عندما تصادمت مع أبى غزالة تحت قبة البرلمان .. ومبارك يدعم تمرد جنوب السودان بالسلاح وماذا قال لى دبلوماسى أمريكى حول تدخل مصر فى السودان

حلقة من كتاب التبعية لأمريكا مرض العصر – الصورة لأبى غزالة وزير الدفاع الراحل

{رئيس المخابرات الأمريكية توقع أن يلقى السادات مصير شاه إيران .
مصر أرسلت طيارين وخبراء في التعذيب لأسوأ حاكم في أفريقيا – وأرسلت سلاحًا لتمرد جنوب السودان}.
شيء مذهل حقًا.. عندما عرض السادات على كيسنجر (اليهودي وزير خارجية أمريكا) تحالفا استراتيجيا لمحاربة الشيوعية والاتحاد السوفيتي.. كانت القوات الإسرائيلية على بعد 85 كيلو متر من القاهرة وليس الكيلو 101 كما هو مشتهر، وأنا شخصيا شاهد على ذلك؛ لأنني كنت جنديا في الفرقة الثالثة مشاه ميكانيكي، وكانت تتصدى للثغرة الإسرائيلية في وادي أبو جاموس وهو على بعد 15 كيلو متر من الجفرة، والجفرة على بعد 70 كيلو متر من القاهرة!! كان السادات يعرض التحالف الاستراتيجي مع أمريكا وإسرائيل تخترق مصر إلى هذا الحد بالسلاح والمقاتلين والمعلومات الأمريكية، وكنا نتصدى لذلك بالسلاح السوفيتي، وكان الجسر الجوي العسكري السوفيتي يعمل على مدار الساعة لتعويض خسائرنا في الحرب، وعمومًا فقد ذكرت في دراسات سابقة أن الخطر الرئيسي على مصر والعروبة والإسلام من الحلف الصهيوني – الأمريكي وليس من الاتحاد السوفيتي السابق أو روسيا الحالية، بل يمكن إقامة علاقة مع روسيا في مواجهة الحلف الأمريكي، مع ضرورة الاعتماد أساسًا على النفس، المهم لم تكن هناك رائحة للمبدئية في موقف السادات تجاه قضيتنا الوطنية، ولا تجاه ما يمكن أن يسمى “حرب مقدسة ضد الشيوعية ” لأن العبرة بالحرابة، من يحاربني هو العدو الأصلي حتى وإن كان من أهل الكتاب .
وحتى قبل الوصول إلى معاهدة السلام مع إسرائيل تقمص السادات روح وشخصية الجنرال والشرطي المحلي لأمريكا، وعندما قدمت له أمريكا (ضمن سياسة القطارة: نقطة نقطة) 14 طائرة نقل عسكرية من طراز 130، لم يعجبه ذلك وطلب من الولايات المتحدة إمداده بـ 40 طائرة مقاتلة من طراز “إف – 5 – إي” لتساعده في بناء “فيلق أفريقيا”؛ للقيام بدوريات لحماية الجانب الشمالي الشرقي من القارة!! واعتبرت الإدارة الأمريكية فكرة “فيلق أفريقيا” ضربًا من ضروب الخيال ونحته جانبًا إلا أنها وافقت على صفقة الطائرات (وثيقة لوزارة الخارجية الأمريكية) . وحتى مدير المخابرات الأمريكية فقد كان يخشى على السادات من مصير الشاه إذا اندفع في هذا الطريق فكتب في وثيقة رسمية: (سيكون من الصعب إثناء السادات عن طموحه ليكون شرطي الشرق الأوسط لكن هناك مخاطر حقيقية تكتنف تشجيعنا لهذا الدور. فهناك خطر في احتمال أن يتجاهل السادات مشاكله الداخلية أو أن يتجاهل استياء المؤسسة العسكرية من مثل هذه السيادة. ويحتمل أن تخلق هذه السياسة نفس النوع من المشاكل التي رأيناها للتو في إيران) ( ستانفيلد تيرنر) .
ولكن السادات اندفع بجنون لإثبات قدرته في مكافحة الشيوعية، وكان يجتمع مع السفير الأمريكي فور عودة العلاقات في 28 فبراير 1974 بصورة شبه يومية!! وفقا لمذكرات السفير الأمريكي من 1974 حتى 1979 هيرمان ايلتس .
وفي تلك الفترة (1976) منع السفن السوفيتية من دخول الموانئ المصرية (بدون داع وبدون مبرر من أي عمل صنعه السوفيت) على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي ظل حتى ذلك الوقت الشريك التجاري الأكبر لمصر!! وأمد السادات رجل زائير القوي موبوتو سيسي سيكو وحليف الولايات المتحدة وواحد من أسوأ حكام أفريقيا والعالم بطيارين مصريين؛ لمساندته في معركته ضد المعارضة (التي افترض أنها شيوعية). وكشف لي أحد كبار الدبلوماسيين المصريين أن مصر قدمت أيضًا لموبوتو ضباطا من أمن الدولة كخبراء في التعذيب، ولم تتوان مصر السادات ومبارك عن تصدير هذه الخبرات “الثمينة” في التعذيب لمختلف الأنظمة العميلة لأمريكا مثل تونس مثلاً؛ حيث كانت عمليات التعذيب تأخذ أسماء لفنانين .مصريين (عملية شادية – عملية عبد الحليم حافظ) مع أن الفنانين المصريين أبرياء من الحكاية .  
ورغم موقف الخارجية والمخابرات الأمريكية، إلا أن كارتر كان يستجيب لأحلام السادات في أن يكون قائد فيلق أفريقيا(!) حتى يورطه في التوقيع على كامب ديفيد، فخلال المفاوضات قال كارتر لمحمد إبراهيم كامل وزير الخارجية المصري كلامًا خطيرًا: (إن الاتحاد السوفيتي يمرح ويرتع في منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط لأنه يعلم أن لمصر خمس فرق بأكملها مرابطة على ضفة قناة السويس لا يمكن تحريكها، فإذا ما توصلنا إلى اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل، فليس ثمة حاجة إلى بقاء هذه الفرق الخمسة مجمدة على القناة وسوف يصبح الرئيس السادات حرًا ويستطيع إعادة توزيعها على النحو الذي يراه ويختاره مما سيضطر الاتحاد السوفيتي إلى أن يعيد مراجعة حساباته ويتوخى الحذر في مغامراته وتصرفاته). ورفض الوزير الوطني هذا الكلام وقال: (إذا سمحت لي يا سيادة الرئيس، فإننا مجتمعون هنا لحل النزاع العربي – الإسرائيلي وليس التصدي لمخططات الاتحاد السوفيتي) (مذكرات محمد إبراهيم كامل – السلام الضائع في كامب ديفيد) ومعروف أنه استقال بعد توقيع السادات على اتفاقية كامب ديفيد .
وعندما جاء مبارك كانت علاقة التبعية قد استقرت وفقا للسقف الأمريكي، ولم يكن لدى مبارك طموحات تأسيس فيلق أفريقيا! وكما سمح الأمريكان للسادات بل تم تشجيعه على ضرب ليبيا 1977، ظلت ليبيا من المهام الموكولة للصديق المصري، أي تحديد دائرة ضيقة له ومنها ليبيا من دول الجوار ولها علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفيتي، وبعد تولي مبارك للحكم بفترة وجيزة نشرت الولايات المتحدة اثنين من محطات الرادار الجوي (أواكس) بدعوى تفادي هجوم مفاجئ من القوات الليبية على مصر. وبدأت مناورات النجم الساطع بين الجيشين المصري والأمريكي في إشارة تهديد مبطنة للقذافي، وواصل مبارك سياسة السادات في دعم الحملة السرية الأمريكية ضد السوفيت في أفغانستان، ومن ذلك شراء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والسعودية أسلحة سوفيتية قديمة بـ 50 مليون دولار سنويًّا لتهريبها إلى المقاتلين الأفغان عبر باكستان .
غل يد مصر عن السودان وليبيا
ورغم أن ليبيا كانت موكولة لمصر لتأديب القذافي وإدخاله بيت الطاعة الأمريكي وهذا ما كان يمارسه مبارك على القذافي في كل لقاءاته معه عندما عادت العلاقات بين البلدين، وظلت هذه من مهام مصر مبارك حتى إنهاء أزمة لوكيربي والاتفاق حولها وعندئذ استغنى الطرفان (ليبيا وأمريكا) عن مصر وأصبحت بينهما علاقات مباشرة شرحها بالتفصيل جورج تينت مدير المخابرات الأمريكية في مذكراته. ولكن أمريكا لم تترك السودان لمصر رغم أن الطرفين (أمريكا ومصر) ضد حكم الإنقاذ للبشير. وتعاملت أمريكا مع مصر في موضوع السودان كما تعاملت بريطانيا مع مصر، أي إبعاد مصر والاستحواذ على السودان. إذن مصر (مع الأسف أقولها والحزن يعتصرني) موظف تحت الطلب يعمل بالقطعة في مهام مختلفة ولا يوكل بصورة دائمة بأي ملف حتى بالنسبة لدول الجوار، عدا غزة بعد تولي حماس السلطة فيها، وذلك بحكم الاستحواذ الجغرافي لمصر على غزة. وأيضًا مسألة استخدام مصر كممر بحري وجوي للعبور العسكري الأمريكي. وهذا ما يريده الأمريكان من مصر (أمن إسرائيل.. وأمن البترول بمعنى توفير خطوط الدفاع العسكري عنه).
بالنسبة لليبيا بعد الاتفاق على تصفية موضوع طائرة لوكيربي وكان ذلك عن طريق السعودية (لا مصر !!) انتهت العلاقة المتميزة الناشئة بين مبارك والقذافي، وكان لسان حال القذافي: إذا كنت تريد إدخالنا بيت الطاعة الأمريكي فنحن نعلم عنوانه ويمكن أن نذهب بمفردنا مباشرة.  ووصل الأمر إلى إلغاء القذافي دخول المصريين بدون تأشيرة وبدون جواز سفر بعد التوصل لذلك، وكانت العلاقات متوترة، وقامت الثورة في البلدين في ذات الوقت تقريبًا، فلم يكن لمصر أدنى تأثير فيما يجري في ليبيا ولا يزال الأمر حتى الآن وهذه كارثة بمعنى (الأمن القومي المصري) ).
أما بالنسبة للسودان فقد ظلت علاقات مصر متوترة مع نظام البشير، حتى اتجه هو بنفسه إلى أمريكا والغرب ودخل في مفاوضات فاشلة مع تمرد الجنوب أدت إلى تمزيق السودان، بانفصال الجنوب ثم الآن تهدد الأوضاع في دارفور وكردفان والنيل الأزرق وآبيه وغيرها بالمزيد من التمزق والتشقق .
ولستُ هنا في معرض مناقشة مشكلة السودان بالتفصيل، ولكننا نؤمن أن مصر والسودان بلد واحد، وأن حل مشكلات الطرفين يكون بالتآلف والتحالف والتعاون ثم الاتحاد الطوعي، وأن السودان أهم لنا من أمريكا من الناحية الاقتصادية، وسنأتي لذلك في الجانب الاقتصادي من الدراسة إن شاء الله. نحن نتحدث الآن عن العلاقات الاستراتيجية العسكرية مع الولايات المتحدة وكيف أنها تمنع على مصر أن تمارس علاقاتها الطبيعية مع الأشقاء والجيران. وترى أمريكا أن السودان أثمن من أن يترك لمصر رغم العلاقات الأزلية بين البلدين لأن للسودان دورًا مهمًا في أفريقيا، وبالتالي لابد من السيطرة عليه أو تمزيقه إربا حتى لا يتحدث أحد فيه عن المشروع الحضاري الإسلامي. في التسعينيات حدثت موجة من التوتر بين مصر والسودان على خلفية حلايب وشلاتين وعلى خلفية حادث أديس أبابا وعلى خلفية الطابع الإسلامي للإنقاذ. وبدأ الحديث عن حشود عسكرية مصرية على حدود السودان وبدأ دق طبول الحرب، وقد شننا حملة شديدة ضد هذا التوجه في صحيفة الشعب. في تلك الأثناء اتصل بي الملحق الصحفي بالسفارة الأمريكية طالبًا اللقاء في فندق الانتركونتيننتال (كنت أوافق على مثل هذه اللقاءات حتى عام 2003 عام غزو العراق وسأشرح ذلك في الفصل الأخير إن شاء الله) كان أغلب الحديث عن الأحوال في مصر ولا أتذكرها الآن وكنت قلقا من موقف أمريكا من السودان وكنت أريد أن استكشف هل هناك توجه أمريكي لإشعال الحرب مع السودان؟ ولكنه لم يفتح الموضوع وأثناء خروجنا من الفندق رأيت أن أفتح الموضوع وسألته: هل تتوقع نشوب حرب بين مصر والسودان؟ فقال لي: (ليش .. من شان شو ..) وكان يتحدث بلهجة شامية، وعدت من جديد أستوثق فقلت له: أنت تعلم أن هناك توترا بسبب حلايب وشلاتين واتهامات بضلوع السودان في حادث أديس أبابا، فأكد لي: مرة أخرى (أن هذه الموضوعات لا تستدعي الحرب ولا أظن أنها أمر محتمل). استرحت قليلاً وقتها لأن هذا كان أخشى ما نخشاه. ولكن من ناحية ثبت أن التصعيد المصري من جانب واحد أي بدون التنسيق مع أمريكا، وثبت أن أمريكا كانت ضد التدخل العسكري المصري في السودان وأن رأيها هو الذي نفذ!! ليس حبًا في العروبة أو من أجل حقن الدماء أو حرصًا على الأشقاء.. ولكن حتى لا يتمدد نفوذ مصر للسودان المجاور! وإن كنا مع دور فعال لمصر في السودان ولكن ليس بأسلوب الغزو، وليس بهدف إسقاط النظام هناك إسلامي كان أو غير إسلامي .
مصر تدعم التمرد الانفصالي عسكريًّا
وبدون التقيد بالتسلسل الزمني، لأنني لا أكتب تاريخيًّا، وإنما أعرض الموضوع، فلقد تسرب إلينا بالتدريج أن الحكومة المصرية تمد تمرد جون جارنج الانفصالي في جنوب السودان بالسلاح (كانت المعلومات عندي أنها مدفع هاون وأشياء أخرى)!! كنت أضرب أخماسا في أسداس بين مصدق ومكذب، فكل المتصلين بالمخابرات والأمن القومي في عالم السياسة والصحافة يرددون نفس الكلام الذي نقوله عن تمرد الجنوب، وأنه خطر على الأمن القومي العربي والمصري وليس السودان فحسب، بينما يتم إمداد التمرد بالسلاح بمعرفة مبارك وأبو غزالة وزير الدفاع.. لماذا لا يسأل العاملون في المخابرات أو العاملون تحت لوائها أنفسهم وضمائرهم، هل توجد جريمة وازدواج وكذب أكثر من ذلك، وهل توجد خيانة لمصر أكثر من ذلك؟ إذا لم تكن هذه هي الخيانة العظمى فماذا تكون إذن؟! خاصة والموضوع يتعلق بمسألة نهر النيل، ومشروع قناة جونجلي الذي يوفر 4 مليارات متر مكعب لمصر والسودان، بينما تقف حركة التمرد ضد هذا المشروع الذي يقع في أراضي الجنوب السوداني، بل لقد كتبت عن مفاجأة مذهلة في ذلك الوقت أن الدكتوراه الحاصل عليها جون جارنج هي حول مضار هذا المشروع !! (مشروع قناة جونجلي) .
عندما كنتُ عضوا بمجلس الشعب (1987 – 1990)، حضر المشير أبو غزالة مرة واحدة للمجلس وكان يتحدث في لجنة الأمن القومي وحضرت الاجتماع، وهذه هي المرة الوحيدة التي رأيت فيها أبو غزالة، وأشهد أن حديثه أعجبني من حيث الذكاء وإبداء الوطنية عندما ذكر أنه يفكر أن يدخل في المدارس تدريبات المظلات، ثم عاد وقال: هذا كلام سري لا تسربوه للصحف حتى لا يحدث مشكلات (كان الصحفيون ممنوعين من الحضور). ولا أتذكر إن كان قد هاجم السودان أم لا؟ ولكن الهجوم على السودان كان يملأ وسائل الإعلام، وطلبت الكلمة وكنت الوحيد الذي وجه انتقادات لسياستنا الخارجية والدفاعية (كان وزير الخارجية عصمت عبد المجيد موجودا)، وركزتُ على السودان، واعترضتُ على إقامة علاقات مع التمرد، وقلتُ إن توثيق العلاقات مع الخرطوم مسألة أمن قومي عليا لمصر حفاظا على وحدة البلاد، وسخرت من إعلان الحكومة المصرية اعتزامها زراعة القمح في زائير!! وقلتُ هذه مكايدة للسودان، وهزل في موطن الجد، ونحن لا يمكن أن نزرع القمح في زائير، وهذا عبث. ورد علي أبو غزالة بتوتر وقال: من حقنا أن نقيم علاقات مع من نشاء (يقصد زائير !! وأنا لست ضد علاقة مع زائير عموما) ويمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا الصدام في كتابي (مصر والسودان)، وتأكدت من هذا الحديث وجود علاقة عسكرية مع جنوب السودان. وفي إحدى زياراتي للخرطوم بعد ذلك وفي لقاء مع الرئيس السوداني بشير أعرب عن حزنه لوقوع أسلحة مصرية في أيدي الجيش السوداني وجدوها مع المتمردين (وكان اللقاء مع مجموعة من السياسيين المعارضين المصريين ولم أكن وحدي). (ملاحظة للشعب: كشف الزميل صابر شوكت أخيرا في أخبار اليوم أن شركة مبارك وأبو غزالة وحسين سالم ومنير ثابت وهي شركة الأمل للنقل البحري التي كانت مختصة بنقل الأسلحة الأمريكية لمصر، كانت تقوم بنقل شحنات سلاح لجون جارانج وغيره من المتمردين في أفريقيا الذين تؤيدهم وتشجعهم أمريكا وهذا يعني أن جارانج كان يتلقى أسلحة مصرية وأسلحة أمريكية عن طريق مصر) “الشعب “
وعندما كان جون جارانج على وشك أن يقيم دولته باستفتاء معروف نتيجته، جاء لزيارة القاهرة، وكان له لقاء مع المثقفين والسياسيين في الأهرام وكنتُ مدعوا، ولكن عندما ذهبتُ لحضور اللقاء منعني الأمن من الدخول، ولا أدري ماذا كنتُ سأفعل معه؟! ولكنني لم أفجر مشكلة لأنني لم أكن متحمسًا للقاء بلا جدوى. وعلمت من مصادر موثوقة أن جارانج كان يقول لمن يقابله: إنه كان واثقا من النصر وإنه سيقيم دولة منفصلة في الجنوب. وعندما يسأل عن سبب هذه الثقة فكان يجيب: إنني أتلقى المساعدات بما في ذلك المساعدات العسكرية من أقرب الناس للسودان: مصر وليبيا!! (طبعا عندما يضم ذلك لدعم أمريكا وإسرائيل والغرب وكنائس الغرب وأثيوبيا وأوغندا وكينيا!!). وهذه أيضا من أعاجيب هذا المنافق (القذافي) أمين القومية العربية، فهو يمول حركة معادية صراحة للعروبة بل تجاهر بأنها تنفصل عن الشمال؛ لأنه عربي .. ومسلم!! (لقي جارانج مصرعه في حادث غامض لسقوط طائرته في أوغندا) إذا لم تكن المشانق خلقت من أجل مثل هذه الجرائم، فلماذا تم اختراعها؟! أقول ذلك عن مبارك ومنير ثابت وحسين سالم وهم أحياء ، والثالث يستعد للعودة من أسبانيا بطلا مغوارًا، على كثرة جرائمه في مجال ما يسمى (الأمن القومي)

وفعل نظام الإنقاذ السوداني – كما فعل القذافي – وساروا على أقدامهم إلى الشيطان، إنهم يعرفون عنوانه.. بل هو باعتباره من الجن موجودا في أماكن كثيرة ولكن عناوينها معروفة أيضًا، هو بنفسه سيفتح لك الأبواب والنوافذ يكفيك أن تنوي!! طبعا لم يتهاو النظام السوداني، كما تهاوى القذافي سريعا في التبعية، النظام السوداني صار في طريق ملتوٍ ولا يزال يسير من سيئ إلى أسوأ وإن كنت لا أزال أرى أنه يحتفظ بقدر لا بأس به من الاستقلال، ولكن على مساحة أقل فأقل من أرض السودان، ولم يعد عنده أي فرامل تحول دون الاندفاع باستمرار نحو مزيد من التبعية. ولكنني أتناول الموضوع الآن من زاوية مصر. فعندما رأى نظام السودان أن مصر تخلت عنه، فهي تمد خطوطها مع التمرد، وتضغط على الشمال ليقلع عن حكاية “الإسلام”!! سار على أقدامه وهو في كامل قواه العقلية إلى أمريكا ليتفاوض معها، بل اعتبر أن موافقة أمريكا على مبدأ التفاوض، مكسب للسودان !!
في إحدى زياراتي لبيروت لحضور أحد المؤتمرات التقيت مع إبراهيم عمر الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، وطلبت أن نجلس في غرفته بالفندق لأنني أريد الحديث طويلاً عن أحوال السودان وقد انقطعت عنها وبالفعل جلسنا جلسة مطولة مفيدة، وكان في حديثه يقول: قلنا لكونفورث، وقال كونفورث، فلم أعر الموضوع اهتماما في البداية، ولكنني وجدته يكرر اسم (كونفورث) كثيرًا ولم أعد أفهم ما الموضوع فقلتُ له من (كونفورث) هذا، فقال لي: هذا المبعوث الأمريكي للسودان، وفهمتُ أنه شبه مقيم في السودان أو يسافر ويعود على فترات متوالية. وكانت هذه بداية التفاوض الأمريكي التي أوصلت للتفاوض مع التمرد. وقد لاحظتُ في كلام د. إبراهيم ليونة، فقلتُ له: أخشى من السير في هذا الطريق، فقال لي: (نحن الآن نستخرج البترول وبنينا خط أنابيب طويل، أطول خط في أفريقيا من أجل تصديره عبر بورسودان، وقد تلقينا تهديداتٍ بضرب هذه الأنابيب، وهذا سيوقف عملية التنمية). وأخذت دور المستمع حتى نهاية الجلسة، ولكن قلت بعد ذلك لمن معي من حزب العمل/ الاستقلال هذه علامة لا تبشر بالخير، فإذا أنت فكرت بهذه الطريقة فلن يكون أمامك سوى رفع الراية البيضاء، وهذا ما حدث في مصر أيام المتهمين الأمريكان بتمويل جماعات مصرية؛ حيث تم الإفراج عنهم بصورة مهينة للقضاء وقيل إن مبرر ذلك أن أمريكا هددت باحتلال القناة!! وهكذا يمكن لأمريكا أن تحصل على ما تريد بمجرد التهديد بالكلام ، ولكن ما يهمنا الآن أنه بتخلينا – بوزن وأهمية مصر الجارة – عن السودان، دفعناها – كما دفعنا القذافي – إلى أحضان أمريكا. ثم نعود نتباكى على الأمن القومي المصري الذي ذبحناه بأيدينا. وفي فترة التوتر الرسمي بين مصر والسودان في التسعينيات من القرن الماضي زارني مصطفى بكري في بيتي وهذه من المرات النادرة وربما الوحيدة، ولا أذكر سبب هذا اللقاء، ولكن أذكر أننا عرجنا على موضوع السودان، فقال لي إن السودان تحت السيطرة ولا يمكن أن يفلت من يد مصر، ويوجد في كل كيلو متر مربع سوداني عنصر مخابرات مصري!! وبغض النظر عن هذه المبالغة فقد برهنت الأيام بعد عقدين من الزمان إلى أي حد أصبحت المخابرات المصرية ضعيفة التأثير في السودان وليبيا ومختلف دول أفريقيا. وأن طموحات السادات في تشكيل فيلق أفريقيا تقلصت إلى تشكيل فيلق لضرب المظاهرات المصرية، ، ومحاصرة غزة المحاصرة أصلاً! إن ليبيا – السودان – فلسطين هم المثلث الأول لأمن مصر وتنميتها الاقتصادية، ونحن تركنا أضلاع المثلث كلها نهبا للأعداء وأصبحنا نحن محاصرين داخل مصر. حدث نوع من التعايش السلمي بين مصر والسودان (بعد خراب مالطا وانفصال الجنوب) واستمر حتى الآن ولكن في إطار علاقات واهية واهنة أبعد ما تكون عن العمق الاستراتيجي المطلوب، فواصلت أمريكا قضم أطراف السودان عن طريق التمردات المختلفة المدعومة من دولة الجنوب الجديدة العميلة لإسرائيل وانتشرت التمردات المسلحة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق وآبيه، السودان يغوص في مستنقع التمزيق والتدخلات الأجنبية تحت راية الأمم المتحدة، ومصر تبحث كارثة المياه مع أثيوبيا، بدون تنسيق مع السودان، وتحل مشكلة أمنها الغذائي باستيراد اللحوم والدواجن من أقاصي الأرض (أمريكا – البرازيل مثلاً) بدلاً من التعاون مع السودان، وهذه مجرد أمثلة. المهم كل طرف أصبح يتعامل مع أمريكا منفردا فأضعفت أمريكا البلدين، وأغرقت مصر في الفوضى، وغاص المصريون في مستنقع لا يسمح لهم بمجرد رؤية السودان وليبيا بالعين المجردة !!
الثورة الليبية
كنت أرى ورغم انشغالاتنا المصرية ضرورة أن نمد الجذور ونتفاعل مع الثورات العربية لأن الهموم والتحديات واحدة، وكنتُ أرى أولوية للثورة الليبية؛ بسبب الجوار والامتداد الأرضي والتشابك القبلي على الحدود وبسبب الطابع الإسلامي الذي بدأ يكسو الثورة، وأقصد هنا الطابع الإسلامي الاستقلالي. وأنا أعرف الكثير عن ليبيا ليس من خلال المؤتمرات السياسية التي حضرتها هناك فحسب ولكن لأنني أمضيت فيها أياما طويلة في قاع المجتمع الليبي، وتجولتُ فيها على مدار أكثر من ألفي كيلو متر من السلوم حتى طرابلس في رحلة (أوتوستوب) صيف عام 1970، ولم تكن السيارات الملاكي تقف لنا بل سائقو الشاحنات الليبيون وهي تسير ببطء، وتتوقف كثيرا على الطريق للراحة والأكل فأمضينا (كان معي صديق وزميل دراسة وكنا نتجه للسنة الثالثة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية) أمضينا أياما بين أبناء الشعب الليبي على طول الساحل. وأهم اكتشاف في هذه الرحلة هو معرفة مدى عمق حب الليبيين لمصر والمصريين، وهذا هو الكنز الذي نفرط فيه دائما مع ليبيا وغيرها، اكتشفنا كم الزيجات المشتركة بين ليبيين ومصريات، مدى حبهم للهجة المصرية، والأكل المصري، كنا نحمل على الجرابندية (حقيبة على الظهر) علم مصر، فبمجرد أن تمر الشاحنة علينا وترى العلم تتوقف لحملنا دون أن نشير لها وعلى مدار 2000 كيلو متر لم نتوقف دقيقة انتظار واحدة. كان معي في رحلة حول البحر المتوسط (40 دولارا + 12 ج ليبيا)!! وهذه الميزانية لا تسمح بالنوم في الفنادق، لا تتصوروا إذن أين كنا ننام؟! أذكر الآن أننا نمنا في درنة تلك المدينة الجميلة (لم تكن داعش قد تم تأسيسها بعد فى ليبيا ! وأكرر أن ذلك كان عام 1970!!) ولكن أين في درنة؟! ذهبنا لقسم الشرطة وطلبنا المبيت!! فرحب بنا الضابط وأعطانا غرفة نظيفة بها 3 أسرة نظيفة، ربما هو مكان لمبيت الجنود ولكنه كان نظيفًا جدًا. وربما قاموا معنا بواجب الضيافة. وعليك أيها القارئ أن تسأل هل يمكن أن يحدث هذا في أي بلد؟! طبعا لقد رحبوا بنا كمصريين. وأذكر في طرابلس بيتنا عدة ليالٍ في إحدى المدارس (وكانت في العطلة الصيفية) انتظارا لموعد السفينة المتجهة لصقلية بعد أن رفضت تونس بورقيبة أن تعطينا تأشيرة في مصر أو في طرابلس بسبب الخلافات مع عبد الناصر. المهم كنا ننام على أسرة نظيفة في مدرسة داخل العاصمة طرابلس. هل يمكن أن يحدث ذلك في أي بلد آخر؟ المواطنون الليبيون ضعفاء أمام المصريين، وإذا وجدوا مصريا في الطريق لابد أن يكرموه ويقوموا معه بالواجب رغم أن العمالة المصرية كانت قد بدأت تصل بكثافة خاصة في الشرق (بني غازي). أعلم أن 44 عاما مضت جرت فيها مياه كثيرة، وأحداث عكرت صفو العلاقة بين الشعبين ولكن سيظل الأصل هو المحبة، ويكفي عندما تكون الحدود مفتوحة لترى كم السيارات الليبية التي تغرق القاهرة والإسكندرية خاصة في الصيف. بالإضافة لذلك قامت مصر بتأسيس كثير من المؤسسات الليبية في التعليم – الإعلام – المخابرات.. إلخ وقامت بعمليات البناء كالمقاولين العرب. عندما تفجرت الثورة الليبية، أصبح واضحًا أن نظام القذافي سينتهي قريبا، وكانت المصلحة الوطنية تتطلب الالتحام مع ثورة الشعب، وكان القذافي قد باع نفسه للغرب عقب سقوط نظام صدام حسين أي في حوالي عام 2004. من المفترض أن نكون مع قرار الشعب الليبي وكان واضحا أن القذافي أصبح محاصرا في طرابلس بعد أن سقطت سيطرته على الشرق (بني غازي)، وكان لنا رأي متميز فلسنا مع القذافي ولسنا مع تدخل الناتو، وكنا نرى ضرورة أن تتبنى مصر ثورة الشعب الليبي وتدعمها بما في ذلك الدعم العسكري، ولقد التقيت مع مجموعات من الثوار الليبيين التي كانت تأتي لمصر، وكان أهمها رئيس اللجنة الشعبية (أو التنسيقية) في مدينة البيضاء وقد استضفته في جامع عمرو بن العاص؛ حيث ألقى كلمة ألهبت حماس الجماهير. ولقد كنتُ مأخوذا بوعي المجموعات الشبابية الليبية التي التقيت بها في القاهرة، وعي سياسي وإسلامي مستنير، وبعضهم كان يقرأ لنا على الإنترنت، وكنت أركز معهم على ضرورة الخلاص من سيناريو الناتو، وتشكيل جبهة وطنية شعبية حقيقية لقيادة الثورة، وإلا فإن هذه الضربات الجوية ستقود إلى نفوذ غربي وأمريكي في ليبيا بعد سقوط القذافي، وقلتُ لهم إذا كانت هناك مشكلة في التسليح نبحثها، طبعا هذا المجال ليس مجالي ولكن كنتُ على استعداد للدخول فيه إذا وجدتُ مجموعات قوية وجادة: وكان السيناريو في ذهني هو الاتصال الرسمي بالمخابرات العامة في مقرها المعروف لبحث هذا الموضوع. ولكن المجموعات التي كانت تتصل بي لم تنتظم في الاتصال، وكانت من الكوادر الوسيطة وبالتالي لم يتطور هذا الأمر لأكثر من الكلام النظري. ولكن كان لنا جلسات مطولة حول كيفية تأسيس الأحزاب ومعالم البرنامج الوطني الإسلامي في ليبيا.. حتى لقد طلبوا منى مشروع برنامج.
وكتبته لهم بالفعل وأعجبوا به ولكننا لم نلتق مرة أخرى !

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: