قصة بناء الجيش المصري الحديث وحكاية سليمان الفرنساوي !
الزراعة بلغت 4.5 مليون فدان – والسكان 5 ملايين
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (45)
بعد كل هذا الفلاش باك الكبير نعود إلى قصتنا حيث توقفنا وكنا نوشك ان ننهي الملف الزراعي , وماحدث خلال نصف قرن من حكم محمد علي نقل مصر من وضع إلى وضع وهذا اثر على مجمل حالة المستطيل , وهذا ما سرع نشوء المسألة الشرقية أي كيفية القضاء على الدولة العثمانية وتوزيع ميراثها في منطقة الشرق الأوسط , المنطقة الأهم في العالم.
تضاربت المصادر التاريخية حول التوسع في الأراضي الزراعية وقد كان كبيراً في ظل كل هذا التوسع في قطاع الري من قناطر وترع وسدود، وأقرب الأرقام إلى الصحة ماورد في سجلات الحكومة المصرية حيث كانت الأراضي الخاضعة للضرائب قبل تنفيذ الأشغال العامة المشار إليها حوالي 3 مليون فدان وربع مليون الفدان وأصبحت هذه المساحة 4 ملايين فدان و 400 ألف فدان عام 1863، أي أضاف محمد علي مليون فدان و177 ألف فدان وهي نفس المساحة التي من المفترض أن السد العالي في الستينيات في القرن العشرين اضافها لمصر.
– المحاصيل الجديدة:
بعد قطن طويل التيلة تم التوسع في زراعة قصب السكر الذي كان يزرع بكميات محدودة ثم أصبح صناعة رئيسية كصبغة النيلة والكتان والأرز، ( الكتان يضمحل في مصر في القرن الواحد والعشرين , والمصنع الوحيد له تم بيعه ويعاني من مشكلات تهدد بإغلاقه ) إلا أن المذهل أنه بتوجيه مباشر من محمد علي تم إدخال مايقرب من مائتي محصول جديد غيرت الخريطة الزراعية في مصر وستكتشف ان معظم مانستهلكه الآن نتاج هذه المرحلة , الفاكهة : السفرجل ( ولكنه ينقرض الآن ) أنواع البرتقال والليمون والموالح كاليوسفي , والبرقوق والكمثرى – التفاح – المشمش – الخروب – الموز – التوت – الجوز – الجميز- الأعناب – الزيتون – التين – الخوخ –الرمان.
ولادخال كل ثمرة أو محصول قصة , وقد تحدثنا عن قصة إدخال القطن طويل التيلة والآن نتحدث عن قصة إدخال اليوسفي ونكتفي بذلك حيث لايتسع المقام :
يوسف أفندي كان من الشباب الذين أرسلوا إلى أوروبا لتعلم الهندسة الزراعية وعاد إلى مصر وقد أحضر معه بعض أشجار الفاكهة التي اشتراها من سفينة قادمة من الصين واليابان واستقرت في مياه مالطة ثم حمل طبقاً من هذه الثمار إلى محمد علي باشا فأعجبه وسأل الشاب : ماذا نسميها في مصر ؟
فقال يوسف أفندي : نسميها طوسون باشا تخليداً لذكرى ابن محمد علي الذي مات بالطاعون فشكر الوالي يوسف وقال : نسميها يوسف أفندي فأنت الذي أحضرتها لمصر, ثم تحولت إلى يوستفندي ثم إلى يوسفي ! , ومن الأشجار الجديدة التي زرعها، الصفصاف والأزدرخت (يسميه أهل الريف الزنزلخت) , والسرو والمُخيط والسنط والتي كانت تستخدم إما من أجل أخشابها أو لاستخراج الفحم النباتي أو لتجميل الريف , ومن المؤسف أنه أدخل أيضاً زراعة الدخان , كذلك تم استيراد أزهار من جميع الأنواع , إذ كان الوالي مغرماً بالحدائق الجميلة وخلال 3 اعوام فقط من ( 1828 – 1830 ) تمت زراعة 4 ملايين و400 ألف شجرة وكانت مصر دائماً تصدر السكر إلى الأمبراطورية العثمانية , وفي إطار الإحتكار الزراعي كانت الدولة ملزمة بتقديم البذور للزراع حتى عندما يتلف المحصول أو عند حدوث أزمات مثل الفيضان أو الجفاف كما بدأت سياسة تشجيع زراعة الأرض البور بإعفائها من الضرائب أو تجفيفها أو تأجيلها أو إعفاء مؤقت لمدة 3 سنوات . وقد استفاد من ذلك الكبار أما صغار الفلاحين فكانوا يتعاونون للحصول على قطع أرض صغيرة في صورة أبعاديات وكانت تلك أيضاً معفية من الضرائب .
الارشاد الزراعي:
في إطار ربط الماضي بالحاضر في الأمور المهمة سنجد أنه في عام 1829 تم تأسيس مجلس شورى برئاسة إبراهيم باشا وهو تشكيل يجمع بين عمل البرلمان والحكومة ! وكان يتكون من 33 من كبار المسئولين التنفيذيين وكبار رجال الدين والإفتاء . الشيخ البكري والشيخ السادات مع 24 من مأموري المصالح ومائة من مشايخ البلد , وكان من توصياته التي تم تنفيذها فعلاً , إصدار لائحة زراعة الفلاح تتضمن دليلاً لكيفية زراعة المحاصيل بالطريقة الصحيحة وكيفية قيام الموظفين بواجبهم في تحسين ظروف الإنتاج الزراعي , وقد تطور هذا الأمر في القرن العشرين إلى مسألة الإرشاد الزراعي حيث يقوم مهندسون زراعيون بإرشاد الفلاح في عمله الزراعي بدون مقابل كخدمة من الدولة لرفع مستوى الانتاج الزراعي وفي عهد مبارك السعيد ووزيره يوسف والي تم إيقاف تعيين مرشدين جدد حتى انقرضت هذه المهمة في وزارة الزراعة المصرية ويبدو أن هذا الأمر مستمراً حتى الآن !!
– إنصاف الفلاح :
اشرت فيما مضى إلى ان أحوال الفلاحين كانت قاسية في البلاد في ظل نظام الإحتكار المحكم ولكن أحوال الفلاحين كانت تتحسن تدريجياً وبنفس عقلية صاحب العزبة فقد كان محمد علي يدرك أهمية عدم تصعيد الضغط على الفلاحين وهم أساس ثروة البلاد , ومن خلال التجربة والخطأ تم تعديل العديد من السياسات لصالح الفلاح تدريجياً , من ذلك أن مجلس الشورى أقر بعدم عمل الفلاحين في السخرة إلا لمدة خمسة شهور في السنة , وأن يعملوا في أراضيهم هم اثناء الشهور المهمة , وليس في اعمال السخرة , كما قرروا مناوبة أعمال السخرة أسبوعياً وألا يعفى من أعمال السخرة إلا عمال المصانع , وبعد أن تمت إقامة جهاز إداري مركزي حاول الوالي ان يستوثق من قدرته على السيطرة عليه , وحث الأهالي على الشكوى إليه شخصياً من أي إساءة إستعمال للسلطة . وتم إصدار مجموعة من التشريعات تحدد العقوبات التي يختص بها الموظفون الذين يعتدون على الأهالي أو يسيئون معاملتهم أو الذين يكذبون عليهم أو يغشونهم او يسرقون منهم , وفي القسم الأخير من حكم محمد علي أي عام 1830 (وستجد دائماً الإصلاحات في النصف الثاني ) تدخلت الحكومة لوقف إستغلال التجار للفلاحين من خلال شراء المحاصيل مبكراً بأسعار زهيدة أو من خلال قروض ربوية تصل إلى 25%، وأعادت الحكومة للزراع المبالغ التي دفعوها للتجار كفوائد , وفي عام 1838 تم إيقاف هذه المعاملات نهائياً .
تحسن أحوال الفلاحين يمكن إدراكه بمعايير موضوعية صارمة أشرنا إلى أحد هذه المعايير من قبل وهو زيادة الإنتاج عدة أمثال العهد السابق لمحمد علي , والمعيار الثاني هي زيادة عدد السكان, فقد كان تعداد سكان مصر في تناقص مستمر منذ العصور الوسطى ولاتنظر إلى الوضع الآن حيث إن الزيادة السكانية لاتعكس تحسن الأحوال الإجتماعية والإقتصادية , لأن مصر في هذه العهود الغابرة كانت تتعرض لدورات مستمرة من الفيضانات المدمرة أو الجفاف , مما يؤدي لانهيار الزراعة وظهور المجاعات وانتشار الأوبئة كالطاعون والكوليرا وغيرها , لذلك كانت تحدث إبادة حقيقية للسكان , ومما يؤسف له أن بعض المؤرخين الاسلاميين ( كابن كثير ) يكرهون المصريين في أنفسهم من خلال نشر أخبار عن فلان وعن علان بأن المصريين في أعوام كذا أكلوا القطط والكلاب بل وأكلوا بعضهم بعضاً , دون أي نوع من التوثيق . وهل وصل الأمر لأكل لحوم البشر , ومهما كان فقد كان لابد من الإشارة إلى هذه الظروف أي المجاعات التي كانت تحدث بشكل متقطع نتيجة دورات الفيضان والجفاف والتي توضحها سورة يوسف , وإن عدم التعامل الرشيد ( كما فعل سيدنا يوسف ) مع هذه الدورات يؤدي إلى مجاعات وكوارث وإبادة جماعية , وفي حالة عدم تواجد سياسة رشيدة فيجب أن ينحو المؤرخون باللوم على الحكام , لا على الشعب المصري الذي اضطر لأكل القطط والكلاب . فمشروعات السدود والخزانات والترع هي التي قللت من كوارث الفيضان والجفاف وكذلك قللت من ضياع ماء النيل في البحر , ومن هذه الزاوية يجب تقدير ايجابيات مشروع السد العالي لأنه كان كمشروع سيدنا يوسف ( كما يقول الدكتور المهندس مجدي قرقر ) لأنه يقوم بتخزين المياه لسنوات الجفاف , بينما احتفظ يوسف بنتائج وفرة المياه في صورة قمح في المخازن في سنبله لسنوات الجفاف , فكان تخزيناً للمياه بصورة غير مباشرة.
وكل هذه مقدمة للحديث عن زيادة السكان في عهد محمد علي , وأوضح أنني أستغل أي فرصة في هذه الدراسة وبدون الخروج طبعاً عن مجالها في شرح وطرح أفكاري فأنا في الهزيع الأخير من العمر وقد تكون آخر دراساتي, وأريد أن أودع فيها مالدي من أفكار وخبرات وتجارب ولكن مرة أخرى في إطار الدراسة حتى لايتشتت القارئ , والواقع أنها دراسة في الاستراتيجية العامة لنهضة الأمم ومجالها واسع النطاق في السياسة والإقتصاد وسنن التغيير السياسي والإجتماعي والصراع الدولي .. . إلخ.
فرغم حدوث أوبئة ( في وباء واحد مات نصف مليون مصري) ورغم المشاركة في 5 حروب إلا أن عدد السكان ارتفع من 3 ملايين و850 ألف نسمة عام 1800 إلى حوالي 5 ملايين عام 1840 وساعد على ذلك استتاب الأمن العام , وبينما يتصور حكامنا الحاليون ( القرن الواحد والعشرين ) أن الزيادة السكانية سبب البطالة فإن زيادة عدد السكان في عهد محمد علي لم تجار الطلب على العمالة بسبب التوسع في التنمية، وفي صفوف الجيش. وفي إطارتحسين أحوال الفلاحين بعث الوالي إلى جميع المديرين وموظفي الحكومة بأمر يحظر عليهم فيه استخدام الفلاحين كعمال في أراضيهم دون دفع أجر لهم , وهو مايعني أن العمل بالسخرة في غير الأعمال العامة كان ممنوعاً تماماً , وكان القانون يفرض على من يضبط مستخدماً فلاحين في العمل بالسخرة في أراضيه أن يدفع للفلاحين ضعف الأجر المعتاد كعقوبة له , وفي مجال تشجيع زراعة الأرض البور مع إعفائها من الضرائب – كما ذكرنا من قبل – وهي سياسة بدأت منذ 1826 , وكان كبار الموظفين هم المستفيدون أساساً من ذلك ولكن كانت بعض الأراضي تعطي كذلك لفلاحين عاديين ( أنفار ) , وأحياناً كان الفلاحون يتضامنون معاً في بعض المناطق ليطلبوا منحهم أراضي ” أبعادية ” معفاة من الضرائب لمدة 3 سنوات , وتشير السجلات إلى الاستجابة لهذه الطلبات سواء من المشايخ أو الفلاحين وكذلك رؤساء البدو , وبحلول عام 1837 أصبح حق استغلال ” الأبعديات” قابلاً للتوريث , وبعد ذلك بسنوات صدرت مراسيم تقر بالملكية الكاملة لهذه الأراضي وهذا ما أدى إلى بداية خلق طبقة من ملاك الأراضي الزراعية الوطنيين وفي عام 1833 حدث تطور جديد , فرغم أعباء الأوبئة والحروب رأت الدولة أن تحمل الأغنياء عبء الضرائب الأكبر بإلزام كبار موظفي الحكومة الأغنياء أو كبار قادة الجيش أو أعضاء الأسرة الملكية بأن يتخلوا قسراً عن بعض ثرواتهم وذلك بإجبارهم على أن يتحملوا بمطالبات الضرائب المتأخرة على القرى . وبحلول عام 1845 كان الوالي وأسرته هم أكبر ملاكي الأراضي الذين امتلكوا 18.8% من الأرض وهو وضع استمر حتى 1952, وهذه المعلومة يجب أن تبقى في الذهن حين نتحدث عن الاصلاح الزراعي عام 1952 ومدى مشروعيته من الناحية الاسلامية .
( في ملف عهد محمد علي يبقى ملفان أساسيان من المهم الحديث عنهما :
1) بناء الجيش والحروب التي تم خوضها.
2) البعثات التعليمية وأثرها على النهضة في مصر.
– بناء الجيش المصري :
تقريباً منذ نهاية عهد القدماء المصريين انتهى عهد الجيش المصري ولم ينشأ جيش بهذا المعنى كمؤسسة مصرية حتى وإن كان في ظل الخلافة الاسلامية , لم ينشأ جيش مصري إلا في عهد محمد علي وكاد يضمحل في آواخر عهد الخديوى توفيق وبداية عهد الاحتلال البريطاني وهو اضمحل فعلاً بعد ضرب الثورة العرابية بل صدر قرار بريطاني بحل الجيش المصري ولكن بدأ استنهاضه بالتدريج البطئ في بداية القرن العشرين وهذه مسألة تحتاج لوقفة للفهم والإدراك , وهي من معالم بناء مصر الحديثة , وهو أمر لايتعارض – على خلاف مايتصور بعض الاسلاميين – مع البناء الاسلامي , فبعد قرابة 280 عاماً من الفتح الإسلامي أصبح أغلب المصريين مسلمين ( في عهد أحمد بن طولون ) ولم يكن من الصحيح عدم بناء جيش مصري حتى في إطار دولة إسلامية موحدة أو اتحادية , وجاء حكم المماليك وسد هذه الثغرة العسكرية من خلال استيراد المزيد من المماليك , ورأينا ماحدث في العهد العثماني والضعف ثم الانحراف الذي انتاب الوجاقات العثمانية وهو ماسهل الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الإنجليزي.
بل يمكن القول بمنتهى البساطة وبدون أي مبالغة ولكن استناداً لمعلومات التاريخ الدقيقة فإن إنجلترا لم تجرؤ على اتخاذ قرار باحتلال مصر منذ هزيمتها عام 1807 في رشيد حتى عام 1882 أي قرابة ثلاثة أرباع قرن بسبب الجيش المصري القوي الذي بناه محمد علي وكان من أقوى جيوش العالم في ذلك الزمان . فلم يكن هناك حاجز عسكري آخر يمنع تنفيذ الإنجليز لمخططهم الدفين باحتلال مصر , لا الجيش الفرنسي الذي خرج من السباق في مجال الهيمنة على المستطيل القرآني أو اوروبا ولا الجيش العثماني الذي بدأ يدخل بقوة في مرحلة الهزال .
وكان محمد علي منذ تولي الحكم 1805 يضمر في نفسه أنه سيحكم مصر إلى ماشاء الله , ولن يكون والياً لمدة عام أو اثنين أو أكثر لذلك فكر بشكل منطقي أن الإستقرار في الحكم عماده الأساسي بسط الأمن , وقد رأى بنفسه الأحوال البائسة للقوات العثمانية التي كانت مجرد أخلاط من العناصر المفطورة على التمرد والفوضى يطلق عليها لفظ ( باشبوزق ) أي الجنود غير النظاميين بالإضافة لقوات المماليك المنافسة في الشر أي في السلب والنهب والعمل لحسابها الخاص , بل وانقسامها هي بدورها إلى حزبين كبيرين منافسين على النفوذ والسلطان وكان آخرهما ( مراد بك – ابراهيم بك) ورأينا كيف تعرض محمد علي نفسه لتمرد ضده من كثير من الأرناؤوط (الألبان) والذين من المفترض انه رئيسهم !! ووصل الأمر إلى حد مهاجمة قصره في الأزبكية ومحاولة قتله وكان ذلك عام 1807 – كانت تصفية المماليك التي بلغت ذروتها في مذبحة القلعة عام 1811 أحد محاور القضاء على هذه الحالة الأمنية غير المنضبطة وغير المسيطر عليها .
بعد العودة من حرب الوهابيين في عام 1815 بدأ محمد علي يعمل جدياً لبناء جيش نظامي جديد حين أمر بتدريب فرقة من جنود ابنه إسماعيل باشا على النظام الحديث , ولم يتقبل هؤلاء هذه الفكرة وقام رؤساؤهم بمحاولة جادة للقضاء على محمد علي وأعدوا الخطة ( مرة أخرى ) لاقتحام مقره في الأزبكية , وعندما علم بالمؤامرة تكرر نفس سيناريو تمرد 1807 , فهرب محمد علي في منتصف الليل من قصره وتحصن في القلعة , ولكن المتمردين هاجموا قصره بالأزبكية وتبادلوا مع حرسه إطلاق النار , ولما عجزوا عن الاقتحام عاثوا في الأسواق فساداً سلباً ونهباً واضطر محمد علي إلى تأجيل خططه في بناء جيش نظامي جديد وتعامل مع هذا التمرد بأقصى درجات الحزم ,وعلى خلاف الولاة العثمانيين السابقين , قرر محمد علي دفع تعويض لجميع التجار الذين نهبت دكاكينهم وعهد بتقدير ذلك إلى السيد محمد المحروقي كبير التجار , ودفعت الحكومة فعلاً التعويضات (والتي قدرها مختار باشا في كتابه التوفيقات الإلهامية بـ 15 ألف جنيه ) , وقبل ان يبدأ في بناء الجيش على أسلوب جديد وكان ذلك عام 1820، وهكذا فهو يتقدم نحو فكرته ببطئ وأناة لإدراكه خطورتها , فقبل أن يبدأ بذلك بدأ بتشتيت الجنود غير النظامية بإخراجهم من العاصمة حتى لا يكون احتشادهم فيها مدعاة لتمردهم وتجديد الفتن فوزعهم على الثغور الواقعة على البحر المتوسط كرشيد ودمياط وبعض البلاد القائمة على فرعي النيل ولكيلا يشعروا أنه يقصد تشتيتهم أو معاقبتهم أمر أن يرافقهم في معسكراتهم الجديدة بعض ابنائه كطوسون باشا وإسماعيل باشا , وأمر بإقامة ثكنات في البلاد التي أعدها لإقامتهم , وفي عام 1820 قرر محمد علي فتح مدرسة حربية في اسوان لتخريج ضباط الجيش وقد كان اختياره لأسوان بهدف إبعاد المشروع عن الأنظار قدر الإمكان , حتى يقف على قدميه وكان لابد من العثور على عسكري اوروبي يدرك أساليب بناء الجيش الحديث وهي خبرة لم تكن معروفة في الشرق وقد وجد محمد علي ضالته في ضابط فرنسي من ضباط الأمبراطورية النابليونية وهب نفسه لخدمة مصر وتقدمها , وهو الكولونيل سيف sevesالذي عرف بعد ذلك بسليمان باشا الفرنساوي .
وإليه يرجع الفضل في معاونة محمد علي ومؤازرته في تأسيس الجيش المصري على النظام الجديد بحيث صار يضارع أرقى الجيوش الأوروبية وبرهن في ميادين القتال على أنه لا يقل عنها دربة وكفاية , وقد وجد بعض الأخوة الرافضين لتجربة محمد علي ( باعتبارها انقلاباً حربياً على الدولة العثمانية !) وجدوا ضالتهم في الكولونيل سيف الفرنساوي كدليل دامغ على عمالة محمد علي للغرب خاصة فرنسا , وانا شخصياً لا أحب إلا الحقيقة بعد البحث والتدقيق العلمي .
من هو الكولونيل سيف ( 1787 -1860)؟
الكولونيل سيف فرنسي الأصل ولد في مدينة ليون الشهيرة 1787 أي كان عمره ثلاثين عاماً عندما تولى هذه المهمة وعنه يقول الرافعي ( كان أبوه صاحب مصنع في المدينة , ودخل في مهمة البحرية وحضر واقعة الطرف الأغر (التي انتصر فيها الإنجليز على فرنسا ) ثم انتظم في سلك الجيش البري وقاتل في حروب نابليون , ولما انتهى عهد نابليون قضى على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية وانقطع للتجارة والزراعة , ثم طلب إلى صديق له وهو الكونت دي سيجور السعي لدى شاه ايران في ان يعهد إليه تنظيم جيشه , فنصحه بالذهاب إلى مصر , فجاءها 1819 وقابل محمد علي فأعجب به وعهد إليه تنظيم الجيش المصري على الأساليب الحديثة , وقد اعتنق الإسلام في مصر واختار لنفسه اسم سليمان فصار يعرف بسليمان بك ( ثم باشا) . واشترك في حرب الموره (اليونان ) وهي حرب ضد تمرد مسيحي نصراني وكانت هذه شعاراتها الأساسية وتلقى دعم مختلف الكنائس الأوروبية ( الكاثوليكية في روما – والأرثوذكسية في موسكو) وهو مايؤكد أن إسلامه كان حقيقياً , خاصة وإن حرب الجيش المصري في اليونان كانت مظفرة وحررت معظم اليونان ودخلت العاصمة أثينا، وكذلك شارك سليمان في حرب الشام ( الأولى والثانية ) وحرب الأناضول وكان أشبه برئيس الأركان تحت قيادة ابراهيم باشا في كل هذه الحروب ثم عين رئيساً عاماً لرجال الجهادية أي للجيش المصري واحتفظ بهذا المنصب في عهد إبراهيم وعباس إلى سعيد باشا .
وتتفق رواية عفاف لطفي ( مرجع سابق ) مع هذه الرواية ولكنها تتميز بفارق جوهري وهي نفي مسألة أنه كان ضابطاً برتبة كبيرة في الجيش الفرنسي (كولونيل ) وتؤكد أنه كان مجرد عريف (!) وأنه فصل من الجيش بسبب العصيان , ولو أنه تم العفو عنه وعاد إلى الجيش وأنه ادعى في مصر أنه (كولونيل) ( ولو قال غير ذلك لما قابله محمد علي ولا عينه كمستشار أول للجيش المصري).
وتظهر حياته قبل مصر انه كان مغامراً من الطراز الأول أي معارضاً للنظام الفرنسي فقد كان متورطاً في مؤامرة لإنقاذ المارشال ناي من السجن , وعندما فشلت المؤامرة هرب من فرنسا ونزل في مصر بحثاً عن عمل , كما فعل كثير من مواطنيه , وتؤكد الرواية الثانية أنه أبعد من أن يكون مبعوثاً من النظام الفرنسي القائم في تلك الآونة , ولكن تتفق الروايتان على سلوكه على أرض مصر وكيف كان مثالاً للجرأة والشجاعة ورباطة الجأش ففي أول تحد له واجه تمرد من المتدربين في الجيش المصري وكانوا ساخطين من اساليب التدريب القاسية فعندما حل موعد التدريب على التصويب (التنشين ) كانت البنادق المصوبة نحو سيف أكثر من تلك المصوبة نحو الهدف , ومن حسن حظ الرجل أن تصويب الرجال كان سيئاً , ولكن إحدى الطلقات مرت بجوار أذنه ومع ذلك فإن ثباته وشجاعته وصبره على الرجال أكسبته احترامهم وقبلوا هم تعليمه بعد ذلك فقد أمر التلاميذ باطلاق النار مرة اخرى وعندما تمردوا عليه في مناسبة أخرى وهددوه بالقتل , طلب إليهم أن يبارزوه متعاقبين واحداً تلو الآخر حتى لا يدنسوا أنفسهم بالخيانة والغيلة فكان لهذه الشجاعة والبطولة وسعة الصدر تأثير سحري في نفوس أولئك الفتيان الذين يقدرون الشجاعة حق قدرها , فتحولوا إلى خاصة أوليائه يحيطونه بإعجابهم وإجلالهم فتمكن سيف من إتمام تعليمهم في مدى ثلاث سنوات . سليمان باشا ارتبط بمصر ولم يذهب إلى فرنسا بعد ذلك ودفن في مصر وله قبر منسق في الحي الذي أقطن فيه (مصر القديمة) وهو محاط بسور حديدي وحديقة في ميدان باسمه وأقمت في هذا الميدان إحدى ندواتي الجماهيرية , أما مايسمى شارع طلعت حرب الآن في وسط القاهرة فقد كنا نعرفه في صبانا وشبابنا باسم شارع سليمان باشا وكان ميدان طلعت حرب اسمه ميدان سليمان باشا وكان هناك تمثال له تم استبداله بتمثال لطلعت حرب وأنا مع تكريم طلعت حرب بطبيعة الحال ولكن ما كان ذلك ليحدث على حساب سليمان باشا. المهم فإن محمد علي كان حذراً في بناء الجيش وقد عاصر بنفسه كيف فقد السلطان ” سليم الثالث ” عرشه بسبب محاولته تطوير الانكشارية إلى جيش حديث , وكذلك كان حذراً من التلاميذ المصريين , وقام بكل المحاولات لبناء الجيش بعيداً عنهم خاصة في القيادة ولكن الزمن (التجربة والخطأ) أقنعه بأنه لامناص من الإعتماد على المصريين , وأن هذا هو الخيار الأفضل أو الوحيد لبناء قوة عسكرية قادرة لدولته واقتنع بذلك عملياً وتدريجياً بمنتهى البراجماتية , وهذا افضل بكثير لمصر والإسلام من كل التجارب التي سبقته واعتمدت على مجموعات مرتزقة!!
في البداية رأى الإعتماد على الجنود المرتبطين به شخصياً وهم المماليك التابعين له, فقدم منهم للمدرسة الحربية بأسوان 500 فرد , وطلب من بعض رجاله أن يحذوا حذوه يقدموا من عندهم من المماليك فاجتمع لدى سيف ألف فرد , وكان يتم تدريبهم ليصبحوا النواة الأولى لضباط الجيش وكان ابراهيم باشا ابن محمد علي والذي كان فعلياً هو نائبه يتواجد أحياناً مع سليمان لمتابعة التدريبات في اسوان , ولكن من اين يتم إعداد جنود نظاميين ليعملوا تحت إمرة هؤلاء الضباط ؟ أولاً توجه ذهن محمد علي للسودان وكان هذا من دوافع فتح السودان , وهي نفس العقلية التي تعتمد على الغرباء عن الوطن لبناء الجيش بتصور أنهم سيكونون أكثر انضباطاً وبعيداً عن مشكلات المجتمع وهي نفس العقلية التي بنت جيوش المماليك , والانكشارية العثمانية , وكان محمد علي ابن التجربة الأخيرة .. وقد عهد الى ابنه إسماعيل باشا ( قائد حملة السودان ) وصهره الدفتردار وكان معاوناً لإسماعيل أن يرسلا إليه حشداً من السودانيين, فجاء منهم نحو عشرين ألفاً وأرسلهم إلى بني عدي بالقرب من منفلوط أسيوط حيث بدأ تدريبهم على النظام العسكري الحديث على يد الضباط المماليك الذين تخرجوا من المدرسة الحربية بأسوان , حيث أقيمت لهم هناك ثكنات خاصة , وحيث أقيم قصر لكتخدا ( نائب ) محمد علي وهو محمد لاظ أوغلي ( الذي يسمى باسمه ميدان لاظ أوغلي بجوار وزارة الداخلية الحالية ) ليتابع بنفسه هذه التدريبات وهذا يكشف الإهتمام المباشر لمحمد علي بمتابعة عملية بناء الجيش , والتي كانت هكذا ,تجري في أعماق الصعيد ( أسوان – بني عدي ) بعيداً عن الأنظار !
وكان من اسباب التفكير في السودان كمصدر للجنود ان الدولة العثمانية كانت قد حظرت إرسال المماليك إلى مصر ولمنع تطوير قوة عسكرية مصرية خاصة , ومن المفارقات العجيبة أن الجنود السودانيين عانوا من مشكلات عجيبة من عدم التوافق مع المناخ المصري ( رغم أنه في الصعيد أقرب لمناخ السودان وأخف حرارة ) وربما عدم التوافق المجتمعي وعدم تقبل التدريبات الصارمة فتعرضوا لنسبة عالية من الوفيات , وهذه الظاهرة كانت معروفة بين المماليك المستجلبين من أواسط آسيا وكان يتم التغلب عليها باستجلاب اعداد إضافية مع تراجع هذه الظاهرة بين الأجيال الأقدم , كذلك عرف المماليك تراجعا في معدل الخصوبة وهي ظاهرة مهمة تستحق الدراسة من الناحية الاجتماعية عندما ينقل الناس قسراً من بيئة لبيئة مختلفة فالانسان كالنبات يعتاد على بيئة معينة ومناخ وتربة معينة .
ولكن ظلت نسبة من السودانيين متواجدة دائماً في الجيش المصري ولكن لم يعد هناك بد مما ليس منه بد , فلنبني الجيش المصري من المصريين !!
وقد أدى هذا عملياً إلى قفزة هائلة في الإستقرار الأمني الداخلي , رغم أن ذلك لم يكن الهدف الأول , بل كان الهدف الأول بناء جيش قوي للدفاع عن البلاد ثم التوسع الإمبراطوري في إطار أحلام محمد علي , ولكن وجود هذا الجيش أدى إلى الإستغناء عن الأخلاط العثمانية الأرناؤوطية وغيرها , والتي كانت قد تحولت إلى حثالة من المرتزقة تهدد الأمن الداخلي دوماً وتعتدي على الأهلين وممتلكاتهم وطرق التجارة الداخلية وكذلك انتهت الظاهرة المملوكية للأبد بعد مذبحة القلعة 1811 ولم يتم تجديدها بعناصر جديدة .
******
دعاء :
اللهم إني لا أبتغي من هذه الدراسة إلا ابتغاء مرضاتك , وسعياً لرفعة هذه الأمة المكلومة والمستنزفة . اللهم إنا نسألك نصراً عزيزاً مؤزراً . ونسألك أن تلهم امتنا الصواب , وأن توحد شملها المبعثر وأنت سبحانك الذي قلت (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز ) . ربنا اجعل همومي بأمتي كفارة لذنوبي. اللهم علمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا , وأخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم . ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .