محمد علي واللحاق بأوروبا في عصر البخار
أدخل القطن طويل التيلة وقام يوسف والي بتدميره
استنساخ الآلات الأوروبية لتأكيد الاعتماد علي الذات
فرض الحواجز الجمركية لحماية الصناعة المصرية
لايسير في النهضة الصناعية حالياً إلا ماليزيا وتركيا وايران
-(- الصورة لأحد مصانع السكر )
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (36)
علي خلاف رأي كثير من المؤرخين , أري أن جهود محمد علي وانجازاته في مجال الصناعة هي الأهم طراً بشكل عام وهي مهمة للمقارنة مع التحديات الراهنة التي تواجهنا في مقتبل القرن الحادي والعشرين
كانت مصر قبل تولي محمد علي الحكم , وطوال القرن الثامن عشر في أحوال متدهورة عموماً بلغت ذروة تدهورها قبيل الحملة الفرنسية أعني في المجالات الإقتصادية والاجتماعية والعمرانية بشكل عام .كانت مصر دائماً في هذا القرن (18) دولة مصدرة للقطن الخام , وكانت لاتزال قادرة علي تصدير بعض المنسوجات القطنية وكانت تستورد كل احتياجاتها من الحرير الخام وبعضاً من احتياجاتها من القطن من الشام .
وكانت مصر – في المقابل – تدفع ثمن هذه الواردات من صادراتها من الأرز والحبوب إلي المنطقة , بالإضافة لبعض المنسوجات بل كانت تصدر المنسوجات إلي فرنسا في الجزء الأول من القرن الثامن عشر ثم تقلصت بعد ذلك .
وكانت لدي محمد علي منذ وقت مبكر في حكمه فكرة التوسع في الصادرات لتزيد عن الواردات كمنبع أساسي لتراكم الثروة , والعجيب ان علي بك الكبير الذي سبقه في محاولة للاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر كان يفكر بنفس الطريقة , ولكنه حقق نجاحاً أقل من محمد علي . وكان مفتاح النجاح لدي كليهما هو وجوب سيطرة الدولة علي التجارة وعلي توجيهها وهذا ماحققه محمد علي ولكن بأسلوب أكثر تطوراً بتزايد الاعتماد علي تطوير الصناعة لاستخدام منتجاتها في التصدير وهذا أعلي ربحاً من تصدير الحاصلات الزراعية .
وسجل بورنج ( دبلوماسي انجليزي ) ان محمد علي قد أبلغه رداً علي محاولة بورنج وغيره لإثنائه عن الطريق الصناعي باعتباره غير ذي جدوى لمصر الزراعية والمتخلفة أبلغه أنه كان يقيم مصانعه من أجل ( أن يتعود الناس علي الصناعة أكثر من كونها من أجل أي ربح مباشر متوقع . كما برر إجراءات الحظر الحمائية ( اي الحماية الجمركية ) التي اتبعها بأن أشار إلي أن هذا النظام نفسه كان متبعاً في انجلترا وفرنسا . وذكر بورنج في تقرير له أن محمد علي قال : ” كان لكم أنتم ( انجلترا ) بداياتكم مثلما كان لي وكانت مكلفة بالنسبة لكم مثلما هي بالنسبة لي , وأنا لا أتوقع أن أبدأ بالكثير من النجاح لكني سوف أنجح شيئاً فشيئاً “
كانت الأمور واضحة ناصعة الوضوح في ذهن محمد علي , في أواخر القرن العشرين وحتي الآن لا نجد من حكام المسلمين من يفكر هكذا إلا في ماليزيا وتركيا وايران , يقول محمد علي للفرنسي بوالوكونت (إن مصانعي تحررني اليوم من الإتاوة التي اعتادت الصناعة الأوروبية أن تفرضها علي مصر , كما أن المبالغ التي كنت أدفعها مقابل المنسوجات والحرائر التي نستوردها منكم سوف تبقي الآن في البلاد)
Une mission militaire francaise de Mohamed Aly- Douin, Boislecomte. القاهرة 1923
العثمانيون ايضاً يحاربون التصنيع في مصر
كان العثمانيون طوال فترة حكم محمد علي لمصر في أسوأ أحوالهم بل ظلوا في انحدار دائم حتي السقوط الرسمي للخلافة في اوائل القرن العشرين . وكما ذكرت من قبل فقد كان مشروع محمد علي طوق النجاة لهم وكان يمكن أن يجدد دماء الأمبراطورية العثمانية بالنهضة التي يقوم بها في قلب العالم العربي والاسلامي ( المستطيل القرآني ) وقد كان في معظم سنين حكمه لايسعي إلا إلي نوع من الحكم الذاتي أو الاستقلال ولكن في اطار الدولة العثمانية . ولكن السلاطين لم يشغلهم إلا اخضاع محمد علي بل الخلاص النهائي منه حتي وإن كان بالتعاون مع القوي الأوروبية المعادية للاسلام . وهم دائما الذين بدأوا محمد علي بالعداوة والبغضاء والتاًمر منذ اليوم الأول لحكمه 1805/1806 كما أوضحنا. بل في وقت يطلبون منه ويلحون لانفاذ حملة للحجاز لإخضاع الحركة الوهابية وعندما يأخذ محمد علي استعداده لهذه الحملة بعد أن أمن الجبهة الداخلية من تمرد المماليك , ويقرر إنشاء مصانع للذخائر والبارود والأسلحة , وعندما بدأت المصانع تعمل بالفعل عام 1810 وتنتج هذه الأسلحة والذخائر وتصل أنباء ذلك للباب العالي يصدر فرمان ويتم ارساله لمصر , فرمان يحذر فيه الوالي محمد علي من أن إنشاء هذه الورش لتصنيع الرصاص والرش يعد أمراً ممنوعاً . فهل ارسلت الأستانة إحتياجات الجيش المصري وهل تضمن انتظام الامدادات بالأسلحة والذخيرة من الأستانة لمصر ثم من مصر للحجاز . وقال العثمانيون انهم يحتكرون مثل هذه المواد من خلال مصنعين في أوسكدار وأزمير . وطبعا لم يأبه محمد علي بهذا الهزل وفي نفس الوقت واصل التزامه بالحملة التي خرجت للحجاز عام 1811م , ولاشك انه اهتم بالحملة في اطار مشروعه الاستقلالي ولكن ايضاً في اطار عدم التمرد علي الآستانة , وسنلاحظ فيما بعد اصرار محمد علي على هذا التوازن حتي النفس الأخير من عمره ( الاستقلال عنده كان نوعا من الكونفدرالية التي تحدثنا عنها من قبل بخصوص الاتحاد الأوروبي ).
مصانع اخري
بالاضافة لكل ماذكرنا وتأكيداً علي ماسبق فان ترسانة التسليح شملت مصانع للذخائر لانتاج قذائف المدفعية وطلقات الرصاص . وأشرنا من قبل لمصنع الصابون , ولكن لهذا المصنع قصة وهي تهمنا في مسألة التنمية (لاحظ اننا نعتمد في القرن الواحد والعشرين علي صابون كامي وغيره من الأنواع الأجنبية ) كان ذلك في عام 1815 وكان المصنع مرتبطاً بمشروع زراعي كبير , إذ أمر محمد علي بتجهيز منطقة تجريبية تسمي ” رأس الوادي ” بالقرب من بلبيس (الشرقية ) بسواقي لزراعة أشجار التوت وتربية دودة الحرير , واشجار الزيتون لاستخراج الزيت .
وصدر الأمر بتزويد المنطقة بألف ساقية , وأقيم مصنع للصابون ” علي الطريقة الشامية ” ومعاصر للزيت , لاستخراج زيت الزيتون واستخدام جزء منه في صناعة الصابون . ونقول للشباب الذين نشأوا في جيل “الكامي ” , إن أفضل صابونة للاستحمام كانت الصابونة ماركة نابلسي نسبة إلي نابلس بفلسطين وكانت تنتج في مصر اعتماداً علي زيت الزيتون , وهو أيضاً أفضل صابون للحفاظ علي الشعر . وغالباً كان منتج هذا الصابون فلسطيني أو شامي مقيم في مصر , وأتحدث حتي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين .
كذلك تم إنشاء مدارس فنية للتخديم علي الصناعة : مدارس للذخائر الحربية والتعدين والهندسة والكيمياء التطبيقية في مرحلة لتجاوز البعثات للخارج .
قام محمد علي باستخدام التجار الشوام المسيحيين والتجار اليونانيين الذين استقروا في مصر ( من اليونان زيزينيا الذي يتسمي باسمه أحد أحياء الاسكندرية حتي الآن ) , وبالمناسبة فقد تحول بعض هؤلاء اليونانيين إلي الإسلام . وكان لمحمد علي وكلاء تجاريين ( للتصدير !! قبل الاستيراد ) في فرنسا وانجلترا ومالطة وأزمير وتونس ونابولي والبندقية واليمن والهند . نعم لقد قرر مواجهة انجلترا في عقر دارها الاستعماري في الهند وابتداء من عام 1816 عرض تقديم مليون ونصف مليون ريال لمن يتولي مهمة تنظيم التجارة مع الهند وقد قبل ثلاثة هذا العرض وحصلوا علي ثلث الأرباح كنصيب لهم .( الجبرتي ) وكان التصدير لسائر أنحاء الأمبراطورية العثمانية من الثوابت بطبيعة الحال . وكان من أسباب إقبال محمد علي على التوسع في مساحات القطن وبمحاولة زراعة أشجار التوت وتربية دود الحرير تخفيض الواردات من المواد الخام . وسرعان ما اكتسحت الأقطان المصرية ( المنسوجات ) بعد تغطية السوق المحلي , البحر الأحمر والسودان وسوريا والأناضول حينما أصبحت كل هذه المناطق جزءاً من الامبراطورية المصرية .ولم يكن يستورد إلا المنسوجات القطنية الفاخرة والمنسوجات الحريرية والأصواف ذات الجودة العالية .
وعندما اندفع محمد علي في صناعة الحرير , صرخ القنصل الفرنسي “روسل ” في تقاريره للخارجية الفرنسية في عام 1817 ( في خلال سنوات قلائل سوف توجه مصانع الحرير التي أنشئت في مصر ضربة مميتة إلي مصانع ايطاليا وحتي إلي مصانعنا نحن ) وفي عام 1818 قال : (ان مصر ربما تنافس المنتجات الفرنسية ) .
احتدام معركة المنسوجات بين مصر وبريطانيا :
احتدمت معركة منتجات النسيج القطنية بين مصر وبريطانيا في الصراع علي الأسواق العالمية وكانت هناك معركة موازية بين بريطانيا والهند حيث كانت صناعة النسيج الهندية متطورة وكان هناك تقارب تكنولوجي بين الطرفين . وقد اضطرت بريطانيا لاستخدام القوة العسكرية لإجهاض صناعة النسيج في مصر والهند , وكانت محتلة للهند وفي الطريق لاحتلال مصر . ولكن مع مصر كان يجب ان تخوض المعركة الاقتصادية أولاً لتعذر الاحتلال ( لقوة مصر العسكرية ) وتمهيداً لهذا الاحتلال بعد كسر القوة العسكرية . وكان من أسباب اشتعال المواجهة هو التطور التكنولوجي للثورة الصناعية في انجلترا الذي جري علي أساس هذه السلعة بالذات ( المنسوجات ) حيث أدي اختراع آلة السحب إلي إعطاء دفعة كبيرة لتقنيات غزل القطن , لكن ظلت عملية النسيج تؤدى علي النول اليدوي حتي عام 1820 وعندما بدأ تطبيق استعمال النول الذي يدار بالطاقة ( البخار ) وبدأت المصانع المدارة بالطاقة في الانتشار السريع وأصبح هناك فائض من الانتاج يحتاج إلي أسواق جديدة , وكانت المنسوجات تشكل نصف الصادرات البريطانية بأكملها , أي كان ميزان المدفوعات البريطاني والبحرية التجارية والتجارة الخارجية البريطانية تعتمد علي هذه الصناعة بمفردها .
Eric. Hobsbawn,Industry and Empire. لندن 1969
وكان الخبراء والتجار الأجانب في مصر قلقين إزاء المنافسة المصرية للمنتجات الأوروبية . وكان الأمر قد وصل إلي حد أن كل الأقطان الأوروبية كانت قد نسخت التصميمات الشرقية , وأصبحت أوروبا هي المقلدة وأن أكثر الأقطان جمالاً كانت النوعيات الهندية وليست الفرنسية أو البريطانية . بل وصل الأمر إلي حد أن فرنسا وبريطانيا وضعا تعريفات حمائية ( جمركية ) لإعانة صناعاتهم الوليدة , وعندما أدرك محمد علي ذلك قام – كما ذكرنا – بفرض اجراءات حظر لإبقاء صناعات قادرة علي المنافسة . وكانت بريطانيا لاتملك المادة الخام (القطن ) بينما كانت مصر تملكها وهذه كانت نقطة قوة اضافية لمصر . كذلك كانت العمالة رخيصة والسوق مقيدة . ( وهو نفس الوضع الموجود الآن بين الصين والولايات المتحدة ) .
وامتدت المعركة للكتان فكتب دوين ( فرنسي ) ان انتاج مصر من منسوجات الكتان زاد الي حد أصبحت قيمته الانتاجية جزءاً من اثني عشر جزءاً من انتاجنا . وان مصر بدأت في التصدير بعد إشباع الاستهلاك المحلي , وان سعر منتجاتها هو نفس سعر المنتج الأوروبي . مرجع سابق Douin
وفي عام 1831 استوردت مصر أقمشة كتانية بـ 140 ألف قرش ولكنها صدرت في المقابل من نفس الأقمشة الكتانية ماقيمته مليون ونصف المليون قرش إلي الامبراطورية العثمانية وتوسكاني والنمسا واليونان ومالطة ( وهذا من ميناء الاسكندرية فحسب !!).
وأكد القنصل البريطاني في تقرير له ( أن الأقمشة القطنية كانت السلعة الوحيدة التي سببت أضراراً للصادرات التجارية البريطانية اذ أن انجلترا لم تعد ترسل الأقمشة القطنية والموسلين الهندي إلي مصر . ( عام 1838 ) .
ويقول الفرنسي دوين ان البريطانيين ( قاموا بتخريب الصناعة المصرية بصورة غير مباشرة اذ قام مستشاروهم بارسال فيض من الآلات الناقصة والمعيبة والمستهلكة , غير القادرة علي الآداء إلي مصر , وتم دفع مقابلها جميعاً نقداً وبأغلي الأسعار ) ولكننا نعرف بصورة مؤكدة ان محمد علي كان ينوع مصادر استيراد الآلات , ويسعي لتصنيع الآلات في مصر فعلاً وهذا ماحدث إلي حد معقول . ولكننا نشير إلي نوايا ومخططات الانجليز .مسألة التصدير بالنسبة لانجلترا في لحظة تفجر الثورة الصناعية كانت مسألة حياة أو موت ( التصدير أو الموت !!) ولم تكن مشكلة محمد علي في السوق المصري وحده , ولكن لأنه يحجب عن انجلترا أسواق السودان والشام والحجاز والأناضول واليونان ومالطة , بل أكثر من ذلك يخترق الأسواق البريطانية نفسها . في ذلك الوقت ظهرت في انجلترا نظريات اقتصادية حول ” الامبريالية الرأسمالية ” اعتبرت أن بناء الامبراطورية كان ضرورة إذا ما أريد للصناعة الجديدة أن تحيا
Bernard semmel,TheRise of free Trade Imperialasm– كامبريدج -1970
وازدهر علم الاقتصاد السياسي ودافع ريكاردو( وهو المفكر الاقتصادي الذي تدرس أفكاره حتي الآن في كل الجامعات ) عن فكرة الاعتماد المتزايد علي التجارة الخارجية للتغلب علي تدهور معدل الربح بينما رأي ويكفيلد (اقتصادي انجليزي ) أن ( المجتمع الصناعي مواجه إما بالثورة أو بالاستعمار ) . لماذا ؟ لأن الرأسماليين رغم التقدم الصناعي الكبير لم يحققوا أرباحاً مجزية ولم يعد بإمكانهم إعطاء أجور معقولة للعمال تضمن هدوءهم واندماجهم في المجتمع , وبالتالي فقد شهدت هذه الفترة تمردات شعبية وعمالية متعددة بالاضافة لقيام العمال بحرق الآلات باعتبارها ستؤدي إلي زيادة نسبة البطالة . وهكذا عمد الصناعيون البريطانيون الذين تحولوا إلي الأنوال التي تعمل بصورة آلية كاملة , وتوسعوا بالتالي في انتاج النسيج إلي ممارسة الضغوط علي الحكومة لفتح أسواق خارجية للسلع البريطانية ( لاحظ أن هذا القانون لايزال يعمل حتي الآن في امريكا وغرب اوروبا فكلما زادت الانتاجية وفي كل السلع وليس المنسوجات فحسب فان الحاجة للتصدير تتعاظم وإلا يخسر الصناعيون , أو علي الأقل لايحققون الأرباح الطائلة المأمولة ) , حتي لقد لجأت بريطانيا إلي الوسائل العسكرية لفتح الأسواق كما حدث في حروب الأفيون في الصين . وبالمناسبة فقد كانت حروب أفيونية حقيقية تستهدف نشر الأفيون في صفوف الشعب الصيني لتغييبه وتخديره للمساعدة علي إخماد طاقاته الاقتصادية المعروفة من فجر التاريخ , وكان لليهود دور كبير في تمويل هذه الحروب . وفي هذا الاطار العالمي وفي ظل هذه العقيدة كان لابد من تدمير محمد علي وصناعاته , فلم تكن بريطانيا تريد دولة جديدة مستقلة في البحر المتوسط , دولة قوية عسكرياً واقتصادياً وتكون بالتالي قادرة علي التصدي لتغلغلها في تلك المنطقة وفي الخليج العربي ( وكان اسمه ساعتئذ الخليج الفارسي ).
وفي المقابل كان محمد علي يدرك أن دولته الناهضة يمكنها الحصول علي المزيد من الأموال عن طريق تصدير المنتجات تامة الصنع أكثر من تصديرها للمواد الخام .علي عكس حكام اليوم في بلاد العرب والمسلمين ومصر الذين يفضلون تصدير الزيت والغاز ( البترول ) كمادة خام بدلاً من استغلاله في نهضة صناعية وأيضاً تصدير الذهب والحاصلات الزراعية والفواكه والخضروات وكل هذه تحقق هامش ربح أقل بكثير من المواد المصنعة .
وقد ساعد محمد علي ما اتخذه من قرار باحتكار التجارة فأصبحت قبضته حديدية وبالتالي تم وقف الاستغلال الحر لثروات البلد بواسطة الوكلاء الأجانب الذين كانوا يرتعون في البلاد من قبل , مما أثار حقدهم وغضبهم , ولكن فليذهبوا إلي الجحيم فقد كانوا يمتصون دماء وثروات البلاد . وأكد كلوت بك في كتابه ان القماش المطبوع في ” المبيضة ” ينافس المستورد في انجلترا وألمانيا بحيث أصبح الانخفاض في الواردات من هذه الأقمشة محسوساً .
وقد كان محمد علي يقرض التجار الأوروبيين , ولكنهم كانوا يتهربون من السداد , مما دفعه إلي طردهم من البلاد وكان كثير منهم انجليز . وقال قنصل بريطانيا في تقرير له ( ان محمد علي كان رحيماً مع هؤلاء التجار اذا يكتفي بطردهم ولو كانوا مديونين في بريطانيا لأودعوا في السجون حتي يتعفنوا ) . وتعلم محمد علي أن يصدر مباشرة للخارج وليس عبر هؤلاء الوكلاء والتجار الأجانب المقيمين في مصر . مما شكل لهم ضربة قاصمة . فكانت سفنه تصدر البضائع المصرية لأوروبا وتعود محملة بسلع مستوردة بدون وسطاء ووكلاء يسمسرون ويحصلون علي أموال من دم البلاد . وكان محمد علي يستخدم كما ذكرنا بعض التجار الأجانب أو الأتراك أو الشوام ولكنه يحولهم إلي موظفين عنده وكانوا يعدون علي أصابع اليد أو اليدين , ويعملون تحت سيطرته الكاملة . وبحلول عام 1819 بلغت تجارة محمد علي الداخلية والخارجية من الاتساع والربحية درجة جعلته يقرر الاستقرار في الاسكندرية ثلاثة أرباع العام ليراقب التجارة عن كثب ! وفي عام 1820 أصدر قراراً شاملاً لكل التجار الأجانب بأن يدفعوا ديونهم أو يغادروا البلاد . واتفق القنصل الفرنسي في الاسكندرية مع القنصل البريطاني في مصر عندما وصف هذه السياسة بالكرم ( أي الطرد بدلاً من الحبس ) .وكان بعض التجار يزعمون انه ليس لديهم أموال تغطي تكاليف السفر فكانت الحكومة تدفعها للخلاص منهم !! ومع ذلك ظلت هذه الدول الأوروبية علي قدر من الاستنطاع بحيث اعتبرت هذا الطرد انتهاكاً لحقوق الانسان وخرقاً للامتيازات الأجنبية . هم هكذا كانوا دائماً ولن يتغيروا وعلي أمتنا أن تحمي نفسها من هؤلاء الذئاب الذين يرتدون الآن رابطة العنق والبدل ويضعون العطور وكأن هذه هي علامات التحضر . ولكن هذا القنصل الفرنسي في الاسكندرية بيللافوان يعود ليكتب في تقرير له 1820 ( إن إحساسي أن التجارة لن تصبح شيئاً هنا طالما ظل الباشا المالك الأوحد , ولعلاج هذا الموقف يتحتم علي السادة السفراء أن يحصلوا من الباب العالي علي إقرار بمبدأ حرية الاتجار في مصر , وعلي الباب العالي أن يعامل الباشا في مصر كما يفعل مع سائر الولاة وأن يغيره سنوياً بحيث لايسعي خليفته إلي التشبه به ) .
وبالفعل ومع الأسف فان الضربة الاقتصادية لتجربة محمد علي أتت من الدولة العثمانية عندما عقدت الأخيرة اتفاقية تجارية مع انجلترا 1838 تضمنت خفضاً كبيراً للحواجز الجمركية لصالح انجلترا في سائر أراضي الامبراطورية العثمانية بما في ذلك مصر , بل كانت مصر من أهم أهداف هذه الاتفاقية بالنسبة لانجلترا كمنافس صاعد وخطير . وحيث كانت انجلترا عاجزة عن فرض هذا التنازل علي محمد علي منفرداً .
كذلك لم يكن غائباً عن ذهن محمد علي مسألة البنية التحتية الأساسية , ( التي فلقنا بها عهد مبارك ) بل قام بأفضل تطوير لها من خلال تنظيم طرق الري التي أتاحت زراعة محصولين وثلاثة في العام بدلاً من محصول واحد وأتاحت زيادة رقعة الأرض الزراعية بلغت مساحة الأرض الزراعية 5 ملايين ونصف مليون فدان وكانت 3 مليون في بداية عهده وعندما بني السد العالي في عهد عبد الناصر كانت المساحة 6 مليون فدان أي زادت نصف مليون خلال أكثر من قرن . كما تم تطوير البنية الأساسية في شكل طرق , اذ كان شاطئ كل قناة وترعة يمهد كطريق , وكانت أشجار الظل والأشجار الخشبية تزرع علي امتداد ضفاف القنوات بالاضافة لتوسيع شبكة النقل النهري والبحري كما ذكرنا . وتم ايقاف ظاهرة عجيبة كانت موجودة اسمها قرصنة نهر النيل أي السطو علي البضائع في النيل بالاضافة لوقف إغارات البدو في البر وهي الأمور التي أضرت كثيراً بالتجارة في الماضي .
بلغ عدد عمال المصانع 230 الف عامل أي قرابة ربع مليون وهذا رقم كبير جداً لأن عدد سكان مصر في ذلك الوقت وصل بالكاد إلي 5 ملايين عام 1840 .
وكان أجر العامل الصناعي يساوي 3 امثال اجر العامل الزراعي . واذا كان للعامل ابناء فقد كان يصرف لكل ابن 15 قرشاً من الحكومة ويجب أن يؤخذ الطفل ليتسلمها في يده هو . واختلفت الروايات في ذلك هل هو من قبيل الضمان الاجتماعي أم أن الأطفال كانوا يلحقون بالعمل كصبية أو متمرنين يدربون علي الصنعة بواسطة آبائهم . وكانت تصرف للعمال ثلاث وجبات يومية وتضم وجبة الغذاء كمية كبيرة من الخبز البني الخشن والفول المطبوخ ( مدمس أو بصارة ) ويقدم لهم الزيتون مع وجبة الافطار أما وجبة اللحوم فهي مرة كل اسبوع ( سانت جون ) . كما كان يتم تشغيل اللقطاء. ونلاحظ أن عمال بريطانيا كانت أحوالهم أشد بؤساً في ذلك الزمان ( ويمكن مراجعة روايات تشارلز ديكنز وغيرها ) . وعندما كان بعض العمال يتعرضون للتعطل كان محمد علي يأمر بإمدادهم برأسمال يمكنهم من فتح ورش خاصة بهم . كذلك كان يصرف للعمال كسوة .
في كتابي ” مدونات ثورية من تاريخ مصر ” مرجع سابق أو علي الانترنت بعنوان ( رسائل التاريخ ) ستجد نص رسالة من محمد علي إلي المسئولين عن المصانع يوصيهم فيها بحسن معاملة العمال باعتبارهم ثورة قومية وتحدث عنهم كأنهم أعز ابنائه . وكان يعفيهم من أعمال السخرة . ومرة قال : إن لمصر ملكين : السلطان محمود ( الباب العالي ) والفلاح . في ذلك الزمان لم يكن هناك تلفاز أو فضائيات أو اذاعة أو صحف حيث عودنا الحكام في عصرنا أن ينافقوا الشعوب , في عهد محمد علي لم تكن منافقة الشعوب من الأبواب المطروقة في حديث الحكام . ولكن محمد علي – كما ذكرت وأكرر – كان يتعامل مع مصر كعزبة خاصة به , لذلك فهو يعطف علي الفلاحين والعاملين فيها وحتي علي البهائم وسائر الكائنات . وهذا أفضل من الحاكم الذي يستنزف ثروات البلاد لنفسه كبقرة حلوب حتي يقضي عليها . ( مبارك هو النموذج للنوع الثاني وهو منتشر في عصرنا في بلاد العرب والمسلمين ) . وعندما علم محمد علي مثلاً بهروب أربعين عاملاً من أحد المصانع عام 1826 بسبب التأخير في صرف المرتبات . قام بتأنيب مدير المصنع وأصدر الأمر له بدفع الأجور علي أساس شهري وبأن يعمل علي ألا يكون لدي العمال سبب آخر للشكوي .
نماذج أخري من أرقام الصادرات والواردات :-
ذكرنا من قبل ان الميزان التجاري بشكل عام كان فائضاً لصالح مصر وتصل الصادرات احياناً إلي 4 أمثال حجم الواردات . وفيما يلي بعض الأرقام الأخري
العام الصادرات الواردات
1823 7.276.000دولار 3.282.450 دولار
1824 10.636.529 دولار 5.043.000 دولار
ويؤكد دبلوماسي فرنسي في تقرير رسمي مرفوع لوزارة الخارجية الفرنسية إن صادرات مصر تزيد أربعة أضعاف عن الواردات . ( وهي تقديرات أعلي من التقديرات المصرية ) وفيما يتعلق بايرادات الدولة تظهر الأرقام أنها تضاعفت 10 مرات خلال عقد واحد ,
السنة الايرادات المصروفات صافي الدخل
(بالجنيه) ( بالجنيه ) ( بالجنيه )
1798 158724 135887 22836
1818 1502134 355149 1148984
1822 1881499 266122 1615370
1833 2421670 1927079 494591
1842 2926625 2176860 749765
هذه الاحصاءات بالجنيه الاسترليني لأن الجنيه المصري صدر عام 1836 ( !!)
بل ان احصاءات قنصل روسيا ( كونت ميديم ) كانت أعلي من ذلك فقدر ايرادات مصر بـ 3.600.000 عام 1838 أي بزيادة 50% عن المصادر المصرية .
أما القنصل البريطاني باركر فرفع الايرادات إلي 7 مليون أي بزيادة 189% وقال الفرنسي ( بوالوكونت ) ان ايرادات مصر تساوت مع ايرادات فرنسا وبلغت خمسة أمثال ايرادات روسيا. بينما وصلت تقديرات أجنبيىة أخري إلي أن ايرادات مصر بلغت 25 مليون دولار عام 1829 . و23 مليون دولار عام 1840 .
أي علي خلاف الوضع الحالي , حيث تعلن الحكومات المصرية أرقاماً مبالغ فيها بالمقارنة مع الأرقام الدولية ! في عهد محمد علي كانت الأرقام المصرية أكثر تواضعاً من الأرقام الدولية . ولا حول ولا قوة الا بالله .
نكتفي بهذا القدر من بحر النهضة الصناعية وقد أطلت – كما أوضحت – بقدر اهتمامي ودعوتي لنهضة صناعية مصرية في القرن الواحد والعشرين.
**************
دعاء
اللهم إنك تعلم أني لا أكتب هذه الدراسة وماقبلها إلاابتغاء وجه مرضاتك وسعياً لرفعة هذه الأمة المكلومة والمستنزفة التي تؤرقني كوارثها عبر التاريخ , اللهم إنا نسألك ان تلهم أمتنا الصواب وأن توحد شملها المبعثر
اللهم إنا نسألك نصراً عزيزاً مؤزراً وأنت سبحانك الذي قلت ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) ربنا اجعل همومي بأمتي كفارة لذنوبي , اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا , وأخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلي أنوار المعرفة والعلم ومن وحول الشهوات إلي جنات القربات
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم