الوالي العثماني: السلطان أعطاني مصر وأنا أعطيها للمماليك!

في الربع الأخير من ق17 حكم مصر 30 والياً

بعد تمرد الانكشارية واستعانتهم بالصفويين..

العثمانيون اعتمدوا على المماليك في حكم العراق أيضاً

جعلوا مصر واليمن ولاية واحدة وقسموا العراق إلى 4 ولايات !

الجزء الثانى – الصورة لوالى عثمانى يجلس وسط المماليك وهو منزوع السلطات

الدراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (41)

كان الغرض من التوسع في عرض أحوال مصر في القرن الثامن عشر أي قبل مجئ محمد علي هو المقارنة لتوضيح حجم التطور الإقتصادي الزراعي والصناعي في عهده وقد استدعى هذا أيضاً المقارنة بين الأحوال السياسية في العهدين : القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر وما بعده والهدف من هذه المقارنة السياسية أن بعض الأخوة الإسلاميين يتحدثون – بدون معرفة كافية فيما أعتقد لأن المراجع عن عهد محمد علي ضخمة وكثير منها باللغتين الفرنسية والإنجليزية وطبعاً بالتركية)- يتحدثون عن أن عهد محمد علي هو العلامة الفارقة بين العهد الإسلامي وعهد التغريب والسقوط في المستنقع الغربي وتقويض الشريعة الإسلامية . وفي المقابل لا أرى أن محمد علي هو المثل الأعلى الذي يجب أن يحتذى في إطار نظامه السياسي . لماذا اذن أهتم بإنصافه ؟! لأن الحملة الهوجاء على محمد علي تمسح دروساً مهمة جداً في النهضة الاقتصادية والحضارية نحن في أمس الاحتياج لها الآن في أوائل القرن الواحد والعشرين . وعناوين هذه الدروس : دور الدولة الحاسم في التنمية الإقتصادية – وبالتالي دور التخطيط المركزي  – الدور الحاسم للصناعة ومتابعة آخر التطورات التكنولوجية ( عندما سافر ابراهيم باشا ابن محمد علي للعلاج في أوروبا  في أيامه الأخيرة لم يكن مهتماً إلا بزيارة المصانع ومتابعة آخر التطورات التكنولوجية ) – استخدام العلم في تطوير الزراعة ( شبكات الري – والقناطر وادخال محاصيل جديدة ) بناء جيش مصري قوي مع قاعدة تصنيع حربي وطنية – بناء أسطول حربي قوي كمسألة استراتيجية – النهضة التعليمية الشاملة المرتبطة بمتابعة آخر اكتشافات العلم في مختلف المجالات  – بناء دولة عربية إسلامية موحدة وكان محمد علي يرى عن حق أن الدور القيادي للدولة العثمانية قد انتهى ولكنه كان يريد العمل في اطارها وأن يعطي تفويضاً لقيادة المنطقة العربية ( مصر – الشام – اليمن – الحجاز – السودان ) وكان يفكر في العراق وامتدت طموحاته إلى الجزائر غرباً ( في التفكير دون التنفيذ ) – درس الاستقلال السياسي فلم يكن محمد علي – كمايقال – عميلاً لفرنسا أو انجلترا . بل كان في تحدي دائم لهما خاصة انجلترا وهي الأقوى والأكثر سيطرة على العالم في ذلك الوقت . كان محمد علي يستفيد من الخبراء الأجانب خاصة الفرنسيين دون أن يسمح لهم بالتدخل في شئون السياسة المصرية . وتقارير القناصل الأوروبيين تؤكد ذلك ( كثير من المكاتبات بين القناصل ووزارات الخارجية الأوروبية مترجمة للعربية ) . وقد تناولنا سابقاً الحرب التجارية التي كانت قائمة بين مصر محمد علي وأوروبا خاصة انجلترا وفرنسا باعتبارهما الأكبر صناعياً . خاصة انجلترا لأن محمد علي كان يخشى دائماً من أطماعها أكثر من فرنسا . فانجلترا هزمت فرنسا هزيمة قاصمة في ووترلو 1815 وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط نابليون بونابرت وإلى إضعاف فرنسا في السباق مع انجلترا على السيطرة العالمية وكانت هذه هي سمة فترة محمد علي وهو التراجع الفرنسي والصعود البريطاني حتى رضيت فرنسا وقنعت بالمركز الثاني في الشرق الأوسط وفي العالم عموماً . وقد مر علينا من قبل دور انجلترا في حصار بونابرت في مصر وهزيمة فرنسا وهذه بالذات اللحظة التي وصل فيها محمد علي إلى مصر وقد اشتبك عسكرياً مرة مع الفرنسيين ورأى بنفسه تلكؤ انجلترا في الإنسحاب من مصر لمدة عام ثم عودتها عام 1807 . وسنتحدث عن العداء الديني والمستقر بين انجلترا ومحمد علي عندما نتحدث عن توسع محمد علي خارج مصر . ولكن حتى هذه اللحظة رأينا الصراع التجاري على الأسواق بين انجلترا وصناعة مصر الصاعدة والمنافسة وسنعود إليه لنوضح أن الدولة العثمانية هي التي نصرت انجلترا على محمد علي في موضوع الانفتاح التجاري وإلغاء الحواجز الجمركية . ولكننا نحتاج لوقفة مع العلاقات بين محمد علي وفرنسا . هنا حدث تزاوج بين مسألتين : 1- بعد الهزيمة الفرنسية عام 1815 أمام انجلترا وتأكد التفوق السياسي والعسكري والبحري لانجلترا حدث انكسار فرنسي وحدث تدافع من الفرنسيين الذين كانوا يعملون في الجيش وتم تسريحهم أو كانت لهم ميول بونابرتية ( فهم مغضوب عليهم ) حدث تدافع من هؤلاء على مصر بحثاً عن عمل يتعيشون منه. كما حدث من بعد من علماء الصواريخ الألمان الذين جاءوا للعمل في مصر في عهد عبد الناصر حيث لم يكن هذا بإذن من دولة ألمانيا الغربية . وتعرضوا لمحاولات اغتيال اسرائيلية بطرود ملغومة . هؤلاء الفرنسيون تم استخدامهم ليعلموا المصريين التكنولوجيا وليقوموا بتدريب الجيش على الأساليب الغربية وليديروا وينشئوا المصانع . وقائمة الفرنسيين الذين عملوا في مصر معروفة تماماً . إذ أن الغرب قد نسب إليهم طويلاً فضل تحديث مصر . أما فيما يتعلق بالحاكم (محمد علي ) فقد كان هؤلاء أدوات في يده . كانوا في مصر لأداء وظيفة محددة . أن يعلموا موظفيه الإداريين علمهم . وما أن كانت تنتهي هذه المهمة ، حتى يرغب في الإستغناء عنهم . اذ لم يكن يثق في قيامهم بالحفاظ على مصالحه بمثل مايفعل أتباعه خاصة وأن الكثيرين منهم كانوا صائدي وظائف ومغامرين .( من وثائق القنصلية الفرنسية بالأسكندرية-

الجزء25-4يناير-1832)Correspondenc- comnerciale                                                                                                                                                                                                                                 وكان المصريون يشغلون المراكز الثانية في القيادة وكانوا يدربون ليحلوا محل الأجانب . وقد تحدثنا عن ذلك من قبل ولكن هذا تقدير الوثائق الفرنسية . ونذكر بأن سيريز الذي أسس الترسانة البحرية تم دفعه للاستقالة تحت ضغوط أوروبية .

2- لاشك أن فرنسا استعادت بعض التوازن بعد هزيمتها 1815 على يد انجلترا قبل أن تهزم هزيمة ماحقة عام 1870 على يد الألمان الذين وصلوا إلى باريس !!

في العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر حاولت فرنسا استعادة نفسها ومواصلة منافسة بريطانيا ولكنها ظلت الأضعف وهو الأمر الذي ظهر بوضوح ساعة احتلال انجلترا لمصر عام 1882 وطرد هذا المنافس  – فرنسا – الذي كان يشكل مع انجلترا صندوق الدين – والمراقبة الثنائية للمالية المصرية في عهد إسماعيل .

في فترات الإفاقة لاشك ان النظام الفرنسي كان يحاول اقامة علاقات حسنة مع محمد علي . ومحمد علي لايرفض بطبيعة الحال لأنه كان على يقين من أن فرنسا لاتشكل منفردة أي تهديد مباشر لمصر . وقد أثبتت الأيام صدق حدسه . ولكنه لم يكن ساذجاً ولم يتم أي تحالف استراتيجي مع فرنسا . بدليل أنه كف عن استيراد السفن الحربية من فرنسا وبدأ في تصنيع سفن حربية مصرية خالصة كما تقدم . كذلك كانت الحروب التجارية قائمة مع فرنسا كما هي مع انجلترا . إذاً لايوجد أي خطأ استراتيجي أو عقائدي في وجود علاقات ودية مع دولة غربية غير محاربة ( في لحظة محددة ) كما أقامت الدولة العثمانية علاقات طيبة مع ألمانيا وكما يمكن أن نقيم الآن علاقات طيبة مع الصين أو أي دولة أوروبية لاتحارب المسلمين في العراق أو أفغانستان .

تقارير القناصل الفرنسيين أيام محمد علي لم تكن ودية على الإطلاق . وكانت توضح أن محمد على خصم عنيد وخطير لفرنسا ولكل أوروبا .

كانت قضية الاستقلال السياسي والاقتصادي مسألة واضحة جداً في ذهن محمد علي . وهو لم يكن حريصاً على الاستقلال عن الدولة العثمانية بل منع القوى الأوروبية من الهيمنة على مصر . وكان يسعى لأوسع حكم ذاتى ولكن في إطار الدولة العثمانية .

واخيراً فإن القول بدور محمد علي في تفويض الدولة العثمانية الاسلامية يجعلنا نضيف أكثر حول طبيعة النظام العثماني في مصر والمستطيل القرآني . ونؤجل اليمن لحلقة خاصة لوضعها الخصوصي . ونتحدث عن مصر والشام والعراق . بالاضافة لما ذكرناه عن مصر سابقاً . وقد رأينا حساسية غير عادية لتقبل ولاية محمد علي رغم الاحتياج الموضوعي لشخص مثله لضبط الأوضاع في مصر فحاولوا إقالته مراراً بفرمانات فعلية 3 مرات على الأقل رغم عدم مرور عام على ولايته . والسبب ان الفكرة الرئيسية أن الوالي يجب أن يكون أداة وتابعاً بصورة عمياء للآستانة ولا شخصية له بحيث يمكن عزله بسهولة . ولم تكن المسألة مسألة كفاءة وهذا شرط تسلطي غير إسلامي من دولة إسلامية . وأكرر لا نشكك في اسلامها أو نصفها بأنها دولة استعمارية كما يقول بعض المثقفين . ولكن ليس معنى ذلك أنها فوق النقد. يقول راغب السرجاني ان الدولة العثمانية أرسلت شخصية قيادية أو زعيم لاصلاح الأوضاع في مصر ولكنه انقلب عليها . وهذا يؤكد ان السرجاني لم يبحث في هذا الموضوع ونقل عن آخرين لم يبحثوا ايضاً . محمد علي لم يكن زعيماً ولم يكن مرسلاً من الدولة العثمانية . بل ان الآستانة لم تعلم باسمه إلا بعد أن فرض نفسه على الأحداث في مصر ، بل عدم معرفة الآستانة لمحمد علي هو سبب توجسها ورفضها له . فوفقاً للمصطلحات التركية فان أي والي لأي ولاية لابد أن يكون قد تمت تربيته في استانبول . وأن يكون قد تم اختباره فعلاً في الإدارة الداخلية ( التي تسمى إندروم) وهو بالأساس إختبار الولاء ( أهل الثقة) وعندئذ يتم إرساله إلى الادارات الخارجية (البيرون) أما محمد علي فقد كان متطوعاً في ميليشيات أي قوة ألبانية غير نظامية . وكان قائد مفرزة واحدة لا كل القوات الألبانية التي كان يتولاها طاهر باشا حتى قتل كما أسلفنا . الآستانة لم تكن تعلم أي شئ عن هذا الشخص النكرة !!

وبالتالي فان نجاح محمد علي في الوصول لموقع الوالي عبر ثورة شعبية ومؤيداً من العلماء أمر لاتهضمه الآستانة وهي غير مستعدة لقبوله إلا تحت الإكراه مؤقتاً . وستظل تحاول التآمر عليه حتى عام 1811 فوفقاً للمفهوم السياسي الاسلامي فان اختيار الولاة يكون برضاء الشعب لا بعنجهية السلطة المركزية حتى ان رسول الله صلى عليه وسلم عندما جاءه أهالي إحدى النواحي يشتكون من العامل المرسل منه إليهم . قال لهم مامعناه ( أما كان منكم أن تعزلوا من لم ترضوا عنه ) أي حتى بدون الرجوع إلى .وكانت هذه سياسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى ان قراراته بعزل الولاة تعددت وشملت كبار الصحابة . مثل سعد بن أبي وقاص لا لخطأ ارتكبه – كما قال بنفسه – بل لعدم رضاء الناس عن أسلوبه . والدليل انه كان من الستة الذين اختارهم عمر للشورى في اختيار خليفته . وكذلك عزل عماربن ياسر وغيره . نعلم أن محمد علي غير ضليع في الفقه , ولكن على من ينتقده بوصفه معاد للإسلام أن يحاكمه ويحاكم الدولة العثمانية معاً بالمعايير الاسلامية .

حكم العثمانيون مصر خلال القرون 16.17.18 وتحدثنا عن القرن (18) . فماذا كان يجري قبل ذلك ؟!

في القرن السابع عشر عهد السلطان مراد الرابع عام 1638 عاث الوالي العثماني في مصر حسين باشا قتلاً ونهباً بالمصريين ، على أساس أن الوالي الذي سبقه (أحمد باشا) لم يتمكن من الوفاء المالي للآستانة . وعندما احتج الناس وتمت إقالة حسين باشا خلفه محمد باشا وكان أكثر سوءاً ففي عهده تم اهمال القنوات الخاصة بالري وحدث عجز زراعي وعجز الفلاحون عن دفع الضرائب . وجاء بعده مقصود باشا 1641 والذي اشتهر عهده بانعدام الخدمات الصحية وانتشار الأوبئة . واستمرت ولايته 6 شهور حيث مات المئات بالمرض وتحولت عشرات القرى إلى أطلال . وفي ذات العام ثار جند الأوجاقات ( الوحدات العسكرية العثمانية ) على رؤسائهم لعدم العدل في توزيع الأعطيات ونهبوا مخازن الغلال . وخلال الربع الأخير من القرن السابع عشر حكم مصر 30 والياً (أي بمعدل سنة واحدة لكل والي ) تحت السيطرة الكاملة للمماليك برئاسة شيخ البلد المملوكي . وفي ذلك الزمن قام قادة المماليك بشراء المزيد من المماليك من خارج البلاد لتدعيم قواتهم وميليشياتهم وكان الانقسام في ذلك الوقت بين فريقين ( زجنواثية – قاسمية) مملوكين . ومع بداية القرن الثامن عشر أصبحت السلطة مقسمة بين مماليك القاسمية والمماليك الفقارية . وكان التصادم بين الفريقين بالسلاح مألوفاً في شوارع القاهرة !! وكان فريق القاسمية هو الأقوى ، بزعامة قاسم إيعاظ بك شيخ البلد المملوكي وقد لحق الجبرتي بهذه الفترة أي في منتصف القرن 18 حيث قال ( ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما وأهرقت فيه الدماء . فكم حزنت بلاد وقتلت أمجاد وهدمت دور وأحرقت قصور وسبيت أحرار وقهرت أخيار ) .

وانحصرت السلطة في العسكر ( أى لايوجد أى ذكر للوالي العثماني ) والعسكر منقسمون إلى مماليك وإنكشارية وتصارعا للحصول على إلتزام الأراضي الزراعية والجمارك خاصة جمرك السويس الذي تأتي إليه البضائع الآسيوية وهو مصدر أساسى للثروة .

في عام 1740 وصل الوالي الجديد علي باشا فماذا قال في بيان توليه الولاية ؟

قال : ( إنني لم آت إلى مصر لبث الفرقة بين الأمراء – يقصد المماليك  – فمهمتي رعاية حقوق الجميع (!!) لقد تنازل السلطان لي عن أرض البلد وأنا بدوري أهبها لكم ( أي الأمراء ) وكل ما أرجوه هو ألا تخلقوا مصاعب في تحصيل الضرائب ) . وهذه الكلمة تلخص النظام السياسي العثماني في مصر . فمصر غير مهمة بالنسبة للآستانة إلا أن تدفع الخراج من حصيلة الضرائب وهذا كل مايعني الوالي  وهذا ماكان يحدث بالفعل وتفويض كل السلطات لأمراء المماليك الفاسدين مع التأكيد أنه سيكون على الحياد في صراعاتهم . ومايعنيه فقط هو عدم خلق صعوبات في تحصيل الضرائب : فلا توجد لديه أي سياسة في الاقتصاد أو التشريع أو التعليم أو الصحة أو حتى القضاء.

في هذه الأجواء نشأت تجربة علي بك الكبير الذي انشق عن الدولة العثمانية وقد اشرنا إليه من قبل ولكن نتوسع قليلاً في إطار كشف طبيعة النظام الساسي في الزمن العثماني في مصر . علي بك الكبير مملوكي شركسي تولى موقع شيخ البلد وقد لاحظ بنفسه ان كل السلطات تعود إليه فلماذا لايصبح هو الوالي ؟! بدأ بالتقتير في دفع مرتبات الانكشارية وعمل على تراجع قوة الأوجاقات ( الوحدات العسكرية العثمانية ) وعهد إلى زيادة أعداد المماليك بالشراء من الخارج ولم يسمح لغيره بالشراء بأكثر من 100 مملوك وسيطر تماماً على الالتزام ( أي الأراضي الزراعية ) وأصبحت في يده القنوات المالية والعسكرية وأعلن صراحة ان مصر قد عادت إلى حكامها الحقيقيين من السلالة المملوكية . وانتزع سلطة الوالي وتوقف عام 1769 عن إرسال الخزينة إلى الآستانة وأحجم السلطان العثماني عن تعيين والي وأمر علي بك الكبير بسك عملة تحمل اسمه وخاتم السلطان العثماني ، فاضطر الأخير للاعتراف به مؤقتا وأقره على مصر وطلب منه إقرار الأوضاع في الحجاز !

وحاول علي بك الكبير أن يمتد للشام وهذا خط أحمر للعثمانيين . أى ان يلعب المملوكي خارج ساحته الأصلية ويمتد خارجها فتآمروا مع مساعده أبي الدهب ليقتله وقد كان . من بعدها ارتدت البلاد لحكم الثنائي المملوكي ابراهيم بك ومراد بك في الصراع البائس بينهما على ثروات البلاد ودم الشعب .

مماليك العراق :

كانت نفس السياسة العثمانية متبعة في العراق فعندما قام أحد الانكشاريين وهو بكر الصوباشي  بحركة انشقاقية ( 1621-1623) وقتل والي بغداد ، أرسلت الآستانة قوة مسلحة لإخضاعه . فاستعان بالصفويين ( الشاه عباس ) الذي أرسل له قوات لمساعدته في بغداد عام 1623 وهي أحداث تؤكد اعتماد العثمانيين على العسكر ( الانكشارية ) وليس على عناصر عقائدية ودعاة وقادة اسلاميين وهكذا ما أسهل على الانكشاري العسكري أن ينشق بل ويلجأ إلى الشيعة . وهذا مايؤكد ان التربية العقائدية الانكشارية  لم تكن كافية أو أنها اضمحلت عبر السنين . كان العثمانيون يهتمون بالعراق عندما يهاجمها الصفويون !! وقد انشغلوا بالصفويين كثيراً ربما لأنهم أعتبروهم حاجزاً يمنع امتداد الدولة العثمانية شرقاً في وسط آسيا . لذلك جاء السلطان مراد الرابع لبغداد 1624 واستعادها ولكن الصفويين عادوا من جديد بعد رحيله واضطر مراد الرابع للعودة مرة اخرى لبغداد 1638 وعقد معاهدة في 17 مايو 1639 في مقر شيرين مع الصفويين تم فيها ترسيم الحدود بين ايران والعراق على النحو المستمر حتى الآن .

كيف قرأ العثمانيون تجربة انشقاق بكر الصوباشي ومابعدها ؟! بدلاً من التفكير في تأسيس ولاية إسلامية على أسس عقائدية في العراق ( وهم لايبدو أنهم يملكون هذه القدرة من حيث غياب إعداد القادة والدعاة والفقهاء والاسلاميين ) مع تغليب البعد العسكري . بدلا من ذلك اتخذوا اسوأ قرار وهو الاعتماد على المماليك لحكم العراق باعتبار انهم غير مذهبيين ( أي لاسنة ولاشيعة !!) ولا عرقيين . المهم هم يفكرون في القبضة العسكرية . وهذا النهج هو الذي أدى إلى إنتشار الشيعة في العراق إلى حد 65% حتى بعد انسحاب الصفويين منها . ويبدو ان المماليك نجحوا فعلاً في صد هجوم نادر شاه 1731- 1733 عندما حاول احتلال الموصل والبصرة حيث تصدى له سليمان الأكبر أشهر مملوك عراقي ولكنه ظل نجاحاً عسكرياً . ولكنه فشل في المقابل – كما ذكرنا من قبل – في صد الهجوم الوهابي على البصرة وكان هذا هو سبب سقوط سليمان الأكبر .

ثم اعتمد العثمانيون بعد ذلك على عصبيات عائلية : آل عبد الجليل في الموصل حيث كان التجار هم العمود الفقري لولاية الموصل الشمالية وكانت شبه مستقلة بين 1726-1834 . والبصرة منذ 1615 سيطر عليها آل أفراسياب وامتدت حتى الاحساء ثم أصبحت ولاية واحدة مع البصرةعثمانياً ولكنها سقطت بعد سيطرة الوهابيين.

الشام:

أما حلب ودمشق وصيدا وطرابلس أي كل الشام تقريباً كان العثمانيون يعتمدون على أسرة آل العظم ، وأسرة ضاهر العمر الزيداني في فلسطين وهي أسر تسيطر على الاقتصاد (خاصة التجارة ) ولاتمثل أي قيادة اسلامية عقائدية وقد شملت سيطرة ضاهر العمر نابلس وغزة ويافا وعجلون والرملة وتم قتله بعد تحالفه مع علي بك الكبير . لم يكن اذاً هناك اقتناع أو التزام أو ولاء للدولة العثمانية إنما هي مسألة منافع ( شيلني واشيلك ).

وظهر أحمد الجزار كزعامة جديدة في الشام وهو مملوكي وكان يخدم عند علي بك الكبير ولكنه حول ولاءه للباب العالي عام 1768 وشارك في الإطاحة بضاهر ثم أخذ عكا وصيدا واستمر حتى مات 1804  ( وللمرة الثالثة نحييه على وقفته من نابليون . ولا شك ان طبيعة قلعة عكا المحصنة طبيعياً ساعدته ولكن هذا لايقلل من وقفته ).

ومن الممكن أن نكون أمام رجال (مجدع) كما نقول في مصر ولكن المجدعة ليست هي العقائدية التي تحمي دولة الاسلام على المدى الطويل . وتقوم بنماء اسلامي في البناء الداخلي. وقبل وفاة الجزار كان قد تحالف مع الشهابيين بجبل لبنان ( البعض يدين ابراهيم باشا لأنه فعل ذلك !) وأخذ دمشق من العظم واحتكر القمح والقطن وطرد وكلاء فرنسا بعد هجوم نابليون على عكا .

ومع ذلك فإن العثمانيين لايحبون الشخصيات القوية لذلك حاولوا عام 1782 نقله والياً للبوسنة ولكنه رفض . كذلك رفض الجزار القيام بحملة على مصر لإخماد تمرد البكوات عام 1784 . ولكنه ظل يرسل المطلوب مالياً للآستانة !! وهذا مايريحهم بالحد الأدنى ويهدئ من مواطن القلق لديهم ! وهذا ما ظل محمد علي يفعله هو وابناؤه وأحفاده .

تقسيم الولايات العثمانية :

لم يكن هناك أي منطق رشيد وراء تقسيم الولايات العربية . فهي مجرد توازنات وضرورات عملية من وجهة نظر الآستانة ،دون مراعاة للاتساع الجغرافي أو التجانس . فتتعجب عندما تعلم أن مصر واليمن كانا ولاية واحدة . والعراق 4 ولايات ( بغداد – البصرة – الموصل – شهرزور ) الخليج تابع لولاية الاحساء ( هذا منطقي وسليم ) . الشام ولاية واحدة من دمشق وحلب وطرابلس ( لابأس). وجود حكم خاص في الحجاز والقدس بسبب الأماكن المقدسة (معقول ) ولكن اللخبطة زادت مع بداية القرن 17 اذ أصبح للدولة العثمانية 32 ولاية منها 13 ولاية عربية ( الولايات العربية هكذا تعتبر كثيرة ) وتم تقسيم الولايات إلى سناجق . فأصبحت حماه وحمص سنجق واحد ( مديرية ) بينما دمشق 2 سنجق ثم تم تحويل حماه وحلب لسنجق واحد – ثم أصبحت صيدا مع دمشق ولاية واحدة (!!) ثم صيدا وحيفا ومرجعيون ولاية ولكن البصرة بدون سناجق .

وهذا تفتيت للشام وللعراق بدون داع إلا إذا كان الهدف مجرد السيطرة (التفتيت بغرض إحكام السيطرة ) ولكن هذه النطاقات الجغرافية لاتصلح لعمل تنمية اقتصادية رشيدة مثلاً .

ثم لاحظ ان قوات الولاة المجرمة التي تحدثنا عنها في مصر كانت أداة اساسية للسيطرة في الشام !! ( أبوهيكل – مرجع سابق )

بداية العثمانيين في العراق :

ولكن لابد أن نذكر أن بداية العثمانيين في العراق كانت مبشرة حيث دخل سليم الأول تبريز الإيرانية وأخرج الصفويين من وسط وجنوب شرق الأناضول . وضم ولايتي ديار بكر وكردستان للدولة العثمانية ولكنه انسحب من تبريز عاصمة الصفويين وبذلك سيطر العثمانيون على شمال العراق وذلك عام 1514. وتلاه سليمان القانوني ويشار إليه غالباً كأفضل سلطان عثماني على الاطلاق ( 1520 – 1566) حيث أقام علاقة ودية مع الصفويين وأبرم معهم هدنة ولكن موت اسماعيل شاه أربك هذا التقدم حيث حدث صراع داخلي صفوي وكان البعض يصر على استمرار حكم بغداد . وانقلب الأكراد كعادتهم وبايعوا الصفويين وظل العراق الأوسط والجنوبي تحت السيطرة الصفوية ( لاحظ ان هذا هو انتشار الشيعة الآن ) ولكن سليمان القانوني دخل بغداد عام 1533 وأتبع سياسة تهدئة وجذب للشيعة فبينما أعاد بناء ضريح أبي حنيفة في بغداد ، حدد أوقاف للمزارات الشيعية وأقام مشروعات خدمية في كربلاء وقام بتوسيع الترعة الحسينية وبناء السدود لحماية البلاد من الفيضانات ( وهي أمور لم يهتم العثمانيون بها في مصر ) وهكذا خضع العراق بالكامل للسيادة العثمانية . ولكن استخدام المماليك وعائلات التجار عادت بالوبال علىى العثمانيين وعلى العراق وعلى السنة.

*******

لقد اتسع القوس ولابد من اغلاقه ! لقد فتحنا القوس في المجال الزراعي والاقتصادي لنقارن بين عهد محمد علي والعهد العثماني المملوكي ثم انتقلنا للجانب السياسي للحكم في مصر والشام والعراق ايضاً للمقارنة بعد أن أطلعت على بعض الكتابات الاسلامية ضد محمد علي . وأنا لست في معركة حياة أو موت دفاعاً عن محمد علي فهو ليس النموذج المرتجى ولا المطلوب إعادته . ولكنني بالتأكيد في حالة حياة أو موت تجاه القضايا المشار إليها : الصناعة – التنمية الاقتصادية المستقلة – الاستقلال السياسي عن الغرب – بناء جيش قوي وطني واسلامي – تصنيع حربي – دولة عربية اسلامية عظمى اتحادية أو كونفدرالية . وأرى أننا أمام خلاف منهجي لاخلاف في المعلومات لأن المعلومات واضحة لمن كان له فؤاد أو ألقى السمع وهو شهيد .

وأقولها بوضوح – حسبة لله تعالى – ان الاسلاميين في مصر وخارجها  – إلا من رحم ربي وهم بالتحديد في ماليزيا وتركيا وايران – لا يركزون بالقدر الكافي كما ورد في القرآن ،على الحديد ، على الصناعة ، على التنمية ، على الاقتصاد ، على امتلاك القوة العسكرية ( وهنا يمكن أن نضم باكستان ونحذف ماليزيا ! ) . نحن لانريد اسلام الضعفاء ، نريد اسلام القوة والعزة والعدالة والأنفة والكبرياء بالحق ، نحن لانتسول من أحد .

ولاناخذ قرضاً من اعداء او معونة او سلاح ثم نزعم اننا نسعى لإرضاء الله ورسوله وإقامة دولة الاسلام . ولذلك ببساطة لم ينصرنا الله .. ولكن نصر ايران وتركيا وباكستان وماليزيا بقدر مانصروه . وكل منهم أخذ ما يستحقه بلا زيادة أو نقصان . رحم الله الشيخ محمد الغزالي الذي قال عن اصدقاء حكام المسلمين مايلي ( كفرة أهل الكتاب هم في عصرنا مصدر البلاء الذي يعاني منه ديننا وسر النكبات التي حاقت بأمتنا ،ان كفرة أهل الكتاب كانوا ولا يزالون من اشد الناس حقداً على الاسلام في مواريثه وقيمه كلها) – فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء – دار الشروق – 2008 – محمد الغزالي .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: