), وتشعر بهذه الدورة بشكل مكثف ومزلزل للنفس فى سورة الشعراء حيث تتكرر الآية الكريمة فى نهاية كل قصة من قصص الأنبياء: (إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ)، وكلما تأزمت الأمور واستحكمت الحلقات وساد الكفر على الإيمان، كان المفتاح دائما فى يد القلة المؤمنة الصابرة الصلبة، وكان نصر الله يأخذ صورة إنقاذ المؤمنين وتدمير الكافرين ومحقهم، ولكن مع مرور الأيام بدأ النصر يأخذ صورة انتصار المجاهدين المؤمنين على الكافرين, وكان ذروة هذا التحول فى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، الذى انتصر بالسنن التى يدركها البشر (دون معجزات), حتى يتسنى لمن يأتى بعده أن يحاكيه حتى فى الأساليب والطرائق. فقد كان هو خاتم المرسلين.

وسيظل قانون (القلة/الكثرة) يفعل فعله فى كل المراحل, فحتى فى ظل الدولة العادلة ستظل الفئة العارفة بالله المخلصة لدينه هى ضمان استمرار واستقرار هذه الدولة. وقانون (القلة/الكثرة) له أهميته من عدة زوايا.. فالقرآن يعلمنا ألا نربط بين الحق والكثرة، والشائع أن الناس تندفع مع الأفكار الرائجة فى وقت معين. ويخشى كل فرد على حدة أن ينعزل عن المجموع فينساق مع التيار, وهو ما يسميه علم النفس الاجتماعى الحديث (الجماعة المرجعية), وما هو إلا القانون الذى ذكره القرآن مرارا: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) (الزخرف: 22).

وفى الحوارات بين الجماعات الإسلامية فإن المنتمى للتنظيم الأكبر يحسم الحوار عادة بأنه ينتمى للتنظيم الأكبر. وهذا يعنى أنه على حق. ويتصور أصحاب التنظيم الكبير أن مهمتهم المقدسة الأولى هى الحفاظ على هذا التنظيم، فلا يواجهون الطواغيت، وليس فى هذا الموقف أى أصل من قرآن أو سنة، بل لم نسمع أصلا عن نبى كان له تنظيم كبير!! والمسألة لا تتعلق بالحجم ولكن بصحة الموقف وأداء الواجب. وعلى رأس ذلك إعلان الكفر بالطاغوت، والرسول يحذرنا من أن نكون إمعات: (لا تكن إمعة بين الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت). الحق مستقل بذاته ولا علاقة له بالعدد، ويمكن التوصل إليه بالفطرة والمنطق السليم, بالعقل والقلب معا. وإن أهم عوائق التوصل إلى الحق، أو الضباب الذى يحول دون الرؤية السليمة, هى الأهواء والمصالح الشخصية, ومصالح الجماعة أو الفئة الحاكمة. الحق قديم ومعروف وسرمدى. الحق أبلج. ولكن الانحياز له يكلف المرء كثيرا من العناء، لأنه يتعارض مع شبكة المصالح المستقرة. وأن الانسياق وراء الجماعة الكبيرة فيه دفء ومصالح نفسية واجتماعية كثيرة. والانسياق وراء الحاكم حتى وإن حكم بغير ما أنزل الله, فيه كثير من الراحة الظاهرية من كثير من المشكلات. إن مقياس عناء الدنيا، دون عناء الآخرة، أو مكاسب الدنيا دون مكاسب الآخرة هو الذى يغلب على الناس. والحق يحتاج لتجرد أو ما يسميه القرآن (التقوى)، ويحتاج لتضحية تصل إلى حد الاستشهاد.

أيها الأخ المسلم لا تقرأ هذه الآية المزلزلة وكأنها لا تخصك: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف: 106). وهذا موضوع الرسالة القادمة.

(60)

(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ)

هل قرأت هذه الآية من قبل؟!

ما أكثر الذين يحبون سورة يوسف، يحبون سماعها وقراءتها, ولكنهم عادة يتوقف اهتمامهم عند الآية (101) أى عند النهاية السعيدة، وحقا ما أجمل هذه النهاية السعيدة, إنها تمدنا بالأمل وتقول لنا مهما كانت وعورة الطريق فإن الإصرار على التمسك بجنب الله سيؤدى إلى الفلاح فى الدنيا والآخرة. ولكن هذه القصة الندية الثرية أشبه بالمادة الغذائية بين شطيرتين، بين المقدمة من الآيات 1-3 وبين الخاتمة الآيات 101-111 وهى تتضمن مجموعة مكثفة من القوانين التى تحكم حياة البشر، وأن القصص القرآنى هو وعاء لشرح وتوضيح هذه القوانين. فى الخاتمة نجد (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: 103), وهذا ما نشهده ونلمسه باليد فى عصرنا الراهن، فالإسلام رغم انتشاره الواسع ورغم أن معدلات انتشاره أكبر من معدلات أى دين آخر، إلا أن المسلمين لا يزالون أقلية لا تزيد عن ربع البشرية. وقد تعرضنا لبعض أسباب ذلك فى الرسالة السابقة (وفى دراستنا: كيف تدخل الجنة) فالإنسان ينجذب لما هو مرئى وملموس وحال عما هو غيبى ومؤجل: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) (القيامة: 20), والله لا يترك الناس سدى, بل يلح عليهم لينتبهوا لمفتاح الإيمان بالله الذى لا نراه ولكن نرى آياته: (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105), وأذكر أننى خلال حواراتى مع بعض الملحدين إنهم كانوا يتبرمون من الحديث فى الفلك وعجائب عمارة الكواكب والنجوم، رغم أننا لسنا من المتخصصين فى الفلك، ولكن الحقائق المذهلة المعروفة عن الكون والتى لا خلاف عليها تجعل الإيمان بالله أكثر اتساقا معها، من القول بأنها هكذا نشأت بقانون “الضرورة والصدفة” كما تقول المادية الجدلية، فهكذا ظهر قانون من تلقاء نفسه ينظم الكون بدقة متناهية لأن المسافات بين الكواكب وأوزانها ومحور دورانها إذا اختلفت قليلا لاصطدم بعضها ببعض، إذن فهذا القانون عاقل جدا ويعرف ماذا يفعل؟ لماذا لا نعبد هذا القانون بعد تعديل اسمه فلا يصح أن يسمى “الضرورة والصدفة”، لأن الصدف لا يمكن أن تنتظم هكذا فى كل مجال وليس فى مجال الأفلاك فحسب، ثم ندرك أن هذا القانون العاقل جدا (أو الطبيعة) لابد أن تكون مريدة وفاعلة وتعلم ماذا تصنع؟! إن هناك قوة علوية خلقت كل ذلك وتديره، هو الله عز وجل. ولكن رغم هذه الآيات فإن أكثر الناس: (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).

ولكن هناك بالتأكيد من يؤمن بالله فتقول لنا الآية التالية مباشرة: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف: 106), وأنا أعترف أننى كنت قبل سنوات مع الجمهور الذى بدأت الحديث عنه من محبى سورة يوسف, وأن أنفاسى كانت تتقطع كل مرة مع أحداثها رغم أننى أصبحت أعرفها، ولكن مجرد الوصول إلى النهاية السعيدة أشعر بالاسترخاء والسعادة فأواصل قراءة ما تبقى من آيات وكأنى أمر عليها مر السحاب. كما أن بعض التفسيرات التقليدية تحيل مثل هذه السنن القرآنية إلى أحداث مكة والمدينة فى صدر الدعوة، وتسقط عنها طابع القانون العام، رغم أنها جاءت بعد إغلاق القوس على قصة يوسف للتأكيد أنها قانون عام, وهو الأمر الذى تكرر مع قصص آخر، بل كثيرا ما ذكرت هذه القوانين بعيدا عن أية قصة محددة. إذن نحن هنا إزاء دائرتين: الدائرة الأوسع هى كل الناس وما أكثرهم – مهما بذلت معهم من قصارى جهدك لهدايتهم – بمؤمنين. أما الدائرة الأضيق فهى الإيمان بالله مع خلط ذلك بالشرك: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). ونحن لا نرفض أسباب نزول الآيات لتفسيرها, بالعكس نرى ضرورة ذلك ونعتبرها بمنزلة المذكرة التفسيرية الملحقة بالقانون، لتفسيره وشرحه وتوضيح المقصود منه والذى يهدف إليه. ولكن القانون – كما فى التشريع المعاصر – عندما يصدر يأخذ شكل القاعدة العامة المجردة وينفصل عن مذكرته التفسيرية حتى لا يظن أحد أن القانون ينظم هذه الواقعة وحدها، فى حين أنه يشير إلى معنى عام يتضمن هذه الواقعة وغيرها من الوقائع اللامتناهية التى ستحدث, وهى تتشابه مع الواقعة الأصلية (سبب النزول) فى الجوهر, ولكن ستختلف فى كثير من أشكالها وملابساتها. يقول المفسرون إن هذه الآية تشير إلى إعلان مشركى مكة أنهم يؤمنون بالله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 61), ولكنهم يشركون معه عبادة صنم أو أكثر كوساطة أو تقرب (زلفى), وهذا أحد أشكال ميل الناس لما هو مادى وملموس ومرئى حتى وإن كان حجرا لا يضر ولا ينفع فى الواقع! ولا مراء فى صحة ذلك، ولكن هذه الآية (106 من سورة يوسف) لم تشر من قريب أو بعيد إلى مشركى مكة، وإن كان موقفهم يندرج تحت قاعدتها العامة. كما أن آيات أخرى فى القرآن أشارت إلى أشكال أخرى من الشرك جرت فى عصور أخرى وبلاد أخرى. كعبادة الملوك، أو إشراكهم مع الله، وأمرنا الله بالكفر بهم حتى يصح إيماننا (الكفر بالطاغوت) أو الإيمان بأن الأنبياء أبناء الله عزير أو المسيح.

إن دور أولى الأمر من المفكرين والعلماء هو الحديث عن الكفر المعاصر وتحصين الناس ضده: وهو الشرعية الدولية والعولمة فى مجال السياسة والاقتصاد, والقضايا الاجتماعية كشئون الأسرة والمرأة والطفولة (مقررات بكين وما بعدها), ومهمة أولى الأمر كشف أشكال الشرك المعاصر حتى لا يسرى بين المؤمنين, وأن يخففوا حديثهم قليلا عن اللات والعزى!! فنحن الآن نصلى ونصوم ونحج ونزكى، ولكننا نقرأ خلال ذلك القرآن ونتعبد به، وننفذ غيره، ونلتزم بذلك حكاما ومحكومين، الحكام يفرضون والمحكومون ينصاعون، ونظم المجتمع قائمة على قوانين الشرعية الدولية، وطلبات الولايات المتحدة، وأوامر الصندوق الدولى، حتى وإن حاصرنا المسلمين وقتلناهم خارج مصر، وجوعناهم وأفقرناهم داخل مصر بل وسرطناهم حتى لا نغضب أمريكا وإسرائيل برفض بضائعهم المشبوهة والمهندسة وراثيا, فالعبادة هى بالأساس مسألة اتباع, وليست مسألة طقوس وشعائر.

فلنسأل أنفسنا: من نتبع؟!

(61)

سحرة فرعون.. قدوتنا!

فى الرسالة السابقة تحدثنا عن السنن الربانية التى جاءت فى ختام سورة يوسف من الآيات 103-111, وفى الآية الأخيرة وصف القرآن القصص الوارد فيه بعدة صفات من بينها: (وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ) وهى جملة مفتاحية تستحق التوقف والتأمل, فهى تشير إلى ما نلح عليه من أن القصص القرآنى يحتوى على كل مقاصد الشريعة: التوحيد – التشريع – الأخلاق, وتلاحظ فيه بشكل خاص السنن الاجتماعية والسياسية التى تحكم حركة البشر. وعدم التعامل مع القصص القرآنى بهذه الجدية والمنهجية يجعلنا نفقد أثمن ما فيه من إرشادات ونصائح جاءت فى صيغة قصص مشوق, وهو واقعى وحدث بالفعل, ولكن الله سبحانه وتعالى انتقى منه ما يفيدنا ويرشدنا, وما يريد أن يلفت انتباهنا إليه ويأمرنا به, أما قالب القصص فهو يجعل الأمر سهلا فى متناول الجميع مهما كانت ثقافته وعلمه, وفى دراستنا النظرية لا نفهم كثيرا من الأمور إلا عندما يقدم لنا الشارح أو الأستاذ أمثلة عملية لتوضيح المعنى النظرى المجرد. وبالتالى فإن ما ورد فى القصص هى أوامر إلهية للاقتداء وليس لمصمصة الشفاه, والتأوه على عظمة الأنبياء والمرسلين والمصلحين, ثم لنقول ما أروع هؤلاء, ثم نمضى فى طريقنا ولا نجعلهم قدوة لنا!!

وأقف اليوم عند مثل واحد (قصة إيمان سحرة فرعون) التى تكررت ثلاث مرات فى القرآن الكريم, وإذا أخذت نفسى كعينة فأنا أستمع لخطب الجمعة منذ عشرات السنين, بالإضافة إلى الدروس الدينية والبرامج الدينية, ولم أسمع ولو مرة واحدة أحد الدعاة يتعرض لهذه القصة, وعلى كثرة ما قرأت من كتب إسلامية معاصرة لم أجد أحدا يتعرض لهذه لقصة. ولا شك أن ثمة من تعرض لها أو هكذا أعتقد ولكننى قلت إننى آخذ نفسى كعينة, لأثبت أن هناك إهمالا متعمدا لشرح مغزى هذه القصة للمؤمنين. أما الإهمال والتهرب فسيعرف سببه بمراجعة هذه القصة لأنها مكلفة!

القصة التى يعرفها أى قارئ للقرآن تتعلق بالمبارزة التى حدثت بين سيدنا موسى وسحرة فرعون بعد أن استدعى فرعون سحرته من شتى أنحاء مصر ليبرهن لموسى أن الآيات التى أظهرها مجرد سحر, وأن عتاة علماء الشر من سحرة مصر الكبار سيهزمونه لأن سحرهم أعلى, فلما هزمهم موسى عليه السلام خروا سجدا (أى السحرة) وآمنوا برب العالمين. فأرتج على فرعون واغتاظ أنهم آمنوا به بدون إذنه!! فهددهم بأقصى ما يملك من عقاب, وقال لهم ما يقوله أى طاغية للمعارضة: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)! (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى)!! أى بلغة اليوم (حتعرفوا شغلكم) (وأنتم تعرفون ما الذى يمكن أن أفعله بكم), ثم حدد على الفور أنه سيعذبهم ويقتلهم إذا لم يتراجعوا عن موقفهم هذا: (لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ), أى يقطع اليد اليمنى والقدم اليسرى أو العكس, وهذه مرحلة, ثم الصلب على جذوع النخل كمرحلة ثانية من الإعدام البطىء, حتى يتعذبوا بضعة أيام ولا يموتون فورا. فماذا كان ردهم؟ كان يمكن بداهة أن يقولوا أعطنا فرصة لنفكر ولكنهم قالوا بلا تردد: (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ), بالبساطة نفسها التى يرد بها شخص على صديقه الذى يدعوه لنزهة، فيوافق فورا!!

وإذا نزعنا ملابسات القصة المرتبطة بالزمان والمكان.. إلخ, فإن المعنى المجرد للموقف هكذا:

1- إن هؤلاء السحرة كانوا بشرا عاديين, أى ليسوا بأنبياء أو مرسلين، بل كانوا من شرار الناس، من كبار العلماء بصناعة السحر الذى يسمى علم الشر. وإذا كان السحر قد اضمحل فى عصرنا (وإن لم ينته)، فإن هؤلاء السحرة يماثلون الآن سدنة أى نظام طاغوتى، من كبار الكتاب والإعلاميين وفقهاء السلطان، وكل من يبرر مشروعيته.

2- إن معرفة الحق تعنى أن يصدع المرء به فورا دون أى فاصل زمنى، وأن يعلن عن إيمانه دون فاصل زمنى أيضا، حتى وإن كان ذلك فى حضرة السلطان صاحب الهيل والهيلمان.

3- إن الانحياز للحق والإعلان عن ذلك لا علاقة له بموازين القوى، ولا بعدد المؤمنين ولا بقوتهم، ولا بوجود تنظيم كبير أو صغير، ولا بتقدير حجم العدو وقوته وآلاته القمعية, فموازيين القوى لها مجال آخر، أى فى حسابات المعارك العسكرية أو حسابات الانتفاضة الشعبية من أجل التغيير. أما الإعلان عن الحق فمطلوب فى كل وقت وأوان، بل هو مطلوب أكثر فى بداية الدعوة لأن الدعوة لن تنتصر إلا بنشر الأفكار الصحيحة.

4- إن رواد الإصلاح وقادته بالتحديد هم المطالبون بذلك حتى يتشجع الآخرون، وفى القصة ذاتها لقد أدى هذا الموقف الشجاع إلى أن يبرز رجل من ملأ فرعون كان يكتم إيمانه ويعلن انحيازه بدوره لرب موسى وهارون.

5- إن الاستشهاد قانون إجبارى لا يمكن تجنبه لمن يسعى إلى إصلاح جدى وحقيقى، (خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) حديث.

والشهيد لا يحضر لحظة النصر، ولكنه يفتح الطريق للنصر، ويساهم فيه، ويمد حركة الإصلاح والتحرير بطاقة معنوية هائلة، ولا يوجد نصر فى مواجهة سلمية أو عسكرية بدون شهداء، ولم يعرف أبدا هذا الحق الذى انتصر دون أن يكون مخضبا بدماء الشهداء وتضحيات الأسرى والمعذبين.

6- إن التهديد بالإعدام لا يجعل المؤمن تطرف له عين، ولا تجعله يتردد لحظة فى موقفه: (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ), أى نحن سائرون إلى الموت اليوم أو غدا، فلا ضير من الموت فى حد ذاته، المهم أن ننقلب إلى ربنا وقد غفر خطايانا وأدخلنا فى عباده الصالحين: (إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ).

ويروى عن الذين حضروا إعدام الشهيد سيد قطب أنه كان فى حالة عادية جدا حسب قولهم! وهذا اليقين بالحياة الآخرة وجنتها ونارها هو أساس هذا الثبات: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى), هذا ما قاله سحرة فرعون ردا على قرار الإعدام!

*****

لقد بارك القرآن هذا الموقف, ولم يقل لنا إن هؤلاء كانوا متهورين أو مجانين أو حمقى ولم يقوموا بتقدير سليم للموقف أو للحسابات (الإسلاميون تعلموا حكاية الحسابات!!)، الحسابات لها مكان آخر, أما قول الحق فليس فيه حسابات، لأن الحق لا يكون حقا إلا إذا كان كاملا دون إخفاء أى جزء منه.

(62)

من يجيرنى من الله؟!

عندما يتعرض إنسان لمخاطر فى الدنيا من شخص ذى نفوذ، فإنه يلجأ إلى شخص آخر ذى نفوذ ليحميه منه, أى يستجير به، وعندما يطغى عليك حاكم ويريد أن يفتك بك فبإمكانك أن تهرب منه وتختفى قبل أن يسجنك، وإذا أراد قتلك يمكن أن تلجأ إلى حاكم آخر وهو ما نسميه الآن اللجوء السياسى، ولكن عندما تُغضب الله سبحانه وتعالى، فمن الذى سيجيرك منه، وأين ستختفى عن أبصاره سواء فى الدنيا أو الآخرة؟!

جاء فى القرآن على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (قُلْ إِنِّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا. إِلا بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ) (الجن: 22-23). كان رسول الله يقول لمشركى مكة – كما علمه ربه – إننى لا أملك إلا إبلاغ رسالات الله مهما تكن المخاطر المحدقة بى، وليس لدى أى خيار آخر، إذ إننى إن لم أقم بذلك فلن يجيرنى أحد من الله، ولن أجد عند أى أحد ملجأ (مُلْتَحَدًا) يعصمنى من عقابه.

وهذا هو حال المصلحين من بعد رسول الله، فكثيرا ما نصحنى الناس أن أهتم بنفسى وأسرتى ولا أعرض نفسى لمكروه لأن التغيير صعب بل مستحيل، والحقيقة فإن التغيير صعب ولكنه ليس مستحيلا! وعندما نعرض على الناس المشاركة فى جهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة) فإنهم يزورون عنك، ويقولون من الأفضل أن نمشى بجوار الحائط, ثم أصبحوا يقولون بل نمشى فى داخل الحائط (لا أعرف كيف؟!) حتى لا نذهب وراء الشمس ونتعرض لما لا يحمد عقباه. وكما اتهم رسول الله – ومن قبله – من الرسل بالجنون كما ورد فى القرآن الكريم 11 مرة، فهذه هى التهمة الجاهزة لكل من ينطق بالحق، ليس من زاوية أنه يقول إنه يأتيه وحى من السماء، فالمصلحون لا يقولون ذلك ويعلمون قبل غيرهم أن وحى السماء قد انقطع، وأن النبوة قد انتهت، ولكن الوحى الأخير مسجل فى القرآن الكريم كدليل ومرشد إلى آخر الزمان، ولابد لأحد أن يحمله وأن ينشره وأن يدافع عنه حتى وإن ضحى بحياته فى سبيل ذلك، ولكن تهمة الجنون تأتى من زاوية أخرى: إنه يطلب المستحيل ولن ينال شيئا إلا التنكيل والاضطهاد، وأن الناس لن تستجيب له، ولن يجيره أحد من ظلم الحاكم، وأنه عندما يسجن سيتذكره الناس كل عدة أسابيع أو عدة شهور ويقولون (إنه راجل طيب) وعندما يستشهد أيضا سيقولون (كان يعيش بيننا رجل طيب).

وأنا أقول فى المقابل إن العكس هو الصحيح، فإن الذى يوسوس لك من شياطين الإنس والجن، أو من أقرب الناس إليك كالوالدين والأصدقاء، بألا تتورط فى مصيبة (الجهاد) هو الذى يعرضك لخطر النفى وراء الشمس فى الدنيا والآخرة، فتعيش بعذاب الضمير (إن كنت مؤمنا بالله) لأنك تخليت عن الحق، وأصابتك حالة من ازدواج الشخصية، فتصلى بالقرآن ولا تلتزم بتوجيهاته، وتموت من الخوف والجبن كل ساعة وكل دقيقة، أما فى الآخرة فلست بمنأى عن العذاب بنصوص قاطعه عديدة فى القرآن الكريم.

إن نطق الشهادتين ليس لعبة، وليس تحايلا على الله، فالإيمان بالله لا يتجزأ عن العمل بأوامره والانتهاء عن نواهيه. فليس الرسول وحده هو الذى لا يجد ملجأ من دون الله إن هو لم يبلغ رسالاته، فكل أتباع الرسول ملزمون بالقاعدة ذاتها، وإلا لتحول الإيمان إلى نوع من الهزل: (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا) (التوبة: 39), فالذى يدعوك للجهاد هو الذى يحبك ويحنو عليك أكثر من أمك وأبيك إن كانا يحذرانك من الجهاد، فلا تستمع إليهما، أى لا تطعهما فى ذلك، وحاول أن تقنعهما فإن لم تستطع: (فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَاب َإِلَى ثُمَّ إِلَى مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15), أما الذى يحذرك من الجهاد فهو الذى يوردك مورد التهلكة. وفى حياة الجهاد لن تكون الدنيا عذابا كلها كما تتصور، فراحة الضمير وسكينة القلب التى ستشعر بها لا تقدر بمال، كما أن الله رحيم بعباده المؤمنين فيخفف عنهم فى مسيرتهم: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6}) (الشرح).

بل إن رحمة الله يستظل بها الكافر والمعاند والمنافق حتى حين. فهم يتمتعون بكل متاع الحياة الدنيا. وقد يكون نصيبك فى معترك الجهاد ابتلاءات أكثر من غيرك، فقد يطول سجنك، وقد يقصر عمرك كسحرة فرعون. وكل الأعمار محددة سلفا, وهكذا يعرف كل مؤمن بالله، وبالتالى فإن هذا الإيمان لا يستقيم مع الخوف من الموت، وليس الموت وحده المكتوب، بل كل ما يجرى من تفاصيل الحياة, بل كل ما يجرى فى الكون بأسره. وفى هذه الحالة – أى إذا كنت صاحب ابتلاءات أكبر – فهذا سيرفع درجاتك عند الله، وستكون سكينتك الروحية أكبر، وستنعم بأوكازيون تكفير الذنوب, وهذا هو المطمع الأكبر لأى مؤمن. كما أنك تشترى الخلود فى الجنة (بـ 10 أو 20 أو 30 سنة من المعاناة) فهذه فرصة العمر فكيف تضيعها؟! (راجع كتاب: كيف تدخل الجنة؟). يكفى ما أشار إليه القرآن الكريم عن لحظة النفخ فى الصور يوم القيامة، إنها لحظة رهيبة كما قال الله عز وجل: (وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ) (النمل: 87), واقرأ هنا: (إِلا مَن شَاء اللَّهُ), ألا تريد أن تكون منهم؟! وأيضا وصف القرآن هذه اللحظة بالفزع الأكبر: (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ) (الأنبياء: 103).

إذن هذه هى الصفقة الرابحة التى يجب أن نتقاتل عليها، وصفقة الهروب من الجهاد هى الصفقة الخاسرة. سمعت أن محلات ماركس آند سبنسر ستفتح قريبا فى القاهرة، وتصورت الحشود التى ستزحف عليها، وليس من السهل أن تجد هذه الحشود إذا دعوت لعمل جهادى!! وعندما يدرك المؤمنون خاصة الشباب ما ورد فى القرآن عن الجهاد والجنة والعلاقة بينهما، فإنهم سيتقاطرون ويزدحمون على مراكز الجهاد والأعمال الجهادية بأكثر من ازدحامهم على ماركس آند سبنسر أو سيتى ستارز، وكل المولات!! أما القابضون على الجمر من المجاهدين فهم سائرون فى طريقهم, لأنهم تفكروا جيدا فلم يجدوا من دون الله ملتحدا!!.

(63)

لن تقوم الوحدة الوطنية على أساس إلغاء الإسلام

مذبحة الإسكندرية الإجرامية التى راح ضحيتها 22 من إخوة الوطن المسيحيين الأبرياء وأصيب فيها ثمانون معظمهم من المسيحيين فى التفجير المجهول – حتى الآن – الذى جرى فى كنيسة القديسين بالإسكندرية أول أيام العام 2011، هذه المذبحة لا تحتاج لمجهود للبرهنة على حرمة ذلك فى الإسلام، وهذا العمل إذا كان قام به من ينتمون للإسلام، فقد أساءوا للإسلام وأضروه، وأساءوا للمسلمين، كما أن نتائجه سلبية بشدة على الصعيد الوطنى، وعلى صعيد المعالجة الرشيدة للفتنة الطائفية القائمة بالفعل, بل لقد استغلت للإعلاء من الشأن الطائفى، وأتاحت الفرصة لعلو صوت المنادين بالعلمانية، والتى يسمونها “الدولة المدنية”, والدولة المدنية قد تعنى الدولة العلمانية والملحدة، التى تريد أن تحول الإسلام إلى مجرد علاقة بين المسلم وربه دون باقى شئون المجتمع، فى حين يرفع الإسلاميون الذين يعرفون الإسلام بحقيقته، شعار الدولة المدنية فى إطار الإسلام، بمعنى أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية التى عرفها الغرب فى عصوره الوسطى، حيث تم تأليه الحاكم أو البابا باعتبارهما ظل الله على الأرض، أو الممثلين الشرعيين الوحيدين لله على الأرض، بحيث من يعارضهما يستحق القتل بعد اتهامه بالتجديف والكفر. وأقول الحاكم والبابا لأن البابا مارس الحكم أحيانا بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى أوروبا فى هذه العصور المظلمة.

أما الحاكم فى الدولة الإسلامية المدنية، فهو ليس مقدسا, ويمكن الاختلاف معه وعزله عند الضرورة إذا خرج عن المشروعية الإسلامية أو انحرف أو فسد أو فسق أو خان أو استبد واستكبر. والدولة الإسلامية المدنية تعترف بالمواطنة الكاملة لغير المسلمين كما شرحنا ذلك فى أماكن أخرى (راجع الحلقة 16 من دراسة: الرؤية الإسلامية لحزب العمل).

وعندما نقول إن مرتكب جريمة الإسكندرية – إن كان مسلما – قد وقع فى الحرام، فقد رأينا دائما أن الحرام يتواكب مع الإضرار بالناس وبالمجتمع الإسلامى، فكل ما أحله الله هو لمصلحة المسلمين والبشر, وكل ما حرمه الله يضر بهم جميعا، إذا أعملنا المناقشة العقلية فى كل منهما، فلا تعارض بين النقل والعقل، كما برهنت تجارب البشر فى المجتمعات قاطبة.

لقد حذرنا مرارا فى الآونة الأخيرة من أن الفتنة الطائفية قد أصبحت خطرا ماثلا وليس متوقعا (راجع دراستى فى منبر الشرق منذ عدة شهور), وذكرنا أن المستقبل القريب يحمل فى طياته المزيد من التصعيد الذى يمكن أن يخرج عن حدود السيطرة، إن لم ينتبه العقلاء من الطرفين إلى ضرورة كبح جماح الأزمة، ثم مواجهتها بصراحة وموضوعية بعيدا عن المداهنة والمنافقة المتبادلة من الأطراف والمؤسسات الرسمية على الجانبين.

وحتى وإن كان مرتكب هذا الحادث من خارج البلاد، فقد تحرك واخترق على أساس وجود مشكلة طائفية ملتهبة بالفعل، فزادها التهابا. وقد دعونا إلى لجنة حكماء من رموز المسلمين والمسيحيين للقيام بهذه المهمة، بعيدا عن قيادات النظام والكنيسة لأنهما هما اللذان خلقا الأزمة وزاداها تعقيدا. وذكرنا أن المهمة الملحة لهذه اللجنة التوصل لحل للمشكلات المتفجرة (الأسيرات فى الكنيسة حتى وإن كن عدن من الإسلام للمسيحية فهن من مواطنى الدولة، بل إن الاستمرار فى إخفائهن يرجح الروايات المتواترة أنهن أسلمن بالفعل، ثم مشكلة بناء الكنائس), ثم تتوالى معالجة الأمور الأخرى. ولا شك أن تشكيل اللجنة الشعبية هذه لن يكون سهلا نظرا إلى صعوبة التوصل إلى رموز مسيحية معتدلة ذات نفوذ أدبى خارج إطار القيادات الكنسية، تقبل بهذه المهمة، ولكن ليس أمامنا من سبيل إلا ذلك، حتى إذا تعذر ذلك فيمكن أن تشارك بعض القيادات الكنسية، لأن موقفنا سيظل الحوار ثم الحوار ثم الحوار. أما إذا رفض الطرف الآخر ذلك فسيكون هو المتعنت أمام الرأى العام.

أما الصعوبة التالية فهى تحديد الخطوط العريضة التى ستعمل فى إطارها هذه اللجنة وهى من وجهة نظرنا لابد أن ترتكز على التالى:

1- أن مصر دولة إسلامية، وستظل دولة إسلامية، بنص الدستور وبغير نص الدستور (أى حتى إذا أقدم نظام على إلغاء المادة الثانية من الدستور), فإسلامية مصر حقيقة تاريخية وسياسية راسخة، أى أننا أمام مشروعية تاريخية ثابتة، وليس نصا فى الدستور. وأمام مشروعية وطنية تاريخية ترسخت عبر أكثر من 14 قرنا، وليست بنت أمس أو اليوم، وليست بنت هذه الجماعة أو تلك، هذا الحزب أو ذاك.

2- أن الإسلام يعطى حقوقا كاملة للأقليات الدينية، أكثر من أى نظام آخر بما فى ذلك النظم الغربية. وأن النظام الإسلامى هو أول نظام يخترع المواطنة بحيث لم يعد يشترط الدخول فى الدين الرسمى كما كان الحال فى العالم بأسره قبل الإسلام، حتى قيل (الناس على دين ملوكهم) – راجع التفاصيل فى الدراستين المشار إليهما – وأن مواقع محدودة للغاية فى بنية الدولة يتعين أن يتولاها من يفهم ويؤمن بالشريعة الإسلامية هى وحدها القاصرة على المسلمين.

3- وبالتالى فإن أى تمييز ضد المسيحيين فى مناصب الدولة والمجالس التشريعية والمحلية وغيرها من هيئات الدولة مرفوض إسلاميا، فأهل الكتاب يتمتعون بما نسميه الجنسية الإسلامية السياسية، ونحن نتحدث عن النموذج الإسلامى لا وضع الدولة الحالى، فالنظام الإسلامى الكامل أكثر إنصافا لأهل الكتاب من النظام الراهن.

4- أن المسيحى المتدين يكون أقرب للمسلمين وشريعتهم، من شريعة الغرب التى لا تعترف عمليا بأى دين، ولا تحترم أية قيمة من قيم المسيحية الواردة فى الإنجيل, والمسيحية فى الغرب مجرد حلية كوضع الصليب على أعلام الدول الأوروبية بينما قوانين هذه الدول تبيح كل المحرمات الواردة فى الإنجيل.

5- إن الوحدة الوطنية لن تقوم على أساس إلغاء الإسلام!! أو شريعته، بل إن مطالبة بعض المسيحيين بذلك علنا، هو نوع من الخروج عن كل الخطوط الحمراء للسلم الأهلى، فالأغلبية لن تلغى عقيدتها (وهى 94% ويقال 90%) لوجود 6% أو 10% على دين آخر، كما أن العقيدة الإسلامية لا تنتقص شيئا من عقيدة الآخرين ولا تحجر عليهم، فلماذا هذا الاستئساد على عقيدة الأغلبية بسبب ضعف الدولة؟!

(64)

الإسلام لا يعرف القتل على الهوية..

والمسيح لم يدعُ إلى استخدام المولوتوف!

بعد مذبحة الإسكندرية فى 1/ 1/2011 التى راح ضحيتها عشرات المسيحيين بين قتيل وجريح، وبينما الحيرة تنتاب التحقيقات حول الفاعلين وهل هم من مصر أم من باكستان؟! قام رجل معلوم يعمل بالشرطة المصرية بقتل مسيحى كبير فى السن (70 سنة) وإصابة خمسة آخرين من العائلة نفسها فى قطار الصعيد بسمالوط بالمنيا، والحادث طائفى بلا شك لأن النساء المسيحيات يلبسن الصليب بشكل ظاهر وهذا يساعد بسهولة على تمييز أسرة مسيحية داخل القطار، وإطلاق النار تم بمسدس الشرطة. ويقال إنه مختل نفسيا، حتى وإن كان كذلك، فالمختل نفسيا أو عقليا لا يكون فاقدا للعقل والتمييز بنسبة 100%، فعندما ينفس عن حالته بهذه الطريقة فهذا مؤشر جديد وخطير على الحالة التى تسرى فى البلاد، وهى فتنة طائفية، أما مصطلح “احتقان طائفى” فهى كلمة لا معنى لها، لأنها تحاول تخفيف الظاهرة وكأننا لم نصل إلى الفتنة بعد. والفتنة الطائفية تعنى أن يكره صاحب دين أو مذهب معين، صاحب دين أو مذهب آخر لمجرد كونه كذلك، لا لأنه يعرفه وتوجد مشكلات معينة معه. وهى الحالة التى تؤدى إلى ما يسمى القتل على الهوية، وهى حالة مجنونة لا تمت إلى العقل السليم ولا العقيدة السليمة بصلة. وهناك أنواع من الضوارى تقتل أنواعا أخرى لمجرد القتل وليس من أجل الغذاء. ولكن حتى فى عالم الحيوان فإن هذه الظاهرة هى الاستثناء. فأغلب الضوارى لا تقتل إلا بهدف الغذاء. وحتى سمك القرش لا يقتل إلا إذا كان جائعا أو إذا تعرض للاستفزاز.

إذن الفتنة الطائفية ظاهرة غير إنسانية وغير طبيعية، وليس الحل بالحديث عن ظواهر صحية لا تزال موجودة بين الطائفتين، فيكفى أن توجد نسبة 50% فى الطرفين أو أقل قليلا أو أكثر قليلا لكى تكون هناك فتنة كاملة الأوصاف. والفتنة لكى تنجح لابد أن يشارك فيها طرفان حتى تسمى كذلك. أما ما حدث فى البوسنة والهرسك فلم يكن فتنة بل مذابح من طرف واحد (الصرب الأرثوذكس) لإبادة طرف آخر، وهذا ما يسميه البعض تطهيرا عرقيا, وهو ليس كذلك, بل هو إبادة على أساس العقيدة لأن مسلمى يوغسلافيا هم بالأساس من أهل البلد، وليسوا أتراكا مهاجرين كما زعم الصرب. كذلك فإن إبادة أهل الأندلس لم تكن على أساس العرق العربى ولكن على أساس العقيدة الإسلامية. أما فى مصر فنحن نعيش مرحلة أخف من ذلك اسمها (الفتنة الطائفية) فالإسلام لم يعرف إبادة الآخر وهذا أكبر ضمان لعدم حدوث ذلك، لم يعرف الإبادة المادية الجسدية ولا حتى الإبادة المعنوية على خلاف التاريخ القبيح للأوروبيين والأمريكيين، وهو ليس تاريخا محضا بل له ظلال على الحاضر (فى عهد كلينتون صدرت تشريعات لتخفيف التمييز ضد سكان أمريكا الأصليين: الهنود الحمر!!). والقرآن الكريم يعصمنا من ذلك: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32), ولا يوجد إعلاء لقيمة النفس الواحدة أكثر من ذلك فى أى قاموس معاصر لحقوق الإنسان!! ولن يوجد معيار أفضل من ذلك لأنه وصل إلى الذروة، وحصن النفس الواحدة حتى جعلها تعادل أرواح البشرية جمعاء. ولاحظ أن الآية تتحدث عن (النفس) أى نفس وتتحدث عن (الناس) وليس عن النفس المؤمنة أو المسلمة أو جماعة المؤمنين أو المسلمين.

إذن لماذا يوجد مسلم يقتل على الهوية؟! لأن النظام يحارب التيارات الإسلامية التى تفقه صحيح الإيمان كحزب العمل والإخوان المسلمين!! وتحتضن الدولة المؤسسات الرسمية الإسلامية التى فقدت مصداقيتها بين جماهير المسلمين، لأن قادتها تحولوا إلى موظفين يفتون فى إطار التوجيهات العامة للحكومة. ولذلك فمن الطبيعى أن يبحث الشباب عن مرجعيات أخرى لهم على الإنترنت!

كذلك فإن أجهزة الأمن احتضنت تيارات إسلامية معينة تسمى “سلفية” مع أن السلف الصالح لم يزدهروا فى حضن السلطات ولا بعيدا عن الجهاد، وفرحت بهم الحكومة لأنهم لا يتحدثون فى السياسة ويقولون إن الجهاد – حتى بالكلمة – مؤجل إلى أجل غير مسمى. وكل من يخرج منهم عن هذا الإطار يتعرض للاعتقال والمحاكم وهو ما يسميه الأمن (السلفية الجهادية). ويتحدثون الآن عن القنوات الفضائية الإسلامية وكأنها ظهرت فى غفلة من الزمن، ولم تبث من النايل سات المصرى، حتى قال المسئولون عنها إنهم فى حالة تنسيق دائم مع الأمن! فمعيار الأمن أنك مرضى عنك طالما ابتعدت عن السياسة والحكومة. وصنع الفتنة على الطرف الآخر موقف غير مسبوق للكنيسة المصرية وبعض القيادات العلمانية المسيحية، فى الهجوم المباشر على عقيدة الأغلبية، والمطالبة بإلغاء الشريعة الإسلامية وكأن حقوق الأغلبية غير منصوص عليها فى مواثيق حقوق الإنسان العالمية!! ولأول مرة منذ زمن عمرو بن العاص نقرأ مقالات فى صحف مسيحية (كوطنى) وصحف مستقلة تسخر من القرآن الكريم مباشرة ودون التفاف كالقول بأن قانون المواريث الإسلامى قد عفا عليه الزمن! وكالقول بأن التطرف الإسلامى منبعه القرآن وليس أى آراء لبعض المنظمات، وهذا بالمناسبة رأى المسيحية الصهيونية فى الولايات المتحدة. وينضم العلمانيون – من أصل إسلامى – إلى هذه الدعوات بل يطالبون الآن كل يوم بتصفية الإسلام من مناهج التعليم، وعلى ما فى هذا القول من اجتراء على دين الله، إلا أنه يتصف بالغفلة، فأين هو الإسلام فى مناهج التعليم الرسمية الآن؟! (قبل الثورة كان حفظ وتفسير ثلاثة أجزاء من القرآن الكريم من المقررات فى مدارس الحكومة!) وما قاله بيشوى ليس زلة لسان، فهذا ما يقولونه فى الكنيسة، أن المسلمين محتلون لمصر وأن القرآن محرف، وهذا ما يقال على مواقع تدار من مصر على الإنترنت وليس فى المهجر. وهناك تنظيمات واضحة المعالم الآن تحشد المظاهرات فى أى مكان وبأى عدد لا علاقة لها بالتلقائية. ولا علاقة للهتافات أو الأعمال العدوانية والعنف فى هذه المظاهرات بتعاليم المسيح وفقا لنصوص الأناجيل المعترف بها من الكنائس (أحبوا أعداءكم.. باركوا لاعنيكم ). (من ضربك على خدك الأيمن أدر له خدك الأيسر) وهى المبادئ التى انتشرت بها المسيحية، وهى ليست من علامات الضعف كما يتوهم القارئ السطحى لهذه الحكم، ولكنها علامة الواثق من عقيدته، الصابر عليها، والذى ينشرها بصموده، وبهذه المبادئ انتشرت المسيحية وهزمت العقيدة الوثنية الرومانية، وليس بالحجارة وزجاجات المولوتوف. 1

(65)

آيات الله فى تونس.. وحوار مع الله

حوار المؤمن مع الله متصل أبدا سواء كان داخل الكهف – الذى أنا فيه – أو الدنيا الواسعة, لأنه أيضا فى الدنيا الواسعة خارج الكهوف لا يغنى عن الله شىء. فإذا أردت أن تتحدث إلى الله تصلى، وإذا أردت أن يكلمك الله فاقرأ القرآن. والصلاة تنطوى على الدعاء، وأيضا قراءة القرآن كلها دعاء لله. والدعاء مخ العبادة. وهذه العلاقة الخاصة جدا مع الله هى طريق الإيمان، وهى الإيمان ذاته فى آن معا، فالمعراج إلى الله وسيلة وغاية كل مؤمن. وعندما ذهبت إلى غزة وعدت فى وضح النهار من المدخل “الشرعى”: الجوازات، لم أستبعد أننى ذاهب إلى السجن (وإن كنت لم أتوقع أن أمكث فيه عامين كاملين حتى الآن).. ولذلك فقد دخلت السجن وأنا بكامل قواى العقلية، ومع سبق الإصرار والترصد!! والله جل شأنه يعلم أننى لم أبتغ إلا سبيله، وأن ما قمت به من عمل رمزى لأهل غزة كان التزاما بأوامر الله، كذلك فى كل ما قلته وعملته من أجل تحرير مصر من الطغيان.

لذلك فإن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن عندما تجد نفسك منفردا مع الله فى أحد الكهوف، السؤال الذى تتوجه به إلى الله يكون عن حكمته فيما أصابك، وكل ما يأتى به الله خير، ولكنك تسأله عن حكمته، والإجابة تكون بآيات الله، فى القرآن، وفى الواقع. وقد مرت المناجاة مع الله بعدة مراحل خلال هذين العامين المباركين، ولكننى أبدأ بالنهاية على طريقة بعض الأفلام السينمائية ثم نعود بالكاميرا إلى الخلف بعد ذلكflash back .

كنت دائما على يقين أن حدثا كبيرا سيحدث خلال هذين العامين، وأن هذا الحدث سيكون عزاء لى، بأننى لم أضع حياتى سدى كما يتصور البعض، وبطبيعة الحال ففى حدود عقولنا القاصرة لم أكن أتوقع أو أنتظر هذا الحدث إلا فى مصر, فهى التى تعنينى فى المقام الأول، ولقد سجنت من أجل مصر قبل أن أسجن من أجل غزة, ولكن الأخبار المفرحة كانت تأتى من خارج مصر! ولا ضير فى ذلك فحب مصر مرتبط بعروبتها وإسلامها، وقضية التحرير متشابكة فى الأمة, وكل جزء من الأمة يتحرر يساهم فى تحرير باقى أطرافها فهى كالجسد الواحد. كانت الأخبار المفرحة تأتى من أفغانستان حيث الهزائم المتوالية للأمريكان وحلفائهم، ثم فى حادثة السفينة مرمرة التى راح ضحيتها 9 شهداء أتراك ولكنها كانت واقعة مفرحة، لأنها أعادت كارثة حصار غزة إلى الضوء، وأدت بالفعل إلى تخفيف الحصار نسبيا. ولكن الأخبار من مصر ظلت تتسم بالكآبة، وإن كنت لم أر أن ما جرى فى الانتخابات كارثة كما يولول البعض، بل كان تجلية للصورة، بدون خداع أو رتوش، هكذا تُحكم البلاد فإما أن نغير أو نصمت! فحماقة النظام يستفيد منها المصلحون، ومع ذلك فإن سرقة إرادة الشعب بتزوير الانتخابات لا يمكن أن تعد من الأخبار المفرحة!! ليس هذا بعد ما كنت أناجيك به يا رب العالمين، نحن – المؤمنين – نصبو إلى حدث يزلزل أركان هذا البناء الخرب الجاثم على صدور الأمة. وأخيرا قبل أن ينصرم العامان، جاء الزلزال الذى دعوت الله من أجله، حقا إنه جاء أيضا من خارج مصر، ومن آخر بلد كان يتوقع أحد أن يحدث فيه ثورة، جاء من تونس، وقد استشعرت أهميته من بوادره وكتبت حوله قبل أن يصل إلى ذروته وقلت إن ما يحدث فى تونس سيغير وجه المنطقة بما فى ذلك مصر، وعندما كان بن على ما يزال جاثما على صدر تونس وقبل أن يهرب سألت الله النصر (نسألك الصبح.. نسألك الصبح) وكانت هذه أسرع استجابة لدعوة. أعلم أن ثورة تونس قد لمست شغاف قلب كل مصرى وعربى ومسلم وكل حر فى العالم. ولكن علاقتى بثورة تونس لها مذاق خاص عندى، فمنذ 16 عاما كرست حياتى للدعوة إلى العصيان المدنى فى مصر وسائر البلاد العربية، كوسيلة وحيدة وشرعية للخلاص من الطاغوت. حقا إن كل ما دعوت له وحدث بحذافيره، حدث فى تونس وليس فى مصر!

ولكننى أؤمن – والكل يقول ذلك الآن – بترابط أحوال الأمة العربية وأن رياح التغيير إذا هبت فى أى ركن فستصل إلى باقى الأركان. لقد كنا نبشر بمعادلة رياضية، أو تجربة كيميائية، ولكنها لم تختبر فى المعمل منذ ثلاثين عاما (أى منذ ثورة إيران 1978/1979) وأصبحت الشكوك تحيط بها، فالثورات تقوم فى كل مكان إلا فى الوطن العربى! ولكننى لم أيأس قط, وكنت أقول دائما إن سنن الله تعمل فى كل مكان، ولسنا خارج نطاق عملها وسيأتى الدور علينا. لا تيأسوا.. لا تيأسوا.. ولكننى وصفت بسبب هذا الإصرار بالجنون والتطرف أو الرومانسية أو العصبية (نسبة إلى الأعصاب لا التعصب!!) أو اليأس أى أن مواقفى نابعة من اليأس!! وقال البعض الآخر إننى لست سياسيا ولا أفهم فى السياسة، وأننى أعانى من حالة نفسية (كهؤلاء المنتحرين الآن فى كل مكان) نابعة من حدة طباعى. وأكثر الناس حياء هم من اتهمونى بالرومانسية أى غير الواقعية. ويعلم الله أنه رغم هذا الأذى فإننى لم أبال به، ولكننى فى الوقت نفسه استبطأت النصر، وسألت الله كثيرا عن السبب، هل أنت غاضب على الشعب المصرى إلى هذا الحد؟! هل بلغ السوء بنا إلى هذا الحد؟ لم أشك لحظة فى عدالة الله ورحمته، ولكننى اعتبرت تأخر النصر بسبب قلة تقوانا وقلة إيماننا على شدة انتشار مظاهر التدين.. ولا أتصور أن الشعب التونسى أكثر تدينا من الشعب المصرى، ولكن نجاح الثورة هناك آية من آيات الله: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) (النمل: 51) من زاوية أخرى أكثر عمقا أن تقول إن سنن التغيير, وسقوط الطغاة ثابتة ولا تزال تعمل فلا تيأسوا، وإن الثورات كالزلازل والبراكين لا تحدث كل يوم، ولكنها تحدث حتما، وتأتيكم بغتة كما يأتى يوم القيامة. وليس بالضرورة أن يقتصر سقوط الطغاة أو يتلازم مع قيام دولة إسلامية، فسقوطهم فى حد ذاته عبرة لأولى الألباب.

أنا إذا قدر الإله مماتى الآن، فأنا أسلم الروح راضيا مرضيا، فالمعادلة الرياضية أو التجربة الكيميائية التى دعوت لها (وهى مشتقة من القرآن والسنة) قد ثبت أنها ما تزال صالحة للتشغيل كما حدث فى التاريخ القريب والبعيد، لقد نجحت التجربة، وأصبحت – بلغة الجيش – بيانا عمليا لمن شاء أن يستعين بها، وأنا أقبل بما حدث فى تونس كمكافأة لنهاية الخدمة!! رغم أننى لم أشارك فيه، ولا أحسب أن كثيرا من التونسيين قرأوا ما كتبت، ولكن أحسب أن غير قليل من المصريين قد قرأوا. وأشعر بثورة تونس وكأنها جائزة خاصة بى كى أقر عينا. فأنا فى حالة لا توصف من السكينة، وهذه نعمة من الله لا تقدر بثمن. كانت هذه نهاية الحوار مع الله خلال عامين، ولكن كيف بدأ الحوار؟!

إلى الرسالة القادمة إن شاء الله.

*****

ويأبى الله إلا أن يتم نوره:

كتبت الرسالة السابقة قبل اندلاع انتفاضة 25 يناير المباركة، فقد أبى الله عز وجل إلا أن يتم نوره وقد حدث ما كنت أتمناه وأتوقعه وأعمل من أجله، ولا أدرى كيف سيتطور الأمر ولكننى متفائل بالمستقبل القريب، ومهما حدث فالأمر المستيقن منه حتى الآن، أن الشعب المصرى قد استيقظ يقظته المتوقعة والمأمولة والتى طالما بشرت بها، ولقيت من سخرية الساخرين ما لقيت، فسبحان الله مالك كل شىء، والقادر على كل شىء. بل لقد كتبت مرارا كيف تقولون إن مصر لا تحدث فيها ثورة، وإن حكم مبارك لن ينتهى، وإذا مات الأب فسيورث الابن. كتبت أقول: كيف تقولون ذلك والله يقول عن نفسه فى القرآن كريم إنه قادر على كل شىء؟!

ونحن لا ندرى ماذا يخبئ لنا القدر بعد لحظة؟! فكنت أتصور أن جائزتى من تونس، وأن جائزتى من مصر لم تأت بعد, ولكنها أتت وبينى وبين الخروج من الكهف نحو أسبوعين. وقد يؤدى ذلك إلى تأخير الإفراج عنى، ولكنى أعلم أن أيامى فى الكهف محددة سلفا فى علم الله، فى كتاب. وأنا لا يهمنى مصيرى الخاص (إلا فى رضاء الله عنى) بقدر ما يهمنى مصير البلاد والعباد.

(66)

الحوار مع الله.. وكيف دعوت الله لحدث كبير فى مصر!

كما ذكرت فى الرسالة السابقة فإن حوارى مع الله عز وجل (دعائى) كان ممتدا على مدار العامين الماضيين، وكانت كل الظروف مهيئة لذلك، فقد كنت فى الكهف معظم الوقت، وكنت قد طلبت هذه العزلة، ولكنها جاءت أكثر مما طلبت، فلم يكن هناك إنسيا أتحدث إليه إلا لدقائق معدودة فى اليوم الواحد (حارسى)، على مدار 18 شهرا عدا أقل من ساعتين كل أسبوعين مع أسرتى، التى منَّ الله علىّ بها. حيث كان الإيمان بالله هو أيضا أهم موضوعات هذا اللقاء، والذى أصبح لقاء أسبوعيا بعد أكثر من 6 شهور. وكنت أشكو أحيانا من هذه العزلة المفرطة، ولكننى كنت أقدر ما بها من منحة إلهية، والمنحة تأتى فى طيات المحنة، ويكون لها مذاقها الخاص.

وأؤجل الصورة لبدايات هذا الدعاء (الحوار) المتصل مع الله، لأن النهايات لا تزال تفرض نفسها، وأقصد بالنهايات ما يجرى الآن فى مصر، وأما ما وصلنا إليه حتى الآن من دوران الزمن، فأنا لا أعلم إن كنت سأخرج بعد أيام من الكهف أم يريد الله بى أن أستمر فيه لبعض الوقت.

فأنا أكتب الآن وقد دخلت الانتفاضة المصرية يومها الثانى، وهى مرشحة – من وجهة نظرى – للمزيد من الاستمرار والتصاعد رغم أن السلطات قد كشرت عن أنيابها، وبدأت تعمل بأسلوب الوأد والاستئصال، الذى وصل إلى حد استشهاد سبعة متظاهرين واعتقال 500 وإصابة أعداد غير محدودة، وعمليات واسعة لتعطيل مواقع الإنترنت وحتى التليفون المحمول، وهى كلها من علامات الذعر والضعف.

وأنا لا أتعالى على أحوالى الشخصية، فلطالما دعوت ربى من أجل زوجتى وأبنائى وأحبائى, ولطالما دعوته فى مرضى الشديد الذى أقعدنى لمدة 3 أسابيع، وأصابنى بآلام مبرحة، أن يشفينى. ولكن كان معظم دعائى من أجل مصر وإصلاحها وإعادتها إلى الطريق القويم, فمصر موطننا وموطن أهلنا، ومصر ثغرنا الذى نقوم عليه، وسنسأل عنه يوم القيامة.

وكان لدى يقين فى بداية وجودى بالكهف أن مصر سيحدث بها حدث كبير خلال فترة وجودى المقدرة فيه (عامين). وبالفعل فى الشهور الأولى حدث تصاعد غير مسبوق فى تواتر الإضرابات المطلبية حتى وصل الأمر إلى قدس أقداس النظام (مبنى الإذاعة والتليفزيون) ولكن الأمر لم يتطور، وعادت وتيرة الإضرابات الاقتصادية إلى مستواها المعتاد فى الأعوام الأخيرة. وهذه الإضرابات عموما تطور كبير فى حياة البلاد، فقد بدأ المظلومون يتحدثون ويتحركون ويقاومون ولكن هذا النوع من التحرك أشبه بتحرك الكائن البدائى أو الطفل الصغير الذى بدأ ينطق ويحاول المشى، ولكنه لم يصل إلى مستوى الرشد بعد، فلابد من التحرك لمقاومة الظلم كنظام ومؤسسة عامة، وليس فى تجلياته الجزئية هنا وهناك فحسب، وعندما يضار المرء بصورة شخصية مباشرة وسافرة. فلابد للمؤمنين أن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالحمى والسهر، وقد غفل الناس فى بلادنا كثيرا عن أن مقاومة الظلم جزء لا يتجزأ من الإيمان: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْى هُمْ يَنتَصِرُونَ) (الشورى: 39), (وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) (الشعراء: 227), وبعد ذلك بشهور طويلة، جاء التزوير الفظ لانتخابات مجلس الشعب الذى وصل إلى حد المصادرة الكاملة لإرادة الناس، وقد اعتقدت وكتبت فى حينه أن ذلك من أبرز علامات النهاية، فعندما يتجبر الظالم ويظن أنه ملك الدنيا يفعل فيها ما يشاء دون أى حسابات للنواميس وعندما يقول المستكبرون “من أكثر منا قوة” فهذه من علامات النهاية.

ثم جاءت ثورة تونس فقلت لعلها هى مكافأة نهاية الخدمة، واستراحت نفسى تماما وكان لدى يقين أنها ستفتح الطريق لصحوة مصرية وعربية، وكتبت ذلك، ولكننى لم أتوقع بطبيعة الحال أن يحدث ذلك فى مصر بهذه السرعة. ولكن كما ذكرت فى الرسالة السابقة أبى الله إلا أن يتم نوره باندلاع انتفاضة فى مصر لم يسبق لها مثيل منذ عام 1977.

عودة إلى البدايات:

الدعاء (الحوار) مر بعدة مراحل، المرحلة الأولى كنت كالسباح المجهد الذى واجه الأمواج لمدة 8 سنوات متصلة (وهو الزمن الذى أمضيته خارج السجن بصورة متصلة) كنت كذلك السباح الذى وجد أخيرا جزيرة أو أرضا ساحلية فارتمى على الرمال مستريحا، يلتقط الأنفاس، شعرت براحة كبيرة أن عدت منفردا مع الله عز وجل. فى هذه المرحلة كنت كمن وصل بعد طول لأى إلى مول تجارى فيه كل الثمار والأطايب يمكن أن يأخذ أى منها بدون مقابل وبدون حد أقصى: استغفار، توبة، كفارة للذنوب، عبادة متصلة، تلاوة مستمرة للقرآن، تأمل، علم وثقافة، حفظ آيات جديدة من القرآن، الغوص فى كتب السيرة النبوية، وحياة الصحابة. كنت فى حالة من ترميم الروح والجسد.

كنت فى وضع من المفروض أن أكون ثائرا فيه، فقد كنت ممنوعا من الاتصال بالبشر، وممنوعة عنى الصحف (إلا صحف الحكومة)، وممنوعة الكتب تماما، ولكن كان معى القليل منها ثم بدأوا يحضرون لى كتبا من مكتبة السجن دون أن أذهب إليها، كنت ممنوعا من صلاة الجمعة، كانت الأقلام والورق ممنوعة، كان الشراء من كانتين السجن ممنوعا، كان التريض ممنوعا إلا فى ممر صغير، كانت خصوصية الزيارة مع الأسرة ممنوعة فكانت المباحث ضباطا ومخبرين أعضاء فى الأسرة رغم أنفنا، لا يسمعون فحسب بل يشاركون فى مناقشة شئون الأسرة! وحتى إدخال ساعة وراديو احتاج لموافقة خاصة من أمن الدولة، وتمت مصادرة رسائل أبنائى إلىّ, وفوق كل ذلك كان الحارس يتركنى لمدة ساعات طويلة، فإذا احتجت إلى شىء طارئ لا أجد أحدا يسمعنى! كل هذه الأشياء تقتضى الثورة، ولكن المساجين لم يفهموا، لماذا كنت صامتا طوال هذه الشهور التى اقتربت من ستة شهور، لماذا كنت هادئا وأنا من طبعى الثورة على الظلم وعدم البيات على الضيم، ولدى أسلحة عدة من بينها الإضراب عن الطعام. ما لم يعرفه السجانون، أنى كنت سعيدا بهذه العزلة، وأننى كنت أحتاجها لترميم الروح والجسد والتفرغ للعبادة، وصحبة الملائكة، وأن أكون بين يدى الله أسأله المغفرة وأن يتقبل جهادى فى سبيله. ولكن ماذا حدث بعد ذلك؟!

الفهرس

الموضوع الصفحة

* تقديم……………………………………………………. (1) المكان…………………………………………………. (2) وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم……………………………………. (3) استقرار الحالة النفسية.. أو السكينة……………………….. (4) سنة الابتلاء……………………………………………. (5) لا تخشَ أن تكون وحيدا!………………………………… (6) وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً……………………. (7) الوقت.. ذلك السر الرهيب!……………………………… (8) لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ…………….. (9) ومات رفيقى الوحيد…………………………………….. (10) .. وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ………… (11) الملك.. وارتياد الفضاء!…………………………………. (12) قصة طالوت وجالوت.. تكرر عبر التاريخ………………….. (13) يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا………………… (14) وليت الذى بينى وبينك عامر.. وبينى وبين العالمين خراب…… (15) السلاح السحرى الذى ننساه…………………………….. (16) الكهف يتسع!………………………………………… (17) النعناع وكرامات السجون……………………………….. (18) حفظ القرآن الكريم……………………………………… (19) مرة أخرى حول حفظ القرآن…………………………….. (20) إعجاز الأحلام.. ورؤيا الرسول…………………………… (21) فى الرؤيا: رسول الله يستجيب لاستغاثتى………………… (22) لا دين بدون سياسة!…………………………………… (23) تأملات فى الثلث الأخير من الليل……………………….. (24) قدر القلة المؤمنة الصلبة الصابرة………………………….. (25) تصحيح العقيدة……………………………………….. (26) القتل أحسن!…………………………………………. (27) التضحية من أجل انتصار المبادئ………………………… (28) عندما تنظر إلى السماء فأنت تنظر إلى الماضى!……………… (29) أنت بخير ما بكيت من خشية الله……………………….. (30) لا تنس أن الملائكة معك………………………………… (31) الصبر مفتاح الفرج……………………………………… (32) غزة هى فتنتكم أيها المصريون!………………………….. (33) هل أصابتك الحمى بسبب حصار غزة؟!………………….. (34) تجربة مع الموت………………………………………. (35) لا تسبوا الحيوانات.. فأين نحن من شريعة الغاب؟!……….. (36) قيم وممارسات الحيوان التى لا يرقى إليها بعض البشر!…….. (37) الكذب.. الجريمة التى لا ندرك خطرها!………………….. (38) الكذب.. “جريمة كبرى فى السياسة والأمور العامة”………… (39) أسرار الدعاء………………………………………….. (40) الفنـاء فى الله…………………………………………. (41) الغيرة.. ذلك المرض القاتل………………………………. (42) اصنــع لـك كهفـا……………………………………… (43) الاستشهاد فى سبيل الحكم الصالح العادل أهم درس فى كربلاء. (44) بعد ما جرى للحسين وآل البيت فى كربلاء.. لا تحزن!…….. (45) إعادة الاعتبار لقضية الإيمان والكفر………………………. (46) بحثا عن الشيطان الأكبر!………………………………. (47) لا نعادى أمريكا لكفرها ولكن لعدوانها……………………. (48) الحكام العرب أعوان الشيطان الأكبر……………………… (49) دور الخمينى وسيد قطب فى اجتهاد العصر……………….. (50) مواجهة الحملة الصهيونية – الأمريكية على إيران واجب إيمانى.. والفتنة من عمل الشيطان……………………….. (51) تحديد الموقف من عقائد النصرانية واجب إيمانى…………… (52) شرح الخلاف العقائدى مع النصارى ضرورى لشرح عقيدة التوحيد للمسلمين……………………………………… (53) الوضع الخاص لأهل الكتاب فى مسألة الكفر والإيمان……….. (54) العودة إلى الكهف!…………………………………….. (55) مسطرة الإيمان والكفر: لماذا قال الله لسيدنا محمد: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟!……………………………………….. (56) نحن فى معركة متواصلة مع الشيطان.. فاحذروه!………….. (57) نصير الحق……………………………………………. (58) الفرائض قبل النوافل…………………………………… (59) قانون القلة/الكثرة: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ…………………………………………….. (60) (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) هل قرأت هذه الآية من قبل؟!……………………………………………….. (61) سحرة فرعون.. قدوتنا!………………………………… (62) من يجيرنى من الله؟!………………………………….. (63) لن تقوم الوحدة الوطنية على أساس إلغاء الإسلام…………… (64) الإسلام لا يعرف القتل على الهوية.. والمسيح لم يدعُ إلى استخدام المولوتوف!……………………………………. (65) آيات الله فى تونس.. وحوار مع الله……………………… (66) الحوار مع الله.. وكيف دعوت الله لحدث كبير فى مصر!……
3 7 10 13 17 21 25 28 31 35 38 42 45 48 51 54 57 60 63 66 69 72 78 81 84 88 91 94 97 100 103 106 110 114 117 120 124 128 132 137 141 145 148 151 155 159 163 167 171 175
179 183
187 191 195
199 203 207 211
215
219 223 227 231
235 239 244

1 إشارة إلى هجوم جموع مسيحية على مبنى محافظة الجيزة بالمولوتوف بسبب مشكلات حول بناء كنيسة.

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading