جدتي تركية وأقدر العثمانيين ..ولكن هذه كوارثهم بمصر

ولكن مصر القرن 18 أفضل من مصر ق 21 اقتصادياً”

المماليك في العهد العثماني يمتصون مليار باره من دم المصريين

شاعر مصري : أهر على روحي عندما يأتي جابي الضرائب

فرنسا مديونة للجزائر بعشرات الملايين ومع ذلك قامت باحتلالها !!

(الصورة لجزيرة كريت – حيث عاشت جدتى التركية – ولم أزرها أبدا وكانت تابعة لمحمد على)

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (39)

لايمكن فهم وإدراك حجم الانجاز الاقتصادي الذي تحقق في عهد محمد علي بدون مقارنته بالأوضاع التي سبقته خلال القرن ( 18 ) . كما انه يوضح حالة التردي التي وصلت إليها مصر بعد 3 قرون من حكم الدولة العثمانية التي نكرر انها لم تعط أي اهتمام يذكر بالنهضة الاقتصادية أو الحضارية لمصر أو لمجمل المستطيل العربي , فهي لاتهتم إلا ببقاء السيادة والسيطرة العامة عليها فحسب , والحصول علي خراج مالي منها , وان الدولة العثمانية قد حصرت اهتمامها في الاناضول وفي تركيا الأوروبية ( الروميللي ) وبعض أجزاء شرق أوروبا , وان كانت المحصلة التاريخية في نشر الاسلام قد تركزت في البلقان وبالأخص البوسنة وألبانيا والتي ماتزال آثارها , بادية حتى الآن . وبالتالي لاداعي لبعض الأخوة ان يحملوا على محمد علي انحيازاً للدولة العثمانية , ويتهمونه بأنه طعن دولة الاسلام في الظهر , دون ان يلحظوا ان دولة الاسلام قد أدارت ظهرها إلى مصر والمستطيل العربي , عدا معاركها في العراق مع الصفويين . التي انتهت إلى نتائج محدودة بل العراق أصبح أغلبه (60-65%) شيعة . وقد أعطيت فيما سبق حق الدولة العثمانية ودافعت عنها بالحق وأشرت إلى كل إيجابياتها ولا ازال أعدها دولة إسلامية حملت راية الاسلام 6 قرون متصلة , وأنا أحاول ان أكون منصفاً إلى أقصى حد لأنني أحب الدولة العثمانية كما تعني كلمة الحب من معنى , فأنت تحب المرء رغم أنك تعلم عيوبه ومثالبه ولكنني أحبها عقائدياً بقدر ماحملت مسئولية الدفاع عن الاسلام ونشره في بقاع الأرض , ولاينكر فضلها إلا جاحد بل ربما اذيع سراً ( وان كان سراً معلنا !!) فإن في عروقي تجري دماء تركية , وهو أمر لم أهتم به إلا أخيراً . فجدتي مباشرة أم أمي تركية تعيش في مصر , ولكننا لم نتحدث في الأصل التركي كثيراً في الأسرة , ولم تعد لنا أي صلة بأي جذور تركية , ولم التق بأي تركي له صله عائلية بنا , ولم أذهب إلى تركيا ,إلا كمواطن مصري سائح اولاً ثم كسياسي ثانياً . وقد علمت أخيراً جداً أن جدتي من أسرة تركية كانت تعيش في جزيرة كريت التي كانت تابعة لمصر في عهد محمد علي . ولم أزر هذه الجزيرة, ويبدو أنها تابعة لليونان حالياً .واستكمالاً لهذه الذكرى الغائمة التي لم أهتم بها إلا بعد موت أمي وخالاتها التركيات الأصل اللاتي تزوجن جميعاً من مصريين , في آخر زيارة لتركيا كنت في ندوة ببلدة بدروم الساحلية الساحرة , وفي نزهة مع زوجتي في أحد لنشات البحر أشار لي قائد اللنش : هذه جزيرة كريت وهي تابعة لليونان , وبالفعل ظهر إسم اليونان على هاتفي المحمول . وأنا أكشف عن هذا الجانب الشخصي بهدف صريح وهو أنني سأضطر لانتقاد الدولة العثمانية كثيراً ,في مرحلة هبوطها ( طوال القرن التاسع عشر ) بل لعلي بدأت بالفعل منذ تناول عصر محمد علي أيضاً في اطار الموضوعية والانصاف .

فنحن لانقدس دولة لأنها اعلنت التزامها بالاسلام . فكل شخص له ايجابياته وسلبياته وكل دولة مهما بلغت عظمتها لها جوانبها السلبية والايجابية . ولكن في اطار الدول والأمم تكون بين مرحلتي صعود وهبوط , فلامعنى للاشادة بالدولة وهي تهبط إلا تزييف الحقائق , بدلاً من استجلاء الوجه الصحيح للدولة الاسلامية التي ننشدها الآن وفي المستقبل .

وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان للدولة العثمانية دوراً سلبياً في كل من مصر والشام والعراق ( حتى في اطار المناطق السنية ) على مدار 3 قرون . كيف ؟

لم يكن لدى الدولة العثمانية الادراك الاستراتيجي الحقيقي لأهمية المستطيل القرآني (الشرق الأوسط) , ولم تدرك أنه مركز العالم الحقيقي وليس استانبول , ولكنها أدركت أهميته بالحد الأدنى حيث رأى سليم الأول – عن حق – ضرورة ضم مصر والشام والعراق للدولة العثمانية وقد كتبت عن ذلك مرحباً كما تذكرون ورأيته قراراً صائباً ( 1516-1517 ) على خلاف رأي راغب السرجاني. وكانوا مهتمين بأن تكون مكة والمدينة كرمزين مقدسين في اطار الدولة الاسلامية التي اصبحت تسمى أحياناً الخلافة الاسلامية , وربما القدس أيضاً .

السلطان كان يحب أن يسمي نفسه خادم الحرمين . ولكن منذ جاء سليم الأول فاتحاً الشام ثم مصر حيث بقي أقل من عام وعاد إلى استانبول , لم يزر سلطان عثماني مصر قط إلا السلطان عبد العزيز في عهد الخديو اسماعيل , وكانت زيارة شخصية عاد منها محملاً بهدايا ملأت سفينة كاملة . ووفقاً لمعلوماتي لم يقم سلطان عثماني بأداء فريضة الحج أو أداء العمرة وبالتالي لم يزر أحد منهم الجزيرة العربية , رغم دفاعهم المجيد عنها عندما تعرضت لعدوان برتغالي كما أشرنا .  وكان أحد السلاطين الضعفاء يفكر في زيارة مصر ولآداء الحج ولكن أطيح به قبل القيام بها وقتل . أما اليمن فلم يهتموا بها إلا من زاوية فرض السيادة, دخلوا حروباً متتالية ضد الزيديين . وفي عهد محمد علي أعطوا مسئولية الجزيرة العربية واليمن له. وفي مقابل عدم التمركز في مصر والمستطيل كمركز للدولة الاسلامية مما يستدعي إقرار اللغة العربية كلغة رسمية اولى , في مقابل ذلك قاموا بأسوأ شئ ممكن بأن اعتمدوا المماليك حكاماَ في مصر والعراق وبعض العائلات الموسرة من التجار في الشام , أما المماليك في مصر والعراق فقد كانوا في اسوأ أحوالهم , بل في مصر حيث درست هذا جيداً , فانهم قد تحولوا إلى حثالة حقيقية ولاعلاقة لهم بمماليك قطز أو بيبرس أو قلاوون . وهذه الحثالة هي التي حكمت مصر 3 قرون , ولكن من أجل الدقة فقد تدهورت أحوالهم نحو الأسوأ دائماً في القرنين 16,17 حتى وصلوا إلى مستوى الحثالة الحقيقية في آواخر القرن 18 .

فالحقيقة أن أقدار الله هي التي أرسلت محمد علي لينقذ مصر من الهوة السحيقة التي كانت قد هوت إليها . والطريف أن محمد علي قال قولاً قريباً من ذلك ( إن المصريين لم يعرفوا قيمة مصر وقد هيأ الله لي أن أحضر لها وأعيد لها المجد الذي تستحق) والحقيقة أن محمد علي أعاد الاعتبار لمصر اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً , وماكان يمكن أن نتوقع منه  ذلك كأمي وكضابط في الجيش العثماني . طوال 3 قرون – كما ذكرنا- كان الوالي العثماني يحكم في المتوسط عامين , وكان الفاسد منهم يسعى لجمع المال لنفسه خلال الفترة القصيرة وهذا لايكون بدون التعاون والاقتسام مع المماليك , والشريف منهم يتعرض لغضب المماليك . وكانت الآستانة تستمع لطلباتهم بتغيير الولاة.

 بعد المقارنة بين عصر محمد علي وعصر المماليك العثماني في القرن 18 ,وبعد توضيح الحالة المتردية للدولة العثمانية , فهناك سبب ثالث يجعلنا نعود مرة أخرى إلى وقفة مع القرن الثامن عشر , ورغم كل ماقلته فان مصر القرن الثامن عشر كانت أقوى اقتصادياً من مصر القرن الواحد والعشرين !!

وكل هذا بالأرقام والحقائق , فمصر في عهد حثالة المماليك وبقوة الدفع الذاتي لمراحل النهوض السابقة كانت من زوايا عدة في المجال الاقتصادي أفضل من الآن بمقارنة مصر بعصرها في الحالين .

حكم مصر طيلة القرن الثامن عشر تحالف من المماليك والتجار ( على اعتبار أن الوالي العثماني طرطور عادة ) وقد قام الازدهار الاقتصادي على عاملين :

1-  الانتاج الزراعي الذي كان معقولاً.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      

2- والتجارة التي اصبحت مصدراً كبيراً للدخل بسبب الموقع الجغرافي لمصر في المستطيل كحلقة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب . وكانت مصر مورداً مهماً للامبراطورية العثمانية من انتاجها وانتاج الغير خاصة من آسيا . ومع منتصف القرن 18 كانت أوروبا في احتياج لتصريف منتجاتها الصناعية في مصر ( وغيرها من الولايات العثمانية ) وفي احتياج للمواد الخام الزراعية من مصر والشرق الأوسط , وفي المقابل كان المماليك في احتياج لشراء السلاح من أوروبا لاستخدامه في صراعاتهم بين بعضهم البعض (!)

وهكذا زادت التجارة بين مصر واوروبا ولكن بعجز لصالح اوروبا . وكان التجار في مصر يعوضون هذا العجز بزيادة الصادرات الزراعية للامبراطورية العثمانية . المهم لقد كان لدى مصر ماتصدره من انتاجها , أما من التجارة العابرة فقد حقق التجار المصريون ثروات طائلة من إعادة تصدير البن ( القادم من اليمن ) , مايساوي 2 مليار باره سنوياً ( الباره عملة فضية صغيرة والقرش به 40 باره وهذا مايوضح القدرة الشرائية الكبيرة للقرش في ذلك الزمن ). ولكنهم تعرضوا لمنافسات دولية من فرنسا وغيرها ضربت احتكار المصريين لتجارة البن وهذا ما أضعف مواردهم في أواخر القرن 18 .( ولكن لاحظ ان هذه التجارة العابرة التي تستغل موقع مصر لم تعد موجودة الآن !!) . ولكن مصر القرن الثامن عشر كانت قادرة أيضاً على تصدير المنسوجات القطنية الممتازة ( انتاج دمياط والمحلة ورشيد وأسيوط ومنفلوط وأبوتيج ) .

وكانت تمثل عام 1731  45% من الصادرات المصرية وكانت تصدر إلى فرنسا وهولندا وأسبانيا ولكن في أواخر القرن الثامن عشر بدأت اجراءات الحماية الجمركية للمنسوجات الفرنسية وكان هذا سبباً آخر لتدهور الأحوال الاقتصادية في مصر . وأصبحت التجارة المصرية تحقق عجزاً سنوياً قدره 60 مليون بارا . ومع الأيام غلب على الصادرات المصرية المنتجات الخام الزراعية : الأرز والكتان والصوف وخيوط القطن والجلد والزعفران ( هل نزرع الزعفران الآن ؟ لا أعتقد ) وملح النوشادر . وفي المقابل بدأت المنسوجات الفرنسية تغزو السوق المصري .

والحقيقة لم يكن المماليك وحدهم شركاء التجار المصريين بل كانت الانكشارية ( الجنود العثمانيون ) شريكاً منافساً آخر وهم ” لايتخيرون ” عن المماليك فهي قوة عسكرية من المفترض ألا تكون لها أي علاقة بالتجارة ولكنه البيزنس بالمعنى الفاسد , ومع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته كان المماليك يكسبون الصراع مع الانكشارية باعتبار أن المماليك أكثر دراية بالشئون المصرية باعتبارهم متمصرين  ولكن الانكشارية بدورها تمصرت ( !!) ولم تعد تستورد جنوداً من استانبول بل تجند من داخل مصر . ولكن المماليك انتصروا في الصراع خاصة وأنهم يمتلكون معظم الأراضي الزراعية ولديهم بالتالي أموال طائلة من غير التجارة وبالتالي استطاعوا تمويل حروبهم الأهلية مع الانكشارية والانتصار عليهم . والحقيقة فقد أصبحت مصر نهباً لصراع عصابات وليست إدارة رشيدة اسلامية أو غير اسلامية. (حدثونا اذن عن الاسلام الذي كان يطبق في مصر !! ثم ضربه محمد علي ! ) فقد كانت هذه العصابات المماليك ضد بعضهم البعض  والمماليك ضد الانكشارية تتصارع على امتصاص دماء الشعب المصري بالاتاوات والضرائب بالإضافة لاستغلال المماليك للفلاحين وفق نظام الالتزام . *نظام الالتزام يعني أن كبراء الريف والمماليك تتوزع عليهم أراضي البلاد الزراعية وكل ملتزم يلتزم بجمع الضرائب للحكومة بمنطقته مقابل الحصول على امتيازات (كقطعة أرض خاصة تسمى الوسية ) ولكن الملتزم عادة مايجمع أضعاف الضريبة المطلوبة ويضع الفرق الكبير في جيبه .

فقد كان المماليك يحتاجون لأموال طائلة لدفع رواتب جنودهم  بل وصل الأمر لبناء قوة بحرية وليس لقتال الصليبيين عبر البحر  ولكن من أجل حماية التجارة البحرية الخاصة بهم من القرصنة . وهذا قوى علاقة المماليك بالتجار وجعلها عضوية بل ومصيرية . وقد تكرر هذا النمط في فلسطين أشهرهم أحمد الجزار وهو مملوكي ( وان كنا نذكر له صموده أمام نابليون في عكا ) وضاهر العمر الذي تحالف مع نابليون ضد أحمد الجزار لأن الأخير أخذ منه ولاية عكا !! وحدث نمط من هذا في حكم البلقان أما في العراق فقد تم تسليمها للمماليك كمصر بالضبط . واذا عدنا لمصر نجد أن الانكشارية عندما ضعفت في تحالفها مع التجار اتجهت لاستغلال أصحاب الورش والحرف وهو ما أدى إلى تدهور انتاج المنسوجات وكانوا يحصلون منهم 10% من دخلهم . وفي سوريا حدثت أوضاع مماثلة : صراعات بين مجموعات عرقية والانكشارية في دمشق وبين الانكشارية والأشراف في حلب . وكانت الصراعات حول السيطرة على التجارة  وكان التجار يفضلون التحالف مع المجموعات العرقية والمحلية ضد الانكشارية وكانت الانكشارية تفعل –  كما تفعل في مصر أي تتزاوج مع أهل البلد وتدخل في منافسات حادة مع المماليك والمجموعات المحلية .

 في مصر لم يكن للفلاحين حقوق الملكية على الأرض الزراعية ( والشائع خطأ ان محمد علي هو الذي ألغى الملكية في مصر والحقيقة ان الفلاح المصري عبر التاريخ لم يعرف ملكية خاصة مستقرة للأرض إلا في عهد عبد الناصر ( الشريحة التي استفادت من الاصلاح الزراعي ) ولكن منذ القدماء المصريين فالفلاح يحوز الأرض وفقاً لمبدأ حق الانتفاع التي كانت تتحول أحياناً إلى ملكية صريحة ولكن ليس وفق نظام متكامل . كذلك فان الخديو سعيد – قبل عبد الناصر – هو أول من أصدر قانونا للملكية الخاصة الزراعية ( اللائحة السعيدية ) 1858 ولكن لاشك ان صغار الفلاحين لم يستفيدوا كثيراً من هذا القانون  وسنأتي لذلك إن شاء الله .

في نهاية القرن 18 كانت مساحة الأرض 3 ملايين فدان سيضاعفها محمد علي تقريباً إلى 5.5 ملايين فدان في نهاية عهده أي ضاعفها خلال 40 سنة . في نهاية ق 18 كان خمس الأراضي ( 600 ألف فدان ) أراضي أوقاف . وهذه يديرها ويستفيد منها علماء الأزهر والأشراف . وقد استغل محمد علي هذه الحقيقة أثناء خلافه مع العلماء .

كان نظام الالتزام المملوكي يشمل أراضي الفلاحين وهي اغلب الأراضي بطريقة المنفعة . ولم تسلم الانكشارية بسيادة المماليك على الأرض الزراعية كملتزمين وخاضت معهم معارك دموية في نطاق السيطرة على الأراضي الزراعية  ومال الميزان في آواخر القرن 18 لصالح المماليك أصحاب البلاد ” الأصليين ” نسبياً بالنسبة للانكشارية . كما أصبح التجار والعلماء ملتزمين إلى جوار بكوات المماليك وحققوا ثروات طائلة حتى انه عندما مات أحدهم ( محمد الشرايبي ) ترك تركة قيمتها 37 مليون باره.

وفي عام 1718 خلال محاولة علي بك الكبير المملوكي للاستقلال بمصر استبعد القوات العثمانية واستأجر بدلاً منهم جيشاً من المرتزقة ويروي الجبرتي انه ( جند رجالاً من كل الأجناس الدلاة والدروز والمتاويلة والشوام .وقتل كل منافسيه ونفى أعيانه  وفرق جمعهم في القرى وتتبعهم وخنق وقتل . ابادهم أصلاً وفرعاً ونفى الباقين واستأصل كبار خشداشيته وقبيلته . وهدم المساكن القديمة وأخرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة ) !

ولم يهتم “علي بك” والمماليك بإزاحة الانكشارية فحسب . مع ما تلى ذلك من اضطرابات للإقطاعات الحضرية التي استغلوها واستنزفوها بلا رحمة بل قاموا كذلك بإزاحة التجار المسلمين من خلال تشجيع التجار الشوام المسيحيين على حساب التجار المسلمين .

وكل ماشغل العثمانيون كيف يتخلصون من ” علي بك ” عن طريق الاتفاق مع مساعده محمد أبو الدهب لقتله ،وعندما تحقق لهم ذلك لم يهتموا بإقامة العدل وإعادة الاستقرار بل تركوا البلاد مرة أخرى لصراعات مملوكية – مملوكية لا تنتهي والمهم هو استمرار التبعية الاسمية للدولة العثمانية ودفع الخراج السنوي . ويمتلئ تاريخ الجبرتي بعد موت ” علي بك ” بترديد وتكرار للقروض والإتاوات التي فرضت على الأهالي تتخللها روايات عن حركات تمرد متفرقة احتجاجاً على ذلك . ولقد ازدادت الحالة سوءاً إلى درجة أن الجبرتي لم يكلف نفسه عناء سرد حوادث السنوات القليلة الأخيرة من حكم الثنائي المملوكي ( مراد بك – ابراهيم بك) واكتفى بإيراد بيان عام حول أعمال النهب والطغيان التي مارسها المماليك  حيث اتسمت البلاد بحالة حرب اهلية شبه دائمة . وهي الأمور التي تحدث عنها كتاب وصف مصر الفرنسي ورأوا في بعضها تعبيراً عن المقاومة الوطنية للنهب وحيث تم فقدان السيطرة المركزية على المناطق الريفية .  وكذلك حدثت حركات تمرد مشابهة في القاهرة من جانب الصناع الحرفيين وسيلة لمقاومة موقف غير محتمل . وهي التمردات والثورات التي تواصلت بعد انسحاب الفرنسيين من 1801 حتى 1805.

