وابراهيم باشا يحوز لقب “بونابرت الشرق “
المصريون يدخلون مدينة الزيتون (كلاماتا(
أساطيل أوروبا تتجمع لضرب الأسطول المصري في نافارين
-الصورة لمعركة نفارين-
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (51)
كان يمكن أن نعرض للحملة العسكرية المصرية على بلاد الموره ( اليونان ) في سطور قليلة ولكنك اذا قرأت التفاصيل لابد أن تصاب بالذهول من عدة زوايا:
1- فهذه الحرب التي استمرت من 1824 -1828 برهنت على أن مصر قد أصبح لديها جيش من الطراز العالمي ( الأوروبي) خلال زمن قياسي , جيش محترف حديث نظامي ينتهج أبرع التكتيكات البرية والبحرية , ويقاتل بشراسة وبسالة وينتصر دوماً !! حتى وهو يقاتل جيشاً عقائدياً شرساً ومدرباً ومسلحاً بأحدث الأسلحة . كذلك فان الجيش المصري لم يكن قليلا من حيث العدد والعدة والسفن الحربية .
2- ان هذه الحرب برهنت على أن الجيش المصري قد أصبح أكثر تطوراً وكفاءة من الجيش العثماني الذي ظهر مفككاً متدهوراً مفتقراً للقيادة وحتى للروح العسكرية التي اشتهر بها العثمانيون.
3-أكدت هذه الحرب أن مصر تصعد لتصبح القوة الأولى في الشرق الأوسط ( المستطيل القرآني ) إنها هي الخطر الأكبر على مصالح وخطط الأوروبيين وأنه لابد من التوحد الأوروبي في مواجهة المشروع المصري .
4- أكدت هذه الحرب أن مصر أنجبت قائداً عسكرياً يضاهي أكبر قادة العسكر في العالم وهو ابراهيم باشا ابن محمد علي الأكبر , والذي بدأ الغربيون يسمونه ( بونابرت الشرق ) وسنرى ان ابراهيم باشا لم يخسر في أي معركة تصادمية مع أي جيش في الميدان , بل كان النصر حليفه دائماً . وهو مالم يحظ به نابليون دائماً.
*****
مرة أخرى نقول للذين يتهمون محمد علي بالتآمر على الدولة العثمانية , أنها هي التي ألحت عليه واستنجدت به ( السلطان محمود ) للتصدي للتمرد اليوناني بعد أن عجز الجيش العثماني عن مواجهته واستولى الثوار على معظم المدن الرئيسية بما في ذلك العاصمة تريبولتسا ونكلوا بالأتراك المقيمين بها تنكيلا فظيعا واعلنوا استقلال البلاد في يناير 1822 . ثم انتقلت السيطرة من البر إلى البحر ( بحر الأرخبيل ) حيث أحرقوا كثيراً من السفن التركية وأحيوا عهد القرصنة .
وقد بدأ الاستنجاد العثماني بمحمد علي في هذه المرحلة أي عام 1821 حيث عهد إليه بتطهير البحر من القرصنة اليونانية . وكان الجبرتي قد اشار في آخر كتاباته قبل وفاته إلى أن الأروام { قطعوا الطريق على المسافرين واستئصلوهم بالذبح والقتل حتى انهم اخذوا المراكب الخارجة من استانبول وفيها قاضي العسكر المتولي قضاء مصر ومن بها من السفار والحجاج فقتلوهم ذبحاً عن آخرهم ومعهم القاضي وحريمه وبناته وجواريه وغير ذلك وشاع ذلك بالنواحي وانقطعت السبل . فنزل الباشا ( يقصد محمد علي ) الى الاسكندرية وشرع في تشهيل مراكب مساعدة للدونانمة السلطانية ( الأسطول العثماني ) }. وقد استمرت الحملة على القرصنة طوال عام 1821 وفي 1822 توجه الأسطول المصري بطلب من السلطان محمود لإخماد الثورة في جزيرة كريت حيث قام الثوار بمحاصرة الحاميات التركية في قلاعها . وقاتلت القوات المصرية في عامي 1822 , 1823 على أرض الجزيرة وفكت الحصار من الحاميات التركية وأحكمت السيطرة على الجزيرة , وكذلك تكرر ذلك في جزيرة قبرص.
بالتوازي كانت الثورة مشتعلة في بلاد الموره ( اليونان ) من 1821 حتى 1823 وعجز العثمانيون عن إخمادها وتكبدوا خسائر جسيمة فلجأ السلطة محمود مرة ثالثة لمحمد علي ( بعد مواجهة القرصنة وبعد اخماد الثورة في كريت وقبرص ) لاخماد ثورة اليونان على أرض الموره نفسها . والغريب أن المؤرخين يرون أن السلطان محمود أراد ان يحقق هدفين القضاء على ثورة اليونان وإضعاف جيش محمد علي !! وبعد مشاورات عديدة مع بطانته قرر محمد علي الاستجابة لأن هذا يزيد من وزنه ويفتح الطريق أمام مشروعه بعد سيطرته على مصر والسودان والجزيرة العربية لينتقل إلى ماوراء البحار على الأرض الأوروبية .
الحملة المصرية كانت بقيادة ابراهيم باشا صاحب الانتصار الأكبر على الوهابيين وتألفت من 17 ألف مقاتل من المشاه وأربع وحدات مدفعية و700 من الفرسان مجهزين بالمدافع والبنادق والذخائر وكانت العمارة من 51 سفينة حربية و146 سفينة نقل .
وكتب دريو صاحب كتاب ( تاريخ اليونان السياسي ) : {ان أسطول محمد علي أصبح ضخماً ويشبه الأرمادا ( أسطول أسبانيا لمحاربة انجلترا في القرن 16.م ) ولم ير الشرق حملة تدانيها في ضخامتها منذ حملة بونابرت . فكأن الشرق اراد أن يغزو الغرب جوابا على حملة اوروبا عليه , وهكذا تنقلب الأطوار في سير التاريخ } وكان ذلك في يوليو 1824 والتقى الأسطولان المصري والتركي في ميناء بودروم على شاطئ الأناضول . {من الطريف انني كنت في زيارة لهذا الميناء الذي يعتبر الآن من المعالم السياحية في تركيا وعشت أسبوعاً فيه لحضور ندوة اسلامية ولم أكن أدرك خلفيته التاريخية } بالتقاء الأسطولين ظهر الفرق جلياً بين نظام الأسطول المصري وفوضى الأسطول التركي الذي كان قد تعرض لضربة مؤلمة من اليونان. حيث غرقت سفينة القيادة وسفينتان أخريين فلجأ الأسطول التركي لبودروم . وسرعان ماتعرض الأسطولان المصري والتركي لهجوم يوناني بالقرب من بودروم فلاذ الأسطول التركي بالفرار من الميدان , أما ابراهيم باشا فقد صمد للسفن اليونانية حتى اضطرها للتقهقر في سبتمبر 1824 .
أدرك ابراهيم باشا بعقل استراتيجي أن هزيمة اليونان لاتكون على ظهر البحر حيث يصعب لم السفن المنبثة في نواحيه ( خريطة لارخبيل اليونان مع جزيرة كريت توضح ذلك ) وأن خير وسيلة للغلبة عليهم هي القضاء عليهم براً في شبه جزيرة الموره ( الجسم الأساسي لليونان ) وقد أوضح المسيو دوان في كتابه فرقاطات محمد علي ال انجاز ابراهيم باشا في هذه المرحلة البحرية الأولى فقال :
} مضت خمسة شهور على مغادرة الأسطول المصري ثغر الاسكندرية , في جهود شاقة ومتاعب لا هوادة فيها ومخاطر تتجدد كل يوم وان ما أبداه ابراهيم باشا في هذه الظروف من الثبات ورباطة الجأش لمما يستدعي النظر , فان قيادة أسطول بحري من مائة سفينة تقل نحو عشرين ألف رجل , مثل مهمة كتلك التي حملها بونابرت من قبل مع حفظ النسبة بين الموقفين, حينما اجتاز البحر الأبيض في آواخر القرن الثامن عشر بأسطول من 280 سفينة تقل 38 ألف مقاتل , واذا تذكرنا أن مصر لم يكن لها إلى ذلك الحين أسطول منتظم ولا تقاليد بحرية ولا هيئة من الضباط البحريين الأكفاء ولا العدد الكافي من البحارة المدربة . اذا تذكرنا كل ذلك فإنه يحق لنا ان نعجب كيف أن أسطول محمد علي تمكن لمدة خمسة شهور من التجول في البحار دون ان تتفكك أوصاله , وكيف استطاع أن يثبت أمام الهجمات الشديدة من عدد له حظ كبير من المهارة من غير ان يخسر سوى سفينتين حربيتين وبضعة نقالات {
ومالبث إلا قليلاً حتى قام بفك الحصار عن كورون وأدخل إلى الجنود المحاصرة المدد والمؤن ثم أنفذ فرقة لحصار مدينة نافارين التي كانت قد سقطت في يد المتمردين وكانت من أهم مواقع اليونان . وقضى في طريقه على فرقة يونانية من 3500 مقاتل وأسر قائدها وشدد الحصار على نافارين ولكن قوات يونانية كانت تتدفق لإنقاذ نافارين فقام ابراهيم باشا بتكتيكات عسكرية بارعة بقتل معظم هؤلاء الجنود وتشتيت الباقين في الجبال في انحاء اليونان . وكانت هذه الواقعة هزيمة كبرى للتمرد اليوناني انتهت بسحق الجيش اليوناني وغنم المصريون غنائم كثيرة وأسروا عدداً عظيماً من الأسرى منهم ضباط وقيادات عسكرية . وقد رفعت هذه الواقعة من شأن الجيش المصري فهي اول معركة يخوضها في القارة الأوروبية بعد حروبه السابقة في آسيا وافريقيا . وكان مسلك الجنود المصريين مع الأعداء مسلكاً انسانياً رائعاً , فلم يرتكبوا شيئاً من الفظائع وكانوا يحسنون معاملة الأسرى ويعتني الأطباء المصريون بجرحاهم بناء على آوامر ابراهيم باشا .
وتواصل تشديد الحصار على نافارين ولكنها كانت تأتيها الامدادات من البحر , فرأى ابراهيم باشا ان احكام الحصار لن ينجح بدون الاستيلاء على جزيره أمام الميناء (اسفاختريا) وكانت محصنة ولم يكن الاستيلاء عليها سهلاً وكلف ابراهيم باشا سليمان باشا الفرنساوي بهذه المهمة في مايو 1825 .وقد نجح في المهمة الصعبة بعد استخدام زوارق صغيرة حيث قام 1200 مقاتل مصري من النزول إلى البر تحت القصف والاشتباك بالبنادق حتى احتلوا الجزيرة في مواجهة مقاومة شرسة . فأدرك المحاصرون في نافارين بأن الصمود أصبح مستحيلاً فاستسلموا بشرط تأمين حياتهم وفي 18 مايو 1825 دخل الجيش المصري المدينة بدون تعريض المدينة لأي أذى في واحدة من أعظم الانتصارات في تاريخ الجيش المصري .
وفي فبراير 1825 تمكن ابراهيم باشا من النزول إلى البر في ميناء مودون جنوبي اليونان ووجد القوات التركية هناك في اسوأ حال بعد ضربات الثوار من البحر والبر بحيث .لم يبق في أيديها سوى هذا الميناء وميناء كورون المحاصر .
وخلال هذه الأحداث كانت السفن اليونانية تحاول مهاجمة الاسكندرية بالقذائف الحارقة التي كثيراً ماحرقت السفن العثمانية . ولكن الأسطول المصري بالأسكندرية كان يقظاً ورد 3 سفن يونانية على أعقابها قبل إحداث أي ضرر بالاسكندرية . بل وخرج محمد علي بنفسه ضمن قوة حربية لمطاردة هذه السفن بعد إغراق واحدة منها واستمرت المطاردة بقيادة محرم بك أميرال الأسطول المصري حتى جزيرة رودس .
فتح كلاماتا بلد الزيتون !
ثم جاء الدور بعد نافارين على ميناء ( كلاماتا ) المشهورة بزيتون كلاماتا الذي تجده الآن في الأسواق المصرية مصدراً من اليونان (!) وكان سكانها مشهورين بشدة البأس , وانتصر ابراهيم باشا ودخل كلاماتا وما حولها . وفي يونيو 1825 يتقدم الجيش المصري وكأنه خبير بهذه الأراضي الجبلية الوعرة نحو عاصمة اليونان ( تريبولتا) ويهزم قوات المتمردين ويدخل المدينة . ويواصل تقدمه على مختلف المحاور حتى السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة اليونانية عدا مدينة ( نويلي ) وفي 22 ابريل 1826 استنجد رشيد باشا قائد القوات التركية الذي كان عاجزاً عن الدخول لمدينة ميسولونجي المنيعة , استنجد بالجيش المصري , فطلب ابراهيم باشا المدد من محمد علي فأرسله له . وذهب ابراهيم باشا بنفسه بقوة تزيد عن 10 آلاف مشاه و500 من الفرسان , وهناك وجد أن خطة رشيد باشا فاشلة فأعد خطة جديدة مماثلة لخطة اقتحام نافارين أي بالاعتماد على احتلال الجزر الحاكمة للميناء . ونجح في النهاية في اقتحام المدينة ولكن خسائر المصريين لم تكن بسيطة ( نحو ألفي قتيل ) . ولكن رشيد باشا نجح في دخول آثينا ( ولم تكن العاصمة في ذلك الوقت ولم تكن بها قوة مدافعة كبيرة ) .
ولم يبق في يد المتمردين سوى نويلي بالاضافة للعديد من الجزر فعادوا إلى توسيع دائرة القرصنة في البحر المتوسط . وكان محمد علي يعد لحملة ثانية للقضاء على ما تبقى من التمرد في هذه الجزر .
وإزاء هذه الهزائم الكبرى للتمرد اليوناني بدأ تأجيج المشاعر المسيحية ضد الاسلام في أوروبا من الدوائر الرسمية والشعبية معا .. وكان من رموز الأدباء والشعراء في ذلك اللورد بيرون وفيكتور هيجو وشاتوبريان , حتى ان اللورد بيرون تطوع في معركة مسيولونجي ومات فيها. كما توحدت القوى الأساسية في أوروبا فأرسلت انجلترا وفرنسا وروسيا أساطيلها لبحر اليونان ( لاحظ فرنسا التي يزعمون أنها صديقة محمد علي المخلصة).
وأرسلت تركيا ومصر تعزيزات بحرية لنافارين حيث رصد أحد ضباط الأسطول الانجليزي ان الأسطول المصري يتميز عن التركي بحسن النظام والترتيب وجودة السلاح . ” كانت السفن المصرية في حالة جيدة جداً ” . وطلبت الأساطيل الثلاثة فرض هدنة بين الطرفين (تركيا ومصر من ناحية ومتمردي اليونان من ناحية اخرى ) والتزم ابراهيم باشا بانتظار التعليمات من محمد علي والآستانة .
واعلان الهدنة هي اللعبة التقليدية عندما تكون الأحوال العسكرية معاكسة , لاتخاذ فرصة لتعديل موازين القوى . وبالفعل فان المتمردين اليونان لم يتوقفوا عن القتال في البر وقاموا بهجمات معاكسة لحصار الحاميات المصرية مستفيدين من وصول قوات برية من الجيش الفرنسي ! فقام ابراهيم باشا بترك ميناء نافارين لقيادة محرم بك أدميرال الأسطول , والتوجه بقوة برية لصد هذه الهجمات البرية للمتمردين . وفي غياب ابراهيم باشا قامت الأساطيل الأوروبية الثلاثة بعملية غادرة بمحاصرة ميناء نافارين ثم بالهجوم الفوري عليه وكان الأسطولان المصري والتركي ليس في حالة انتشار حربي ولكن في حالة تجمع وتكدس داخل الميناء , وفي حالة اطمئنان ان هناك هدنة (!!) فتم تدمير معظم قطع الأسطولين المتواجده في الميناء , مستفيدين من الفجوة التكنولوجية , حيث كانت الأساطيل الأوروبية وان كانت أقل عدداً , إلا إنها تملك قوة نيران أكبر .
وأدرك محمد علي ان المعركة هكذا أصبحت خاسرة فأمر بسحب القوات المصرية البرية والبحرية فوراً إلى الأسكندرية , بينما كانت الآستانة ترعد وتذبد بالكلام فحسب ثم سرعان ماوافقت على شروط اوروبا . وهي الاعتراف باستقلال اليونان استقلالا داخلياً وان يكون للدولة العثمانية مجرد السيادة الاسمية وسرعان ماتحول ذلك في عام 1830 الى استقلال تام .
وخلال تبادل الأسرى بين مصر واليونان حدثت واقعة مثيرة للانتباه فقد تضمن الاتفاق بين محمد علي والحلفاء إعادة الأسرى اليونانيين وتحرير من بيع منهم في مصر مقابل ارجاع الآسرى المصريين وإعادة السفن المصرية الأسيرة , وكان عدد أسرى اليونان .. 5500 وزعوا على بيوت الكبراء في الاسكندرية والقاهرة . ولما ابرم هذا الاتفاق لم يقبل منهم العتق سوى أربعمائة اما الباقون ففضلوا البقاء في مصر وهذه شهادة كبيرة لمصر على حسن المعاملة وأنها مجتمع أفضل من اليونان حتى وان بقوا عبيداً !! وهذا ماأكده المستر باركر قنصل انجلترا في مصر في ذلك الوقت .
حرب اليونان في الميزان :
لم تستفد مصر ولم يستفد محمد علي شيئاً من حرب الموره ( اليونان ) بل أدت إلى تدمير الأسطول المصري وان كان محمد علي سيصر على إعادة بنائه من جديد .
وتكاليف الأسطول وكل تكاليف الحرب تحملتها مصر من خزانتها الخاصة .
واعتبر السلطان محمود أن ضم جزيرة كريت لمصر هو جائزة كافية على مجهودها الحربي الرهيب ودمار الأسطول وآلاف القتلى . في حين ان جزيرة كريت خسائرها أكثر من مكاسبها, كجزيرة وعرة بدون موارد , وتضم نوعيات من اليونان شديدة العداء للاسلام ولديها استعداد دائم للتمرد !!
لم يكن السلطان محمود ولا من حوله يدرك ضرورة اعادة تنظيم علاقات الآستانة مع مصر بصورة مختلفة على أن تكون هي المركز الثاني للامبراطورية , في المنطقة العربية ( منطقة المستطيل القرآني ) التي لم يدرك العثمانيون ابداً أهميتها الاستراتيجية على النحو الصحيح .
وتبرهن احداث هذه الحرب الضروس التي أبلي فيها الجيش المصري بلاءاً حسناً , ان محمد علي قد بذل كل مافي وسعه لتحقيق رغبات الدولة العثمانية , وانه لم يكن له مغنم خاص أو مطمع في اليونان إلا البرهنة على ولائه للاستانة . ولكنه لم يأخذ إلا جزاء سنمار !
لم يستفد محمد علي – في المحصلة – من حرب اليونان شيئاً من الناحية المادية العملية ولكنه استفاد شيئاً جوهرياً هو ظهور الجيش المصري في البر والبحر بهذا المستوى المشرف , وظهور قوة الدولة المصرية كند للدولة العثمانية , واتضاح ان مصر خلال سنوات قليلة جداً بدأت في عام 1820 نجحت في بناء جيش مصري حديث قادر على خوض حروب في اوروبا .
وهو مايؤكد ان وجود الإرادة مع قيادة سياسية فاهمة يمكن تحقيق الكثير خلال سنوات قليلة وليس كما يردد البعض كلما تحدثنا عن أحوالنا الراهنة ان مصر تحتاج لعشرات السنين وربما لقرن من الزمان !
نحن الآن لا نملك إلا الدروس , والدرس الجوهري الثاني والذي سيتكرر بعد ذلك في أقل من عشر سنوات . ان اوروبا لاتحتمل وجود قوة عربية أو اسلامية تدير منطقة قلب العالم (الشرق الأوسط ) إلا إذا أجبرت على ذلك , عندما حدث هذا في صدر الاسلام باستيلاء العرب على مستعمرات الرومان في آسيا وافريقيا واستمر في عهود الأمويين والعباسيين , ولكن الروم لم يكفوا من خلال البيزنطيين عن مهاجمة الدولة الاسلامية من جبهة آسيا الصغرى (الأناضول أو تركيا الحالية ) أو عبر البحر المتوسط لشمال افريقيا . ثم بعد ذلك من خلال الحملات الصليبية وعندما انكسرت هذه الحملات , وقامت الدولة العثمانية اضطر الأوروبيون للانكفاء بل سقطت تماما الدولة البيزنطية بسقوط عاصمتها القسطنطينية ,والدولة البيزنطية هي الجناح الشرقي للامبراطورية الرومانية فلم يبق سوى دول غرب أوروبا الممزقة التي أحذت تجمع نفسها من جديد للعودة إلى قلب العالم ( الشرق الأوسط ) لإحياء مجد الامبراطورية الرومانية ومن قبلها اليونانية . وجاءت الثورة الصناعية واكتشاف امريكا لتعطي رياحاشديدة في أشرعة أوروبا من جديد , ولاتزال استراتيجية الغرب الأساسية أي استراتيجية غرب اوروبا وأمريكا كامتداد لأوروبا حضارياً وثقافياً وعقائدياً هي ضرورة السيطرة على مركز العالم ( المستطيل القرآني ) لأن السيادة العالمية تحسم اساساً هنا . وأمريكا هي الوريث الشرعي للامبراطورية الرومانية فانتقل العالم من السلام الروماني paxa Romana إلى السلام الأمريكي paxa Americana وهو ليس سلاما ولكن فرض الهيمنة والسيطرة بالقوة المسلحة .
كانت خطة محمد علي هي الخطة السليمة ونحن نتحدث عن الدروس ولانبكي على اللبن المسكوب فتجربة محمد علي – كما قلنا مراراً – كانت في كل الأحوال إلى زوال لأنها لم تقم على المؤسسية ( مفهوم الشورى العظيم في الاسلام الذي لم نقدره ابداً حق قدره ) اشارات قليلة في القرآن الكريم والسيرة النبوية حسمت أبرز معالمه . ( مرة اخرى راجع حاكم المطيري في الحرية أو الطوفان + تحرير الانسان ) . ولكننا نقصد بالخطة السليمة في هذا المقام مسألتين :
1- ضرورة سد الفجوة التكنولوجية مع الغرب خاصة في المجال الحربي , وهذا ما كان محمد علي يسعى إليه بأسنانه . ولكن هذه المعركة فرضت عليه قبل ان يستكمل ذلك وكان آداء الدولة العظمى الحليفة ( الدولة العثمانية ) مخيباً للآمال بصورة خطيرة كما رأينا . وأدبياً لم يكن محمد علي صاحب القرار في هذه الحرب من الناحية السياسية .
2- ضرورة أن يتوحد العرب والمسلمون في مواجهة التوحد الصليبي الأوروبي حيث يحدث هذا الأخير في صورة قانون متكرر وسنرى نموذج أكبر بعد عشر سنوات في الشام والآناضول . وفي ذلك الزمان لا تحدث الوحدة إلا بإنزال الدول الاسلامية منازلها التي تستحق . فبعد كل ماجرى للجيش المصري واسطوله في اليونان , اذا بالأستانة تطلب من محمد علي ارسال قوات أخرى للقتال ضد روسيا.
بعد كل ماجرى فان السلطان محمود يتعامل مع محمد علي وكأنه مجرد أجير أو موظف عنده, بدلاً من الجلوس والتحدث بندية كقوى اسلامية في استراتيجية مواجهة موحدة . على المستوى الشخصي نحن نقول : إن كبر ابنك خاويه . ولكن العجرفة التركية لم تعترف أن مصر أو محمد علي ( اختر ماشئت ) قد شبت على الطوق وانها ليست ولاية ولابد من اعادة صياغة العلاقات بصورة مختلفة لمواجهة المخاطر الأوروبية الجمة .
لاحظ مثلاً إن محمد علي لم يذهب للأستانة مرة واحدة . لأنه لم يكن يأمن ان يتم اعتقاله ان هو ذهب في زيارة لعقد مباحثات استراتيجية .
مثلاً أمريكا كدولة عظمى لاتتعامل بشكل متساو مع كل دول اوروبا بل تتعامل بشكل خاص ومتميز مع انجلترا او المانيا او فرنسا , لابد من انزال الدول منازلها كما ننزل الأشخاص منازلهم . ولكن الدولة العثمانية ظلت لا تفهم في محمد علي إلا مجرد والي مارق فرض نفسه عليها .وسنرى في أزمة الشام والأناضول كيف سعى محمد علي حتى النفس الأخير لإعادة صياغة العلاقات مع الآستانة وليس مجرد التمرد عليها .
حول شرعية قتال شعب مسيحي :
تثير قضية حرب اليونان ( الموره ) مسألة القتال من أجل إخضاع شعب مسيحي لدولة اسلامية . وهذه مسألة مبدئية ومهمة جداً في ميزان الشرع الاسلامي . ونحن نتحدث هنا عن الموقف العثماني الذي التزم به محمد علي فقد رأينا في هذه الحرب وغيرها في شرق اوروبا أنها تحولت وكأنها محاولة دولة كبرى ( استعمارية أو امبريالية ) لفرض هيمنتها على دولة أخرى وضمها بالقوة رغم خلاف العقيدة . والأصل في الاسلام إننا لانسعى لاحتلال أو ضم دولة مسيحية للدولة الاسلامية بالقوة . فالحرب خارج ديار الاسلام لا تقوم إلا لسبب واحد وهو الاعتداء . فلابد لهذه الدولة أن تبدأ بالعدوان على دولة الاسلام حتى تحاربها دفاعاً عن النفس . كذلك فان الاعتداء قد يإخذ شكلاً آخر وهو أن الدولة المجاورة لدولة الاسلام تمنع نشر الدعوة للاسلام على أراضيها او بين مواطنيها ثم تتحول إلى قهر وتعذيب واضطهاد أو قتل من يدخل في الاسلام من مواطنيها وفي هذه الحالة أيضاً يتعين شن حرب على هذه الدولة المجاورة اذا كان هذا في استطاعة الدولة الاسلامية وإلا فإنها يمكن أن تلجأ إلى اجراءات عقابية أقل , كقطع العلاقات ووقف كافة أشكال التعاون التجاري أو الاقتصادي . ولكن لايمكن ان تقف متفرجة على اضطهاد المسلمين في دولة مجاورة ( وفي عصرنا الحالي هذا ينطبق على بنجلاديش وماليزيا واندونيسيا في مواجهة دولة ميانمار ) .
ومن هنا تعلمنا منذ الصدر الأول للاسلام والفتوحات الاسلامية مسألة التخيير بين ثلاثة احتمالات مع الدول المجاورة غير الاسلامية :
1- الدخول في الاسلام 2- دفع الجزية والبقاء على الدين
3- القتال .
وهذا يفترض توفر القدرة على طرح هذه الخيارات وهي أساساً القدرة القتالية للتخيير بين الاسلام والقتال . أما فرض دفع الجزية ما المقصود به ؟! المقصود هو فرض الإرادة والسيادة على الدول المجاورة غير الاسلامية في مسألة أساسية أو واحدة . وهي فتح مجال الدعوة السلمية للدين الاسلامي . وفتح الحرية أمام المواطنين في هذه الدولة للاختيار بين الاسلام أو البقاء على دينهم مقابل دفع مبلغ زهيد عن كل ذكر راشد قادر على حمل السلاح ( حوالي دينار أو دينارين ) أى ان الجزية لاتفرض على النساء او الشيوخ الطاعنين في السن أو المرضى المزمنين او الأطفال او الرهبان أي رجال الدين المنقطعين للعبادة ودور العبادة , المقصود هي ضريبة فردية على من هم في سن التجنيد , لأن الدولة الاسلامية في المقابل ستقوم هي بحفظ الأمن والدفاع عن بلادهم في مواجهة أي غزو أجنبي , ولن تستعين به اجبارياً في أي حروب . والهدف الجوهري من هذا التعاقد , ان يكون علامة على السماح بحرية الدعوة للدين الاسلامي في البلاد , لا فرض الدين على أي مواطن . وبمفهوم المخالفة فهذا يعني الإقرار بضمان سلامة الزوار المسلمين وسلامة من يدخل الاسلام في هذا البلد . وهو التعبير الذي استخدمه فقهاؤنا كثيراً : ( التخلية بين الناس وبين حقها في اختيار العقيدة بشكل حر وبدون اكراه بين عقيدتهم الحالية وبين الاسلام ). حدث في التاريخ احتمال آخر : أن تقوم الدولة المجاورة بدفع الجزية مع بقاء حكامها المسيحيين كماهم , وتنسحب القوات الاسلامية مع الاحتفاظ بحق الدعوة السلمية . ويكون ذلك في اطار اتفاق صداقة وتعتبر بذلك دولة عهد .
والحقيقة فان الدولة العثمانية التزمت بشق عدم اكراه الناس على دخول الدين الاسلامي عدا مافعلته في البلقان من تجنيد الصغار من المسيحيين وادخالهم في الانكشارية وتعليمهم الدين الاسلامي . وان كان ذلك قد فتح لهم باب الترقي في الدولة العثمانية في المجالات المدنية والعسكرية ولكن هذا الاكراه للصبية والشباب لايجوز كذلك فان الدولة العثمانية قصرت في مجال الدعوة ( نشر الدين الاسلامي ) في بلاد شرق أوروبا وقد أشرت لذلك من قبل , مما جعل هذه الشعوب تتحوصل حول المسيحية وتواصل العداء للدولة الاسلامية .