أوقات عصيبة يعيشها رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو، وأوقات أصعب تلوح فى الأفق، وكأن المصائب لا تأتى فرادى، فلا يدرى ماذا يفعل، حالة من الارتباك والتخبط تنتابه وفريقه الوزاري، فالأزمات تتفجر من كل مكان، وكل قرار يجد له نتائج سيئة وبدائله أسوأ، فلا يستطيع مثلا التوقف عن عمليات هدم منازل الفلسطينيين وتهويد القدس، لأنها السبيل لرفع شعبيته، وتأكيد مزاعم انتصاره، لكن الإقدام على إخلاء حى الشيخ جراح مجددا سيكون مشكلة كبيرة، بعد أن تسبب فى الحرب مع غزة، وسيكون قد ضغط على زر تفجير جديد لحرب أخرى قد تكون أوسع وأخطر، وكذلك إذا فعل فى حى سلوان المتاخم للمسجد الأقصى، وكان وربما لا يزال يعتقد أن عمليات الهدم والتهويد أسهل الطرق لرفع أسهمه فى بورصة الانتخابات المقبلة، لكن أحياء القدس القديمة تحولت إلى حقول ألغام خطيرة، أما إذا تراجع فإنه سيبدو ضعيفا أمام جماهيره المتعطشة لمزيد من التوسع، وستنقلب عليه وتبحث عن زعيم آخر أكثر جرأة وتطرفا، وقد أجلت المحكمة العليا الإسرائيلية قراريها حول حى الشيخ جراح وحى سلوان، وهو مؤشر على حالة الارتباك، وتلطيخ لصورة القضاء الذى يروج لأنه مستقل، فقد أصبحت المحكمة فى حيرة أيضا، بسبب النتائج السياسية وربما العسكرية التى ستترتب على قرارات إخلاء السكان الفلسطينيين. ويحاول نيتانياهو أن يصور معركة غزة بأنها انتصار كبير، وزعم تدمير 90% من الأنفاق والصواريخ، لكنه لا يستطيع إخفاء قلقه من عودة القتال وإطلاق الصواريخ، ويؤكد تمسكه بالهدنة فى غزة، التى تبدو منتشية من نتائج حربها رغم الجراح والتدمير وترفع علامات التحدى والنصر، وتجدد الفصائل تعهدها بالرد على أى مساس بالقدس والمسجد الأقصى، ولا يخفى الإعلام الإسرائيلى خيبة الأمل من معركة غزة، وأن صواريخها قد اخترقت القبة الحديدية وهيبة إسرائيل التى يصعب رتقها، فالخبراء الإسرائيليون يؤكدون أن حربا مع الشمال ستكون أخطر بما لا يقاس، وأن صواريخ غزة التى نشرت الرعب بين كل سكان إسرائيل لن تكون شيئا بالقياس بما تتوقعه من الشمال. لكن ليس أمام نيتانياهو إلا أن يواصل مشاريع الاستيطان والتهويد، فالتوقف هزيمة معنوية تفوق الفشل العسكرى فى غزة، ومضطر لحملات اعتقالات للمئات من الفلسطينيين من عرب الداخل والضفة، حتى إن صديقه وزير الخارجية الفرنسى جان إيف لودريان وصف ما يحدث بأن إسرائيل ستشهد فصلا عنصريا مزمنا، وهو ما أثار غضب نيتانياهو الذى رد بأنها تصريحات شنيعة ومنفرة وخاطئة. وجاءت لطمة أخرى أشد من المنظمة الدولية لحقوق الإنسان، فقد صوتت على تشكيل لجنة تقصى حقائق لرصد الجرائم الإسرائيلية فى غزة، وصدر القرار بأغلبية كبيرة، رغم مساندة الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا لإسرائيل والتصويت ضد القرار، وأعلنت حكومة نيتانياهو أنها لن تتعاون مع اللجنة، لكن هذا لن يمنع عملها، بل سيزيد من غضب الرأى العام الأوروبى والأمريكى الذى يتحول بسرعة ضد إسرائيل، ويهدم كل ما بنته الدعاية الإسرائيلية طوال عقود حول المظلومية اليهودية وأنها بقعة الضوء والتحضر فى المنطقة، وأن فلسطين كانت أرضا بلا شعب، وهذه التحولات فى المزاج الشعبى الغربي، والتى تجلت فى المظاهرات الحاشدة فى معظم الدول والمدن الكبرى ستكون لها مردودات سياسية سيئة، خاصة فى ظل تحولات وتقلبات سياسية واقتصادية سريعة لم تشهدها الولايات المتحدة وأوروبا من قبل. ولا تكف الأخبار السيئة عن ملاحقة نيتانياهو من الداخل والخارج، ومنها تعزيز خصمه الرئيس السورى بشار الأسد لموقعه فى سدة الرئاسة بعد الانتخابات التى جرت الأربعاء الماضي، لكن الأسوأ كان إخطاره بقرب عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووى مع إيران، ورفعها معظم العقوبات، وفى مقدمتها الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة، وهو أكثر ما كان يخشاه نيتانياهو ، والذى يرى فى إيران العدو الأخطر، وحاول بكل السبل عرقلة عودة واشنطن إلى الاتفاق النووى دون أى تعديل يتعلق بصواريخها الباليستية ومشاريع التسليح ودعم التنظيمات المعادية لإسرائيل.
لا يمكن لنيتانياهو أن يدرك أن سياساته هى سبب أزماته، وأنه من وحد الفلسطينيين وكل خصومه فى الداخل والخارج، وأنه أول من تدخل علنا فى الانتخابات الأمريكية مناصرا لترامب، ليتسبب فى شرخ يصعب أن يلتئم مع الإدارة الأمريكية الحالية، ورفض أن يدرك أن متغيرات كثيرة تحدث حوله بل تحت قدميه، ولم يعد يرى الواقع، بل لا يفكر إلا فى أفضل السبل التى تضمن بقاءه فى سدة الحكم، مهما تكن العواقب وخيمة، ولهذا لا يمكن استبعاد إقدامه على مخاطرات جديدة.