الأقمار الصناعية تكشف حضارة عاد المطمورة بالربع الخالى

سواحل الجزيرة العربية كانت موطن الحضارة 

حضارة عاد تؤكد أن الصحراء العربية مرت بعصر مطير 

دراسة المستطيل القرآني  الحلقة 61

( الصورة لإرم ذات العماد المكتشفة فى سلطنة عمان )

  بقلم : مجدى حسين

هناك فكرة استراتيجية مهمة تحدث فيها العالم الجغرافي فيرجريف ، وأخذها عنه د. جمال حمدان ، ولكنني سآخذ العنوان والخريطة والفكرة ولكن بمضمون مختلف وتقوم الفكرة على أساس وجود رابط حميم تاريخي بين مصر والجزيرة العربية والهلال الخصيب في سوريا والعراق وهو أشبه بدائرة كهربائية كاملة تبدأ بالنيل والدلتا إلى سيناء إلى ساحل الشام حتى شمال الشام ثم تنعطف شرقا في اتجاه العراق أي عبر ما يسمى الهلال الخصيب ثم تهبط من العراق لتلف سواحل الجزيرة العربية من الشرق حتى الجنوب العربي حتى اليمن حتى بعد سواحل الجزيرة على البحر الأحمر إلى نقطة مقابلة لميناء القصير وتبعد الدائرة الكهربائية لتصب في ثنية قنا (المسافة بين القصير وقنا 100 ميل فقط ) وتعود الى نفس الاتجاه ،وقد يمر التيار الكهربائي بالعكس يبدأ بمصر الى غرب الجزيرة حتى اليمن في نفس الاتجاه ولكن عكسيا . ولكن لا شك أن الاتجاه التاريخي كان في الانجذاب إلى مصر من مناطق البدو خاصة من قلب الجزيرة العربية الذي تسميه الخريطة القلب الميت . ولم تكن هناك اي هجرات تذكر من مصر للجزيرة ولا فى اتجاه الشام والعراق. دائما مجرد غزوات دفاعية أو تجارة . المهم أن فيرجريف وحمدان يركزان على المخاطر التي أتت  لمصر من هذه الدائرة خاصة عبر بوابة سيناء وهذا صحيح فيما عدا الفتح العربي ، ويقر حمدان بالدور الحضاري العظيم للإسلام في رفع شأن مصر والمنطقة بأسرها . ولكن ليس كل هذا ما يشغلنا الآن من هذه الخريطة .

الخريطة تلفت النظر الى حقيقة تاريخية مهمة للغاية وهي أن أحوال الجزيرة العربية كانت مهيئة  لتكون مراكز حضارية عبر التاريخ دون القلب الميت الذي هو نجد والحجاز حتى في العصر المطير لم ترد إلينا أخبار عن نهضة حضارية إلا في الأحقاف أقصى شرق الجنوب العربي ، وفي أقصى شمال غرب الجزيرة . وهنا ما سنتحدث فيه ولكن فكرة الدائرة الكهربائية المتصلة بالحضارة ( وليس بمصر بالضرورة ) فكرة كاشفة ومفسرة لكثير من الظواهر حتى في مرحلة الجفاف والتي لا نزال نعيشها حتى الآن .

فالساحل الشرقي كان مزدهرا اقتصاديا من الكويت الموصولة بوادي الرافدين عبر البصرة ، ثم البحرين ثم دولة القواسم (الإمارات) وكانت الأولى مركزا للغوص ولصيد اللؤلؤ ، والثانية مركزا تجاريا قويا و لديها أسطول حربي و تجاري ، ثم سلطنة عمان التي أقامت حضارة متقدمة في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين  وامتدت حتى شرق أفريقيا ، وقامت قوتها على التجارة ، وساهمت في نشر الاسلام في تنزانيا وغيرها من سواحل شرق أفريقيا و بالمناسبة فإن بلاد عمان تتمتع بمناخ متنوع وهناك جزء جبلي مرتفع في ظفار يوفر بعضا من الأمطار وهناك حاليا مجال للزراعة ، ويشعر الزائرون لسلطنة عمان أنهم يتعاملون مع شعب متحضر و نفس الشعور في البحرين. بعد ذلك إذا اتجهت غربا ستبدأ دولة اليمن الحقيقية التي تقع في واقع الأمر حتى آخر حضرموت بل كانت ظفار نفسها جزءا من الدولة اليمنية في بعض الأوقات . واليمن أو العربية السعيدة كما كانت تسمى وهي داخل الحزام الساحلي أو الدائرة الكهربائية هي دائما في حالة حضارية أرقى من كل مناطق سهول البدو في عمق الصحراء العربية ، وهذا من الأسباب الدفينة لحقد حكام السعودية على اليمن واليمنيين وسنأتي لذلك ثم يواصل الشريط الساحلي حتى يصل لنقطة عبور لميناء القصير المصري ، هو طريق مأهول تمر به القبائل التي تتجه للشام او العراق فهو طريق مزدهر .

 ولا نحتاج للحديث عن باقى الدائرة : وادي النيل والدلتا في مصر- ساحل الشام والهلال الخصيب في الشام والعراق حتي تلتف الدائرة إلى الكويت من جديد . 

بالاضافه لذلك فقد كان الساحل الشرقي للخليج العربي ممر تجارة أساسي بين شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا كما ذكرنا فكانت السفن تفرغ بضائعها في البصرة ثم تنتقل برا لبلاد الشام ثم بالسفن مرة اخرى لأوروبا . . يتحدث كثيرمن الكتاب عن خط الهند وبريطانيا باعتبار ان الهند درة التاج البريطاني ولكن هذا لم يكن إلا في القرنين 18 و19 ، ولكن الطريق البحري التجاري عبر الخليج كان مستمرا دوما ، فما لا يعلمه الكثيرون ان الصين كانت هي أكبر الدول المنتجة للمصنوعات الصالحة للتصدير عبر القرون الطويلة   ، وكانت أوروبا ( ونحن في الشرق ) مجرد مستوردين . كانت الصين منذ وقت مبكر تصدر منتجات الحرير والصيني وبعض الأسلحة الخفيفة ، والتحف والمنسوجات و مختلف أشكال الملابس ، و المنتجات الخشبية بينما كانت اندونيسيا والهند مصدران للتوابل المختلفة و البهارات و منتجات زراعية اخرى ، وكذلك كان البن في اليمن ، ثم تطورت أيضا صناعة النسيج في الهند. ومن الحقائق الاقتصادية المذهلة أن اكتشاف الذهب والفضة فى الأمريكاتين أفاد أساسا في تمويل هذه التجارة القادمة من شرق آسيا خاصة في الصين .

وهذا أحدث انتعاشا كبيرا مؤقتا في الشرق ، ولكن أرباح هذه التجارة الكبرى كانت لبريطانيا ثم فرنسا مع التذكير مرة أخرى بفشل الأسبان والبرتغال في الاستفادة الإيجابية من هذه الثروات . أما بريطانيا فإن الرأسمالية التجارية سرعان ما وظفت هذه الأموال المتراكمة الضخمة في إحداث الثورة الصناعية . 

والطريف في الأمر أنك إذا درست تاريخ العلاقات التجارية الدولية عبر القرون فستجدو أن الصين كانت سيدة العالم طوال معظم هذه القرون (إلا عندما تتهاوى في مشكلات داخلية)  و تحقق فائضا تجاريا ، وما يحدث الآن في اواخر القرن العشرين ، وأوائل القرن الواحد والعشرين ما هو إلا عودة السيدة “الصين” لتعتلى عرشها التجاري والاقتصادي من جديد ، وأن الهيمنة الغربية الأوروبية ثم الأمريكية على الاقتصاد العالمي لم تستمر سوى قرنين من الزمان بعد الميلاد التاسع عشر والعشرين .

بينما لا يزال مثقفينا مشدوهين من تقدم أمريكا و أوربا الغربية ولا يلاحظون ما يجرى في الشرق . وعندما يسافر صحفى من بلادنا إلى بلاد التقدم الشرقى يعود ويتلعثم ويتحدث كلاما غير مفهوم عن التقدم المذهل هناك دون أن يقول كلاما مفيدا يمكن أن نفهم به شيئا لنعود مرة أخرى لنغمة أمريكا ” التى تملك كل شئ ” ” والقادرة على كل شئ”. هى بالطبع مسألة تبعية سياسية وليس مجرد غباء !!

 عبر هذا التاريخ كان طريق الساحل الشرقي للجزيرة العربية مزدهرا كمعبر تجاري دائم . ولكن عندما أحتل الهولنديون والانجليز شرق آسيا كان لابد أن يأتوا ليسيطروا على هذا الساحل .. من الكويت حتي سلطنة عمان . ثم احتلال عدن 1839 وهذا ينقلنا إلى الفرع الآخر للخطوط التجارية ، وهو الطريق البحرى من أقصى الشرق الآسيوي والهند إلى اليمن . وعند هذه النقطة يفترق الطريق مرة أخرى بين طريق برى من اليمن عبر الجزيرة العربية إلى الشام ثم العراق أو يستمر الطريق بحريا ويمر من باب المندب ( وهذه أهمية عدن الاستراتيجية المطلة عليه ) إلى البحر الأحمر حتي القلزم (السويس ) ومن السويس برا إلى دمياط أو الاسكندرية ثم إلى أوربا . وهذان الخطان البحرى – البرى ، ثم البحرى حتي السويس ، أنعشا الطريق البرى الساحلى حتي الشام ، وأنعش حركة الموانئ اليمنية الجديدة والمخا وغيرها ،مع وجود انتاج البن اليمنى وبعض المشغولات والمنتجات اليمنية ، والتى كانت مشهورة بالعباءات اليمنية كأفخم الانواع حتي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كل هذه الحقائق أدت إلى انتعاش هذه الدائرة الكهربائية ( وكل ذلك لم يأت في احاديث فيرجريف أو حمدان ) اذن هذه الحلقة السعيدة وهو الاسم الذى أعطياه لهذه الدائرة ، اسم موفق للغاية، ولكنني أضيف كل هذه الحيثيات لشرح أهميتها وفاعليتها . ومن ثم خلافها الجوهرى مع القلب الميت للجزيرة العربية ( نجد والحجاز ) .

والمثير للانتباه أن القرآن الكريم لم يصف في آياته أى طريق عموما ، ولم يصف طريقا بكل هذا الجمال الذى وصف فيه الطريق بين ( اليمن والشام ) وهو طريق التجارة البرى . وكأنه يصف لنا قطعة من الجنة ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا

قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَۖسِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ )سبأ 18

أى كان الطريق بين اليمن ( سبأ ) وقرى الشام التى يصفها القرآن دوما بأنها الأرض المباركة أو التى باركنا فيها أو حولها ، كان الطريق تتوفر فيه قري مأهولة يتوفر فيها الأكل والشرب فيرتاح المسافر من حمل الطعام والشراب الذى يكفيه من اليمن إلى الشام وهى قرى ظاهرة أي قريبة من بعضها فيمكن لإحداها أن ترى الأخرى . وهكذا فكأن كل محطة ( قرية) تسلم المسافر لما بعدها ، وهى قرى ظاهرة بنفسها يمكن رؤيتها دوما على الطريق . وقدرنا فيها السير أى جعلنا لكل منطقة في السير منطقة راحة يجد فيها المسافر كل ما يشتهيه فيجد الأمن والطعام . آمنين : وهو إحساس تام بالأمن العام الشامل ( تفسير الشيخ محمد متولى الشعراوى ) . ولكن أهل سبأ لم يقدروا نعمة الله فجرى لهم ما جرى مما سنعود إليه عند الحديث عن اليمن . ولكننا الآن نتوقف عند هذا الوصف البديع لجزء من هذا الحزام أو الحلقة السعيدة التى تلف الجزيرة العربية من سواحلها جميعا شرقا وغربا وجنوبا.

قوم عاد :

وفي إطار المرحلة المطيرة يحدثنا القرآن الكريم على وجه التحديد والحصر عن عاد وثمود وربطت بينهما آيات القرآن في عدة سور ، مع تأكيد القرآن على وجود أقوام  كثيرة أخرى قبلهما وبعدهما ولكنهما هما اللذان اتخذا مثلين ، من العصر المطير وأيضا في إطار الحلقة السعيدة ، وقبل قدوم سيدنا إبراهيم لرفع قواعد الكعبة وهو الأمر المؤكد إنه حدث في عهد الجفاف . 

وفقا للترتيب الزمني نبدأ بقوم عاد وهم أقوى بطون الشعوب السامية . ويشكلون الطبقة الأولى من طبقات العرب البائدة وأما منازلهم فكانت بالأحقاف وهي في جنوب الربع الخالي الراهن بالسعودية وعلى تماس وتداخل وامتداد مع أطراف بلاد اليمن الشرقية (حضرموت) وعمان . وعاد من العرب البائدة – والقرآن هو مصدرنا الوحيد عنهم – الذين انقرضوا وأبيدوا (مع ثمود) .  اما العرب كما هم اليوم فيسمون العرب المستعربة . والربع الخالي الآن من أكثر مناطق الصحراء الكبرى جفافا ! 

عاد أقاموا حضارة من أعظم الحضارات ، وهذا يؤكد أن الحضارة بمعنى التقدم المادي وامتلاك أسباب الرقي ، يرتبط بالتحضر والتمدن ، فالحضارة مشتقة من الحضر (أي المدن) ، والمدنية مشتقة من (المدن) وهذا في كل اللغات (city ، civilization) في الانجليزي على سبيل المثال ، ولم تقم أي حضارة انسانية في البدو أو  البادية لأن طبيعة الترحل والتنقل لا تساعد في تراكم أي نوع من النظام أو الثقافة ، وعدم الاستقرار والتنقل دائما سعيا وراء الماء والكلأ وهربا من الجفاف لا يصنع أي مجتمعات مستقرة منتجة أو لديها تراكم معرفي . لذلك نحن لا نأخذ موقفا عنصريا من أهل الجزيرة العربية ، فحيثما وجد الاستقرار والمدن والزراعة مع توفر المياه (الأمطار) تنشأ وتنبثق الحضارات كما حدث في مصر وبلاد الرافدين واليمن ، وهنا في الأحقاف في الزمن المطير وسنتحدث فيما بعد عن آيات القرآن الكريم حول “الأعراب” وهي آيات فريدة من نوعها لأن القرآن الكريم يقيم البشر على أساس العقيدة / مسلمون -ومنافقون- نصارى- يهود .. الخ  لا على أساس التمايز القومي أو العرقي أو الوظيفي (عمال – فلاحون- موظفون .. الخ ) ولذلك نجد في آيات القرآن الكريم في الأعراب حالة خاصة تشير إلى تأثير البيئة الصحراوية الرعوية على العادات والتقاليد والأخلاق مما سنعود اليه ان شاء الله . 

كانت حاله قوم عاد في هذا السياق . نحن أمام مجتمع حضري مستقر تتوافر فيه المياه والزراعة وكل أسباب الاستقرار، لذلك نشأت حضارة عظيمة بنص القرآن ، فقد أشار القرآن الكريم الى المنجزات المادية ولم يكن هذا هو العيب ، العيب في البطر على نعم الله ، وعبادة الأصنام ، وإنكار رسالة النبي هود الذي أرسله الله إليهم ليعبدوا الله وحده وينبذوا عبادة الأوثان . 

نحن نثبت هنا أن الحضارة تقوم خارج نطاق البداوة والصحراء لنعود فيما بعد لنرى رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم التي خرجت  بعثته من هذا القطر ، وفي ذروة عصر الجفاف.

 ويهمنا أن نشير هنا الى :

 1- مستوى التقدم الحضاري الذي حققه قوم عاد .

2- إعجاز القرآن الكريم في الإنباء عن الغيب الماضي والذي تؤكده الآية .

3- إشارة القرآن المتكررة إلى أن الأقوام الماضية حققت تقدما أكثر من الأقوام الحالية (في بعض الأحيان ) هذه المسألة خطيرة يمكن أن تقلب نظرتنا إلى التاريخ وإلى الحاضر والمستقبل إذا توجهت أبحاثنا الجادة في هذا الاتجاه .

4- ان السلطات السعودية لا تزال تلعب دورا خطيرا في إخفاء حقائق يمكن أن تساهم في المزيد من فهم القرآن ، وفهم تاريخ البشرية في حين أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالبحث في أضابير التاريخ لأخذ العبر واشتقاق السنن الاجتماعية .

  التقدم الحضاري المادي:

  (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ) الشعراء 128 أي أتشيدون بكل مكان مرتفع من الأرض بناء شامخا تتفاخرون به وتجتمعون فيه لتعبثوا و تفسدوا . القرآن الكريم يبكتهم على استخدام قوتهم العلمية والتكنولوجية لبناء أبنية ضخمة للتفاخر لا لأى فوائد أو من أجل أي فوائد علمية أو من أجل عمل منتج أو مفيد للمجتمع ، وهذا يذكرنا بالقرى السياحية التي تبني على ربوات عالية في العصر الحديث ، أو الاندفاع لموضة ناطحات السحاب في أمريكا ، والتى اعتبروها من رموز السيادة الأمريكية في العالم ، والآن هم يدركون مساوئها حتى أن الأغنياء يهربون منها إلى الضواحى وتتحول عمليا إلى مجرد مكاتب للشركات . وقد تبنى بنيانا مرتفعا في مكان أو مدينة لضيق الأرض في مجال التوسع الأفقي ، ولكن ليس من أجل التفاخر والعبث والمظهرية الفارغة ، والقرآن يرشدنا إلى ضرورة استخدام العلم والتقدم التكنولوجي بما يعود بالفائدة على المجتمع . 

وأيضا في نفس الاتجاه ( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ) الشعراء 129 ، والمقصود بالمصانع هنا القصور المشيدة المنيعة والتي تحفر داخلها وإليها حياض للماء ، وهي محاولة لصناعة قطعة من الجنة على الأرض مؤملين في الخلود في هذه الدنيا “كأنكم لا تموتون”

وهذه هي إشارة صريحة للترف الذي يصيب الطبقات العليا فتستنزف ثروات الأمة من أجل متعها  الخاصة ، أما مع الشعب فهم جبارون لا يعرفون الرحمة (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) الشعراء 130 

وأنا من المدرسة التي لا تكفر الحكام الذين يعلنون اسلامهم ويتركون رموز إسلامية عديدة تحكم المجتمع في بعض القوانين أو التقاليد ، وأقصد  بالرموز هنا بعض المعاني والقيم الإسلامية والعبادات، والتعليم الديني وبعض قوانين الشريعة .. الخ ومع ذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يشير الى أن المنتجعات الاستفزازية التي لا تزال تبنى في الساحل الشمالي والبحر الأحمر وغيرها وبعض المجمعات ( كومباوندات ) التي تخلق مجتمعات مستقلة داخل المجتمع العام ، هو تشبه بهذه الحضارة البائدة وكأنهم ينقلون من كتالوج قوم عاد منذ آلاف السنين ، ( علقت على هذه الآيات من قبل في كتاب الجهاد صناعة الأمة – الصادر عن المركز العربي للدراسات – عام 2000   وهو موجود على الانترنت ) فيقوم الإبهار في هذه المنتجعات على مساحات كبيرة للبحيرات الصناعية بالاضافة لحمامات السباحة ، ومساحات واسعة للجولف الذي لا يعرف الشعب عنه شيئا ! رغم ما نعانيه من أزمة مياه قبل وبعد سد النهضة . 

ويؤكد الشيخ محمد متولي الشعراوي كل هذه المعاني في تفسيره فيقول “الريع هو المكان المرتفع” وآية “أي القصور العالية التي تعتبر آية في الإبداع والجمال والزخرفة  . وقال عن “المصانع” : “تطلق على موارد المياه ، والحصون التي تمنع الأعداء فكأنهم جعلوها صنعة مثمرة وجعلوها قوية البنيان ، مع أن مكث الانسان في الدنيا يسير ولا يحتاج لكل ذلك التحصين” . وأضيف – من عندي- خاصة أن الآيات لا تتحدث عن أي مخاطر خارجية وشيكة تستدعى هذا التحصين . ولكنها نفس عقلية (الكومباوند) التي تقول: لا أريد للرعاع أن يروا نمط حياتنا ولا كيف نعيش حتى لا يزداد حقدهم علينا ، لذلك فإن الاسوار العالية تأمين لنا من أي بوادر قد تأتي من  الدهماء . ولكن الرعاع والدهماء يعلمون كل شيء من اعلانات التلفزيون التي تروج لهذه المنتجعات والكمبوندات ، كما أن بعض الخدم لابد أن يفشوا أسرار هذه الجنة ” ! 

كذلك فأن الآيات المتعلقة بقوم عاد والمبثوثة في عدة سور تؤكد لنا أن المياه كانت متوفرة وهذا يؤكد على مسألة العصر المطير ، وهذه معجزة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه الكتاب ، فلم يكن أحد من العرب يتحدث عن ما كشفه علم الجيولوجيا المعاصر عن العصر المطير في سائر الصحراء العربية الكبرى حتى المغرب فتقول الآيات (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134))  الشعراء 132: 134

إرم ذات العماد

 وهنا نصل إلى نقطة أكثر أهمية وخطورة ففي سورة الفجر يقول الحق سبحانه وتعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8)) ولأهمية الموضوع استعين بألفاظ الشيخ محمد متولي الشعراوي آخر أفضل مفسري القرآن الكريم في حياتنا المعاصرة الذي استوعب القديم من التفسير وقدم الجديد بلا شك ، يقول الشيخ ( تبين آيات الفجر عظم هذه الحضارة وأنها أعظم من حضارة المصريين القدماء التي مازالت تبهر العالم حتى الآن ). وإرم اسم المدينة الأساسية لقوم عاد ويضيف : (لم يخلق مثلها في البلاد ) أى كانت الدولة الأولى في العالم ، (وذات العماد)  المباني التي لها عمد مرتفعة . ويعيد الشيخ الشعراوي ليؤكد أن العيب كله في الطغيان وليس في الحركة في ذاتها التي تستهدف التفوق المادى . 

وسنبني على هذه الحقيقة مسألة اخطر فيما بعد ، ولكننا نريد أن نريح القارئ فورا لنقول له إن الأقمار الصناعية قد التقطت صورا حديثة لقرى عاد في باطن الأرض .  (في تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي لسورة العنكبوت الآية 38 ) . وصور الأقمار الصناعية كشفت وجود مدن وقرى متطورة وأراضى زراعية مطمورة . واذا كانت الهيكل العظمية لعمالقة عاد وجدت فى أراضى السعودية الحالية فإن إرم ذات العماد وجدت فى سلطنة عمان وهو مايعنى أن حضارة عاد امتدت فى هذه المساحة من الربع الخالى وهى تربط بين السعودية وعمان حاليا ولم تكن هناك حدود ولا دولتان باسم السعودية وسلطنة عمان !! ( صور الهياكل العظمية ومدينة إرم ذات العماد على الانترنت) . ونحن أمام إعجاز قرآني من عدة زوايا :

1-  أن آية سورة العنكبوت 38 تقول: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) ،  أما بقايا مساكن ثمود فهى ظاهرة ورآها الناس في الطريق من الحجاز الى الشام وتسمى (مدائن صالح)  أما مساكن عاد فلم يرها أحد على مدار 14 قرنا !! وكان يمكن لمتشكك – وهذا لم يحدث لأن المتشككين مشغولون بما هو أهم من ذلك : أن يقول ان القرآن يتحدث عن رؤيتنا لمساكن أو بقايا مساكن عاد وثمود ،  ولكن أين مساكن عاد . وهذه الحقيقة تعلمنا أن اليقين بكتاب الله هو الموقف الحق وأن ما لا نفهمه اليوم قد نفهمه غدا . واليقين مرتبط بمجمل ما ورد في القرآن و جاء على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبالاساس بما يفتحه الله على المؤمن ليشرح صدره للإيمان . ولم تكن هذه الآيه الوحيدة التي تتحدث عن رؤية مساكن عاد ! بل هكذا تحدثت أيضا الآيه 25 من سورة الاحقاف  ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

2-  ان هذا الكشف للمطمور تحت الأرض يكشف أنه كانت في هذه البقعة حضارة حديثة ومتطورة مصداقا للآيات الكريمة ‘ وان مساحات كبيرة في صحراء الجزيرة العربية بل أكثرها جفافا اليوم كانت بها حدائق  غناء وزرع وبساتين ، ومياه وفيرة . وكأن القرآن الكريم يؤكد كل ما ورد في علم الجيولوجيا الحديث عن العصر المطير، الذي شمل معظم الصحراء الكبرى . 

3- أكدت هذه الصور الحديثة إن ما كان يتردد بين العرب من أنباء غائمة تتراوح بين الأساطير والحقائق عن إبادة عاد وثمود ، أنها ليست أساطير ولكن حقائق. 

عندما أسلم سيدنا عمر و حمزة والعباس ، قال صناديد الكفر لابد أن نتدارك الأمر ، وقال عتبة بن أبي ربيعة أنا أعلم الناس بالشعر والكهانة وبالسحر فدعونى أذهب إليه ، فلما ذهب إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه المال والملك . . قرأ عليه من أول سورة فصلت حتى وصل إلى الآية التي تقول (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) فصلت 13 ، وعندها قام عتبة فوضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا له : سألتك بالرحم ألا تكمل . (البغوي – القرطبي- السمرقندي)  واعتزل قومه ثم قال لهم ما صبأت ، ولكنى خفت على قومي من قوله “فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ” ، لأني أعلم أن كل شيء يقوله يقع فأردت أن انجيكم بأن لا أجعله يكمل هذا . . بينما ظل رسول الله يقرأ حتى الآيه 38 . 

والحقيقة ما أجهل ما قال عتبة وما أجهل ما فعل ، فهل يظن أنه سيحمي أهله من مجرد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاسترسال في القراءة . ولكن أنى لمثل عتبة أن يدرك أن هذا القرآن نزل من فوق سبع سماوات وسيظل يتلى عبر الأجيال والملايين بل والمليارات على مدى قرون وحتى يوم القيامة . ولكن كان مبلغ علمه أنه يخاف من هيبة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كما قال (ان كل شيء يقوله يقع ! )  .

ولكن ما يهمنا في هذه القصة أن صاعقة عاد وثمود لم تكن مجهولة تماما بين العرب في ذلك الزمان بل توارثت قصتهما الاجيال ، ولنلحظ أن  قصتا عاد وثمود سبقتا سيدنا ابراهيم ومجيئه إلى صحراء العرب ليرفع قواعد البيت كما أمره الله . نحن اذن أمام مئات من السنين ولكن الأحداث الكبرى يظل صدى ضجيجها يحدث دويه عبر الأجيال  والسنين. كما أن مساكن ثمود على الأقل كانت مرئية في الطريق من الحجاز الى الشام (مساكن صالح) .

 إذن اختيار القرآن الكريم لهذين المثلين النموذجين (عاد وثمود)  كان له تأثير في عقول ووجدان العرب وإن كابروا في بداية الأمر.

وتقول التفاسير أن عاد وان كابروا في بداية الأمر وثمود هم العرب البائدة وقد انتهوا على وجه البسيطة ولكن ليس لدينا مرجع من القرآن أو غيره يحصر العرب البائدة في هذه القومين ، كما أن القرآن الكريم لم يستخدم مصطلح العرب البائدة ، وربما إبادة عاد وثمود وراء ظهور هذا المصطلح هذا أمر لا يهمنا حتى الآن على الأقل . ولكن من المؤكد أيضا أن القرآن الكريم حذر أهل مكة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)) الأحقاف 27  بل هناك ما حاق بقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك من الأمثلة بالاضافة لأحاديث عامة بدون تحديد مواقيت او أسماء القرى . 

ولكن قصتنا مع عاد لم تنته بعد .. و القادم أخطر !

اترك رد

%d