الألبان كانوا مجموعة من الرعاع والصيع وقائدهم قاطع طريق
القوات الألبانية تحاول قتل محمد علي وتنهب قصره وممتلكاته
ماذا جرى في المكاتبات الودية بين أم السلطان العثماني ومحمد علي ؟
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)الجزء الثانى- حلقة (40)
قبل أن نختتم باب النهضة الزراعية لابد أولاً أن نغلق القوس على سخائم العهد المملوكي- العثماني لابد من إلقاء الضوء سريعاً على السنوات القليلة الأولى من القرن التاسع عشر في المجال الأمني والسياسي عموماً ( 1801-1805) بعد الدور المشهود للدولة العثمانية في الضغط على الاحتلال الفرنسي في مصر ومهاجمته وإجباره على الانسحاب , وهو آخر دور عظيم للدولة العثمانية في مصر حتى وان كان بالتعاون مع الانجليز لأنه في النهاية أدى إلى انسحاب فرنسا دون أي استبدال للاحتلال الفرنسي باحتلال انجليزي مستقر , ودون أن ننسى الدور الأساسي لإنتفاضة ومقاومة الشعب المصري . وكان محمد علي هو أحد قواد المفرزة التي تشكلت في “قولة” وهي في مقدونيا والمتنازع عليها الآن بين اليونان ومقدونيا والمفترض أن مقدونيا جزء من ألبانيا الكبرى، واليونان تدخل حالياً في نزاع حول دولة مقدونيا وتعتبرها جزءاً من اليونان , خاصة وان الاسكندر الأكبر مفخرة اليونان هو أساساً من مقدونيا , وكانت مقدونيا في الزمن الغابر قبل الميلاد جزءاً من الدولة اليونانية . وأيا كان فإن ” قولة ” وهي بلدة صغيرة سكانها أساساً من الألبان , وهذا ما يعطي لمحمد علي الذي ولد فيها الهوية الألبانية . المهم هذه المفرزة التي تم تشكيلها في قولة انضمت إلى القوات العثمانية , وهي اذن تعتبر قوات غير نظامية . وتولى محمد علي فور وصول هذه القوة إلى مصر القيادة بعد الرحيل الفوري لـ “علي أغا ” القائد الأصلي للقوة والتي أرسلت لمصر عام1801 لتعزيز الوضع العثماني بها بعد رحيل الفرنسيين بل لقد وصلت قبيل رحيل الفرنسيين حيث اشتبك محمد علي في إحدى المناوشات ضد القوات الفرنسية وحصل محمد علي رتبة ( البنباشي الأرناؤوط) أي المقدم الألباني. محمد صبري
L,empire egyptien sous Mohamed-Ali et la question d,orient
وبسرعة كبيرة اكتسب محمد علي المزيد من الشهرة كقائد قدير وكفء وترقى بسرعة ليصبح الرجل الثاني في قيادة القوة الألبانية بكاملها وليس في القوات القادمة من قولة فحسب . وقد شكل جميع الألبانيين في القوات العثمانية في مصر داخل الجيش كتلة مميزة ومنفصلة عن بقية القوات وكانوا تحت قيادة ضابط يدعى ” طاهر ” . وكان العثمانيون قد بدأوا منذ منتصف القرن السابع عشر يستعينون بالألبان كجنود مرتزقة لتحقيق التوازن مع الانكشارية غير الموثوق فيها وسائر الوحدات ” الوجاتات ” الأخرى .
ونظراً لكونهم غير نظاميين فقد جنحوا للإحتفاظ بتكوينهم القبلي . كان الألبان يتحدثون القليل من التركية وكانوا يمقتون الانكشارية العثمانيين الذين كانوا بدورهم يحتقرون الألبان باعتبارهم رعاعاً منحطين ” وعاملوهم معاملة الخدم ” وفقاً لتعبير الجبرتي , فقد كان الألبان – كمايقول- أشد فظاظة وأكثر صعوبة في القيادة من العثمانيين . وأضاف ( غالبهم لم يصم رمضان ولم يعرف لهم دين يتدينون به ولامذهب ولاطريقة يمشون عليها وأسهل ماعليهم قتل النفس . وأخذ مال الغير وعدم الطاعة لكبيرهم وأميرهم وهم أخبث منهم –أي الانكشارية – فقطع الله دابر الجميع ) ( انتهى الاقتباس ) ولكن لاشك أن جموع الألبان كانوا مسلمين , ولكن يبدو ان هذا الصنف المرتزقة كان من الرعاع حقاً .
ولكن في المقابل فإن الإنكشارية كانت أحوالهم – بدورهم – متدهورة , ولم يكونوا تلك القوة الفتية الأولى التي تم تربيتها على العزة والعقيدة والروح القتالية في بداية الأمر , ولكننا – كما نؤكد – نشهد التدهور في كافة مناحي الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر آخر القرون الستة للدولة العثمانية .
منذ شرفت القوات العثمانية أرض المحروسة في 8 مارس 1801 وبمجرد وصولها للقاهرة اندفع الجنود إلى الأسواق ووضعوا أسلحتهم وأعلامهم على المقاهي والمحلات والحمامات , في اعلان على أنهم سيشاركون أصحاب هذه المنشأت في الأرباح !! ثم انطلق الترك والألبان إلى خارج حدود القاهرة لملاقاة الفلاحين القادمين ببضائعهم واشتروا كل مامعهم من منتجات بثمن بخس ثم أتوا بها إلى المدينة وأعادوا بيعها إلى التجار بربح كبير ( الجبرتي )
وهكذا في السنوات الأولى في القرن 19 ورغم التخلص من الاحتلالين الفرنسي والانجليزي ظل الشعب المصري نهباً لأربعة محاور قوات الألبان والأتراك التي لم تكن أي منهما تطيع أوامر ضباطها من الرتب العليا , ومحورين للمماليك ( جناح الألفي بك – جناح ابراهيم بك / البرديسي ) .
تصور المماليك أن يعودوا مثل ريما إلى عادتها القديمة فعاد الألفي بك إلى جباية الضرائب من أهالي الصعيد بمنتهى الوحشية حتى ( لجأ سكان الوجه القبلي إلى الفرار إلى القاهرة هرباً من الضرائب الألفية , بل قام الألفي باغتصاب الممتلكات الشرعية من أصحابها ومصادرة ممتلكات كل المتوفين تاركاً العوز لوارثيهم ( الجبرتي ) وفي الصراع على المغانم تواصلت الاغتيالات المتبادلة بين جناحي المماليك ( الألفي- البرديسي) .
وبدأ في أول الأمر أن العثمانيين لديهم نوايا حسنة في القضاء على المماليك حيث أبلغ الوالي العثماني ( قبل محمد علي ) خسرو باشا الفرنسي سباستياني عام 1802 ان ” لديه أوامر قاطعة من البلاط بشن حرب إبادة ضد البكوات وأن ينبذ بلا رحمة أي محاولة للتوصل إلى التفاهم معهم ” بل وأطلع سبستياني على أمر سلطاني بهذا المعنى, ولكنه كشف له عن أمر سلطاني آخر إلى الوالي ( بإهانة زعماء العلماء وتجريدهم من أموالهم وأن يخص بضرباته “الشيخ البكري ” و” الشيخ السادات”. ولاشك أن العلماء علموا بهذه النوايا مما دفعهم إلى أحضان محمد علي . ( السادات كان من زعماء الثورة الأولى والثانية ضد الاحتلال الفرنسي ورفض عضوية ديوان نابليون ) . لم يكن اذن موقف العثماني جنوحاً إلى العدل , وانما جنوحاً للسيطرة والهيمنة والقبضة الحديدية والتي لم يدركوا أنهم لا يمتلكون أدواتها , حتى لو تصورنا انحياز محمد علي لهذه السياسة لأن الشعب كان يغلي كالمرجل وقد انتصر على الفرنسيين وكان شعاره ( لن نستعبد بعد اليوم ) بضع آلاف من القوات العثمانية ماكانت لتخضع هذا الشعب الثائر الذي فاض به الكيل : وقد برهن محمد علي على ادراكه الدقيق لموازين القوى فانحاز للعلماء وانحاز للشعب فربح الجولة وظل رابحاً حتى مات !
ضاعت فرحة الشعب المصري بالنصر على الفرنسيس وقد رأوا القوات العثمانية التي ظنوا أنها جاءت لتحررهم فإذا بها إضافة جديدة لقطاع الطرق من المماليك . ويقدم لنا الجبرتي الشاهد الوحيد الذي كتب شهادته في هذا الزمان فقال : ( وقد حضرت عساكر كثيرة من جنود الأتراك والأرناؤود . فأحضروا مشايخ الحارات وأمروهم بإخلاء البيوت لسكناهم فأزعجوا الكثير من الأهالي وأخرجوهم عن دورهم بالقهر فحصل للناس غاية الضرر. وكلما سكن منهم طائفة بدار أخربوها وأحرقوا أخشابها وطيقانها وأبوابها ). وفي موقف آخر( وقفت جماعة من العسكر بخط الجامع الأزهر في طلوع النهار وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمايمهم وأغلقوا الدكاكين وذهب الناس إلى الشيخ الشرقاوي والسيد عمر النقيب والشيخ الأمير فعملوا جمعية وأحضروا كبار العسكر ووقف الوالي وامامه عدد كبير من عساكر الأرناؤود ونادى المنادي بالأمن للرعية وإن وقع من العسكر والمماليك خطف يضربونه . وبعد مرور الحكام وانفضاض الجمع خطفوا عمايم ونساء حتى كان الناس إذا مشي يربط عمامته ).
كان الجنود لايرون أي فائدة لأبواب البيوت الخشبية فكانوا يستخدمونها في التدفئة أو كوقود للطهي . وعندما كانوا ينتهبون حياً بأكمله ينتقلون إلى أحياء أخرى ليبدأوا من جديد . وهكذا تم تدمير مساحات من المدينة بأكملها .وقام هؤلاء بالتحرش بالنساء في الشوارع والحمامات واختطفوا الدواب من راكبيها من المارة ,وصادوا كل الحمير من طائفة السقاءين, الذين كان عليهم أن يحملوا قرب الماء على ظهورهم قسراً وبالتالي يطلبوا أجراً أعلى مقابل ذلك .
واختطفوا الناس واحتفظوا بهم رهائن من أجل الحصول على فدية . ولم يكن أحد يجرؤ على السير في الطرقات بعد غروب الشمس .
كان اجمالي عدد الجنود والعثمانيين عشرة آلاف ( المماليك لديهم عدد قريب من ذلك) وكانت هناك مشكلة مزمنة يعانون منها في مصر انهم لا يحصلون على رواتبهم !!
وهذا يفسر بعض سلوكهم وليس كل هذا الإجرام , فالمفترض أن يتمردوا على قادتهم أو الوالي العثماني , لا على خلق الله . ولكن الكارثة ان دولة عظمى كالدولة العثمانية لاتقدر معنى عدم دفع رواتب الجند. بل ان الوالي عادة لايلجأ للأستانة لحل هذه المشكلة بل بالمزيد من الضرائب الجائرة .
وكان المماليك أيضاً يعانون من دفع المرتبات للمرتزقة التابعين لهم !! وقد تأخر الوالي خسرو باشا في دفع مرتبات الجنود خاصة الألبان لمدة خمس شهور . وهنا حاول محمد علي توجيه الغضب تجاه خسرو باشا لإتجاه الشعب المسكين الذي وصفه الجبرتي بأنه يوشك على الهلاك. فنظم الألبان وعددهم 6 آلاف أي 60% من القوة العثمانية مظاهرة للمطالبة بأجورهم المتأخرة فماذا كان رد خسرو باشا المستهتر؟ قال: إن الألبان لا قيمة لهم ويجب إعادتهم إلى بلدهم وإلا سيأمر بقتلهم جميعاً , فأعلنوا العصيان فرد الوالي بأن وجه المدافع من القلعة إليهم . أدرك الأهالي حرج موقفهم فبدأوا يسلحون أنفسهم للدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم . وقام طاهر باشا قائد القوات الألبانية بالإستيلاء على القلعة ووجه المدافع إلى قصور الوالي خسرو وتقاتلت الفئتان وهرب خسرو ( وكيف سيقتلهم وهم 60% من القوة العثمانية؟!) , وتولى طاهر باشا السلطة مؤقتاً ! ولكن من هو طاهر باشا ؟! يقول نيقولا الترك (مرجع سابق) : ان طاهر باشا في الأصل قاطع طريق (!!) وكان مولعاً بالقتل , ولذلك بعد أسابيع ثلاثة فقط قام اثنان من الأنكشارية بقتله ! وقام الانكشارية بتعيين أحمد باشا والي مؤقت وكان في الأصل معيناً والياً للمدينة المنورة . وكان في مصر عابر سبيل ( ترانزيت) ولكن هكذا أصبحت تدار أهم ولاية عثمانية . طبعاً التعيين المؤقت يعني : حتى يأتي فرمان الآستانة بالوالي الرسمي . ولكن المماليك والألبان لم يقبلوا بذلك وأنذروا الوالي المؤقت بمغادرة المدينة خلال 24 ساعة.
وتم إلقاء القبض على خسرو باشا الذي كان هارباً في دمياط ثم وصل فرمان الآستانة بعزل خسرو وتعيين علي الجزايرلي باشا والياً والذي وصل للاسكندرية.
ورفض المماليك دخول الجزايرلي إلى القاهرة إلا ومعه 200 جندي فقط , فخاف على نفسه وبقي في الاسكندرية . بينما سيطر محمد علي على القاهرة وقام باقتحام مخازن الحبوب التي تحت سيطرة المماليك ووزعها على الأهالي , فازدادت شعبيته.
وكان ابراهيم بك أحد قادة المماليك موجوداً بالقاهرة وفي خضم هذه الإضطرابات جمع العلماء وطلب منهم أن يدعو الله لإغاثة مصر خاصة وقد جاء الفيضان منخفضاً ورد عليه الشيخ العروس بكلمة بليغة ( أرجو ان تتذكروها عندما ندعو الله كثيراً في هذه الأيام ولايستجيب لنا ) قال :
{حاشا ان الله تعالى يسمع منكم أو من الرعايا أو من الحكام لأن الظلم والجور والفساد قد عم الأرض والبلاد وحكامنا الموجودين ليسوا بمسلمين . فلو كانوا من الاسلام وأهل عدل وإحكام لكانوا أبطلوا المكوسات والعكوسات ورفعوا المظالم والمغارم وطمنوا رعاياهم وأصلحوا نواياهم وعمروا البلاد وأمنت العباد . والحال اننا ناظرين أن الأمر يخالف مايقتضيه الإنصاف لأن في مدتهم كثر العناد والظلم زاد واستباحوا المنكر .. ولا من يدافع ولا من يرافع .. وكيف يقبل منا دعاء أو صلاة ومماليكهم وعساكرهم مدى الليل والنهار يسلبون وينهبون ويضربون ويقتلون ولايهابون أميراً ولايخشون كبيراً} .( الترك- مرجع سابق )
حتى عندما جاء الغزو الإنجليزي ( حملة فريزر ) أشرت من قبل إلى أن أهالي رشيد طلبوا من عمر مكرم إرسال تعزيزات أهلية لا انكشارية !! لمعرفتهم بسوء الجند . ولكن كان لابد من استخدام محمد علي للجنود الأتراك في المرحلة الثانية من معركة رشيد , وبمجرد جلاء الإنجليز نزل الأتراك على بلدة الحماد التي جرت فيها المعركة الفاصلة وما جاورها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعمين أنها صارت ديار حرب (ياسلام على الفقه!!) بل كل هذه محرمات في ديار الحرب!!
وكان محمد علي يدرك منذ البداية ان القوات العثمانية بما فيها قوته الألبانية من الرعاع وأيضاً إحدى مشكلاته الكبرى , وكان يحتاجها لمواجهة المماليك وفرض النظام وهو يعلم أنهم لايقلون سوءاً عن المماليك لم يكن أمامه بديل في المدى القريب المنظور للاستعانة بهذه القوات الألبانية للوصول إلى الحكم ثم محاولة فرض الأمن , ففي 27 فبراير 1804 انفجرت حركة تمرد عسكرية أخرى بين صفوف الجنود للمطالبة بمرتباتهم المتأخرة ففرض البرديسي ( الحاكم الفعلي ) ضريبة غير عادية على الأهالي فانفجرت ثورة الأهالي تسب المماليك وجنود العثمانيين معاً . وأرسل محمد علي رجاله إلى مختلف أحياء المدينة ليمنعوا الجنود من القيام بأعمال السلب والنهب . وأصدر أوامره بالقبض على أي جندي يقوم بالإعتداء على أي مدني . وفي الاجتماع الذي ضم العلماء والبرديسي لبحث إلغاء الضريبة انحاز محمد علي للأهالي والعلماء وقال ( رواتبنا علي الميري وليس علي الناس . ادفعوا للجنود من خزائنكم ولا تضغطوا علي رعاياكم . لن نسمح لكم بإجبار الناس على السهام بالمال ) . وأعقب ذلك هجوم القوات الألبانية على المماليك الذين فروا من المدينة , وقام الأهالي هذه المرة بنهب منازل المماليك (!!) . عقب ذلك عين الباب العالي ” خورشيد باشا ” والياً جديداً فماذا فعل لاستتاب الأمن ؟ استدعى قوة عسكرية جديدة خاصة به ليس من الجيش النظامي العثماني ولكن من أقلية عرقية من سوريا ( 5 آلاف جندي ) من الدلاة الذين يطلق عليهم ” المجانين المخيفين المشهورين بالوحشية ” . وكانت أصولهم خليطاً من الأكراد والدروز والمتاولة وكانوا يبعثون الرعب في أهل البلاد وفي القوات الألبانية على السواء (لك الله ياشعب مصر). وكان قائد الولاة شقيقاً للرجل الذي اغتال طاهر باشا واغتاله الألبانيون انتقاماً لمقتل طاهر باشا والآن لابد أن ينتظروا من الدلاة رداً انتقامياً ! وبمجرد وصولهم للقاهرة أشاعوا بين الناس أنهم قدموا لإجلاء الألبان . وكما تقول عفاف السيد : ( وهكذا أضيف كابوس جديد إلى الآخرين الذين كانوا يمتصون مصر حتى الموت ) . في ذلك الوقت كان محمد علي في الصعيد للقضاء على إحدى فتن المماليك والذين كانوا منذ أيام الفرنسيين استولوا على الصعيد بكامله تقريباً . واستولى محمد علي على المنيا وعاد للقاهرة حيث كان 9 آلاف من الجنود العثمانيين يصرخون طالبين الرواتب !!
ثم بدأ الدلاة نشاطهم في مايو 1805 ’ انطلقوا هائجين كالمجانين ’ اختطفوا واغتصبوا وقتلوا ونهبوا كما شاءوا ، وكانت ثورة الأهالي والعلماء ضد الوالي خورشيد باشا الذي عجز عن وقف الدلاة عن جرائمهم . وبعدها عين الباب العالي محمد علي والياً للحجاز لإبعاده عن مصر رغم ان الإعتماد عليه كان أفضل الحلول لإنقاذ مصر من مشكلاتها . خاصة بعد فشل خورشيد باشا وهو قائد عسكري عثماني كبير انتصر في معارك كبرى من قبل في اليونان . وأقيم حفل لتنصيب محمد علي والياً للحجاز ’ وأثناء الحفل ثار الجنود وطلبوا مرتباتهم فأجاب محمد علي بهدوء ( هاهو الوالي – يقصد خورشيد – عندكم اطلبوا منه مستحقاتكم . وهاج الجنود على الوالي الذي تمكن من الهرب . وطالب أعيان المدينة في انذار لخورشيد بطرد جنوده من القاهرة ومنع فرض ضرائب جديدة . وتصاعدت الثورة ولم يسافر محمد علي لجده بطبيعة الحال وكان جنوده يقفون خلف المتاريس مع الأهالي ضد قوات خورشيد ولكن جنود محمد علي طالبوا بمرتباتهم ورفضوا أن يقاتلوا حتى تدفع لهم وتخلوا عن مواقعهم. احتل الأهالي مواقعهم ( ومع ذلك يجب أن نتذكر ان محمد علي كان في الأصل مجرد متطوع في مفرزة ألبانية غير نظامية !!) وتفجر القتال بين المدنيين والعسكريين وسادت الفوضى . لا يستطيع أحد أن يفرق بين صديق وعدو كما قال الجبرتي . أحياناً كان الناس والجنود يتقاتلون وفي أحيان أخرى كانوا يتحدون ويقاتلون من في القلعة ( خورشيد ) الذين حرضوا الجنود العثمانيين والألبانيين على محاربة الفلاحين . ومن حين لآخر كان خورشيد يصدر أوامره بإطلاق شامل للمدافع على المدينة عامة وما يليه ذلك من ذعر وهو مايعكس حالة من الغشومية. وعدم إدراك الواقع السياسي في وقت بلغ فيه عدد الأهالي المسلحين 40 ألف .أي أكثر من كل القوات النظامية والمملوكية . وحتى لايتصور أحد ان القاهرة هي وحدها التي كانت مبتلاه بهذه السخائم
نقول ان المماليك من رجال الألفي طاحوا في الدلتا يسلبون وينهبون . بينما تركز نهب وسلب واغتصاب الدلاة في قليوب . ( تقسيم عمل ..ماشاء الله )
سيقول البعض ولكن محمد علي مسئول عن قطائع القوات الألبانية . ولا شك في ذلك بطبيعة الحال . ولكن طموحاته السياسية في الوصول للحكم ورغبته في كسب ثقة العلماء والشعب جعلته يبدل أقصى جهد في محاولة لضبط انفلات الألبان وكان ينجح أحياناً ويفشل أحياناً أخرى . والمسألة متعلقة بالمرتبات . وهؤلاء ليسوا عقائديين ليتحملوا حياة الكفاف .
وعندما تولى الحكم وتم القضاء على حملة فريزر الإنجليزية عام 1807 كما تذكرون : دخل محمد علي الأسكندرية فاتحاً بعد طرد الإنجليز واستعادة الأسكندرية من السيادة العثمانية !! كان يفكر في معاودة جهوده للقضاء على سلطان المماليك في الصعيد ولكنه سمع عن تمرد جنوده هو في القاهرة !!
والمهم هنا أن نذكر ان محمد علي فور توليه للسلطة في 1805 خلص مصر وشعب مصر من كارثة ( الدلاة ) الذين تحدثنا عنهم وهم 5 آلاف من الأشقياء المسلحين فأصدر قراراً بترحيلهم إلى الحدود السورية ( من حيث أتوا ) وفي أثناء جلائهم عن مصر نهبوا قرى الوجه البحري وعاثوا وأفسدوا . ولكن محمد علي كان يرى أن الألبان وماتبقى من عناصر عثمانية أخرى خطراً على استقراره في الحكم لإنفلات تصرفاتهم وقد رأى ماذا فعلوا بالقاهرة والأرياف بعد جلاء الإنجليز 1807 ؟ فكانت معضلته الكبرى ضرورة تأديبهم ولكن بأي قوة ومن البديل ؟ وبالفعل في 28 أكتوبر 1807* تجمهر الأرناؤود وتوجهوا إلى سراي الباشا نفسه ( محمد علي) يطالبون برواتبهم المتأخرة وتم وعدهم بالدفع ولكنهم أخذوا يهاجمون القصر بإطلاق النار من بنادقهم على أبواب القصر ونوافذه حتى نفذت ذخيرتهم !!
وبعد 3 ساعات تكرر نفس المشهد من مجموعة من بقايا الدلاة . وكان المتمردون يعتزمون قتل محمد علي فلم يبت في قصره بالأزبكية وتحصن في القلعة في اليوم التالي 29 أكتوبر حيث ذهب إليها سراً . فما كان من الجنود المتمردين إلا أن قاموا بنهب سراي محمد علي في الأزبكية واستمرت الفتنة 7 أيام حتى جاء الإحتفال ببدء شهر رمضان .
وقام محمد علي بمساعدة عمرمكرم بجمع أموال من التجار ( لا من الأهالي ) لدفع رواتب الجند ثم قام بنفي أكثر عناصر الأرناؤوط خطورة مثل رجب أغا وكان قد انشق من قبل وعمل مع قوات الألفي رئيساً لقواته المشاه ! فلما مات الألفي جاء يعيث فساداً في القاهرة . وأخيراً تم ترحيله عبر دمياط خارج البلاد.
وفي هذه اللحظات اختمرت فكرة بناء جيش مصري نظامي في عقل محمد علي .( ولا أدري هل يحسب هذا له أم عليه ؟!).وكان مع محمد علي قلة من الضباط والجنود والألبان كما أنه تمكن في اجتماع ضم المتمردين من كسب الجولة بالتأكيد على انه أعطى الضباط مبالغ كبيرة من المال لتوزيعها على الجند ولكنهم لم يفعلوا . وتم إبعاد مجموعة من قادة التمرد وليس أغا وحده ودفع رواتب 3 شهور ووافق الجنود على إعادة مانهبوه من منزله !!
في ذلك الوقت كانت استانبول تشهد أحداثاً دراماتيكياً مآساوية فقد أطاح الانكشارية بسليم الثالث اعتراضاً على تحديث الجيش وقتلوه وعينوا مصطفى ابن أخيه الذي مالبث أن قتل وتولى محمود الثاني الحكم وخلال هذه السنوات استراح محمد علي من الضغط العثماني ولكنه ظل يصر على البقاء في إطار الدولة العثمانية – وسيظل حتى موته – وكان يراسل أم السلطان محمود الثاني (اسما) ليؤكد لها أن تساعده في البقاء كوالي وكانت رسائله مصحوبة دائماً بالهدايا المالية الكبيرة والمراسلات بين محمد علي وأسما محفوظة في الوثائق العثمانية ونختم هذا الجزء بالحديث عن طبيعة النظام السياسي العثماني في مصر قبل مرحلة محمد علي لنرى كيف كان حكم محمد علي خطوات إلى الأمام وليست إلى الخلف ؟ لنرى كيف أدى إهمال العثمانيين لمصر إلى هبوطها إلى مرحلة الحضيض.
___________ *أي بعد انسحاب الإنجليز من مصر بشهر واحد
ولنقرأ هذا الكلام الدقيق والموضوعي للرافعي : ( إن مصر كانت أهم ولاية عثمانية وكان يحكمها أحد الباشوات يعينه السلطان لمدة سنة واحدة تدوم إلى اثنتين وجرت العادة أن تصل إلى ثلاث سنوات ونادراً إلى أربع ولا يحصل عليها إلا في مقابل إتاوة من المال أربع مائة إلى خمسمائة ألف ريال علاوة على هدايا تصل إلى مائة ألف ريال مع كل تجديد وعندما يصل الباشا الجديد إلى الأسكندرية يبلغ الديوان نبأ وصوله فيرسل شيخ البلد رئيس المماليك وفداً من أذكى البكوات لاستقباله فيظهرون له الطاعة وخلال ذلك يتحسسون نياته فإذا رأوا أنه لايوافق هواهم أرسلوا بذلك رسولاً إلى الباب العالي بأن الباشا الجديد جاء بنيات عدائية تؤدي إلى حدوث الفتنة فلا يرفض الباب العالي لهم طلباً في العادة .
ويضيف الرافعي ان منصب الباشا كان نوعاً من النفي فالسلطة الفعلية للحكومة كانت في شيخ البلد فهو كبير المماليك ورئيس الحكومة المحلية والباشا والوالي بجانبه لاحول له ولاقوة , يليه في الأهمية أمير الحج ثم الدفتردار وزير المالية والباشا لايستطيع الخروج من القلعة إلا بإذن شيخ البلد وهو سجين وسط مظاهر الأبهة ولبس له في شئون الحكم ومرتبه المحدود من رسوم جمارك السويس والبضائع التي ترد من البحر الأحمر . وكان علي الباشا الحازق أن يستدر عطف حزب من المماليك الذين يعينهم سناجق في الأقاليم مقابل إتاوات وإليه يؤول ميراث الملاك الذين يموتون بلاعقب ( انتهى الاقتباس)
ولكن أحياناً كانت ترسل الأستانة والياً ذا ثقل وأهمية كالقائد العسكري الكبير خورشيد ولكن كما رأينا فقد كان آداؤه بالغ السوء في التعامل مع الشعب . وفي تغليظ الضرائب والعنجهية حيث قال : أنا الذي عينني الباب العالي لايطيح بي فلاحون .
فلم نسمع خلال حكم العثمانيين على مدار 3 قرون شيئاً على محور العدالة الإجتماعية في الإسلام وعلى رأسها الزكاة ولم نسمع على محور الجهاد تجنيد المصريين للقتال في الجيش العثماني من خلال تأسيس فرع مصري لهذا الجيش ولم نسمع شيئاً في مجال الإزدهار العلمي الشرعي أو علوم الطبيعة . ولم نسمع شيئاً في مجال تطوير الصناعات أو تطوير نظم الري .
ولم نسمع شيئاً في مجال تطبيق الحدود أو القوانين الإسلامية والتي تحرم في ذاتها هذا الطغيان الغرائبي بلا ضابط على المعوذين والفقراء والمساكين . وكيف يحدث ذلك في ظل حكم المماليك وقد تحولوا إلى عصابات نهب وسلب بلا أي ضوابط شرعية أو وضعية ؟!
ولذلك أعجب أشد العجب من راغب السرجاني الذي يتحدث عن هذه المرحلة بدون دراسة كافية ( جاء حديثه في إطار الحديث عن فلسطين ) فقال بالنص ( ان محمد علي قتل العلماء (وهذا غير صحيح فلم يقتل عالماً واحداً ) وضرب المماليك الذين عاشوا في كنف الدولة العثمانية بدون مشاكل ) ولا أريد أن أكرر ماذكرناه آنفاً عن المماليك، بل العثمانيون كانوا قد ضجروا منهم ولكنهم يستعينون بهم مضطرين لأنهم – فيما عدا علي الكبير – لايملكون طموحاً خارج مصر .حتى ان محمد علي عندما قام بمذبحة القلعة اغتبط السلطان العثماني، وأرسل محمد علي – وفقاً للوثائق العثمانية الرسمية – قائمة بأسماء 24 من البكوات وأربعين رجلاً* ( أي 64 ) هم من أعدمهم في القلعة وأرسل آذان ورؤوس هؤلاء إلى السلطان . وهذا حدث فريد لم يتكرر طوال حكم محمد علي . ولم يكن هناك ثمة وسيلة للقضاء على وباء المماليك سوى ذلك . وهم البقية الباقية بعد أن شتت الآخرين الى النوبة والشام أو تم استيعابهم تحت الإقامة الجبرية في القاهرة . هؤلاء القادة من المماليك يستحقون القتل وفقاً لحد الحرابة ولكن هل كان هذا ممكناً في ظل موازين القوى الدقيقة وقوة المماليك المسلحة لاتزال موجودة وكان توقيت مذبحة القلعة مرتبطاً بخروج حملة ابنه طوسون إلى الحجاز لإخضاع الوهابيين . وكان محمد علي يخشى من استغلال المماليك لغياب القوة الضاربة للجيش خارج مصر .
ويتفق عدد من المؤرخين على أن السلطان محمود الثاني ( 1808-1839) الذي عاصر محمد علي . قلد محمد علي في تعامله مع المماليك . ( من هؤلاء مثلاً : العالم العربي في العصر الحديث – د. عبد العليم علي عبد الوهاب أبو هيكل – أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر – كلية الآداب – جامعة القاهرة ود. عاصم الدسوقي – عوامل الوحدة والتفكك العربي – مؤسسة ابن خلدون -2001 ).
ذكرنا أن سليم الثالث أراد تحديث الجيش العثماني ليكون على أحدث الطرز الحديثة للجيوش، واعترض الانكشارية حيث رأوا أن وضعهم الخاص سيتأثر . وثاروا عليه وقتلوه. ونصبوا ابن أخيه مصطفى فقتل بدوره وجاء محمود الثاني وقرر تصفية الانكشارية وكان عددهم أكبر من أن يدعوهم لوليمة عشاء كما فعل محمد علي !! فقام بقصف معسكراتهم بالمدفعية وقتل أعداداً كبيرة منهم لاتقارن بمذبحة القلعة الصغيرة واعتقل البعض الآخر . وهو ما سماه د. أبو هيكل اقتباس من مذبحة المماليك في القلعة . د. عاصم الدسوقي يرى نفس الشئ في مذبحة إبادة الانكشارية بالمدفعية التي قام بها محمود الثاني عام 1826 وحل الطريقة البكتاشية المرتبطة بالانكشارية وهدم عدداً من زواياها . وألغى نظام التيماء ( الاقطاع العسكري ) مصدر قوة الانكشارية . والنظام الانكشاري هو عموماً نفس النظام المملوكي ولكن تحت السيطرة المركزية للدولة العثمانية.
______________
*هؤلاء الأربعين كانوا من الكشاف أي جباة الضرائب المتخصصون في مص دماء المصريين