أعمال
الري طولها مليون متر – سعة كل القناطر 116 مليون م3
شق 36 ترعة جديدة وتطهير مئات الترع القديمة
محمد علي أنشأ الري الدائم أي 3 زراعات في السنة
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (38)
حقيقة وبدون أي افتعال من جانبي لا استطيع المرور سريعا علي مرحلة حكم محمد علي , فبحكم تخصصي ودراستي للشئون الاقتصادية أقدر حجم الانجازات التي جرت في هذا العهد , كذلك فإن هذا المشروع النهضوي لعهد محمد علي يفرض علي العقل والوجدان الحالة المتردية التي وصلنا إليها في مصر بعد قرنين من الزمان ليس بالمقارنة مع العالم المعاصر بل بالمقارنة مع عهد محمد علي !! وأرجو ان تساهم هذه المعلومات في استفزاز غيرة المصريين ليدركوا كم يضيعون الوقت في الصراع بين بعضهم البعض بينما تتحول مصر إلي دولة خارج نطاق الخدمة . وهي في هذا تجذب معها منطقة المستطيل العربي بأسرها إلي الحضيض بحكم الوضع القيادي لمصر , وهو الأمر الذي يثبت أقدام اسرائيل وأمريكا في المنطقة .
النهضة الزراعية
في البداية نشير إلى شق 36 ترعة جديدة في 10 مديريات ( محافظات ) في اطار الجسور والقناطر : تطوير هيكل منظومة الري وفيما يلي بعض التفصيل:
يقولون إن محمد علي أدار مصر كعزبة خاصة له وهذا صحيح , ولكن المذهل في الأمر كيف استطاع أن يلم بمشكلات عزبة بهذا الحجم !! وقد كتبت مرة في عهد مبارك رداً على من يصفه بأنه حول مصر لعزبة له ولأسرته فقلت : ياليت الأمر كذلك , فصاحب العزبة يهتم بالفلاحين العاملين لديه بل ويهتم بالبهائم والدواجن والمناحل , فكل هذه تعد رأسماله الخاص . بل إذا مرضت جاموسة فإنه يحملها إلى مركز الطب البيطري أو يحضر طبيباً بيطرياً خاصاً للكشف عليها . أما مبارك فإنه يدمر مصر بل وصل الأمر إلى حد الموافقة على إغراق الأسواق المصرية بمواد زراعية مسرطنة من اسرائيل , وقلت ساعتها : ان مبارك هو الحاكم الوحيد الذي وضع السم لشعبه في الأكل , ولم يكتف بالقمع والاعتقالات وتزوير الانتخابات , وهذا ليس أسلوب التعامل مع مصر كعزبة , ولكنه وأسرته وعصابته ينهبونها ويضعون الأموال في الخارج . ( مرة أخرى هذه الدراسة كتبت بشكل متقطع خلال 2013 وحتى منتصف 2014 – معد الدراسة )
أقول كل ذلك بمناسبة الجسور , فكما تعلمون فان من القضايا المطروحة منذ سنوات مسألة نحر البحر للساحل الشمالي المصري والدلتا بسبب قوانين النحر المعتادة بالإضافة لمسألة التغير المناخي واحتمالات ارتفاع مستوى سطح البحر . وكثيراً مانكتب في الصحف ننتقد الحكومات المتعاقبة لعدم إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الكافي وعدم وجود خطة واضحة لمواجهته بل هناك معلومات مؤكدة عن تآكل فعلي لمناطق الدلتا خاصة حول دمياط ورشيد .
لم تفت هذه القضية محمد علي وهو كصاحب عزبة وحريص عليها فإنه لايعقد اللجان من أجل أبحاث لاتنتهي بل يذهب بنفسه ويحل الموضوع . فقد كانت مياه البحر تتسرب من فتحة بحيرة أبو قير إلى ترعة المحمودية بما يهددها بطغيان المياه المالحة عليها , فقام ببناء جسر من الأحجار تمنع ذلك . وقد أدى هذا إلي تجفيف بحيرة أبي قير تدريجياً حتى صارت أرض زراعية . وإقامة هذا الجسر كما يقول محمد علي استغرقت عدة سنوات لعمق المياه داخل خليج أبو قير إلى حد خمسة أمتار . وطول هذا الجسر 1243 متراً وقام بمشروع مماثل لحماية بحيرة المنزلة لأن تدفق مياه البحر كان يصل إلى حد إغراق الأراضي المجاورة وإتلافها فقام ببناء سد فتحة الديبة .ومع اختلاف المشكلات ولكننا نعلم كثيراً عن تحول بحيرة المنزلة حالياً إلى مزبلة ومياه ملوثة بالمجاري والصرف الزراعي والمبيدات مما أفسد الأسماك , بل وقيام أصحاب المصالح بردم أجزاء منها وتحويلها إلى أرض بناء أو زراعة . وما كان يمكن لكل هذه المهازل أن تحدث في عهد محمد علي.
أما الجسور التي تقام على الترع فحدث ولا حرج في بني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا.
أما فيما يتعلق بالقناطر فالناس تتحدث كثيراً عن القناطر الخيرية ولكنها لم تكن إلا نهاية المطاف فقد تم انشاء قناطر عديدة على الترع لضبط مياهها بلغت حوالي 45 قنطرة في الدلتا والصعيد .
القناطر الخيرية :
كما ترون فأمر أزمة المياه تلوح في الأفق ببداية بناء سد النهضة في أثيوبيا . لم يواجه محمد علي مشكلة كهذه ولكنه آلى على نفسه ألا تضيع قطرة مياه هباءً في البحر .
وقد كتب المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي عن هذا الموضوع واستوفاه حقه واقتبسه كما هو – وأدعو الشباب لقراءة كل كتبه في تاريخ مصر الحديث ( 14 كتاباً) وهي صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار المعارف . فمن لايقرأ هذه الكتب أحسب أنه لايعرف بلاده (أعني المصريين وان كان العرب يحبون أن يقرأوا ويفهموا مايجري في مصر ).
يقول الرافعي : (كانت أراضي الوجه البحري إلى أوائل القرن التاسع عشر تروى بطريقة الحياض كري الوجه القبلي فلا يزرع فيها إلا الشتوي ولايزرع الصيفي إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المشتقة منه , وقد أخذ محمد علي في تغيير هذا النظام تدريجياً , اذ أخذ في شق الترع وتطهيرها وإقامة الجسور على شاطئ النيل ليضمن توفير مياه الري في معظم السنة , وصارت الترع تروي الأراضي في غير أوقات الفيضان ولاسيما بعد إقامة القناطر عليها . وقد توج محمد علي أعمال الري التي أقامها بإنشاء القناطر الخيرية وهي قوام نظام الري الصيفي في الوجه البحري . وهي وإن كانت آخر أعماله في الري إلا أنها أعظمها نفعاً وأجلها شأناً وأبقاها على الدهر أثراً وقد فكر فيها بعد ما شاهد بنفسه فوائد القناطر التي أنشأها على الترع ورأى أن كميات عظيمة من مياه الفيضان تضيع هدراً في البحر , ثم تفتقر الأراضي إلى مياه الري في خلال السنة فلا تجد كفايتها منها , فاعتزم ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق ولإحياء الزراعة الصيفية في الدلتا , وذلك بانشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل المعروفة ببطن البقرة ) . عبد الرحمن الرافعي – مرجع سابق
عهد محمد علي لمجموعة من المهندسين الفرنسيين بدراسة المشروع وتقديم تصميم له , وتم تغيير المشرف الفرنسي بآخر مع تغيير التصميم وكان يساعده مهندسان كبيران مصريان من متخرجي البعثات العلمية / مصطفى بهجة باشا ومظهر باشا .
تم وضع حجر الأساس في 1847 وتم البناء في عهد الخديوي سعيد .
ويقول المسيو شيلد وهو فرنسي وكبير مهندسي السودان : ( إن مشروع القناطر الخيرية كان يعد في هذا العهد أنه أكبر أعمال الري في العالم قاطبة. لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم مابلغه اليوم . ( يقصد عام 1891 زمن صدور كتابه ( النيل والسودان ومصر ) , فإقامة القناطر الخيرية بوضعها وضخامتها كان يعد إقداماً يداخله شئ من المجازفة).
وقال المسيو باروا في كتابه ( الري في مصر ) وكان يشغل موقع السكرتير العام لوزارة الأشغال : {إن هذه أول مرة أقيمت فيها قناطر كبرى من هذا النوع على نهر كبير } يقصد أول مرة في العالم .
وهكذا تلاحظون ان محمد علي أجرى انقلاباً في الزراعة المصرية من خلال تطوير الري وهو انقلاب غير ما هو مستقر منذ قرابة 14 ألف سنة في مصر , وقد أدى هذا – كما رأينا – إلى الانتقال من ري الحياض ( زراعة واحدة في السنة ) إلى الري الدائم الذي يتيح زرعتين أو ثلاث في العام . من هنا نشأت فكرة الدورة الزراعية . في كتابي مدونات ثورية من تاريخ مصر يمكن أن تقرأ عن انبهار السفير الفرنسي بهذا الانجاز , حيث كتب في تقريره للخارجية الفرنسية , ان محمد علي أدخل مسألة جديدة لا نعرفها في فرنسا أو أوروبا وهي مسألة الدورة الزراعية , وقضى تنويع نوع المحصول من زرعة لأخرى للحفاظ على جودة التربة التي تجهدها بعض المحاصيل وتقويها محاصيل أخرى . وقد سعى يوسف والي وزير الزراعة طوال عقدين من الزمان ( وكان نائب رئيس وزراء وأمين عام الحزب الوطني ) إلى إلغاء الدورة الزراعية أو بالأحرى تدخل الدولة في تنظيم الدورة الزراعية للحفاظ على التوازن البيئي وتوازن المنتجات .
ودعا بتأييد من أمريكا واسرائيل إلى مبادئ السوق الحرة تماماً , وإلى زراعة الفراولة والموز بدلاً من القمح . وقد هاجمته كثيراً لسياساته التخريبية هذه وعلى رأسها التطبيع الزراعي مع اسرائيل , وتم حبسي عامين بتهمة السب والقذف.
ما يهمني في هذا , ان انجازات محمد علي كبيرة إلى حد أن العملاء مايزالوا يهدمون فيها حتى نهاية القرن العشرين . ولكنهم لم يهدموا القناطر الخيرية حتى الآن والحمد لله , بل يتم استغلالها في تنظيم الري حتى الآن ( هكذا قال رئيس مباحث أمن الدولة الذى أصبح محافظا لكفر الشيخ ، فى لقاء وحيد جرى بيننا وكان بهدف إقناعى بالتوقف عن مهاجمة جمال مبارك. ولكننى لم أتأكد من معلومة ان القناطر لاتزال تعمل فى منظومة الرى وان كان توقف دورها الآن لايقلل من شأنها ودورها التاريخى ).
النهضة الاقتصادية:
رغم أن المؤلف الكبير عبد الرحمن الرافعي لم يكن ضليعا في الاقتصاد، إلا أنه كانت له نظرات ثاقبة في الأبعاد الاقتصادية للنهضة فقال هذا الكلام الدقيق والجميل (من القواعد الأساسية في نهضة الأمم أن إنماء ثروة البلاد والمحافظة على كيانها المالي من أكبر دعائم الاستقلال لأن العمران مادة التقدم، والثروة الأهلية هي قوام الاستقلال المالي، ولا يتحقق الاستقلال السياسي ما لم يدعمه الاستقلال المالي والاقتصادي، تلك الحقائق التي أجمعت الآراء على صحتها ووجوب العمل بها. كان محمد علي أول من قدرها فقد اتجهت أنظاره منذ أوائل حكمه إلى اصلاح حالة البلاد الاقتصادية وإنشاء أعمال العمران فيها لتنمو ثرواتها القومية، ولم تفتر عزيمته عن متابعة جهوده من هذه الناحية حتى خلف أعمالاً ومنشآت يزدان بها تاريخه) . مرجع سابق- عبد الرحمن الرافعي
عندما تتابع أعمال الري في عهد محمد علي ستكتشف أن هيكل نظام الري في مصر في أوائل القرن الواحد والعشرين ماهو إلا تطوير وإضافات إلى هيكل الري الذي صنعه في مقتبل القرن 19 , وطبعاً سنجد هنا وهناك تدميراً لمنجزات الري التي صنعها ! والمقصود بهيكل الري منظومة الترع التي تنظم نقل مياه النيل للأراضي الصالحة للزراعة ومنظومة القناطر التي تنظم تدفق المياه بين فترات الفيضان
وفترات التحاريق ( الشتاء ).
سد ترعة الفرعونية :
يشير الجبرتي في حوادث يناير 1809 إلى أن ترعة الفرعونية التي تربط بين فرعي النيل دمياط ورشيد أضرت بالمناطق الزراعية حول فرع دمياط والتي تروى منه وخاصة من المنصورة ومايليها شمالًا لأن الترعة كانت تسحب المياه من فرع دمياط فيقل ماؤه ويطغي عليه البحر ويفسد مياه النيل بملوحته إلى قبلي فارسكور فتفسد زراعة الأرز وشكا الأهالي على توالي السنين حتى استجاب لهم محمد علي وأمر ببناء جسر من الأحجار لمنع انسياب مياه فرع دمياط للفرع الآخر وانشأ ترعاً أخرى تعوض جهات البحيرة ماكان يجيئهم من ترعة الفرعونية قبل سدها .
لم أكتب هذه التفاصيل عفو الخاطر , فدراستي غير معنية بكل هذا التفاصيل ولكنني سأفاجئ القارئ عندما أقول له إنني سافرت – من تلقاء نفسي – بعد أن قرأت كثيراً عن شكاوي الفلاحين من انقطاع مياه الري في نفس المنطقة ( شمال المنصورة ) مما أثر على زراعة الأرز كان ذلك عام 2008 أو 2009 وكنت قد آليت على نفسي بعد اشتداد أوجاع الناس أن أذهب بنفسي إلى أماكن شكوى الجماهير للتضامن معهم وبحث وسائل الحل ونشرها على الانترنت ( حيث كانت الشعب الورقية مغلقة بين 2000 حتى قيام الثورة 2011) وعندما ذهبت إلى هناك وأمضيت يوماً مع الفلاحين وجدت أن حالة الري اسوأ من حالته حتى قبل أن تتولى حكومة محمد علي سد الترعة الفرعونية . فقد وجدت أن منطقة شمال المنصورة تتم زراعتها بالأرز اعتماداً على المياه الواردة من مصرف كتشنر, وان المياه في هذا المصرف تنقطع كثيراً ويتم تحويلها لبعض أراضي الكبار !! ولكن الشئ المذهل أكثر من ذلك ان مصرف كتشنر هذا كان مختلطاً إلى حد كبير بمياه الصرف الصحي . وعندما قلت للفلاحين : هل تثيرون كل هذه الضجة من أجل مياه الصرف الصحي ؟ قالوا لي : ماذا نفعل ليس لدينا حل آخر , ومياه الصرف أفضل من لاشئ ! وهذا موسم زراعة الأرز ! وتجولت في الأراضي الزراعية وكانت رائحة المجاري تزكم الأنوف فمياه الصرف تأتي إليهم ولكن بصورة متقطعة وغير كافية (لاحظ أن ذلك في الأرز الذي نأكله أو نصدره ) .أي ان وضع الري في القرن الواحد والعشرين في هذه المنطقة اسوأ مما كان حتى في عهد ماقبل محمد علي .
ماذا أقصد من كل ذلك في دراسة استراتيجية ؟ أقصد بصراحة القول بأن مصر ترجع للوراء منذ أربعين عاماً في شتى المجالات حتى وصلت في بعض المجالات لأحوال المماليك قبل محمد علي والحديث عن أي دور لمصر في المنطقة ( المستطيل ) أو حتى أي نهضة أصبح من قبيل العبث , مالم يتم تغيير سائر النخبة الحاكمة في البلاد .
فتح ترعة المحمودية :
ومن الأعمال الجليلة شق ترعة المحمودية ( ترعة الأسكندرية القديمة ) وكانت الأتربة والرمال قد طمرتها فشرع في حفرها من جديد , وقد عني محمد علي بفتح هذه الترعة عناية كبيرة فكان يتعهد الأعمال فيها بنفسه وكان غرضه من شقها إحياء الأراضي الزراعية في مديرية البحيرة وجعلها طريق المواصلات النيلية بين الأسكندرية وداخل البلاد وتم افتتاحها في 1820 , وقد كانت أشبه بحفر قناة حتى لقد مات في حفرها 12 ألف مصري في مدى 10 شهور , وذلك من ضمن 313 ألف فلاح شاركوا في حفرها جاءوا من مختلف المديريات (المحافظات ) , كان عملاً ضخماً بالفعل , والنتيجة رائعة فمن جهة المواصلات صارت تجري فيها السفن بين الأسكندرية والداخل تحمل حاصلات البلاد أو وارداتها , وكانت سبباً في عمران البلاد التي مرت بها في البحيرة بإحياء أراضيها . وأفاد عمران الاسكندرية منها فائدة كبرى إذ جعلتها الترعة ملتقى للبضائع الذاهبة إلى داخل البلاد أو الآتية منها . وساعدت مياه الترعة علي الإكثار من الزرع وغرس الأشجار والحدائق في ضواحي المدينة فاتسع نطاق العمران وابتنى الأغنياء القصوروانشأوا البساتين والحدائق على ضفاف الترعة في جهات كانت من قبل مقفرة جرداء.
وتحدث الجبرتي عنها كثيراً ( سألني مرة أحد الشباب من هو الجبرتي ؟ فقلت له : هو يابني مؤرخ مصر الأهم في أواخر القرن 18 ومطلع القرن 19 ونص كتابه الأخير موجود ومتوفر) وقال ان حفرها استغرق 3 سنوات . وقد كانت ترعة المحمودية تحفة من تحف العمران يتحدث عنها الركبان طوال القرنين 19 , 20 وكأنها جنة الله في الأرض بعد أن كانت صحراء قاحلة ( تجدها في الطريق الزراعي بين دمنهور والأسكندرية ) , وعندما دخلت الكهرباء البلاد تمت إنارة ضفتي الترعة وانعكست الأضواء على صفحة مياه الترعة فزادتها بهاء وجمالا .
وهذه ثمرة تضحيات 12 ألف فلاح ماتوا تحت أديمها وهناك شكاوي عديدة من سوء المعاملة التي أدت إلى هذه الخسائر غير المقبولة بين الفلاحين . وسنأتي لمسألة العدالة الاجتماعية في عهد محمد علي ولكننا لا نزال نتحدث عن انجازات العمران التي عاشت حتى الآن . ترعة المحمودية لاتزال تستخدم في الري والشرب حتى الآن , ولكن المواصلات النيلية انتهت في بلادنا عموماً كما ذكرت ,ويقول القاطنون في هذه البقعة الآن ان الترعة تحولت إلى بؤرة للمياه الفاسدة الملوثة والقاذورات . ويجب ألا يتحجج أحد بزيادة عدد السكان فلابد لأي نظام رشيد الا يجعل الزيادة السكانية مبرراً لتخريب البيئة .
وبلغ اجمالي أطوال أعمال الري في عهد محمد علي أكثر من مليون متر ( 1.135.775مترا) وكانت السعة التخزينية لإجمالي القناطر 116 مليون متراً مكعباً من المياه ( 116050843 متراً مكعباً ) . {مرسوم رسمي صادر عن الدولة في يوليو 1841 }
كيف تعامل محمد علي في مسائل الري :
تدعيم الجسور وتنظيف وتطهير الترع خاصة في الأوقات السابقة لوصول مياه الفيضان , كان يتعامل مع هذه المسائل كمعركة حربية , كديدنه في شتى نواحي التنمية الاقتصادية وهدد في واحدة من النشرات الدورية جميع نظاره في الوجه القبلي , وأمر بتجميع 24 ألف رجل لهذه المهمة وبعث إلى موظفيه يقول :{ اذا قلتم إن ذلك يزعج الفلاحين عندما لايكون هناك داع فأنا أقول : إن الولد لايذهب طوعاً إلى المدرسة , ولكن يجبره أبواه حتي يكبر ويعرف قيمة التعليم , لذلك فان سوق الرجال إلى الجسور والترع عسير عليهم لكنه ضروري } وأضاف { أنه اذا مارفض الفلاحون أن يذهبوا طوعاً فإن على النظار أن يستدعوا جنوداً من مدير المديرية ليُخرجوا الفلاحين قهراً وجبراً} . وقد طبق هذا الاجراء في الأعوام الواقعة بين عام 1834 وعام 1837 الذي شهد كل واحد منها فيضاناً مدمراً . وقد لحقت المصائب بالمسئولين الذين فشلوا في صيانة الترع . ويقول محمد علي في النشرة الدورية : {اذا اصبحت الأرض شراقى – أي تفتقد المياه – نتيجة لإهمال تدعيم جسر ” بني خالد ” فليس هناك عقاب سوى الموت!!}
هكذا أنذر كل نظار الأقسام . ويضيف :{ اذا رأينا قيراطاً واحداً من الأرض غير مروي فسوف تدفنون فيه !!}.
كان الفلاحون مكلفين بالعمل في السخرة لمدة شهرين في السنة . ويحدث ذلك خلال الأشهر التي تكون الأرض فيها متروكة بلا عمل ولا يكون هناك الكثير من الأنشطة الزراعية . ولكن يجب أن يكون واضحاً ان التهديدات بالموت والدفن والتي كانت من لوازم منشورات محمد علي الادارية كانت دائماً على سبيل الزجر والتخويف والإرعاب على طريقة الأب الذي يهدد ابنه بالقتل اذا سقط في الامتحان. ولم يحدث ابداً تنفيذ لمثل هذه التهديدات ولكنها كانت تتحول إلى عقوبات إدارية وخصومات من المرتب . وأيضاً لابد من الاشارة إلى أن شق الترع وبناء السدود بواسطة أعمال السخرة كانت تتم مقابل أجر يتقاضاه الفلاحون كما ذكر الجبرتي (ونؤكد مرة أخرى انه كان من المعارضين لمحمد علي ) عن حفر ترعة الأشرفية أنه كان يدفع عشرة ريال للفلاح وعند العمل يدفع لكل شخص قرش كل يوم ( والقرش مبلغ لابأس به في ذلك الزمان ).
بل بالاضافة للأجر { كانوا يطعمون شوربة أو دشيشة صباحاً ومساءً . فقد كان الوقت شتاءً } كما تذكر نشرة دورية خاصة بالعمل في قناة المحمودية عام 1819 . كذلك كان العاملون (الفلاحون ) يأكلون اللحم مرة كل عدة أيام .
بل كانت الأوامر تصدر إلى كل المأمورين لإطعام العمال يومياً وصرف تعيينات من الحبوب لهم تتراوح بين ثلاثمائة وخمسمائة درهم من الذرة. لا يبدو ان هذا كان منتظماً وإلا لماذا مات 12 ألف أثناء الحفر ؟ هذا أمر يحتاج للمزيد من التحقيق .
كان ري المحاصيل المزروعة درساً أولياً يتعلمه كل طفل فلاح بعد ادخال الري الدائم , اما ري الحياض منذ أيام القدماء المصريين فليس فيه أي فن فقد كان يقوم على غمر الفيضان للأرض! ولذلك أدخل محمد علي ادوات ميكانيكية للري مثل السواقي . وقد تلقى كبير مهندسي الدلتا الأوامر بإقامة السواقي في جميع مناطق الدلتا لضمان ريها . وقد قدر عدد السواقي التي انشئت ب52836 ساقية . ويمكن للساقية الواحدة أن تروي ثلاثة ارباع الفدان في أربع وعشرين ساعة , لكن السواقي تبلى وتحتاج لإحلال كل خمس سنوات لذلك فان صيانتها ضرورية . وكانت السواقي مسجلة في دفاتر الحكومة والأرض التي ترويها . واذا نقصت الأرض عن الرقم المسجل فعندئذ يتم استخدام الساقية في أراضي مجاورة . واذا ماضبط أي شخص متلبساً بتخريب ساقيته فإنه كان يعاقب عقاباً صارماً . (الحتة , تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير – القاهرة 1950) وهكذا تم تجديد نظام الري القائم بأكمله, وجرى تطهير وتعميق كل الترع حتى يمكنها أن تستوعب مياه الصيف . وبلغ اجمالي حجم التراب الذي أخذ من مجاري الترع الجديدة والقديمة التي يتم تطهيرها حوالي 100 مليون متر مكعب . وبلغ مجموع عدد العاملين المشاركين في هذه الأعمال قرابة ثلت مليون فلاح . وإذا أخذنا نموذجاً محلياً نجد أنه في عام 1829 تم تطهير كل الترع في مديرية الغربية وكان من بينها 43 ترعة يبلغ طولها مجتمعة 74 ألف قصبة وتضمن المشروع شق ترعة جديدة في المحلة شارك في حفرها 32 ألف رجل ( القصبة طولها 3 أمتار).
من قبل تحدثنا عن شق 36 ترعة جديدة ويبدو أن هذا الاحصاء لايشمل إلا الترع الكبيرة كذلك فإن تطهير الترع لايقل أهمية عن شق ترع جديدة وهكذا نجد في مديرية واحدة تطهير 43 ترعة.
إدخال محاصيل جديدة :
كما ذكرنا في حديثنا عن الصناعة فقد تمت زراعة ثلاثة ملايين شجرة توت لتربية دودة القز لانتاج الحرير , وبلغ محصول الحرير 1832-1833 12ألف أقة ( كادلفين- مصر والنوبة – الجزء الثاني ).
واهتم محمد علي بغرس عدد وفير من الأشجار علي اختلاف أنواعها لاستخدام أخشابها في بناء السفن وأعمال العمران . وذلك بعد أن قطع كثيراً من الأشجار المغروسة للاستفادة من أخشابها في إقامة السواقي وصنع عربات المدافع والسفن الحربية.
في القرن الواحد والعشرين يتحدث الخبراء الدوليون في الأمم المتحدة وخارجها عن ما يسمى (التنمية المستدامة) أي التنمية التي تحافظ على البيئة ولا تدمرها، والتنمية التي تستغل الموارد دون أن تستنزفها على حساب الأجيال القادمة. ويتصور هؤلاء الخبراء الدوليون الذين يصدرون لنا كل يوم مصطلحات جديدة لنبذل جهدنا في تفسيرها وفهمها، يتصورون أنهم يقولون جديداً. ومحمد على وما فعله من تعويض استنزاف الأشجار بزرع المزيد من الأشجار ما هو إلا ممارسا واعيا لما يسمونه اليوم (التنمية المستدامة)!!
وأشرنا من قبل إلى قصة القطن طويل التيلة، ولكن محمد على لم يكن ليصدر قراراً بيروقراطيا وينام في قصره، بل يسعى لإحاطة القرار بكل ضمانات النجاح. فعندما أصدر قراراً بتعميم زراعة القطن طويل التيلة، أنشأ السواقي اللازمة لزراعته، واشتراه بأثمان مرتفعة ليشجع الفلاح على زرعه حتى أصبح انتاج مصر منه عام 1827 344 ألف قنطار وأصبح كما أوضحنا من قبل أساس ثروة مصر الزراعية بل والصناعية أيضا.
وكانت زراعة الزيتون قبل محمد علي محدودة جداً، وتحدثنا من قبل عن التوسع في زراعة أشجار الزيتون من أجل الزيت (وفرعيا الصابون) وهو غذاء صحي كثر الحديث عنه الآن في القرن الواحد والعشرين، وقد خصصه محمد علي لغذاء الجنود وبحارة الأسطول (في الجيش الآن لا يمكن أن يصرف زيت الزيتون!!)، وأمر بغرس كثير من أشجار الزيتون في الوجهين البحري والقبلي، وزرعها ابنه ابراهيم بالآلاف في أطيانه الخاصة الواسعة.
تحدثنا من قبل عن النيلة (وهي صبغة زرقاء وسبب السب بكلمة “جتك نيلة”) كانت زراعتها محدودة، ولأهميتها في صناعة النسيج جلب محمد علي عام 1826 بذور النيلة الهندية، واستحضر- كعادته- بعض الهنود الأخصائيين في زراعتها، فأخذت زراعتها في النمو والتقدم وبلغ الانتاج 77 ألف أقة سنويا. وتمت زراعة الأفيون بمساعدة أرمن من أزمير بتركيا ويستخرج من بذرة الأفيون زيت للوقود.
ولكن ما هي المحاصيل الجديدة التي أدخلها محمد علي؟! نتابع