لا يمكن تفسير تراجع الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط بأنه إعادة تموضع، أو أنها لم تعد تجد ضرورة لهذا الوجود، لفقدان المنطقة أهميتها، فالمنطقة تتمتع بثروات هائلة وموقع جيو- إستراتيجى لا يمكن تعويضه، وجاء الانسحاب الأمريكى من أفغانستان دون ترتيبات ليضعف من الهيبة الأمريكية، فى ظل زحف جماعة طالبان وسيطرتها على مساحات أوسع من البلاد، ويتزامن الانسحاب الأمريكى من أفغانستان مع خفض القوات الأمريكية فى منطقة الخليج والعراق، وما تواجهه من تحديات فى شمال شرق سوريا، كما تسعى لإنهاء الحرب فى اليمن، كما اقتربت العودة للاتفاق النووى مع إيران ورفع العقوبات.
إن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاشتباك فى مناطق عديدة، وخوض حروب استنزاف طويلة لا تحقق أى مكاسب، بل جلبت عليها مشكلات وتكاليف وإنهاك فى وقت تريد فيه روسيا والصين اللتان تشكلان الخطر الأكبر على مكانة الولايات المتحدة، لكن السؤال المطروح هو: بأى أدوات يمكن الولايات المتحدة كبح القوتين الكبيرتين؟. هل ستعتمد على القوة العسكرية المنسحبة لنشرها فى شرق أوروبا وبحر الصين الجنوبي؟ لا يمكن تصور خوض اشتباك مع روسيا أو الصين وهى التى انكفأت فى العراق وأفغانستان أمام قوات غير نظامية قليلة التسليح والتدريب، فهل ستحقق مع الصين وروسيا ما عجزت عنه فى أفغانستان والعراق؟ الإجابة المؤكدة هى لا، وهنا يأتى السؤال عن قدرتها على الكسب بالعقوبات، ويبرز نموذج إيران التى مارست عليها العقوبات القصوى ولعقود طويلة، لكنها لم تحقق الهدف، بل عززت إيران علاقتها بكل من روسيا والصين إلى ما يشبه التحالف العسكرى والسياسى والاقتصادي، وكذلك لم يحقق قانون قيصر نتائج فى سوريا التى توجهت أيضا شرقا، وعقدت اتفاقيات اقتصادية مع كل من الصين وروسيا وإيران، وحتى لبنان الهش اقتصاديا للغاية، لعدم وجود قطاعات إنتاجية مع انتشار الفساد والأزمات السياسية، فلم تحقق الضغوط الاقتصادية عن تغيير فى موازين القوى رغم شدة الأزمة، فهل يمكن أن تثمر العقوبات ضد دولتين عظميين بحجم الصين وروسيا؟ المؤكد أنها لن تحقق شيئا من وراء العقوبات، فأى عقوبة ضد الصين ستعانى منها أيضا الولايات المتحدة، ولأن الصين مصنع العالم فلن يمكن الاستغناء عن دورها أو إيجاد بديل فى المدى المنظور، كما أن روسيا تمد أوروبا بنحو 40% من احتياجاتها من الطاقة، وتوشك على إنهاء خط غاز السيل الشمالى الثانى مع ألمانيا، واستنفدت الولايات المتحدة ومعها دول الاتحاد الأوروبى كل وسائل الضغط الاقتصادى والسياسى والإعلامى ضد روسيا، وفشلت القمة بين الرئيس الأمريكى جو بايدن ونظيره الروسى فلاديمير بوتين قبل عشرة أيام فى حلحلة أى من الأزمات الكثيرة والمعقدة بين البلدين، خاصة فى أوكرانيا وسوريا، ولأول مرة يلوح الرئيس بوتين باستخدام القوة النووية إذا تقدم حلف الناتو نحو الحدود الروسية، وهو أعنف تهديد روسى على حشد قوات الناتو قرب أوكرانيا وبيلاروسيا، وعندما اقتربت بارجة بريطانية من شبه جزيرة القرم فى البحر الأسود حلقت فوقها القاذفات الروسية، وانطلقت خلفها الزوارق، لتخرج البارجة بسرعة، وتشكو من تعرضها لطلقات تحذيرية، وفى الملف السورى ربط بوتين بين تجديد تزويد الجماعات المسلحة فى إدلب بالمساعدات، بسيادة سوريا على مواقع استخراج النفط والغاز فى شمال شرق سوريا ورفع العقوبات، ومبرره أن تزويد الجماعات المصنفة إرهابية بالمساعدات لا يتسق مع فرض حصار اقتصادى على الشعب السوري، ويخرج الزعيمان بدون بيان ولا مؤتمر صحفى مشترك فى مؤشر على الفشل فى الوصول لأى نتائج، وإيذانا باستمرار التصعيد دون أفق لحلول عبر المفاوضات أو التهديد العسكرى أو عقوبات اقتصادية.المؤكد أن الولايات المتحدة ستركز على القوة الناعمة فى الضغط السياسى والإعلامي، والترويج لما تسميه القيم الأمريكية الديمقراطية، وأن تلعب بأوراق هونج كونج وتايوان والإيجور مع الصين، وورقة المعارض الروسى نافالنى والقدرة على إثارة بعض الاضطرابات، لكنها لن تحقق الكثير أيضا، ولهذا فإن الانسحاب من الشرق الأوسط كان علامة على عدم قدرة الولايات المتحدة على تحمل مواجهات متعددة، هذا الانسحاب سيعزز نفوذ خصومها ويقلق حلفاءها.