إسرائيل وتحويل الصراع على القدس إلى صراع ديني
د. غازي حسين
القدس ليست مجرد عاصمة من العواصم العربية العزيزة على قلوب العرب والمسلمين، بل هي المدينة العربية التي خاض العرب والمسلمون من أجلها الحروب منذ تأسيسها على يد الكنعانيين العرب، وحررها رجال الصحابة فلسطين من الغزاة الرومان، واستعادها صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين، واحتلت إسرائيل الشطر الغربي من المدينة في الحرب العدوانية التي أشعلتها عام 1948 والشطر الشرقي منها في حربها العدوانية عام 1967، واندلعت انتفاضة الأقصى بسبب تدنيس مجرم الحرب شارون لحرمة المسجد الأقصى المبارك. ونشبت هبة الشيخ جراح بسسب مساعي حكومة نتنياهووالمستوطنون تهويده وتهويد سلوان وتوسيع القدس حتى أريحا وتدميرالاقصى وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه.
كان رؤساء بلدية القدس في المئة سنة الأخيرة قبل الاحتلال الإسرائيلي لها عرباً فلسطينيين، وكانت القدس الشرقية حتى حرب حزيران العدوانية عام 1967 العاصمة الثانية للمملكة الأردنية الهاشمية، وكان الفلسطيني أنور نسيبة محافظ المدينة.
تؤكد وقائع التاريخ والأحداث مركزية القدس في قلوب وعقول ومشاعر العرب من مسلمين ومسيحيين والمسلمين كافة على مر العصور. وتواجه اليوم الخطر الصهيوني لتهويد كل المدينة والضفة الغربية وتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم وإقامة اسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال نيوم السعودية والتطبيع الخليجي ومشروع الشرق الاوسط الجديد واسرائيل العظمى الاقتصادية كقائد ومركز له.
بقيت القدس تحت حكم وسيادة الدولة الإسلامية (1400) سنة تجلت فيها صور التعايش والتعاون المشترك بين الديانتين المسيحية والإسلام بأجلى صورها من خلال العهدة العمرية والتي تضمنت شرطاً لبطريرك المدينة صفرونيوس الدمشقي، على ألا يسكنهااليهود.
لجأ العدو الإسرائيلي لتسخير الدين اليهودي وما يتضمن من خرافات وأكاذيب وأطماع رسخها كتبه التوراة والتلمود والصهيونية العالمية وتبنيها الدول الاستعمارية لتبرير أطماعه في القدس وفلسطين.
وضع اليهود لتحقيق أطماعهم وأكاذيبهم أهمية بالغة للقدس ورسخوها في نفوسهم بسبب موقعها الاستراتيجي في قلب الوطن العربي ومكانتها الدينية والسياسيةلإذلال العرب من مسيحيين ومسلمين والمسلمين في العالم لتحقيق الأكاذيب والأطماع التوراتية والتلمودية والمخططات الصهيونية والاستعمارية.
أجبرت إسرائيل (60) ألف من عرب القدس الغربية عام 1948 على الرحيل من المدينة ووضعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي لها هدفين في الشطر الشرقي للمدينة فور احتلاله عام 1967.
- الأول: طرد أكبر عدد ممكن من العرب وإعاقة النمو السكاني لهم في المدينة والتقليل من عددهم كما بوسائل وأساليب الاحتلال كافة.
- والثاني: زيادة عدد السكان اليهود فيها عن طريق إقامة الأحياء والمستعمرات والبؤر اليهودية.
تنطلق جميع قرارات مؤتمرات القمم العربية والإسلامية من أن القدس بشطريها مدينة عربية محتلة ويجب أن تعود إلى السيادة العربية، كما رفض العالم جعل القدس الغربية عاصمة لإسرائيل ورفض ضم القدس الشرقية وإعلان القدس بشطريها المحتلين عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، فالموقف العالمي والشرعية الدولية تنطلقان من أن القدس العربية مدينة محتلة وينطبق عليها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 الذي ينص على انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية المحتلة وقرار التقسيم ومجلس الوصاية الدولي ويتضمنان وضع القدس تحت الوصاية الدولية.
عندما انعقد المؤتمر الإسلامي الشعبي 1953 قرر العمل على تحرير الشطر الغربي من القدس وتحرير بقية فلسطين وعودة السيطرة الكاملة والسيادة للعرب والمسلمين على المدينة المقدسة وعدم التفريط بأي جزء من القدس الكاملة وتحريرها بالمقاومة والجهاد، وأكد المؤتمر الإسلامي العالمي رفضه لدعوات التدويل والتهويد.
دعا مؤتمر وزراء الأوقاف الإسلامية في 22 آذار 1979 بمكة المكرمة إلى العمل على تحرير كامل التراب الفلسطيني وقرر” اعتبار تحرير المقدسات الإسلامية في فلسطين المحتلة واجباً إسلامياً يقع على عاتق كل مسلم.
وبلغت الأطماع الاستعمارية لإسرائيل ذروتها عام 1980 عندما أعلنت أن القدس بشطريها المحتلين الغربي والشرقي عاصمتها الأبدية الموحدة، وأخذت تهوّد المدينة وتغير معالمها السكانية والعمرانية والحضارية. وجسد الإجراء الإسرائيلي انتهاكاً فاضحاً للسيادة العربية والقانون الدولي واتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وقرارات مجلس الأمن، ووصلت الوحشية الإسرائيلية حداً حاولت وتحاول فيه تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، تتفق جميع الأحزاب الإسرائيلية اليمينية منها واليسارية على إقامة إسرائيل الكبرى أو إسرائيل العظمى عن طريق استمرار الاحتلال والاستعمار الاستيطاني وبناء المستعمرات واستمرار سياسة الإرهاب والإبادة والهيمنة لكسر الإرادات الفلسطينية والعربية، والقبول بتهويد فلسطين وبهيمنة إسرائيل، وتسخر الصهيونية العالمية “الماسونية” وشهود يهوه و(المسيحية الصهيونية) والكنائس البروستانية الأمريكية لتدمير المسجد الأقصى المبارك وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، فالماسونية تعمل على إعادة بناء الهيكل الذي تعتبره “الرمز لعزة اسرائيل” وتؤمن الماسونية الأوروبية أن روحها هي روح اليهودية في معتقداتها الأساسية، وتتضمن دائرة المعارف الماسونية الصادرة في فيلا دلفيا عام 1906 على أنه يجب أن يكون كل محفل ماسوني رمزاً لهيكل اليهود، وتقرأ جميع الحاضرين من الدرجة 33 في المحافل الماسونية:” ستعود إلى عهد سليمان بن داوود ونبني الهيكل الأقدس، ونقرأ فيه التلمود، وننفذ كل ما جاء في الوصايا والعهود، وفي سبيل مجد إسرائيل نبذل كل مجهود، وتدعم الكنائس الانجيلية والتحالف المسيحي والمحافظون الجدد والإدارة الأمريكية، الأكاذيب والأساطير والأطماع اليهودية في المسجد الأقصى وجبل الزيتون، ويعتقد أتباع (الصهيونية المسيحية )إن إعادة بناء الهيكل هي نبوءة توراتية وإرادة إلهية لا بد أن تحدث. وأن على المسيحيين أن يساعدوا اليهود لتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل، وكان الرئيس الأمريكي ديفان من أكثر المتحمسين لهذا التيار حيث قال في حديث مع الإنجيلي هارولد برتسون ” إن إعادة توحيد القدس تحت العلم الإسرائيلي هو تحقيق لنبوءة انجيلية” ويشكل الاستعمار الاستيطاني اليهودي جوهر الفكر الصهيوني وممارسات الكيان الصهيوني في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948 وحتى اليوم.
ونجحت إسرائيل بحمل المفاوض الفلسطيني في اتفاق الإذعان اوسلو الذي تم توقيعه في 13/9/1993 بعدم الإشارة إلى القدس وتأجيل بحث القضية في مفاوضات الحل النهائي فيما أتاح لإسرائيل الوقت الكافي للاستمرار في تهويد القدس وبناء كنس يهودية وحدائق توراتية مزيّفة حول المسجد الأقصى كمقدمة لتدميره لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
ووضع الكيان الصهيوني مخططاً يهدف إلى إيجاد تجمع يهودي يضم مليون نسمة في القدس الكبرى التي ستتوسّع حتى أريحا ومن 33 مستعمرة وإحياء يهودية كاملة وطرق التفافية والجدار العنصري وجدران أمنية أخرى لخنق وتطويق القدس وتسريع الاستيطان فيها، وإحكام القبضة على الأحياء العربية وتحويلها إلى جزر معزولة منفصلة عن بعضها البعض، وإغلاق الطوق الجنوبي بمستعمرة جبل أبو غنيم، والبوابة الشرقية، واقتطاع 13 ألف دونم من قريتي الطور والعيسوية، وإغلاق البوابة الشمالية التي تربط القدس برام الله بطوقين من المستعمرات، وبناء الطوق الذي يهدف إلى إطباق السيطرة اليهودية على القدس الكبرى بأسرها ويتكون من شوارع في الشرق والغرب وترام وشارع 9 في الشمال، وسيحقق هذا الطوق ربط المستعمرات اليهودية مع بعضها البعض وتعزيز فصل القدس عن الضفة الغربية وضم المستعمرات القريبة إليها، وستغيّر هذه الإجراءات الطابع الحضاري العربي الإسلامي لمدينة القدس. ويسعون الى جعلها عاصمة العالم.
وستولّد اللحظة الاستيطانية الجديدة في تهويد منزل الحاج أمين الحسيني وحي الشيخ جراح تغيرات جغرافية وديموغرافية لصالح تهويد المدينة والسيطرة التامة على حركة الفلسطينيين، سكان القدس الأصليين وأصحابها الشرعيين.
إن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين في خطر حقيقي وإن القدس بأسرها، مدينة الإسراء والمعراج في خطر داهم، وهي منطقة عربية إسلامية مقدسة، قدسها الله ورسوله العربي ووقف إسلامي لا يجوز لأحد التصرف بها.
إن الهدف الراهن لليهودية الامريكية و(المسيحية الصهيونية) والادارات الامريكية تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، لذلك تتحمل الشعوب والحكومات والحكام العرب والمسلمين مسؤولية ما آل اليه الوضع فيهاوإنقاذ المسجد الأقصى من التدمير والتهويد.
إن التقصير والتواطؤ والتآمرالعربي الرسمي والجامعة العربية في المحافظة على عروبة فلسطين والقدس وتنفيذ بعض المسؤولين العرب المطالب والرغبات والمخططات الإسرائيلية والأمريكية قاد إلى الوضع الحالي في الاقصى وحي الشبخ جراح وسلوان وكل القدس وفلسطين والجولان.
إن الاستمرار في التطبيع والتواطؤ والتخاذل والتآمر العربي الرسمي وعدم تحمل المسؤولية لإرضاء الولايات المتحدة على حساب عروبة القدس سيقود إلى تدمير المسجد الأقصى وإنفجار الشرق الاوسط، فاحذروا فالصراع على القدس والمسجد الأقصى صراع وجود وطني وقومي وديني وإنساني وقانوني ولا يجوز التنازل عن جزء منها أو عن ذرة من ترابها أو التفريط بعروبتها، فاتفاقات الإذعان والأحياء والمستعمرات اليهودية والكيان الصهيوني ككيان استعمار استيطاني استعماري وعنصري وإرهابي يجب أن يزول ومصيره إلى زوال.