-الصورة : مجدى حسين يطالع مع اسماعيل هنية أحد الكتب فى منزل هنية بغزة-
مجدى أحمد حسين
هذه رسالة من اثنين كتبتهما فى أيامى الأخيرة بالسجن لإعلان اعتزالى العمل السياسى وقد حاولت تأجيلهما حتى يخرج الزملاء فى حزب الاستقلال من السجن ولكن الأمر يطول وإن كنت متفائلا بخروجهم قريبا وهذا نوع من الحدس والتقدير وليس لدى أى معلومات وقد بذلت مجهودا وسأظل أبذله فى كل الأحوال للافراج عنهم بعد عامين فى السجن رغم محدودية قدراتى. بل استغل فرصة اعلان اعتزالى الحياة السياسية للمطالبة بالافراج عنهم لأن الأمر قد انتهى من وجهة نظرى . وأعدهم أن نعيد طرح موضوع اعتزالى للمناقشة لدى خروجهم رغم إصرارى الشخصى عليه. وقد ساعدنى على اتخاذ قرار الاعلان أن استقالتى نشرت فعلا فى جريدة الشعب الالكترونية عام 2014 كما اننى أرسلت استقالتى من رئاسة الحزب قبيل انعقاد المؤتمر الأول للحزب ورفضت من القيادة ولم تعرض على المؤتمر . والآن الى الحيثيات:
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة قد تكون الأخيرة للشعب المصري
مقدمة: هذه الرسالة كان من المفترض أن أكتبها منذ 4 سنوات تقريبا ولكني فضلت أن أكتبها وأعلنها وأنا خارج الأسوار حتى لا يظن أحد انني كتبتها تحت وقع الضغوط النفسية التي يتعرض لها السجين خاصة عندما يطول سجنه ولكن ها هي السنوات مرت وأنا حبيس الأسوار وأصبح هناك احتمال أن أموت داخل السجن بسبب الشيخوخة والأمراض المتكالبة علىً ويعز علىَ أن أفارق الحياة دون أن يعلم الشعب المصري موقفي الأخير.
ليس لدي أوهام عن معرفة الشعب بي فقد كنت مستهدفاً دائماً بالتعتيم وباغلاق صحيفتي “الشعب” وقصف قلمي ومصادرة اللابتوب خاصتي واحجام وسائل الاعلام عن استضافتي إلا قليلا، أعلم أن قطاعات كبيرة من الشعب لا تعرفني. ولكن أعلم أن قطاعات كبيرة تعرفني.. وأنا أتوجه للجميع فهناك شباب ربما يعرفني بعد موتي من كتاباتي وبعض أعمالي خدمة لهذا الوطن.
أنا عاشق لمصر وترابها حيث امتزج عرقي به في كل محافظات مصر، وبالتالي فأنا عاشق لشعب مصر. فلا فاصل بين الشعب والأرض فهما مزيج واحد. وهذا لا ينتقص من ايماني بالله، وإفراده بالعبودية، بل حبي لبلادي من حب الله وفرع منه.
******
لماذا أستقيل من الحياة السياسية والحزبية؟:
بدأت الانخراط في العمل الوطني (السياسة) في أواسط مايو1967عندما أعلن جمال عبد الناصر حشد القوات المسلحة في سيناء تأهباً لأي حرب مع اسرائيل إذا هي اعتدت على سوريا وكانت هناك أنباء عن حشود اسرائيلية على الحدود السورية. كان عمري ساعتئذ 16 عاماً (أنا من مواليد23/7/1951) وأكمل في يوليو القادم 70 عاما ان شاء الله، وطلبت الالتحاق بالمقاومة الشعبية وأنا من سكان القاهرة حي الروضة، وجهني الاتحاد الاشتراكي الذي لم أكن عضوا فيه للاشتراك في تدريبات الدفاع المدني التي تقام في مركز شباب الجيزة بشارع الصناديلي، وقد بدأت ـ وواظبت كل يوم من التاسعة صباحاً حتى الظهر.
منذ ذلك اليوم لم تطرف لي عين عن مصر والأمة العربية وكرست حياتي كلها للعمل الوطني والقومي العربي والاسلامي دون تعارض بين هذه الأبعاد الثلاثة (مصر – العروبة – الاسلام)، وحتى عندما تقلبت في بداية شبابي بين الليبرالية والقومية العربية والاشتراكية حتى عدت للالتزام الاسلامي دون عداء مع هذه التيارات الأخرى. طوال مسيرة حياتي العملية التي بلغت 54 عاما (1967 -2021) وان منعت من العمل السياسي قصراً بحبسي في 30 يونيو 2014 حتى الآن ثم بقرار ذاتي. الصحيح إذاً قرابة 50 سنة، طوال هذه المسيرة رأيت أن التحدي الأساسي الذي يواجه مصر وأمتنا العربية هو عدوان التحالف الاسرائيلي- الأمريكي. ومع تنوع اهتماماتي وانشغالاتي فقد رأيت دوما وفي كل مراحلي الفكرية أن رأس الداء هو هذا الحلف المعادي. وأن رأس الحكمة في مقاومته، وهذا هو جوهر العقيدة الاسلامية وجوهر الوطنية في آن معاً.
ولم أدخر لحظة من حياتي في هذه المقاومة بالكلمة المكتوبة والمسموعة والمظاهرة والعريضة والعصيان المدني ووصلت كلمتي إلى كل مكان في مصر ولا أدعي انني كنت وحدي، ولكن أدعي أنني لم أنشغل بأي أمر آخر طوال نصف قرن. وانني عرضت حياتي لخطر الموت مراراً: في الأنفاق تحت الأرض إلى غزة. وبالسفر إلى السويس أثناء قصفها بالطائرات الاسرائيلية، وفي اشتراكي في حرب اكتوبر حتى لامست طلقات الدبابات الاسرائيلية (1/2 بوصة) شعر رأسي، وحيث قصفت مع اخواني الدبابات الاسرائيلية بالقذائف المضادة للدروع في وادي أبي جاموس في الثغرة. !
لست في مجال عرض مسيرتي الشخصية، ولكن ما يهمني الآن أن أقول.. ان تركيزي وتكريس حياتي على مدى نصف قرن لمقاومة العدوان الاسرائيلي – الأمريكي المستمر على مصر وعلى أمتنا حتى الآن، ليس من قبيل الاهتمام بالأمور الخارجية، فهؤلاء الأعداء قد اخترقوا صميم المجتمع المصري. وكل ما يعاني منه المصريون من عذابات بسبب هذا الاختراق: قيود على الجيش المصري في سيناء – إضعاف تسليح الجيش المصري حتى لا يوازي الجيش الاسرائيلي من خلال التحكم في نوعية السلاح الأمريكي الذي نحصل عليه والذي يمثل 70% من تسليح الجيش المصري حسب قول عمر سليمان، منع مصر من تطوير الصواريخ، والبرنامج النووي، والتصنيع الحربي المتطور، إغراق مصر بالمعونات والقروض (الدين الخارجي تريليون وربع تريليون جنيه مصري – إحصاء رسمي) فرض برنامج بيع القطاع العام (الخصخصة) بدون ظهور قطاع خاص قادر يمكن أن يحل محله. فرض برنامج رفع الدعم (عن طريق صندوق النقد الأمريكي) وهو ما يؤدي إلى رفع أسعار الوقود والخبز والمياه والكهرباء والمجاري والنقل والخدمات رغم أن الغرب لديه برامج دعم متنوعة بعشرات ومئات المليارات من الدولارات. تراجع التصنيع لأن المطلوب هو تصفية الصناعة المصرية لنعتمد على الاستيراد. الأمراض المزمنة المنتشرة بين أبناء الشعب المصري تأتي في جانب منها من اسرائيل من خلال التطبيع الزراعي – بالأخص السرطان والفشل الكلوي وأمراض الكبد، قيود دولية على استخدام الذرة في مجال السلم مثل تقييد استيراد مصر للمواد المشعة لأجهزة المستشفيات كالكوبالت (تصريحات لرئيس هيئة الطاقة المصرية السابق) وكان قد قال أن مصر وكأنها محاصرة كالعراق (وذلك أيام حصار العراق) -استخدام القواعد العسكرية المصرية والأجواء المصرية وقناة السويس لضرب الأشقاء في العراق وأفغانستان (في عهد مبارك) مع وجود قواعد أمريكية في مصر.(نيوزويك)
اسرائيل نهبت البترول المصري في سيناء دون أن تدفع تعويضات بل تعهدنا بتصدير البترول لاسرائيل أرخص من أسعار السوق بـ 5 دولار للبرميل في ملاحق معاهدة السلام، بل ان اسرائيل نهبت البترول المصري ودمرت المنشآت المصرية في سيناء حتى في عدوان 1956.
غلاء الأسعار الذي يشكو منه المصريون يرجع إلى توجيهات صندوق النقد الدولي الأمريكي، خصخصة – رفع الدعم – تخفيض العمالة الحكومية – فتح الاستيراد بدون حواجز جمركية تحمي الصناعة الوطنية – نهب الغاز المصري وفقا لاتفاقيات جائرة تم ابرامها في عهد مبارك ومستمرة حتى الآن، ولذلك لا يشعر أحد بالرخاء رغم كل هذا الغاز المكتشف، لأن الطرف الأجنبي يحصل على 100% منه، وكان من المفترض أن يكون الغاز هو المحرك لنهضة صناعية وطنية كبرى.
وعموما هم يسعون لمنع امتلاكنا لأسباب التقدم التكنولوجي، ويبتلعون أكبر قدر ممكن من علمائنا الأفذاذ ليبقوا في الولايات المتحدة أو يقتلوا (كابن سيد بدير وسميرة موسى وطائرة البطوطي وكان بها نخبة من الخبراءالعسكريين).
في الزراعة فرضوا علينا – من خلال يوسف والي – إلغاء الدورة الزراعية وترك الزراعة مفتوحة للسوق الحر وهذا يتعارض مع حقيقة ندرة الأراضي الزراعية بالنسبة لعدد السكان، ولا نزال نعيش في عهد يوسف والي وسياساته، فلا يوجد مرشدون زراعيون، ولا توجد رعاية حكومية للفلاح حتى أصبحت الزراعة مهنة المتاعب. وزراعة القطن تم ضربها وكذلك صناعة المنسوجات القائمة عليه. وأصبح المجال الأوسع للفواكه والخضروات من أجل التصدير! التطبيع مع اسرائيل أفسد التربة وأضاع البذور المصرية القديمة والأصيلة وأصبحنا نعيش على البذور والتقاوي المستوردة من اسرائيل وغيرها وهي مهندسة وراثيا ومضرة بالصحة. كذلك الهرمونات التي تستخدم لسرعة انضاج الطماطم والخيار. حبست عامين بسبب حملتي ضد هذه السياسات في عهد مبارك.
إلا أن سياسة والي – رغم عزله – لا تزال مستمرة، ولم تتم محاكمة يوسف والي على نشر السرطان وغيره من خلال التطبيع مع اسرائيل، لأن محاكمته ستؤدي إلى محاكمة اسرائيل وأمريكا فتم اتهامه بموضوع تافه (اسمه أرض البياضية).
الغاز نصدره لاسرائيل بأسعار تشجيعية واليوم نفكر بشراء الغاز من اسرائيل رغم اننا لا نحتاجه.
العلاقة مع اسرائيل وأمريكا وأوروبا أصبحت بديلا للعلاقة الأصلية بأمتننا والعرب والمسلمون وهذا وضع مقلوب ولن يصل بنا إلى شيئ إلا أن نظل ضعفاء ومجرد مستهلكين وتابعين للقرار الأمريكي في كل الأمور الجوهرية.
وعندما جاء الاخوان للحكم ساروا في نفس الاتجاه واعترفوا باسرائيل وكامب ديفيد والمعونة الأمريكية والتدريبات العسكرية مع الجيش الأمريكي وتبادلوا أعذب الخطابات مع قادة اسرائيل.
بعد جهاد نصف قرن (ومعي قلة من المجاهدين) فإن النخبة السياسية لا تجمع ولا تتفق إلا على شيئ واحد: صداقة أمريكا واسرائيل أو على الأقل صداقة أمريكا وعدم استفزاز اسرائيل مهما فعلت في القدس والمسجد الأقصى وفلسطين وسوريا ولبنان.
عندما قامت ثورة 25 يناير2011 كان من المفترض أن تكون دليلاً على فشل مخططات كامب ديفيد (أي العلاقة الثلاثية المقدسة التي لا تمس- مصر – اسرائيل – أمريكا) ولكن كامب ديفيد أصبحت هي الدستور الحقيقي لمصر. ولو كانت علاقات مصر مع اسرائيل وأمريكا مفيدة (ولنتحدث بشكل عملي) لكانت 40 سنة كافية لتنهض مصر، ولكن 40 سنة كانت كافية ليكفرالشعب المصري بنظام مبارك والسادات . ولكن النخبة المعارضة اجتمعت كلها حول البرادعي كبديل لمبارك وهم يعلمون جميعا انه أمريكي الهوى، وتم جمع قرابة مليون توقيع مبايعة له، جمع الاخوان المسلمون معظمها وكنت ساعتها خلف الأسوار أصرخ ضد هذه المبايعة ، لم يسمعني سوى نفر قليل من النخبة.
وعندما فاجأ الشعب المصري الجميع بثورته في 25 يناير ظلت النخبة تتناحر فيما بينها على كل شيئ إلا مواجهة أمريكا واسرائيل. حتى أن أمريكا واسرائيل كانتا تحسنا الظن في مصر أكثر من المصريين أنفسهم، فسحبت الدولتان معظم دبلوماسييها من القاهرة، وظنت أن الثوار سيقتحمون السفارتين وهذا لم يحدث، بل كتبت الصحف الاسرائيلية تتوقع إلغاء مصر لكامب ديفيد أو المطالبة بتعديلها وهذا لم يحدث!
اختلفوا على كل شيئ: برلمانية أم رئاسية – انتخابات تشريعية أولا أم الدستور أولا.. اختلفوا حول العسكرية والمدنية، حول الاسلامية والعلمانية ولكنهم لم يختلفوا حول أي موقف من أمريكا واسرائيل بل كان هناك ما يشبه الاجماع أن أمريكا واسرائيل ليست المشكلة، بينما كان المتظاهرون اللا حزبيون يدركون حتى هتفوا مراراً (ارحل يعني امشي.. ياللي مبتفهمشي.. ياللي بتفهم عبري).
حدثت مرحلة تحالف الاخوان والمجلس العسكري – ثم تحالف المجلس العسكري مع التيار المدني، ثم انعزل الاخوان وسقطوا وكانوا يستحقون السقوط، ولكن كل هذه التصادمات وحتى 30 يونيو 2013 كانت الأطراف الثلاثة تلجأ إلى أمريكا كحكم بين الأطراف وبهدف استمالتها ولكني ألوم الاخوان أكثر من غيرهم وأول الجميع، فهم يَدعون رفع راية الاسلام، ولا أعلم أي نوع من الاسلام هذا تحت راية واشنطن مع الاعتراف باسرائيل. (سأقيم تجربة الاخوان في مكان آخر). ما يهمني الآن أنه رغم هذه الصدامات والتي تواصلت بعد 30 يونيو 2013 لفترة من الزمن كان جميع الأطراف يحيدون أمريكا، ولكن على صعيد الكلام كان الاعلام الرسمي بعد 30 يونيو ينتقد الأمريكان من زاوية علاقتهم بالاخوان فقط وكأن هذه هي خطيئة أمريكا الوحيدة. لا ألوم المؤسسة العسكرية لأنها لم تكذب ولم تدع أنها ترفع – دون غيرها – راية الاسلام بل سارت على درب العلاقات التاريخية المعلنة مع أمريكا منذ عام 1974. الدور والبقية على حملة رايات الاسلام واليسار الذين أصبحوا يتحدثون عن أهمية أمريكا التي لايمكن الاستغناء عن العلاقة بها.
ثم عادت النخبة تحاول أن تتحد من جديد ضد نظام السيسي على نفس قاعدة البرادعي أي على مسألة الحريات وأنا آخر من يقلل من شأن الحريات وأنا في السجن منذ 7 سنوات بدون أي جريمة ارتكبتها اللهم إلا الخلاف في الرأي. ولكن لا يمكن مناقشة الحريات بمعزل عن حرية الوطن من النفوذ الأمريكي . أصبحوا جميعا (ليبراليين)!
*****
بعد أكثر من ربع قرن أعلن اعتزالي الحياة السياسية والحزبية بمعنى اعتزال العمل السياسي المباشر: عضوية الأحزاب والمنظمات السياسية – الانتخابات – المجالس التشريعية والمحلية والانتخابات الرئاسية والصراع على السلطة والتعليق عليها أو حضور الندوات والمؤتمرات السياسية أو الحديث لوسائل الاعلام أو الكتابة في الصحافة الورقية والالكترونية عن الأحداث اليومية السياسية، ليس لأنني تعبت، من السجون وغير السجون، وليس لأنني بلغت السبعين أو أكاد، وليس لأني أعاني من أمراض مزمنة شتى وخطيرة مع الشيخوخة، ولكن أساساً كنوع من الصرخة والاحتجاج قبل الموت الوشيك فأنا لن أعيش أكثر مما عشت، وأيضا كنوع من اعلان الفشل في مهمتي العظمى (حشد الأمة لمواجهة طواغيت الأرض: أمريكا واسرائيل) ولأدعو الجيل الشاب الصاعد ليحمل بيديه راية النهضة ولينفض يده من جيل الهزيمة والنكوص، وليصنع بيده فجر يوم جديد. لقد فشل شباب ثورة 25 ينايرلأنهم عادوا الثقافة ولم يهتموا بقراءة الكتب وساروا على درب الجيل الفاشل الذي أصبحت ثقافته هي المحطات الفضائية ثم أضاف الشباب الانترنت والفيس بوك ولكن في المناطق السطحية لأن الانترنت مليئ بكنوز المعرفة، ولكن الشباب انشغل بالجدال والدردشة والطحن بلا طحين. أدعو من تبقى من هذا الشباب والجيل الذي الذي صعد بعد 10 سنوات من بداية الثورة أن يعلموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرأو لكبار مثقفي الأمة الذين يقتنعون بهم. وأن ينظروا للشرق (النهضة الآسيوية) لا إلى البيت الأبيض الذي زاره شباب الثورة فكان هذا انتحارهم.
كيف؟: ولكني لن أستقيل من الفكر والثقافة ولا من الانشغال بهموم الأمة، ولكنني سأنشغل في المجال الفكري، تركت السياسة لأن النخبة حكاماً ومحكومين، يساراً ويميناً – اسلاميين ومسيحيين وعلمانيين – عسكريين ومدنيين، ارتضوا جميعاً أن يسيروا مع أمريكا (وبالتالي اسرائيل)، ولقد بذلت قصارى جهدي في نصف قرن فلم أنجح في كسر هذا الاجماع وبالتالي فإن أفضل ما أفعله أن أترك لهم هذه السياسة وأواصل عملي الفكري لأنني لن أستقيل من الاسلام أو من العروبة أو من مصر. وأنا على يقين أن الأمة ستصل قريبا إلى أن العدو الرئيسي هو هذا التحالف الشرير الأمريكي – الاسرائيلي، هذا أفضل ما يمكن أن أفعله خلال ما تبقى من العمر وهنا يأتي عنصرا السن والصحة كعاملين ثانويين في قراري.
وصيتي الأخيرة:
أظن أن كل ما مضى هو وصيتي الأخيرة.. أننا أمام حملة صليبية معاصرة (أمريكية – اسرائيلية) (بروتستانتية – أمريكية – يهودية) وبالتالي نحن نحتاج في المقام الأول لأعمال عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي – وصلاح الدين الأيوبي، مع وضع ظروف العصر في الاعتبار وهو الاهتمام بالبناء الاقتصادي المستقل – الذي يعني إعطاء الأولوية للبحث العلمي – والصناعة – والاعتماد على الذات، وتوحيد الأمة العربية في هذا الاطار (السوق العربية المشتركة).. ولكن ما أريد أن أختم به: انني أدعو للمصالحة الوطنية العامة بمعنى انهاء الصراعات الداخلية ولا أقصد مسألة تسوية مسألة الاخوان المسجونين وغيرهم، فهذه قضية فرعية عن القضية الأم ، وهي ضرورة توحيد الأمة، بالاقتناع وليس بالقبضة الحديدية. لا أعول مطلقا على قيادات الاخوان وأدعو النخبة القيادية كلها أن تستقيل اختيارياً من مواقعها في الاخوان وغير الاخوان. ما يشغلني الآن في هذه الورقة الأخيرة أن أقول: ان النخبة التي تصارعت قبل وبعد ثورة 25 يناير تنقسم أساساً إلى: المؤسسة العسكرية – التيار الاسلامي – التيار المدني (العلماني ). أدعو هذه الأقسام الثلاثة الأساسية إلى فتح صفحة جديدة من الحوار وإعادة الائتلاف على برنامج مشترك بل مشروع قومي شامل للخلاص من النفوذ الأجنبي وأنا لا أبحث الآن من الذي يمثل هذه الأقسام، وان كان تمثيل المؤسسة العسكرية واضحاً في السلطة الحالية.
الهدف ليس الخلاص من النفوذ الأجنبي (الأمريكي خاصة) فحسب بل ربط ذلك بمشروع تنمية مستقلة وبناء اقتصادي قوي وعدالة اجتماعية، ومشاركة سياسية غير تصادمية. فمصر تحتاج لفترة من الاستشفاء من الصراعات ولعل الشعب يميل لذلك وهذا سبب هدوءه. وهناك عقبات واضحة لابد ألا تثنينا عن الهدف المقدس.. ما هي؟
يقول النظام انه قام بالفعل بمشروعات قومية كبرى وانه بدأ عملية البناء ويدعو الجميع للالتفاف حوله، ومن ناحية أخرى يشعر أن الأمر قد استتب له فلماذا يشرك الآخرين معه خاصة أنه قد نجح؟
كمتخصص في الاقتصاد لا أستطيع أن أقدم تقييماً موضوعياً دقيقاً للمشروعات القومية وأنا في السجن لا أقرأ سوى الصحف الرسمية ولا أسمع سوى للاذاعة المصرية ولكن يمكن القول أنه لا يمكن نكران فوائد هذه المشروعات في البنية التحتية وغيرها وحتى في حالة الخلاف مع بعضها فيمكن البناء على البعض الآخر أو البناء عليها جميعا نحو آفاق أرحب. المسألة لا يمكن أن تدور حول فائدة كوبري أو عدم فائدته ولكن التصور التنموي يضم العناصر المتعددة معا في منظومة واحدة برؤية معينة، حيث تظهر مسألة الأولويات في الانفاق، وفي هذا المجال يمكن أن تظهر الخلافات والخلافات هنا مفيدة للغاية وتفتح مجالات التطوير إذا كانت بعيدة عن السفسطة وتصيد الأخطاء ولذلك فإني أقترح مجلس قومي للتشاور يضم الخبراء في مختلف المجالات والتيارات الفكرية ، وأن يكون مجلس استشاري يتحدث أعضاءه بمنتهى الحرية والموضوعية في اجتماعات مغلقة ضمانا للبعد عن المزايدات أو محاولة تسجيل نقاط ضد البعض الآخر. وأرى أن المشكلة الجوهرية في أي مشروع قومي أن يستهدف الاستقلال الاقتصادي وهذا لا يتحقق بكثرة الاعتماد على القروض والمعونات، وعدم اعتبار البعد العربي والاسلامي والأفريقي والآسيوي الذي يساهم في تعزيز هذ الاستقلال.
أما الأمر الآخر فأرى ألا يستنيم النظام إلى الاستقرار الظاهري فطالما بقيت علامات عدم الرضى في السياسة والاقتصاد (الفقر) تعتمل تحت السطح فيمكن أن تنفجر في أقل من ثانية بصورة مفاجئة. وأنا لا أدعو لرؤية ليبرالية كاملة، ولكن أرى ضرورة السماح للناس بالتنفس حتى لا يصل الناس إلى حالة المواطن الأسود فلويد الذي صرخ (لا أستطيع أن أتنفس) فأدى الأمر إلى انتفاضة في أمريكا وفي عدد من الدول الأوروبية، كذلك لابد من السماح بقدر من المناقشة الموضوعية لأحوال البلد والوطن العربي .
أما في مسألة الاستقلال فلابد أن يراعي أهل الحكم هذا التراجع الأمريكي – الأوروبي البادي للعيان.. لماذا لا يشجعهم هذا على اتخاذ سياسات أكثر جرأة ولو بالتدريج. هل هو قدر من السماء أن نبقى أبد الدهر تحت السقف الأمريكي – الاسرائيلي؟!
أما بالنسبة للتيار الاسلامى
فأعني به التيار المتدين والذي ارتبط بالاسلام السياسي عاطفيا، ولا أقصد قيادات الاخوان المسلمين فهؤلاء يعيشون من أجل أنفسهم ولا يمكن تغييرهم. المهم أن يمثل هذا التيار في مجلس الحوار المقترح. وهذا المجلس لا يستهدف المناكفة أو المشاركة أو المزاحمة في السلطة. فليحكم الرئيس السيسي ولكن ليستمع للناس وليستجيب لبعض ما يسمع إذا كان فى مصلحة البلاد، فليس دور المجلس أن يكون من أجل الفضفضة وتفريغ الأبخرة، أو اشعار الأعضاء في المجلس أنهم مهمون.
ألفت الانتباه إلى أن الحديث عن محو ظاهرة الاسلام السياسي من الوجود في مصر أو غيرها من بلاد العرب والمسلمين، نوع من الوهم الخطر، فالاسلام مكون أساسي من مكونات فكر وثقافة الأمة ولا يمكن محوه أو ازالته من الحياة العامة. وهناك إمكانية لظهور فكر اسلامي مستنير يجب إتاحة الفرصة له للقيام بدور جوهري مع مؤسسة الأزهر.
التيار المدني: وهو يشمل الليبرليين والشيوعيين والناصريين والقوميين عموماً والمسيحيون يضعون أنفسهم في هذا التيار وكل هذه المكونات عملت معاً في 30 يونيو فى جبهة الانقاذ. ولكنها عادت واختلفت مع المؤسسة العسكرية في أغلبها، وأرى أن تشارك كل هذه التيارات في مجلس الحوار.
إذا لم يكن الاستقلال الوطني (السياسي والاقتصادي) متفقا عليه كهدف مشترك فلا فائدة من الحوار، لأنه سيعود أدراجه الأولى إلى خلافات ثورة 25 يناير العبثية. سيقول البعض وهل يوجد خلاف؟ كلنا مع الاستقلال. وسيقول آخرون: وهل مصر ليست مستقلة؟! هذا هو أسلوب الهروب من جوهر القضية.
إذا لم تعترف هذه الأطراف الثلاثة بحقيقة أن مصر خاضعة للهيمنة الأمريكية فلن يحدث أي تقدم. ولن يكون الحل سوى الانتظار لفترة طويلة أخرى حتى يحدث انفجار جديد.
يطيب لي أن أستعير من جميل مطر هذه الكلمات (لن يسمح لمصر بالتحرر إلا بالثورة والتخطيط لبناء ذاتي يكون الهدف الأساسي منه التحرر السياسي والاقتصادي من كل المعوقات التي تعيق حرية الشعب المصري. ان مصر كانت مقيدة لأربعين عاماً في علاقة شاذة مع دولة كبرى عليها أن تتحرر من القيود، وإلا ستكون النتيجة أربعين عاما أخرى غير مختلفة عما سبقها، أم تقرر فك القيود وتحرير الارادة وهذا بند أساسي من بنود بناء هذا المستقبل).
لا أدعو إلى أي ثورة جديدة في الوضع الراهن بل أدعو إلى بذل جهود مضنية لتطوير أحوال البلاد بالتراضي والتقارب عبر هذا الحوار الصبور. أدعو إلى الاقرار بالسلطة الحالية بدون أي منازعات لا خوفاً منها أو خضوعاً بل لأن البلد يحتاج إلى التعافي من الصراعات ليلتفت إلى المخاطر الخارجية، وأساساً لأننا لا نملك مشروعاً قوميا واحداً متفق عليه (المشروع القومي ليس مشروعات اقتصادية كما يصور الاعلام ولكن المشروع القومي هو تصور نظري لأهداف الأمة في مرحلة محددة).
لقد تصارعنا قبل وأثناء وبعد ثورة 25 يناير على كراسي الحكم أو النفوذ السياسي وكنا جميعا تحت مظلة مشروع “قومي” واحد هو التبعية للولايات المتحدة الأمريكية!
إن أخطر كلمة قالها مصطفى الفقي يوما في اواخرعهد مبارك (أن الرئيس القادم لمصر لن يكون إلا بموافقة أمريكية وعدم ممانعة اسرائيل)، وهذا الكلام الدقيق انطبق على الرئيس مرسي ولكن الطرفان غيرا مواقفهما بسبب فشله في إدارة البلاد. أمريكا رأت عجزه عن احتواء التيارات السياسية حتى أفلتت الأمور من يده. واسرائيل غيرت موقفها لأن مرسي مارس التطبيع على استحياء أي بدون مقابلات رسمية مع اسرائيليين، بالاضافة لعلاقة الاخوان مع حماس. وكانت اسرائيل ترى أنه لا معنى لاعتراف الاخوان بكامب ديفيد واستمرار السفارة والتطبيع، دون مقابلات رسمية علنية فرأت في هذا خطوة للوراء عن عهد مبارك.
المسألة الجوهرية الأخيرة أنني أرى أن هناك أساساً موضوعياً لالتقاء هذه التيارات فالمبالغة في الخلافات بينها مصطنعة. فإذا استبعدنا العناصر الشاذة، فالعناصر السوية فيها لا تختلف على الاستقلال – الوحدة العربية – دعم القضية الفلسطينية – العداء لاسرائيل وأمريكا – تقدم مصر ونهضتها على كل الأصعدة – الاهتمام بالبعد الأفريقي – الآسيوي – الاسلام دين الدولة هذا نص دستوري حاليا.
بالنسبة للتيار الاسلامي أقول للشباب ولقواعد هذا التيار.. ان الاسلام ليس ضد الحريات (هذه نقطة التقاطع مع الليبراليين) الاسلام مع العدالة الاجتماعية (وهذه نقطة التقاء مع الاشتراكيين) الاسلام مع الوحدة العربية كمرحلة إجبارية وضرورية للوصول إلى نوع من الكومنولث الاسلامي إذا استخدمت تعبير جمال حمدان وهذه نقطة التقاء مع الناصريين، وإذا وضعنا في الاعتبار أن المؤسسة العسكرية في جوهرها تعتبر مكوناً أصيلاً في التيار القومي والناصري، سنجد أن الخطوط متداخلة مع بعضها البعض. وفي دراساتي شرح واف لكل هذه الأمور.
*******
وداعاً: . أقول وداعاً لأنني ربما سأموت ، وإذا لم أمت هل سأخرج من السجن لأراكم؟ وإذا خرجت أيضاً أقول وداعاً لأنني سأمكث في بيتي أكتب وأؤلف الكتب ولن تجدوني بينكم كما تعودتم في مظاهرة أو ندوة أو مؤتمر. أودعكم في النضال السياسي اليومي ولكن أتعهد أمام الله انني لا أنسحب من هموم الأمة العربية والاسلامية، وإذا وجدت جيشنا العظيم يزحف يوماً لمواجهة اسرائيل فسأخرج معه كما خرج بن أم مكتوم مع جيش المسلمين وهو ضرير يحمل الراية. إذا كنت حياً سأخرج لأحمل الراية وإن كنت لا أزال حتى اللحظة يمتعني الله بنعمة الابصار رغم هجمات الالتهاب القزحي التي لا تنقطع، سأخرج لأقوم بدور التوجيه المعنوي وشد أذر الجنود. وستكون لدي القوة إن شاء الله لأصوب بندقيتي الكلاشينكوف إلى جنود اسرائيل . بندقيتي التي كانت معي في حرب اكتوبر في الفرقة الثالثة مشاه ميكانيكي.
والحمد لله رب العالمين.. وسلاما على المرسلين.. لا إله إلا الله محمد رسول الله