معاهدة لندن (1840) كامب ديفيد الأولى !

الاسطول البريطانى يضرب الشام نصرة للعثمانيين

.. ويوزع 30 ألف بندقية على المتمردين  ضد الحكم المصري

الرجل الأبيض الغربى يصر على احتكار قيادة العالم

(دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (56


كما ذكرنا كانت ذروة الأحداث الدرامية بعد هزيمة العثمانيين الساحقة في نصيبين وهى الهزيمة الثالثة أو الرابعة الكبيرة على يد الجيش المصري خلال 9 سنوات ، وكانت ذروة الأحداث الدرامية في تمرد الأسطول العثماني برمته على الدولة العثمانية وابحاره للانضمام الى مصر محمد علي ، وهكذا اختل التوازن البحري بعد البري بين مصر وتركيا ، بل حتى بين مصر وأوروبا !  فكانت انجلترا في ذروة الهياج والغضب لان هذه التطورات تهدد خطتها في المنطقة وفي العالم ،وتخل بما تسميه دائما بـ “التوازن الدولي” فأعادت فتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه و جمعت الدول الأوروبية الأساسية : روسيا والنمسا وفرنسا وبروسيا (ألمانيا) وكتبوا مذكرة مشتركة سلموها لتركيا يوم 7 يوليو 1839 أي بعد 32 يوما من معركة نصيبيين وهذا نصها :
اقرأ أيضا: 
كامب ديفيد في الميزان.. كيف قيّم مجدي حسين معاهدة الذل والعار؟

{ ان سفراء الدول الموقعين على هذه المذكرة يتشرفون بأن يبلغوا الباب العالي أنهم تلقوا من حكوماتهم هذا الصباح بأن الاتفاق على المسالة الشرقية قائم بينهما ،  ولذلك فهم يطلبون منه أن يوقف اتخاذ أي قرار نهائي دون مساعدتها لما قد يكون لها من الفوائد التي يرونها }

وكان السلطان العثماني أرسل بالفعل مندوبا (عاكف افندي ) للتفاوض مع محمد علي للتوصل الى صياغة سليمة للحل بعد تحرج موقف الأستانة بعد هزيمة نصيبين ، بل لقد تم ارسال هذا المندوب حتى قبل واقعة تمرد الأسطول العثماني وانضمامه لمحمد علي ، فأرادت انجلترا مع الدول الأربعة أن تضع تركيا تحت حمايتها ، وان تترك لنفسها حق التصرف في الأزمة ، ورحبت تركيا بهذا التدخل حتى تتخلص من تهديدات محمد علي التي اصبحت مذلة لها ، واستنكر محمد علي هذا التدخل ولكنه كان استنكارا بلا أثر ، فقد اقترب الآن موعد الحسم العسكري .
 

كانت السياسة الإنجليزية المعادية لمصر صريحة ومعلنة فقد أكدت على وجوب المحافظة على كيان السلطنة العثمانية ، ولا أدري لماذا لم يسأل الإسلاميون المنحازون مع الدولة العثمانية ضد محمد علي أنفسهم لماذا هذا الإصرار الرهيب من انجلترا للحفاظ على “بيضة الإسلام و دولته العظمى ” من أين أتت انجلترا بهذا الالتزام الاسلامي ؟  لو سألوا أنفسهم لأدركوا كيف أن الدولة العثمانية قد أصبحت “مخوخة” من الداخل ، “شاحبة” في توجهها الاسلامي أو الاستقلالي وأنها لم تعد تخيف أحدا ، المهم أن يتم تفكيكها عبر الأيدي الأوروبية الصليبية ، لا على يد الحكم المصري الاسلامي ، لتوزيع الغنائم بينهم من ناحية ، لضمان عدم وجود دولة قوية مستقلة في الشرق الاوسط . أعلنت انجلترا ان الحفاظ على كيان الدولة العثمانية لا يكون إلا برد سوريا الى تركيا ، وإخضاع محمد علي بالقوة . وكان الهاجس الانجليزي الدائم هو تامين طريقها الى الهند جوهرة مستعمراتها ، فهي المستعمرة العظيمة الثروات الواسعة المساحة وكأنها شبه قارة ، وكانت سيطرة محمد علي على سورية تزاحمها في السيادة على البحر المتوسط بل تتحول الى رقيب عليها الي الهند ،  فالوجود المصري في سوريا يجعلها دولة بحرية قوية من دول البحر المتوسط ويجعل لها الإشراف على طريق الهند من ناحية الفرات والعراق ، فضلا عن طريق البحر الاحمر وبرزخ السويس الذي تسيطر عليه مصر اصلا . ونحن نتذكر كيف قاتلت انجلترا بشراسة لطرد الوجود الفرنسي في مصر بين (1798- 1801 ) لنفس السبب ، ولذلك كان من أهم مطالب انجلترا رد الأسطول العثماني للأستانة لإضعاف القوة البحرية المصرية .

ويستمر عبد الرحمن الرافعي فيقول (كان استعمارها للهند يقتضي استبعاد جميع البلاد التي في طريقها وإليها ، وهذا من أغرب ما يقضي به الجشع الاستعماري ) ولكنه يضيف ( إن إضعاف مصر هدف في حد ذاته فهي تسعى لامتلاكها ووضع يدها عليها )  وظلت هكذا حتى احتلتها في 1882. وكان وزير خارجية بريطانيا الاستعماري الشهير اللورد بالمرستون وسوف يصبح رئيسا للوزراء . وكان لباقي الدول الاوروبية حسابات أكثر ضيقا ولكن في إطار مسايرة السياسة الانجليزية . فالنمسا أهم ما يشغلها إبعاد روسيا العدو التقليدي لها عن التدخل في الشؤون التركية ، وهذا التحرك الجماعي يضمن ذلك . أما فرنسا كدولة استعمارية رقم 2 فكما ذكرت هي تقف مع انجلترا واوروبا في الملمات الكبرى ، ولم يكن من مصلحة فرنسا الصليبية الطامعة قيام دولة عربية إسلامية مستقلة في الشرق ، بل لقد كانت فرنسا السباقة لاحتلال الجزائر عام 1830 و كانت تخضع اسميا للدولة العثمانية ، ولم نسمع للدولة العثمانية حسا في هذا المجال ، وكانت المغرب قد استقلت منذ زمن عن الدولة العثمانية ، أما تونس فكانت علي الطريق إلى احتلال فرنسي قريب ، وهي أيضا تابعة اسميا للدولة العثمانية .  في مثل هذه الأزمات تتفق فرنسا مع انجلترا على تقسيم النفوذ وتسكين الخلاف بينهما حتى وإن أخذت انجلترا نصيبا أكبر هو مستحق بقوتها العسكرية الأكبر ! أما بروسيا فقد كانت دولة بلا طعم ولا رائحة . أي بلا سياسة خارجية واضحة لأنها كانت لا تزال مشغولة بتوحيد ألمانيا ، ومهتمة بالعداء القومي لفرنسا لذلك تنحاز لأي مصلحة لإنجلترا ! وكان معلوما أن إنجلترا التي ستفوز في النهاية بمصر. ونجحت انجلترا أيضا بتحجيم روسيا وعلاقتها مع تركيا ، ولم تكن روسيا تملك أن ترفض التوجه الجماعي الأوروبي .

وهكذا أصبحت تركيا – بموافقتها على المذكرة – تحت وصاية الدول الأوروبية ، ففقدت بذلك استقلالها الفعلي . والغريب أن هذه الموقف الاوروبي الجماعي أدى الى نزع او الغاء نتائج معركة نصيبين ، وأدي الى حالة من الجمود في الموقف استمرت سنة كاملة .

ولم يعد بالإمكان مفاجأة أوروبا مرة ثالثة بالزحف على الأستانة ، فعنصر المفاجأة انتهى ، ومحمد على الذي كان رافضا للفكرة دوما ، لم يعد يتصور القيام بها ، وربما فإن ما كان يأمل فيه ان يحافظ على مواقعه كما هي في سوريا ومصر والسودان والجزيرة العربية.


وأخيرا وبعد عام حفل بمفاوضات سرية مكثفة تم إبرام واعلان معاهدة لندره (لندن) في 15 يونيو 1840 بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا مع استبعاد فرنسا والمهتمة بإقامة صداقة مع محمد علي ، وهي لم تكن في الحقيقة إلا نوعا من الحبال الفرنسية مع مصر على أمل إعادة تنفيذ الحلم القديم المحبط لنابليون بونابرت بإعادة السيطرة على مصر واحتلالها.

ويمكن أن نسمى معاهدة لندن بأنها معاهدة كامب ديفيد الأولى بدون أي مبالغة ، وخلاصة ما فيها :

1- يخول محمد علي وخلفاؤه حكم مصر الوراثي . ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سورية المعروفة بولاية عكا (فلسطين) ، وبشرط أن يقبل ذلك في مهلة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغ هذا القرار، وأن يشفع قبوله بإخلاء جنوده جزيرة كريت وبلاد العرب (جزيرة العرب) واقليم أدنه وسائر بلاد العثمانية وأن يعيد إلى تركيا أسطولها .

2- إذا لم يقبل هذا القرار في مدة عشرة أيام يحرم الحكم على ولاية عكا ، ويمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وسحب جنوده من جميع البلاد العثمانية وإرجاع الأسطول العثماني فإذا انقضت هذه المدة دون قبول ذلك كان السلطان في حل من حرمانه من ولاية مصر.

3- يدفع محمد علي باشا جزية سنوية للباب العالي تتبع في نسبتها البلاد التي تعهد إليه  إدارتها .

4- تعد قوات مصر البرية والبحرية جزءا من قوات السلطنة العثمانية ومعدة لخدمتها.

5- يتكفل الحلفاء في حالة رفض محمد علي باشا لتلك الشروط أن يلجأوا إلى وسائل القوة لتنفيذها ، وتتعهد انجلترا والنمسا خلال ذلك باتخاذ كل الوسائل لقطع المواصلات بين مصر وسورية  ومنع وصول المدد من إحداهما للأخرى ، وتعضيد الرعايا العثمانيين الذين يريدون خلع طاعة الحكومة المصرية والرجوع إلى الحكم العثماني ، و إمدادهم بالمساعدات ( إعلان صريح بدعم التمرد المسلح في سورية بالمال والسلاح) .

6- إذا لم يذعن محمد علي للشروط المتقدمة وجرد قواته البرية والبحرية على الاستانة فيتعهد الحلفاء بأن يتخذوا بناء على طلب السلطان كل الوسائل لحماية عرشه وجعل الأستانة والبواغيز بمأمن من كل اعتداء.

تذكروا أن ابراهيم باشا في 1832 اقترح الإسراع بفتح الأستانة بصورة خاطفة قبل أن يفيق الأوروبيون من الصدمة ! الآن لم تعد المفاجأة ممكنة أو مطروحة .

انجلترا شرعت في تطبيق المعاهدة قبل إبرامها :

أشرنا من قبل لدور التحالف الإنجليزي – التركي في إثارة الجماهير في سورية ومد رؤساء العشائر بالمال والسلاح ثم تصاعدت الامور عام 1839 قبل توقيع المعاهدة بسنة.، حيث تم إرسال المستر (ريتشارد وود ) مترجم السفارة الإنجليزية الى لبنان ، وإذا اطلعت على سيرة حياته سيذكرك بـ( لورانس العرب) الجاسوس اليهودي الإنجليزي الذي سترسله انجلترا ليقود الثورة العربية ضد الدولة العثمانية في 1916 خلال الحرب العالمية الأولى . والمستر وود يجيد العربية وتحرك في لبنان كمستشرق يريد أن يتعمق في اللغة العربية ويدرس الواقع اللبناني بينما كان جاسوسا لتنظيم وتمويل الفتن ضد الحكم المصري ، واستفاد من غضب اللبنانيين من اعتماد الحكم المصري على الأمير بشير الشهابي حاكم الجبل ، فاستجابوا لنداء التمرد ، والطريف أن وود  جعل مركزه في جبل كسروان كجبل حصين يقطنه الموارنة ، والذي سيكون من معاقل العمل المسلح الماروني ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية من 1975- 1982 و بدأ المتمردون في هجمات مسلحة على الحاميات المصرية والحكام المصريين في مختلف أنحاء سورية ، وطبعا لم يتأخر ابراهيم باشا عن مواجهة التمرد، ولم يتأخر محمد علي عن ارسال الامدادات ،ولكن ما كان ممكنا “إصلاح ما تم كسره” فقد حدث شرخ عميق بين الحكم المصري وقطاع واسع من الاهالي ، كما أن الوجود المصري أصبح بين سندان التمرد الداخلي وضربات الاسطول الانجليزي (لاحظ انه في تلك الآونة لم يكن هناك قوات برية او بحرية عثمانية ) وأيضا قبل إبرام واعلان معاهدة لندن صدرت الأوامر للأسطول الانجليزي لمحاصرة سواحل مصر والشام وبعد إعلان المعاهدة بشهر أي في أغسطس 1840 صدرت التعليمات بالعمل على أسر أي سفينة مصرية حربية أو تجارية ! وبدأت عملية التنفيذ فعلا وبدأ أسر السفن المصرية امام سواحل بيروت ،وطالب الانجليز الجيش المصري بإخلاء بيروت عكا . وقام الانجليز بتوزيع منشورات في سورية ولبنان تدعو السكان إلى التمرد على الدولة المصرية والمطالبة بالعودة للدولة العثمانية ( بالمناسبة كما سيتضح فيما بعد لن يعاني من قسوة النظام العثماني في أيامه الاخيرة أكثر من الشعب السوري !)

رفض محمد علي اتفاقية لندن:

من الطبيعي أن يرفض محمد علي شروط هذه المعاهدة المذلة ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بمجابهة التحالف الاوروبي بعد أن فوت فرص أن يحشد وراءه الأمة الاسلامية – كما دعاه ابراهيم باشا منذ ثمان سنوات ، محمد علي يقاوم الآن من نقطة أضعف وأقل بكثير سياسيا وعسكريا وكان من الواضح أن قدراته الأساسية الآن في مصر ، فحشد الجنود في ثغور مصر، ووزع السلاح على عمال المصانع (الفبريقات) وهذا قرار جريء في ذلك الزمان أي محاولة لتنظيم مقاومة شعبية كما تم توزيع السلاح على طلبة المدارس الحربية . أما في سورية فقد كان ابراهيم باشا امام وضع حرج فهو مدرب وأستاذ في المعارك الحربية مع الجيوش ، وليس كذلك مع الشعوب المتمردة  وقام الإنجليز بتوزيع 30 ألف بندقية في سورية للمتمردين بالإضافة للذخائر. وبدأ الجيش المصري يعاني من قطع طرق المواصلات بين مختلف المدن ،وكانت الحالة النفسية للجنود في تردي مستمر. وبدأت قوات الحلفاء ( الإنجليز أساسا) الاستيلاء من البحر علي جبيل شمالي بيروت والبترون.


ثم احتلوا حيفا وصور وصيدا ثم بيروت في أكتوبر 1940 . وانسحب المصريون من طرابلس واللاذقية وادنة بدون قتال ، فصارت معظم الثغور في يد الإنجليز . ثم ركز الإنجليز على احتلال عكا لأنها مفتاح فلسطين والشام وحشد أسطولها أكثر من 20 سفينة حربية ظلت تقصف عكا عدة أيام حتى اصابت مستودع ذخائر احدث دماراً هائلاً فأخلت الحامية المصرية المدينة في 3 نوفمبر 1840 واحتلها الإنجليز والترك في اليوم التالي .  ثم سلمت يافا ونابلس . وانسحب الأسطول الفرنسي الذي كان يتابع الموقف دون أن يتدخل ! اقتربت بعض سفن الأسطول الانجليزي من الاسكندريه في مظاهرة للإرهاب ، ولكنها لم يكن لديها قوة برية كافية تستطيع انزالها .  وكانوا يدركون حجم استعداد وقوة الجيش المصري على سواحل وأراض مصر.  فقرر قائد الاسطول البريطاني اللجوء إلى التفاوض على أساس جلاء الجيش المصري عن سوريا ورد الاسطول التركي للباب العالي مقابل تخويله ملك مصر الوراثى بضمانة الدول .  وافق محمد علي لادراكه حرج موقف الجيش المصري في سوريا ووافقت انجلترا وأجبرت ( مع النمسا وبروسيا وروسيا الباب العالي في مذكرة في 30 يناير 1841 على الرجوع عن قرار عزل محمد علي ، وتخويله في المقابل – حكم مصر الوراثي – فوافق السلطان الذي لم يكن يملك من أمره شيئا ،وارسل محمد علي أمراً باخلاء سوريا والعودة الى مصر وقد كان إخلاءاً مؤلماً مليئاً بالخسائر من طول الطريق البري الصحراوي وما يحملونه من أثقال بالاضافه لما تعرض له من من مناوشات الأعراب .  وكذلك أمر محمد علي بإخلاء القوات المصرية – تنفيذا للمعاهدة – للجزيرة العربية بما في ذلك سواحل الخليج واليمن ، وكانت التكلفه الأمنية بحكم هذه المناطق عالية .  وتم الانسحاب عام 1841، وكانت مهمة لمحمد علي في مجال الهوية الإسلامية ( حماية الحرمين الشريفين ) واليمن كانت تؤمن طريق التجارة للهند . وكانت القوات المصرية في الجزيرة العربية قد بلغت 18 ألف مقاتل . وفي اليمن كانت تسيطر على عسير وميناء (مخا ) وكان الحكم المصري قد استقر في تهامة (مقاطعة جازان حاليا) وامتد الي تعز وكانت هناك حامية مصرية في ميناء الحديدة . وذلك في مواجهة امتداد النفوذ الوهابي هناك وأيضا لمواجهة التمردات الدائمة ضد العثمانيين .كما اعلن إمام صنعاء ولائه لابراهيم باشا.

أما بالنسبة لشاطئ الخليج فقد كان النفوذ المصرى  قد توسع وزحف إلى الأحساء ووصل وامتد إلى منطقة سواحل الخليج وبدأ يصل الى مشارف مصب دجلة والفرات وكل هذه مواقع استراتيجية بالنسبة للانجليز من زاوية طرق التجارة الى الهند فضغطت على البحرين لقطع العلاقات مع مصر وقام محمد علي بإخلاء الجيش المصري من البحرين وقام الإنجليز في تلك الآونة باحتلال عدن كنقطة أساسية في طريق التجارة للهند ومفتاح باب المندب والبحر الأحمر.

ورغم كل ذلك فقد حقق محمد علي الحد الادنى في طموحاته الذي سعى إليها منذ 1805 عندما تولى ولاية مصر لأول مرة وهو الاستقلال بمصر وإقامة حكم وراثي له مع بقاء علاقة اسمية واهية مع الدولة العثمانية ، وقد أصبح ذلك موثقا في معاهدة دولية ولم يبقى لمصر مع الدولة العثمانية سوى: دفع جزية سنوية ، سريان معاهدات تركيا على مصر واعتبار قوتها الحربية من قوات السلطنة العثمانية . كذلك لابد من ملاحظة أن مصر خرجت أيضا بضم السودان إلى مصر.

لماذا نقول أن معاهدة لندن هي كامب ديفيد الأولى مع الفارق الشديد باختلاف الظروف والموضوعات التي تتناولها المعاهدتان.

ان معاهدة لندن وضعت الأساس القانوني الدولي والفعلي لضرب النهضة المصرية التي تهدد المصالح الأوروبية ، بتنمية اقتصادية صناعية ، ونهضة عسكرية لدولة إسلامية فتية كان يمكن ان ترث الدولة العثمانية وتجدد شباب الدولة الإسلامية . تصوروا لو كان ابراهيم باشا هو العقل المدبر داخل الأستانة وليس كل هؤلاء السلاطين الضعفاء الذين لم يقدموا شيئا يذكر للإسلام في النصف قرن الذي سيلي هذه الأحداث عدا السلطان عبد الحميد – ورغم كل مساوئه التي سنعرض لها – الذى سعى لإحياء الدولة العثمانية في الوقت الضائع أو في الهزيع الأخير من الليل فلم يتمكن بل تم عزله (1908) ثم اعتقاله  (1909) في سالونيك اليونان !

الغرب ممثلا في انجلترا كقائد للاستكبار العالمي في ذلك الوقت هي التي أعلنت الحرب الصليبية علي محمد علي ، لأنهم تصوروا أن احتضار الدولة العثمانية (الرجل المريض) مسألة وقت وأنه سيتجدد حلم الامبراطوريتين الهيلينية والرومانية لإعادة احتلال قلب العالم العربى والاسلامى (المستطيل القرآنى / الشرق الاوسط /مركز العالم)  بعد فشل الحملات الصليبية التي قادتها انجلترا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية لمدة قرنين 12،13 ميلاديا وانتهت بالهزيمة الساحقة على يد مصر على يد الأيوبيين والمماليك . والحروب الصليبية كانت معلنة منذ اليوم الأول على الدولة العثمانية وهي قد بادلتهم بأساً ببأس وهي دولة عسكرية محاربة في دائرة واسعة امتدت في معظم أنحاء شرق أوروبا والبلقان وجنوب روسيا وحتى تخوم إيطاليا وعلى امتداد نهر الدانوب الذي يقسم القارة الأوروبية دائرة كانت مشتعلة نوراً وناراً.  ولكن في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر اتضح أن الدولة العثمانية تسير في طريق الافول والانحدار وأصبحت تحت الحصار الاوروبي ولم يعد لها مخالب مخيفة كما كانت ،وكانت خاضعة للترويض والقضم والهضم وكانت مناطق وبلاد في شرق أوروبا تسقط تباعا في أيد الزحف الأوروبي ، وكان العثمانيين ينكمشون وتفاصيل ذلك كثيرة ومعروفة ولكنها خارج نطاق دراستنا . وان كنا قد رأينا حرب اليونان والحروب مع الوهابية نماذج لاضمحلال إرادة وقوة الدولة العثمانية وعجزها عن القيام حتى بدورها القتالي التاريخي ، عندما تضعف القوة والارادة القتالية لها فهذه من علامات النهاية المؤكدة . وقد رأينا هزائمها المتتالية المروعة أمام الجيش المصري في سوريا والأناضول وهو الجيش الذي بدأ بناؤه عام 1820 أى قبل هذه الحروب بـ 11 سنة فقط .

ولم يقل لنا أحد من المتحمسين للدفاع عن الدولة العثمانية بالحق والباطل في مواجهة محمد علي ، ماذا كانت استجابة دولة الإسلام الأولى لتحدي الثورة الصناعية في الغرب ، والتي كانت تؤذن بصعود الغربيين من جديد للسيطرة على العالم وانكماش وانزواء  قوة  المسلمين ممثلة في العثمانيين . ولكننا رأينا  المحاولة المستميتة لمحمد علي للحاق بالثورة الصناعية والتكنولوجية في أمور الحرب والصناعات الحربية والمدنية على السواء . وهذا هو سبب العداء المميت للانجليز وحلفائهم لمحمد علي ، فالغريب في هؤلاء القوم انهم يحبون الاحتكار والهيمنة والاستكبار ، يريدون دائما في الماضي والحاضر أن يحتكروا قيادة العالم وادارته ، ولا يؤمنون بالمشاركة أو التعاون أو التعددية على النطاق الدولي على خلاف ما يدعون به من مفاهيم الديمقراطية ، وان كانوا ينسفونه نسفا وحتى على صعيد الكلام النظري عندما تتهدد مصالحهم ، فلم يتحدث جورج بوش الأصغر عن الديمقراطية ولكنه قرر الدعوة للحرب الصليبية ، وقال ان من ليس معنا فهو ضدنا .

حتى روسيا المسيحية الارثوذوكسية السلافية لا يعترفون بها حقا انها من أسره الغرب ،أسرة الرجل الابيض المحمل برسالة مقدسة لغزو وحكم العالم وإقامة الحضارة  . وقد سعوا ولا يزالون يسعون لتدميرها، و كما فعلوا مع سكان أمريكا الأصليين (الذين يسمون هنوداً حمراً ) حيث أباد ما لا يقل عن 122 مليون إنسان في القارتين الأمريكيتين ومن باب أولى هم يوقنون بأن الإسلام هو العدو المباشر والأخطر ، لأنه يحمل رؤية متكاملة بديلة لرؤيتهم للعالم في السياسة والاقتصاد والأخلاق وطرائق الحياة . وبالتالي فان هدفهم الدائم عدم السماح بإقامة أي  دولة اسلامية مستقلة حقيقية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

إن الاستكبار الغربي للرجل الأبيض ورث الأمريكان قيادته وما هم إلا إنجليز هاجروا لأمريكا (أنجلوساكسون) أسسوا الولايات المتحدة الأمريكية و كأن قدرنا سيظل مع هؤلاء الانجليز دوما !

1- دولة محمد علي كانت تهدد كل المشروع الصليبي فى الهيمنة الصناعية، ومن ثم التجارية والاقتصادية،  كقوة اقتصادية منافسة .

2- وكان يتحكم في أهم طرق التواصل والتجارة بين الشرق والغرب(وليس مجرد مستعمرة الهند رغم أهميتها )

3- وكان يحتل مركز العالم الذي لا يمكن حكم العالم بدونه ( الشرق الاوسط)

وبغض النظر عن تفاصيل نصوص المعاهدة فإن هدفها هو تحجيم دولة محمد علي داخل مصر مؤقتًا ، ولأنه ما كان يمكن احتلالها في ذلك الوقت . خاصة أن إنجلترا تريد احتلال مصر لوحدها حتى تفوز بها لنفسها. ان إنجلترا كانت تدرك قوة الجيش المصري خاصة في حرب دفاعية عن مصر. فرأت الاكتفاء بحصر مشروع محمد علي داخل مصر كمرحلة أولى ،  ثم تقويض النظام من الداخل كما سوف نرى حتى تصبح الأمور ناضجة للاحتلال المباشر . والمعاهدة السابقة الخاصة بحرية التجارة وإلغاء الاحتكار التي عقدها الإنجليز مع العثمانيين قبل ذلك بعام تتكفل بجوانب التقويض الصناعي التجاري ، وهذا يؤدي إلى إضعاف الصناعة الحربية، ومن ثم إلى إضعاف الجيش المصري ، وكانت المعاهدة تشير بعدم السماح بخروج الجيش المصري خارج حدوده مرة أخرى بضمان 4 دول اوروبية + تركيا . وهو ما دفع إلى فتور همة محمد علي في هذا المجال .

ووجه الشبه بين هذه المعاهدة وهدفها الرئيسي في تحجيم وتصفية دور مصر كمشروع دولة عظمى إقليميا بين العرب والمسلمين . هو نفس هدف كامب ديفيد ، وبدون أي دخول في تفاصيل البنود التي سنأتي لها إن شاء الله .  فإن الهدف منها كان محاصرة دور مصر العربي من بقايا المشروع الناصري ، ووضعها داخل صندوق الحدود التقليدية لمصر ، وإضعاف قوتها الحربية والاقتصادية لضمان تحقيق ذلك . كانت كامب ديفيد تعطي سيناء لمصر وكأنها جائزة (وليست حقًا مشروعًا ) مقابل نزع سلاحها بما يحقق أمن اسرائيل ومقابل الاستدارة لما يسمى قضايا العرب : فلسطين أو الأراضي المحتلة السورية أو غير ذلك حتى القدس والمسجد الاقصى . مع جائزة أخرى ( 2.2 مليار دولار ) كمنحة سلام وهذا غير منصوص عليه طبعًا في كامب ديفيد . ولكن المنصوص عليه في كامب ديفيد ثم المعاهدة المصرية – الإسرائيلية أن أمريكا هى راعية السلام وهي المسئولة والمشرفة على القوات الدولية في سيناء لمراقبة تنفيذ المعاهدة .

كانت كامب ديفيد مقايضة مع السادات ليأخذ سيناء منزوعة السلاح والتعمير ، ومساعدات اقتصادية أمريكية ، مقابل إنهاء أي علاقة حقيقية مع العرب والمسلمين.  وبحيث تصبح العلاقة المثلثة : المصرية -الإسرائيلية – الأمريكية هى دستور النظام المصرى ، وقد أدى هذا إلى سقوط مصر في حالة تبعية اقتصادية وسياسية وعسكرية كاملة للولايات المتحدة ، وإلى علاقات دونية مع إسرائيل.  ولا يزال الأمر مستمرا حتى الآن .

وبهذا المعنى فإن معاهدة لندن تعتبر أفضل بلا شك فهي لا تتضمن حكما بالإعدام الصريح على مصر المستقلة . ليس رحمة بمصر أو تقديرا لها ، ولكن بحساب موازين القوى واستمرار القوة المصرية على الأرض . أما في كامب ديفيد فقد تضمنت إعدام لمصر المستقلة دون ذكر ذلك صراحة ولكن تطبيق بنود المعاهدة يؤدي فعلا إلى ذلك ، لا لأن مصر كانت قد فقدت قوتها ، بل لقد أفصحت عن قوتها وعضلاتها في حرب العبور المجيدة . ولكن السادات باع كل أوراق القوه لأن لعابه سال من أجل الحصول على سيناء كاملة وكان قد وعد سرا بذلك ، وإعادة سيناء مهمة لمشروعية الحاكم والحكم. وأيضًا سال لعابه للحصول على دولارات أمريكا وكان واهماً!

 مرة أخرى نحن أمام حكم الفرد المستبد دون المؤسسات فلا تلوموا محمد علي وحده نحن لا نزال نعيش كدول عربية واسلامية بدون مؤسسات ويحكمنا أفراد متسلطون ومعهم بطانتهم أو عشيرتهم أو مجموعة المنتفعين .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: