الوهابية : التوحيد بتحطيم القبور لا بالتحرر من الانجليز

( الصورة لمحمد بن عبد الوهاب)

عظمة الحضارة الإسلامية في تعدد مراكزها السياسية وتنقلها بيسر من بلد لآخر

 الأمويون دمروا الكعبة مرتين فهجر السياسيون مكة حفاظا عليها

الوهابية وضعت الأساس الأعمق للتكفير ولا تزال تجني على الأمة حتى الآن

(دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (59)

تهفو النفس ويهوي القلب إلى مكة .. إلى بيت الله الحرام ، ولابد بين حين وآخر أن نعود إلى مركز المستطيل القرآني لنتزود. وخير الزاد التقوى.  وأيضا لنكشف زوايا جديدة في حكمة الله التي لا تنفد أبعادها في هذا الاختيار الإلهي لمكة كمركز للعالم ومركز للمؤمنين والناس كافة. قلنا اننا سنتوقف عند الحركة الوهابية ، حالما نفرغ من استعراض مرحلة محمد علي لأن الحركة الوهابية نشأت في أواسط القرن الثامن عشر وترعرعت في القرن التاسع عشر ، بالتواكب مع مرحلة محمد علي بل لقد اصطدمت الحركتان ضد بعضهم البعض فيما يعرف بالحرب ضد الحركة الوهابية لحساب الدولة العثمانية.

ونرى أن الحركة الوهابية من أهم أحداث المستطيل القرآني في القرن التاسع عشر بل هى لاتزال تؤثر في المستطيل حتى الآن ، بل وفي مجمل الحركة الإسلامية. المستطيل الذي يضم الخريطة الجغرافية الواردة في القرآن الكريم والتي تشتمل على وجه الحصر الوطن العربي الآسيوي+ مصر، والذي أصبح يعرف الآن باسم الشرق الاوسط .

 لم يكن اهتمامنا بمحمد على كل هذا الاهتمام لأنه مصري وحاكم مصري ،( وكاتب السطور مصري) . ولكن لأهمية حركة ومشروع محمد علي كأهم حدث إقليمي وعالمي خلال القرن التاسع عشر ولأن مشروع محمد علي شمل كل المستطيل القرآنى(عدا العراق) وزاد عليه باختراق الأناضول واليونان وضم جزيرة كريت ومعظم السودان . ولأننا ندرك وفقا لمعطيات هذه الدراسة الدور المحوري لمصر في الشرق الأوسط ومن ثم في العالم بأسره ، ومع ذلك فإننا لن نهمل ما يجري في المستطيل حتى نهاية الدراسه ان شاء الله .

وبالتالى فان التوقف عند الحركة الوهابية لأهميتها ودورها الفكري ومساهمتها في بناء نظام المملكة السعودية فانه أيضا يشمل أحوال الجزيرة العربية التي توقفنا عن متابعة أخبارها منذ تركها الحكم الإسلامي بعد الخلفاء الراشدين وانتقل إلى مراكز أخرى : بغداد – الشام – ثم بغداد – ثم مصر – ثم تركيا .

وبالفعل منذ هجرها الحكم الإسلامي لم تعد مركزا لأحداث المنطقة ولا العالم الإسلامي وخاصة بعد ما فعله الأمويون في الكعبة مرتين. وفي المدينة المنورة . رفض أهل المدينة مبايعة يزيد بن معاوية بعد مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وبايعوا الصحابي عبد الله بن حنظلة الغسيل وفي مكة أعلن عبد الله بن الزبير خلع يزيد وأخذ البيعة لنفسه ، فأرسل يزيد جيشا عليه مسلم بن عقبة الذي أمهل المدينة ثلاثة أيام ووقعت الواقعة سنة 63 هـ وقتل في الحرة أكثر سادة أهل المدينة . وقتل معقل بن سنان الأشجعي الصحابي حامل لواء قومه مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة وكان معه لواء المهاجرين يوم الحرة وقتل 251 معروفة أسماؤهم في الحرة من أبناء الأنصار والمهاجرين الذين خرجوا على يزيد . وجاء عن أنس بن مالك :قتل يوم الحرة من حملة القرآن سبعمائة وهزم يزيد أمام عبد الله بن الزبير في مكة ثم توفي يزيد . ولكن قائد جيش يزيد كان قد قذف البيت الحرام بالمنجنيق فأحرقه بالنار قبل أن يموت يزيد ويتراجع الجيش الى الشام . ثم قام الحجاج الثقفي بتكليف من عبدالملك بن مروان بحصار مكة وضربها بالمنجنيق ومنع دخول المواد الغذائية والمياه إليها وتم تعطيل الطواف في صفر عام 72 حتى تم قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه .

فيما بعد كما أوضحنا مرارا ، فان شريف مكة و حاكم الحجاز كان يجنب مكة صراعات المسلمين ، ويدعو في خطب الجمعة للخليفة الأقوى والمسيطر على العالم الإسلامي ، وهكذا تحول الدعاء من الأمويين إلى العباسيين ثم إلى الفاطميين ثم إلى سلاطين مصر المماليك ثم للدولة العثمانية. ومهما يكن فقد كانت سياسة حكيمة ، سياسة تجنيب مكة والأماكن المقدسة صراعات المسلمين السياسية. ولم تكن الحجاز وقلب الجزيرة العربية عبر قرون محورا في محاور الصراع السياسي والعسكري بين المسلمين بعضهم البعض . ولذلك لم يكن عدم تعرضنا لأوضاع جزيره العرب في معظم الفصول السابقة مسألة نسيان او اهمال ولكن ببساطة لأنها لم تكن مركزا للأحداث أو حتى مشاركة في أهم الأحداث السياسية والعسكرية . واحتفظت بطابعها الأساسي كمركز للشعائر المقدسة . وعلى مدار إحدى عشر قرنا تقريبا وبعدما تمددت دولة الإسلام الكبرى إلى بغداد ثم دمشق ثم بغداد ثم القاهرة ثم اسطنبول ، وأصبحت امبراطورية اسلامية تحرريةأي لا تستبدل استعمارا باستعمار كما يفعل من كان قبلها من الدول العظمى ، ظلت نواة السلطة السياسية الاسلامية تهاجر موطنها الاصلي وتتنقل بحرية بين الأقاليم المختلفة كما لو كانت تؤلف فيما بينها شركة مساهمة أو “كومونولث” لعله الأول من نوعه في التاريخ ، وفي ظل هذا الوضع الخاص جدا ، كانت  الأقاليم تخضع لبعضها البعض بالتناوب وعلى التعاقب بلا عقد أو صراعات ، هكذا كتب د. جمال حمدان في اشراقة من اشراقاته وأضاف : مثلا كانت مصر أيام الأموية تابعة لسوريا لأول مرة في تاريخها كما صارت تابعة أيام الدولة العباسية للعراق ، بينما سرعان ما اصبحت العرب و جزيرتهم التي كانت النواة الأولى للدولة الإسلامية تابعة على التعاقب لسوريا والعراق ومصر جميعا بلا غرابة او شذوذ .

والواقع أن العصر الإسلامي الوسيط عموما يمتاز سياسيا بخاصية فريدة ، بدونها قد تخطأ فهم الخريطة السياسية كلها ، تلك هى “السيولة السياسية” غير العادية ، فقد كان عصر الدين ، وكان الإسلام هو العقيدة والعصبية والجنس والجنسية والوطن والوطنية جميعا . وكان روح العصر أن ينتقل المسلمون بحرية وبلا قيود داخل “دار الإسلام” أو الكومونولث الإسلامي . كذلك غلبت فكرة الوطن المحلي على الوطن الإقليمي ، فكان المسلم ينسب الى بلدته أكثر مما ينسب إلى بلده ، فيقال البغدادي أو البصري أو السامرائ ولا يقال العراقي ، والدمشقي أو الحلبي أو الطرابلسي أو المقدسي ولا يقال السوري ، والقاهري أو السكندري لا المصرى ،والقابسى والوهرانى والفاسى لا المغربى ، وهكذا.

أما من الناحية السياسية فلم تكن الوحدات الجغرافية الاقليمية بنواتها الطبيعية المحددة ، ولا كانت فكرة الوطن والوطنية بمعنى القومية الحديثة والولاء الضيق ، ظاهرة متبلورة أو جامدة ، بل كانت غير واضحة متميعة داخل فكرة الوطن الاسلامى الكبير ومتداخلة معها بصورة شبه هلامية . وبالتالي كان العالم الإسلامي وعاء ضخما أو هيكلا تقوم فيه الدول وتتعدد ، وتتنافس وتتصارع ، ولكنها أساسا تقوم على أساس شخصي او أسرى بحت أي حكومة عائلة بعينها أو حاكم بعينه في الاعتبار الأول ،ولقد تستقر على نواة اقليم جغرافي كامل أو محدد بعينه أو أكثر ، ولكنها يمكن دائما ان تنتقل أو تتمدد إلى أيما أبعاد إقليمية جغرافية تستطيع أن تصل إليها نفس الأسرة الحاكمة بلا تحديد سوي قوتها السياسية وطاقتها التوسعية و بلا أي عائق أو حرج قومي ما بقيت في إطار الوطن الاسلامى الكبير نفسه .

ومن هنا كان الحكام يتحركون من قطر إلى قطر ، أو يفتحون أو يضمون قطرا من قطر ، دون حساسيات إقليمية أو قومية حادة ودون اي مدلول او محمول استعماري. الاستثناء الوحيد – وبعنف وضراوة عند ذلك – كان في حالة”الكفار” من وثنيين أو غير مسلمين كالتتار والصليبيين .

ليس هذا فحسب ، الأكثر منه ، وما قد يبدو لنا اليوم الأغرب ، أن هذه الدول ، كثيرا ما كانت تسلم نفسها بنفسها لبعضها البعض ، ربما بكثير (أو قليل) من الصراع السياسي والصدام العسكري ، ولكن بغير حساسيات قومية حادة تستثار أو تتراكم وبلا نعرات إقليمية وطنية  تثلم  أو تمتهن ،  وإنماالأقوى والأجدر على المحافظة على الإسلام والعصبية الإسلامية في وجه الخطر الأجنبي ، أي الكفار ، وهو ببساطة الذي يدال إليه وربما يستدعى استدعاء من جانب المدال منه لكى يقوم بالمهمة المقدسة التي تعلو على الطرفين جميعا ، أو على الجملة وكما يمثل ويلخص صبحي وحيده في المسألة المصرية : “كان الذين واطأوا الفاطميين و مهدوا لدخولهم مصر عربا لا مصريين ، كذلك كان أهل الدولة الفاطمية هم الذين دعوا الأيوبيين إلى إسقاط هذه الدولة بعد أن عجزت عن الوقوف في وجه الكفار ، وكان الأيوبيين بالذات هم الذين أنشأوا فرق المماليك ومهدوا لهم الحكم ، وكان المماليك هم الذين واطأوا بنى عثمان وانهزموا لهم و تعاونوا معهم في الحكم”.

حتى الرقيق المستجلب إذا أسلم وكان الأجدر حربيا وعسكريا على المهمة – والمماليك مثلا أساسيا وصارخا وهم كظاهرة تاريخية نتاج عصرعدم الاستقرار والاضطراب والاقتلاع البشري الذي أحدثه الطوفان المغولي المخرب في وسط آسيا وحصاد ما صحبه من أسرى الحروب والمعدمين المقتلعين وعادة بيعهم أو بيع أنفسهم كرقيق – حتى هذا الرقيق لا مانع سياسيا أو قوميا أو عنصريا من أن يكون السلطة والحكم والدولة دون أن يقال أن هذه أو تلك ” أمة يحكمها العبيد الأجانب” كما يصور البعض تحريفاوتشويها ، ولعل الأصح أن يقال تلك أمم تصنع حكامها بأيديها وعلى إيديها .

وأخيراففي ضوء هذه المعطيات يمكن أن نفهم معنى “التبعية السياسية” في عالم الاسلام الوسيط. فقد كانت الأسرة الحاكمة تنتقل بالفتح من بلد الي بلد وتنشئ دولة جديدة دون أن يتبع البلد الأخير البلد الأول سياسيا بالغدورة او يعد “مستعمرة” من مستعمراتها ، بل هي التي تكسب جنسية وتبعية البلد الجديد بكل بساطة وسيولة.

بل لقد تترك تلك الأسرة بلدها الاصلي تماما . كذلك فلقد كان المماليك يستجلبون ويحكمون في مصر والشام دون أن يخطر لهم قط أن “يضموا” موطنهم الجديد إلي مواطنهم القديمة في قلب آسيا . ذلك أنهم لم يكونوا يأتون كغزاة فاتحين أو كطبقة أرستقراطية مستعمرة ، وإنماأفراد محاربين للخدمة العسكرية يفقدون بوصولهم  كل علاقتهم وجذورهم مع أوطانهم الاصلية التي قد لا يعرفونها أحيانا على وجه التحقيق .

هكذا في ظل هذه السيولة السياسية النادرة دارت القوة طويلا من يد إلى يد داخل الدولة الإسلامية ولكنها بصفة خاصة في العرب والأتراك – فاستقطبت في عرب الجزيرة منذ البداية ،  وحتى آلت كلية إلى الأتراك العثمانيين في النهاية . وفيما بين البداية والنهاية تسلل الأتراك ومعهم أو بعدهم الشراكسة والأكراد والتركمان والقوقاز والقوازق (القجار) والديلم والغز بل والأرمن.. ألخ تسللوا منذ الدولة العباسية إلى السلطة حتى تنازعوها بالتدريج مع العرب في لعبة شد حبل تاريخية ممطوطة ، كانت ترتكز علي أيما قطر إسلامي أتيح لها . فكان مركز القوه يتحرك من قطر إلى قطر بحسب ذلك الشد والجذب ، وكان القطر الواحد تابعا اليوم ومتبوعا غدا على التناوب ودون حرج .

ومن هنا لم يكن الأمر أمر سيطرة الشام على العراق (الأموية) أو مصر على الشام (الأيوبية والمملوكية) او المغرب على مصر (الفاطمية) ..الخ وإنما كانت تلك الأقاليم مجرد قواعد جغرافية متعددة لسيادة واحدة متنقلة . (وهذا هو تفرد الحضارة الإسلامية وتفرد دور الإسلام في تغيير طبيعة الصراع بين الأمم والدول والقوميات) وإذا كان الأكراد والمماليك قد حكموا مصر ، فقد كانوا من قبل يحكمون شمال الشام وشمال العراق. وإذا كانت العناصر التركية قد أسست حكما في مصر ضمن الدولة العباسية ، فقد كانت تتحكم في مقر الدولة العباسية (بغداد) من الداخل . باختصار كان الأصل في توزيع القوة السياسية هو نظرية تعدد المراكز داخل العالم العربي والإسلامي . ورغم أن الحكم الأيوبي أتي من الشام إلا أن مقر الحكم أصبح في مصر واصبحت مصر والشام في إطار سياسي واحد . وهكذا .

{جمال حمدان – شخصية مصر – الجزء الثاني – مرجع سابق – من 626 حتى 631 بتصرف واختصار ، وما بين الأقواس تعليقات لكاتب هذه السطور }

وفيما يتعلق بموضوعنا: الجزيرة العربية ، فعندما كانت القيادة الإسلامية في مصر كان نفوذ مصر السياسي ،والاستراتيجي ، إن لم يستوعب شمال العراق وتخومه ، يشمل الشام كله أو جنوبه على الأقل ، كما كان يمتد بدرجات متفاوتة إلى النصف الغربي من الجزيرة العربية بحجازه واليمن ، وهذا الأخير بعد جديد لمجال النفوذ المصري لم يكن يعرفه قبل العصر الإسلامي . بل كثيرا ما امتد ظل مصر بعيدا إلى جزر شرق المتوسط :قبرص (قبرس) وكريت ( إقريطش) وصقلية .

مغزى الحركة الوهابية :

قد تبدو هذه مقدمة كبيرة في الحجم والمعنى للحديث عن الحركة الوهابية ، ولكن الواقع إننا نستغل بعض ملامح وخصائص الحركة الوهابية لندلف إلى هذا الكهف الرهيب الذي تحيطه الظلمة وقلة المعلومات . كهف الجزيرة العربية ،  لعدة أسباب يكتسب أهمية قصوي : فهو كما ذكرنا مركز العقيدة الإسلامية ومبعث الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم الذي حول مجرى التاريخ وحتى قيام الساعة . والجزيرة العربية تشمل أكثر من 60 % من مساحة المستطيل القرآني ، فهل يمكن أن تكون كما بلا فاعلية نوعية (عدا المشاعر المقدسة) . بل نحن كمسلمين ليس لدينا ما يشغلنا أهم من عبادة الله واتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بل نحن ليس لدينا في حياتنا ما يشغلنا سوى أن نكون تحت شعار (لا اله الا الله ..محمد رسول الله ) وأن نكون جديرين به ، وأن نضبط حياتنا وفقا لهذا المنهج ، نحن مقبلون على الحياة بكل ما فيها من تنوع ودروب ومجالات ، ولكن مهتدين بهذا الهدى الإلهي ( القرآن والسنة) . فكيف نتحدث عن المستطيل القرآنى – مركز العالم العربي والإسلامي – بل ومركز العالم دون أن نعطى الجزيرة العربية ما تستحقه من الاهتمام . كذلك فإن الحركة الوهابية قد فرضت نفسها بصورة أكبر على مستوى اهتماماتها ورؤيتها لعدة أسباب على رأسها أنها نبتت في الأراضي المقدسة ، وأنها تمكنت من ترسيخ دولتها الأولى والثانية المعروفة باسم المملكة العربية السعودية ، وانه ضمن تصاريف الله وأقداره فقد جعلها منبعا لمعظم احتياطيات بترول العالم ، وهو المحرك الأساسي للحضارة الحديثة حتى الآن . وأن هذه الإمكانات أعطت للجزيرة العربية اهتماما مركزيا في العالم وأصبحت أهم منطقة في العالم من الناحية الاستراتيجية .كما أعطى المال النفطي إمكانيات مادية لدعم الخط الوهابى على المستويين العربي والإسلامي ، بالإضافة لإمكانات دولة بحجم السعودية : جامعات – ومعاهد – و مطابع ودور نشر ، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية في مختلف أنحاء العالم مع تعيين الدعاة والأئمة المتخرجين من السعودية فيها . كذلك فقد تم – باستخدام كل هذه الإمكانيات- ربط المذهب الحنبلي لأحمد بن حنبل مع كتابات ابن تيمية وابن القيم مع كتابات عبد الوهاب لتشكل ترسانة – موحدة لرؤية اسلامية محددة ، وتم ربطها بكتابات سيد قطب ومحمد قطب الذي كان يعيش ويقيم في السعودية لتغزوا بدرجات متفاوتة معظم الجماعات والأحزاب والمنظمات الإسلامية في مختلف أنحاءالعالمين العربي والإسلامي . وقد أدت كل هذه المبادرة المركبة إلى نتائج سلبية في المحصلة النهائية على مجمل الحركة الاسلامية .  فبرغم التقدير العالي لعقلية ابن تيمية وابن القيم كفقيهين ينبضان بالذكاء والحدس السليم والقدرات العقلية الفائقة وتوفيق الله ، إلا أنهم يظلان تنطبق عليهما القاعدة ( كل يؤخذ منه ويرد إلا محمد صلى الله عليه وسلم) كما أن ابن تيميه ليس مسؤولا عن توظيف بعض آرائه وكتاباته بعد وفاته ، لخدمة توجهات معينة ، وقد كان رحمه الله غزير الإنتاج ، وكانت تتفاوت أراؤه في نفس الموضوعات من وقت لآخر . ولكننا لن نتعرض الآن لهذا التوظيف لبعض آراؤه من قبل بعض الجماعات الإسلامية (كما فعلت داعش مؤخرا) ، ولا للمرحوم سيد قطب حتى نصل إلى القرن العشرين . ونحن لا نزال في القرن التاسع عشر .

المهم أن الحركة الوهابية تم تقديمها باعتبارها هي المجددة للدين الإسلامي ورغم محدودية أهدافها كما سنرى رغم كثرة الحديث عن التوحيد ، فإنه يتم من خلال الترسانة السعودية اعطاؤها أبعادا أكثر من حجمها الحقيقي ، ودورها التاريخي غير المنكور في وقته . ولا شك أن إيجابيات الحركة الوهابية واضحة وهي محاولة مخلصة من السيد محمد بن عبد الوهاب لتخليص الدين الإسلامي من شوائب الشرك والبدع التي لحقت به في الجزيرة العربية ، ومحاولة مخلصة للعودة إلى نقاء التوحيد بالله . ولا أهم لدينا كما قلنا آنفا من التوحيد (لا اله الا الله.. محمد رسول الله ) . ولكن هذه الدعوة للنقاء العقائدي لا يمكن أن تكون مفصولة عن الأوضاع السياسية للعالم الإسلامي في كل وقت وأوان ، ولا يمكن أن تكون مفصولة عن طواغيت الأرض في كل زمان .فالخطر الرئيسي على التوحيد قد يكون دائما و أساسا في الإنسان الطاغية ، لا فى الحجر و القبر والضريح و الوثن والصنم من الأحجارأو الأخشاب أو المعدن . فالذي حارب محمدا صلى الله عليه وسلم ليس اللات والعزى ومناة الثالثةالأخرى وانما حاربه أئمه الكفر في قريش دفاعا عن سلطانهم ومصالحهم الدنيوية . وعندما دعانا الله سبحانه وتعالى الى الكفر بالطاغوت قال :


 فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)البقرة 256 – 257

وأعقب هذا مباشرة آية أخرى تضرب مثلا بالطاغوت وهو ملك  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ()البقرة 258

فهل كان يمكن أن يحطم المسلمون كل الأوثان ثم يبقون تحت سيطرة أئمة الكفر في قريش ، أن يبقوا تحت سلطتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية والتشريعية فحتى إذا نجحت في تحطيم كل ما تعتقد انه أوثان كشواهد القبوروالأضرحةوالأشجار التي يتبارك بها الناس ، فهم ستحقق كمال التوحيد بينما تترك الكفار الإنجليز يزحفون على ملكك ويحتلون الشريط الساحلي كله على الخليج ويفرضون سلطتهم السياسية والاقتصادية والتشريعية ، وقواعدهم العسكرية ، دون أن تشتبك معهم في معركة واحدة ولو على طريقة حرب العصابات . بينما تتوالى غزوات الوهابيين – السعوديين على المسلمين في البصرة وكربلاء (سنة وشيعة ) بالعراق حتى السماوة، وتتوالى الغزوات على المسلمين في الشام و هي مناطق سنية تماما ، حتى تصل الى مدينة بصرى وتكون الأوامر بالحرق والنهب والسلب للمدن بينما هذا محرم علينا أن نفعله حتى مع الكفار ، ويتم أخذ الغنائم من المسلمين (على أساس انهم كفار) ويتم تخميس الغنيمة فيرسل الخمس لمحمد عبد الوهاب وابن سعود و يتم توزيع أربعة أخماس على المقاتلين الوهابيين . ووصلت الغزوات جنوبا حتى عسير على حدود اليمن بل تجاوزت حتى سواحل تهامة اليمنيةوحتى ميناء الحديدة .

وأيضا من الأهداف المشروعة التي تحسب للحركة الوهابية (والسعودية) هو سعيهم لتوحيد الإمارات المبعثرة بالجزيرة في دولة واحدة ، وهذا هدف مطلوب في حد ذاته ، ولم يكن شريف مكة مهموما أو مهتما به ، مكتفيا بمكانته الأدبية و تواجده في مكة والمدينة . ولكننا في النهاية سنصل إلى تقييم سياسة هذه الدولة الموحدة ، وانها تخلت عن توحيد الساحل الخليجي واليمن حتى لا تصطدم بالانجليز ، وهو الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى نشأة العديد من الإمارات الصغيرة الضعيفة في الخليج وعدن تحت الهيمنة الكاملة للاستعمار الإنجليزي وحتى قبل ظهور البترول ، لأن هذه المواقع كانت مهمة جدا لأنها في طريق التجارة بين الشرق والغرب عموما ، وطريق التجاره بين انجلترا والهند خصوصا ، كانت التجارة الآسيوية خاصة في الصين ثم جنوب شرقي آسيا ثم الهند تمر بحريا عبر الخليج العربي – عبر مضيق هرمز – حتى البصرة ثم تنتقل برا حتى سواحل الشام لتواصل طريقها إلى اوروبا ، وكانت عدن هى مفتاح البحر الأحمر عند باب المندب وهذا هو الطريق الثاني البحري بين أقصى شرق آسيا وأوروبا عبر ميناء القلزم (السويس) حيث تنتقل البضائع برا حتي دمياط والإسكندرية ثم إلى أوروبا . وكان الطريق الثالث بريا هو طريق الحريريأتي من الصين ويخترق أواسط آسيا وله في النهاية بعض التفرعات ، فقد يتواصل بريا عبرالأناضول ثم يركب البحر لأوروبا ، أو يتواصل حتى بعض المحطات في الشام : في حلب – عبر دروب العراق – ثم بعض موانئ الشام في الطريق إلى أوروبا . وفي النهاية تحولت الدولة الموحدة السعودية الثانية التي وحدت معظم الجزيرة إلى حجر عثرة في طريق النهضة الاسلامية الحقيقية من خلال تحالفها الاستراتيجي مع الانجليز ، الذي تم توريثه للأمريكان .

 ورغم تراجع أهمية الطريق التجاري خاصة بعد قناة السويس واستخدام طريق رأس الرجاء الصالح ووجود طرق بحرية مباشرة بين أمريكا و أسيا عبر المحيط الهادي . إلا .أن هذا التحالف الاستراتيجي بين السعودية وإنجلترا ثم أمريكا سلم الثروة الوطنية البترولية لأعداء الأمة الذين أصبحوا متحكمين في إنتاجها وتجارتها وثمارها المالية

والآن تقول بعض الحركات التي تسير على الطريق الوهابى انها منفصلة عن السياسة السعودية بأن التحالف القديم بين الوهابية كحركة عقائدية والأسرة السعودية كرجال دولة وسياسة قد انتهى منذ زمن . ولكن ليس هذا صحيحا تماما فلا تزال الوشائج بين الطرفين موجودة وكل طرف يحاول الاستفادة من الطرف الآخر في الحدود التي تحقق مصالحه . فالحركات الاسلامية المتشددة تسير على نهج الوهابية وسنرى عبر الوقائع التاريخية كيف أن كثيرا من أفكار القاعدة وداعش ومنظمات سلفية عديدة فى سوريا والعراق وباكستان ومصر، كيف أن بذور الأخطاء والانحرافات( والتكفير) تعود لأفكار الوهابية ، وسنجد أيضا أن الدعم المالي لهذه الحركات لم ينقطع حتى الآن من السعودية ودول الخليج بما في ذلك قطر . وأنه يتم توجيه هذه الحركات من خلال هذا الدعم بعشرات المليارات من الدولارات في اتجاه يخدم المصالح الأمريكية في المنطقة ، ويضرب أمه الإسلام ، كذلك الاتجاه الأخير والذي نشأ فور نجاح الثورة الإيرانية في القضاء على نظام الشاه التابع لأمريكا وهو تحويل معركة الشعوب العربية والإسلامية الى الحرب ضد الشيعة باعتبارهم أخطر على الاسلام من اليهود والأمريكان وهذا كلام يكتب و يتردد كثيرا ، عقب ثورة ايران 1979 ، لأن ايران الشيعية أصبحت تحارب النفوذ الأمريكي وإسرائيل في المنطقة . وكل ما جرى من تخريب في العراق وسوريا وامتد الى بلدان أخرى بدرجات متفاوتة في مصر وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا والصومال وغرب أفريقيا وليبيا هو ثمرة استمرار هذا التحالف بين الوهابية التي أصبحت تيارا فكريا عاما يسري في عشرات ومئات المنظمات المختلفة وليس تنظيما موحدا وبين الدعم الحكومي المالي لدول الخليج والسعودية . وبالمناسبة فإن الفكر الوهابي كان قد ترسخ داخل الإمارات الخليجية بدرجات متفاوتة خاصة ما يعرف الآن باسم الإمارات العربية وقطر والبحرين (في صفوف المسلمين السنة طبعا) والكويت عدا سلطنة عمان التي يهيمن عليها المذهب الأباضي، ولكنها سياسيا تظل خاضعة للنفوذ الأمريكي . مثلا الفكر الوهابي يسيطر حتى الآن على الأجهزة الإسلامية الرسمية في قطر (كوزارة الأوقاف) بغض النظر عن ألاعيب دولة قطر التي تعمل أيضا في اطار التوجهات الأمريكية وفقا لنظرية تقسيم وتوزيع الأدوار.

نقول أن الحركة الوهابية حاولت أن تضفى على نفسها بعض القداسة من زاوية أنها نشأت في أرض الإسلام الأولى ، أرض الجزيرة العربية ، التي كانت مبعثا لأنوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا يجعلنا نبدأ أولا بتاريخ هذه البقعة من العالم ، وفي محاولة متجددة لاكتشاف مزيد من أبعاد حكمة الله سبحانه وتعالى لأن يجعلها هي مركز ومبعث الرسالة الخاتمة ، وكنا قد أشرنا الى بعض من ذلك من قبل ولكن الأمر يحتاج إلى المزيد من الشرح والتوضيح والإضافة باذن الله .

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: