ولماذا نجح المصريون القدماء في حكمها ألف عام ؟!
معاهدة دفاع مشترك بين الدوله العثمانيه وروسيا ضد مصر!
المؤرخون السوريون يشيدون بمحاسن حكم محمد علي للشام
اسم “الشام” مشتق من انتشار الأراضي الزراعية في الصحراء كالشامات على الوجه!
دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (54)
في 8 أبريل 1833 اضطر السلطان محمود – بضغط فرنسى واوروبا من وراء فرنسا – للموافقة علي اتفاق كوتاهيه وبمقتضاه يتخلى السلطان لمحمد علي عن سوريا وإقليم أدنة- كما طلب الأخير بالضبط مع تثبيت حكم محمد علي لمصر وجزيرة كريت والحجاز مقابل أن يجلو الجيش المصري عن باقي بلاد الاناضول , وبمقتضى اتفاق .كوتاهيه صارت حدود مصر الشمالية تنتهي عند مضيق (كولك ) بجبال طوروس .
وكما قلنا فإن الاتفاق يعكس ظاهريا انتصارا مؤزرا لـمحمد على فقد تحقق ما كان قد طلبه بالضبط وهو أساسا ضم سوريا وأدنة, ولكن فات محمد علي ( وأدركه ابراهيم باشا ) ان الاكتساح العسكري المصري للأناضول وتدمير الجيش العثماني كلية بحيث كان على أبواب الآستانة , أثار الذعر في قلوب الأوروبيين فاضمروا القضاء على هذه القوة البازغة الخطيرة (مصر) , أما السلطان فقد كان جاهزا للانقلاب علي محمد علي بعد ان يدبر شؤونه المبعثرة , فهو لم يوافق الا مضطرا على هذا الاتفاق. وكان الفرنسيون والانجليز يريدون إبعاد روسيا عن تركيا بالإضافة إلى هدفهم الثابت : الاحتفاظ بالدولة العثمانية ضعيفة حتى يتسنى لهم تقسيم تركة ممتلكاتها.
وقد بدأ الثأر العثماني فورا , وحيث لم يكن السلطان قد أعاد بناء جيشه المبعثر . فعقد سرا مع روسيا المعاهدة المعروفة ( هنكار أسكله سي) في 8 يونيو 1833 , وهي معاهدة دفاعية هجومية التزمت كل دولة بمقتضاها أن تساعد الدولةالأخرى اذا استهدفت لخطر خارجي او داخلى ,وتعهدت تركيا بأن تأذن للأسطول الروسي بالمرور فى البحر الاسود الى البحر المتوسط , وتسد البواغيز في وجه جميع السفن التابعة للدول الأخرى , ومؤدى هذه المعاهدة تخويل روسيا مد يدها في شؤون تركيا وبسط حمايتها الفعلية عليها , ولم يكن لهذه المعاهدة تفسير الا الاستعداد لمواجهة مصر فهي الخطر المباشر الوحيد في تلك اللحظة , وكان السلطان يضمر الهجوم المضاد علي محمد علي في سوريا, اما بالنسبة للروس فكان تأمين مرورها في المضائق هو هدفها الرئيسي الذي طالما دخلت الحروب من أجله ,وحصلوا على مبتغاهم بغير مقابل الا أن يحموا السلطان من محمد علي , وكان الجيش المصري عقب اتفاق كوتاهيه بحجم كبير للغاية وصل الى 168 الف جندي على هذا المستوى الذي رأيناه من الكفاءة في حروب الشام والأناضول واليونان .
ولكن لابد من وقفة تجاه ملامح الحكم المصري في سوريا :
دخلت الشام في حكم الدولة المصرية بعد صلح كوتاهيه الذي توج انتصارات الجيش المصري , وأصبحت مصر المرجع الأعلى لحكومة الشام ,وصار إبراهيم باشا حاكما عاما للبلاد السورية و قائدا للجيش المصري واستمر حكمه لسوريا 9 سنوات وعنى ابراهيم باشا بإقرار النظام والأمن في ربوعها , ومنع اعتداء البدو على غلات الأهالي وأملاكهم وأرواحهم, ومن الناحية الحربية اهتم بتأمين الحدود الشمالية مع تركيا في جبال طوروس حيث كان يتوقع زحف الجيش التركي في أي وقت , وشيد الثكنات والمستشفيات , ورابط معظم الجيش( وكان 70 ألف مقاتل ) في هذه المناطق والحصون الشمالية , وقد غلب علي ابراهيم باشا اهتمامه العسكري فاتخذ مقره العام في أنطاكية اي في أقصى الشمال وعين محمد شريف بك حاكما عاما لسورية عام 1832 وهو غير شريف باشا الشهير الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزراء وعرف بأبي الدستور, وتم تعيين شخصية سورية بارزة في اداره الشئون المالية والادارية وهو حنا بك بحري , وهذا أمر لم تعتاده الإدارة التركية , ويشيد المؤرخ السوري د. مشاقة وهو معاصر لهذه الاحداث بحنا البحري بانه كان (على جانب عظيم من أصالة الرأي , وله القدح المعلى في السياسة المدنية , وكان العدل والإنصاف شأنه والنزاهة زمامه , لا فرق عنده بين القوي الثرى والضعيف الفقير او المسلم والذمى و كان يعامل الجميع بالقسط وكانت هذه وصية محمد علي باشا له) . ( من كتاب مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان).
وعين ابراهيم باشا حاكم لادارة كل مدينة وألف لكل مدينه مجلس يسمى ( ديوان المشورة ) يتراوح عدد اعضائه بين 12 و21 عضوا ينتخبون من بين أعيان البلد وتجارها لإدارة شئون المدينة والفصل في المظالم.
كما وحد ابراهيم باشا سلطة الحكومة المركزية وأبطل سلطة الأمراء والرؤساء الإقطاعيين وضرب على أيدي الأشقياء وقطاع الطرق وبسط رواق الأمن في البلاد , ونظم .طرق الجباية , وتعامل مع الأهلين بالعدل والمساواة .
وازدهرت التجارة والزراعة في العهد المصري, فعمم ابراهيم باشا تربية دود القز (الحرير) وأكثر من غرس اشجار التوت لهذا الغرض , وغرز في ضواحي أنطاكيا أشجار الزيتون وهي مما يتناسب مع المناخ السوري , وازدهرت زراعة العنب , وعني باستخراج بعض المعادن خاصة الفحم الحجري في لبنان , وتوسع النشاط التجاري خاصة بين سورية و البلاد الأوروبية , ولكن ظل دخل الولايات السوريه أقل من نفقات الدولة , فكانت الخزانة المصرية تسد العجز , ولنتذكر ان محمد علي كان يطمع في ان تكون سوريا مصدرا للمزيد من الدخل للدولة المصرية ,ولعل هذا ما سيدفعه لاتخاذ قرارات خاطئة فيما بعد بزياده الضرائب , ويرى عموم المؤرخين خاصة السوريين ان الادارة .المصرية في سوريا رغم ما بها من عيوب أصلح من الحكم التركي السابق خاصة في مجال استقرار الأمن .
وعلى سبيل المثال يقول الأستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق في كتابه (خطط الشام) كان من أول أعمال ابراهيم باشا الجليلة في بلاد الشام ترتيب المجالس الملكية والعسكرية وإقامة مجالس الشورى وترتيب الجباية بالمساواة والعدل, لذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية , وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم حياتهم الطفيلية , مع ان البلاد رأت في أيام إبراهيم باشا إبطال المصادرات و تقرير حق التملك ,وفرض على لبنان مثلا 6782 كيسا ويدخل في خزانته (أى لبنان) المال الزائد على المفروض ,وهكذا تم استعادة أعمال الشام عمرانها القديم في أكثر القرى, كما قرب ابراهيم باشا العلماء والشعراء ,ولكنه أشار الي ما سوف نأتي إليه من أخطاء محمد علي بقراراته المركزية برفع الضرائب وتجنيد الشباب مما ادى الى انقلاب الراي العام فيما بعد.
وكتب د. اسد رستم استاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في أحد المقالات فأشاد بمحمود نامي بك محافظ بيروت في عهد إبراهيم باشا وكان من خريجي البعثات الأجنبية واستمر محافظا لبيروت طوال مده حكم مصر, وكان أول من أدخل الأفكار الحديثة فيما يتعلق بالحكومة والإدارة, وأحكم التدبير وأحجم عن الحكم الاستبدادي وشكل مجالس لاداره بيروت من سكانها فكان هناك مجلس شورى بيروت وديوان بالصحة واخر للتجاره ..الخ ..
ويقول سليمان بك ابو عز الدين أحد أدباء سوريا أن محمد علي سعى إلى تنظيم الاعمال و توزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بنصوص القانون, وتدريب الاهلين على ادارة شئونهم المحلية , غير أن جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وعاداتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبه فعالة على اعمالهم وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعاداتها وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت القوانين من أجلها , ولابراهيم باشا في السنين الأولى فضل خاص في ضبط الأحكام وشدة مراقبة الحكام واجراء العدل بين الاهلين وقد كان شديد الوطأة على الموظفين الذين يحيدون عن السبيل القويم , فعاقب كثير منهم بالطرد والضرب والحبس للاعتداء على أهل البلاد او عدم النزاهة
فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم لملكت قلوب السوريين) .(كتاب ابراهيم باشا في سوريا) وهو يشير الى إرسال بعض الشبان لدرس الطب في مصر واستخدام بعض السوريين في حكومة مصر المركزية , كما يشير الى إنشاء محجر صحي في بيروت والاهتمام عموما بالأمور الصحية , وإنشاء مصارف للمياه الراكدة في دمشق .
ويقول السيد لويس بلان المؤرخ الفرنسي في كتابه (تاريخ عشر سنوات ) , اذا اردنا ان نعرف ما أفادته سوريا من حكم مصر فما علينا إلا أن نلقي نظرة على سهول أنطاكية التي اكتست بأشجار الزيتون وضواحي بيروت التي كثر فيها الكروم والنشاط الذي انبعث في حلب ودمشق , لقد نالت سورية النظام والعمران ) .
ويضيف الأستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق , ( ومن مآثر الحكومة المصرية تجفيفها المستنقعات ,وتصريف الأقذار في مجاري خاصة , وتحديد أسعار اللحوم والعدل بين الرعايا على اختلاف الأديان والطبقات , وعدم إنفاق المواطن لأي مصاريف لتحصيل حقوقه , و إنفاق كل مال في وجهه المخصص له , كانت حكومة مصر من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثه أو أربعه قرون ولا حتى في القرون الوسطى أو الحديثه !! ).
وفي تقرير مرفوع من المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق الى سفير دولته في الأستانة عام 1858 جاء ( خلال حكم مصر عاد كثير من الناس الي سكنى المدن و القرى المهجورة , والى حراثة الأراضي المهملة خاصة في حوران وحمص والجهات الواقعة على حدود البادية , وفي هذه الأماكن أكره ( الأعراب- البدو) على احترام سلطة الحكومة والتوقف عن الاعتداء على الأهالي.
وتحت ادارة شريف باشا ( وكان قد رقى من بك الي باشا) تحسنت الاداره فتضاعف نجاح الاهلين وحسنت المالية في هذه النواحي , وتم توطيد الامن , وقدعدت الحكومة ظالمة لكنها في الحقيقة لم تكن تستطيع غير ذلك , إذ كان عليها أن تصلح عدة امور مختلفةوأن تبدل الفوضى والتعصب و القلاقل التي كانت سائدة بالعدل).
ونواصل مع تقرير هو شهادة من أعداء محمد علي حيث جاء: ( أصحاب المقامات العالية والافندية والاغوات(رؤساء الجند ) امتعضوا كثيرا من ذلك لأنهم كانوا يثرون من ابتزاز أصحاب التجارة والحرف وسائر الطبقات العاملة , وقد سر هؤلاء لخلاصهم من الظلم التركي الذي أنوا تحت عبئه طويلا ,و اغتبط المسيحيون خاصة وفرحوا لخلاصهم من التعصب الذي أوصلهم إلى درجة من الذل لا تطاق ,ولم يكن الفلاحون أقل سرورا منهم لأنه وإن كانت الضرائب المقررة تستوفي بكل شدة فلم يكن يستوفي منهم بارة زيادة, ولا تضبط حاصلاتهم وغلالهم ولا يؤخذ منهم شيء دون دفع ثمنه ,ولم يجبروا على تقديم خدمة دون بدل ,والفلاحون الذين قطنوا القرى المهجورة اسلفوا مالا لإصلاح بيوتهم وتموينها , وأعفوا من الضرائب مدة ثلاث سنين , وكم من مرة ذهبت الجنود بأمر ابراهيم باشا لمقاومة الجراد ,ولم يكن المصريون يطردون من البلاد حتى عاد القوم الى نبذ الطاعة ,وخلفت الرشوةفي ادارة المالية النزاهة والاقتصاد , ومنيت المداخيل بالنقص, واستأنف عرب البادية غاراتهم على السكان, فخلت القرى والمزارع المأهولة جديدا بالتدريج وعادت الفوضى) .
أخطاء محمد علي ساعدت على إنهاء الحكم المصري:
دروس أخطاء سياسات محمد علي تجاه الشام بالغة الأهمية وذلك من أجل المستقبل فإذا كانت طموحاتنا ستظل مصرة على توحيد العرب ثم المسلمين فلابد للنخبة الحاكمة والمثقفة أن تدرك الفروق الجوهرية فى خصائص و سمات شخصيات الشعوب , فأهل الشام يختلفون عن أهل مصر جوهريا في عدة أمور حتى وان كانوا على دين واحد , كذلك يمكن اكتشاف العديد من أوجه التميز بين شخصيات الشعب الليبي أو التونسي أو الجزائري او المغربي او السوداني , أن سفرى وتجوالى في هذه البلدان (زرت كل البلاد العربية وبعضها اكثر من مرة عدا موريتانيا و جيبوتي و جزر القمر والصومال أما سلطنة عمان فزرتها عبر مطارها فحسب لعدة ساعات كترانزيت وإن لم يخلو الامر من بعض الانطباعات) لقد تجولت فى هذه البلدان العربيةإلى مستوى زيارة العديد من الأقاليم والمدن وليس مجرد زيارة للعاصمة والاعتصام بالفنادق ! , ورغم ان معلوماتى الأساسية من القراءة ولكن هذه الانطباعات في الزيارات السريعة المتكررة لا تخلو من أهمية ومغزى على الأقل في تجسيد ما قرأته بالاضافه لاكتشاف بعض الملامح الرفيعة المهمة , إذا لم تدرك النخب الحاكمة والمثقفة هذه الفروق و التمايزات, فابشروا مقدما بفشل أي محاولات وحدوية بالنسبة لسوريا (الشام) وتاريخيا يطلق اسم سوريا على نفس نطاق الشام أي هذه الدول الأربعة الحالية : سوريا – لبنان – الأردن- فلسطين , بالنسبة لسوريا (الشام) فهي أقرب البلاد لمصر وأكثر بلد عاش مع مصر في دولة واحدة عبر التاريخ مع شرق ليبيا (برقة) وشمال السودان , ومع ذلك فإن إدراك حكامنا ونخبتنا للفروق الجوهرية بين الشعبين المصري والسوري (وطبعا الليبي والسوداني) إدراك محدود ينذر بالخطر حتى على مجرد التعاون المشترك وليس الوحدة.
يبدو أن أفضل مرحلة كانت فيها النخبة الحاكمة المصرية مدركة لخصائص وطبيعة بلاد الشام كانت هى المرحلة القديمة, أما الآن فإننا لا نجيد إلا الحديث الأجوف عن العروبةوالأشقاء و الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر بل إن نزعة القومية العربية او النزعة الإسلامية تجعل القوميين والاسلاميين لا يرحبون بمثل هذه النظرات و يركزون على المبادئ العامة: كلنا عرب .. كلنا مسلمون ! عظيم لا بأس ولكن هذا الكلام وحده كما يقول الحديث الدارج ( لا يؤكل خبزا) .
ستجدني دائما في أشد المعسكرات حماسة للعروبة والاسلام والوحدة والموت دون ذلك, ولكن بدون إعمال العقل فلن نحقق تقدما حقيقيا تجاه هذه الأهداف العظيمة .
يبدو أن مصر القديمة , وأتعمد عدم استخدام (الفرعونية) لأنها على ما يبدو مصطلحا خاطئا , فدراسات علمية عديدةتشير الآن الى أن الفرعون لم يكن هو اللقب الدائم لكل حاكم مصرى , وإن فرعون موسى الوارد ذكره في القرآن , بل هو ثاني أهم شخصية في القرآن الكريم بعد سيدنا موسى من حيث عدد مرات تكرار اسمه , فسيدنا موسى هو الأول حيث ورد اسمه ( 138 مرة تقريبا ) أما فرعون فورد اسمه 74 مرة !! هذا الفرعون قد يكون هذا هو اسمه او اللقب الذي استخدمه لنفسه , كذك لا أستخدم (الفرعونية) لانها تشير لعبادة الحكام والأوثان , رغم علمنا اليقيني بأن مصر علمت الرسل والأنبياء والرسالات السماوية , ولكن دراستنا التاريخية والآثار الحجرية وهي الباقية اكثر من أوراق البردي يغلب عليها هذا التوجه الوثنى او الشركى , بل لدينا بنص القرآن الكريم حاكم مسلم نبي هو سيدنا يوسف سواء استمر كعزيز مصر له كل السلطات أما انه تولى الحكم نهائيا , لأن الملك اختفى من سورة يوسف بمجرد إعطائه كل الصلاحيات ليوسف (إنك اليوم لدينا مكين أمين) 54 يوسف
وهذا ما يهمنا الان ان يوسف كان هو الحاكم الفعلي ,وأشرنا من قبل إلى سيدنا إدريس وما وصلنا من روايات من ارتباطه بمصر , وكذلك احتمال مجيء سيدنا ايوب من الشام الى العريش, ولكننا نعرف يقينا من القرآن – كما أشرت – موسى وهارون .
ان عدم بقاء أي كتب سماوية هي حكمة إلهية , فكما حفظ الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم باعتباره النسخة الأخيرة المهيمنة على كل ما سبق من كتب كان لابد – كما أتصور وكله في علم الله – أن تختفى النسخ الاصلية الحقيقية لكل الكتب السابقة حتى لا يؤدي وجودها الى اي نوع من التشويش او الإرباك خاصة وقد تم نسخ و تحوير عدد من الشرائع والاحكام , وهكذا فإن تاريخ مصر مظلوم لانه لا يوجد فيه الا الآثار القديمة وهي لا يمكن أن تصنف دائما بالوثنية , ولكننا تركنا هذا التراث الثمين في أيدي اليهود والنصارى الغربيين , وأرى اننا نحتاج لعمل تاريخى أثارى لاكتشاف الوجه الروحي والتوحيدى الحقيقي لمصر , لا استخدام وصف (الفرعونية) الذي يردده إعلامنا الأبله حتى الآن حتى في مجال كرة القدم.
كان لابد من هذا التوضيح لأن القارئ سيلاحظ اننى استخدم دائما تعبير (المصريين القدماء او مصر القديمة) ولا استخدم تعبير (الفرعونية) خاصة انه ثبت أنه غير حقيقي.
بالمناسبه والشيء بالشيء يذكر -يرد في تفاسير القرآن عن قوم( تبع ) من ان (تبع) هو لقب ملوك اليمن , أيضا كل الكشوف الأثرية لم تثبت ذلك أبدا و احتمال كبير أن يكون (تبع) هو اسم حاكم محدد !!
أنا لا أخرج عن الموضوع لأن جهلنا بأبسط حقائق تاريخنا لا يبشر بالخير , و حالة السطحية والجهالة المنتشرة بين النخبة المثقفة والحاكمة على السواء هي أقصر الطرق الى استمرار ما نحن فيه من فشل ذريع , بل تنذر بالمزيد من الانحدار.
قلت ذلك لأنني اريد الحديث عن المصريين القدماء وعلاقتهم بالشام , فيبدو في حدود ما لدينا من معلومات فإن حكام مصر القديمة كانوا هم الأكثر رشدا في التعامل مع بلاد الشام وأهلها, والدليل الأبرز هو استمرار حكم مصر للشام عدةقرون متقطعة , والاستمرار يعني النجاح , والنجاح يعني أنك تسير على الطريق الصحيح.
فعندما أسست مصر أول امبراطورية في التاريخ كانت الشام نواتها الأساسية وقد استمرت هذه المرحلة نحو الف سنة متقطعة حتى نهاية الدولة الوسطى او الحديثة, وكما ذكرنا من قبل فان الحد الأدنى لحدود مصر الشمالية كان لايقل عن جنوب الشام ( فلسطين) بالاضافه لخط ساحلى على البحر المتوسط يتجاوز فلسطين الى لبنان حيث تبرهن الآثار عن علاقات وثيقة بين المصريين والفينيقيين وكان خشب شجر الأرز مصدرا مهما لبناء السفن المصرية, كذلك شهد القرن السابع قبل الميلاد في عهد نخاو تعاون وثيق بين مصر ولبنان لتنفيذ مشروع الدوران حول أفريقيا بحرا وهو ما تحقق بالفعل , ومع ذلك يدعون الآن ونردد معهم كالببغاوات في كتبنا الدراسية ان فاسكو دي جاماالبرتغالي هو مكتشف رأس الرجاء الصالح ,رغم ان المصريين رسموا خريطة أفريقيا كاملة خلال هذه المرحلة , وقد اعتمد المصريون على الملاحين الفينيقيين.
اطلعت يوما على وثيقة لطيفة للغاية من وثائق وزارة الخارجية في العهد المصري القديم وقد كانت ترسل سفراء دائمين أو مبعوثين مؤقتين لبلدان الشام , وكان السفير لإحدى هذه البلدان لابد أن يمر باختبارات خاصة (امتحانات) قبل الموافقة على ارساله , وكان من الأسئلة التي يجب ان يجيب عليها : اين يقع نهر” النتن” فإذا لم يعرف الإجابة الصحيحة لا يرسل , ونهر النتن هو الذي يسمى الآن “نهر الليطاني” في جنوب لبنان وطبعا هناك اسئلةأخرى , وهذا يكشف مستوى الدقة والكفاءة والوعى لعمل وزاره الخارجيه المصريه القديمة , ويمكن أن نقارن ذلك بجهل بعض مبعوثينا حاليا , هذا يكشف إدراكهم لضرورة معرفة الدبلوماسي كافة التفاصيل والدقائق المهمة للبلد المبعوث إليه , كذلك تكشف الآثار والبرديات ان الطبقه العليا في بلاد الشام كانت ترسل ابناءها للتعليم في مصر, في معابدها التي كانت أشبه بالجامعات , بل تم تأسيس جامعة عين شمس وكانت أشهر جامعة في العالم وأتى إليها الكثير من علماء ومثقفي اليونان.
وتكشف لوحات مرسومة في المعابد المصرية صورا تسجيلية لزيارات وفود أهل الشمال (الشام) إلى حكام مصر وتقديمهم الهدايا لهم , كما انتشرت العقائد المصرية في بلاد الشام وبعض بقاع اليونان.
و يبدو ان مصر كانت تتصرف كدولة عظمي متقدمة, وينعكس ذلك على أسلوبها الراقي في الحكم والعلاقات مع أهل الشام , وكانت هذه هي الألفية المصرية السعيدة التي ربما لم تتكرر صورها كثيرا فيما بعد .
ولا نملك الآن ان نواصل مسار العلاقات المصرية – الشامية عبر التاريخ ولكن لضيق المجال نتوقف عند الوحدة المصرية السورية في عهد عبد الناصر (1958- 1961) من الملمح المهم الذي يهمنا مع حكم مصر لسوريا في عهد محمد علي , فالملمح المشترك بين الوحدتين الذي أدى إلى الإسراع بانهيار التجربة بعد 3 سنوات ثم بعد 9 سنوات, عدم إدراك الحاكمين الفروق الجوهرية بين طبيعة الشعب المصري ومصر وطبيعة الشام وشعبها , فعبد الناصر تصرف بغشومية مع انعدام في المعلومات وغياب الحد الأدنى لفهم أوضاع سوريا, وتصور أنه طالما أن الشعب السوري وقائده شكري القوتلي طالما طالباه بالوحدة,وطالما استقبل استقبالا شعبيا رهيبا في الشام حين قيل ان الجماهير قد حملت سيارته , تصور أنه يمكن أن يصدر القرارات ويعممها بين مصر وسوريا طالما قد أصبحت هناك وحدة اندماجية , وهو الرئيس للبلدين, فاعتمد في الاداره الداخليه على المشير عبد الحكيم عامر بكل مساوئه وعيوبه , فإذا كان الجيش المصرى يتحمل المشير عامر الذي تمت ترقيته عام 1954 من رائد الى لواء فلأن هذه هي مصر , التي يبلع شعبها الزلط , حتى قال محمود شاكر وهو يتحدث بضمير معاوية بن ابي سفيان (مصر يمكن أن يسيطر عليها سيطرة تامة أى انسان يحمل لقب الحاكم او الأمير) , أما أهل الشام ( فلا يمكن أن يحكمواإلا بالدهاء وبإرضاء مطالبهم ) ( التاريخ الاسلامي – محمود شاكر – المكتب الاسلامي – الطبعه السادسه 1991- بيروت – دمشق -عمان -الجزء الرابع – العهد الاموي)أماالمشير عبد الحكيم عامرفقد أثار غضب وسخط ضباط الجيش السوري من أسلوبه وعجرفته وتصوره أنه يمكن أن يدير الجيش السوري وأوضاع سوريا كما يفعل في مصر.
كذلك أخطأ جمال عبد الناصر عندما اصدر قرارات يوليو الاشتراكية (التأميمات) وظن انه يمكن ان يطبقها في مصر وسوريا على السواء , في مصر لم ينبس أحد ببنت شفة, أما في سوريا بلد التجارة الحرة والبيزنس الخاص فهي تعشق القطاع الخاص ولا تقبل هذه الأمور (التأميمات) بسهولة.
ثالثا فإن عبد الناصر ألغي الحريات السياسية بجرة قلم في سوريا وكأنه في مصر وكانت سوريا تعيش منذ الاستقلال في 1945 حريات حزبية وصحافية رغم تعاقب الانقلابات العسكرية غير المستقرة .
وسنأتي لمرحلة 23 يوليو إذاطال بنا العمر وسمحت الاقدار, ولكن هذه لقطة سريعة لابد ان نتذكرها عندما تطلع على قرارات محمد علي الغاشمة التي أصدرها وهو جالس في الاسكندرية يستمتع بهوائها العليل لتطبق في سوريا كما طبقت فى مصر , وذلك في أواخر 1833 وأوائل 1834 أى والحكم المصري لايزال في بداياته:
1- احتكار الحرير في البلاد السورية
2- أخذ ضريبة الرؤوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم .
3- تجنيد إجباري للأهالى .
4- نزع السلاح من أيديهم .
وقبل أن نناقش تأثير وتفاعل هذه القرارات , نذكر بما قلناه خلال تناولنا لدور نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي في الانتصار على الصليبيين , وخلال تحليلنا لمعركة حطين , ولماذا كانت مصر هي قاعدة صلاح الدين في معركة التحرير في بلاد الشام , وقلنا ان بلاد الشام مفتتة تاريخيا , وتعيش دوما معارك مستمره بين المدن والامارات والأمراء, في صراع للنفوذ لا يهتم بوضع الخطر الصليبي او التتارى فيما بعد في عين الاعتبار, بل بعضهم تعاون مع الصليبيين فعلا في سبيل بقاء او توسيع نفوذه .
ومن الطريف ان نضيف ان اسم “الشام” مشتق فعلا من انتشار الأراضي الزراعية والواحية تفصل بينهما رمال الصحراء كالشامات على الوجه. ( شخصية مصر- د.جمال حمدان – الجزء الأول – دار الهلال) في حين ان مصر قطعة زراعية واحدة متمحورة حول النيل بدون انقطاع , وهو ما أدى الى نشوء خصائص الشخصية المصرية ,من حيث التوحد والتجانس والخضوع للحاكم الذي يضبط ماء النهر (للرى) ويضبط تقسيم الأراضي, ومن المهم أن نضيف إلى أن سوريا تنطوى على فسيفساء ديني وطائفي ومذهبي وأن المسيحيين في سوريا الحالية 16 % من السكان ( مقابل 6.6%في مصر) بالاضافه للدروز والعلويين والاسماعيلية وتمركز معظم هؤلاء في الجبال الوعرة والحصينة .
والآن كيف تفاعلت قرارات محمد علي التي وضعت المسمار الأول في نعش الوحدة !؟