كتب – مجدى حسين : مشغول أنا بسد النهضة قبل أن يبنى بعشرات السنين ، وكتبت كثيرا فى جريدة الشعب الورقية فى أعوام التسعينيات من القرن العشرين محذرا من هذه المخاطر وطارحا الحلول للمواجهة ولحل المشكلة القادمة من كل بد . فى تلك الآونة ذهبت ذات صباح لوزارة الخارجية فى مبناها الجديد المطل على نهر النيل لمقابلة أحد زملاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكان صديقا حميما قبل أن تتفرق بنا السبل بين الوظيفة الرسمية وموقع المعارضة ولكن بقى الود والاحترام المتبادل ، وكنت حريصا على الحوار مع المؤسسات الرسمية للدولة فى شئون الأمن القومى للبلاد على عكس مايشاع عنى أننى متطرف فى المعارضة ، فقد أتشدد أحيانا فى الحق وفى مصلحة البلد – من وجهة نظرى – لا أكثر ولا أقل . كذلك كان يفعل أستاذى عادل حسين فى لقاءاته المتعددة مع عمرو موسى وأسامة الباز وغيرهما ، وكان الموضوع الجوهرى فى تلك الأيام ، ضرورة تحسين العلاقات مع السودان لمصلحة البلدين وبغض النظر عن خلافات النظامين ، هذا ما كنا نعتقده ولانزال وبغض النظر عمن يحكم فى القاهرة أو الخرطوم . وكان هذا هو موضوعى مع صديقى ، ولاأتذكر الآن من الذى بادر لطلب اللقاء ، وقد وصل به المسار إلى مكتب السودان بالوزارة . كانت العلاقات فى تلك اللحظة متوترة جدا بين البلدين فى ظل حكم البشير – الترابى للسودان . وتحدثنا فى هذا الموضوع دون أن نصل لاتفاق ، ومن الطبيعى أنه يمثل السياسة الرسمية وأنا يهمنى نقل وجهات نظرنا للمسئولين . ولكن الحديث عرج بنا إلى الحديث عن احتمال بناء سد فى أثيوبيا على مسار النيل الأزرق وكنت أرى أن هذا الأمر جدى وهناك وثائق تؤكد اهتمام أمريكا واسرائيل بالتحكم فى مياه النيل الواردة إلى مصر من أثيوبيا وهو تمثل 85% من إجمالى المياه والباقى من النيل الأبيض القادم من أوغندا . وكنت قد كتبت مقالا مطولا حول هذا الأمر ( لاحظ نحن نتحدث عن أواسط التسعينيات من القرن الماضى وقبل وصول آبى أحمد للحكم بكثير ) . كان رأى صديقى أن سد على هضبة أثيوبيا هو نوع من الوهم ، لأن انحدار الهضبة يصل إلى نسبة 1 : 17 وهو من أعلى معدلات الانحدار فى العالم ، وأن أى سد يبنى ستكتسحه المياه فى اندفاعها ، وأن تكنولوجية بناء السدود لم ولن تحل هذه المشكلة . وقد كان محقا جزئيا لأن أثيوبيا ومن يخطط معها ولها نقلوا المشروع بعيدا عن الهضبة لمكان أكثر استواء وهذا سبب بناء سد النهضة على مقربة من حدود السودان بل فى أراضى متنازع عليها بين البلدين !
لم أنظر ساعتها لمشكلة السد المزمع بناؤه بصورة منفصلة عن المشهد الكلى لحوض النيل وعلاقة مصر به ، فكتبت سلسلة من المقالات ليس عن مخاطر السدود فحسب ولكن تحدثت عن مخاطرعزلة وابتعاد مصر عن الاهتمام بالشأن الافريقى خاصة فى السودان وحوض وادى النيل وكتبت خطة متكاملة عن كيفية تعميق العلاقات الشعبية والرسمية مع دول الحوض ، وقال لى أحد ممثلى جهاز المخابرات العامة أن مقالاتى تقرأ بعناية وأنها مهمة جدا ، وكان زميلى فى مكتب السودان بالخارجية وزملاؤه قد قرأوا مقالى فى صباح يوم اللقاء وكان اللقاء يوم الثلاثاء هو يوم صدور الجريدة وتناقشنا فيه ، وكانت هذه اللفتات تشعرنى بالتفائل بأن هناك تواصل بين ما يقوله المعارضون الوطنيون وبين أجهزة الدولة المعنية ، واننا لاننفخ فى قربة مقطوعة ! ولكن لم يثبت أن هذا أدى إلى تغيير فى السياسات وهذا ما يعكس الأهمية الحاسمة لوعى وإدراك القيادة السياسية العليا . وقد كتبت فى تلك الآونة عن نهر الكونغو كأحد الحلول العميقة لمشكلة المياه فى مصر ولكننى أقل حماسة لهذا المشروع الآن مع ضرورة عدم استبعاده وترك بحثه للمتخصصين .
ستقولون لقد ابتعدت عن عنوان المقال ، لا ولكنها مجرد مقدمة عن انشغالى القديم بالموضوع . ولنبدأ من أول السطر .
عندما قام الكيان اليهودى فى فلسطين كدولة ، هل تعلمون كم كان عدد اليهود فى فلسطين ؟ لن تصدقوا ! أقصد عامة القراء وليس المتخصصين . كان عدد اليهود عند انتهاء الانتداب البريطانى لفلسطين 625 ألف يهودى وكانوا يمثلون ثلث سكان فلسطين ولذلك كان من الضرورى طرد 900 ألف فلسطينى ( 85% من سكان فلسطين ) فورا حتى يمكن الحديث عن دولة يهودية فى أرض بلا شعب فلسطينى . مايهمنا فى موضوعنا الحالى ان نشأة اسرائيل جمعت بين خصائص الدولة الصغيرة الضعيفة المعزولة فى منطقتها ، قليلة السكان والموارد والامكانيات وتعانى من ضيق مساحة الأرض الصالحة للحياة المستقرة ومن نقص فى موارد المياه ، وتعانى من نقص مساحة الأرض عموما حتى إن عرضها فى إحدى النقاط كان 17 كيلومترا فقط بين أقصى نقطة فى الضفة الغربية والبحر المتوسط . ولكن فى نفس الوقت فإن اسرائيل التى تمثل تجربة لدولة فريدة فى العالم لامثيل لها من قبل ولا من بعد ، تتسم أيضا بخصائص الدولة الكبرى !! على طريقة ( قد الفيل ويتصر فى منديل ) فهذه الدولة المهزولة عدديا هزمت جيوش مصر والاردن وسوريا والعراق ولبنان وكتائب المقاومة الفلسطينية وسيطرت على 78% من مساحة فلسطين متجاوزة مساحة قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة . وخصائص الدولة الكبرى واضحة ومفهومة فالمشروع اليهودى الصهيونى اعتمد على الدول العظمى المسيطرة على العالم بدأوا مع انجلترا و فرنسا ثم الولايات المتحدة الأمريكية فكانت موردة المال والسلاح والمقاتلين بتسهيل الهجرة اليهودية إلى اسرائيل ثم بعد ذلك بمد اسرائيل بالمرتزقة وبمزدوجى الجنسية لقيادة الطائرات والدبابات كما حدث فى حرب أكتوبر . وكذلك مد اسرائيل بالمعرفة التكنولوجية . والدعم الدبلوماسى واللوجستى ( الادارى ) والسياسى الخ . ليس هذا فحسب بل تعتمد اسرائيل على دعم وإمداد اليهودية العالمية وهى حركة عالمية منظمة وعنكبوتية ومسيطرة على الأعصاب المالية والاقتصادية والعلمية والاعلامية فى الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا . مسألة وجود حكومة عالمية يهودية سرية ليست مزحة ولكن كثير من الناس يكتبون عنها بشكل غير مسئول واستنادا لأساطير أو روايات غير موثوق فيه فيشوهون الحقيقة . وسأتناول ذلك قريبا فى موضوع مستقل ان شاء الله. ولكن باختصار الآن فإن هذه السلطة اليهودية العالمية الموجودة فعلا لاتسيطر تماما على العالم كما يردد البعض ولكنها مؤثرة بدون شك على مجرى الصراع العالمى من خلال التأثير فى القرار الأمريكى والاوروبى الغربى ، وبعض عناصر هذه السلطة العالمية لليهود ظاهرة تماما فى العلن مثل الوكالة اليهودية التى أسست اسرائيل وغيرها مما سنوضحه قريبا بإذن الله . وهكذا تجمع اسرائيل بين خصائص الدولة الصغيرة بكل عيوبها وخصائص الدولة الكبرى بكل امتيازاتها . فهى يمكن أن يكون لها مخططات أكبر من حجمها بكثير لما تمتلكه من امكانيات عالمية ولأن امتداد نفوذها عالميا جزء أساسى من المشروع اليهودى العالمى . ومع ذلك ورغم نمو عدد اليهود فى اسرائيل الى قرابة 6 ملايين ونصف المليون فإن مليونا منهم يعيشون خارج اسرائيل بالجنسية الأخرى الأصلية وإجمالى اليهود يمثلون 74 % من السكان وفى المقابل فإن العرب حوالى 20 % ولكن إذا أخذنا بفلسطين الطبيعية مع احتلال الضفة الغربية وحساب غزة فإن عدد السكان العرب لايقل عن 55 % واليهود بدأوا يكونون أقلية بالفعل . وكشفت معركة القدس الأخيرة خصائص اسرائيل كدولة صغرى .
ولكن بمجرد تأسيس اسرائيل فقد تم تفعيل خصائص الدولة الكبرى . لاحظت اسرائيل أنها محاصرة من العرب حصارا كاملا مطبقا خانقا ، فقررت منذ 1948 محاصرة العرب من الخارج . فاذا كان العرب يحاصرونها داخل دائرة مغلقة فهى ستحاصرهم من خلال دائرة مغلقة أكبر بهدف فك الحصار عنها . فأقامت منذ الوهلة الأولى علاقات وثيقة مع كل القوى المعادية أو التى يمكن استمالتها لعداء العرب لخنق المنطقة العربية وهذه طريقة لإجبار العرب على تخفيف الحصار عن اسرائيل والقبول بها كدولة شرعية ونسيان فلسطين . وتركز الحصار الاسرائيلى على منطقة المشرق العربى ومصر ( مرة أخرى المستطيل القرآنى وأنا لست مهموما بإثبات نظريتى عن المستطيل القرآنى ولكن المستطيل القرآنى أو الخريطة الجغرافية القرآنية هى التى تفرض نفسها علىَ ) أقامت اسرائيل علاقة وثيقة مع المتمردين الأكراد بقيادة البرازانى الأب الذى زار اسرائيل علنا فى الخمسينيات من القرن العشرين ، وتحصل على أموال وسلاح ولايزال الرباط بين قادة الأكراد خاصة فرع البرازانى واسرائيل قويا ومستمرا حتى ان اسرائيل هى الدولة الوحيدة فى العالم التى أعلنت تأييدها لاستقلال كردستان العراق منذ عدة سنوات وفقا لاستفتاء لتقرير المصير ولكن المشروع تم إحباطه مؤقتا ولكن لم يوأد . وهناك مراكز مستقرة للموساد فى كردستان العراق ، وترفع اعلام اسرائيل بين الفينة والأخرى فى الفاعليات الجماهيرية . وتقوم احدى شركات عائلة روتشيلد باستخراج النفط من كردستان العراق . وكان التحالف الثانى لتحزيم المنطقة العربية المشرقية من الشمال مع تركيا وهى تقع شمال سوريا والعراق , وقد كان موقف تركيا أتاتورك بطبيعة الحال مع اسرائيل بل كانت تركيا أول بلد اسلامى يعترف باسرائيل . واهتمت اسرائيل بتوثيق هذه العلاقة . ومن الشرق كان التحالف التاريخى مع نظام شاه ايران . ومن الجنوب كان التحالف العضوى والعسكرى مع تمرد جنوب السودان والذى أدى فى النهاية لانفصال جنوب السودان وإقامة علاقة وثيقة مع اسرائيل . ثم كانت العلاقة مع أثيوبيا والحزام الافريقى لبلدان حوض وادى النيل وحولها : أوغندا وكينيا وارتريا وغيرها . ولكننا سنركز الآن على العلاقات الاسرائيلية الأثيوبية لأنها مصدر مشكلتنا الآن . وقد اهتمت اسرائيل بأثيوبيا أولا لامتلاكها منابع النيل الأزرق ( 85 % من المياه المتجهة لمصر ) . تدرك اسرائيل إن مصر هى الخطر الأكبر عليها وإن 47 عاما من السلام مع مصر لاتهدىء خواطر اسرائيل المعادية لمصر باعتبارها رأس المنطقة العربية والمجاورة لها مباشرة . فى إحدى دورات مؤتمر هرتزيليا السنوى لبحث قضايا الأمن القومى الاسرائيلى وكان ذلك فى 2001 ورد فى الوثائق مايلى ( فى كل الاحوال سوف تظل مصر تنافس اسرائيل لتكون لها اليد العليا فى المنطقة ، وسيسعى المصريون الى تجريد اسرائيل من ترسانتها النووية المزعومة والحؤول دون قيام تعاون تجارى واقتصادى بينها وبين البلدان العربية الاخرى ) وثائق مؤتمر هرتزيليا الثانى . وهذا المؤتمر يضم قمم اسرائيل من العاملين فى الحقل الاستخبارى والاستراتيجى . وطبعاهذا الكلام يتكرر من قبل ومن بعد فهذا مجرد مثال على توجس اسرائيل الاستراتيجى من مصر وهو حقيقى وصحيح على المدى المتوسط والطويل !!
وهذا ينقلنا إلى نقطة أعلى فى التحليل ، ماهو مستوى العلاقة بين اسرائيل وأثيوبيا ؟ ولماذا تهتم اسرائيل بموضوع سد النهضة وتشجع عليه .؟ ولكن قبل أن نروى قصة علاقة أثيوبيا باسرائيل ، وأيضا علاقة أثيوبيا بأمريكا والعلاقتان مترابطتان . لابد أن نلخص القصة فى فصلها الأخير فى كلمتين وبس حتى لا يتوه القارىء . أهمية سد النهضة ليس فى السعى الفورى لتعطيش مصر فهذا عمل طائش ولاتفكر اسرائيل بهذه الحماقة لأنه لاتوجد حاليا أى مشكلة بين مصر واسرائيل ، ولا بين مصر وأمريكا . أهمية سد النهضة أنه ينقل محبس مياه النيل من بحيرة ناصر والسد العالى إلى سد النهضة أى من مصر إلى أثيوبيا . ويمكن لهذا المحبس أن يستخدم إذا تمردت مصر على مطلب ملح أو ضرورى للحلف الأمريكى الاسرائيلى . فى الأيام الأخيرة صدرت تصريحات رسمية منسقة من البيت الأبيض والاتحاد الاوروبى ترفض أى حل عسكرى ، وتطالب بتفاوض ثلاثى تحت إشراف الاتحاد الافريقى الذى فشل على مدار شهور طويلة . وهذا ما تطالب به أثيوبيا : التفاوض ثم التفاوض ثم التفاوض بينما الملىء بدأ أو أوشك فى أول يوليو . هذا هو الهدف المشترك الأمريكى الاسرائيلى . ولاسرائيل مطلب آخر مهم وهو الحصول على حصة من مياه النيل ، وكانت تطالب أيام السادات بمليار متر مكعب ولاندرى كم تريد الآن من حصة مصر ؟
لقد ضرب آبى أحمد عشرين مرة كرسى فى الكلوب . ولكنه أخيرا ضرب 100 كرسى مرة واحدة وقال إنه سيبنى العام القادم 100 سد صغير ومتوسط . هذا تهريج واستهبال .. الفكرة التى ألح عليها أن أوضح ان أثيوبيا ليست دولة صاحبة مشروع اقليمى ، وهى غير مشغولة من تلقاء نفسها بمعاداة مصر . أثيوبيا غير قادرة على أن تلملم نفسها وانقساماتها العرقية الحادة فكل قومية تحكم لفترة ، ويضيع منها الحكم لطائفة أخرى وهكذا دواليك . أثيوبيا غارقة فى الفقر وتعانى من غياب أى منفذ لها على البحر ، ولاندرى هل ستجرى فيها انتخابات أم لا وماذا سيحدث فى هذه الانتخابات ولاندرى ماذا يحدث بالضبط من كوارث انسانية فى تجراى ؟.
لايوجد أى سبب منطقى يجعل أى أحد من المحللين والمراقبين المنصفين يعتقد أن لأثيوبيا مشروعا للسيطرة على شرق افريقيا أو القرن الافريقى حتى يمكن أن نتصور أنها تسعى جاهدة لمحاربة مصر الكبيرة ، ومصر لم تهددها فى شىء . وهى بعيدة عنها وآخر من يفكر فى التدخل فى شئونها الداخلية . إن آبى مدفوع مثله فى ذلك مثل حكام أثيوبيا السابقين للسير فى هذا المشروع . لماذا ؟وعلى أى شىء سيحصل مقابل هذه المقامرة فى تحدى مصر . حتى نلتقى فى المقال القادم ، برجاء مراجعة خبر على هذه المدونة يوضح أن أمريكا قررت إنفاق مليارات من الدولارات لبناء شبكة اتصالات فى أثيوبيا بقروض ميسرة لتحدى شروط الصين الميسرة . وأن المشروع بتمويل أمريكى ولكن التى ستنفذه شركة فودافون البريطانية .وقد وافقت الحكومة الاثيوبية على العرض الأمريكى ورفضت العرض الصينى . ليس هذا بطبيعة الحال هو ثمن سد النهضة . سد النهضة جزء من مشروع استراتيجى كبير ستحصل فيه أثيوبيا على بعض الفتات والمشروعات ، ولكنها فى الجوهر هى الأداة المنفذة دون أن تكون لها خطة خاصة . وفى نفس الوقت فإن النظم التابعة لاتملك حق الرفض ، بل يطلب منها ، بل تؤمر بأن تشيل هى البيعة من الناحية الاعلامية . بينما تطالب أمريكا المتنازعين بأن يلعبوا سويا بدون شجار ، وأن يستمروا فى التفاوض ، ويستمر الاثيوبيون فى بناء السدود وملئها .
والآن لابد من التوسع فى البرهنة على كل ما سبق بالحقائق التاريخية الموثقة والمعلنة فى مجال العلاقات الاثيوبية الاسرائيلية الامريكية . فى المقال القادم بإذن الله .