المصريون قتلوا 586 إنجليزياً وأسروا 770 في رشيد

النصاري والأروام والشوام هبوا لحفر الخنادق حول القاهرة

والمغاربة والأتراك والصعايدة وأولاد البلد توجهوا إلي رشيد

أهالي رشيد التحموا بأيديهم مع عساكر الإنجليز فأرهبوهم

لماذا كان محمد علي حاكماً مصرياً صميماً ؟

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (31) وهى الحلقة الثالثة من الجزء الثانى .

كانت الأحداث متلاحقة في مصر بصورة سريعة فلم يكد يأتي فرمان سلطاني بتثبيت محمد علي والياً في نوفمبر 1806 م حتي تحركت العمارة الإنجليزية في فبراير 1807 م ووصلت الأسكندرية في مارس 1807 م , رأي الإنجليز أنها فرصة العمر لإختطاف مصر درة المستطيل خاصة بعد الهزيمة المرة للأسطول الفرنسي أمام الإنجليزي في ” الطرف الأغر ” 1805 م , مع الضعف العثماني , والتعاون المملوكي معهم بقيادة محمد بك الألفي . وتدهورت العلاقات بين تركيا وانجلترا , بسبب التقارب التركي مع فرنسا . ووصل الأمر إلي حد إعلان الحرب بين تركيا وانجلترا , ودخل الأسطول الإنجليزي بوغاز الدردنيل ثم رأت انجلترا أن تضرب الدولة العثمانية في مصر محققة في ذات الوقت خطتها في الشرق .

كانت الحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال فريزر معتمدة إلي حد كبير علي إتفاقها مع الألفي , وبالتالي لم تحشد قوات ضخمة كانت في حاجة لها في معارك أوروبا مع فرنسا والتي ستتواصل حتي 1814م ( معركة ووترلو التي هزم فيها نابليون ) .

والواقع إن عدم وجود وكالات أنباء أو فضائيات فضلاً عن الإنترنت حجب المعلومات عن محمد علي الذي كان يقاتل المماليك في أعماق الصعيد ( أسيوط ) , ولكن القاهرة كانت قد وردتها رسائل من الآستانة تنذر بتحرك الحملة الإنجليزية صوب مصر , ويقول الجبرتي في فبراير 1807 م :

{شرع أهل الأسكندرية في تحصين قلاعها وأبراجها وكذلك أبو قير وأمر كتخدا بك نائب محمد علي ببناء قلعة في البرلس}.

وسنري صفحة مجيدة أخري للشعب المصري بالتواصل مع الثورات ضد الفرنسيين والولاة الظلمة , فأعلن العلماء بقيادة عمر مكرم الجهاد في سبيل الله وفتح باب التطوع وتم نشر هذه الدعوة عبر الخطب في المساجد في عموم مصر خاصة في القاهرة . ويروي السفير الفرنسي في مصر عن هذه اللحظة فيقول : (كان عمر مكرم يذهب صبيحة كل يوم لإقامة الإستحكمات والخنادق حول القاهرة وملئ هذه الخنادق بالمياه , وكانت جموع الجماهير تتبعه وتعمل في حفر هذه الخنادق , ويبقي عمر مكرم النهار كله في خيمة أعدت له ليتابع أعمال البناء والحفر يثير الحماسة والشجاعة في نفوس المصريين) ويؤكد الجبرتي أن (عمر مكرم أمر الدارسين بترك الدروس , بل أمر العلماء بذلك).

الله أكبر فهذا واجب الوقت : التصدي لغزو الكفار من ملة أخري غير ملة الفرنسيس وعندما وصلت العمارة الإنجليزية في الأول من مارس 1807 م أرسلت عبر قنصل إنجلترا في مصر رسائل إلي البكوات المماليك في الصعيد , وكانت سفينة واحدة في البداية للإستطلاع ولإخبار المماليك للإستعداد , بينما وصلت العمارة كاملة في 15 مارس , وعندما علموا بموت الألفي أسقط في يدهم ولكن ماكان لهم أن يرجعوا بل عولوا علي قيادات المماليك الأخري , ولم يكن في الحملة الإنجليزية سوي 6 آلاف مقاتل ( لاحظ أن الحملة الفرنسية كانت تضم 35 ألف ولكن الإنجليز كان يعتمدون علي المماليك ) . وكان محافظ الأسكندرية أمين أغا (كانت الأسكندرية تتبع الآستانة مباشرة ولها حاكم خاص يعين من خلالها وسبحان الله فقد كان هذا هو وضع الأسكندرية في عهد الإمبراطورية الرومانية ) . المهم أن المحافظ العثماني وهو ضابط سلم الأسكندرية بدون قتال , سلم نفسه كأسير حرب ومعه 300 مقاتل لم يطلقوا طلقة واحدة علي الإنجليز . وقارن بينه وبين أهالي رشيد, وبينه وبين محمد كريم حاكم الأسكندرية الوطني الذي قاوم الفرنسيس , ولم يكن تابعاً للدولة العثمانية , وإنما تولي منصب المحافظ بمناسبة وجود الحملة الفرنسية ولكنه نظم المقاومة الشعبية ضدها . وكل هذه دلائل علي الحالة العثمانية في ذلك الوقت , ولاحظ أن الآستانة التي أرسلت العمارة البحرية أكثر من مرة للضغط علي محمد علي لترك مصر لم ترسل جندياً واحداً للدفاع عن مصر رغم إنه كان لديها بعض الوقت لمعرفتها بالغزو .

عندما وصلت الأنباء لمحمد علي في أسيوط عقد صلحاً مع المماليك ليحكموا الصعيد مقابل دفع خراج الصعيد للقاهرة . وكان موقفاً تكتيكياً من الطرفين . ولم يكد محمد علي ينسحب بقواته إلي القاهرة حتي احتل المماليك عواصم الوجه القبلي وتقدموا إلي الجيزة .

أرسل فريزر 2000 من جنوده لإحتلال رشيد لتكون قاعدة التوغل في مصر إستناداً لفرع رشيد . وكان علي بك السلانكلي محافظ رشيد – علي خلاف محافظ الأسكندرية رجل شجاع وثاقب النظر ولديه 700 جندي فعزم علي مقاومة الإنجليز بمساعدة الأهالي ووضع خطة ذكية شبيهة بخطة المماليك في المنصورة خلال غزو لويس التاسع لمصر في عهد الملك الصالح , إذ توارت الحامية والأهالي في البيوت , وتصورت القوات الإنجليزية أن المدينة قد إستسلمت كالأسكندرية , فلما دخلوها واستراح عساكر الإنجليز من إرهاق السير علي الرمال من الأسكندرية لرشيد وبدأوا في الإسترخاء , أصدر علي بك أمره بإطلاق النار من النوافذ والسطوح من الأهالي والحامية فقتل قائد القوة الجنرال ويكوب والكثير من ضباطه واستولي الذعر علي نفوس الإنجليز ولاذوا بالفرار إلي أبي قير بعد سقوط 170 قتيلا و250 جريحاً و120 أسيراً .

يقول الجبرتي عندما وصلت الأنباء للقاهرة ( ضربوا مدافع وعملوا شنكا) .

وكان للأهالي الدور الأكبر في المقاومة وقد آثروا عدم طلب المدد من القاهرة لمعرفتهم بسوء سلوك الأرناءود والديلم ( أكراد من سوريا ) وأخلاط السلطنة العثمانية . وكانت الحامية العثمانية في دمنهور لما بلغتها أنباء احتلال الإنجليز للأسكندرية أخلت دمنهور وانسحبت إلي فوه خاصة بعد مجيئ الهاربين من حامية الأسكندرية هرب قائد حامية دمنهور ومن معه بسرعة بدون حمل المدافع والأثقال . ثم أرسل في اليوم التالي ليأخذها !! ( وكأن الجبن سيد الأخلاق !)

عيد في القاهرة

أهتم بهذه المشاهد ونحن نعيش في زمن الاستخزاء أمام  أمريكا وإسرائيل لأذكر المصريين ونخبتهم ” المجيدة ” بهذه الأمجاد بل التي لايعرفونها فإن حملة فريزر لم تأخذ سوي سطور قليلة في مناهج التاريخ بالمدرسة ( عندما كنت تلميذاً ) .

يقول الجبرتي: (فلما كان يوم الأحد 26 محرم 1222( إبريل 1807 م ) أشيع وصول رءوس القتلي الإنجليز ومن معهم من الأسري إلي بولاق فهرع الناس إلي الذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم إلي ساحل بولاق ( في إطار موكب ) ودخلوا من باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة وفيهم أسيران ( ضابط ) كبير وآخر كبير في السن وهما راكبان علي حمارين والبقية مشاة في وسط العسكر ورءوس القتلي معهم علي نبابيت وعدتها أربعة عشر رأساً والأحياء خمسة وعشرون ولم يزالوا سائرين بهم إلي بركة الأزبكية وضربوا عند وصولهم شنكا ومدافع وطلعوا بالأحياء إلي القلعة وفي يوم الإثنين وصل أيضاً جملة من الرءوس والأسري إلي بولاق فطلعوا بهم علي الرسم المذكور وعدتهم 121 رأساً و13 أسيراً وفيهم جرحي )

وعن موقف العلماء قال الجبرتي (تكلم العلماء في شأن حادثة الإنكليز والإستعداد لحربهم وقتلهم وطردهم فإنهم ” أعداء الدين والملة ” ويجب أن يكون الناس والعسكر علي حالة الألفة والشفقة والإتحاد وأن تمتنع العساكر عن التعرض للناس ( لاحظ ! ) بالإيذاء كما هو شأنهم وأن يساعد بعضهم بعضاً علي دفع العدو)

وهكذا نري ان شعار التعبئة كان كوقت الحملة الفرنسية , اجتماع الأمة لمواجهة الكفار واعداء الدين والملة ولم يتحدثوا عن الأجانب أو القوات الدولية أو العولمة أو الإستعانة بالأجنبي لتحرير الكويت ( أقصد الإستعانة بالإنجليز للخلاص من المماليك أو العثمانيين ) رغم ما ورد في حديثهم أي العلماء عن جرائم العسكر , فهذا موضوع تحله الأمة داخلها وهذا ماحدث بعد ذلك في مذبحة القلعة للخلاص من الورم السرطاني للمماليك , وفي قرار بناء الجيش المصري من أبناء البلد كما سنأتي , وما حدث بالفعل من رفض الولاة العثمانيين الفاشلين .

ولتأكيد ارتباط الناس بالأماكن أقول إن التحصينات الرئيسية التي قام بها العلماء لحماية القاهرة كانت في باب الحديد , وهو مانسميه الآن ميدان رمسيس أو حتي باب الحديد وكان في ذلك الوقت منطقة زراعية متصلة بالنيل وعلي مقربة من حي السبتية الحالي , وقد شارك في حفر الخندق في هذا المكان {أهل بولاق ونصاري ديوان المكس ( الجمرك ) والنصاري والأروام والشوام والأقباط واشتروا المقاطف والغلقان والفوس والقزم وآلات الحفر وشرعوا في بناء حائط مستدير بأسفل تل قلعة السبتية} الجبرتي .

ولما استنجد أهالي رشيد بالعلماء لا بالعسكر لإرسال تعزيزات , جمع عمر مكرم المتطوعين , ولما طلب كتخدا بك نائب الباشا انتظار محمد علي حتي يأتي من الصعيد , لم يسألوا عليه وارسلوا المتطوعين لأنه لايوجد استئذان في الجهاد . وكذلك تطوع أهالي البحيرة وزحفوا إلي رشيد .

ويوضح الجبرتي نوعية المتطوعين من القاهرة يقول إنه كان منهم (طائفة من المغاربة وأتراك خان الخليلي وكثيراً من العدوية والأسيوطية وأولاد البلد).

وصل محمد علي من الصعيد في 12 إبريل 1807 م وتابع كمحترف أعمال الخندق حول القاهرة وربطها بالنيل لتمتلئ بالمياه لإعاقة الجيش الإنجليزي وأغرق عدة مراكب بين جزيرة بولاق والشاطئ لمنع مرور السفن الإنجليزية في النيل إذا جاءت من رشيد , ونصب بطاريات المدافع، وأرسل 5500 من الجنود والفرسان إلي رشيد .

وكان الإنجليز قد طوقوا رشيد من الجنوب في ( الحماد ) واحتلوا آكام أبي مندور ووضعوا عليها المدافع لضرب رشيد التي أصبحت محاصرة من الجنوب والغرب . وتصور الانجليز أن قصف هذه البلدة الصغيرة بالقنابل سيركعها , ولكن هيهات فقد كانت المعنويات في السماء كما يقال , ورغم قصفها بـ 300 قنبلة من العيار الثقيل حيث تهدمت كثير من البيوت واستشهد أعداد كبيرة من الأهالي إلا أنهم لم يستسلموا ولم يسلموا المدينة . بل كانوا يخرجون من المدينة من آن لأخر لمناوشة الإنجليز , واستمر القصف 12 يوماً دون طائل حتي لقد ارسل قائد القوة المهاجمة الجنرال ستيوارت إلي قائد الحملة الجنرال فريزر يقول له : ( إن الأعداء لايكترثون بالمصائب التي تنزل بهم رغم أن قواتهم لاتزيد عن 300 فارس و800 من الآرناؤوط وألف من الأهالي المسلحين ) واضاف : (ان نجاحنا متوقف علي نجدة المماليك)!!

بل نجح المصريون في تركيب مدفعين علي البر الشرقي واخذوا يقصفون ميمنة الجيش الإنجليزي بالبر الغربي في الحماد .

وعندما وصل مدد قوات محمد علي تم اكتساح الإنجليز في الحماد وهي المدخل الوحيد بين المياه إلي رشيد , بل تمت إبادة القوة الإنجليزية عن بكرة أبيها بين قتيل وأسير ( 416 قتيل و400 أسير) وذلك في 3 ساعات فقط .

وعندما علم الجنرال ستيوارت الذي كان يحاصر مدينة رشيد بهذه النكبة , قام بإتلاف مدافعه وهرب بقواته سريعاً إلي أبي قير وقام بعض الأهالي بتعقب المنسحبين حتي بحيرة ادكو .

ويروي الجبرتي هذه الصورة الحية للمقاومة الشعبية التي تسلحت بالإيمان والعزة الوطنية في معركة رشيد .. {وكذلك أهل البلاد قويت همتهم وتأهبوا للبروز والمحاربة واشتروا الأسلحة ونادوا علي بعضهم بالجهاد وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلاماً وجمعوا من بعضهم دراهم وصرفوا علي من انضم إليهم من الفقراء , وخرجوا في مواكب وطبول وزمور , فلما وصلوا إلي متاريس الإنكليز دهموهم من كل ناحية علي غير قوانين حروبهم وترتيبهم وصدقوا في الحملة عليهم , وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا برميهم وهجموا عليهم واختلطوا بهم وادهشوهم بالتكبير والصياح حتي أبطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك وقبضوا عليهم وذبحوا الكثير منهم وحضروا بالأسري والرءوس علي الصورة المذكورة} وأتوقف عند قوله : {وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتي أبطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم}.

فهذا يذكرنا بمقولة سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه حين كان يحرض جند المؤمنين في معركة القادسية ضد جنود كسري , يحرضهم علي التكبير( الله أكبر ) فقال لهم : إن الله رزقكم التكبير وخصكم به من دون الأمم , وبالفعل فقد كان التكبير أحد أهم أسلحة المؤمنين ضد جيوش كسري والتي انتصروا بها عليهم . وهذا يذكرني بما قاله أحد أبطال حرب أكتوبر وهو يصف عبور القوات المصرية إلي سيناء. {كان مشهداً مهيباً ..  كانت صفحة مياه القناة ممتلئة عن آخرها بالجنود في القوارب و هم يهتفون الله أكبر .. لم يكن هؤلاء بشراً !! }

وبالفعل فلقد لعب هتاف ” الله أكبر” دوراً خطيراً في إرباك جنود اليهود داخل قلاعهم المحصنة فكأنهم قد شلت أيديهم , ولاشك ان هذا المشهد أرعبهم , وهذا الهتاف أرهبهم , فكانت خسائر الجيش المصري في العبور مفاجأة كبري من حيث قلة الخسائر . ويروي لي أحد المقاتلين وقد كنت مجنداً في الجيش في ذلك الوقت ولكنني كنت في الصفوف الخلفية حول القاهرة , وكنت من القوات ( الفرقة الثالثة ) التي تقدمت لمواجهة الثغرة , روي لي أحد الزملاء المشاركين في العبور إن كثيراً من الجند لم يأبهوا بالتعليمات وعبروا دون أمر , وبعضهم عبر دون أي احتراز أو احتياط , وهو مازاد عدد الجنود والقوارب العابرة , وزاد من رعب الأعداء من المنظر ومن علو صوت هتاف ” الله أكبر ” . وهو نفس ما يصفه الجبرتي عن موقف رشيد { فلما وصلوا إلي ( الأعداء) دهمومهم من كل ناحية علي غير قوانين حروبهم وترتيبهم وصدقوا  في الحملة عليهم وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا برميهم وهجموا عليهم واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتي ابطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم }

وقد برهنت التقارير ان شبكة أنابيب ضخ النابالم الحارق علي صفحة القناة كانت حقيقة واقعة ضمن تحصينات خط بارليف , ولكن اليهود شلت أيديهم من هول المفاجأة والاقتحام فلم يستخدموها اصلاً .

وقد وصل الرعب بالإنجليز إلي حد قطع مياه سد أبي قير لتطغى مياه بحيرة أبوقير علي مريوط وتحيط المياه بالأسكندرية من جميع الجهات حتي لايتقدم المقاتلون المصريون من رشيد إليهم .

وأرسل الجنرال فريزر بمندوب ( ضابط ) لمحمد علي طالباً الصلح والإنسحاب ! وتم عقد “معاهدة جلاء الإنجليز عن الأسكندرية وتضمنت وقف القتال وجلاء القوات البريطانية عن الأسكندرية في مدي عشرة أيام وتنسحب من جميع القلاع والإستحكامات والمنشآت وتتركها بالحالة التي هي عليها الآن” وإطلاق سراح أسري الإنجليز – ووصفت المعاهدة التي وقع عليها الإنجليز محمد علي بأنه  “صاحب العظمة ”  . ( دمنهور 14 سبتمبر 1807 م ) أي بعد احتلال دام 6 شهور لم يتجاوز الشريط الساحلي بين الأسكندرية ورشيد .

وهكذا صد الشعب المصري العدوان ومعه قوات محمد علي وتأجل احتلال بريطانيا لمصر 75 عاماً !!

وكانت هزيمة الإنجليز فرصة لإعادة ضم الأسكندرية للوطن ! بعد أن كانت مدينة تابعة مباشرة للآستانة لاتخضع حتي لسلطة الوالي العثماني علي مصر . ودخل محمد علي الأسكندرية لأول مرة وكان يوماً مشهوداً أطلقت فيه مدافع القلاع والأبراج ابتهاجاً بالحدث السعيد .

وعند هذه اللحظة أعادت الحكومة التركية ابراهيم بك ( باشا ) ابن محمد علي إلي مصر وكان بالآستانة رهينة حتي يؤدي محمد علي الأربعة آلاف كيس التي التزم بأدائها , وكان قد دفعها بالفعل فأطلقت الحكومة سراحه إعراباً عن ابتهاجها بإنتصار الجيش المصري !!

محمد علي .. مصرياً

كانت حياة محمد علي سلسلة لاتنتهي من التحديات , وسلسلة لاتنتهي من الإستجابات العنيدة لهذه التحديات لم يمر عليه يوم سهلاً ميسوراً , وكان رجل الصعوبات وإلا لانزوي ذكره مبكراً , وكان يمكنه أن يكون والياً تقليدياً لمصر أو انكشارياً تقليدياً للدولة العثمانية الغاربة وينضم لطابور لا متناهي من الأسماء في هذا المجال . ولكن هذا الشخص الأمي الذي لايعرف القراءة والكتابة , ويقال أنه بدأ تعلمها في سن الأربعين أي بعد وصوله لمصر بـ 10 سنوات أي عام 1811 م . هذا الأمي كان شخصاً ذكياً لماحاً يتسم بقدرة فائقة علي استشراف الواقع السياسي – الإقتصادي .

كان محمد علي قد  ابتلي بمصيبتين في مصر : المماليك ” وقواته هو ” التي جاء قائداً لها : الأرناءوط وهو من قولة وهي من أعمال اليونان , ولكنه ألباني الأصل, وكانت قواته ألبانية, والألبان يطلق عليهم الأرناءود . وقد استولت الدولة العثمانية في وقت مبكر علي ألبانيا واليونان وانتشر الإسلام في ألبانيا وهي من دول البلقان وهي حتي الآن دولة إسلامية من حيث إنتماء الشعب للدين الإسلامي .

نشأة محمد علي في بلدة يونانية بينما هو ألباني كرست فيه أنه مواطن عثماني ليس له انتماء وطني أو تاريخ في وطن محدد , وعمله في تجارة الدخان قبل انخراطه في الجيش العثماني أعطاه ثقافة عامة من خلال الإتصال بالتجار من مختلف الجنسيات والدول والقوميات . وعندما أضمر محمد علي في نفسه عندما جاء علي رأس قوة الأرناءوط عام 1801 م في أعقاب الإنسحاب الفرنسي , عندما أضمر في نفسه أن يحكم مصر , كان يتحول فعلياً إلي مواطن مصري , وهذا ما لا يدركه كثير من المثقفين الذين يتحدثون كثيراً عن أن مصر لم يحكمها مصريون منذ المصريين القدماء إلا محمد نجيب وعبد الناصر وحتي الآن . وهذا ليس كلاماً صحيحاً , خاصة في ظروف مصر . وقد تحدثت عدة مرات من قبل وأكرر إن مصر بوتقة صهر للبشر فهي بحكم موقعها تقع علي مفترق دول وقارات العالم ( علي الناصية كما نقول ) فالقادم من أوروبا يمر بها في طريقه إلي الشرق , والشرقي الآسيوي يمر بها في طريقه لأوروبا , والإفريقي يمر بها في طريقه إلي آسيا أو أوروبا والآسيوي يمر بها في طريقه لإفريقيا , وفي العهد الإسلامي أصبح الحجيج الإفريقي كله تقريباً أي القادم من غرب ووسط وشمال افريقيا لابد أن يمر بمصر ثم يتجه للحجاز عن طريقين :

1-     الطريق البحري عبر البحر الأحمر من عدة موانئ : القصير – عيذاب – القلزم (السويس ) ولهذا نجد الشاذلي ( شيخ الطريقة الشاذلية ) قد تمركز في منطقة البحر الأحمر وهو قادم من المغرب علي سبيل المثال

2-     الطريق البري عبر سيناء ثم الإنحناء جنوباً من العقبة في طريق الحجاز , ( لم تكن قناة السويس قد حفرت بعد ) والآن فإن الطريق البري بالأوتوبيسات يمر في نفس طريق الإبل سابقاً , عبر نويبع , والعبارات للأردن .

تجد في مصر التجمعات المغربية والكردية والأرمينية والشوام والفلسطينية والتوانسة والعراقيين والأتراك واليونان ( الجريج ) والسودانيين وبعضهم استقر في مصر لدي عودته من الحج . وإذا عدنا لخط الحج من جديد تجد سلسلة المشايخ والصوفية قد جاءوا من المغرب العربي ( شمال افريقيا ) واستقروا في مصر بعد عودتهم من الحج فمصر جذابة . ليس الشيخ الشاذلي فحسب بل ستجد خط الساحل الشمالي هكذا : سيدي عبد الرحمن – سيدي كرير – المرسي أبو العباس بالأسكندرية وهكذا , وقد لاتعرف ان حي بولاق الدكرور نسبة إلي ضريح الشيخ التكروري الموريتاني الذي استقر في مصر في هذا المكان وهو عائد من الحج . وقد استوطن وتمصر العديد من فروع القبائل العربية القادمة من الحجاز التي كانت تقبل علي مصر حتي من قبل الفتح الإسلامي , وهذه معروفة ولا حصر لأسمائها فهي بالمئات ان لم يكن أكثر وقد تسمت بها البلاد والمناطق : بني عدي – الهوارة .. الخ . في طرق الحج فإن سواحل إفريقيا الشرقية فقط هي التي يمكن لمسلميها أن يحجوا بالذهاب بحراً ومباشرة إلي الحجاز عبر البحرالأحمر دون المرور بمصر .

هذا علي مستوي التفاعل الشعبي – السكاني , والذي أدي إلي ان ملامح المصري واضحة ومعروفة وأنت يمكن أن تتعرف علي المصري من سحنته في أي مكان في العالم ولكنك تجد في المصريين كل درجات لون البشرة من السمرة الشديدة إلي البياض الناصع ومن الشعر الأسود والأكرت إلي الشعر الأصفر والناعم ومختلف ألوان العيون , إن المصريين أبعد مايكونون عن ” العرقية ” وإن كانت الشعوب النقية العرق تماماً غير موجودة . ولكن في المقابل لن تجد في الشعب الروسي مواطناً اسمر أو اسود كذلك في السويد وكل بلاد الاسكندنافية لأن كل هذه البلاد في أقصي شمال الأرض وبالتالي فهي ليست ممراً مفتوحاً للغادي والذاهب. وفي قلب افريقيا الداخلي لايمكن أن تجد مواطناً أبيض لأن هذه المناطق الواسعة أبعد ماتكون عن الإحتكاك مع الشعوب الأخري . كذلك في قلب جنوب شرقي آسيا والصين ستجدهم جميعاً تقريباً بعيون ضيقة وقامة تميل للقصر , وشكل واحد في كوريا أو فيتنام حتي انك تتعجب كيف يفرقون بين بعضهم البعض .

الأمر لم يقتصر علي التفاعل السكاني – الشعبي , ولكن الموقع الإستراتيجي لمصر والمستطيل الذي طالما تحدثنا عنه  , جعل مصر ملقفاً ومطمعاً لكل القوي الطامعة في السيطرة , ومركز مصر الحضاري جعلها نقطة جذب لتلقي العلم فجاء النابهون  من أبناء الشعوب للتعلم فيها بدءاً من أيام جامعة أون / عين الشمس كأهم جامعة في العالم ثم جامعة الاسكندرية انتهاءاً بالأزهر كأهم جامعة في العهد الإسلامي , كذلك لكون مصر واحة زراعية حول النيل كانت مركزاً جاذباً لكل البدو والرعاة من حولها . ولكن نعود للأهمية الإستراتيجية لموقع مصر ( وماينطبق عليها ينطبق علي الشام والعراق ولكن بدرجة أقل ) لوقوع مصر علي أهم بحرين في وسط العالم : المتوسط والأحمر وأيضاً للأسباب الأخري المشار إليها آنفاً , فكانت جاذبة لقوي المنطقة والعالم لتأتي وتحتلها وتحكم المنطقة والعالم من خلالها – ففي مصر القديمة حكم مصر عدة ملوك وفراعين من أصل نوبي ( سوداني ) أو ليبي وكذلك الهكسوس الذين زحفوا لمصر من الشام بشكل استيطاني شامل وليس عبر الغزو المسلح فحسب , وكذلك الآ شوريون والفرس ثم اليونان والرومان ثم الفتح العربي – الإسلامي الذي زاد من الهجرة العربية لمصر وطوال الحقبة الإسلامية , توالي علي حكم البلاد أجناس تركية وشركسية وكردية في اواسط آسيا ( المماليك ثم العثمانيين ) وقبلهم الدول الطولونية والأخشيدية والفاطميين القادمين من المغرب , والأيوبيون الأكراد والمشرقيين عموماً . ولاشك ان من كل هؤلاء كان هناك قسم عابر وغير مستقر ولكن أعداداً غير قليلة استقرت في مصر واستوطنت فيها وتمصرت , ولاحظ أننا نتحدث عن آلاف متصلة من السنين . وفي مصر ستجد الصعايدة أكثر إنسجاماً وتقارباً من حيث السحنة والسلوك من أهل بحري والسواحل , لأنهم كانوا دائماً الأقل إحتكاكاً بالعالم الخارجي من حيث التزاوج والتعاملات , وان كانوا أكثر تعرضاً للهجرات العربية ( عبر البحر الأحمر ) والسودانية ( من الجنوب ) . حتي ان أقصي جنوب مصر لايفرق كثيراً عن السودان , وبالتالي فان افتعال الخلاف بين مصر والسودان حول حلايب وشلاتين أمر بالغ السخف , والأجدر أن تكون منطقة تكامل في إطار إعادة توحيد البلدين كما كانا عبر التاريخ . كذلك سنجد التداخل علي الحدود الغربية مع ليبيا والطابع الأهلي المشترك : قبائل أولاد علي العربية علي الجانبين , والأمازيغ في واحة سيوة , وعلي حدود فلسطين سنجد الطابع المشترك الأهلي السلوكي والعرقي بين غزة ورفح والعريش وفي سيناء سنجد القبائل العربية القادمة من الحجاز من قديم الأزل .

ولكن عبقرية المكان , عبقرية الموقع والموضع والعمق الحضاري حولت مصر إلي بوتقة لصهر كل هؤلاء , ففي باطن الأرض تنصهر عشرات العناصر وتخرج في النهاية معادن متنوعة كل علي حدة , رغم وجود بعض الشوائب في كل معدن , ان مصر كانت أشبه بهذا البركان ولكن بهدوء نادر المثال . وبالتالي فإن الشخصية المصرية ظلت حقيقية ومستقلة ومتسامية فوق كل هذه المكونات وشكلت انساناً جديداً مختلفاً عن كل هؤلاء علي حدة اسمه “المصري” وهذه ليست نظرية عرقية بل هي بالتحديد ضد العرقية فالمجتمع المصري كان قد نشأ واستقرت مكوناته قبل قدوم كل هؤلاء وبالتالي اصبح قادراً علي الامتصاص والاستيعاب والفرز وأخذ عناصر وترك عناصر. المسيحية ثم الإسلام كرسالات سماوية هما فقط اللذان أعادا تشكيل الشخصية المصرية بشكل جوهري , والدين أهم مايشغل المصري وهذه من أهم خصائصه , كما ان مصر كانت دائماً موئلاً للأنبياء : إدريس – أيوب – موسي – يوسف , ومرقس أحد حواري المسيح هو الذي نشر المسيحية في مصر  .

في بلاد أخري تؤدي الهجرات الكثيرة إليه إلي خلق نوع من الفسيفاء التي تؤدي إلي حالة من التنافر وتكون مبعثاً للقلاقل وعدم الإستقرار وهذا مايبدو ظاهراً في الشام والعراق ( فلسطين أقرب إلي مصر وهي أقرب أجزاء الشام انصهاراً مع بعضها البعض ) وغالب بلاد وسط آسيا. أقول كل ذلك ليس لشرح مصرية محمد علي أو محمد علي الذي أصبح مصرياً أصيلاً بل لشرح ظاهرة حكام مصر من منابع غير مصرية لتأكيد أن اغلبهم تمصر بشكل حقيقي وغير مفتعل , وهذا لاينطبق بطبيعة الحال مع الإستعمارين اليوناني والروماني ولا الإستعمار الفارسي القديم , لأنهم كانوا حكماً يستند أساساً لقوة عسكرية أجنبية ومع ذلك فإن ظاهرة الإنصهار تنطبق علي شريحة محدودة من اليونان وبعض الأروام الذين بقوا في مصر بعد الاحتلال .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: