مع هذه الحلقة يستقيم نشر حلقات الجزء الثانى بالترتيب إن شاء الله :
احتلال فرنسا لأوروبا لم يعوض خسارة مصر والشام
عمر نابليون عندما احتل كل اوروبا كان 37 عاما
.. وأفني نصف مليون فرنسي في غزو روسيا وفشل
احتل موسكو ولكنها كانت خالية من السكان
القوة البحرية هي التي تضمن السيطرة علي العالم
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (29)
سأخرج هذه المرة مجدداً من المستطيل عامداً متعمداً مسبحاً لله منبهراً بآلائه , سأركب مع نابليون بونابرت السفينة التي هرب بها من مصر الي فرنسا متخفياً طبعاً لأنه لا يوجد ود بيننا. سأذهب معه الي فرنسا لنري ماذا ستفعل فرنسا في أوروبا بعد هزيمتها المدوية في المستطيل في مصر والشام , وهل سيجدي فرنسا أن تستولي علي كل أوروبا . حتي تصبح القوة الأولي في العالم بدون المستطيل ؟ بالطبع لا ! إن الله سبحانه وتعالي عظم المستطيل الذي يسمي الشرق الأوسط الآن إلي حد إنه لم يذكر في كتابه العظيم مواقع جغرافية إلا داخله بل لقد أقسم القرآن الكريم بالطور .. طور سيناء كما أقسم بمكة المكرمة ووصف فلسطين بأنها الأرض المقدسة “التي باركنا حولها” فها نحن تجاوزنا 14 قرناً من نزول القرآن الكريم ولايزال حراك البشرية جمعاء يدور حول هذا المستطيل القرآني كمحور لحركتها الإيمانية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية.
هذه الدراسة تبحث في أمر يبدو عجيباً تماماً ولم تتطرق إليه أي دراسة أخري لذلك فأنا أكتب صفحاتها عادة قبل صلاة الفجر وبعدها اسأل الله التوفيق , كما أنه ليس لدي وقت آخر لأنني مشغول صباحاً ومساءً بأمور الصحافة والسياسة والإجتماعات , وأقتدي بما علمت من أن الشيخ أبو الأعلي المودودي كان يتابع أمور الحزب والسياسة صباحاً (الجماعة الإسلامية الباكستانية ) ويبحث في المساء أو في آخر الليل في أمور الفقه والعقيدة والفكر ويكتب مؤلفاته , ولاتسأل عن وقت النوم والراحة ![mh1] [mh2]
هذه ليست أحاديث شخصية فأنا منبهر حقاً من عظمة الله ولا أستطيع أن أكتم الله حديثاً , هذا بحث في عظمة القرآن في المجال الجيواستراتيجي أو الجغرافي السياسي . رغم أن القرآن لم يتحدث مباشرة في هذا الموضوع ولكن تحدث بشكل غير مباشر عندما اقتصر في مواقعه الجغرافية علي هذا المستطيل , بل بما شاءت إرادة الله في أن تكون الكعبة هنا وكذلك المسجد الأقصي , وأن تكون الرسالات السماوية الأساسية هنا , حتي خاتم المرسلين , وان كانت هناك بعض الآيات تتصل مباشرة بما نسميه الآن علم الجغرافية السياسية كالآية التي تقول : (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) التوبة 123 , والآيات التي تتحدث عن الفلك (بمعني السفن ) 23 آية والسفينة 4 آيات والبحر والبحار 41 آية , رغم أن القرآن منزل في مجتمع صحراوي لايعرف البحار ولايحبها حتى لقد وصف امرؤ القيس الليل بأنه كموج البحر- وليل كموج البحر أرخى سدوله على~ بأنوع الهموم ليبتلي , بل ان غالب العرب ومحمداً نفسه عليه الصلاة والسلام لم يتعاملوا مع البحر أو لم يروه إلا من خلال القوافل التي تسير محازية للبحر الأحمر . القرآن اشار بوضوح لأهمية البحار في حياة الإنسانية وكان يتحدث عن المستقبل بأكثر من الحاضر . انظر مثلاً (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) الروم 41 . نحن الآن نجد مجتمعات رهيبة تعيش في البحر في سفن عملاقة بصورة دائمة أو مؤقتة (المسافرون ) , كما اصبح البحر واسطة للأساطيل العدوانية المدمرة .
بل اعتبر الله سبحانه وتعالي ان السفن التي تجري في البحر من آياته ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ) الشورى 32 أي السفن الجارية في البحر كالجبال الشاهقة في عظمتها وكأن الآية تصف سفن المستقبل التي لم تكن موجودة بهذا الحجم ساعة نزول القرآن الكريم . أعني أن البحار تلعب دوراً اساسياً في حياة البشر : السفر- التجارة – الحرب – الموارد الاقتصادية. تحدثنا في السابق عن دور القوة البحرية الأساسي في السيطرة علي العالم وسنتحدث عن ذلك في هذا الفصل والقادم من الفصول , تأكيداً لمقولة من يسيطر علي البحر يسيطر علي العالم . ومن عجائب خلق الله ان الانسان يحتوي علي نفس معادلة الكرة الأرضية. فالبحار تشكل قرابة ثلثي مساحة الكرة الأرضية , والماء يمثل ثلثي وزن الانسان . فيما يتعلق بالبحار فبالإضافة لكل ماسبق وأهم منه , ان هذا المسطح الكبير للبحار (حوالي 70% من مساحة الارض ) ضروري من أجل توفير المياه للإنسان والحيوان والنبات , فهذه البحار هي مصدر الأمطار من خلال البخر . والأمطار هي مصدر مياه الشرب جميعاً بما في ذلك الأنهار والمياه الجوفية .
فما المياه الجوفية إلا مياهاً متسربة من الأمطار والأنهار . وهكذا فان البحار المالحة هي مصدر المياه العذبة النقية التي تأتي في الأمطار . ولكننا ننشغل في هذه الدراسة بالبعد الاستراتيجي للبحار , وايضاً الأنهار كمورد للشرب وللزراعة لأن المستطيل يعيش علي أنهار تنبع من خارجه وهذا ينطبق عي الأنهار الأساسية : النيل – دجلة – الفرات , وسنأتي لحرب المياه في الشرق الأوسط , اذا طال بنا العمر .
في هذا الفصل نعالج مسألتين 1- ماذا صنعت فرنسا ونابليون بونابرت بعد الهزيمة والانسحاب من المستطيل وهل تمكنا من تعويض فقدانه ؟
2- دور القوة البحرية في حسم الصراعات الدولية
عاد نابليون لفرنسا سراً من مصر لسببين متكاملين :
1- هزيمته في الشام وهزيمته المرتقبة في مصر.
2- انباء عن صراعات في السلطة في فرنسا واستعداد الدول الأوروبية لمحاربة فرنسا .
الوضع في اوروبا كان كالتالي : فرنسا سبقت بلدان البر الأوروبي (عدا الجزر البريطانية ) في الثورة البرجوازية (الرأسمالية ) ضد الاقطاع وأطاحت بالاثنين معاً . الملكية والاقطاع أي النظام السياسي للاقطاع , والاقطاع كنظام اقتصادي وكان هذا هو التناقض الجوهري بين فرنسا وباقي دول اوروبا الملكية والاقطاعية , وكان الغزو الفرنسي وسيلة لفرض سيادة النظام الجديد وتدمير الاقطاع والملكية معا في القارة ولذلك اتحدت الدول الاوروبية جميعاً ضد فرنسا . أما انجلترا فكانت تشغلها قضية السيطرة علي اوروبا من خلال لعبة التوازن بين القوي . فانجلترا لاتريد قوة اوروبية قائدة تستولي علي القارة فعندئذ سيتم تهميش انجلترا كجزر مجاورة . وهذا اساس الصراع الانجليزي – الأسباني الذي تحدثنا عنه من قبل وليس مجرد صراع بين البروتستانتينية والكاثوليكية رغم انه عنصر موجود ولكن كل طرف كان يستخدم المذهب كوسيلة في الصراع ومرجعية له وكانت أسبانيا تحولت إلى الدولة العظمى الأولى في أوروبا. وهذا سيحدث فيما بعد عندما تبزغ القوة الألمانية , فتقف انجلترا فوراً مع فرنسا لإحداث التوازن وهذا ماحدث في الحربين العالميتين الأولي والثانية . وهذا مايزال يحدث حتي الآن رغم شيخوخة بريطانيا , ولكن أمريكا ورثت منها لعبة التوازن .
كان في عهد نابليون (في مطلع القرن 19 م ) يفترض أن تكون انجلترا حليفة فرنسا لأنهما أقرب لبعضهما في مجال التحول الاقتصادي – الاجتماعي من الاقطاع إلي الرأسمالية , ولكن التناقض جاء من زاوية المنافسة في السيطرة علي اوروبا والعالم . ولذلك في عهد نابليون وقفت انجلترا مع قوي الاقطاع والملكية الأوروبية لكسر شوكة فرنسا .
عندما عاد نابليون من مصر لم يضع وقتاً وقام بانقلاب واصبح القنصل ( وهو لقب جديد للحاكم بدلاً من الملك أو رئيس الجمهورية ) وسعي لعقد سلام مع اوروبا التي تكالبت وتوحدت ضد فرنسا . بينما كانت فرنسا هي البادئة وكانت قد سيطرت علي سويسرا منذ شهور . لم تنفع دعوة نابليون للسلام فأخذ بمبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع وهاجم النمسا التي كانت امبراطورية كبيرة وهزمها في شمال ايطاليا في مارينجو وفرض السلام بشروطه عليها لمدة 4 سنوات بما في ذلك ضم بلجيكا.
نابليون بونابرت (1769-1821 م) كان قد حطم القوات النمساوية في ايطاليا 1796 م قبل مجيئه الي مصر . ثم حطمها مرة أخري بعد 3 سنوات أي بعد عودته من مصر 1799 م , واصبح قنصلاً ثم غير اللقب بعد توسعه في أوروبا إلي امبراطور 1804- 1805 م وأوقع هزيمة مهينة لتحالف النمسا وروسيا وانجلترا في معركة أوسترليتز Austerlitz , وكان هذا التحالف يستهدف إعادة فرنسا إلي حدودها فقامت الدول الثلاثة بتشكيل جيش من نصف مليون جندي , وكان هذا أكبر جيش في تاريخ اوروبا , وأكثر من ضعف جيش نابليون . اعتمد نابليون علي براعته التكتيكية واستخدم اسلوب تقسيم الجيش إلي مجموعة فيالق كل فيلق من 15 الي 30 الف جندي وكان عدد جيش فرنسا الاجمالي 210 الف , واستخدم نابليون هذه الفيالق المتعددة في المناورة والتحرك بحرية في اتجاهات مختلفة بما يخدع الجيش المعادي وهو اسلوب – كما ذكرنا- كان يتبعه جنكيز خان زعيم المغول رغم البعد المكاني والزماني واختلاف مستوي التسليح , ولكن يظل التكتيك الحربي متشابهاً ومربكاً للعدو . وقد أدت المناورة بهذه الفيالق إلي تقسيم جيش العدو وحيث وجد 60 الف جندي نمساوي أنفسهم محاصرين فسلموا بدون قتال ! وهذا مجرد مثال . وكانت هزيمة مدوية للنمسا وروسيا وانجلترا . وفي 1806 م اجتاح نابليون بروسيا (أهم وأقوي اقليم ألماني ) واتجه الي برلين العاصمة , فهرب ملك المانيا شرقاً , وتحطم الجيش البروسي تماماً وكان جنرالات بروسيا من المتقدمين في العمر في الستينيات والخمسينيات , بينما كان نابليون في السابعة والثلاثين من العمر . وهذا درس مهم من التاريخ . ان القيادات الشابة الجادة تكون أكثر ديناميكية (حيوية ) وخلاقة ولديها قدرة علي الابتكار . بينما القيادات التي شاخت تظل تحارب وفق الأساليب العتيقة التي تعودت عليها ربما حتي قبل تطويرأسلحة المدفعية وغيرها . وهذا درس للعاملين في العمل الحربي والسياسي علي حد سواء . لاحظ أن الدول المتقدمة تكون قياداتها أكثر شباباً من الدول التابعة . كذلك كانت الدولة العثمانية في عنفوانها والآن نجد أصحاب الثلاثينيات والأربعينيات يقودون دول الغرب , بينما يظل حكامنا حتي يموتون علي كراسي الحكم من فرط الشيخوخة بل يحكمنا المصابون بالزهايمر كما هو الحال في السعودية , أو الموتي كما هو الحال في الجزائر .
وقبل سقوط الاتحاد السوفييتي بقليل كان يحكمه رئيس شبه ميت ( بريجنيف ) وكانت مهمة حراسه أن ينتبهوا حتي لايقع علي السلم أو اثناء القاء كلمة ! والأمثلة لاتعد ولاتحصي .
كانت هزيمة بروسيا الأساسية أمام نابليون في معركة جينا J ena .
وفي العام التالي 1807 م أبرم نابليون معاهدة تحالف مع قيصر روسيا الأول , وأعطت المعاهدة لنابليون سلطة السيطرة علي بولنده .
وهكذا عندما جاء عام 1810 م أصبحت أوروبا كلها تقريباً تحت سيطرة فرنسا . أي متابع للأحداث سيقول إن فرنسا سادت العالم وانتهي الأمر وهزمت انجلترا.
انجلترا ماكان لها أن تقبل هذا الوضع الذي تم تتويجه بالمعاهدة الفرنسية – الروسية .
اقامت انجلترا خط اتصال مع قيصر روسيا لإفساد هذا التحالف , وعقدت صفقات تجارية مع روسيا بالمخالفة لنصوص المعاهدة الفرنسية – الروسية . المهم ان التحالف الفرنسي – الروسي انهار (بعد أن كان نابليون قد عقد وشائج الصداقة الشخصية مع قيصر روسيا ) انهار عام 1811 م فجن جنون نابليون وقرر السعي لضم روسيا بالقوة إلي فرنسا لإقامة أكبر إمبراطورية في التاريخ . نروي وقائع ماحدث ثم نعود إلي التحليل .
لعل خصوم نابليون في فرنسا تركوه ليتورط في هذه الورطة الكبري . فلم يعارضه أحد وهو يعد جيشاً من 650 الف وهو أكبر جيش في التاريخ الأوروبي فاق عدد جيش تحالف روسيا – النمسا – انجلترا في معركة أوسترليتز وكان 500 ألف .
وكان الجيش الفرنسي ينقسم إلي قوة ضاربة من 450 الف , و200 الف للحماية والتأمين والإمداد . المثير للسخرية ان ماسنرويه سيتكرر بصورة كاربونية في عهد هتلر بعد ذلك بـ 130 عاماً . كما سبقت حملة نابليون علي روسيا محاولة غزو فاشلة قادها تشارلز ملك السويد عام 1709 م . لأول وهلة سيري أي استراتيجي عدداً من الحقائق الأولية المعاكسة لفكرة غزو لروسيا , فالطرق سيئة غير معبرة لاتسمح بحركة يسيرة للقوات المهاجمة , طول خطوط القتال سيشكل مشكلة كبري في الامدادات التي حتماً ستكون قليلة خاصة لجيش جرار . وان مناخ روسيا بالغ السوء بين شدة الحرارة صيفاً وشدة البرودة شتاءاً إلي حد الثلوج والصقيع , كذلك فان اتساع الأراضي الروسية يتيح امكانية دائمة لانسحاب الجيش الروسي بشكل تكتيكي الي العمق الاستراتيجي . ولكن عندما يسيطر جنون العظمة والرغبة الجارفة في السيطرة علي العالم فان ذلك يعمي البصيرة حتي لشخص كنابليون بونابرت برهن خلال أكثر من عقد من الزمان علي ذكاء مفرط في التخطيط العسكري في المعارك البرية وأعني حروبه في اوروبا لا تجربته الفاشلة في مصر والشام .
وطبعاً لم تكن هذه التحديات غائبة عن ذهن نابليون . فحاول ان يحل مشكلة الإمداد والتموين بتأسيس مخازن كبري علي الحدود مع روسيا ( قمح وأرز ) وحشد 150 الف حصان (وكانت هي مدرعات وسلاح العربات المصفحة في ذلك الزمان ) وانتظر حتي شهر يونيو حتي تنمو الحشائش لغذاء هذا الجيش من الخيول. وجلب الطواحين معه لإستخراج المياه الجوفية . وتوقع أن يحقق الإنتصار في 3 أسابيع . وبدأت الحرب عام 1812 م . وكلما تقدم الجيش الفرنسي بدأت المعاناة في تزايد , خلال أيام مات 10 آلاف حصان . وبدأ الجيش يعاني من بطء الإمدادات , وقام فلاحو روسيا بعمل مجيد إذ احرقوا مزروعاتهم , وتركوا الجيش الغازي بدون إمدادات قريبة وسهلة . واستخدم الجيش الروسي تكتيك الإنسحاب داخل الأراضي الروسية الواسعة لإرهاق الخصم , وكان يشارك الفلاحين في حرق المزروعات والمخازن , ولعل الفلاحين حرقوا مزروعاتهم بأوامر الجيش . ولكنها تضحية مشهودة تؤكد عمق وطنية الشعب الروسي ( وكل هذه المشاهد ستتكرر مع الغزو الألماني الغازي ) وبدأ الجيش الفرنسي يعاني من الدوسنتاريا التي كانت تقتل 900 جندي كل يوم . وهكذا بدأ الجنود الفرنسيين يموتون بالآلاف دون أن يخوضوا معركة واحدة ! الجيش الفرنسي أخذ يمتد علي خط من 500 ميل ويمكن أن نتصور مدي صعوبة إمداد الجيش علي هذا المدي . بالإضافة إلي أن قوات القوازق الروسية بدأت تستنزف الفرنسيين علي هذا المدي الطويل بعمليات خاطئة من الأجناب , والجيش الفرنسي لايعرف شيئاً عن جغرافية المكان . كان نابليون يسعي حثيثاً وهو يتقدم إلي مواجهة الجيش الروسي فهو واثق – عند المواجهة – من الإنتصار عليه , وبالتالي يكسر شوكته وينفتح الطريق أمامه بسهولة للإحتلال والإستقرار, ولذلك كان يراهن علي ان الجيش الروسي سيتوقف عن الإنسحاب ويقاتله عند سمولنسك وهي المدينة المقدسة عند الروس . وكانت القوات الفرنسية الضاربة قد هبطت من 450 الف الي 150 الف بدون قتال حقيقي وفي ظل درجات حرارة شديدة الإرتفاع .. نحن أمام تراجيديا لايمكن أن تصفها أي رواية أو مسرحية او فيلم سينمائي , مأساة الجنود الفرنسيين ومأساة قائد أحمق ( نابليون ) ورط نفسه في هذه الكارثة .
خيب الروس ظن نابليون وأثبتوا أنهم لايقلون عنه فهماً للتكتيك والإستراتيجية في المجال العسكري . وأنهم يعرفون كيف يستغلون خصائص وطنهم في الإتساع الأرضي , خيب الروس ظن نابليون ولم يقاتلوا قتالاً حقيقياً دفاعاً عن المدينة المقدسة بل انسحبوا من المدينة بعد أن دمروها وحرقوها حتي لايجد نابليون فيها مأوي أو إمداد وانسحب الجيش الروسي إلي موسكو العاصمة . واضطر نابليون أن يواصل الزحف بجيشه المجهد إلي موسكو وهو يبتغيها كهدف ولكن كان يود أن يكسر الجيش الروسي قبل أن يصل إليها . وفي الطريق إلي موسكو حدثت معركة في 7 سبتمبر في قرية بورودنيو ولكن لم يواصل الجيش الروسي القتال طويلاً وانسحبوا مرة أخري .
في ذلك الوقت كان جيش نابليون قد انخفض إلي 100 ألف دون أن يقاتل قتالاً حقيقياً . واقترب الجيش الفرنسي من موسكو وفي مخيلة نابليون أنه دخل من قبل أكبر مدن اوروبا : فيينا وبرلين , دخل بطلاً وجاء ولاة هذه المدن يسلمون له المفاتيح . ولكنه دخل موسكو دون أن يسلمه أحد المفاتيح , ودون أن يقاتله أحد , وجد نابليون موسكو خالية من السكان والغذاء . ووجد الحرائق تأكلها منذ 5 أيام , ووجد كل مضخات المياه مدمرة . ولكن قيصر روسيا رفض – رغم كل ذلك – التفاوض والتسليم ( وهذا درس لحكامنا العرب الخونة ) وبالمناسبة كان المصريون القدماء يفعلون ذلك عندما يأتي غزو أجنبي عات فيرتدون إلي الصعيد ويتحصنون في طيبة وحدث ذلك خصوصاً في عهد الهكسوس . وحدث في عهد الغزو الفرنسي حيث ارتد المماليك إلي الصعيد وحاربهم الفرنسيون ولكنهم اضطروا في النهاية للاعتراف بحكم مراد بك للصعيد .
في موسكو الخالية تحول القائد الأسطوري العظيم إلي أبله لايعرف كيف يتصرف في عاصمة خالية من البشر والإمدادات والمأوي ( امتثال الشعب الروسي بأمر الإنسحاب وحرق العاصمة دليل آخر علي عمق الوطنية الروسية) وفي ظل هذا الموقف المحير غير المسبوق في التاريخ قرر نابليون في 19 أكتوبر أن ينسحب من موسكو العاصمة وأن يعود أدراجه في اتجاه المدينة المقدسة سمولنسك , بينما قوات القوازق عادت لمهاجمة القوات المنسحبة في هجمات خاطفة متفرقة تأكل سيوفها وبنادقها من لحوم الفرنسيين . في وقت جاء الشتاء وانقلبت الحرارة الشديدة إلي ثلوج , فماتت معظم الخيول . وعندما وصل الجيش الفرنسي إلي سمولنسك كان قد وصل إلي 40 ألف ( من 450 ألف ) , انظروا حجم المذبحة التي حدثت دون حرب أو قتال .
في ديسمبر حدث في فرنسا انقلاب للإطاحة بحكم الإمبراطور نابليون ولكنه فشل , وعندما جاءت أنباء الإنقلاب إلي نابليون ترك جنوده الذين يذبلون ويحتضرون واسرع إلي باريس لإنقاذ كرسي الحكم . واستمر الجيش المهزوم والمهزول في طريق الإنسحاب إلي فرنسا حيث لم يصل إليها إلا 25 ألف من أصل 450 ألف جندي . أما ال 200 ألف المكلفين بالحماية والتأمين والإمداد فلم يصل منهم إلا قليل . بعد هذا الإنكسار لنابليون وجيشه كانت نهايته في معركة ووترلو حيث هزم أمام القائد الإنجليزي ويلنجتون عام 1814 م .
نحن هنا أمام درس إستراتيجي بالغ الأهمية .
إن سيطرة فرنسا علي كل اوروبا لم يعوض فقدان السيطرة علي المستطيل ومصر والشام في القلب , حتي قبل الهزيمة المروعة في روسيا , فمحصلة أقل من عقدين من الزمان جعلت بريطانيا تتربع علي عرش العالم وفرنسا تأتي بعدها بمسافة غير قليلة في المركز الثاني . حتي تأتي أمريكا وترث الاثنين معاً . من الطبيعي ان فرنسا كدولة استعمارية أصبحت معقدة من إمكانية استعادة مافقدته في الحملة الفرنسية علي مصر والشام وأيضاً في مناطق الخليج وغيرها من المحطات في طريق الهند البحري .
وهناك نظرية استراتيجية تقول بأن عصب العالم هو اوراسيا أو الكتلة البرية الممتدة من اوروبا حتي اقصي شرق آسيا , وان كانت هذه النظرية قد تمت صياغتها بعد نابليون علي يد الإستراتيجي الجغرافي البريطاني هالفورد ماكيندر (1844- 1904 م ) ولعل هتلر تأثر به نظراً لتبني الجغرافي الألماني هامبولت نفس النظرية . ولكن أفضل تأجيل مناقشة هذه النظرية حتي نصل إلي هتلر والحرب العالمية الثانية . ولكن الواقع يسبق النظرية , ومافعله نابليون كان تنفيذاً لهذه النظرية , وكان أحري بهتلر أن يتعلم من فشل نابليون ولكن الغرور يعمي الأبصار .
المهم ان نابليون (فرنسا ) توسع في الإتجاه الخاطئ الذي لايبني الدولة العظمي الأولي وقد ظهر هذا سريعاً . بدلاً من التخطيط للعودة إلي المستطيل . بينما استولت بريطانيا علي معظمه .
ثانياً :- ان احتلال روسيا فكرة حمقاء . كما ان فكرة احتلال دولة عريقة القومية فكرة فاشلة . ويبدو ان فترة احتلال المغول لروسيا أغرت الدول الأوروبية بتكرار هذه المغامرة . ولكن تطور القومية الروسية في العصر الحديث واقامة دولة مركزية في العهد القيصري جعل الأمور مختلفة .
ثالثاً :- ان التوسع في اتجاه روسيا كان يكرس فكرة فرنسا القوة البرية , وكما قلت وأكرر فإن الدولة الأكثر سيطرة علي العالم هي الأقوي بحرياً . لأن البحار تجعلك تصل إلي كل أنحاء العالم بسهولة ويسر للتجارة والحرب معاً.
فرنسا خسرت المعركة من مصر والشام حتي الهند لأن انجلترا كانت أقوي منها بحرياً . ونابليون هزم سريعاً في مصر بسبب تحطيم الإنجليز لأسطوله في الإسكندرية . ومنذ فجر التاريخ حتي هذه اللحظة فإن مصر لم تؤسس إمبراطورية عالمية لأنها لم تكن قوة بحرية , كما إن كل القوي العالمية كانت داخل المستطيل ولاتحتاج للبحر ( مصر – الآشوريون – البابليون – الهكسوس – الحيثيين ) والفرس كانوا علي أطراف المستطيل ولا يحتاجون للبحر . ولكن فارس تحولت إلي إمبراطورية عظيمة لفترة أطول لأنها تحولت لقوة بحرية حتي وصلت لاحتلال اليمن والسيطرة علي البحر الأحمر . وعندما كانت تضم الأناضول كانت تصل إلي البحر المتوسط وتؤسس موانئ هناك .
وأسست أسطولاً رهيباً وحاربت اليونان ثم الروم لعدة قرون . وفي احدي المرات هاجمت اليونان بجيش قوامه 5 ملايين مقاتل وهو جيش بري وبحري , حتي وان بالغت كتب التاريخ في رقم 5 ملايين ولكن لاشك إنه كان جيشاً ضخماَ , والأسطول كان عرمرماً . بعد ذلك البطالمة ( اليونان ) والرومان كانوا قوتين بحريتين . بل ان انهاء الإمبراطورية الرومانية لحكم البطالمة في مصر كان عبر معركة بحرية عظمي ( أكتيوم ) حيث انتصر أوكتافيوس الروماني علي انطونيوس البطلمي ( قصة كليوباترا ) . ثم تحول البحر المتوسط ليصبح بحر الروم , وفي العهد العثماني أصبح بحراً عثمانياً . كما ذكرت من قبل فإن الدولة العثمانية كانت أكثر الدولة الإسلامية التي امتلكت قوة بحرية ولكن ليس إلي أقصي حد ممكن .
وظلت قوة برية أكثر منها بحرية , ولذلك لم تستطع التمدد إلي آسيا رغم إمتلاكها لميناء السويس ( القلزم ) والبحر الأحمر , ولطالما استنجدت بها اندونيسيا خاصة جزيرة آتشيه الإسلامية والأندلس ولكن أذرعها البحرية اقتصرت علي البحر المتوسط دون المغرب والأندلس . وفي البداية كانت قوية في البحر الأحمر ولكنها لم تواصل ولم تستفد من سيطرتها عليه في مد الخطوط إلي أقصي شرق آسيا , رغم وجود المسلمين في الهند وفي كثير من بلدان آسيا . أما علي البر فقد وقفت الدولة الصفوية حاجزاً دون تمدد العثمانيين شرقاً في ظل العداوة المستديمة إلا في المرحلة الأخيرة للدولتين .
وهذا مثال حي علي دور البحر في تجاوز العقبات والوصول مباشرة إلي أبعد الأماكن , وتعتبر انجلترا أول من صنع أسطولاً تجارياً يغطي كافة أنحاء العالم وأيضاً أسطولاً حربياً .. ثم تبعتها الولايات المتحدة الأمريكية .
وهذه دعوة لإهتمام المسلمين ببناء القوة البحرية , نقول بناء وليس استيراد ولايبدو أن أحداً فعل ذلك إلا العثمانيين ثم محمد علي . والآن لقد أصبحنا علي أعتاب عهد محمد علي .