وقد أدت هذه الأحوال عام 1784 إلى ترك الفلاحين لقراهم نتيجة لعجزهم عن سداد ضرائبهم أو وضع الإتاوات التي فرضها البكوات وذهبوا إلى المدينة يصرخون من الجوع ويأكلون مايتساقط في الطرقات . واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتة من الخيل والحمير والجمال (الجبرتي) وقدر القنصل الفرنسي الأرض المتروكة بغير زراعة بثلاثة أرباع المساحة الكلية للأرض الزراعية .وحتى ان بدت هذه مبالغة فهي تعطي صورة عامة عن حالة التدهور الشامل.

  البلطجة الفرنسية :

وعلى اتصال بتصدير الحبوب المصرية لفرنسا في القرن( 18 ) تجدر الإشارة إلى أن مصر ظلت مزرعة القمح لأوروبا كمسألة ثابتة منذ عهود البطالمة والرومان أي منذ قبل الميلاد ولاحظ أننا الآن نستورد الحبوب من فرنسا وروسيا وأمريكا وكل مكان . ولكن تجدر الاشارة أيضاً لأمر عجيب يخص هؤلاء الفرنجة المجرمين , فقد صدر قانون في مدينة مرسيليا (الميناء الفرنسي الأساسي ) يسمح بمصادرة السفن المحملة بالحبوب الراسية في الميناء اذا مادعت الحاجة . وهو القانون الذي استخدم بالفعل . نحن اذن أمام عصابة لا دولة , عصابة اسوأ من المماليك فالمماليك لايفعلون ذلك ! قد ينهبون الشعب المصري!! وكذلك يفعلون !! ولكنهم لايصادرون شحنات السفن الأجنبية لمجرد الاحتياج لما بها من مواد . وقد اعتمدت فرنسا طويلاً على استيراد القمح من مصر ومن الجزائر , حتى انها كانت مديونة للجزائر بعشرات الملايين كمتأخرات لم تدفعها عن استيراد القمح . وكأنهم حولوا الاستيراد إلى مصادرة على طريقة قانون مرسيليا . وسوف تتعجب أيها القارئ العزيز وأحسب أن أغلبكم لايعلمون , ان فرنسا احتلت الجزائر عام 1830 لأن الجزائر كانت تطالبها بدفع ديون القمح ! وهذه حادثة فريدة في التاريخ فالدول تحتل البلاد المديونة لاستعادة حقوقها كما فعلت انجلترا مع مصر عام 1882 , ولكن هذه أول مرة وربما آخر مرة نسمع عن دولة مديونة تحتل الدولة الدائنة , ماذا نسميها؟ انها وقاحة السنين , وقاحة باريس بلد النور والحضارة والإخاء والمساواة .

في القرن( 18 ) كانت فرنسا تستورد من مصر 800 ألف أردب من الحبوب وهو الأمر الذي أنقذ باريس من المجاعة عام 1792 , وكان رد الجميل باحتلال مصر بعد ذلك بـ 6 سنوات ولكن لاتوجد معلومات عن مديونية فرنسية كتلك التي سبقت احتلال الجزائر !!

في القاهرة كما ذكرنا تمت مواصلة الضغوط على الحرفيين وأصحاب الورش إلى حد بلغت الضرائب والرسوم عليهم في آواخر القرن ( 18 ) إلى 500 مليون باره وهو يساوي نفس المبلغ المنهوب من الفلاحين في الأراضي الزراعية أي أن المجموع مليار باره . وكانت الاجراءات التي تتخذ في القاهرة أكثر عنفاً منها في الريف حيث كان يمكن لأهالي القرية أن يتهربوا مؤقتاً من جامع الضرائب بالإختباء في الكهوف او التلال . أما في القاهرة فقد كان يمكن للبكوات المماليك أن يحطموا ويدخلوا أي منزل باستخفاف متناه .وعندما كان أحد البكوات يتلقى تأنيباً من زميليه ” مراد بك ” و” ابراهيم بك ” على الإتيان بمثل هذه الأفعال كان يجيب ببساطة (نحن  جميعاً ننهب , انت تنهب , وأنا أنهب ) – الجبرتي .

