3 محاولات عثمانية خلال عام للإطاحة بمحمد علي
تعاون إنجليزي – عثماني – مملوكي ضد إختيار المصريين
هل تعلم ان الإنجليز احتلوا مصر لمدة عام بعد خروج الفرنسيين ؟!
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (30) أو الحلقة الثانية فى الجزء الثانى من الدراسة
كما أوضحنا فقد كان الغزو الفرنسي لمصر خلال أعوام 1798- 1801 م نقطة إشتعال وتصادم كبري بين القوتين الأعظم في العالم في ذلك الوقت حول السيطرة علي مركز العالم (المستطيل القرآني) وكان الغزو الفرنسي أيضاً بداية الصدام الساخر والحقيقي لعملية استعمارية صليبية لوراثة “أملاك” الدولة العثمانية في قلب الوطن العربي أو ماعرف فيما بعد باسم المسألة الشرقية .
كانت “كذبة” كبيرة لنابليون عندما قال في بيانه الأول للشعب المصري إنه صديق السلطان العثماني , فهو لم ينسق معه بل ولم يبلغه بعملية الغزو , وجاء لإقتطاع مصر من السلطان العثماني . وقلنا إن الهبة الشعبية البطولية للشعب المصري قد كسرت أنف نابليون , وقصمت ظهر الجيش الفرنسي الذي اضطر للانسحاب بعد أكثر قليلاً من 3 أعوام , ولكن التعاون الإنجليزي – العثماني كان شرطاً مواتياً لإنتفاضة المصريين . بل ان الإنجليزلم يكتفوا بالحصار البحري بعد تدمير الأسطول الفرنسي في أبي قير بل نزلت بعض قواتهم البرية من السفن علي الأرض في شمال مصر الساحلي , وتعاونت مع القوات العثمانية في معركة أبي قير البرية التي أشرنا إليها آنفاً .
وكان الأسطول البريطاني وهو يقتفي اثر سفن نابليون , قد احتل الجزيرة اليونانية كورفو 1799 م , واحتل جزيرة مالطة التي كان الفرنسيون قد احتلوها في طريقهم الي مصر , لتكون نقطة إمداد وتموين .
وبعد ثورات الشعب المصري وهزيمة فرنسا في عكا ثم اغتيال كليبر خليفة نابليون جرت مفاوضات في العريش بين العثمانيين والفرنسيين لترتيب انسحاب الجيش الفرنسي في مصر , ولكن المفاوضات تحولت إلي ثلاثية باشتراك إنجلترا فيها وتم توقيع مايسمي معاهدة أميان بين الأطراف الثلاثة والتي تنص علي انسحاب الفرنسيين والإنجليز من مصر , وعلي أن يتم ترحيل القوات الفرنسية علي متن السفن البريطانية باعتبار أن سفن فرنسا قد دمرت , ولكن كان يمكن إرسال سفن من فرنسا , ولكن بريطانيا كانت ترغب في إذلال الفرنسيين . ثم حدثت مفاجأة دراماتيكية إذ بدأ الإنجليز في التلكؤ ولم يسحبوا قواتهم بل بقيت القوات البريطانية بعد خروج الفرنسيين لأكثر من عام علي أرض مصر . وكأنه هناك محاولة جدية للقيام بعملية استبدال فوري استبدال الاحتلال الانجليزي بالفرنسي . ولكن ماكان الشعب المصري ليقبل هذا ولا العثمانيون وقد كانوا في موقف المنتصر . وكان للإنجليز بالإضافة لبعض القوات البرية والبحرية في الإسكندرية , مسئول عسكري حتشنسون مقيم في الاسكندرية , ومسئول آخر في الجيزة ( رمزي ) وتابعت فرنسا ممارسة الضغوط علي انجلترا لتنسحب من مصر وأرسلت مبعوثاً خاصاً (سبستياني ) لمصر ليشرف علي خروج الانجليز من مصر وفقاً لنصوص معاهدة أميان , ومن الواضح ان التوازنات الدقيقة في أوروبا , والحروب المتصاعدة بين انجلترا وفرنسا كانت عاملاً أساسياً في عدم زيادة عدد القوات البريطانية في مصر وعدم الاحلال الفوري للاحتلال الإنجليزي . ولم يكن الانجليز غافلين عن يقظة الشعب المصري , أو الصحوة العثمانية ولم يكن من السهل إهدار تحسن الخلافات فوراً مع السلطان العثماني , بعد كل هذا التعاون معه ضد فرنسا .
وأخيراً في أواخر عام 1802 م أصبحت مصر خالية من القوات البريطانية بعد خلوها من القوات الفرنسية .
ولكن الخطط الاستعمارية لاتعرف الخواطر أو الشرف أو العواطف فقد أضمرت انجلترا خطتها لاحتلال مصر في اسرع وقت ممكن . وكان الإنجليز قد بدأوا خلال وجودهم في مصر في توطيد علاقتهم مع المماليك في إطار التعاون المشترك ضد الغزو الفرنسي . وعندما رحلت القوات البريطانية أخذت معها الألفي بك زعيم المماليك , وفي لندره (لندن ) تم الاتفاق التفصيلي علي التعاون بين المماليك والانجليز لاحتلال مصر عندما تعود القوات البريطانية في وقت قريب لمصر . وبعد انهاء الاتفاقات عاد الألفي من انجلترا بعد عدة شهور . وأدرك محمد علي قائد قوات الأرنؤود (الألبان) أن الألفي لاشك قام بأمور مريبة مع الانجليز . فقد خرج معهم علناً وليس في هذا أي نوع من التصرف الوطني أو الإسلامي . واتفق محمد علي مع عثمان البرديسي ( خليفة الألفي في زعامة المماليك ) علي الخلاص من الألفي , وحدث اشتباك معه وكادوا أن يقتلوه ولكنه هرب بأعجوبة واختفي في مكان ما في مصر في انتظار الإنجليز !
وقبل الحديث عن تولي محمد علي الحكم وماذا فعل بعد ذلك ! أريد أن أكمل الفصل الانجليزي المباشر, حيث كانوا متعجلين – رغم انسحابهم – السيطرة علي مصر .
وبعد تولي محمد علي الحكم وصدور الفرمان المؤذن بتوليته , ظلت انجلترا تسعي بمختلف الوسائل لترد السلطة إلي محمد بك الألفي , وكان دبلوماسيوها في الآستانة لا يفتأون يسعون لدي الباب العالي في إسناد حكم مصر إليه , بينما يقوم قناصلها في مصر بمد المماليك بالمعونة ويحركون الطمع في نفوسهم ويلقون في روعهم أن انجلترا لاتدع صنائعها ولاتتخلي عنهم وانها لابد محققة آمالهم , والمماليك من ناحيتهم كانوا يجمعون جمعهم ليحاربوا الوالي الجديد . فقد أرسلت الأستانة عمارة حربية أي قوة بحرية بقيادة قبطان باشا / عبد الله رامز إلي الإسكندرية ليدرس الموقف هل يثبت الوالي خورشيد ؟ أم يوافق علي المبايعة الشعبية لمحمد علي ؟ وقد كان معه فرمانان ليظهر أحدهما حسب تقديره ! رغم ان الآستانة كانت قد أرسلت موافقتها سابقاً علي محمد علي رضوخاً للإرادة الشعبية ولكنها كانت لاتزال مترددة فتم ارسال هذه العمارة تحت إدعاء أنها جاءت لعزل خورشيد وإنزاله من القلعة . ولكن هذا لم يكن يستدع ارسال عمارة بها 2500 جندي لأن الشعب هو الذي رشح محمد علي أصلاً !
ولذلك فرغم إنهاء مسألة خورشيد إلا أن العمارة البحرية ظلت تراقب الموقف لفترة من الزمن ولم نترك الاسكندرية , وقد راسل محمد بك الألفي زعيم المماليك قبطان باشا وعرض عليه أن ينحاز بقواته إلي سلحدار خورشيد باشا ( القوة العسكرية الخاصة به ) الذي كان لم يزل بالجيزة يناوئ محمد علي , وأن ينضموا جميعاً إلي الجنود الذين جاء بهم قبطان باشا , ويزحفوا علي القاهرة لينتزعوها من محمد علي ويطردوا الجنود الأرناؤد من البلاد .
وتردد علي قبطان باشا أثناء مقامه في ابوقير رسل الإنجليز وأيدوا مطالب محمد بك الألفي وسعوا في اقناعه بإسناد ولاية مصر إليه , وحسنوا له ذلك الأمر , زاعمين أن المماليك هم وحدهم القادرون علي حكمها وإعادة الأمن والنظام في ربوعها , وإن بقاء محمد علي في كرسي الولاية يجدد الفتن ويستفز المماليك إلي استئناف الحرب والقتال ويحفزهم إلي الزحف علي القاهرة لاسترداد سلطتهم القديمة . فيضطرب حبل الأمن , ولم يكتف رسل الانجليز بتأييد صنائعهم المماليك بل كشفوا أن الحكومة الإنجليزية قد تضطر إلي تجريد جيش علي مصر لتحقيق ذلك وهذا ماحدث بالفعل بعد عامين :1807 م { عصر محمد علي – عبد الرحمن الرافعي – الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة -2000} وأرجو أن نضع هذه المعلومات ومايتلوها عن مماليك ذلك الزمان في أذهاننا ولا ننساها حتي نصل لمذبحة القلعة عام 1801 م .
وبالفعل دبر المماليك الهجوم علي القاهرة ( كما هدد الانجليز وهذا مايوضح مستوي التنسيق بين الطرفين) لإسقاط محمد علي في اغسطس 1805م . بعد شهرين من تولي محمد علي للحكم , وقد عجلوا بالهجوم في ظل وجود العمارة العثمانية بالاسكندرية , ليشهد قبطان باشا بعينه قوة المماليك وشدة بأسهم فينحاز إلي جانبهم ويولي واحداً من زعمائهم حكم مصر . هجم المماليك علي القاهرة في قوة تبلغ ألف مسلح واتصلوا اثناء وجودهم بعمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ولكنهما رفضا التجاوب معهم , مما أشعرهم بالفشل فانسحبوا وقتل منهم العديد خلال انسحابهم علي يد جند محمد علي ( حوالي مائة قتيل ) وعلق الجبري علي هذا الحدث بقوله : {ولم يتفق للأمراء المصرية ( المماليك ) أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة وطبع الله علي قلوبهم وأعمي أبصارهم وغل أيديهم } . واستغل محمد علي هذه الأحداث واستولي علي الجيزة التي كانت ماتزال تحت سيطرة المماليك . ولم يعد قبطان باشا يتردد في أي الفريقين ينضم إليه , ورأي أن محمد علي باشا هو الأحق بالتأييد لأن الشعب والقوة بجانبه واعتزم أن ينقلب إلي الآستانة فرحل عن البلاد في اكتوبر 1805 م ومعه خورشيد باشا الوالي المخلوع . وأواصل الحديث عن المماليك من زاوية ارتباطهم بالمخطط الإنجليزي للعودة إلي احتلال مصر , فقد قرر محمد علي تجريد جيش لمحاربة محمد بك الألفي في الصعيد في ابريل 1806 م , بعد فشل محاولات الألفي في الإتصال بعمر مكرم لطلب وساطته عند محمد علي وشفاعته لديه ليصفو له وللأمراء المماليك وتنتهي الحرب بينهم علي أن يقطعهم جهة يقومون بها وتستغلونها ولكن محمد علي – كما يقول عبد الرحمن الرافعي – كان أبعد نظراً من أن يطمئن لخصومه الألداء وانسحب الألفي بك إلي الفيوم يعد العدة للقتال , واعتزم محمد علي أن يزحف عليه ليستخلص الوجه القبلي من سلطة المماليك .
وكان المماليك يسيطرون علي الفيوم واسيوط واسنا والمسافة الواقعة بين اسيوط والمنيا . وانتصر الألفي علي قوات محمد علي في جنوب الجيزة وواصل الألفي زحفه إلي الجيزة ومنها سافر شمالاً إلي البحيرة حتي يكون قريباً من الأسكندرية لأنه ينتظر مجئ الإنجليز بين لحظة وأخري , بينما ظلت قوات مملوكية تحاصر حامية محمد علي في المنيا .
تعاون عثماني – انجليزي ضد محمد علي :
توقفت الحرب في الصعيد ضد المماليك , لأن محمد علي كان يواجه طامة كبري , فالعثمانيون وكأنهم لاينامون الليل حتي يطيحوا بمحمد علي رغم أنه الحاكم الوحيد في الامبراطورية الذي جاء بإرادة الشعب , بل بسبب هذا بالتحديد فهم لا يريدون أن تفرض الشعوب الولاة لأن نوايا وخطط محمد علي الاستقلالية لم تظهر بعد وربما لم تتكون بعد في ذهنه , فالحكم لم يستتب له بعد . ووصل الأمر بالعثمانيين وكان يحكم السلطان سليم الثالث (1798-1807) إلي حد التعاون مع الإنجليز والمماليك للإطاحة السريعة بمحمد علي . ورأينا كيف تلكأوا مع خورشيد باشا , وارسالها لعمارة بحرية , وأيضاً اصدار أمر لمحمد علي ليتولي إمارة جدة ( ولكنه رفض ) , في العام التالي مباشرة 1806 م يصدرون فرماناً جديداً بتقليد محمد علي ولاية سلانيك وهي في اليونان وتعد ثاني أكبر مدينة في الدولة العثمانية وكل هذا لإغراء محمد علي بالموافقة . فالمطلوب هو الفصل السريع بين محمد علي ومصر المهمة, وبين محمد علي والشعب المصري وزعاماته حيث أصبحوا معاً قوة واضحة تنبئ بالاستقلال . فبدلاً من ادراك الجانب الإيجابي لذلك , اي بدلاً من اقامة علاقة خاصة مع محمد علي ليكون ركيزة الدولة في المنطقة العربية وأن يكفوا عن الفكرة السخيفة بأن يكون الوالي مدته سنتان ( مع ان محمد علي مازال لم يكمل سنتين !! ) واصلوا محاولاتهم إلي إقصائه إلي حد التعاون مع الانجليز وهي السياسة التي ادت في النهاية لتمكين الانجليز من مصر ومن القضاء علي الدولة العثمانية بأسرها . ولاشك أننا نتحدث الآن عن مرحلة أفول الدولة العثمانية وهي مرحلة استمرت قرناً بأكمله ( القرن 19 ) . وهذه قصة سلانيك !
استمر شهر العسل بين الدولة العثمانية والانجليز منذ ايام الحملة الفرنسية . وكلما قوي ساعد انجلترا في اوروبا أصبحت مسموعة أكثر في الآستانة . وفي عام 1805 م وبعد هزيمة الفرنسيين في مصر التي شارك فيها الأسطول البريطاني , انتصرت انجلترا علي فرنسا في معركة ( الطرف الأغر ) البحرية . انتصر الأميرال نلسون ( الذي حاصر الفرنسيين في مصر ) علي الأسطول الفرنسي وأكدت انجلترا مجدداً سيادتها علي ظهر البحار ( وبالتالي علي العالم كما اكرر دائماً) فصار البحر المتوسط انجليزياً وأصبح لها اليد العليا في الشرق خاصة علي ضفاف البسفور. وكانت سياستها في مصر هي السيطرة عبرالمماليك بدلاً من الاحتلال السافر وارادت ان تحقق ذلك من خلال استمالة الباب العالي عن طريق وسوسة سفيرها بالآستانة الذي كان يركز علي ضرورة عزل محمد علي وإسناد الحكم إلي محمد بك الألفي ودائماً ماتفلح وسوسة الشيطان إذا وجدت هوي عند المتلقي . وكان الألفي علي اتصال مستمر بعمال ( أي الممثلين الدبلوماسيين ) الانجليز يتبادل وإياهم الرسائل والرسل ليتخذ انجلترا شفيعة بل حامية وكفيلة له لدي الباب العالي . وتوصلت انجلترا لفكرة أكثر ذكاءً , أي إقناع الحكومة التركية بتعيين والياً جديداً بدل محمد علي يكون من طراز الولاة الأتراك الأقدمين الذين كانوا يتركون سلطة الحكم للأمراء المماليك ( أي لم يتمسك الإنجليز بأن يكون الألفي هو الوالي مباشرة ! حتي لايقلق العثمانيون ) .
ولكنهم أكدوا بأن الألفي كقائد للمماليك يتعهد بأداء جزية سنوية مقدارها 1500 كيس (ثلاثة أرباع مليون قرش ) تضمن الحكومة الانجليزية إيفاءها مع خضوع الأمراء لأوامر الآستانة , مع توسع المعاملات التجارية بين انجلترا والدولة العثمانية بما يعود بالنفع علي رسوم جمارك مصر وسوريا لصالح خزانة الآستانة . فاقتنع العثمانيون لأنهم كانوا قلقين من هذه السابقة ” الخطيرة ” أن يختار الشعب واليه ( حاكمه ) !
وبالتالي صدر فرمان بتولية موسي باشا لمصر وتقليد محمد علي ولاية سلانيك . وهذه هي المحاولة العثمانية الثالثة للإطاحة بمحمد علي خلال شهور قليلة .
وكان من المفترض أن يكون موسي مجرد آداة في يد المماليك كعادة الولاة طوال القرن 18 م وصدر قرار بالغ الخطورة وهو السماح للمماليك بشراء أفواج الرقيق من جنسهم وجلبهم إلي مصر ورفع الحظر الذي كان مضروباً عليهم في هذا الصدد فيعودون إلي قديم قوتهم الحربية, وبذلك تحكم انجلترا من خلالهم. وإن كان العثمانيين يستهدفون استمرار نفوذهم بالطريقة القديمة .وتعود مصر إلي حالة الجمود والتخلف الحضاري الذي كان قائماً قبل مجئ الحملة الفرنسية . وهذا ضرب من العبث , ولكن نجاح مشروع محمد علي أفشل هذه الخطة الخبيثة .
أنفذت الحكومة التركية عمارة بحرية جديدة بقيادة قبودان صالح باشا لتثبيت موسي ونقل محمد علي . وكان الألفي قد إطلع من قبل علي مفاوضات الإنجليز والباب العالي ووقف عليها من قناصل انجلترا في مصر , وهذا هو السبب الذي دعاه – كما ذكرنا – إلي التحرك من الفيوم قاصداً الوجه البحري , حتي يلتقي القبودان صالح باشا أو الانجليز أيهما أقرب ؟! وكلاهما أصبحا جبهة واحدة . فلما وصل إلي قرب دمنهور علم بوصول العمارة العثمانية وكان ذلك في أول يونيو 1806 م فابتهج لهذا النبأ ابتهاجاً عظيماً كما يقول المؤرخون . وكانت العمارة من أربع بوارج وفرقاطتين وسفينتين أخرين وبها قوات برية قوامها 3 آلاف مقاتل أي أن استخدام القوة كان وارداً . وفي بلدة حوش عيسي ( وهي معروفة بهذا الإسم حتي الآن ) التقي الألفي برسل الترك والانجليز وهنأوه بقرب تحقيق آماله . وهذا ما أكده الجبرتي , وشهادته مهمة لأنه كان فيما بعد معارضاً لمحمد علي , (وردت سعاة من الاسكندرية وأخبروا بورود أربعة مراكب وفيها عساكر من النظام الجديد وصحبتهم رسل وبعض الشخصيات من الإنكليز ومعهم مكاتبة خطاباً إلي الألفي وبشارة بالرضا والعفو للأمراء المصرية ( المماليك ) من الدولة العثمانية بشفاعة الانكليز فلما وصلوا إليه بناحية حوش ابن عيسي بالبحيرة سر بقدومهم, وعمل لهم شنكا ( إطلاق أعيرة نارية من البنادق في الهواء ) وضرب لهم مدافع كثيرة , وأرسلهم إلي الأمراء القبليين ( المماليك بالصعيد ) وصحبتهم أحد سناجقه وهو أمين بك ومحمد كاشف تابع ابراهيم بك الكبير , ثم إنه أرسل عدة مكاتبات بذلك الخبر إلي المشايخ وغيرهم بمصر وكذلك إلي مشايخ العربان مثل الحويطات والعائد وشيخ الجزيرة ) بالمناسبة قبيلة الحويطات في جنوب الأردن وقد كان لها أدوار فخرية فيما سمي الثورة العربية أيام الشريف حسين ضد الدولة العثمانية ومع الانجليز 1916 م فلزم أن نحيطكم بـ “الحويطات” !!
ويضيف الجبرتي في موضع آخر : { وكان ( محمد بك الألفي ) مع ماهو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والانجليز , وأرسل أمين بك إلي الانكليز فسعوا مع الدولة لمساعدته وحضروا إليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش ابن عيسي شنكا وأرسلهم مع أمين بك إلي الأمراء القبليين }
إذاً لم تكن المسألة إبدال والي بآخر , بل هي دسيسة إنجليزية – تركية حيكت شباكها في الآستانة بقصد إعادة المماليك إلي حكم مصر وبسط النفوذ الإنجليزي عليها .
وتظاهر محمد علي بالقبول ولكنه قال ان الجنود يعارضون في رحيله قبل أن تؤدي رواتبهم المتأخرة ! وكان يكسب الوقت ليدرس مقاومة هذا القرار مع عمر مكرم .
الشعب المصري العظيم مرة أخري:
الشعب المصري العظيم الذي قاوم الإحتلال الفرنسي 3 سنوات ثم قام بثلاث ثورات مجيدة ضد الولاة العثمانيين الظلمة من 1801-1805 م , هذا الشعب هو الذي أفشل المؤامرة في مهدها . فعندما اعتزم الألفي عندما وصلت العمارة التركية إلي الأسكندرية أن يستقر في دمنهور ليتخذها مركزاً يجمع فيه قواته ويدير خططه, فأعلنهم بقدوم العمارة التركية ووصول فرمان يقلده حكم مصر ( لم يذكر لهم حكاية موسي إلا كوالي شكلي ) لكن الأهالي رفضوا التسليم وأعدوا لمقاومته والامتناع في المدينة وأرسلوا إلي السيد عمر مكرم ( لاحظ أنهم بادروا أولاً بدون استشارة ثم ارسلوا لعمر مكرم ) ينبئونه بالخبر , وضرب الألفي حصارا حول دمنهور لإكراههم علي التسليم . واجتمع العلماء ورفعوا عريضة رسمية للسلطان يقولون فيها إنهم لايقبلون عودة حكم المماليك ويريدون حكم محمد علي مع التأكيد علي ولائهم للسدة السلطانية . وارسل قبطان باشا رسالة إلي العلماء للإمتثال للفرمان السلطاني والذي كان يتضمن رحيل الجنود الأرناءود مع محمد علي , ولكنهم لم يستجيبوا له . وبدأ محمد علي بمد القلعة بالميرة والذخيرة وحصن الطوابي المحيطة بالقاهرة واستدعي قوات من الصعيد مع تأييد شعبي عارم له بعمق كراهية الناس لعودة تسلط المماليك علي أرواحهم وأموالهم ومزروعاتهم . وأرسل محمد علي رسولاً من ابنائه إلي السدة السلطانية ومعه 2000كيس . ولكن الأستانة أرسلت تفوض قبطان باشا في التصرف وهو بالاسكندرية وفقاً لموازين .القوي
وحدثت أول موقعة بين قوات محمد علي وقوات الألفي في البحيرة وانتهت بهزيمة مرة لقوات محمد علي حيث خسروا نحو 600 بين قتيل وأسير واستولي المماليك علي الرحمانية . وارسل الألفي رؤوس القتلي والأسري إلي القبودان (صالح باشا) ليؤكد له أنه الأقوي . وتشجع الألفي بهذا الإنتصار وعاود محاصرة دمنهور فدافع أهلها دفاعاً مجيداً مدة شهرين وذلك بالإعتماد علي قواهم الذاتية ( أي بدون أي نجدة من القاهرة ) , واسأنف حصاره مجهزاً هذه المرة بالمدافع الكثيرة التي يقوم عليها رماة من الأروام والإيطاليين أمده بهم الإنجليز . ولكن الألفي عجز عن قهرهم , حتي وصلتهم الذخيرة والميرة في القاهرة . يأسرني هذا الشعب الذي طالما تتطاول عليه نخبة المثقفين ولذلك اتوقف عند شهادة الأجانب.
قال المؤرخ الغربي فولابل في كتابه مصر الحديثة : {يمكن اعتبار دفاع دمنهور ذلك الدفاع الذي جمع بين الشجاعة والثبات وكذلك تخاذل رؤساء المماليك , من أهم أسباب إحباط خطة الباب العالي والإنجليز{ ويقول المسيوجومار الفرنسي } إن أهالي دمنهور قد اظهروا مثل هذه الشجاعة والمثابرة اثناء الحملة الفرنسية – ( وقد أشرت لذلك في حلقة سابقة ) في ظروف تختلف عن الظروف التي قاوموا فيها قوات الألفي مما يدل علي مافطروا عليه من الشجاعة } . مانجان .تاريخ مصر في حكم محمد علي .
وساعد علي إنهيارالمماليك الشقاق الدائم بينهم , وهذا ديدنهم خاصة في مراحل انحطاطهم فهي نخبة انتهي عمرها الافتراضي منذ ايام آخر حاكم مملوكي محترم ( الناصر قلاوون وابنه اشرف ) , فقد شق علي البرديسي أن الألفي يتصل وحده بالإنجليز , وكان – أي البرديسي من أنصار الإلتجاء إلي فرنسا (!!) وكذلك كانت قيادة المماليك الأخري تنفث علي الألفي طموحه الفردي للزعامة . فقرر صالح باشا – وفقاً للتفويض – تثبيت محمد علي والرحيل بعد أخذ هدايا وأموال لنفسه ( !! )
ولكن حدث أمر عجيب لايحدث إلا بين الأعداء , ففي حين أعلن محمد علي التزامه بدفع 4 ألاف كيس للباب العالي, أخذ صالح باشا معه ابراهيم بك ابن محمد علي ليكون رهينة بالآستانة لضمان دفع هذا المبلغ بصورة دورية, وقد استمر كذلك حتي آواخر عام 1807 م (!!)
تلي ذلك صدور فرمان بتثبيت محمد علي والياً , وفرمان آ خر يأمره بتسفير المحمل ( موسم الحج ) وإرسال القمح المطلوب إلي جدة ! ( نوفمبر 1806 )
الألفي يواصل الخيانة :
استمر الألفي يتصل بقنصل انجلترا في مصر يطلب من دولته النجدة والمدد , بعد تخلي الدولة العثمانية عنه , وتدهورت العلاقات بين انجلترا وتركيا , وقررت انجلترا احتلال مصر بصورة مباشرة , وانبأ قنصل انجلترا الألفي بقرب وصول العمارة الإنجليزية , فعاد الألفي لمحاصرة دمنهور ليستولي عليها ولكن مقاومة الأهالي ظلت صلبة كما هي وأصاب جنوده التعب والحر ونفذت مؤونتهم وتمردوا عليه ! , بينما كان ينتظر النجدة الإنجليزية . ثم اضطر للإنسحاب بما تبقي معه من جنود إلي الصعيد وكان جيشه الذي يتجاوز 7 آلاف من العربان , والمماليك والترك والنوبيين لا يمر – وهو في طريقه للصعيد – ببلدة إلا أباحها لجيشه نهباً وسلباً وكأنهم جيش من اسوأ جيوش الغزاة الأجانب . وعندما وصل شبرامنت وافته المنية , حيث مات كمداً واستراحت منه البشر والشجر والحجر (وعمره 55 عاما , وهو ليس عمراً كبيراً ولكن اذكره للعبرة .. فماذا حقق في دنياه القصيرة وماذا سيجني في الآخرة ) ولكن مع الأسف فإن الخونة لايتعظون لأنهم لا يقرأون التاريخ ومن أقدار الله التي كانت واضحة , (كل الأمور بقدر الله , ولكن هناك أمور تكون مواقيتها عجيبة ) موت البرديسي أيضاً وكان مرشحاً لخلافة الألفي وعندما مات الألفي كان الأسطول البريطاني يمخر عباب البحر ليصل إلي مصر وكان الإنجليز يعتمدون علي الألفي كنصير ومساعد داخلي وقد وصلت هذه الحملة إلي الإسكندرية بعد موته بنحو أربعين يوماً ولم يكونوا قد عرفوا بالطبع بهذا النبأ السيء ! وقد يكون موته من اسباب إخفاق تلك الحملة .
لم تكن في ذلك الوقت وكالات أنباء أو فضائيات ناهيك عن الإنترنت فلم يعرف محمد علي ان الجيش الإنجليزي في الطريق إليه , فما كاد يشفي من مرض الكوليرا الذي اصيب به حتي قام بنفسه بحملة علي المماليك في الصعيد بقوة من 6 آلاف مقاتل وفارس و800 مركب , وهزمهم في اسيوط واحتل المدينة , واتخذ معسكره فيها , وهناك تلقي أخبار الحملة الإنجليزية التي وصلت بالفعل إلي الأسكندرية .
لقد دقت ساعة العمل الإستعماري الحديث وهو إمتداد طبيعي للحروب الصليبية ولكن بشعارات مختلفة وفي ظروف مختلفة وهي تنامي الفجوة التكنولوجية والحضارية لصالح اوروبا , وأفول نجم الدولة العثمانية أصبح واضحاً في مقابل رسوخ أقدام الثورة الصناعية في انجلترا وفرنسا , وهذا لايقدم أي مبرر أخلاقي أو تاريخي لاحتلالنا ولكن هذه سنة الحياة الأقوى يسيطر علي العالم وهو لايمكن أن يسيطر علي العالم بدون السيطرة علي مركز العالم , المستطيل القرآني , الذي سموه المسألة الشرقية قبل أن يسموه بعد ذلك ( الشرق الأوسط ) . كانت الحرب طاحنة بين القوتين الأعظم : انجلترا – فرنسا في كل مكان في العالم ولكن خاصة في اوروبا والمستطيل العربي . ولم تكن انجلترا تريد أي فراغ استراتيجي في الشرق الأوسط لأن هذا يعني بروز قوة عربية اسلامية . وبعين فاحصة رأى الإنجليز ان هذا الحاكم الطموح ( محمد علي ) ذا الثلاثين عاماً عندما وصل لمصر وأصبح الآن في الخامسة والثلاثين , هذا الحاكم الطموح المستند لشعب مصر والذي يتعامل بندية مع الدولة العثمانية منذ اليوم الأول , رغم إنه لم يكن منذ قليل إلا مجرد جندي أو ضابط في الجيش العثماني , بعين فاحصة بل عبر محاولات للاتصال به لم تسفر عن أي استجابة منه , رأوا ضرورة التخلص منه , والإسراع باحتلال مصر لتصبح كل الخطوط متصلة وتحت السيطرة الإنجليزية من انجلترا حتي الشرق حتي الهند والشرق الأقصي ( الصين ) .