احتدام معركة المنسوجات بين مصر و بريطانيا العظمي!

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)الجزء الثانى- حلقة (37)

كانت المعركة الكبري بين نظام  محمد علي وأوروبا قد بدأت بعد توليه للحكم وحتي نهاية حكمه في الأربعينيات من القرن التاسع عشر بل وحتي سقوط مصر في براثن الاحتلال البريطاني في عهد توفيق ابن حفيده اسماعيل 1882 . عادة ما يركز المؤرخون علي معارك محمد علي في الشام والأناضول حتي أبواب الآستانة ويتحدثون عن المواجهات العسكرية بين محمد علي وأوروبا ( خاصة انجلترا ) بدءاً من معركة نفارين البحرية خلال حرب المورة (اليونان) انتهاء بصلح كوتاهية ثم معاهدة لندن  التي ترافقت مع حصار بريطانيا البحري  لمصر . ولكن المعركة بدأت من اللحظة الأولي لاتضاح توجه محمد علي لبناء دولة قوية في مصر تستند إلي القوة الاقتصادية قبل القوة العسكرية , لانه بدون  قوة اقتصادية تصبح الجيوش مجرد بناء للقصور علي الرمال أو حسب التعبير الأسير عند الغرب بناء بيوت بورق اللعب ( الكوتشينة ) حيث يقوم الأطفال ببناء بيوت بأوراق اللعب .

كانت المعركة الأساسية والطاحنة لأوروبا ( خاصة بريطانيا القوة الأكبر فيها وفي العالم ) حول المشروع الصناعي لمحمد علي الذي بدأ يزعج الأوروبيين ويقتحم أسواقهم , ويتحداهم في الموازين التجارية , وهو الأمر الذي يؤدي إلي تدعيم استقلال الشرق المسلم , ويقدم امكانية لتمويل بناء جيش قوي . فقليلاً ما يهتم المؤرخون لدينا بالأبعاد الاقتصادية , ويركزون اهتمامهم علي حركة الجيوش والمعارك الحربية في المحل الأول , بينما العمل العسكري ماهو إلا إنعكاس للقوة الحضارية الشاملة لكل طرف و خاصة في المجال الاقتصادي بل كما يقول كلاوز فيتز أبو علم الاستراتيجية ( ان الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخري ) . ولاشك ان الصناعات الحربية أكثر ما يثير الازعاج لدي الأعداء . قلنا انه في العالم الاسلامي المعاصر فانه لاتوجد سوى 3 بلاد تهتم بالنمو الصناعي الاستقلالي وهي ماليزيا وتركيا وايران وتأتي اندونيسيا بعد ذلك وان كانت أقل استقلالية ولكنها الآن أصبحت كتركيا من العشرة الكبار . ولكن في المجال الحربي اي التصنيع الحربي لاتوجد سوى ايران وباكستان التي لم تصنع القنبلة النووية وحدها بل لديها منظومة لانتاج مختلف الأسلحة التقليدية وبالأخص أنواع الصواريخ . عندما كنت في زيارة لباكستان أثناء حكم برويز مشرف , قطع التلفزيون الباكستاني إرساله ليذيع خبراً متلفزاً بالصورة الحية لنجاح تجربة لإطلاق صاروخ من طراز جديد , وكذلك قرأت في الصحف الباكستانية عن بداية جادة لتصنيع الطائرات . وقد شعرت بالفخر رغم معارضتي الشديدة لحكم مشرف , وكنت في ضيافة الجماعة الاسلامية برئاسة قاضي حسين رحمة الله عليه.

في القرن التاسع عشر كان لدي الدولة العثمانية قطاع صناعي للانتاج الحربي لابأس به , ولكن الحالة العامة للدولة العثمانية كانت في تراجع , وشهد هذا القرن بداية التفوق التكنولوجي لأوروبا على الدولة العثمانية والذي تبدى في أحد مظاهره باستخدام البخار كمولد للطاقة ومسير للسفن . وكانت التجربة الصناعية لمحمدعلي فتية وشاملة وتنذر بالخطر لذلك اضيئت

 المصابيح الحمراء في كافة العواصم الأوروبية . ومنذ عام 1810 بدأت تنشأ في مصر مجموعة متكاملة من الصناعات الجديدة المرتبطة بالجيش , تشكل مثالاً نموذجياً لمجمع صناعي حربي يضم ترسانات وأحواضاً لبناء السفن ومصانع ومستشفيات ومدارس . في البداية لجأ محمد علي لشراء الذخائر من الخارج من انجلترا وفرنسا وبلجيكا وغيرها , ولاحظ ان هذا الإجراء أبطأ كثيراً من أن يلبي احتياجاته اذ كان لابد من بيع بضائع للحصول علي النقد الذي يشتري به الإمدادات . وعلي سبيل المثال بعث بوغوص ( وهو أشبه بوزير خارجية محمد علي ) إلي شقيقه في تريستا بايطاليا ليبيع 3 آلاف قنطار من القطن ويشتري مدافع بحصيلة البيع .(سامي . مرجع سابق ) . وفي بعض الأوقات بطبيعة الحال رفضت الدول المعنية بيع الأسلحة اللازمة . فالأسلحة سلعة استراتيجية ترتبط بالتوجهات السياسية للدولة المصدرة , وليست مسألة تجارية عادية . ولكن عندما كانت المدافع والبنادق ومدافع الميدان والقذائف تشتري كان يتم نسخها علي الفور في مصر لتجنب الاضطرار للعودة إلي المصادر الأوروبية ( كما كان يحدث مع آلات المصانع ) . ومثلت حقيقة افتقار مصر – كما ذكرنا – لأي من الفحم أو الحديد عقبة رئيسية أمام تصنيع الذخائر , اذ كان لابد من استيراد المواد الخام كلها , ولهذا لم تكن حملة السودان مخططة للبحث عن قوي بشرية للتجنيد في الجيش فحسب ولكن من أجل البحث عما يكون فيها من معادن . لندن – Sir John Bowring, Report on Egypt and Candia +larevolution de l industrie en Egypt et ses Consequences socials au 19 e siècle 1800-1850

1954 لندن- مصطفي فهمي

وانتجت محاجر وادي النطرون مواداً كيميائية عالية الجودة , استخدمت في مصانع البارود .

وأدت الحاجة إلي دفع مقابل الأسلحة والآلات المستوردة إلي المزيد من التطورات . ففي البداية كانت مبيعات الحبوب في الخارج تكفل أرصدة وفيرة تكفي لدفع قيمة أي واردات . لكن بعد عام 1813 عندما تضاءلت مبيعات الحبوب , كان من الضروري إيجاد سلع تجارية جديدة. وقام التجار البريطانيون الذين يشترون الحبوب من مصر بمضاعفة صادراتهم إليها ليدفعوا ثمن الحبوب , فأغرقوا البلد بالمنسوجات القطنية الرخيصة المعروفة باسم ( الموسلين الهندي ) . وتسبب تدفق هذه الأقمشة في أن يغلق عدد من المصانع المحلية عندما عجزت عن منافسة البضائع البريطانية الأرخص ثمناً . وكانت هذه المعركة تقضي في طريقها علي الصادرات الفرنسية لمصر بالإضافة للحصار البريطاني المباشر علي هذه الصادرات الفرنسية , مما أدي بالقنصل الفرنسي كي يصرح في أحد تقاريره لوزارة الخارجية الفرنسية وكأنه حريص علي مصر فقال {انجلترا هي عدو كل مامن شأنه أن يسهم في إحياء الرخاء الاقتصادي القديم لمصر}. هو يقصد رخاء فرنسا في مصر أثناء مرحلة تصدير بضائعها لها!!

وقد أدت عملية الاغراق البريطاني أي الحرب التجارية علي الصناعة المصرية , أدت بمحمد علي إلي فرض حظر علي المنسوجات البريطانية لمنعها من إغراق الأسواق بأقمشة رخيصة. وهكذا يمكن كما قال محمد علي للقنصل الفرنسي : (يمكن أن يكون لهذا البلد أقل احتياج ممكن للمنتجات الأجنبية وان يصبح قادراً علي إمداد جيرانه بمثل هذه المنتجات ).

مرجع سابق . Afaf Lutfi Al_sayyid

لم يكتف محمد علي بالدفاع السلبي ( حظر الاستيراد) بل استخدم المبدأ الاستراتيجي المعروف ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) فقام بحملة مضادة لغزو أوروبا بالبضائع المصرية !!

( من يفعل هذا من حكام العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين إلا ماليزيا وتركيا ).

كان محمد علي اذا علم بأي انتاج جيد في أي مكان في العالم يسعى لاستجلابه وتوطينه في مصر . أحد الأجانب المقيمين بمصر كان يجلس مع محمد علي , وقال له أثناء الدردشة أنه زار الباشا الفلاني ( لا أذكر اسمه ) فوجد في حديقته نباتاً في منتهى الأهمية وهو نبات القطن طويل التيلة . كان هذا حديثاً عرضياً , وما أكثر الثرثرة التي تحدث في مجالس الحكام .

ولكن محمد علي لم يمر علي هذه  المعلومة مرور الكرام , وعلم ان هذا القطن يزرع في الهند, فأرسل لاستيراد شتلات منه وتعميم زراعته في مصر حتي أصبحت مصر الدولة الأولي في العالم في انتاج القطن طويل التيلة . وكانت مصر تعرف قبل ذلك القطن قصير التيلة فحسب .ثم قام محمد علي فيما بعد بإدخال زراعة القطن طويل التيلة في السودان . القطن طويل التيلة يترنح الآن في مصر , بفضل العميل الصهيوني يوسف والي الذي تركه مبارك علي رأس الزراعة أكثر من عشرين سنة ( بالاضافة لقيادة الحزب الوطني الحاكم وتولي موقع النائب الأوحد لرئيس الوزراء ) اضمحلت زراعة القطن في مصر في آواخر القرن العشرين وحتي الآن , من أكثر من مليون فدان إلي عشرات آلاف من الأفدنة . والمثير للحنق أن التقارير المنشورة تتحدث عن ان آلات النسيج في مصر لايناسبها الآن إلا القطن قصير التيلة  في الأغلب الأعم . كما أن السفهاء يكتبون في الصحف السيارة عن أهمية وأولوية القطن قصير التيلة وهو الأقل جودة .

في صناعة النسيج فان منتجات القطن طويل التيلة أكثر جودة بكثير من القطن قصير التيلة , هو أعلي سعراً , ولكن الغالي ثمنه فيه , ويوجد زبون للمنتجات الأكثر رقياً . ولست أدعو لإلغاء زراعة القطن قصير التيلة فهو يفيد في المنسوجات الشعبية الأرخص سعراً . ولكن بالتأكيد فان التقليص الشديد لزراعة القطن طويل التيلة كارثة . القطن طويل التيلة هو الذي أدخل المنسوجات المصرية إلي العالمية . في إحدى قصص الأديب العالمي جارسيا ماركيز الكولومبي الحائز علي جائزة نوبل للأدب , وهي قصة ( الحب في زمن الكوليرا ) كان بطل القصة يمر بأزمة نفسية وفي حالة ضيق شديد ولم يفرج عن همه إلا بالنزول إلي السوق حيث اشترى قميص مصري من  لينو!

ليست هذه هي القصة الوحيدة في حياة محمد علي , التي تظهر كيف يلتقط معلومة ويستخدمها في إحداث انقلاب اقتصادي . خذ مثالاً آخر وان لم يحقق نفس نجاح القطن طويل التيلة . كانت المنسوجات الصوفية ضمن اهتمامات محمد علي وكانت الحكومة – باعتبارها محتكرة للصناعة – تقوم بتسليم قطعان من الخراف إلى البدو لتربيتها من أجل صوفها الذي تشتريه الحكومة وتصنعه , ولكن في عام 1825 تم استيراد قطعان من ماعز كشمير ومعها رعاتها لتحسين انتاج الأقمشة الصوفية والتوسع فيها لتشمل ” الشيلان ” النسائية التي كانت تستورد عامة من كشمير ( في الهند ) . وتم كذلك إنشاء مصنع للسجاد .

أشرنا من قبل لمصنع الخرنفش الذي تخصص في صناعة المنسوجات الحريرية . ولكن الاقتحام الواسع لمجال صناعة الحرير كان أشبه بالجبهة القتالية ( وأصف دائماً في كتاباتي عمليات البناء والتنمية الجادة بأنها أشبه بالعمليات القتالية ) , فقد رأى محمد علي أن مصر يجب أن تبرع في هذا المجال كما برعت في المنسوجات القطنية.

( قال لي أحد رجال الأعمال الوطنيين في المحلة أن شركة مصر في بداية القرن الواحد والعشرين اشترت ماكينات نسيج ألمانية للقطن طويل التيلة , ولعدم توفر القطن طويل التيلة تم بيع الماكينات على أنه مكن كهنة !!)

وبدأ مصنع الخرنفش عام 1816 والتاريخ مهم لأنه يبرهن علي الاهتمام المبكر بالصناعة عموماً وعدم اقتصارها على الصناعات المرتبطة ببناء الجيش كما يردد بعض المؤرخين , وكان مقرراً لهذا المصنع أن يحاكي المخمل المصنوع في جنوة بإيطاليا . وأعقب ذلك مصنع جديد في ” بركة الفيل ” وكان يديره بعض الأرمن المجلوبين من تركيا , الذين كانوا متخصصين في الحرير الموشى , البروكار والسيرما ( البروكار هو نسيج من الحرير الموشى  بخيوط الذهب أو الفضة أما السيرما فهو قماش من المخمل المطرز بخيوط الذهب والفضة ) تونس مشهورة به الآن .وكان المصنع ينتج 60 ألف أقة من الحرير سنوياً وكان الناتج قماشاً من نوعية جيدة . وزرعت منطقة ” وادي طميلات ” ومساحات من الفيوم وأسيوط بمليون شجرة من أشجار التوت لإنتاج الحرير . وتم اجتلاب عائلات من الدروز من لبنان لتربية دود الحرير . وفي عام 1828 صدر قرار بإعفاء عمال الحرير من الخدمة العسكرية وإعفاء النساء المشتغلات بتربية دود الحرير من العمل في الأقمشة الكتانية مدة الأشهر الثلاثة المقررة. ولاحظ بورنج ان العمل يتم بصورة جيدة وان الأقمشة منسوجة بدقة وتتميز الرسوم بالذوق . ( كلوت بك – مرجع سابق .)

ولصناعة الزجاج  قصة قصيرة . حيث أقيم مصنعان للزجاج عامي 1822, 1836 . وعندما شكا مدير مصنع الأسكندرية من أن الإنتاج المحلي يتبقي دون بيع لأنه كان يتم استيراد الكثير من الزجاج , أمر محمد علي بوجوب استخدام الزجاج المحلي وألا يستورد أي زجاج ( أمين سامي – تقويم النيل 3 اجزاء – القاهرة -1936)

وفي عام 1827 انشئ مصنع لدباغة الجلود وكان ينتج المصنوعات الجلدية اللازمة للجيش وفي وقت ما كانت الجلود تستورد من اوروبا لدباغتها في مصر لاستخدامها في صناعة السروج ولوازم الخيالة والأحذية والحقائب . أما مصنع الورق الذي أنشئ عام 1831 فكان لتصنيع الورق من خرق القماش التي كانت تشتري من الأهالي أو من بقايا مصانع النسيج ومن الورق الذي يجمع من الدواوين والمصالح الحكومية المختلفة , وتلك محاولة مبكرة لإعادة تدوير المواد . وفي عام 1847 زود مصنع الورق بآلة بخارية .

البحث عن الفحم والحديد والمعادن خارج مصر :

من يقوم بنهضة صناعية لابد أن يبحث عن مصادر للحديد ومختلف أنواع المعادن والفحم الذي هو عماد الطاقة في ذلك الوقت ( البخار ) . ولم تكن هناك أي معلومات عن وجود هذه المواد داخل مصر . أقامت مصر علاقات تجارية مع السويد في أقصى شمال أوروبا حيث صدرت مصر لها الحبوب واستوردت في المقابل حديد الزهر . وكما تلاحظون فان الحبوب (وعلي رأسها القمح ) كان سلعة استراتيجية للتصدير منذ أيام الامبراطورية الرومانية مروراً بعهد عمر بن الخطاب حيث أرسلت مصر مليون إردب قمح لمواجهة عام الرمادة ( الحرية أو الطوفان – مرجع سابق ) حتى القرن التاسع عشر الميلادي , ولم تعرف مصر استيراد القمح إلا في عهد عبد الناصر , ثم انهارت زراعة القمح كلية في عهد مبارك ,عهد يوسف والي وزير الزراعة المشئوم الذي أعلن سياسة زراعة الموز والتفاح والكانتلوب ببذور وتقاوي اسرائيلية مهندسة وراثياً كبديل أفضل من زراعة القمح ! وكان من أهداف التوسع في السودان البحث عن الفحم والمعادن والذهب ولكن لم يتحقق شيئاً يذكر في هذا المجال . وحيثما توسع محمد علي كان يبحث في هذه المواد , وقد كان ضم الشام مكسباً كبيراً في مجال الحصول علي الأخشاب لبناء السفن .

اقتحام عصر البخار والهندسة العكسية :

لم تكن محاولات اقتحام عصر البخار قليلة , والبخار كان نقلة نوعية في الثورة الصناعية في أوروبا , ومن ثم في العالم بأسره , فكما ذكرنا فقد كانت المصانع تولد الطاقة من خلال دوران مجموعات من الثيران , والانتقال إلي البخار أعطى كفاءة عالية وانتاجية مرتفعة وانتاج وفير بما لايقاس . كانت هناك محاولة من محمد علي لتعميم استخدام البخار في توليد الطاقة بالمصانع وقد استدعي هذا استيراد آلات أكثر تطوراً وهذا ماسماه الجبرتي ( الآلات الغريبة التي بدأت تتواجد في المصانع ).

استورد محمد علي التكنولوجيا الجديدة للمغازل التي تدار بالطاقة ( البخار ) وفي عام 1830 أقام مهندس بريطاني آلات بخارية لمصنع نسيج في شبرا وآخر في قلعة الكبش ( السيدة زينب) . كذلك استخدمت آلات بخارية لتقشير الأرز في رشيد ومسبك بولاق وفي 1847 تحول مصنع الورق – كما ذكرنا – ليدار بطاقة البخار. وتم انشاء مصنع للغزل والنسيج في بولاق يعمل بالبخار ( تقرير أجنبي عن عام 1837) .

واشرنا من قبل إلي البواخر أي السفن التي تسير بالبخار والتي انضمت لأسطول النقل النهري.

كانت تكاليف استيراد الفحم اللازم للآلات البخارية هي العقبة الرئيسية وراء تعميم استخدام البخار . وكان محمد علي قد كلف مهندسين استأجرهم خصيصاً بالبحث المستمر عن الفحم في مصر والبلاد التابعة لها دون مردود يذكر . ولو تواصلت النهضة الصناعية بعد محمد علي لتم تجاوز هذه العقبة حتى باستمرار الاستيراد .  ولكننا أشرنا من قبل إلى سبب انكسار هذه النهضة داخلياً مع بعض التحسن في عهد اسماعيل . وسنشير للعوامل الخارجية . ولكن قبل ذلك لابد من التذكرة والتأكيد علي أن محمد علي كان يحاول اللحاق بعصر البخار الذي كان قد بدأ لتوه في أوروبا فعصر البخار باستغلال الفحم بدأ عام 1780 وهو عام بداية ظهور الآلات البخارية . أي قبل تولي محمد علي الحكم بـ 25 سنة . بل ان تسيير القطار بالبخار لم يبدأ في بريطانيا إلا عام 1825 أي بعد تولي محمد علي الحكم بعشرين سنة . وفي اول رحلة تجريبية للقطار في انجلترا كانت سرعته 15 كم في الساعة , وناقش البرلمان هذا التطور بإنزعاج شديد وأبدى العديد من النواب قلقهم من هذا الكائن الخطير والسريع والذي يمكن أن يدهس البشر !! وكانت انجلترا تعرض على محمد علي تسيير قطار بالبخار من الاسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس , ولكن محمد علي رفض استناداً لاعتبارات الأمن القومي (حسب الاصطلاح الحديث !)

فانجلترا تريد مد الخط لخدمة اتصالها بالهند , ولكن محمد علي لم يكن يريد ان يسمح بمشروع على أرض مصر يزيد أطماع بريطانيا في الاستيلاء على مصر واحتلالها . وكان يدرك – كما ذكرنا – بذكاء نافذ أن انجلترا هي الخطر الرئيسي على مصر . ولهذا السبب أيضاً رفض مشروع قناة السويس كما سيأتي الحديث .

أما نحن في القرن الحادي والعشرين فقد فاتتنا عدة عصور ولانحاول اللحاق بأي منها , في عصر الكهربا نحن مجرد مستهلكين , في عصر البترول ومشتقاته نحن مجرد مستهلكين سمحوا للأجانب باستخراجه , فاتنا عصر الذرة وعصر الفضاء وعصر السربنتيك أو العصر مابعد الصناعي الذي يعتمد على الانسان الآلي (روبوت) , وعصر الالكترونيات وعصر التكنولوجيا الفائقة وعصر النانوتكنولوجي ( نحن نعقد ندوات عن النانو تكنولوجي فحسب ) بل نحن لم ندخل بعد مرحلة الصناعة التقليدية , فبعد أن دخلناها ارتددنا عنها منذ عهد السادات وانفتاحه الاقتصادي حتى الآن , فتم تدمير القاعدة الصناعية العامة والخاصة لصالح الاستيراد والاقتصاد الريعي ( دخل قناة السويس – السياحة- تحويلات المصريين – تصدير البترول الخام ) . كذلك لم نلحق بعد بعصر الطاقة الشمسية التي أصبح استخدامها تجارياً في العديد من بقاع العالم والتي لاتملك شمساً ساطعة كشمسنا !!

في عام 1815 قام مصري هو ” حسين شلبي عجوة ” باختراع آلة لضرب الأرز بسطت كثيراً من هذه العملية . حكامنا المعاصرون لايتأثرون باختراعات شباب مصر الذين ينتحبون كل يوم في وسائل الاعلام لأن أحداً لايعيرهم اهتماماً . أما محمد علي فعندما علم بقصة حسين شلبي عجوة تأثر وقال : (يبدو أن لدى المصريين استعداداً للعلوم) – ( الجبرتي) وقد كان هذا الحدث هو السبب المباشر لأن يأمر بجمع عدد من المصريين وبعض من مماليكه في مدرسة سميت ” بالمهندسخانة ” أي مدرسة الهندسة . وهناك تلقوا العلم على أيدي عدد من الأوروبيين.  وقد تكون هذه هي الأولى في سلسلة من المدارس . ثم تلى ذلك في 1828 إرسال عشرة مصريين إلى أوروبا لتعلم الميكانيكا ….الخ

في التجارب التنموية المعاصرة خاصة في البلاد الآسيوية ظهر مصطلح ” الهندسة العكسية ” وقد عرفنا هذا المصطلح في مصر في الستينيات عندما كنا نهتم بالصناعة .  والمقصود به شراء أو الحصول على ماكينة واحدة من الخارج وفكها وإعادة تركيبها لاكتشاف أسلوب صناعتها. فمن خلال الفك تكتشف كيف تم تركيب أجزائها ,  وما هي أجزاؤها حتى تصنعها في المسابك والورش الوطنية . كل البلاد الآسيوية الساعية للاستقلال الاقتصادي فعلت ذلك  حتى تستغنى عن استيراد الآلات وتستغنى عن التبعية . وقد فعلت الصين ذلك على نطاق واسع وأصبحت قوة منافسة تدميرية للاقتصاد الأمريكي والغربي عموماً , بجمعها بين الجودة والسعر الأرخص . ولذلك نسمع في الغرب صراخات كثيرة حول الملكية الفكرية وضرورة احترامها . وفي عهد محمد علي جرى شئ من هذا , فكانت الآلات تستورد ثم تستنسخ , واستخدم تعبير الاستنساخ نظراً لبساطة الآلات وعدم تعقيدها في ذلك الزمان ولم يستخدم تعبير (الهندسة العكسية ) وان كان الجوهر واحد  . وفي عهد محمد علي كانت المصانع تحتوي على آلات مستنسخة أي آلات  مصرية تقلد الآلات الغربية مما قلل من استيراد الآلات..  وصنعت كفاءات هندسية مصرية ماتزال متوارثة رغم مراحل الانحطاط بعد محمد علي .

( أشار سانت جول في كتابه عن مصر إلى أنه تحدث إلى  صانع الآلات وهو رجل مصري في مقتبل العمر علي درجة عالية من الذكاء ويتحدث الانجليزية بطلاقة ).

كان تركيز الصناعة المدنية في قطاع المنسوجات القطنية حتى قبل اكتشاف القطن طويل التيلة وقد وضع محمد علي بذلك الهيكل الأساسي للزراعة المصرية , بأن جعل القطن على قمة الأولويات . حتى عهد ماقبل مبارك ويوسف والي ,  كان القطن يستوعب قرابة ثلث العمالة المصرية زراعة وتصنيعاً . وعلى يد النظام الصهيوني تم تدمير العمود الفقري للاقتصاد المصري , وكما يحدث للانسان اذا خرب عموده الفقري فهو إما يموت أو يصبح عاجزاً . وهذا ماحدث بالفعل للاقتصاد المصري . حقاً إن الاقتصاد المصري لاينبغي ان يبقى محصوراً في دائرة القطن , ولكن اذا أردت تطوير اقتصاد ما فلابد ان ترتكز على نقاط القوة فيه وتحافظ عليها  لتنطلق في مجالات أخرى بينما لا يمكن الانطلاق لمجالات أرحب بعد تدمير القاعدة المتوفرة لديك فعلاً , فالقطن كان يوفر أفضل دخل للفلاح ( موسم الزواج يكون مع موسم القطن ) وأفضل دخل للدولة , ومادة أولية لأهم قطاع صناعي ( الغزل – النسيج- الحلج- الصباغة والطبع ) بالاضافة لأشياء اخرى عديدة فزيت بذرة القطن كان يستخلص منه أجود أنواع الزيوت , والكسب أي مايتبقى من البذرة بعد عصرها علف للمواشي , حتى اعواد القطن فهي حطب أي وقود للأفران في البيوت ! وأيضاً وسيلة للتدفئة في أيام الشتاء . وفي هذا الاطار يتم توظيف ملايين المصريين , ويتم تحسين الميزان التجاري اذا صدرت القطن خاماً او منسوجات . فاذا أردت الاندفاع في كل فروع الصناعة التحويلية وحتى الصناعة الألكترونية فهذا لايبرر تدمير الثروة المتوفرة في يدي , ولاتعارض بين التوسع في الجديد والحفاظ علي القديم . طبعاً حكامنا دمروا  القطن ولم يفعلوا شيئاً آخر !! في مجال المنسوجات الآن سبقتنا بلاد مثل بنجلاديش وجنوب شرق آسيا والصين وسوريا  في النوع والكم .

في أربعينيات القرن التاسع عشر كان يوجد بالبلاد 31 مصنعاً للنسيج تستهلك 50 ألف قنطار من القطن ويعمل بها 20 ألف عامل .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: