مجدى حسين – ) الصورة لانسحاب الجيش الاسرائيلى من غزة
الطريف أن الذين تصدوا للمشروع الصهيونى كانوا علمانيين ولكنهم رأوا ان مزج المشروع القومى بالدين هو سر نجاحه المفترض. وهكذا تجمع المتدينون وغير المتدينين تحت لواء مشروع وطن قومى لليهود فى فلسطين .وان كانت بعض الفرق المتدينة رفضت التجمع فى فلسطين فى دولة حتى يأتى المسيح . ورأت إن إقامة دولة فى فلسطين معجزة الهية وليست من أعمال وتدبير البشرويجب انتظارها حتى يأتى المسيح . كذلك كان كثير من العلمانيين متخوفين من مشروع الدولة ، لأنه سيعرضهم فى بلاد أوروبا لتهم الازدواجية وعدم الوطنية . وكان اليهود قد حصلوا بالكاد على الحد الأدنى من حقوقهم الانسانية والديموقراطية فى أوروبا مع الثورات التى أنهت الحقبة الاقطاعية . ومن طرائف التاريخ الصهيونى أنه كان هناك توجه لتسمية الدولة باسم فلسطين ، ولكنهم عادوا فى اللحظة الأخيرة لتسمية دولة اسرائيل.
ويقول ناحوم جولدمان أحد زعماء الصهيونية : ( ان اسرائيل هى الدولة الوحيدة التى لاتستمد من الحقيقة بل من الفكرة _ وهذا ما أشرت إليه فى المقال السابق – وليس من الوضع الواقعى ، بل من أمل اليهود وإيمانهم أى أن عدم اليقين حالة اسرائيلية) . وفى دراسة كتبتها مجموعة من الخبراء الصهاينة عام 1986 توقعاتهم عن اسرائيل عام 2000 كتب اليعيزر شافيد : ( إن صميم وجود اسرائيل معرض لتهديد ملموس اذا لم يتحقق مايلى :
أولا زيادة كبيرة فى عدد اليهود خلال 10 سنوات .ثانيا : توسع الاستيطان فى الجليل وغور الأردن والنقب بصورة كبيرة . ثالثا : اذا لم نتغلب على الاعتماد الاقتصادى المطلق تقريبا على الولايات المتحدة .رابعا: اذا لم نوفق فى العثور على وسيلة أكثر نجاحا للتعايش بين المتدينين والعلمانيين .).
ومن الواضح أن أيا من هذه النقاط لم يتحقق سوى فيما يتعلق باستكمال تهجير اليهود من الاتحاد السوفيتى . ولم يعد هناك أى مصدر آخرلجلب أعداد كبيرة من اليهود فما يزال أغلب اليهود يعيشون مستقرين خارج اسرائيل خاصة فى أمريكا وغرب أوروبا . أما الجليل فلايزال يشهد أغلبية عربية والاستيطان يعانى من التدهور فى غور الاردن والنقب . بل إن النقب يضرب به المثل على فشل الاستيطان وكمكان لتهميش اليهود الشرقيين ( السفرديم ) بل إن المستوطنات المحاذية لغزة تشهد أزمة مضاعفة بسبب الصواريخ الفلسطينية . أما الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة فلا يزال قائما .أما المشكلات بين المتدينين والعلمانيين فقد ازدادت تفاقما ووصلت إلى حد إغتيال رابين رئيس الوزراء .إذا وفق تقديرات شافيد وهو برفيسور محاضر فى دائرة الفكر الاسرائيلى بالجامعة العبرية فان صميم الوجود الاسرائيلى مايزال معرضا لتهديد ملموس .وهى نفس تقديرات اليشع افرات أستاذ الجغرافيا فى جامعة تل أبيب حيث يقول : ( إن مبادىء أساسية مثل الاستيطان الزراعى والقروى كقاعدة لقيام دولة ، مثل ضرورة الاستيطان الطلائعى فى المناطق الحدودية وعلى امتدادها ، والسعى لتوزيع السكان على المناطق والأقاليم النائية فى النقب والجليل ومنطقة الجبل ، واستيطان الصحراء وخلافه من المبادىء ، كل هذه الأمور فقدت الكثير من حيويتها مؤخرا ويبدو أنها لم تعد قادرة على تحريك السكان ورؤوس الأموال بنسب ملحوظة .).
وبعدمرور 35 عاما من هذا الكلام لايزال معظم الاسرائيليين متركزين فى مثلث وسط فلسطين المحتلة يعانى من اكتظاظ سكانى شديد، بصورة أضحت تؤثر على البنية التحتية والخدمات . ولكن الأهم من ذلك مايمثله هذا الوضع من خطر على أمن الكيان المتمركز فى 10 آلاف كيلومتر مربع .
وعلى طريقة بن جوريون الصريح ( وهو من أبرز مؤسسى اسرائيل ) فقد كان يقول : علينا أن نسأل أنفسنا سؤالا لايسأله أى شعب : هل نحن شعب ؟ وأنا أجيب لسنا شعبا حتى الآن .. اليهود يأتوننا من الدول كافة ولاتوجد لديهم لغة مشتركة وليس لديهم فكرة عن اتساع الفجوة بين القادمين من بلدان مختلفة “. وكان بن جوريون يعول على الجيش ليكون بوتقة لصهر عناصر هذه الأمة الجديدة . ولكن بعد مرور عشرات السنين فأن الاحصاءات تشير إلى انه لايخدم فى الجيش خدمة كاملة إلا نصف الاسرائيليين . بل تنتشر مقولة شعبية تقول : إن ثلث المجتمع الاسرائيلى يخدم عسكريا فعلا وأن ثلثه يدفع الضرائب وثلثه ينصاع للقانون فى حياته اليومية ، والمشكلة أنه الثلث نفسه !!
وهكذا فبعد تآكل المستوطنات الزراعية ، الكيوبتزات ، والتجمعات الحدودية كبوتقة لبناء الدولة هاهى أهم بوتقة ( مؤسسة الجيش ) تخرج عن أداء مهمتها التى حددها مؤسس الدولة لصهر القادمين من مختلف الأعراق والبلدان .
ويأتى هروب نصف الاسرائيليين من التجنيد فى إطار نوع من التهرب المقنن من خلال استغلال ثغرات قانونية وشهادات صحية مزيفة أو التسجيل فى مدارس دينية وغيرها من الثغرات .الأهم أن الكيان الصهيونى تعايش مع هذا التصدع ولم يقاومه رغم انه لم يتوقف عن استخدام الجيش فى حروب متتالية أو كأداة لقمع الانتفاضات الفلسطينية . لقد تحول الكيان الصهيونى من كيان متقشف محارب إلى كيان استهلاكى ترفى . فهناك بون شاسع بين حياة الغزاة الأوائل لفلسطين الذين جاءوا باندفاعة المشروع الجديد باستعداد نفسى للبذل والعطاء ، وفى ظل ظروف معيشية بالغة القسوة ( راجع على سبيل المثال مذكرات جولدا مائير ومذكرات مناحيم بيجن ) وبين حياة الآجيال الصاعدة الآن فى اسرائيل ، فهؤلاء لايفكرون بعد الأمن إلا فى الحياة الاستهلاكية الترفية ، حتى قيل ان الشاب الاسرائيلى لايفكر الا فى ثلاثة ” فى”
فيديو – فولفو – فيلا . وذلك فى زمن ظهور الفيديو! وبدأ شيمون بيريز يتحسر على أيام الكيوبتزوالموشاف ويقول : (إننا نقضى على ما كان مصدرا لاعتزاز دولة اسرائيل لفترة طويلة ولكن لا ينبغى التنازل عن الحلم الاسرائيلى الذى يجب ألا ينحصر فى شراء الفيديو أو بمشاهدة مسلسل دالاس الأمريكى !)
وكان من ضمن أعمدة الكيان الصهيونى الدور الطاغى للدولة والقطاع العام فى الاقتصاد ، أما الآن فقد انخفض دور القطاع العام إلى أقل من النصف .، وقد كان القطاع العام متداخل مع اتحاد العمال الاسرائيلى الهستدروت الذى هو العمود الفقرى لحزب العمل وقد أدت الخصخصة إلى تدهور مكانة حزب العمل . ومن الأمور الملفتة للنظر توجه اسرائيل للاستعانة بعمالة أجنبية وعدم الاكتفاء بالعمالة الفلسطينية ، وبذلك تهدم قيمة من أهم قيم بناء اسرائيل وهى إحياء قيمة العمل وعاد الاسرائيليون كما كان اليهود عبر التاريخ لايقومون بالعمل اليدوى ويتخصصون فى الصرافة والتجارة وبعض الحرف والمهن . وأشار استطلاع رأى فى صحيفة معاريف إلى نتائج خطيرة إذ ذكر قرابة نصف الاسرائيليين إنهم يشعرون بالوحدة بينما ذكر قرابة الثلث إنهم يشعرون بالوحدة من حين لآخر. أما على صعيد الانهيار الأخلاقى فيكفى أن تل أبيب أصبحت توصف بأنها العاصمة الأولى للدعارة فى العالم ومرتع أساسى للشذوذ الجنسى حيث تجتمع على أرضها الاجتماعات الكبرى للشواذ فى العالم . وكشفت دراسة اسرائيلية ان واحدا من كل أربعة اسرائيليين مستعد لمغادرة اسرائيل اذا ما أدى ذلك لتحسن وضعه الاقتصادى.. وقال حوالى 50% من الآباء الشباب إنهم سيشجعون أبناءهم على مغادرة الدولة .
ورغم مايبدو ان فى الحركة الاستيطانية التوسعية فى الضفة الغربية دليل على استمرار عنفوان مشروع اسرائيل الكبرى ، لابد أن نتذكر أولا أن اسرائيل انسحبت من كل سيناء وان كنا اعترضنا على شروط هذا الانسحاب ولكنه يظل انسحابا من مشروع اسرائيل الكبرى خاصة وان سيناء تمثل مكونا رئيسيا فى العقيدة اليهودية بالسنوات الطويلة التى أمضاها موسى فى سيناء وما بها من رموز لأحداث كثيرة ذكرت فى التوراة . كذلك اضطرت اسرائيل للانسحاب من لبنان برمته عام 2000 بدون قيد أو شرط مع الاحتفاظ بنقطة صغيرة ( مزارع شبعا ) ثم انسحبت عام 2005 من غزة . وهى تسلم بضياع نصف الضفة الغربية ولكن تسعى لعدم قيام دولة فلسطينية عليها . وكانت موافقة اسرائيل على أوسلو تعنى أنها مستعدة للتفاوض على يهودا والسامرة وهذا ما يخدش النقاء العقائدى لمشروع اسرائيل الكبرى ، وبالتالى فإن تعزيز الاستيطان فى القدس والضفة الغربية هو خط الدفاع الأخير عن آخر ما تبقى من مشروع اسرائيل الكبرى . ومن الواضح حجم المقاومة الفلسطينية الشرسة فيهما الضفة والقدس وتداخل المقاومة المسلحة فى غزة مع هذا الأمر، سيفشل هذا التوجه بإذن الله . ومن الواضح أن فكرة الترانسفير أى التهجير الجماعى للفلسطينيين أصبح من ذكريات الماضى الصهيونى والأوضاع المحلية والاقليمية والعالمية لاتسمح بذلك الآن .وبالتالى فإن مشروع اليمين المتطرف الحاكم حاليا فى اسرائيل يسير فى طريق مسدود سواء بقيت هذه الحكومة أو عاد نتنياهو.
لقد فقد الجمهور الاسرائيلى الثقة فى الطبقة السياسية ككل حتى لقد جاء فى استطلاع لمعاريف أن 88% من الجمهور يعتقد ان زعامات الدولة تفتقد النزاهة والعدالة ويعتقد 69% ان مستوى القيادة فى تدهور. ومع ذلك فقد وصل الانحلال المجتمعى ولا نقول الانحلال السياسى إلى حد أن يبقى رئيس وزراء لص فى الحكم لمدة عامين ومتهم فى 3 قضايا فساد والنيابة تقر بذلك ولكنه لايفعل سوى تعطيل هذه المحاكمة ولايزال يقدم نفسه على أساس أنه منقذ اسرائيل ولايزال يحصل على تحالف من 59 مقعدا فى الكنيست .