كانت محصلة وضع مصر عشية حكم محمد علي : كثير من الأراضي الزراعية مهجورة – واختفاء جميع الصناعات .

نيقولا الترك Gaston wiet 1804-1798 chroniqued’Egypte

ناشر ومترجم 1950

وبالرجوع إلى سفرالجبرتي وهو أهم مرجع مصري ان لم يكن الوحيد المعاصر لأواخر القرن 18 وأوائل القرن التاسع عشر نجد الصورة كالتالي : ان الانتفاضات الشعبية كانت سمة مستوطنة للبلاد طوال القرن الثامن عشر وكانت أكثر ندرة تحت حكم محمد علي .

وقام الشعب المصري – المتهم دوما من نخبتنا الكريمة بالخنوع – بإنفجارات متواصلة قد تكون قصيرة ولكنها متواترة ومتجددة طوال القرن 18 وحتى تسلم محمد علي الحكم في 1805 وأخذت مقاومة الفلاح صورة اضطراب ريفي متزايد, مصحوباً بأعمال قطع الطريق , والقرصنة , وإحراق المحاصيل وتخريبها . أما في عهد محمد علي فقد أخبر هو بنفسه بوالو كنت الفرنسي بتقييم قريب للواقع حين قال له : ( معي يجني الفلاح القليل لكنه يكون على ثقة من البيع , وقد حسبت أسعارنا بما يسمح له بربح معقول ).

مرجع سابق –Afaf Lutfi ALsayyid

وحديث محمد علي معقول إلى حد كبير ولكن مايقوله لم يتحقق في البداية , فالبداية كانت صعبة للغاية على الفلاح وظلت تنفرج بالتدريج – ومحمد علي قال ما قال في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر . كان محمد علي يعيد بناء الإقتصاد من جديد وعلى راس ذلك اعلان احتكار الدولة للزراعة وأراضيها , وكما ذكرنا لا جديد تحت الشمس في هذا منذ المصريين القدماء . ولكن كل عهد جديد يعيد التأكيد على ذلك لأنه عبر السنين تضمحل صلات الدولة بالأرض وتعود الملكية الخاصة الصريحة للظهور ثم التوسع . في آواخر عهد المماليك العثماني انتشرت مثلا الوسايا والوسية هي مزرعة ممنوحة من الدولة للملتزم مكافأة على جهوده في جمع الضرائب ( آسف في مص دماء الفلاحين ) والمفترض ان تكون الوسية في إطار الانتفاع حتى وإن ورثت للأبناء , ولكنها كانت تتحول مع الأيام لملكية خاصة صريحة وهكذا .

( في العامية نقول ” هي وسية ولا ايه ” عندما يتصرف المرء بحرية  فى أصول الدولة لتحقيق مصالحه على حساب الآخرين ) . فعندما يعيد محمد علي الاحتكار الصارم للدولة مرة أخرى فإن هذا يحدث اضطراباً في العلاقات الإقتصادية وغالباً مايدفع الضعفاء الثمن الأكبر . ولكن عندما تستقر الأمور الجديدة تتحسن الأحوال . ونفس الشئ تكرر في الصناعة والتجارة باحتكار الدولة لهما.

ثم عاد محمد علي في نهاية عهده  إلى التخفيف من هذه الغلواء خاصة في الزراعة ثم الصناعة . ولكنه ظل قابضاً بقوة على التجارة الخارجية لأنها مصدر أساسي للثروة. احتكار الزراعة والصناعة كان يستهدف توجيه الاقتصاد وفق أولويات محددة.

 في آواخر العهد المملوكي – العثماني كان مايدفعه الفلاح من ضرائب يذهب ثلثه فقط للحكومة أما الثلثان فيذهبان للملتزم والوسطاء .

وهذا الشعر العامي البسيط الذي كتبه يوسف الشربيني الذي عاش في ذلك الزمان وجاءنا عبر كتابه ( هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف ) هذا الشعر البسيط يلخص حالة الفلاح بلا رتوش في العهد العثماني – المملوكي السابق لمحمد علي

(ومن نزلة الكشاف – جباة الضرائب – شابت عوارضي وصار لقلبي لوعة ورجيف ويوم يجي الديوان تبطل مفاصلي وأهر على روحي من التخويف)  !

بدأ محمد علي التخفيف عن الفلاح منذ وقت مبكر في مسألة الضرائب فعندما فرض قرضاً جبرياً أو ضريبة ” فردة ” نقداً أو عيناً بين الحين والحين أعفى الفقراء منها :

( لاحظ أن كلمة ” فردة ” تستخدم الآن في العامية لوصف الإتاوة التي يفرضها المجرمون ولكنها هي في الأصل كلمة ميري تعني نوعاً من الضرائب , وكان  في ضمير الشعب المصري أنها عملية نهب وليست مصطلحاً قانونياً !!) . ثم تعددت الإعفاءات الضريبية في الأرض الزراعية : اذا ظلت الأرض غير مروية ( شراقي) نتيجة لفيضان منخفض كانت تعفى وأحياناً لاتعفى سوى الأراضي غير الخصبة وأحياناً تدفع نصف الضرائب . أما الأراضي التي يغمرها الفيضان فكانت بصفة عامة معفاة من الضرائب ابتداء من عام 1822 . كما ان الأرض التي تغل محصولاً ضعيفاً (هايف) معفاة من الضرائب . وكذلك المحاصيل التي احترقت مالم يكن عمداً . ولم يكن هذا يحدث قبل محمد علي .

وهكذا اتجهت البلاد إلى مايسمى الاستغلال المخفف أو المحسن للفلاح , وكان التحسن يجري على أي حال بصورة بطيئة ولكن محسوبة بالتدريج .

الانتاج دائماً وحجمه هو أهم معيار لتحسن أحوال الفلاح , وفي بدايات عهد محمد علي عادت مصر إلى وضعها الطبيعي في تصدير الحبوب وكانت مصر هي المورد الوحيد للحبوب بكميات كبيرة حتى عام 1812 وبأسعار باهظة حيث لم يكن هناك بديل لها , ليس للإمبراطورية العثمانية فحسب بل حتى لأوروبا خاصة انجلترا . وظلت استانبول تعتمد على الحبوب المصرية وكذلك مالطة وجزر الأرخبيل ( اليونان ) وأسبانيا والبرتغال وصقليه وتريستا وليجهورن وجنوة . وقدرت صادرات القمح المصرية بـ 3 ملايين فرنك . وأصبحت انجلترا مديونة لمصر نظراً لارتفاع اسعار الحبوب .وتغلبت على ذلك باغراق السوق المصري بأقمشة رخيصة قبل أن يحظرها محمد علي .

وكان القنصل البريطاني ميسيت يشتكي عام 1811 من أن الوالي ( لايحترم أيا من المزايا الممنوحة لانجلترا طبقاً لاتفاقية امتيازاتنا مع الباب العالي ) في إشارة إلى الضرائب الجمركية التي فرضها على الواردات من انجلترا . وأشار أحد القناصل الأوروبيين إلى مسألة مهمة وهي أن أكبر المستهلكين أي محمد علي وعائلته وأتباعه ( أبدوا قدراً من مظاهر الترف والتباهي أقل كثيراً من سابقيهم المماليك ) . أما فيما يتعلق باستهلاك القمح فقد كان الفلاحون نادراً مايأكلون القمح ويعتمدون على الذرة الشامية والذرة العويجة مما وفر القمح للتصدير . وأخيراً عثرت على احصائية للسفن المدنية التي بنيت في عهد محمد علي وهي 200 مركب للنقل النهري لنقل القوات المسلحة والحبوب .

وكان الدخل الشخصي لمحمد علي لايزيد عن 9 ملايين قرش سنوياً .

ووصل تصدير الحبوب في عام 1841 إلى مليون ونصف المليون اردب في حين كان الحد الأقصي للتصدير في العهد العثماني – المملوكي 100 ألف أردب .

( والحديث متواصل )

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: