محمد علي صنع البوارج ونحن لانصنع الأستيكة
الجنيه المصري ظل يساوي 7 جم ذهب طوال القرن 19
مصر حققت فائضاً في الميزانية والتجارة الدولية
الحاج عمر السكندري كان له دور اساسي في صناعة السفن
السفن الحربية المصرية كانت تضارع الأوروبية وتفوقها احياناً
قصة أسطول الصيد الذي اختفي في عهد مبارك
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (33)
” الصناعة .. الصناعة .. الصناعة ” هكذا كنت اصرخ في مقالاتي من مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , في محاولة للتأكيد علي أن الصناعة هي كلمة السر في حل مشكلاتنا الاقتصادية وكثير من مشكلاتنا الاجتماعية بل أكثر من ذلك هي بداية الالتفات والاهتمام بالنهضة التعليمية والبحث العلمي , هي عمل وطني جليل في ذروة الأولويات , وعمل عقائدي من الطراز الأول (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) . و مجرد أن أهتم وأصرخ بأهمية الصناعة ونحن قد تخطينا حاجز القرن العشرين إلي الحادي والعشرين , فهذه كارثة في حد ذاتها .
لأن معظم البشرية دخلت في الثورة الصناعية وتطورت الصناعة إلي حد أصبحت الصناعة موضة قديمة , فمنذ الثلث الأخير من القرن العشرين والحديث يجري عن مرحلة ما بعد الصناعة , أو السبرنتيك أو الصناعات الألكترونية أو الأتمته الكاملة للصناعة من خلال الإنسان الآلي ( الروبوت ) أو الحديث عن صناعة التكنولوجيا الفائقة ليس حديثاً فحسب , فالمصانع الآلية تماماً والتي تعمل بالروبوت دخلت مرحلة التشغيل التجاري منذ عدة عقود في اليابان والصين وغيرهما . بينما يخرج علينا في مصر ( أم الدنيا ) رئيس الوزراء مثل عاطف عبيد مثلاً ليقول إن الحكومة تستعد لإنتاج الأستيكة ( الممحاة ) ! واذكر أنني كتبت مقالاً مخصوصاً في هذا الموضوع وقلت للدكتور عاطف عبيد : أحييك وأؤيدك في مشروع انتاج الأستيكة وأنا معك بروحي وقلبي وقلمي !! وكنت اسخر بطبيعة الحال لمعرفتي بأحوال النظام في التسعينيات من القرن العشرين , ولم أخف سخريتي لأني أنهيت حديثي بالقول : (وأتحداك أن تنفذ وعدك فإنك لن تفعل!)، سبحان الله كيف أتاني كل هذا اليقين ( المستند للتحليل ) فبعد قرابة عشرين سنة أو ربع قرن لم يتم انتاج الأستيكة المصرية ولا معظم الأدوات الدراسية . ( آخر كراسة اشتريتها كانت من انتاج ماليزيا ! ) الصناعة هي مرحلة دخلت فيها البشرية جمعاء عدا معظم الأفارقة والعرب والمسلمين , ودخلت المراحل المتطورة التي أشرت إليها .. بينما نحن في مصر أبطال استيراد كل شئ , ثم نتساءل ببلاهة : ماهو سبب الأزمة الإقتصادية ؟ وكيف نحلها ؟ ولماذا تستشري البطالة ؟! ولماذا ينهار الجنيه أمام الدولار ؟
هل تعلم أن الجنيه المصري هو صناعة محمد علي ؟! في عام 1836 م صدر الجنيه المصري كرمز للاستقلال عن الدولة العثمانية , وبدأ جنيهاً مصرياً ذهبياً وزنه 8.5 جم ذهب وحل محل القرش العثماني ( لاحظ أن القروش كانت كلمة ألمانية !!) . وظل الجنيه المصري شامخاً حتي عندما تحول إلي جنيه ورقي وظل يوازي 7.43 جم ذهب عام 1898 م ( في عهد ابناء محمد علي )
استخدم ابراهيم باشا ( ابن محمد علي ) عندما كان حاكماً للشام العملة المصرية , وتعجب أهل الشام عندما رأوا عملة مصرية لأول مرة , ولهذا السبب وحتي الآن فان اهل الشام ( سوريا – لبنان – الأردن – فلسطين ) يسمون الفلوس مصاري ( نسبة لمصر) . وظل الجنيه المصري أقوي من الإسترليني اما الآن فتعلمون ماهو سعر الجنيه المصري أمام الدولار والإسترليني ؟! وسنأتي لتفصيل ذلك . المهم أن قوة العملة من قوة الإقتصاد . والإقتصاد الذي لاينتج ويعتمد علي الإستيراد هو إقتصاد ضعيف منهار .
عندما أصرخ بعد أكثر من قرنين من الزمان أي بعد أكثر من قرنين من حكم محمد علي مطالباً بالإهتمام بالصناعة فهذا يعكس أي حالة مجنونة وصلنا إليها , أي حالة من التخلف أصابت النخبة الحاكمة وغير الحاكمة . كمن يصرخ مطالباً بتوفير الأكل للناس لأن الأكل من ضرورات الحياة !! فلابد أن أحد الطرفين مجنون إما الذي يدعو للصناعة ولتوفير الأكل (لأنه لايعرف ان هذا متوفر ولكنه لايراه) . وإما حكام البلاد والمؤسسات الحاكمة كلها فى عهد مبارك قد أصابها الخلل العقلي يحيث تنسي هذه الأولويات وتنشغل بأمور أخري .
الصناعة الآن ومنذ زمن تدخل في كل مانستهلكه حتي الغذاء والإنتاج الزراعي يمر أغلبه في درجة من درجات التصنيع : تعليب أو تغليف أو تجفيف أو تحويل او علي الأقل نقل والنقل يتم بوسائل نقل مصنعة .
لم يكن عقلاء الأمة غافلين عن ذلك وكان أول العقلاء محمد علي الذي قام بأول موجة حديثة من التصنيع . فأنا اتحدث عن الصناعة الحديثة وإلا فالصناعات اليدوية والبسيطة والصغيرة موجودة منذ فجر التاريخ خاصة في مصر : منسوجات – مشغولات – مناجم – صناعة الورق البردي .. السفن والقوارب .. الخ
1- كانت الموجة الأولي للتصنيع في عهد محمد علي
2- الموجة الثانية حدثت خلال الحرب العالمية الأولي بسبب إنقطاع الإستيراد.
*ولكن الحركة الواعية كانت عقب الحرب بريادة طلعت حرب , واستمرت قوتها الدافعة إلي ماقبل 1952 م
3- الموجة الثالثة في عهد نظام 23 يوليو التي بلغت ذروتها في الخطة الخمسية الأولي والأخيرة 1959-1964 م . وحدث إنكسار هزيمة 1967 .
4-الموجة الرابعة : تدمير كل منجزات الموجات الثلاثة السابقة في عهدي السادات ومبارك من خلال بيع القطاع العام , وتفكيكه بعد أن كان هو القاعدة الأساسية للصناعة , بيع القطاع الخاص لشركات أجنبية , تحول النشاط الصناعي إلي توكيلات أجنبية أو صناعات إستهلاكية خفيفة او انتاج يعتمد علي مكونات وسلع بسيطة أجنبية . ومع بقاء بعض الجزر الصناعية المنعزلة هنا وهناك من بقايا الماضي إلا أن الإتجاه الكاسح هو الإعتماد علي الإستيراد أو صناعات التجميع ( التوكيلات الأجنبية )
كيف فكر محمد علي في الصناعة ؟.
الفكر الفطري السليم عند محمد علي يقول ببساطة إن مصر وأهلها ليسوا أقل من أهل أوروبا فإذا كان الأوروبيون دخلوا مرحلة الصناعة الحديثة فإن المصريين قادرون أيضاً علي الولوج إليها . وهذا هو الفكر البسيط الذي ندعو إليه اليوم , والذي يطالب بالتخلص مما يسمي عقدة الخواجة .
نحن الآن مهزومون تسيطر علينا فكرة خبيثة : إننا متخلفون وعاجزون عن اللحاق بركب الحضارة وليس أمامنا سوي الإستيراد أو يأتي استثمار أجنبي يصنع لنا مانعجز عن صنعه . رغم ان العالم الغربي مليئ بالعلماء والشخصيات الفذة من المصريين في مختلف المجالات : الصواريخ – الفضاء – صناعة القطارات – الأنفاق – الذرة .. الخ
في عصر محمد علي دخل الأوروبيون ( الإنجليز والفرنسيون أساساً ) عصر البخار أي الآلة التي تدور بالبخار والسكة الحديد والسفن التي تسير بالبخار فتابعهم وأدخل مصر في عصر البخار . ولولا ماحدث من إنتكاسة في عهد ابناء محمد علي في مجال الصناعة مع التدخل الأوروبي الفاضح + في شئوننا الداخلية والذي أدي إلي احتلال مصر , لولا ذلك لكنا نسير مع الأوروبيين شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما هو حال اليابان التي بدأت بعد محمد علي .
في دراسة سابقة كتبت عام 2010 م ( مدونات ثورية من تاريخ مصر – دار الفكر العربي – مدينة نصر أو رسائل التاريخ – في الإنترنت ) ستجد فصلاً مهماً عن محمد علي خاصة في المجال الإقتصادي والتعليمي , وقد استندت في هذه الدراسة المكثفة إلي كتاب يحوي التقارير الدبلوماسية الرسمية التي كان يرفعها قناصل ( سفراء ) الغرب إلي وزارة الخارجية في بلادهم وعلي رأسهم قناصل انجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا . في مسألة الصناعة كان بعض هؤلاء القناصل يحاولون إثناء محمد علي عن الولوج إلي الإقتصاد الصناعي لأنهم كانوا يخشون أن تمتلك مصر أسباب القوة فيصعب السيطرة عليها , يروي أحدهم في أحد التقارير حواراً دار بينه وبين محمد علي وكيف أنه حاول ان يثني محمد علي عن دخول عصر الصناعة والإكتفاء بإستيراد المنتجات الصناعية في الغرب بحجة أن تكاليف الإنتاج الصناعي ستكون مرهقة للميزانية المصرية ويكفي الإهتمام بالإنتاج الزراعي الذي تبرع فيه مصر , كذلك فإن جو مصر المشبع بالأتربة والرمال سيؤدي إلي سرعة عطب آلات وماكينات المصانع وهذه سخافة واضحة , إلا أن القنصل الأوروبي يقول في تقريره أن محمد علي لم يستجب له وكان مصراً علي الإستمرار في الطريق الصناعي , وانه قال له : كما نجحتم أنتم الأوروبيون في الصناعة فلماذا لاينجح المصريون ؟!
وهذه هي القضية وهذا هو الطرح الصحيح للمسألة والذي يجب أن نطرحه مجدداً اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ! وبمنتهي البساطة هكذا !
وتشير التقارير الدبلوماسية الأوروبية إلي نجاح محمد علي مع مرور السنين , وإنه حقق فائضاً في الميزان التجاري , ولذلك فهو لم يفكر أن يقبل أي نوع من عروض الإستدانة. وبعد كل ما قام به من مشروعات البنية التحتية والتطوير الصناعي والزراعي والحروب في الشام وتركيا والجزيرة العربية واليونان والسودان وبعد بناء الأساطيل البحرية الحربية والتجارية , وبناء الجيش وصناعات السلاح , فإنه خرج من الحكم عام 1848 م والديون المصرية الأجنبية تساوي صفراً !
أما إذا نظرت لأرقام الميزانية , ولاحظ قبل محمد علي لم تنقل لنا كتب التاريخ أي ميزانيات للحكومة حيث لم تكن هناك دولة بالمعني الحقيقي .
إذا نظرت لأرقام الميزانية في بعض السنين علي سبيل المثال ستجد التالي :
السنة الإيرادات المصروفات
1821 199.700 ج 947.090 ج
1833 2.525.275ج 1.999.070 ج
1842 2.926.625ج 2.176.860 ج
وهكذا نري عجزاً في ميزانية 1821 م قد تحول إلي فائض في ميزانيتي 1833 م, 1842 م وهو الأمر الذي لايحدث في مصر منذ عدة عقود في آواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين .
صناعة الأساطيل البحرية :
ويقول بعض المؤرخين ومنهم اخوة اسلاميين وكأنهم يطعنون في محمد علي إن إهتمامات محمد علي بالصناعة والتعليم لم تكن إلا من أجل بناء جيش قوي . وأقول لهؤلاء اذا تأملتم تاريخ وحاضر الأمم ستجدون أن الإهتمام بالصناعات الحربية هو الذي أدي إلي تطوير الصناعات المدنية . لأن الإثنين يقومان علي نفس التكنولوجيا . وفي البلاد المهددة بالغزو الأجنبي فإن بناء جيش وطني قوي من الأولويات الأساسية للحكم الرشيد .
بدأ محمد علي صناعة السفن في اوائل عام 1810 م أي بعد تولي الحكم بخمس سنوات , بدأ في بناء السفن في دار صناعة ( ترسانة ) بولاق , وكانت أجزاء السفن يتم ترقيمها وتنقل علي ظهور الإبل إلي القلزم ( السويس ) حيث يتم تركيبها هناك وتنزل البحر .
وكان ذلك في البداية بسبب الحرب ضد الوهابية في الجزيرة العربية ( سنتحدث عن الحركة الوهابية إن شاء الله بعد الإنتهاء مما نراه الأكثر أهمية في عهد محمد علي ) ولكن أدي وجود أسطول مصري في السويس إلي تمكين مصر من السيطرة علي البحر الأحمر وثغوره . وقد كانت في المرحلة الأولي عملية شاقة استخدم فيها 10 آلاف من الإبل وكان يتم استبدال كثير منها عندما تموت من ثقل احمالها , وبذلك انشأ 18 سفينة كبيرة في مدة 10 شهور . كذلك تم في ترسانة بولاق صناعة السفن التجارية التي استخدمتها الحكومة لنقل البضائع والمهمات علي النيل وعلي شواطئ البحر المتوسط . وكانت الأخشاب تأتي من الشام وتركيا بالإضافة لمصر أيضاً . ويقول الجبرتي عن عام 1812 م ( واستمر – أي محمد علي – ينشئ المراكب الكبار والصغار التي تسرح في النيل من قبلي إلي بحري ومن بحري إلي قبلي ولا يبطل الإنشاء والأعمال – في ترسانة بولاق – علي الدوام , وكل ذلك علي ذمته , ومرمتها وعمارتها ولوازمها وملاحوها بأجرتهم علي طرفه لا بالضمان كما كان في السابق , ولهم قومة ومباشرون متقيدون بذلك الليل والنهار ).
وكان بالأسكندرية ترسانة تبني فيها بعض السفن علي الطراز القديم وقد عهد برئاسة الهندسة فيها إلي رجل يدعي شاكر أفندي الإسكندري يعاونه في ذلك مهندس بارع من أهالي الإسكندرية اسمه ( الحاج عمر ) وهو من مشاهير المعلمين في فن بناء السفن فجعله محمد علي رئيساً للإنشاء وعمارة السفن وجعل علي الإشراف موظفاً يدعي الحاج أحمد أغا .
واتوقف عند ( الحاج عمر ) فأمره مهم جداً , فهو يكشف ان محمد علي كان يبحث ( بمنكاش ) عن كفاءة مصرية , وأنه لم يكن عنده عقدة الخواجة ولكنه استعان بالخبراء الأجانب بقدر , وبقدر الإحتياج . ولم يكن بالأسكندرية وقتئذ سوي الترسانة القديمة وكانت تصلح لتكون نواة لإنشاء دار صناعة ( ترسانة ) كبري لبناء السفن الحربية . لم تكن الترسانة القديمة سوي مظلات من الخشب في مكان قريب من البحر , ومع ذلك تم بناء 3 سفن حربية فيها , وقد عهد محمد علي – كما قلنا – برئاسة هندسة السفن وبنائها في هذه الترسانة القديمة إلي الحاج عمر وهو من أهالي الأسكندرية , وقد تردد اسمه كثيراً في المراجع الأجنبية والعربية وفي جريدة الوقائع المصرية ( الجريدة الرسمية التي تصدر عن الحكومة وهي لاتزال تصدر حتي الآن !!) اذ كان مهندساً بارعاً في فن بناء السفن بينما لم يكن خريجاً لأي مدرسة أو كلية هندسة لا في مصر التي لايوجد فيها حتي هذه اللحظة أي كلية هندسة ولا في الخارج ولكنه الذكاء المصري العتيد المقترن بتراكم الخبرة . وعندما استعان محمد علي بالمسيو دي سريزي بك وهو مهندس بحري فرنسي من ثغر طولون اشتهر بالكفاءة والخبرة في فنون البحرية وخاصة في فن بناء السفن والأحواض والترسانات , عندما استعان به ليكون مشرفاً علي الترسانة الكبري الجديدة لبناء السفن الحربية أعجب المهندس الفرنسي بالحاج عمر وبكفاءته وجعله مساعده الرئيسي في تحقيق برنامجه واستغني عن شاكر افندي التركي الذي كان رئيس الهندسة في الترسانة القديمة . ووصف كلوت بك في كتابه لمحة عامة إلي مصر الحاج عمر بأنه ” رجل طاعن في السن يجمع بين الشهامة والكفاءة في بناء السفن ” . وقال عنه علي باشا مبارك في كتابه ( الخطط التوفيقية ) انه ( كان الرئيس علي إنشاء وعمارة السفن بتلك الميناء وهو رجل من الأهلين وكان صاحب ادارة ومعرفة طبيعية وأقدم علي هذه الأعمال مع الإصابة ) وقالت عنه الوقائع المصرية في عددها 112 الصادر في 27 شعبان 1245 ( فبراير 1830 ) ,
(الحاج عمر يوزباشي – واضح انه حصل علي رتبة يوزباشي وكانت هذه الرتب للموظفين العسكريين والمدنيين – من أهالي الأسكندرية رئيس المعماريين في ترسانة الأسكندرية , لم يكن له نصيب من علم الهندسة , ومع ذلك زاول أعمال سفن التجارة مدة , وصار كأنه مهندس رياضي بكثرة المزاولة في الأعمال , وبسبب قوة ذكائه وفطانته , والآن تم إنشاء سفينة الفركطون الذي شرع في انشائه بمعرفة المرقوم , وطولها من قربينتها 132 قدما, ومن كورتنها 147 قدماً وعرضها 37 قدما وعمقها 31 قدما , وبطاريتها الأولي تسع 28 مدفعاً وكذلك بطاريتها الثانية ودواردتها تسع مدفعين , فنزلت في يوم الاثنين الموافق 15 شعبان المعظم , ولما رآها موسيو سريزي الذي جاء من فرنسا وهو مهندس ماهر في إنشاء السفن تعجب من حال المعمار المرقوم حيث انشأ تلك السفن من دون علم الهندسة وأكمل جميع مايحسن لها ).
وشرع المسيو سريزي في بناء الترسانة الكبيرة بمساعدة الحاج عمر وقدم رسوم التصميم لمحمد علي في 9 يونيو 1829 . وبدأ في تأسيس أقسام وورش للنجارين والحدادين والقلافطة والسباكين والميكانيكيين من مختلف أنحاء مصر وتم تدريبهم علي يد المسيو سريزي والحاج عمر, وأصبح جميع العاملين تحت إمرة الحاج عمر وتم الإنتهاء من بناء الترسانة عام 1831 م ومعظم العاملين فيها مصريون .
وكان محمد علي يحضر بنفسه كثيراً للإشراف علي العمل وبث الهمة والحماس في نفوس العاملين . وكذلك كان يفعل ابنه ابراهيم باشا وفي 3 يناير 1831 ( الترسانة بنيت في أقل من عام ونصف العام ) تم الإنتهاء من إنشاء بارجة حربية مصرية 100% ذات مائة مدفع , وخلال عدة من السنين أصبح لمصر أسطول حربي كامل بديلاً عن الأسطول الذي دمر في معركة نافارين ( سنتحدث عن المعارك فيما بعد ).
وكانت هذه الترسانة التي بنيت في أقل من عام ونصف عام تضم 14 ورشة ومخزن للذخائر والمهمات , بالإضافة لمصانع أخري خارج الأسكندرية تمدها باحتياجاتها وهي مايسمي في الاقتصاد ( الصناعات المغذية ) فتم انشاء مصنع في رشيد لتصنيع ونسج قماش الأشرعة , ومصانع أخري للحدادة , وكذلك كانت في القاهرة مصانع تورد احتياجات الترسانة . وكانت هناك خطة سليمة بعدم تركيز كل المصانع المرتبطة بالترسانة في مكان واحد حتي لا تتعرض جميعاً للدمار في حالة حدوث هجوم اجنبي . وبلغ عدد عمال الترسانة 8 آلاف عامل . وطبعاً لقد تم تعميق مياه البحر في الترسانة حتي تستطيع أن ترسو فيها أكبر السفن في ذلك الزمان .
في هذه الترسانة الجديدة تم بناء البارجتين ( مصر ) و ( عكا ) وهما بحجم السفن الفرنسية ذات الثلاثة سطوح تحمل كل واحدة منهما 100 مدفع بعيارين مختلفين .
ثم أربعة بوارج من ذات المائة مدفع ايضاً ( المحلة الكبري ) – ( المنصورة ) – (الأسكندرية) –( حمص ) . وسفينة من طراز كورفيت واخري من طراز جوليت ( عزيزية ) واخري ( قوط النزهة ) وسفينة لمدافع الهاون , وسفينة لحمل الأخشاب . كما تولت الترسانة تسليح البارجة ( بيلان ) ب86 مدفع . وحسب كتاب كلوت بك 1839 م كان العمل جاريا في بارجتين كبيرتين و فرقاطة . وقد جري هذا من خلال إنجاز لم يكن متحققاً في كثير من السفن الحربية الأوروبية وهو توحيد عيارات مدافع السفن الحربية الكبري كما قامت الترسانة بترميم فرقاطة كانت من انتاج ايطالي .
ومجموع انتاج الترسانة التقريبي : بناء 13 بارجة وفرقاطة – ترميم 22 سفينة حربية – بناء 4 سفن للنقل – عدد غير معروف من السفن الصغيرة – 4 بواخر مدنية وتجارية أي تعمل بالبخار , فقد بدأت مصر تلتحق بعصر البخار الذي بدأ لتوه .
وكان محمد علي يرفض مد السكة الحديد بين الأسكندرية – القاهرة – السويس لأسباب أمنية استراتيجية ( سنتحدث عنها فيما بعد ) إلا انه بنى سكة حديدية في إطار مشروع الترسانة وهو خط قصير طبعاً تصل مستودعات البضائع والغلال بالرصيف لتسهيل نقلها إلي السفن . كما قام المهندس المصري مظهر باشا أحد خريجي البعثات ببناء فنار الأسكندرية لإرشاد السفن القادمة إلي الميناء والخارجة منها وهو من أجل أعمال العمران التي تمت في عهد محمد علي.
وكتب المارشال مارمون في كتابه عن زيارته لترسانة الأسكندرية 1834 م فقال : (زرت الترسانة والأسطول وكنت شديد اللهفة لزيارة هذه المنشآت المدهشة التي لم يكن يتصور العقل تأسيسها , ففي سنة 1828 م لم يكن بالأسكندرية إلا ساحل مقفر . ولكن هذا الساحل أصبح في سنة 1834 م مغطي بترسانة كاملة بنيت علي مساحة واسعة وأحواض للسفن ومخازن ومعامل ومصانع لكل نوع , ومما استوقف نظري ورشة الحبال التي يبلغ طولها 1040 قدماً أي في طول ورشة الحبال بثغر طولون ( بفرنسا ) وقد شاهدت في الترسانة عمالا يعملون في مختلف معاملها , ولهم مهارة في كل مايعهد إليهم من الأعمال البحرية , وهم جميعاً من المصريين ويسود بينهم النظام والعمل والنشاط { وكل هذا الإنتاج للسفن تم في بلاد ليس فيها أخشاب ولاحديد ولانحاس , ولم يكن فيها عمال ولابحارة ولا ضباط مجربون , أي أنها كانت مفتقرة إلي كل العناصر اللازمة لإنشاء أسطول , وهذه همة لانظير لها في التاريخ). ويضيف (وكان محمد علي يقضي أياماً بأكملها وسط العمال فكان حضوره يبعث في نفوسهم روح النشاط والهمة , ويذلل العقبات التي تعترض العمل ويحمل كل واحد من العمال علي بذل كل مافي طاقته من الجهود).
ثم يتحدث المارشال مارمون عن كفاءة المصري وأنا أتعمد إقتباس كلامه بالتفصيل في زمن (أوائل القرن الواحد والعشرين ) انهارت فيه ثقة المصريين في أنفسهم !! يقول ( وانا كأني أقرأ قصيدة شعر لم تحدث في مجال الأدب والشعر ) .
(إن العربي – يقصد المصري – له حظ عظيم من المقدرة على التقليد تبلغ درجة النبوغ وهو متصف بالاستقامة والنشاط والغيرة مع المرونة والطاعة , وبهذه الصفات يمكن الوصول إلي تحقيق كل مايريده الإنسان , وبفضل هذه المزايا صار العمال الذين خرجوا من صفوف الفلاحين أخصائيين في الفروع والفنون التي توفروا عليها . كل فيما خصص له . ولم يقتصر الأمر علي تدريبهم علي أعمال الخشابين والنجارين والحدادين بل تخصص منهم كثيرون لأعمال بلغت غاية الدقة فنجحوا في صنع آلات البحرية كالبوصلات والنظارات . وقد شاهدت بنفسي المعامل التي تصنع فيها هذه الآلات , والعمال الذين يصنعونها , ورأيت الإتفاق في صنعها والعمال الفنيون الذين يصنعونها لم يمض عليهم سنتان في التمرن علي تلك الأعمال , ومن الحق أن يقال أنه لاينتظر الوصول إلي هذه النتيجة بمثل هذه السرعة من عمال اوروبيين يؤخذون من صفوف الفلاحين مهما كانت الأمة التي يختارون منها )
( رحلة المارشال مارمون – الجزء الثالث )
ويقول المارشال وهو عسكري متخصص ( ولاشك أن وحدة العيار لها فائدة كبري عندما تشتبك البوارج في القتال , ومن المدهش ان هذه الميزة السهلة في ذاتها لم تلتفت لها الدول البحرية الكبري وأن ابتكارها يجئ علي يد دولة حديثة تبدأ عهدها بالحضارة ) . وعندما زار البارجة (عكا ) من الداخل قال عنها
(تفقدت البارجة وامعنت النظر فيها بعناية خاصة فلم أر إلا مايستوجب الإعجاب بنظامها وترتيبها وهذه البارجة كغيرها من البوارج الكبري هي المنشآت البديعة التي أخرجتها ترسانة الأسكندرية ) . أخي القارئ هل أصابك الدوار وأنت تقرأ ,ان لم يصبك الدوار فلابد أن تتشكك في وطنيتك !! . لابد أن يصيبك الدوار عندما تري كيف وصلت مصر إلي هذا المستوي منذ قرنين من الزمان . وقد يكون لديك عذرك فأنت لاتعرف ما الذي جري في ترسانة الأسكندرية فى عهد مبارك السعيد , وغالباً فإنك لاتعرف لأن اعلامنا الموقر العام والخاص الحكومي والمعارض لاينشغل بهذه القضايا التافهة !! (الترسانات البحرية ) .
فى عهد مبارك ( بل منذ عهد السادات ) انهارت الترسانة البحرية ولاتكاد تصنع أي سفن تجارية , بينما يتآكل الأسطول التجاري من السفن المستوردة أو التي كنا نبنيها والمثير للسخرية (أو الكوميديا السوداء) اننا نتحدث عن اتفاق الكوميسا والتصدير لأفريقيا بينما لاتوجد لدينا سفن لحمل بضائعنا لإفريقيا , إذا وجدت البضاعة الصالحة للتصدير أصلاً , ونحن ننقل ماتيسر من بضائعنا وما نستورده علي سفن أخري وبالأخص سفن شركة زيم الإسرائيلية لوكيلها خيري من قيادات الحزب الوطني بالأسكندرية . ولاتحدثني عن السفن الحربية , فإن بناءها مسألة غير مطروحة أصلاً ومن اساءة الأدب الحديث في هذا الموضوع !! وبمناسبة مشكلة الأسماك وارتفاع أسعارها , أقول أنه في اوائل الستينيات من القرن الماضي اشترينا (ولا اقول بنينا ) من الاتحاد السوفيتي أسطولاً للصيد في أعلي البحار علي أعلي مستوي تكنولوجي وأسسنا الشركة المصرية لمصايد أعالي البحار 1967 ( ابن بواب عمارتنا كان بحاراً في هذا الأسطول وأنا أحبه وأفتخر به وكان أكبرمني سناً ).
تجمد نشاط الشركة عام 1978م عام كامب ديفيد ( عهد السادات ) وعاد عام 1985م ثم توقف تماماً عام 1988م وكانت إنتاجية الأسطول عام 1975 م 171ألف طن من الأسماك حتي وصل إلي نصف طن عام 1985 م ! ثم مات الأسطول بالسكتة القلبية في عام 1988 م . وبعد ذلك تقولون ان حسني مبارك مصري ومحمد علي ألباني !!
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد 25 .