وسيطرت على الساحل الافريقي الشرقي أيضا بدون قتال
التفاصيل المبهرة لبناء شبكة السدود والري
النظام السياسي قام على الشورى والفيدرالية
دراسة المستطيل القرآني الحلقة 64
بقلم : مجدى حسين
نواصل عرض النموذج الحضاري اليمني لأنه لم يحظ بالاهتمام الواجب منذ بداية الدراسة رغم أن اليمن ركن أصيل في المستطيل القرآني وبالتالي لابد أن نتجاوز مؤقتا أحداث بناء الكعبة وقيام ابراهيم واسماعيل برفع قواعدها حتى لا ينقطع عرض هذا النموذج الحضاري المبهروالذي لا أعتقد أن له مثيلاً في العصر القديم، كذلك فإننا لا نعرف على وجه الدقة متى جاء سيدنا ابراهيم إلى مكة ولكنه بالتأكيد كان قبل الميلاد وبالتالي فإننا قد نتجاوزهذا الحد الزمني حتى لا نقطع أوصال الحضارة اليمنية، على أن نعود بالتأكيد فوراً إلى قصة بناء الكعبة وقد تحدثنا فيها من قبل أكثر من مرة ولكن مع كل عودة تكون هناك إضافات جديدة بعضها مرتبط بالأحداث وبعضها مرتبط بأفكار جديدة، فأنا أقوم بتجربة فريدة : أكتب دراسة مفتوحة حول الاستراتيجيات التي تحكم العالم فيما يتعلق بالشرق الأوسط/ مركز العالم ولكن أكتب على حلقات ويمكن أن أضيف أو أحذف إذا جائتني أي ملاحظة مهمة من أحد القراء أو الباحثين.
ولكن بعد تغطية الجذور التاريخية للأوضاع في الجزيرة العربية واليمن سنعود إلى مجرى الأحداث حيث توقفنا: تقييم الحركة الوهابية ثم متابعة الأحداث في المستطيل بعد رحيل محمد علي أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
*******
الحضارة اليمنية لا تقوم على التجارة وحدها، ولكن لاشك أن التجارة كان لها تميز ودور خاص في هذه الحضارة، كما أننا بدأنا مسألة التمدد من خلال التجارة وطرق التجارة فلابد أن نواصل ما تبقى في هذا المحور، اذاً منذ عدة آلاف قبل الميلاد سيطر اليمنيون على طريق البخور وطريق اللبان كما كانوا محتكرين لتجارة الذهب والطيب والأحجار الكريمة والمر، واشتهروا بأنهم تجار عطور وفضة وبهارات وكلها مواد مهمة للعالم القديم مما زاد من ثراءاليمنيين .
وبدون التمسك بالترتيب الزمني وحتى نرى الخريطة كاملة للتمدد اليمني في جزيرة العرب وما بعدها. فإن آخر أقوى دولة يمنية وهي الحميرية تتحدث عن أكبر دولة في جنوب شبه الجزيرة وأنها قامت – وفقا للنقوش الأثرية – بحملة عسكرية وصلت بهم إلى مناطق اليمامة والبحرين وشرق الجزيرة العربية عموماً ومناطق الأزد في عُمان، وقبائل معد ونزار وغسان مع ملاحظة أن كل هذه القبائل الأخيرة يمنية . فمرة أخرى نحن أمام تمدد شبه سلمي وليس حملات عسكرية بالمعنى الشائع للكلمة.فالقوات اليمنية لم تدخل معارك مريرة بل كانت تدخل مناطق تواجد قبائل يمنية مهاجرة ! الحميريون بسطوا نفوذهم في شرق وشمال الجزيرة العربية ووصلت حملاتهم العسكرية إلى الحيرة والمدائن ، وعثرت بعثة استكشاف أمريكية على آثار من النحاس والحديد وكتابات بخط المسند (وهو لغة اليمن) تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد في موقع “تل الخليفة” بالأردن لها علاقة بالدولة المعينية اليمنية والأخبار متعددة عن تأسيس مملكة تابعة لمملكة معين قبل الميلاد في الأجزاء الشمالية الغربية من شبه الجزيرة العربية وأنها تعاونت مع الأنباط. ومن أهم الركائز التي اعتمد عليها اليمنيون مملكة كندة في نجد التي مثلت حليف استراتيجياً لهم خاصة في طرق التجارة للعراق. وتوسعت المروحة التجارية اليمنية إلى العراق وفارس- بعد الشام أو بالتوازي معه.. والآثار تشير إلى علاقات تجارية مكثفة مع الآشوريين. وورد في نص آشوري للملك سرجون الثاني تلقيه هدية من أحد حكام اليمن مما يعكس العلاقات الودية في إطار الحركة التجارية المكثفة بين الطرفين. وبالنسبة لمملكة كندا القديمة في نجد – كأهم محطة في اتجاه العراق – تعاقب على دعمها أكثر من ملك من صنعاء ومأرب لتوفير الأمان للقوافل التجارية الخارجة من اليمن إلى العراق وفارس. وكان السبئيون يشترون العبيد والجواري من اليهود وغيرهم وتشير نصوص آشورية إلى تقديمهم الهدايا من الذهب والفضة لحكام آشور لتعميق العلاقات التجارية .
أما الدولة الأوسانية (اليمنية) فقد وصلت عبر البحرإلى شبه جزيرة سيناء التي كانت ملتقى طرق التجارة بين الاغريق، وسعى الأوسانيون إلى السيطرة على سيناء وبناء قصر ملكي في وادي العريش على الرغم أنهم لم يكونوا أهل حرب أي نفس عقلية بناء نقاط حصينة لتأمين التجارة.
ومن ضمن الممالك الصغيرة اليمنية مملكة جبان التي أسست مدينة تجارية اسمها “نجية” على بعد حوالي 148 ميل من غزة!
وإذا عدنا مرة أخرى إلى الدولة المعينية سنجد أن نقوشاً بلغتها – لغة الجوف من القرن الثامن قبل الميلادإلى القرن الثامن للميلاد – تم العثور عليها في ديدان – ومدائن صالح (موطن ثمود الذي كما ذكرنا كان في طريق التجارة) وفي مصر وجزيرة ديلوس اليونانية. وفي مصر عثر على قبر رجل معيني نقش اسمه (زيد الابن زيد) وكان يتاجر بالمر والقرفة في مصر أيام بطليموس الثاني حوالي 246 ق.م . بل لقد ظهر في الجيزة في موضع “قصر البنات” في العام الثاني والعشرين من حكم بطليموس بن بطليموس ان جالية معينية كانت في مصر في هذا الزمن، وكانوا منذ القرن الثالث ق.م يقومون بتجهيز معابد مصر بالبخور. وكان وضع المعينيين أكثر توسعاً واستقراراً في أعالي الحجاز والأردن وجنوب فلسطين، أما بالنسبة لجزيرة ديلوس اليونانية فقد تم العثور على كتابات معينية فيها، وأقام المعينيون معابد ضخمة لديانتهم خارج أراضي مملكتهم بما في ذلك معبد في ذات الجزيرة اليونانية ديلوس.
وفي نفس الوقت لم يعرف عن مملكة معين أنها دخلت في حرب توسعية ضد أي من الممالك الأخرى وهذه كما ترون تجربة فريدة في التاريخ بل هذا المعبد المعيني أكد اقامتهم بجالية في هذه الجزيرة واتجارهم مع اليونان وحيث توجد نصوص مكتوبة بالمعينية وبالخط المسند اليمني وباليونانية ويكشف بناء المعبد وما به من كتابات تمسك المعينيين بديانتهم في هذه الغربة البعيدة، وفي نفس الوقت نرى تقبل وتسامح اليونانيين. ولعل ذلك يرجع لاستمرار تواصل العلاقات التجارية التي استمرت هذه الجالية في القيام بها كحلقة وصل بين اليمن واليونان.
خط قنا غزة:
في كثير من خطوط التجارة بين اليمن والحجاز والشام نجد غزة محطة أساسية على الطريق وعلى مدار آلاف السنين!! فما بالنا نبيع غزة لليهود والصهاينة لا أقول بالرخيص ولكن بدون مقابل، ونتركها نهباً لليهود بالاحتلال منذ 1967 وبالحصار منذ 2008 وهو احتلال من الخارج لا مثيل له في التاريخ. تحدثنا عن غزة فيما قبل، ولكن في عهد مملكة سبأ تطور طريق خاص لتجارة أرقى أنواع الطيوب (اللبان) الذي كان ينمو في بلاد مهرة وظفار وامتد الطريق من ميناء قنا (على المحيط الهندي وليس قنا المصرية) إلى غزة في فلسطين على البحر المتوسط مروراً بمدينة شبوة ومأرب ونجران حيث ينقسم لفرعين: فرع إلى الخليج والعراق وفرع يمر بيثرب إلى القبراء نحو ميناء غزة بينما يتجه فرع ثالث إلى دمشق وإلى مدن الساحل الفينيقي.
ونختم هذا الاستعراض المختصر للتمدد البري التجاري بأقوى ملوك حمير (أسعد الكامل) في مطلع القرن الخامس الميلادي وقد كان لقبه (ملك سبأ وذي كريدان وحضر موت ويمنت وأعرابهم طوداً وتهامة) أما الطود فهو الحجاز كما يذكر ابن المجاور ، وأما تهامة هي كل الساحل الشرقي للبحر الأحمر بالاضافة لاتحاد كندة بوسط الجزيرة.
الطريق البحري للتجارة:
لايبدو أن اليمنيين أعطوا اهتماماً كبيراً ببناء اسطول تجاري ضخم ولا بطبيعة الحال اسطول حربي فعال. وان تمكنوا بالتأكيد من صناعة السفن وبنائها كما سنوضح. ولكن اليمنيين لم يربطوا توسعهم التجاري عبر البحار ببناء اسطول خاص، ولعل في ذلك تقديرات ذكية: فلماذا لا يستغلون سفن الآخرين في نقل التجارة من آسيا إلى اليمن بينما تتولى اليمن إعادة بيعها عبر القوافل اليمنية، (وليس عبر البحر الأحمر) فهم يوفرون على أنفسهم تكاليف ومجهود بناء السفن الكبيرة، كما ان النقل البري يؤدى إلى المرور على العديد من المراكز التجارية المختلفة. ولم يكن البحر الأحمر مشهورا بالموانئ الجيدة وبالعكس فإن معظم شواطئه على الجانبين تعاني من الشعب المرجانية التي تعيق عمليات الرسو على الشاطئ، وبهذا الاعتماد الأكبر على سفن الغير يتم توفير النفقات وتعظيم الأرباح وهذا من ضمن شطارة التجار. ومن أقدم العلاقات البحرية التي أقامها اليمنيون كانت مع الهند، ولم يكن لتجار ومنتجي الهند منفذا لترويج بضائعهم في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط وسواحل أفريقيا إلا عبر اليمن، وقد كانت كميات البضائع ضخمة.
على الجانب الأفريقي كان ساحل شرق أفريقيا قريباً من اليمن مما أغرى بمد الخطوط التجارية البحرية مع مدن سواحل شرق أفريقيا وقد سيطرة مملكة أوسان مثلاً على ساحل زنجبار (هي الآن جزء من تنزانيا ومسلمة تماماً). وتولت عدد من الممالك العربية التي أشرنا إليها من قبل تأمين الطرق ليس إلى العراق وفارس فحسب ولكن إلى اليونان ومصر وروما. ولكن يبدو أن هذا التأمين كان برياً ثم يتم الدخول لمصر عبر سيناء أو عبر سفن مختلفة إلى اليونان وروما.
وقد بلغ نفوذ دولة أوسان إلى حد تسمية الساحل الأفريقي بالساحل الأوساني. ووصل نفوذها إلى الهند – ولم تكن دولة حربية – !!
وسيطرت على سواحل غرب الهند بالاضافة إلى ساحل شرق أفريقيا. وكانت الدولة الأوسانية أكثر اهتماماً من غيرها ببناء السفن التجارية الخاصة حيث احتفظت بأسرار رياح البحر الأحمر في الابحار إلى شبه جزيرة سيناء التي كانت ملتقى طرق التجارة بين الاغريق، لذلك فإن الأوسانيين هم الذين فكروا في السيطرة على سيناء وبناء قصر ملكي في وادي العريش – كما أشرنا من قبل – على الرغم من أنهم لم يكونوا أهل حرب!
مع الأسف فإن ما ورد من كتابات حول سيطرة اليمنيين على سواحل أفريقيا عن طريق التجارة البحرية قليل بالمقارنة عن الروايات عن التجارة البرية.
في كل مراحل الدول اليمنية كانت العلاقات التجارية الوثيقة مع الهند أساسية وقد أنشأت حضر موت ميناء قنا – الذي تحدثنا عنه – للتواصل
البحري مع الهند ولم تكن حضر موت مجرد متلقية ولكنها سلكت طريق بناء السفن
لتعظيم مستوى التبادل مع الهند. ولكن السفن اليمنية كانت أقل جودة وقوة من السفن الرومانية. وكان اهتمام اليمنيين بسواحل أفريقيا يعود إلى أنها أحد مصادر اللبان والبخور وان سيطرتهم امتدت – كما يقول اليونان- إلى تنزانيا وليس مجرد زنجبار (وهي جزيرة صغيرة مجاورة لها). وكتب اليونانيون عن مملكة سبأ بانبهار غيرعادي كما يكتب بعضنا منبهراً بالغرب الآن، وأكدوا العلاقات التجارية الوثيقة مع الفينيقيين، فإذا أنت أقمت علاقة وثيقة مع الفينيقيين فهكذا تضمن وصول بضائعك إلى أقصى مدى في سواحل البحر المتوسط.
مملكة حضر موت قامت في الألف الأولى قبل الميلاد وسيطرت على كل اليمن واشتهرت وفقاً للأساطير بأنها وادي الموت الذي يتجنب أصحاب السفن المرور عبر سواحله، وكان ملوك حضر موت يفرضون الضرائب على الممرات البحرية والبرية الخاضعة لهم، وكانت العقوبة لمن يحاول الالتفاف أو العبور من طرق أخرى الموت، وان صحت هذه الروايات فهو أسلوب مختلف في الاستفادة من الموقع الاستراتيجي للتجارة لتعظيم الأرباح وإن صحت – أيضا- فليس هذا هو الأسلوب اليمني عادة عبر التاريخ.
الحضارة الزراعية:
كانت سبأ التي روى عنها القرآن الكريم ذروة الحضارة الراقية في اليمن منذ الألف الثاني قبل الميلاد وقامت على الزراعة لخصب أراضيها وملائمة مناخها وما أقامته من السدود والمدن المحصنة والقصور والهياكل تشهد بالتقدم الاجتماعي والثراء. (المنتخب- مرجع سابق).
ولكن آثار النظم الزراعية التي اكتشفت في اليمن تعود إلى 5200 سنة لقد كانت دولة تعمل بشكل منظم ووفقاً لتشريعات اقتصادية متفق عليها.، وكانت القوانين تكتب على صخور كبيرة وتوضع على مدخل السوق إذا كانت متعلقة بالتجارة أو تحفظ في المعابد إذا كانت متعلقة بالضرائب والمزروعات. وقد كانت الزراعة والتجارة عماد الاقتصاد اليمني وطبيعي أن اليمنيين كانوا أكثر سكان جزيرة العرب معرفة وتعلقاً بالزراعة لتوفر مياه الري طوال معظم شهور السنة عبر الأمطار لارتفاع مستوى الهضاب الجبال اليمنية مع توافق ذلك مع اتجاهات الريح، وخطوط العرض وبالتالي يوجد فصل مطير يشمل يوليو وأغسطس وسبتمبر لهبوب الرياح الموسمية التي تهب على الحبشة والهند. أما الفصل الثاني للمطر فهو في شهر مارس تأثراً بمناخ البحر المتوسط، ويتراوح متوسط الأمطار في السنة بين 20 ،40 بوصة في مناطق الهضبة ) تكوين اليمن الحديث – د.سيد مصطفى سالم- اليمن والامام يحيى – الطبعة الرابعة – 1993 – توزيع دار الأمين للنشر والتوزيع- القاهرة- مرجع سابق).
وكان لنظام الري وحصرمياه الأمطار أثر كبير في تطور الزراعة في اليمن، فقد ابتكر اليمنيون القدماء نظام ري قل نظيره في العالم واستطاعوا ري كثير من الأراضي الجدبة وشبه الصحراوية حتى أوصلوا المياه للمرتفعات الجبلية. وأقاموا المدرجات الجبلية بصخور ومجاري لحصر مياه الأمطار وتوجيهها الجهة التي يريدون عن طريق قنوات من عصور قديمة تعود إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. وعدم وجود أنهار جعل الزراعة تبدأ متأخرة مقارنة بمصر أو العراق أو الشام، ولكن كما ذكرنا توجد آثار لنظم زراعية تعود 5200 سنة.
ولأن اليمنيين يعلمون أن الأمطار مصدرهم الوحيد للماء واستخدموا عقولهم للقيام بكل الوسائل والطرق لحفظ المياه فحضروا الصهاريج في حضر موت وتراوحت أعماقها من ثلاثة إلى أربعة أمتارويتم توصيلها بمجاري تحت الأرض يبلغ طولها عدة كيلومترات لايصال المياه إلى المزارع والمساكن.
ويعتقد أن سد مأرب بني في القرن الثامن قبل الميلاد وتعرض للتصدع عدة مرات آخرها عام 575 للميلاد حيث لم يكن من الممكن ترميمه لتردي الأوضاع العامة في اليمن قبل الاسلام. وتحولت الأرض التي كان يرويها إلى صحراء قاحلة جدباء.
وعملية بناء سد مأرب عملية هندسية متقنة. وكانت حجارة السد مقتطعة من الجبال ونحتت باتقان وتم ايصالها ببعض باستخدام قطع من قضبان اسطوانية مصنوعة من الرصاص والنحاس يبلغ طول الواحد منها 16 سنتيمترا وقطرها 3 سنتيمترات ونصف وذلك بصب المعدن في ثقب الحجر، فإذا جمد وصار على شكل مسمار يوضع الحجر المطابق الذي صمم ليكون فوقه في موضعه بإدخال المسمار في الثقب المعمول في الجهة السفلى من ذلك الحجر، وبذلك يرتبط الحجران بعضهما ببعض برباط قوي محكم وقد اتخذت هذه الطريقة لشد أزر السد، وليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل. وقد بنيت الكثير من السدود المشابهة والمتصلة ببعضها البعض ولا مثيل لهذه السدود في العالم القديم، فقد تغلب اليمنيون على تضاريس بلادهم وسخروا الطبيعة لخدمتهم.
وكما ذكرنا فإن اهتمام اليمنيين بالساحل الشرقي الأفريقي يعود إلى أن محاصيل العطور والبخوركانت مطلوبة بشدة في الشرق الأوسط لاستخدامها في الطقوس الدينية وكانت هذه المحاصيل لا تزرع إلا في شرق أفريقيا واليمن والهند. وقد حاولت الملكة المصرية حتشبسوت زراعة هذه المحاصيل في مصر فلم تستطع ولذلك لجأت لبلاد بونت للحصول عليها (الصومال).
كانت البلاد تتعرض لكوارث طبيعية كالسيول الكبيرة والفيضانات وأيضا للاهمال وضعف السلطة المركزية فكانت الناس تهب عندما تحدث أي مشكلة للسد بغية العمل والتعاون في إصلاح ما تهدم منه، وتتولى السلطة المركزية التنسيق ولكن الانهيار الأعظم للسد الذي كان عقاباً إلهيا، كان خارقاً للعادة وكارثة أتت على بنيان السد وأصاب الشلل نظام الري بأجمعه: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ) سبأ-16 وهنا حدثت أكبر موجات الهجرة إلى الشمال. وسنأتي لذلك.
مؤسسة الجيش:
اهتمت الدول اليمنية المتعاقبة ببناء قوة عسكرية لحماية البلاد من أي عدوان خارجي خاصة دولة سبأ. وتولى قيادة الجيش وإدارته أفراد معينون من الملك ويقال لهم ضابط أو قائد الملك، والقوام الأساسي للجيش من الجنود النظامية التابعة للملك وكانت قوات الملك
صفة تطلق عليهم للتمييز بينهم وبين أي مقاتلين مرتزقة (أو مليشيا) تعمل لصالح الطبقات الثرية كما كان لزعماء القبائل قواتهم الخاصة وهم الذين يعملون بالقتال عند الاضطرار ثم يعودون لمزاولة أعمالهم من زراعة وتجارة.
كانت القوات مخصصة ومدربة على قتال الأعراب تحديداً كونهم الأقرب لليمن. فتعلم اليمنيون كيفية قتالهم، فلم تكن جيوش اليمن – كما أكدنا – جيوش توسعية بل هدفها الرئيسي هو تأمين الطريق التجاري من غزوات الأعراب على المتاع ، ويستدل – كما يقول د. محمد علي – على الطبيعة الدفاعية للجيوش كثرة النصوص الواردة عن تسوير المدن التي تغلق أبوابها ليلا ويسهرعلى مراقبتها جنود على الأبراج، وهو نفس الأسلوب الذي استخدم في الممالك الأخرى المتصلة باليمن والتي كانت تحمي القوافل، كقرية الفاو وديدان ويثرب.
كذلك كانت تشكل وحدات صغيرة مهمتها تعقب الأعراب في الصحراء، ويتراوح عدد الوحدة بين خمسة أفراد ولا تزيد عن المئة، وذلك لمقاتلة الأعراب بطريقتهم في الكر والفر والغزو على دفعات لايهام العدو أن مددهم لا ينقطع. وقد كان الأسلوب ناجحاً على الأرض بالفعل.
ورغم السيطرة التي تحدثنا عنها لليمنيين على سواحل أفريقيا الشرقية فلا توجد أي معلومات عن وجود قوات بحرية ويستبعد الباحثون أن يكون الحميريون- وكانوا دولة عسكرية قوية – قد شكلوا أساطيل قوية، وأغلب الظن انهم استطاعوا التوغل في أفريقيا عن طريق قوارب صغيرة تحمل المقاتلين فالمسافة بين باب المندب وأفريقيا قصيرة. كذلك فإن تركيبة الجيش اليمني تعتمد على التجميع فلا توجد دلائل ان هناك تدريبات نظامية أو قوات مستعدة للقتال في أي لحظة كانت موجودة باستثناء تلك التابعة للملك.
محاولة الامبراطورية الرومانية الاستيلاء على اليمن:
في العام 25 قبل الميلاد أرسل الامبراطور أغسطس قيصر حملة عسكرية بقيادة حاكم مصر الروماني أيليوس غالوس (جالوس). وكان الرومان يتصورون أن اليمن لقمة سائغة ولكن انتهت الحملة بإبادة الجيش الروماني من عشرة آلاف مقاتل أمام أسوار مأرب، وانسحب غالوس وصديقه سترابو إلى الاسكندرية.
التطور التشريعي:
النظر إلى التشريعات من أهم زوايا الرؤية لاكتشاف مستوى التقدم الحضاري لأمة من الأمم. وبطبيعة الحال فإن التشريعات الأساسية التي تحكم نظام الحكم هي أهم التشريعات وقد كانت الشورى من أهم التشريعات المتأصلة بنص القوانين طوال فترات الازدهار الحضاري اليمني..
في القرآن الكريم قرأنا عن ملكة سبأ إذ تقول لمساعديها بعد أن تلقت كتاب سليمان وقرأته عليهم ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) ( النمل 32
لم يكن هذا موقفاً عابراً أو خاصاً بملكة سبأ بل كانت ممارسات متكررة في الدولة ففي عهد كربئيل تم تأسيس المجالس المحلية المكونة من ثمانية في كل مقاطعة، مهمتها اقتراح القانون وتقديمه للملك نفسه، وفي حال الموافقة يدرج اسم الملك وأسماء أعضاء المجلس وهم عادة من أمراء القبائل، تدرج أسماؤهم جميعاً في نص القانون. وكانت هناك قواعد لفرض الضرائب على ملاك الأراضي والتجار ولكن كان هناك خطأ شائع يتكرر بين مرحلة وأخرى وهو اشراك الملك لأبنائه أو أخواته في الحكم بشكل جماعي وليس باعتبارهم نوابا أو أولياء عهد وكانت أسماؤهم تكتب كملوك، ولكن في المقابل كانت الأسرة الحاكمة تترك المجال واسعاً لأمراء القبائل لتسيير شئون مقاطعتهم.
وبالعودة إلى المجالس المحلية الثمانية (أي من ثمانية أفراد) نجد أن هذه المجالس كانت تجمع بين التشريع وبين الادارة فمن مهامها الاشراف على الشئون الزراعية وتمويل المزارعين عند الحاجة بحصص من خزينة الدولة وجمع الضرائب من المزارعين، وقد أدى ذلك التعدد أي وجود مجلس محلي لكل مقاطعة، أدى ذلك في مجال التشريع إلى اختلاف القوانين من مقاطعة لأخرى، ولا بأس في ذلك فهذه من سمات النظم الفيدرالية الحديثة، وقد غلب الطابع الفيدرالي وتخفيف المركزية على كثير من فترات تاريخ اليمن القديم خاصة وأن الدولة كانت تمتد من البحر الأحمر وحتى الخليج العربي في بعض الأحيان، وهي مساحات شاسعة للغاية ومتنوعة وكانت هذه المجالس تقترح قوانين العقوبات وقوانين تنظيم التجارة وتقدمها للملك الذي له القرار النهائي بانفاذ القانون من رده.
المصدر الأساسي هو الكتاب الرائع للدكتور محمد علي واعداد الدكتورة منى سعد، وأرى أن هذا الكتاب يفتح طاقة من النور في تاريخنا لابد من توسيعها كما سيأتي اسم الكتاب – حضارة اليمن – مكتبة جزيرة الورد.