الجيش المصري يجيد القتال وينتصر على الاتراك في الجبال والحرارة ١١ تحت الصفر

مصر جديـرة بوراثة الدولة العثمانية.. رؤية إبراهيم باشا

السلطان العثماني يستعين بقوات روسيا بعد ضياع جيشه

حلب تمنع دخول الجيش العثماني إليها

( الصورة لمعركة قونية)

اتفاق كوتاهيه  خدعة لوقف إطلاق النار ثم الانقضاض على مصر

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (53)


كانت معركة حمص كما ذكرنا من العلامات الفارقة على الهوة السحيقة بين الجيشين المصري والعثماني. فكان الجيش المصري اقرب الى الجيش العصري الحديث الأكثر تنظيما وتسليحا وتدريبا , وكان الجيش العثماني أقرب إلى حالة الارتباك والفوضى وعدم الاحتراف العسكري , ففي عهد هذا السلطان محمود كانت حمله القضاء على الانكشارية قلب الجيش العثماني بعد كل ما كانت ترتكب من التدخل في السياسة , والإفساد في الأرض والبلطجة , حتى قرر السلطان محمود ابادة القوات الانكشارية عن طريق القصف المدفعي . ولم يتم في المقابل تأسيس جيش عثماني حديث.

كذلك ظهر الفارق بين القدرة القيادية العسكرية حيث برهن ابراهيم باشا علي امتلاكه عبقرية عسكريه , وهذه صفة تكتسب بالجدية والعمل والتدريب , ايضا مع وجود استعداد شخصى ومواهب لدى القائد . فقد كان ابراهيم باشا بارعا في التكتيك العسكري , ماهرا في أسلوب استخدام المدفعية , بإخفائها وإظهارها في الوقت المناسب , وعن طريق تقسيم القوات المصرية إلى مربعات , والتلاعب في كيفية توزيعها واستخدامها وهو تكتيك اشتهر به نابليون بونابرت , وحقق به الكثير من الانتصارات ؟

كما كان ابراهيم باشا يستوعب جيدا طبيعة ميدان المعركة وتضاريسها وجبالها ويعرف كيف يستفيد من هذه التضاريس لصالحه وهذا ما فعله في اليونان وجبال طوروس والأناضول ,  فتمكن من هزيمة الخصم وإن كان متحصنا بالجبال أو كان يجيد فن الالتفاف ومفاجئه الخصم من حيث لا يحتسب , وهناك كثير من الدراسات العسكرية أبرزت كل هذه الفنون العسكرية لابراهيم باشا الذي لم يحصل عبثا على لقب “بونابرت الشرق” .

ارتد الجيش العثماني بعد هزيمته في حمص الى حلب آخر واهم مدن الشام قبل الأناضول والتقى مع تعزيزات عثمانية كانت قادمه من انطاكيا فاتجه الجميع نحو حلب ,  ولكن أهالي حلب الكارهين للحكم التركي رفضوا دخول الجيش العثماني لمدينتهم واغلقوا ابواب المدينه في وجهه , ولم يسمحوا الا بدخول الجرحى والمرضى, وهذا مؤشر جديد على الحالة الجماهيرية السورية التي كانت مرحبة بتقدم الجيش المصري.

فلم يجد العثمانيون مكانا حصينا الا في مضيق بلان جنوب الاسكندرونة في المواقع الفاصلة بين سوريا والأناضول , بينما كان الجيش المصري يتقدم بدون مقاومه او قتال حتى حماه ثم حلب حيث جاءت الوفود من اورفا و ديار بكر وهما مدينتان تركيتان حاليا لإعلان الخضوع لحكم محمد علي.

ورغم نحصن القوات العثمانية (45 الف من القوات النظامية جيدة التسليح مع 160 مدفعا) في جبل ومضيق بيلان أعد ابراهيم باشا خطة التفافية أدت في  النهاية لهزيمة الترك بعد معركة استمرت ثلاث ساعاتفقدوا فيها 2500 بين قتيل وجريحواسر المصريين 2000 منهم وغنموا 25 مدفع وكثيرا من الذخائر. واحتل المصريونبيلان المدينة والجبل والمضيق !! .

وعندما علم الأسطول العثماني في ميناء الاسكندرونه بهذه الهزيمه فروا من الميناء . وتقدم الجيش المصري فأسر المزيد من الأتراك واحتل الاسكندرونة بسهوله ثم تقدموا وأسروا  1900 مقاتلاَ تركياَ آخرين , ثم سرعان ما سلمت أنطاكية واللاذقية والسويدية بدون قتال , وهرب قائد الجيش التركي لمكان غير معلوم.

كان الجيش العثماني يستعين في كل المعارك السابقة بأعداد من الاكراد وكان السلطان محمود قد أعلن في مايو 1832 و بعد الهزيمه في موقعه الزراعةعصيان محمد على وأنه كافر ومرتد , ولكن ذلك الإعلان لم يكن له أدنى تأثير على سير الحوادث .

واصل الجيش المصري بعد انطاكية اختراق الأناضول وأصبح يتقدم في أراضي تركية واحتل مدينة آدنة ثم أورفا وعينتاب ومرعش وقنسرية.

ورأى السلطان محمود أنه يقاتل معركة الحياة أو الموت فألف جيشا كبيرا جديدا بقيادة محمد رشيد الصدر الاعظم وزميل ابراهيم باشا في حرب اليونان (الموره)  وكان معه 53 الفا أي أكبر من كل الجيوش السابقة , وفي 18 ديسمبر 1832كانت موقعة قونية حيث درس إبراهيم باشا أرض المعركة جيدا وقام بتدريب جنوده على اساليب القتال فيها , قبل بدايتها . وكان البرد قاسيا ووصلت الحرارة الى 11 تحت الصفر وهو مناخ غير ملائم للمصريين إطلاقا بل لم يعرف اصلا .

ولكن إبراهيم باشا بمعاونة القادة المصريين من خريجي البعثات للخارج (مختار بك وأحمد أفندى ) تمكن من  تبديد شمل العثمانيين وتم أسر رشيد باشا الصدر الأعظم بعد مرور ساعتين بدون قتال . ولكن المعركة استمرت سبع ساعات ولم تزد خسائر المصريين عن 262 قتيلا مقابل 3  آلاف قتيل تركي وأسر 6 آلاف آخرين مع قائد الجيش وعدد كبير من الضباط والقواد وغنم المصريين 46 مدفعا.

وتعد هذه المعركة من مفاخر الجيش المصري وإن كان يحزن القلب إنها معركة مع جيش اسلامي اخر .  ولكن تذكرون أنني كتبت بنفسي بروح مؤيدة لتقدم الدوله العثمانيه على الدولة المملوكية في 1516 و 1517 وضم الشام ومصر للدوله العثمانيه , ورفضت موقف الاستاذ راغب السرجاني الذي اعترض على ذلك , وقلت إن من مصلحة الإسلام أن تحتوي الدوله الأقوى والأصلح ديار المسلمين وأن قانون الأواني المستطرقة يواصل فعالياته كقانون طبيعي حيث الماء والاعلى يفيض على الماء الادنى ,  وبالفعل كان العثمانيون في البدايه أفضل بكثير وورثوا عن المماليك التصدي للغزو الصليبي البرتغالي القادم من جنوب البحر الأحمر وطردوهم شر طردة وتعقبوهم حتى الهند وأحكموا السيطرة على باب المندب.

ولكن العثمانيون كما ذكرت مرارا لم يحسنوا مع الايام ادراك اهمية المستطيل القرآني في الصراع العالمى ,  وتعاملوا معه ومع مصر بمنتهى الاهمال , إلا عندما يتعرض لعدوان خارجى كما حدث في العراق خلال الصراع مع الدولة الصفوية.ولكن رأينا الهزال العثماني في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر .

وفي عام 1832 كانت تجري معركة عكسية : الدوله المصريه هي التي تحاول ان ترث الدولة العثمانيه في ادارة  العالم الإسلامي . ولكن دعونا لا نسبق الأحداث وليكن التحليل الشامل في النهاية. وهكذا كانت معركة قونية هي مقابل معركة مرج دابق التي هزم فيها الحكم المملوكي المصري لقنصوه الغوري امام سليم الأول وهي ليست انتقاما لها فقد مر أكثر من 3 قرون , ولكنها المقابل الطبيعي , ان الأقوى ينتصر وهو الجدير بالقيادة العامة للمسلمين .

بعد هذه المعركه ( قونية ) لم يبق لدى السلطان محمود جيش ليدافع عن اسطنبول عاصمة ملكه , فانفتح الطريق امام ابراهيم باشا اليها , وبدأت جموع الشعب التركي ترحب بإبراهيم باشا في حماسه  وتدعوه إلى مدنها لاقرار الأمن والنظام الذي اشتهر به . واصبح الجيش المصري على مسيرة ست أيام من البوسفور وكان الطريق خاليا من اي جيش او حصن .

 دور الأسطول المصرى :

يكشف حجم مشاركة الأسطول المصرى في معارك الشام , كيف أعاد محمد على بناء الأسطول بعد معركة نافارين في سنوات معدودة وهذه همة عالية لا يمكن نكرانها ,  فقد شاركت في الحرب 9 بوارج , والبارجة اقوى قطع البحر , تقل 3810 من البحارة ومسلحة ب 484 مدفعا , وقد شاركت في دك حصن عكا , كما شاركت مجموعة من 27 سفينة حربية متطورة في مطاردة الأسطول العثماني الذي كان يحاول دعم القوات العثمانيه في الشام ومنعته عمليا من أداء مهمتة, حيث كان يخشى المواجهة ويهرب من السفن المصرية , كذلك قام الأسطول المصري بدور إمداد القوات البرية بكل احتياجاتها , وكان ذلك أيسر بكثير من الإمداد عبر البر

فزع الدول الأوروبية:

أصاب الفزع  الدول الأوروبية الكبرى : انجلترا – فرنسا – روسيا  من هذه التطورات التي أصبحت تنبئ بوضوح إلى صعود القوة المصرية الفقيه لتحل محل الدولة العثمانيةالمتداعية،  والتي كانوا يسمونها “الرجل المريض” وكانت كل تدبيراتهممحصورة في كيفية توزيع تركة الرجل المريض فيما بينهم ,  وقد عاشت الدوله العثمانيه في غرفة الانعاش لفترة ما بسبب هذا الخلاف في الوراثة ,  وقد كانت فرنسا وإنجلترا من الذكاء الاستراتيجي بحيث كان التركيز على الشرق الأوسط فبدأوا  يتحدثون عن “المسألة الشرقية” وبصعود محمد علي بدأوا يتحدثون وبصوره خاصه عن “المسألة المصرية”  وهي أهم ما في الشرق الاوسط , ورأينا كيف كان الصراع مفتوحا بينهما لاحتلال مصر , فرنسا 1798 وانجلترا 1807 ولكنهما فشلا ,  وقام نظام محمد سداَمنيعاَ في مواجهتهم , ولكنه الآن ينتقل من الدفاع الى الهجوم وإذا تركت الأمور للتطورات الطبيعية فإن مصر ستتحول الى رقم صعب ,  و تعيد الحيوية والقوة للدولة الإسلاميةبوراثة الدولة العثمانيةالمتداعيةفتطرد نفوذ الجميع , وتعيد المجد الضائع لأمة العرب والمسلمين , وما كانا ليسمحا بذلك ,  أما روسيا الأقل قوة وذكاء فكانت مشغولة بالصراع الموضعي مع الدولة العثمانية حول ممرات البوسفور والدردنيل بين البحر الأسود والبحر المتوسط , والصراع حول مناطق شرق أوروبا المتداخلة مع روسيا و المشتركة معها في السلافيةوالارثوذكسية المسيحية , وكانت روسيا تتميز انها على حدود الدولة العثمانية مباشرة ,  وكنا قد عرضنا من قبل كيف ازدادت قواتها في عهد بطرس الأكبر والمكاسب البرية والبحرية والسياسية التي حققتها على حساب الدولة العثمانية. ولم يكن في مصلحة روسيا ان تقوم دولة قويةمحل الدوله العثمانيه تنزع منها ما حققت من مكاسب , فأوفدت الجنرال مورافييف الى السلطان محمود ليعرض استعدادها للدفاع بقواتها البرية والبحرية عن السلطنة العثمانية, وهذا يعني في واقع الأمر بسط حماية روسيا الفعلية  على تركيا التي أصبحت بلا جيش, وهذا ما أثار مخاوف فرنسا وانجلترا لأن ذلك يقلب الموازين في اوروبا لصالح روسيا, وتوجه التفكير فورا للضغط علي محمد علي لوقف تقدمه ووقف تداعي الدولةالعثمانية لقطع الطريق على المبررات الروسية , وأصبحت الإسكندرية حيث يقيم محمد علي قبلة الدول الأوروبية فجاء الجنرال مورافييفالروسينفسه إليه بادعاء الوساطة بين مصر وتركيا , واحسن محمد علي استقباله  ولكنه لم يتراجع عن موقفه , وعرض السفير الفرنسي الاميرال روسان على محمد على الاكتفاء بولايات صيدا وعكا وطرابلس والقدس ونابلس وتسوية الأمر.  ولكن محمد علي أصر على ضم سوريا وولاية أدنة التركية لمصر ولتكن جبال موروس هى الحدود بين البلدين .

كذلك وصل أسطول روسي ورسا في مياه البوسفور , ونزلت قوة من الجنود الروسي الى الشواطئ التركية الآسيوية لتقف في مواجهة الجيش المصري. ( ولم يقل الاسلاميون الذين يدافعون عن الدولة العثمانية في هذا النزاع , هل يجوز الاستعانة بالكفار لحماية الدولة الاسلامية في اطار صراع اسلامي – اسلامي ؟ أم كان من الأفضل الوصول إلى اتفاق مع محمد علي بدلا من إصدار قرار بتكفيره وردته !! ) كذلك قامت روسيا بإنزال 15 ألف جندي على الساحل الأوروبي التركي لحماية اسطنبول , وكان ابراهيم باشا قد تقدم بجيشه فاحتل (كوتاهية ) وصار على مسافة 50 فرسخا من الأستانة ووصل الجيش المصري لميناء أزمير بدون قتال واصبح انهيار الحكم العثماني مسألة أيام .

رسائل ابراهيم باشا لأبيه:

قبل توقيع معاهدة كوتاهية جرت  مراسلات مكثفة بين ابراهيم باشا وقائده ووالده محمد علي , فبالإضافة للخلاف بين ابراهيم باشا ووالده حول مسألة العروبة ظهر تباين فى التقديرات “الثورية” بين ابراهيم ووالده.

عندما كان ابراهيم باشا يتقدم في الشام بسرعة تقدم سكين حاد في قالب من الزبد ودخل دمشق أرسل إلى محمد علي وأثناء تقدمه في اتجاه حلب رسالة جاء فيها (ها قد فتحنا الشام التي يقول المصريون انها جنة فماذا يريدون منا فوق ذلك) .  كانت تصورات محمد علي في تلك اللحظة تتوقف عند استكمال الزحف الى حمص وحلب فكان هذا آخر ما يريده على أمل أن يقبل السلطان رسميا ضم الشام إلى مصر , و يعيد ترتيب علاقاته مع الدولة العثمانية على هذا الاساس الجديد , لم تكن مدرسةأو ثقافة محمد علي تتجاوز تجربة الدولة العثمانية(رغم انه كان كما أوضحنا من قبل ليس من أصل تركي ولم يعش في تركيا ) فهو ألباني نشأ في الشرعية العثمانية ولا يعرف غيرها , ولا يتصور أن ينقلب عليها تماما , بل  يريد تحقيق استقلال لدولته الخاصة في كنف العثمانيين, ومواصلة مشروعه الخاص في البناء والتنمية الزراعية والصناعية والعلمية , ولم يكن متبلورا في ذهنه أن يصل به الأمر إلى حد الاستيلاء الكامل على ممتلكات الدولة العثمانية حتى فى تركيا و ان يحل محلها بدولة جديدة تماما , ولكن الدولة العثمانية لا تزال تعاند ولا تريد الاعتراف بضمه لسوريا بل كانت قد اعلنت في 13 ابريل 1832 من خلال مجلس شرعى ضم ثلاثة مفتيينواثنى عشر قاضياَ وتسعة من أئمة السراى السلطانية أعلنت حكما بتجريد محمد علي وولده ابراهيم من جميع الرتب والمناصب الديوانية وألقاب الشرف الممنوحة لهما من لدنأمير المؤمنين , ثم القصاص منهما مع سائر من شاركهم في العصيان والخروج على طاعة السلطان . وعندما علم محمد علي بهذا الحكم قال أمام قناصل الدول: هل يسمح السلطان لنفسه ان يحاربني باسم الدين , وانا احق منه بمهبط الدين والوحى لاني أنقذت الحرمين الشريفين وأعدت للدين سلطانه, وانا الآنأحكم مكة والمدينةالمنورة.

ولكن محمد علي كان لا يزال يأمل أن يتراجع السلطان عندما تتم سيطرته الكاملة على الشام , ولكن ذلك لم يحدث بل ظل السلطان يعد الجيش تلو الجيش كما ذكرنا .

وفي كتاب داود بركات ( البطل الفاتح إبراهيم باشا)  نطلع على بعض مراسلات ابراهيم/محمد على , التى كشفت الخلاف في التقديرات بين الرجلين . ولا شك أن محمد علي كان واقعا تحت ضغوط رهيبة من قناصل أوروبا في الاسكندرية لوقف التصعيد ضد الدولة العثمانية, وما كان محمد علي يتجاهل ضغوط الدول العظمى بصورة كلية ,  ولكنه لم يكن من اصحاب القلوب الضعيفة , وقد ظهر هذا في تقبله في المرحلة الأولى التي سبقت معاهدة كوتاهية حيث لم يكن يقبل أقل من الشام ليوقف القتال ولكنه لا شك كان أقل ثورية من إبراهيم باشا , فبعد الانتهاء من فتح الشام كتب إبراهيم باشا إلى والده يستأذنه  في الزحف على قونية والأستانة أيضا , وان يحمل خطباء المساجد على القاء الخطبة باسمه لكن محمد علي بار مترددا إذاء هذا الموقف على ابراهيم باشا بكلمة دقيقة تكشف سر شخصيته وطريقته في العمل والتفكير (تقول لى فى كتابك انك تريد ان تضرب المعدن وهو حام وانك تريد أن يخطب بإسمى في جميع المساجد , فاعلم يا ولدي أنا لم نصل الى مركزنا الا بقوة الوداعة وخفض الجانب ) !!


ولكن بعد ثلاث شهور ومع استمرار تصلب السلطان ورفضه لأي تفاهم سمح محمد علي لابراهيم باشا بالزحف على قونية ثم الانسحاب منها ! فكتب إليه ابراهيم يجب علينا حسب أوامرك ان نتقهقر إلى الوراء  بعد الاستيلاء على قونية , والشائع ان الصدر الاعظم يزحف علينا بقوة كبيرة فإذا تقهقرنا عزوا ذلك الى الجبن والخوف , فأقره محمد علي على رأيه ولكن بشرط ألا يتجاوز قونية . لأن الدول الأوروبية لا تنظر بعين الرضا إلى ماوراءها,  بينما كان إبراهيم باشا يواصل ضغطه : ( يا والدي .. منذ عشرون يوما أبحت إلى إعلان سقوط السلطان والآن تحرمه على , فما فائدة الرجوع وتغيير الرأى من جانبنا .  لا يجوز لنا ان ننسى ان جيشا قويا باسلا مثل جيشنا لا يحتمل سياسة التردد وجس النبض ,وهي السياسة التي لا تعرف الانتفاع  من وراء الواقع . على أن هذا الجيش لا يستطيع الوقوف طويلا مكتوف الأيدي ونحن ذهبنا إتباعا لأوامرك . لقد أمرتني قبل الان ان اقف في حلب ثم سمحت لى بالتقدم إلى قونية . فدعنا الآن يا والدي نهزم جيش الصدر الأعظم)

وعندما انتصر إبراهيم باشا وأسر  الصدر الأعظم كما أوضحنا, عقد معه  إتفاقا على خلع السلطان محمود الثاني و تعيين ابنه عبد المجيد بدلا منه, وكتب الى محمد علي فقال( استطيع ان اصل الى الاستانة ومعي محمد رشيد باشا و أستطيع خلع السلطان حالا وبدون صعوبة,  لكني مضطر لان اعرف هل تسمح لي بتنفيذ هذه الخطة حيث أتخذ الوسائل اللازمة لان مسألتنا لن تسوى الا في اسطنبول , فالواجب أن نذهب اليها حتي نملي إرادتنا , وأن من العبث ان نقف عند قونية  ولا نتقدم إلى الأمام, وان رجال الآستانة لن يقبلوا بعقد صلح معنا الا إذا دخلنا عليهم العاصمة كما فعلوا مع الروس , وأنا لولا الأمران الأخيران اللذان تلقيتهما منك لكنت الآن على أبواب اسطنبول , اني لأسأل نفسي ما هو الداعي الذي دعا الى إصدار تلك الأوامر؟  أهو الخوف من اوروبا او شيء لا اعرفه التمس منك ان ينيرني في هذه المسألة قبيل انفلات الفرصة من ايدنا .) .

فلما وصل الكتاب إلى محمد علي أذن إلى ابراهيم بالتقدم ,  وتقدم بالفعل حتى وصل إلى كوتاهية وهناك وصله كتاب من والده يأمره بالتوقف مرة أخرى  وهو يعلم يقينا أنه لا يوجد جندى واحد للسلطان في الطريق الى اسطنبول.

وكتب ابراهيم باشا إلى أبيه يرجوه قائلا:  بحق حبنا للأمة الاسلامية و غيرتنا الدينية , أرجو عمل الواجب المحتم لا العمل لمصلحتنا فقط ,  لكن العمل فوق كل شيء وقبل كل شيء لمصلحة هذه الأمة كلها, ومن أجل ذلك يجب علينا خلع السلطان المشؤوم ووضع ابنه ولي العهد على العرش , ليكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق ,  فاذا اعترضت علي بأن أوروبا تعترضنا , قلت لك اننا لاندع لها الوقت للتدخل وبذلك ينتفى الخطر من ذلك الجانب لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يعرف, وبذلك نضع اوروبا أمامالأمر الواقع , وإذا كانت أوروبا تغتنم الفرصةلإشباعمطامعها من هذه الدوله فأية تبعة تقع علينا ؟ وهل نستطيع أن نمنعها من تحقيق خطة تسعى لتحيبقها منذ  84 سنه؟ ولا وقت عندى لتلقي شيء منك او من اسطنبول يحرم على التقدم ) , وقبل ان يصل ابراهيم الى بورصة وموديانا تلقى الامر من والده بأن يقف مرة أخرى , وبعد مفاوضات شاقة بين قناصل الدول ومحمد على ورسل السلطان نجحت فرنسا في أن تصل بالطرفين الى صلح كوتاهية عام 1833 الذي تنازلت بموجبه الدولة العثمانية لمحمد علي عن الشام مع ولايته لمصر وكريت ومنحت ابراهيم أدنة التركية مع ولاية الحجاز .

ابراهيم باشا على حق:

قبل ان نقول رأينا في صلح كوتاهية , نستكمل المعلومات حول موقف إبراهيم باشا الذي يتضح أكثر في حواره مع البارون ” بوا الكونت”  مندوب فرنسا للصلح بين مصر وتركيا .

إبراهيم باشا:  أنه ليؤلمنى ان الدول منعتني من متابعة الزحف

بوا الكونت: على العكس اني أظن انه قد آن الأوان الذي يحق فيه للدول أن تفكر في وقف سموكم عن الزحف . فانه لم يكن امامكم الا بضع خطوات ليصل الجنود المصريين الى اسكدار , وهناك تنشب الثورة في اسطنبول.

ابراهيم باشا : لقد كنت شديد الرغبة في دخول اسطنبول على رأس جيشى .

 بوا الكونت: وماذا تقصدون سموكم من الذهاب الى اسطنبول وماذا كنتم صانعين بها ؟

ابراهيم باشا : ما كنت ادخلها للهدم بل الإصلاح ولكى اقيم حكومة صالحة مؤلفة من رجال اكفاء بدل الحكومة الحالية العاجزة عن الاضطلاعبحكم الامبراطورية .

 بوا الكونت: ان سموكم يؤيد بحديثه المخاوف التى ألمحت إليها في كلامي , فإن ما كنتم تنوون إحداثه هو ما كنا نعمل على منعه لا لأننا مسوقون بفكرة عدائية نحو سموكم أو نحو أبيكم  ولكن لان الانقلاب الذي كنتم عازمين عليه في الأستانة يفضى إلى مشاكل قد تشعل نار الحرب في اوروبا بأسرها.

ابراهيم باشا:  انك واهم فيما تظن فان هذا الانقلاب كان سيحدث دون اي مقاومةفإن السكان على جانبي البوسفور والدردنيل يطلبوننى لاحداث هذا الانقلاب الذي كان سيتم بهدوء وسرعة ودون أن تجد الوقت للشعور بوقوعه وإننىأبحث كثيرا و أتساءل لماذا تحقد الدول الاوروبية كل هذا الحقد على الأمم الإسلامية ؟

بوا الكونت: انى لا أفهم كلام سموكم .

ابراهيم باشا: إنك تقول الآن أن وصول جيشى الى اسكدار كان سيحدث ثورة في اسطنبول وأنى أوافقكم وأرى رأيكم , ولكن أليس هذا دليلا على أن الأمة الاسلامية لا تريد حكم السلطان محمود,  فبأي حق ترغمون هذه الأمة على ما لا تريده , وهل يحق لكم معشر الفرنسيين ان تمنعوها من اختيار حكامها ؟ عجبا لقد كنتم حين ثار البلجيكيون وطلبوا تأليف مملكة مستقلة وحينما قام اليونانيون يطالبون باستقلالهم , تنادون بأن لكل امة الحق في اختيار ولي أمرها ونظام الحكم الذي تتبعه , بل انكم  ساعدتم اليونانيين في ثورتهم فلماذا تحرمون الامة التركيه من هذا الحق ؟ ( ….)

*********

هل يمكن أن تكون هناك رؤية أوضح من ذلك ولا مثل هذا النظر الثابت ؟

لست من مدرسة – وقد قلت ذلك من قبل-  أن نعيد هندسة التاريخ , وان نقول: لو حدث هذا بدلا من ذلك ,ولو فعل الحاكم الفلانى كذا مكان كذا لكان أفضل .. ألخ , أرى أننا كمؤرخين  أو دارسين للتاريخ أو باحثين فى السياسة الاستراتيجية ندرس الواقع كما كان ونحلل أسبابه ونأخذ الدروس والعبر , واحاول أن أركز على أخذ الدروس والعبر فحسب , ولكن فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية فإنني لا أهندس التاريخ ولكن أنحاز لرؤية ابراهيم المخالفة لرؤية محمد علي في هذه القضية , قضية الصراع حول السلطة في الأستانة, أرى أن مصر أو مشروع محمد علي ما كانت لتخسر أكثر مما خسرته , لو مضى ابراهيم باشا في تصوره , وقام بحسمالأمر بسرعه قبل ان تفيق اوروبا ,  وأن يوحد سلطة المسلمين بين الآستانة والقاهرةلتصبح قوة واحدة ,  وكما يظهر في رسائل ابراهيم باشا لابيه فإنه لم يكن متهورابل رتب الأمر مع رشيد باشا , وكان ينتوى تنصيب عبد المجيد ابن محمود الثاني, والقيام بمحاولة إصلاح الدولة العثمانية من أعلى ولكن تحت السيطرة العسكرية المصرية التي أصبحت هى قائدة جيوش المسلمين ,  فكما ضمت الدولة العثمانية دولة المماليك فكان ذلك خيرا للمسلمين , فان ضم مصر لتركيا وممتلكاتها القليلة المتبقية كان يمكن أن يمثل خيارا افضل للمسلمين .

ففي كل الأحوال كما لاحظ ابراهيم باشا بذكاء, فإن  أوروبا ستظل تتوحد وتتآمر ضد الدولة الإسلامية الصاعدة , وكان مركز المسلمين سيكون اقوى إذا توحدت الدولتان المصرية والتركية في دولة واحدة , وسيظل الصراع مستمرا بل كما تلاحظون هو لايزال مستمرا حتى الآن في بدايات القرن الواحد والعشرين مع انضمام امريكا لأوروبا .بعد نظر ابراهيم باشا ظهر جليا, وبسرعة, فلم تكن معاهدة كوتاهية وهي ظاهريا لصالح محمد على  , الا هدنة حتى تستعد الدولة العثمانية مع دول اوروبا لترتيب الأوضاع لهجوم معاكس على دولة محمد علي فى اتجاه طردها من درنة ومن كل الشام ! ثم بعد ذلك حتى جزيرة العرب واليمن !! بل وتقويض النهضة الصناعية في مصر , فماذا كان في معاهدة كوتاهية ؟ وماذا حدث بعدها ؟

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: