(الصورة لواحة سيوة)
(مراسلات رقيقة بين محمد علي وعمر مكرم!
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (49))
قبل أن ننهي الملف العسكري لحملة محمد علي الحركة الوهابية بالجزيرة العربية لابد أن نشير إلى واقعة شغلت المؤرخين, وهي واقعة استغلال لطيف باشا لغياب محمد علي في الجزيرة العربية للقيام بانقلاب ضده بايعاز من دوائر السلطة العثمانية . وأهمية هذه الواقعة فيما تكشفه عن النية المبيتة دائماً في الآستانة للاطاحة بمحمد علي حتى وهو يقدم أجل الخدمات للسلطنة , حتى وهو يعيد لها السيادة على الحرمين الشريفين . هذه الواقعة ترد على الذين كتبوا في التاريخ ولا أقول المؤرخين لأن المؤرخ يتفرغ تماماً للتاريخ كراهب في المحراب ويمتلك أدوات وقدرات التحليل السياسي والاجتماعي , فكثير من الاسلاميين كتبوا في التاريخ أو تحدثوا في برامج تلفزيونية أنحوا باللائمة دائماً على محمد علي في مجال الخلاف مع الدولة العثمانية , وأنه طعنها في الظهر , وأنه كشف ضعفها كما حدث عندما ضم الشام إلى مصر مما سنأتي إليه . والوقائع الثابتة كما أوضحنا ستظل تؤكد ان الدولة العثمانية كانت هي البادئة دوماً باحداث المشكلات بل بتدبير المؤمرات المباشرة للاطاحة بمحمد علي وذكرنا فصولاً من ذلك وسنتابع فصولاً اخرى ولكننا نتوقف الآن عند حلقة واحدة هي مؤامرة لطيف باشا , وهي بالغة الدلالة لأنها لايمكن تصنيفها إلا تحت بند ( منتهى النذالة ) أن تطيح بمحمد علي بعد أن اعاد لك بل وفور أن أعاد لك مفاتيح المدينة المنورة . وكان أي عقل استراتيجي في الآستانة، كان يجب أن يدرك أهمية الاعتراف بمحمد علي حاكماً للمنطقة العربية في اطار الدولة العثمانية لأنه يسد ثغرة حقيقية لاتملك السلطنة أن تسدها , وهي حسن ادارة وسياسة المنطقة العربية أو مايسمى الشرق الأوسط أو بالتسمية في هذه الدراسة (المستطيل القرآني ) , وذلك لأن العثمانيين لم يدركوا الأهمية القصوى لهذه المنطقة في مجال الصراع العالمي , وكانوا لايتخيلون إلا ان تكون مجرد فناء خلفي لهم . ولو أدركوا لما كان من الحتمية التاريخية أن تسقط الدولة الاسلامية هذا السقوط المدوي عام 1909 ثم رسمياً عام 1924 . فقد كانت الدولة الاسلامية تضعف ولا تموت , وتنتقل من مركز لآخر ولا تفنى , تكبو ثم تصحو حتى عام 1924 حيث انتهت كلية ولم نستطع استعادتها حتى الآن بعد مرور قرابة مائة عام .
كان لطيف باشا أغا من مماليك محمد علي قربه إليه واختصه وجعله أمين خزانته , فلما جاءت الأنباء باستيلاء الجيوش المصرية على المدينة المنورة واستخلاصها من أيدي الوهابيين، أوفده محمد علي إلى الآستانة في صحبة ابنه اسماعيل ليزف البشرى إلى الديوان العالي ومعهما مفاتيح المدينة المنورة . فأنعمت الحكومة التركية على لطيف أغا برتبة (باشا ) – وكانت الباشوية كرتبة تصدر من الآستانة . وهذا أول شخص من خارج أولاد محمد علي يحصل على هذه الرتبة , وهو لم يكن له أي دور في الحجاز ! وتروي كتب التاريخ ان بعض رجال ( المابين ) وهو مايطلق على البلاط العثماني أقنعوه بالقيام بانقلاب على محمد علي ليتولى هو حكم مصر . وعندما عاد إلى مصر ظهرت في سلوكياته أمور تثير الريبة , وعندما سافر محمد علي إلى الحجاز طلب من نائبه محمد لاظ أوغلي مراقبته , وعندما تزايدت الشكوك قام بالفعل بمحاكمته وتم اعدامه ,وهي التطورات التي عجلت بعودة محمد علي لمصر.
ويشكك بعض المؤرخين في علاقة العثمانيين بهذه المؤامرة , وهو أمر غير منطقي , فلطيف باشا ماكان ليتآمر لحساب نفسه , فالتآمر في ولاية عثمانية لايكون إلا بالاتفاق مع الآستانة , فهدف التآمر ليس إلا من أجل الحصول على موقع الوالي , خاصة شخص من نوعية لطيف ليس لديه رؤية لمشروعات انشقاقية ( كعلي بك الكبير مثلاً ) . والمحتمل أن عناصر البلاط العثماني لم تدفعه للانقلاب الفوري ولكن للتحضير بهدوء وبالتدريج للانقلاب لأن الوقت غير مناسب في ظل انتصارات محمد علي في الجزيرة العربية ولأن الأمر يحتاج لتحضير . ومن الأمور التي اثارت شكوك محمد علي قبل سفره للحجاز أن لطيف باشا كان يحاول إقناعه للعودة إلى استجلاب المزيد من المماليك .
عمر مكرم يهنئ محمد علي بالنصر :
كان انتصار محمد علي على الحركة الوهابية مدعاة لحالة من السرور والفرح والأفراح والاحتفالات في مصر وفي مختلف ارجاء العالم الاسلامي , امتزج فيها ماهو رسمي مع ماهو شعبي ,وكان الأمر الذي يهم الناس هو عودة شعيرة الحج التي كانت قد انقطعت لعدة سنوات وكان الوهابيون قد منعوا دخول المحمل من الشام ومن مصرعلى أساس انه يتضمن مظاهر غير اسلامية . ولكن لعل محمد علي لم يسعد وسط هذه الاحتفالات قدر ماسعد بالتهنئة التي وصلته من السيد عمر مكرم يشيد فيها بما احرزه من نصر للاسلام والمسلمين ومع الأسف فإن الجبرتي لم ينشر نص الرسالة , ولكنه نشر نص الرسالة التي بعثها محمد علي رداً لعمر مكرم على رسالته . وهي جديرة بالتسجيل في ظل ماحدث بين الرجلين الكبيرين من خلافات .
النص
{إلى مظهر الشمائل سيفها, حميد الشئون وسميها سلالة بيت المجد الأكرم والدنا السيد عمر مكرم :
أما بعد فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف تهنئة بما أنعم الله علينا , وفرحا بمواهب تأييده لدينا , فكان ذلك مزيداً في السرور ومستديماً لحمد الشكور ومجلبة لثنائكم واعلانا نبيل منا كم جزيتم حسن الثناء مع كمال الوفاء , ونيل المنى ,هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الاذن في الحج الى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام للرغبة في ذلك والترجي لما هنالك . وقد أذناكم في هذا المرام تقرباً لذي الجلال والاكرام ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام فلا تدعو الابتهال ولا الدعاء لنا بالقال والحال كما هو الظن في الظاهرين والمأمول من الأصفياء المقبولين والواصل لكم جوابا منا إلى كتخانا ولكم الاجلال والاحترام مع جزيل الشكر والثناء}
ويعلق احمد حسين على ذلك بقوله : ( وهكذا خاطب محمد على السيد عمر مكرم باعتباره والدا له ولعله أراد في ذلك أن يكفرعن خطيئته نحوه ) وكان محمد علي قبل ذلك قد وافق على انتقال السيد عمر مكرم من دمياط إلى طنطا . وقد عاد السيد عمر مكرم بناء على هذا الخطاب إلى القاهرة وأقبلت عليه جموع المهنئين حتى ازدحمت بهم داره مرة اخرى . ولم تساعد عمر مكرم صحته على تحقيق رغبته في الحج . فظل ملازماً بيته حتى وافته المنية . رحمة الله عليه .
ضم واحة سيوة لمصر!!
عندما بدأت الكتابة عن عهد محمد علي في هذه الدراسة كان تقييمي العام لهذا العهد هو هو الذي توصلت إليه عندما وصلت إلى نهايتها تقريباً , ولكن لا أكتم أنني أصبحت أكثر اندهاشاً من كم المنجزات التي تمت في عهده وقد تكشفت لي تفاصيل هذه المنجزات , بل تكشفت لي منجزات ” جديدة” أي لم أكن على علم بها , لأن لا أحد يتحدث فيها ولم ندرسها بالطبع في المناهج الدراسية . فقد كنت أعلم أن محمد علي صانع خريطة السودان الحالي , ولكن لم أكن أعلم أنه استكمل أيضاً بعض ملامح الخريطة المصرية نفسها . محمد علي هو الذي قام باعادة ضم واحة سيوة لمصر بعد أن اصبحت لفترة طويلة خارج السيطرة المركزية في اطار اضمحلال الدولة المصرية في العهد العثماني ( قرابة 3 قرون ) والحقيقة فإنني لا أتبين متى آخر مرة كانت سيوة تابعة للحكم المصري , ونعلم من التاريخ أن واحة سيوة كانت جزءاً لايتجزأ من مصر في العهد المصري القديم وان الاسكندر الأكبر عندما غزا مصر زارها , وقيل أنه زار معبد آمون فيها , وأنه عمد نفسه إبناً لآمون في هذا المعبد ليرسخ شرعية حكمه لمصر , وواحة سيوة من الأماكن التي تم البحث فيها عن جثمان الاسكندر المفقود ولكن لم يتم العثور عليه لا في سيوه ولافي الاسكندرية ولافي أي مكان حتى الآن .
في فبراير 1820 جهز محمد علي تجريدة من 1300 جندي بقيادة حسن بك الشماشرجي لفتح واحة سيوة ونشب قتال بينه وبين أهلها دام ثلاث ساعات وانتهى بهزيمة الأهلين وخضوعهم وطلبهم الأمان واعترافهم بالطاعة والولاء للحكومة المصرية . وقد جرى ذلك قبيل حملة فتح السودان , وكأنه أراد أن يأمن حدود مصر الغربية قبل الزحف جنوباً . وأعقب هذا الفتح توارد بعثات لكشف الأثار وتوصلت لمعلومات مهمة حول تاريخ وحضارة مصر .منذ ولدنا لم نسمع عن واحة سيوه إلا كل خير , وأن أهلها كرماء مضيافون , وانها تذخر بامكانات زراعية كبيرة لتوافر المياة الجوفية بها إلى حد التفجر . والذي لايعرفه كثيرون أن أهل سيوه الأصليين جميعا من الأمازيج ( البربر) وكلهم مسلمون كباقي الأمازيج في شمال افريقيا . والأمازيج هم أهل شمال افريقيا الأصليين قبل موجات الهجرة العربية الكبرى التي تدفقت مع الفتح الاسلامي من مصر حتى المغرب والأندلس وبعض جزر غرب المتوسط . وقد اختلط العنصران الأمازيجي والعربي بانصهار كبير بفضل الاسلام الذي دخل فيه الجميع خلال فترة غير طويلة ,بينما كان البيزنطيون ( أو الامبراطورية الرومانية ) لم يتمكنوا من توطين الدين المسيحي . وكان الأمازيج أقرب إلى الوثنية قبل دخول الاسلام . والآن يمكن الحديث عن الاسلام بنسبة 100% تقريباً في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب مع وجود أقلية يهودية محدودة في المغرب وأقل من ذلك بكثير في ليبيا وتونس ولعل هؤلاء اليهود من مطاريد الأندلس , حيث طرد الصليبيون المسلمين واليهود معاً أو ماتبقى منهم بعد المذابح التي أقيمت لأتباع الديانتين , وكان اليهود يعيشون بحرية في ظل النظام الاسلامي الأندلسي , وتركز الأمازيج يتزايد كلما توجهت غرباً , فالكتلة الأكبر في المغرب والجزائر ثم أقل في تونس وليبيا حتى يصلوا إلى منطقة واحدة في سيوة .
وتاريخياً لم يكن للأمازيج ( البربر) دولة موحدة فقد كان سكان شمال افريقيا أشبه بالجزر الصحراوية المبثوثة في تضاعيف المحيط الصحراوي الكبير أو في الجبال أو في المدن الساحلية وكان انقسامهم إلى مدر ( حضر ) ووبر ( بدو صحراويون ) مما أدى الى عدم نشوء دولة بربرية موحدة وقد ساعد على ذلك أيضاً عدم وجود أي لغة يتفاهمون بها كلهم , وطريقة يكتبون بها ما يريدون كتابته وهذا ماساعد على تعلمهم للعربية التي اصبحت اللغة الموحدة لهم جميعا. وكانوا خاضعين للنفوذ الروماني خاصة في المدن الساحلية التي اهتم الرومان باحتلالها كثغور بحرية بالاضافة لقربها من الشريط الساحلي الزراعي خاصة في تونس والجزائر وقام الفتح الاسلامي بطرد الروم ونشر الدعوة بين أهل شمال افريقيا وتركوا الأرض الزراعية في ايديهم كمافعلوا في مصر والشام والعراق وهي السياسة التي أقرها عمربن الخطاب وسار عليها من بعده . في البداية دخل اهل الشمال الافريقي في الاسلام بسهولة ولم يقاوموا الفتح الاسلامي إلا قليلا بالتعاون مع الروم وبتحريض منهم في المواقع التي تواجد فيها الروم . وامتد الاسلام سريعاً من مصر إلى برقة حتى طنجة في المغرب بين 20 و64 هجرية . ولكن فشت الردة بين البربر وقاموا بحملة عسكرية مضادة عام 64 هجرية بالتعاون مع الروم , ولكن عاد المسلمون الى طنجة عام 69 هجرية واستقر المسلمون على طول الشريط الشمال افريقي على يد حسان الغساني ( من التابعين) 82 هجرية ثم أعاد موسى بن نصير فتح طنجة 85 هجرية واستقر الاسلام هذه المرة في صفوف البربر حتى شجع ذلك على فتح الأندلس بسواعد الكثيرين منهم وعلى رأسهم طارق بن زياد عام 92 هجرية . والدخول في الاسلام والاستقرار فيه بين 20 هجرية و85 هجرية أي خلال 65 عاما هي فترة قصيرة للغاية اذا قورنت بدخول أغلب المصريين في الاسلام بعد 280 عاماً , في حين أن دخول البربر كان ولايزال بنسبة 100% . ولعل تفسير ذلك ان المصريين كانوا يدينون بدين سماوي ( المسيحية ) وان أدخلوا عليه تعديلات , في حين كان البربر وثنيين ولم يجذبهم الروم الى مذهبهم المسيحي وأنا استخدم مصطلح ( البربر) لأنه هو الموجود في كتب التاريخ وهي التسمية التاريخية الصحيحة وهي لاتعني المعنى العامي المستخدم الآن ( البربرية بمعنى الهمجية ) , وهم يفضلون كما قال لي أحدهم عدم استخدام هذا التعبير واستخدام تعبير (الأمازيج) ولكن الأمازيجية هي في الأساس لغة البربر وهي لغة ( محكية ) غير مكتوبة كلغة النوبة . وانا مع مراعاة مشاعر الأخوة في شمال افريقيا ولكنني استخدمت عمداً حتى الآن ( البربر) لأن هذا هو الاسم التاريخي لهم , واذا قرأت في اي كتاب أو مرجع تاريخي لن تجد سواه . فاذا تحدثت عن الأمازيج دون توضيح فالقارئ لن يجد هؤلاء في كتب التاريخ !! فيحدث ارتباك أو توهان وبعد هذا التوضيح فمن الآن فصاعدا لن استخدم سوى تعبير (الأمازيج او الامازيغ ) وسألقي الضوء سريعاً على هذه القضية ليس بسبب سيوة ( وان كان بمناسبة الحديث عنها ) لأن سيوة لاتمثل أي مشكلة في مصر أو لمصر فهم منتمون للمصرية باخلاص . وعددهم القليل في واحة معزولة لايغري أي أحد بعمل أي نشاط انشقاقي عرقي والاسلام مستقر بينهم 100% وأخلاقهم حميدة يشيد بها من يزور الواحة كما ان نساءهم منتقبات ولكن القضية الأمازيغية أصبحت خطيرة من وجهة نظري ولا ينتبه إليها أهل الاسلام في شمال افريقيا أو في عموم البلاد الاسلامية . وأنا مهتم بها لأنها قضية خطيرة واقعة على حدود المستطيل القرآني , وليس في داخله . وبطبيعة الحال فان هذه الدراسة لاتتعصب للمستطيل وتهمل كل ماهو خارجه في العالم العربي والاسلامي . فما المستطيل القرآني – من وجهة نظرنا – إلا مركز الدولة الاسلامية العظمى الماضية والمرتقبة باذن الله . وهذا المركز لا أهمية له إذا لم يمد جناحيه شرقاً وغرباً في ربوع العالم الاسلامي . وإن أهم جزء يليه – كما حدث في صدر الاسلام – هو شمال افريقيا أو مانسميه الآن المغرب العربي , دون التقليل من اهمية التلاحم مع تركيا وايران في اتجاه الشمال والشرق الاسلامي حتى اندونيسيا , والأولوية ستكون دوما في اتجاه الأكثر استعداداً وقرباً وتقبلاً للوحدة الاسلامية وقد أوضحنا من قبل أنها ستكون – وفق تصورنا – أقرب للنظم الكونفدرالية التي تعتمد أقصى درجات اللامركزية , قريبة الشبه بالاتحاد الاوروبي – وبحلف الناتو – ومجموعة السبعة الكبار مما يحتاج تفعيله إلى دراسة خاصة , فنحن نعيش الآن في مرحلة تحرر كل قطرعلى حدة من التبعية والهيمنة الخارجية والعودة الى المرجعية الاسلامية ثم نأتي لمرحلة تقارب هذه الأقطار الاسلامية مع بعضها البعض , ثم التوصل الى شكل من الوحدة أو الاتحاد أو التعاون والتعاضد أو تشكيل جبهة موحدة في السياسة الدولية وكل هذه أشكال ودرجات من الوحدة التي دعانا إليها ربنا ( وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون )
غاصت مسألة الأمازيجية في بحار الاسلام العميقة والجميلة , الاسلام الذي وحد دوما بين البشر جميعا ” فكلكم لآدم وآدم من تراب ” ولافرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى سواء هناك في المغرب العربي أو هنا في المشرق نحن لا نعرف سوى الجزائري والمغربي , ولم يلتفت أحد إلى أن زعيم المقاومة المغربية عبد الكريم الخطابي الذي أثرت تجربته في حرب العصابات في أفكار ماوتسي تونج الصيني وجيفارا الكوبي واستقبلناه في مصر , من أصل أمازيجي فقد كان صاحب عقيدة اسلامية دارساً للقرآن حافظاً له , وان كان يتحدث بالأمازيجية مع العربية طبعا. فقد بقت خاصة في المغرب والجزائر , مناطق أمازيجية , لم تختلط فيها الدماء بصورة كاملة , بسبب المعيشة في بعض المناطق الجبلية الوعرة ,وهي ظاهرة قريبة من ظاهرة الأكراد وان كانت جبال الكرد أشد وعورة وبالتالي أصبحوا أكثر إنعزالا.
المهم نحن لم نشعر – هنا في الشرق – بأي أثر لاستمرار هذه الأصول العرقية مع العلم أنه في الجزائر والمغرب حيث التركيز الأكبر للأمازيج حدثت عمليات تزاوج واسعة بين العرب والأمازيج . وربما حدث هذا بدرجة أكبر في تونس وليبيا . وكل هذا لا يشكل أي مشكلة , بل لم نسمع بها من قبل , ولاتشغلنا في شئ لأنها من طبيعة قوانين الاجتماع البشري , ولكن اليهود والغرب لا يتركوننا في حالنا , وهم لايريدون لنا الاستقرار , وكما يهتمون في المشرق باستثمار الخلاف الشيعي – السني وهذا لم يحدث إلا بعد قيام الثورة الايرانية . أو استثمار الفالق الجغرافي والعرقي بين الكرد والعرب وبين الفرس والعرب . وبين الترك والعرب (لواء الاسكندرونة السوري الذي ضمته تركيا الأتاتوركية عقب الحرب العالمية) وفي السودان يستغلون وجود أقليات مسيحية أو وثنية , أو فالق عرقي بين العربي والافريقي في دارفور وكردفان , أو فالق اجتماعي بين الرعاة والمزارعين وفي مصر يتم استغلال المسألة المسيحية ومسألة النوبة في أقصى الجنوب . ففي شمال افريقيا تطورت المسألة الأمازيجية بصورة دراماتيكية في العقود القليلة الماضية وأصبحت ظاهرة على السطح بصورة خطيرة وكأنها مسألة تحرر وطني وحق تقرير المصير . وفي فرنسا الموكل إليها أمر المغرب العربي , تم تأسيس معهد أمازيغي يرأسه أحد اليهود . وتعددت الأنشطة الغربية لاحياء مسألة الأمازيج , وقد لاحظت ذلك بقلق خلال زياراتي المتعددة للجزائر والمغرب , وعلى طريقة تأسيس منظمات المجتمع المدني انتشرت في الجزائر والمغرب صحف ومجلات ومنظمات تدعو لإحياء الثقافة الأمازيجية . والمعروف ان اللغة الأمازيجية لغة محكية غير مكتوبة كلغة النوبة والتي هي لغة محورة من اللغة المصرية القديمة . فبدأت معاهد في فرنسا وغيرها تبحث كيفية تحويلها إلى لغة مكتوبة وهو أمر يظهر فيه الافتعال . فاذا كان اليهود سعوا لإحياء لغة ميتة ( العبرية ) فذلك لأنهم كانوا يعدون لبناء دولة يهودية , كما أن اللغة العبرية كانت مكتوبة . أما السعي لكتابة لغة شفوية بصورة متعمدة فهى محاولة للتمزيق الاصطناعي واحداث الفرقة .وظهرت ابحاث وممارسات لاحظتها في المغرب , هل نكتب الأمازيجية بحروف عربية أو لاتينية . ولا أعرف إلى ماذا انتهوا في هذه القصة فمنذ سنوات لم اذهب الى المغرب .
وفي عهد الملك الحسن ( والد الملك محمد السادس الحالي ) حيث كان مساعده الرئيسي يهودي وربما لايزال اليهود مؤثرين داخل البلاط الملكي , وفي اطار تبعية النظام المغربي عموما للغرب , سبقت المغرب في اطار إثارة النقرة الأمازيغية ( أحياناً تنطق بالغين وأحياناً بالجيم) فقرر الملك الحسن اذاعة النشرة الاخبارية في القنوات الرسمية باللغة الأمازيغية بعد اللغة العربية والفرنسية , فأصبحت النشرة تتكرر بثلاث لغات ! وقد شاهدت ذلك بنفسي في إحدى زياراتي للمغرب في آواخر التسعينيات من القرن العشرين . ثم حدث أمر أكثر طرافة . فكما قلنا فان لغة البربر الشفوية ليست موحدة بينهم بل تنقسم إلى عدة لهجات لايفهم المتحدثون بها بعضهم البعض , وقد كان هذا من اسباب إقبالهم على اللغة العربية كلغة مشتركة للجميع. وحدث أمر كهذا في جنوب السودان قبل الاستقلال وحتى الآن لأن لغات القبائل ليست موحدة فاعتمدوا على اللغة العربية للتواصل المشترك . فماذا فعل الملك الحسن ؟ لن تتخيلوا! فعندما اعترض بعض الأمازيغ على عدم فهمهم للنشرة الاخبارية . قرر اذاعة النشرة باللغة الأمازيغية 3 مرات وفق أكثر ثلاث لهجات انتشاراً . وهذا أمر أتحدى أن تكون قامت به أي دولة في العالم , وكأن المغرب يسعى لتفتيت نفسه بالقوة . وهي عملية أشبه بالانتحار البطئ . وكان تعدد اللغات أو اللهجات المحكية، كان يفترض إغلاق هذا الباب على اساس عدم وجود لغة موحدة لا فتح الباب على مصراعيه .
وفي احدى زياراتي للجزائر التقيت بحزب الثقافة القومية برئاسة السعدي وقال لي كوادر الحزب إننا نسعى لإحياء الثقافة الأمازيغية , ونحن حزبنا كله من البربر . ويعتبر هذا الحزب حزباً فرنسياً أو موالياً لفرنسا والغرب ويعلن توجهه الغربي والمتغرب بدون مواربة أو التفاف. وتوجد أحزاب أخرى مماثلة على نفس هذه القاعدة وهم يتركزون في منطقة القبائل بالاضافة لتواجدهم في العاصمة والمدن الكبرى وأشهرها ( تيزي أوزو) . وهؤلاء كانوا من أشد أعداء التوجه الاسلامي لجبهة الانقاذ الاسلامية التي فازت في الانتخابات في اوائل التسعينيات من القرن العشرين , مما استدعى انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس الشاذلي بن جديد الذي ارتضى بنتيجة الانتخابات ولم يكن يرى بأساً في تولي الاسلاميين للحكم ولو على سبيل التجربة وباعتبارهم مواطنين جزائريين . وقد كنت في الجزائر في هذه اللحظات الحرجة لحضور الدور الثاني للانتخابات التشريعية بعد أن فازت جبهة الانقاذ بـ 80% من المقاعد في الدور الأول وحسم الأمر لذلك وقع الانقلاب قبل اجراء الانتخابات في الدور الثاني .
ثم حدث في الجزائر تطور مؤسف منذ سنوات قليلة في عهد عبد العزيز بوتفليقة حيث تم ادخال تعديل على الدستور باعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية في البلاد . وهذه مهزلة كبرى اذ تستجير الجزائر من رمضاء الفرنسة بنار الأمازيغية وهي لم تنجح بعد تماما في عملية التعريب ولايزال عموم الجزائريين يتحدثون بالفرنسية أو يخلطون العربية بالفرنسية (فرانكوآراب) لذلك أحياناً تعاني من الحديث مع مواطن جزائري في الطريق العام.
العودة إلى الاسلام وزيادة وزن التيار الاسلامي هي التي أعادت بعض الرونق للغة العربية . ولعل المغرب أجرى مثل ذلك التعديل الدستوري لم أتأكد فلا أتمكن من متابعة القضية بعد عودتي من زياراتي للبلدين لانشغالاتي المصرية والمشرقية .
في آخر زيارة لي للمغرب وجدت أكشاك الصحف تعج بالصحف الأمازيغية وان كانت مكتوبة بالعربية . ولا تنقطع الاحتفالات في مناسبات مفتعلة لإحياء مايسمونه الثقافة الأمازيغية حتى الاحتفال برأس السنة الأمازيغية وفقاً لتقويم خاص قديم . وكذلك حفلات المأكولات الأمازيغية والجمعيات الثقافية , حالة من الحمى المفتعلة, وكأن المغرب تنتفض لتعود إلى هويتها الأصلية التي سرقها العرب والاسلام . والتمويل الغربي والدعم الاعلامي الغربي واضح لا يحتاج لأي جهد لاستنتاجه . والحكومة المغربية تشجع ذلك أو تصمت عنه باعتبارها من أمور الديمقراطية !!
وهناك توجه غربي – يهودي واضح لتصعيد الاهتمام المفتعل بهذا , كما نتعرض في مصر أحياناً لصراعات ( أو هوجات مؤقتة) حول إحياء الفرعونية واللغة الهيروغليفية أو إحياء اللغة القبطية مع ان الانجيل لم ينزل بهذه اللغة .
ولكن الموضوع في المغرب والجزائر أصبح أكثر صخباً وعلواً حتى فرض نفسه على الدستور وعلى نشرات الأخبار الرسمية .
وأخطر من كل ذلك فان التيارات الاسلامية في المغرب مثلاً لاتدرك خطورة هذا الأمر وربما تخشى إثارته حتى لاتخسر جماهيرياً في قطاعات الأمازيغ خاصة في الانتخابات . لا تكترث التيارات الاسلامية كثيراً بهذا الأمر وتقول إننا نحن أنفسنا أمازيغ ! وليست هذه هي القضية . نحن أمام افتعال حالة ثقافية لتتحول إلى مسألة قومية ويمكن أن تؤدي يوما ما إلى المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال .واذا لم تتحقق هذه المخاطر فعلى الأقل نجد أنفسنا أمام حالة من تمزيق المجتمع , وتعدد الولاءات الوطنية وخلق حالة من الشقاق وعدم الانسجام , بل وتوظيف القضية في تعميق العداء للعروبة والاسلام . وكثيراً ما ينقل الاعلام الغربي أنباء عن اجتماعات مجمعة للأمازيغ ومؤتمرات تضم عناصر أمازيغية من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وواحة سيوه , وربما من بعض جزر البحر المتوسط والمحيط الأطلسي . وقرأنا عن تشكيل جبهة أمازيغية في ليبيا !! وهي من البدع التي لم يكن لها وجود منذ قرون في شمال افريقيا. والاسلام لا يعادي تعدد الأعراق والقوميات واللغات , ولكن بلاشك لا يسعى لتعميق المفاهيم العرقية والقومية واحياء اللغات الميتة وتحويلها بافتعال إلى لغات مكتوبة بينما لا يوجد في الآثار أي كتابات قديمة لهذه اللغة .
في المجتمعات الأوروبية هناك قوميات متعددة وأيضاً لغات قديمة ولكنهم لايسعون لاحيائها أو تعميق الأصول القومية للمجموعات العرقية مثل ماهو الحال في فرنسا وأسبانيا ولا توجد أي محاولة لاحياء اللغات الميتة . ونمو النزعة الانفصالية في كتالونيا يستند إلى هذه الأسس القومية واللغوية لكن لا الدولة الاسبانية ولا الاتحاد الاوروبي يشجع نمو هذه الاتجاهات وإلا لتمزقت أوروبا للعديد من الشظايا . ومثال آخر في قومية الباسك التي تضم 3 مقاطعات أسبانية ومقاطعتين فرنسيتين ولها لغة خاصة . ولكن ما لا يرتضونه لأنفسهم حفاظاً على وحدتهم وتماسكهم يصدرونه لنا بإحكام وتخطيط , فالمؤسسات الثقافية الاستعمارية التي تشكلت إبان الغزوات الفرنسية لشمال افريقيا وغربها , لم تكف عن العمل بعد انهاء الاحتلال العسكري فهي ماتزال تعمل بقوة للحفاظ على الهيمنة والسيطرة والتبعية , كما هو الحال فيما يسمى المؤسسات الفرانكوفونية .
والآن نعود إلى فتح السودان بعد أن تمت إعادة سيوة للوطن !!