الحلقة الخامسة من كتاب التبعية لأمريكا مرض العصر وهو مكتوب عام 2014
كيف اتخذنا أمريكا إلهًا من دون الله ؟!
كما ذكرنا فإن العبادة هي مسألة اتباع وطاعة وانقياد، وحكامنا عندما يوضع أمامهم أمر فيه حكم إسلامي واضح، وموقف أمريكي مختلف، يسيرون خلف الموقف الأمريكي!! أي أننا استبدلنا المرجعية الاسلامية بالمرجعية الامريكية في أمور أساسية وجوهرية في حياتنا، وهي كيف ننظم مجتمعنا، وكيف نصنع السياسات الداخلية والاقتصادية والخارجية والتعليمية والثقافية، وهي أكثر الأمور التي تحدد طبيعة المجتمع، ولكن مع أمريكا حدث شيء أخطر من ذلك، وجعلها أخطر على عقيدتنا من اللات والعزى؛ حيث أصبحنا نضفي عليها صفات الله عز وجل، ونطلق عليها أسماء الله الحسنى.
ويعتمد هذا الجزء من الدراسة على تصريحات ومواقف المسؤولين وسياسات الحكام منذ السادات وحتى نهاية عهد مبارك، وعلى ما صدر ويصدر من وسائل الإعلام، ولكن المصيبة الأكبر أن الإعلام الذي نجح في تخريب ثورة يناير 2011 قد نجح في ترويج وزرع هذه المفاهيم والمواقف تجاه أمريكا، بل أزعم أن جهاز نشر الشائعات في الدولة كان له دور خطير في ذلك؛ بهدف تعزيز ثقة الناس في السياسة الخارجية لمبارك حتى وإن كان فاشلًا في السياسة الداخلية، وكنتَ تسمع هذه المقولة بالنص من الناس في أماكن مختلفة، وعلى مستويات ثقافية متعددة (الحقيقة وإن كان مبارك فاشلًا في السياسة الداخلية إلا أنه رائع في السياسة الخارجية، وقد حمى مصر من بلايا كثيرة بموقفه العاقل مع أمريكا) ولم تكن في تلك الآونة وسائل إعلام تقول هذه المقولة بهذا الوضوح مما يؤكد دور جهاز الشائعات السرى، والمعلوم أن هذا الجهاز لا يروج أخبارًا صحيحةً أو شائعات فحسب ولكنه يروج آراءً وأفكارًا ومواقف أيضًا، وأكثر ما يثبت حاكمًا ونظامًا سياسيًّا ما هو اقتناع الشعب أو قطاع واسع منه بسياسته، وهذا في الحقيقة السبب الجوهري لاستطالة حكم مبارك 30 عامًا، كما أن الثورة عليه غلبت عليها الأسباب الداخلية؛ بسبب هذه الرؤية الشائعة : أن مشكلة مبارك في السياسة الداخلية، والفساد، والديكتاتورية، والبطالة، والتوريث فحسب، وليس في سياسته الخارجية، وعندما قفزت النخبة على الثورة أكدت هذا التوجه أيضًا، فاليسار مع شعار (عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية) بينما لم يكن للإسلاميين أي شعار !!
لقد كنتُ – ولا زلتُ – أشعر بالفزع والجزع عندما أرى هذه الكتلة الرهيبة من حيث الحجم والتنوع من الشعب على قلب رجل واحد إزاء هذا الموضوع، وهذه هي الخطورة الشيطانية للإعلام : كتلة تقول – ولا تزال رغم ثورة يناير – إننا لسنا قد أمريكا، لا نملك أن نواجه أمريكا، لابد أن نكسب أمريكا إلى صفنا، من يعادي أمريكا يُدمر مثل العراق، ويُحاصر مثل إيران، ويُمزق مثل السودان، (لا قبل لنا اليوم بأمريكا)! – فئات الشعب المختلفة – الطبقة السياسية لا توحدها إلا هذه الفكرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار (عدا حفنة من اليساريين وعدا حزب الاستقلال ) لم يتفق العلمانيون والإسلاميون إلا في مسألة أمريكا: ضرورة عدم معاداتها والاحتفاظ بعلاقات طيبة معها، وعدم إثارة كل ما يتعلق بكامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل، وعدم التعرض لكل ذلك إلى أجل غير مسمى، وإذا كان هذا هو موقف الطبقة السياسية في مجموعها فإن ذلك يعود ليؤكد نوعًا من الوفاق أو الإجماع ” الوطني “، وهو أمر لا يحظى به في مجتمعنا إلا ” الله ” عز وجل، فحتى الملحدين يرون عمومًا عدم إثارة موضوع عدم إيمانهم بالله، ويتواضع المسلمون والمسيحيون على أنهم يعبدون الله بشكل عام حتى لا يدخلوا في التفاصيل فيختلفوا، ولكن في هذا الشرك يوجد متمردون ضد أمريكا وهم أقلية تزيد أو تنقص حسب الأحوال، وقد حدثت عدة صحوات شعبية ضد هذه العبودية لأمريكا أبرزها المظاهرات الشعبية العارمة ضدها عام 2003 بمناسبة غزو العراق، ولكن الهزيمة السريعة لنظام صدام قضت عليها، ثم واصل الإعلام “رسالته ” الشيطانية على مدار عشر سنوات 2004- 2014؛ لإخراج أمريكا من الصورة تمامًا، والانشغال بالأوضاع الداخلية دون ذكر للدور الأمريكي إلا لمامًا، حتى عند تأسيس حركة كفاية في أواخر 2004 بذلنا جهدًا كبيرًا مع العلمانيين (اليسار والليبراليين والقوميين ) لوضع سطر في وثيقة التأسيس ضد أمريكا.
وأثناء عمل حركة كفاية كان التيار الغالب فيها (الكل عدا حزب الاستقلال) يرى ضرورة التركيز على الأوضاع الداخلية، وعدم التعرض لأمريكا أو إسرائيل، وكان هذا يضطرنا لعمل أنشطة موازية..
إضفاء صفات الله وأسمائه الحسنى على أمريكا
أمريكا قادرة على كل شيء : أمريكا هي القادر المعز المذل العزيز الجبار المتكبر النافع السميع البصير المتعال الرزاق، خير الماكرين، خير الناصرين، ذو انتقام، ذو عقاب أليم، ذو القوة، ذي الطول، الحسيب، سريع الحساب، سريع العقاب، شديد القوى، شديد المحال، فعال لما يريد، الأعلى، الأعلم، الخبير، الرقيب، الضار، العظيم، العلي، الغني، القاهر، القدير، القريب، القهار، القوي، الكبير، المتين، المحصي، المحيط، المحيي، المقتدر، المهيمن، المولى، النصير، الوالي، الوهاب، يحيي ويميت.
لا توجد مبالغة، بل أحيانًا يستخدم اللفظ ذاته، والصفة ذاتها لوصف أمريكا.
(1) القوي : وتتزاوج هذه الصفة مع : القادر، المعز، المذل، القهر، المتين، وصفات أخرى .
ويجب إزالة التباس بديهي ولكنه مهم لمتابعة النقاش، نحن لا نغفل لحظة واحدة القوة المادية التي تملكها أمريكا عسكريًّا واقتصاديًّا، ورغم تراجعها الحضاري فهي لا تزال تملك أكبر قوة عسكرية في العالم، وليست هذه الواقعة الأولى في التاريخ، فقد وجدت الحضارة الرومانية، وأيضًا وجدت قوة المغول التي اجتاحت آسيا، وجزءًا من أوربا، ولكن كانت القوة الأولى في العالم تحفز قوى أخرى لمواجهتها أو لمقاومتها دفاعًا عن الأرض والإقليم، وعمومًا لا توجد قوة للبشر مطلقة، فالقوة المطلقة لله وحده عز وجل، حتى وإن امتلكت أمريكا ترسانة نووية قادرة على تدمير الكرة الأرضية فهي قوة مقيدة، وغير قابلة للاستخدام بعد (هيروشيما ونجازاكي) ليس لامتلاك آخرين لقوة موازية (روسيا) أو رادعة (كالصين)، ولكن لأن استخدام هذا السلاح سيجعل الأمريكان ملفوظين في كل أنحاء العالم، فإذا ألقيت قنبلة نووية على بلد إسلامي سيعتبر كل مسلم من المليار ونصف المليار أن الأمريكي هدف له، وسيقتله في أي مكان بالسكين أو بالدهس إلخ .. وبالتالي سيكون هناك توازن بين السكين والقنبلة النووية، هذه ليست سخرية، لأن القوة المهيمنة تحتاج دائمًا للنزول على الأرض؛ لجني الثمار والاستيلاء على الثروات، وفتح المجال للاستثمارات، وهذا يتطلب وجود مواطنين أمريكيين في كل مكان، ففي حال وجود كراهية عالية فسيصعب على الأمريكان أن يجوثوا خلال الديار.
إن القول بالانسحاق أمام القوة الأمريكية موقف استاتيكي غبي، لأن الضعيف إذا استسلم للقوي فيعني هذا حالة جمود على الأرض فيصبح القوي قويًّا للأبد والضعيف ضعيفًا للأبد، وهذا لم يحدث في التاريخ، مصداقًا لما جاء في القرآن (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) – (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لقد استغلت أمريكا ” هوجة ” الحرب العالمية؛ لتجرب لأول وآخر مرة استخدام القنبلة النووية، ولكنها فعلت ذلك في مدن غير أساسية، وتجنبت ضرب طوكيو، ولو ضربت طوكيو لما استطاعت أن تدخلها؛ لأن الإشعاع النووي يستمر لعشرات السنين، ونحن أمامنا نموذج مصغر في فلسطين المحتلة، فهذه غزة المحاصرة أذلت إسرائيل بالصواريخ، ولم تستطع إسرائيل أن تستخدم القنبلة النووية على غزة لكل الاعتبارات السابقة، بل بدأت إسرائيل تعاني من العمليات الفدائية الفردية في الضفة الغربية دون أن تملك ردًا حاسمًا . في حوار مع أحد السلفيين بعد ثورة 2011 رفض هذا المنطق، وعندما ذكرتُه بالآية الكريمة (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْن) قال إن الله لا يقصد أمريكا بهذه الآية! وكان يرى أنني أفهم في الإسلام، ولكنني لا أفهم في السياسة ! وكان هذا هو التيار الغالب بين الإسلاميين، وسنأتي لذلك.
بل برهنت الأيام أن أمريكا إذا أرادت أن تعتدي فيمكن أن تهزم عسكريًّا، حدث هذا في فيتنام وجنوب شرقي آسيا، وحدث في العراق وأفغانستان، ومع ذلك لا يزال أغلب الناس في مصر على رأيهم من عدم التعرض لأمريكا رغم أنها هي التي تدس أنفها في شئوننا..
أمريكا هي التي روجت فكرة أنها القوي القادر المقتدر المعز المذل العزيز الجبار المتكبر، ذو القوة وذو الطول بفكرتها عن نفسها، ومن اعلامها المؤثر الذي يروج لذلك، عبر الأفلام والمسلسلات والأخبار التي تخفي ما تريد من خلال التحكم في وكالات الأنباء ثم الأفلام الخبرية ثم الإنترنت، وما بين كل ذلك من وسائط أخرى.
الأوربيون ثم الأمريكان (وهم أوربيون مهاجرون) يروجون لفكرة (أننا نحن من اختارنا الله لإنقاذ باقي العالم)، واعتبرت حركة التنوير الفكري في أوروبا في القرن 18 بقية العالم مجرد (لوح فارغ) ليس لديه تاريخ ذو معنى، وأن الرجل الغربي يستطيع أن ينقش عليه مثله العليا، حتى أن هذا المعنى ذكر في ميثاق عصبة الأمم (التي سبقت الأمم المتحدة )؛ حيث وعد الميثاق “الشعوب التي لا تمتلك القدرة على النهوض بأنفسها” بأن تكون (رفاهية وتنمية تلك الشعوب وديعة مقدسة للحضارة المقصود الحضارة الغربية)، لهذا (ينبغي وضع تلك الشعوب تحت وصاية الأمم المتقدمة)، (م . ج . بون. عدم تكامل الاقتصاد العالمي – لندن1938).
لم يكن الرئيس بوش الصغير هو أول من استقبل المسيح، وتحدث معه في البيت الأبيض، فالرئيس ترومان كان يبتهل إلى الله ويشكره على قتل 350 ألف مواطن ياباني بالقنبلتين النوويتين (إننا نشكر الله أنها كانت معنا ونصلي له ليرشدنا لاستخدامها في سبيله ولتحقيق أهدافه)!!
موقع على الإنترنت Eye witness,account.
وتقوم الدولة الأمريكية على فكرة ( القدر المتجلي )، وأن الله قد اختار أمريكا لتحكم العالم، كتب منير العكش تشرح ذلك بالتفصيل.
ولا شك أن بعض النخبة في بلادنا تأثرت بهذه الأقاويل والدراسات والبحوث التي تبعث هذه الأفكار، ويتم التأثير على عموم الناس، وحتى الأطفال بالسينما والتلفزيون والكارتون، وقصص مثل سوبر مان والوطواط ليست بلا هدف، وأفلام الخيال العلمي وبطولات الفضاء، فالبطل دائمًا أمريكي أبيض، وهذه تترسب في عقول الأطفال، ومن المسلسلات الملفتة للنظر ذلك المسلسل الذي يروي قصة إنسانية في كل حلقة للأسطول الأمريكي ولرجال المارينز، وهو مسلسل للكبار والصغار معًا، وحتى الأفلام الأمريكية تعطي انطباعًا لدى المشاهد أن المواطنين الأمريكيين يعيشون جميعًا في رغد العيش، وأن نسائهم جميعًا ملكات جمال!! وهي صورة مزيفة للواقع (مثلًا يعاني 61 % من الأمريكيين البالغين من البدانة، والتي أصبحت أشهر مرض أمريكي !!) (موقع حكومي أمريكي على الانترنت).
ونعود لمسألة ” القوة ” وإن كنا سنركز الآن على القوة العسكرية فهي غير منفصلة عن الصفة العامة ( أمريكا قادرة على كل شيء).
عقيدة عدم القدرة على تحدي أمريكا
يقول البعض إن الخوف من أمريكا مسألة مشروعة، وهذا كل ما في الأمر، ونحن نقول إننا أيضًا نعبد الله ( خوفًا وطمعًا ) نحن نخاف من الله ونطمع في جوائزه، وأمريكا أيضًا لديها جوائز دنيوية !! ونحن نحمل سلطة كامب ديفيد مسؤولية ترسيخ هذا الإحساس العميق لدى أبناء الشعب، وتوظيف الإعلام لتكريس هذا (الإيمان) والدلائل على ذلك كثيرة وتملأ المجلدات، ولذلك سأركز على بعض الأمثلة المنتقاة، وبعض الخبرات الشخصية المباشرة لتقديم الجديد للقارئ:
السادات
يمكن أن نسميه بدون مبالغة بأنه ” نبي ” هذا الدين ” عبادة أمريكا “، وكل المذكرات السياسية للمصريين والأمريكيين والإسرائيليين تجمع على وقائع معينة، وهي أمور أكدها الفريق الشاذلي، وهيكل، وجمال حماد، واتفق معهم كيسنجر، وغيره.
كانت عقيدة السادات أن أمريكا هي الخلاص لمصر، وأن مصر يجب أن تتخلص من الاتحاد السوفيتي، وترتمي في أحضان أمريكا، وأن العقبة في سبيل ذلك هي الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، وهذه لابد من تسوية أمرها، قبل حرب أكتوبر كانت الاتصالات العلنية والسرية على أشدها مع الأمريكان، وقال السادات في إحدى خطبه(أنا قلت لوزير خارجية أمريكا : أنا عاوزك تعصرلي إسرائيل!!)
ولم يسأل نفسه لماذا تقوم أمريكا بعصر إسرائيل حليفتها التاريخية ؟! كان لدى السادات أمل كبير في الحصول على سيناء بدون حرب، وأقام خط اتصال سري مع أمريكا حتى بدون معرفة المخابرات المصرية (ولكنها علمت به)، وعندما لم يجد استجابة سار في طريق الحرب بهدف تحريك القضية عن طريق العبور وتحرير جزء من سيناء، وعندما حدث هذا النصر الباهر السريع في العبور والاستيلاء على خط بارليف، أصابت السادات حالة من الهوس في مجال الاتصالات المحمومة مع أمريكا في الأيام الأولى من الحرب ليطلب مقابلة كيسنجر(اليهودي ووزير الخارجية الأمريكي)، ويؤكد له أنه لن يوسع العمليات الحربية، وقد كانت رسالة خطيرة وصلت للإسرائيليين فركزوا على الجولان براحتهم ثم عادوا بكل ثقلهم على الجبهة المصرية، وأحدثوا فيها الثغرة التي أضاعت بهجة النصر، والعجيب أن كيسنجر نفسه كان يستغرب (هو وجولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل) من هذا التلهف الساداتي رغم ما حققه من إنجاز عسكري، ورغم أن الحرب لا تزال في أولها. وتواصلت لهفة السادات في مفاوضات فض الاشتباك، بصورة لم ترح الجمسي، بل وافق السادات على المشروع الإسرائيلي دون أي تعديل، المهم حتى لا نطيل فإن ملخص موقف السادات في كل مفاوضات السلام وكامب ديفيد قام على نقطة واحدة : الارتماء في أحضان أمريكا، وأنه مستعد لأن يخسر أي شيء، ويوقع على أي شيء، إذا ضمن صداقة أمريكا، وكان شرطه الوحيد هو الحصول على سيناء كاملة حتى، وإن كانت منزوعة السلاح كما حدث، والسادات صاحب التصريح السخيف الذي ظل يكرره أن أمريكا تملك 99 % من أوراق اللعبة، ولكن ماذا بقي لنا ولله عز وجل ؟ 1 % ؟! وظل يكرر حجته في القبول بأي شروط، وأنه كان يحارب إسرائيل، ولكنه لا يمكن أن يحارب أمريكا (يقصد الجسر الجوي الذي أقامته أمريكا لإنقاذ الجيش الإسرائيلي)، والحقيقة أن دعم أمريكا لإسرائيل حقيقة معروفة، ونزول بعض الأطقم اليهودية الأمريكية مع الدبابات لم يكن قرارًا بمشاركة واسعة للجيش الأمريكي، كان السادات يقول: هنا قررت أنني لن أحارب أمريكا ويرد المنافقون – بالتأوه والتمتمة – بارك الله في حكمتك، ولا تزال هذه الحجة تقال حتى الآن في الإعلام الرسمي فعندما تقول: (أنا لن أحارب أمريكا) فالمعنى المتولد عنها (إذن لابد أن أخضع لشروطها)، وعندما تقول : (أنا لن أحارب أمريكا) فكأنك ألقمت السامعين حجرًا، وأخرستهم وقلتَ القول الفصل، بينما قبل عقد واحد من الزمان قال قائد شيوعي من أصل بوذي في فيتنام (هوشي منه) عندما غزته القوات الأمريكية إنه قادر على المقاومة، وهزمها بالفعل، والآن فإن فيتنام دولة مستقلة ذات سيادة وهي على وشك الالتحاق بالنمور الآسيوية، بل لقد حاربت الصين بعد أمريكا وهزمتها، فهؤلاء الذين لا رب لهم إلا الوطن عرفوا كيف يحافظون على كرامتهم وسيادتهم، ونحن الذين نؤمن بالآخرة وبالاستشهاد في سبيل الله، أحنينا رؤوسنا وقلنا مرتدين ثوب الحكمة (لن نحارب أمريكا) و ( هل معقول أن نحارب أمريكا؟!).
من أجل هذا الموقف أصبح السادات نجمًا غربيًّا وإسرائيليًّا يحتل أغلفة المجلات وشاشات التلفاز على مدار سنوات وحتى اغتياله، وكما يسلم المؤمنون أنفسهم لله، سمح السادات لأشرف مروان أن يطلب في حضرته من كيسنجر في أول لقاء معه أن تتولى المخابرات الأمريكية أمن الرئاسة المصرية، وأن تؤمن مقرات الرئاسة من أي تنصت سوفيتي!! في وقت كانت لا تزال فيه إسرائيل تحتل معظم سيناء بدعم أمريكي .
بل قام السادات بعمل عجيب ومروع عام 1970 بينما كانت سيناء محتلة بمساعدة أمريكا، فحين وفاة عبد الناصر، طلب من السفارة الأمريكية أن ترسل وفدًا طبيًّا للتأكد من أن عبد الناصر مات موتة طبيعية، وليست عملية اغتيال، وقد استجابت أمريكا وأرسلت وفدًا طبيًّا في إطار حضور جنازة عبد الناصر، وكشف على جسد عبد الناصر، وأكد للسادات أنها موتة طبيعية، لماذا وكيف كل هذه الثقة في العدو الذي يحاربنا ؟ لقد كانت محاولة مبكرة منذ اليوم الأول ليقول السادات لأمريكا : أنا أثق فيكم وأعول عليكم !! (الوثائق السرية الأمريكية المفرج عنها – توحيد مجدي)
كتبت آلاف المقالات أو أكثر في مصر تتحدث عن عبقرية السادات – وحتى الآن – من أنه (كنبي لكامب ديفيد) تنبأ بأن المستقبل لأمريكا وأن الاتحاد السوفيتي إلى زوال وهو الأمر الذي حدث بالفعل بعد 12 سنة، وأن السادات إذا لم يسر في ركاب أمريكا لكانت سيناء محتلة حتى الآن (2014) : ولاحظوا منتهى عدم الثقة في النفس، وإننا عاجزون عن تحرير ما تبقى من سيناء، وهذا يعني إذا كنا نريد أن تبقى سيناء معنا فلابد أن نسير في ركاب أمريكا، أي أننا لا نصلح أن نكون مجاهدين كفيتنام أو أفغانستان أو لبنان أو غزة، وأننا اعتزلنا الجهاد بمعركة العبور التي كانت آخر الحروب، مع أن القرآن الكريم ينفي قصة آخر الحروب هذه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).
مبارك
:أحاديث مبارك لا أول لها ولا آخر حول ضرورة مجاراة أمريكا ومصادقتها (وإقامة علاقات استراتيجية معها )، وهذا ما تحول إلى سياسات راسخة على الأرض على مدار 30 سنة وبأكثر مما كان يحلم السادات، ولاحظ مصطلح (استراتيجية) في تقييم ودراسة العقيدة الجديدة للأمة، أنا من أنصار تعريب المصطلحات الأجنبية، ولكنني احترت في مصطلح الاستراتيجية وحتى لا نخرج عن بحثنا سنأخذ الآن بمعناه العام : وهو الثوابت التي لا تتغير، في مقابل التكتيكات المتغيرة، وهو مصطلح بدأ في المجال العسكري ولكنه أصبح يستخدم في مجال السياسة العامة، إذن هي الأمور المبدئية الثابتة في سياسة الدولة، وسنلاحظ أن كلمة (علاقات استراتيجية مع أمريكا) سيستخدمها عمر سليمان وخيرت الشاطر !! وقد كنا نقيم الدنيا ولا نقعدها كلما استخدم مبارك هذا المصطلح، وأذكر أن المستشار طارق البشري كتب مقالاً مطولاً يقرع .فيه مبارك على استخدام هذا المصطلح، واعتبرها كارثة وطنية وهو محق ! أما كاتب هذه السطور فقد كتب عشرات المقالات !!
عندما تولى مبارك الحكم كان يحرص في مقابلاته الخاصة مع السياسيين والمثقفين المصريين أن يهاجم الأمريكان والإسرائيليين، ولكن لا يفعل ذلك في العلن وأعطى انطباعًا لمن يزوره أنه وطني شديد، وسيأتي خير كثير على يديه، وأذكر أن الأستاذ / كامل زهيري نقيب الصحفيين قد أسر لي أن مبارك تحدث معه عن الإسرائيليين بشدة في لقاء ثنائي وقال له (لقد كان لدي هنا مسئول اسرائيلى وجالس على نفس الكرسي الذي تجلس عليه …… ” ابن الق…. ” وقلت له نفس الكلام الذي تقوله) ولا أذكر الآن اسم الوزير الإسرائيلي الذي ذكره، ومع الأيام ثبت أن هذا الكلام مجرد (تهجيص في بلاليص) كما نقول في المصطلح الدارج، في مرحلة لاحقة التقى مع المفكر/ عادل حسين أمين عام حزب العمل (الاستقلال حاليًا) وظهر مبارك أكثر اعتدالًا، فبينما ركز عادل حسين معه على ضرورة التخلص من التبعية لأمريكا ووسائل ذلك، أبدى مبارك تفهمًا ولكنه رأى تأجيل ذلك أو تحقيقه ببطء شديد؛ لأن أمريكا قوة عاتية يجب الحرص معها، ونغمة التأجيل هي التي أصبحت سائدة في اللقاءات المماثلة من قبل كل المسئولين وليس مبارك وحده، ومرت 34 سنة ولم نفعل شيئًا!!
في لقاءاتي الثلاثة على الطائرة الرئاسية مع مبارك لم تتح الفرصة لأي حوار منظم في وجود حشد من رؤساء التحرير، ولم أناقش مع مبارك العلاقات المصرية الأمريكية، ولكن كان واضحًا عداءه الشديد لكل أعداء أمريكا والحديث عنهم بلغة قاسية (صدام حسين – البشير) من قبيل ” غبي ” .. إلخ، ورأيت ألا فائدة من الحديث معه، وابتعدت عنه، وأثناء الحوار المفتوح حول هل سيحضر مؤتمر عدم الانحياز في طهران أم لا؟ سمع كل الآراء ورفض أن يتحدث، فهو بالنسبة لأعداء أمريكا في المنطقة بين السب أو الصمت، وكان هذا ربما في أواخر 1998 أو أوائل 1999 .
المرة الوحيدة التي دعيت فيها للقاء مبارك مع المثقفين والصحفيين في المعرض (باعتباري رئيسًا لتحرير الشعب وهي نفس الصفة التي دعيت فيها لمصاحبة الرئيس في سفرياته 3 مرات فقط) كان مبارك يتحدث ثم يرسل المثقفون أسئلة مكتوبة، المهم في حديث مبارك أنه تعرض لنفس المعنى السقيم، إننا نصادق أمريكا وهذا هو الموقف العاقل لتجنب البلاد أي متاعب، واستطرد في هذا الحديث بدون معلومات أو تحليل .. ولكن المهم هو حالة الانسجام التي لاحظتها على الحاضرين من كبار المثقفين والصحفيين الذين غلب عليهم التيار العلماني (فربما كنتُ أنا الإسلامي الوحيد) في هذا المقطع بالذات من حديث مبارك الفارغ عمومًا من المعنى، صعقتُ من حالة الانسجام وردود الأفعال الإيجابية، بين الابتسام العريض، ومصمصة الشفاه، والتمتمة والتأوه، وكأن مبارك لمس شغاف قلوبهم، وأصبح كخطيب الجمعة أو قس الكنيسة الذي يلقي الموعظة بينما الحضور في حالة من التجاوب الروحاني العجيب .
غزل مبارك في أمريكا كثير جدًا لأنه امتد 30 سنة ولكن سنكتفي الآن بهذا المقتطف ذي الطابع العقائدي، كأن مبارك أصبح مسيحيًّا صهيونيًّا عندما قال لريجان الرئيس الأمريكي (لا أعتقد أنه يوجد زعيم أكثر قدرة منك على أن يقوم بدور تاريخي، وأن يحقق رسالة مقدسة في الشرق الأوسط، وقد اختارك القدر لأن تقود هذه الأمة العظيمة في وقت تسنح فيه فرصة ذهبية من أجل السلام)، لاحظ أنه يستخدم عبارات دينية (تاريخي – مقدسة – القدر – الأمة العظيمة) مع رئيس يؤمن بمعركة هرمجدون التي سيهزم فيها اليهود المسلمين !! رئيس يؤمن بالعقائد البروتستانتنية المتطرفة، وسنأتي لكثير من تصريحات مبارك في باب )أمريكا هي الرزاق)!!
أبو غزالة
: يحلو للبعض أن يصور عبد الحليم أبو غزالة وزير الدفاع الراحل على أساس أنه ذو خط وطني بخلاف مبارك، والوقائع لا تثبت ذلك، قد يكون أبو غزالة أكثر ذكاء، قد يكون يريد تقوية الجيش المصري (مشروع الصواريخ)، ولكنه لم يكن خارجًا عن الإطار، .
. عن العلاقات العسكرية مع أمريكا رغم علاقتها بإسرائيل يقول أبو غزالة ردًا على صلاح منتصر: (موضوع الاستعمار، أنا أشك في أن يكون هدفًا أمريكيًّا، إن هدفهم أن تكون صديقهم الحميم ولستُ صديقًا للسوفيت)، وفي تصريح آخر يقول أبو غزالة بعدم وجود تعارض أو صدام بين الاستراتيجيتين العربية والأمريكية، فأمريكا تشتري البترول وتعطينا مالًا وتكنولوجيا، كما أن إيماننا بالرسالات السماوية والأديان يجعل أمريكا أقرب إلينا من الشرق .
• أبوغزالة : (لابد من دعم قوة الانتشار السريع الأمريكية وإنشاء قوة عربية مشتركة لمواجهة الخطر السوفيتي)، لم يعد تحرير فلسطين على جدول أعمالنا !!
• ويروج أبوغزالة للعبودية المصرية لأمريكا فيقول إن الجندي المصري يتكلف 1200 دولار في السنة أي أقل من 1 % من تكاليف الجندي الأمريكي ( 150 ألف دولار) أي أنه جندي رخيص لتحقيق نفس الأهداف الأمريكية .
• أبوغزالة : نحن مسؤولون عن تأمين نقل البترول للغرب، وهكذا فإن مسؤولية مصر رئيسية وليست ثانوية .
• على هامش إحدى مناورات النجم الساطع تحدث أبوغزالة عن الجيش الأمريكي بمنتهى الدونية، وقال إن هذه المناورات مفيدة للجندي المصري؛ كي يتأكد أن الجندي الأمريكي السوبر مان إنسان عادي مثلنا !!
أ
: وعندما كان اللواء مراد موافي محافظًا لشمال سيناء قبل أن يتولى جهاز المخابرات العامة أدلى بحديث لصحيفة الشروق قال فيه إن الحرب مع إسرائيل ترجعنا 100 سنة للوراء، وهذا تصريح غير مقبول على كل الأصعدة فهو غير صحيح، كما لا يجوز قول ذلك لأن من شأنه تحطيم الروح المعنوية ونشر روح الركوع والهزيمة أمام إسرائيل بدون داعٍ ، وفي الحوارات التلفزيونية كان اللواء عادل سليمان وأيضًا سفير مصر السابق في إسرائيل (محمد بسيوني) يهاجمانني بشدة عندما أصف أمريكا بالعدو، ..
(يتبع)