حد الردة غير وارد لا بالقرآن ولا بالسيرة النبوية

دراسة فقهية الحلقة 71 من دراسة المستطيل القرآنى

رسول الله كحاكم لمدة 10 سنوات لم يعدم مرتدا واحدا

فى هذه النقطة نصل إلى منعطف مهم فى الدراسة ( المستطيل القرآنى ) حيث ستتحول إلى نوع من الموسوعة الاسلامية أى تتضمن دراسات فقهية فى موضوعات نراها محورية لإجلاء طابع وروح الاسلام الحقيقية ، أى لن نكتفى بالبعد الاستراتيجى لأهمية موقع الشرق الأوسط الوارد فى الخريطة القرآنية قبل ظهور هذا المصطلح ، وهذا طبيعى لأن الاستراتيجية بدون مضمون صحيح ستعنى مجرد ألعاب نارية وعسكرية وتنتهى بالفشل كما حدث لتجربة النازية والشيوعية ، إن استنهاض منطقة المستطيل القرآنى لايكون بمجرد الحسابات الاستراتيجية العسكرية والسياسية بل ببناء دولة اسلامية على أسس صحيحة. وهنا نقف عند موضوع الردة وحد الردة بمناسبة تناولنا لمعارك التصدى للردة فى عهد أبى بكر الصديق . ولنبدأ.

حد الردة مثل أهمية كبيرة فى الفترة الماضية مع الصحوة الاسلامية التى تصاعدت منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضى وحتى انكسارها فيما يسمى الثورات العربية ، وبما يجعلنا فى أمس الاحتياج لصحوة جديدة ، على أسس جديدة .كان ” حد الردة ” من الموضوعات التى أسهمت اسهاما كبيرا فى تعميق الخلافات مع مختلف تيارات الأمة ، وسوء عرض القضية أساء للاسلام وصورته أيما إساءة من وجهة نظرى .

ولنبدأ من البداية ! هل يوجد حد للردة أصلا فى الاسلام كعقوبة فردية وليس فى إطار انقلاب عام على الدولة الاسلامية كما حدث فى عهد سيدنا أبى بكر الصديق ؟!والحدود فى المجال الجنائى هى التى حددها القرآن الكريم ثم السنة النبوية الشريفة وفيما عدا ذلك فتسمى عقوبات تعزيرية ( تقديرية ) فى يد الحاكم أو القاضى أو هى المخالفات والجرائم التى قد يصدر بشأنها قانون وضعى لايتعارض مع الشريعة الاسلامية .

الحدود التى وردت فى القرآن الكريم مثل القتل والزنا والقذف والحرابة والسرقة والحدود التى وردت فى السنة : شرب الخمر – رجم المحصنين فى الزنا – على سبيل المثال . ولايوجد فى القرآن الكريم أو السيرة النبوية أى ذكر أو ممارسة لمايسمى حد الردة. وإن كان مفهوم الردة للأحداث التى وقعت فى أول عهد أبى بكر الصديق يوجد إجماع أو شبه إجماع عليها . ولكن المشكلة تدور حول ( حد الردة ) كجريمة فردية وكعقوبة فردية لهذا الشخص أو ذاك وهى فى هذه الرؤية عقوبتها الاعدام بعد فترة استتابة يرى كثيرون أنها لاتزيدعن 3 أيام ، ويرى البعض ان الاستتابة غير مهمة !

لنبدأ أولا بالقرآن الكريم :

وسنتحدث عن الآيات التى أوردت لفظ الردة وعلى أساس حصر كامل لهذه الآيات وهى بالمناسبة قليلة

  • –      ( قل أندعو من دون الله ما لاينفعنا ولايضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) الأنعام 71

وهى آية عامة تدعو سيدنا محمد أن يرد على الكفار ويوبخهم حين يدعون المؤمنين إلى طريق الشرك والضلال ويقول لهم لن نرتد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله . ونحن هنا أمام استخدام أدبى للردة ( نرد على أعقابنا ) بمعنى الانحراف إلى طريق الضلال ولايجرى الحديث عن ( حد الردة )، ولكن الآية ككل الآيات الأخرى تصور الارتداد عن الايمان إلى طريق الشيطان ككارثة كبرى ما بعدها كارثة للمؤمن . راجع سياق آيات الأنعام قبل وبعد الآية 71 فلم أرد الاستفاضة فيها لأنها خارج موضوعنا .

( إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ) محمد 25

وهنا نجد الكلام عن الردة دون عقوبة دنيوية ( أى فى الدنيا ) وتشير هذه الآية وفقا لسياق الآيات السابقة والتالية إلى المنافقين ، فهم أكثر الناس استعدادا للردة لأن الايمان لم يكتمل فى قلوبهم.

 ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) المائدة 21 وهذا الحديث موجه لليهود الذين رفضوا دخول الأرض المقدسة خوفا من أهلها الجبارين ، والارتداد هنا عمل آثم له آثاره الوخيمة فى الدنيا والآخرة وليس فى هذا أى حديث عن ( حد الردة ).

( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ) المائدة 54 نحن هنا أمام حديث إلى المؤمنين ( الذين آمنوا ) ثم ارتدوا عن دينهم ، نحن أمام حالة ردة واضحة عن الايمان إلى الكفر ، والله سبحانه وتعالى يقول إنه فى غنى عن القوم الذين يفعلون ذلك ، وإنه سيستبدل قوما غيرهم ثم لايكونوا أمثالهم . وهنا نجد ملاحظتين واضحتين :

1 ان الحديث موجه إلى جماعة أو قوم ، فالحالة الجماعية هى المؤثرة على المجتمع وليس الحالات الفردية المعزولة .

2 من الواضح انه لاتوجد عقوبة فى الدنيا فنحن أمام كارثة لاتصلح معها أى عقوبة ، بل لاتستحق إلا نار جهنم المستعرة فى الآخرة . بالضبط كما تسأل : ماهى عقوبة الكفر ؟ لا رد سوى ( النار ) ! وأنا لا أقول رأيا خاصا بى بل الآية الكريمة هى التى لم تشر إلى أى عقوبة . وهى غير واردة أيضا لأن المجتمع كله انقلب حاله ولم يعد يصلح للتقويم . العقوبة الجماعية التى حدثت فى التاريخ هى تدمير القرى وإهلاك أهلها الظالمين كعقوبة من الله وتخويفا للقوم الآخرين والقادمين . ولكن الآية  لم تشر صراحة لذلك وأشارت إلى قانون الهى آخر هو قانون الاستبدال .

( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة 217 هذه الآية أقرب ما تكون للحالة الفردية للردة لأنه يسبقها مباشرة فى نفس الآية ( ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم فى الدنيا والآخرة أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون), الآية الكريمة تتحدث عن جهد الكفار لإخراج المؤمنين من دينهم من خلال القتال بوضعهم دائما فى حالة الخطر والتهديد، واحتمالات الموت أو الاصابة وفى ظل هذه الضغوط قد يضعف شخص مؤمن هنا أو هناك فيرتد ، لذلك فالآية تتحدث عن احتمالات فردية لأن المؤمنين عموما لا يضعفون بسبب حدة المعارك والقتال .، بل يزدادوا إيمانا .ولم يحدث أبدا أن أرتد فريق  مؤمن مقاتل أو جيش مسلم أثناء القتال أو بسببه . نحن هنا أمام الردة الفردية عن الدين فالخطاب موجه لشخص واحد ( من يرتدد منكم ) أو مجموعة من الأشخاص ، ومع ذلك فإن الآية  لم تحدد عقوبة فى الدنيا ، ونحن أمام أمر جلل وأهم من باقى الجرائم التى شرعت لها الحدود. ولكن يبدو والله أعلم أن الموضوع أكبر من العقوبة وأشد خطرا لذلك فإنه لايدانيه الا عقوبة الآخرة ،الخلود فى النار . ولأننا نتحدث عن القتال فقد يقول قائل وماذا عمن ارتكب عملا خيانيا أثناء القتال فأفشى سرا ، أو كشف ثغرة للمؤمنين .. الخ بطبيعة الحال فإن المؤمنين اذا اكتشفوا ذلك فلابد أن يقتلوه فهو قد تحول إلى جيش الأعداء المستهدف بالقتل ! ولايحتاج إلى حد خاص اسمه حد الردة ، فهو يقتل فورا فى الميدان واذا تمكن من الهروب مع جيش العدو فقد أصبح فردا فيه وسينطبق عليه كل ما ينطبق على أقرانه، وقد يوضع فى قائمة خاصة للتصفية ولكن يأتى هذا فى سياق الحرب ضد الأعداء وليس فى إطار عقوبات داخل المجتمع المسلم .

السنة النبوية الشريفة

حكم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كرئيس للدولة الاسلامية عشرة سنوات ولم يعدم مرتدا واحدا ، وقد حدث وكان هناك مرتدون ، ولايجوز الاكتفاء بحديث على أساس أن السنة قد تكون قولية أو تقريرية أو عملية ، فليس فى هذا الموطن . لقد كانت هناك ممارسة ( سنة عملية ) رفضت تطبيق ما يسمى حد الردة . فهذا المصطلح غير موجود لا فى القرآن ولا فى السنة . وسنصل لهذا الحديث الذى لم يقترن بأى تطبيق عملى رغم توفر الأمثلة والأدلة . ولكن دعونا نسرد الوقائع أولا . ولكن قبل ذلك لابد أن نلاحظ ملاحظة مهمة وأساسية فى هذا الموضوع ، فمعظم الآيات التى تحدثت عن الردة والوقائع التى حدثت فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تربط بين موقفين : النفاق والردة . فأغلب حالات الردة الصريحة تأتى من المنافقين .وكأننا أمام ظاهرة متصلة .فالمنافق هو أكثر الناس استعدادا للردة لأنه لا يؤمن ايمانا حقيقيا أو كاملا وبالتالى فالطريق مفتوح فى عقله ووجدانه إلى الردة الصريحة . ومع ذلك فإن هذا لايعنى عدم تعرض المؤمن لخطر الردة بسبب الضغوط الحربية المتواصلة مثلا كما ورد فى الآية 217 بسورة البقرة ، أما باقى الآيات فقد كان السياق قبلها وبعدها عن المنافقين .

أيضا فى الوقائع التى حدثت فى السيرة النبوية الشريفة نجدها جميعا تتعلق بمنافق كشف أو انكشف وتحول إلى مرتد صريح وإن كانت لغة المحدثين وحتى الصحابة لا تتحدث الا عن المنافق ولاتستخدم تعبير المرتد على اعتبار أنهم يعلمون من القرآن الكريم ومن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المنافق ماهو إلا كافر يبطن الكفر ويظهر الايمان .

واقعة بنى المصطلق

عبد الله بن أبى بن سلول هو المنافق الأكبر وله مواقف متعددة  ومنها قيامه خلال غزوة بنى المصطلق بمحاولة إثارة الفتنة بين المهاجرين حيث نفخ كعادته فى خلافات ما فى أحاديث الناس وقال قولته الشهيرة ( لاتنفقوا على من عند محمد حتى ينفضوا من حوله ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منهاالأذل ). هنا المنافق تحول إلى مرتد صريح يدعو لطرد المهاجرين من المدينة . ورغم سخافة وعدم واقعية هذه الدعوة إلا أنها كشفت خبيئة قلبه ، ولكن لا القرآن الكريم ولا روايات السيرة استخدمت مصطلح مرتد وإنما واصلت استخدام مصطلح ” منافق ” رغم أن مواصفات المرتد تنطبق عليه تماما . وفى هذا حكمة ربانية ربما تشير إلى أهمية تطويق المشكلة بدلا من تصعيدها .فقال عمر بن الخطاب :بعد أن بلغهم هذا القول قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يارسول الله دعنى أضرب عنق هذا المنافق ). فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا العمل غير شرعى ولكن قال : ( دعه .. لايتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ). وعلم عبد الله ابن عبد الله  بن أبى بن سلول بكل هذه التطورات وكان شابا شديد الايمان فذهب إلى رسول الله وعرض عليه أن يقوم هو بقتله حتى يكون الابن هو الذى قتل فلا تكون فتنة . ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم رفض أيضا وقال بل نحسن صحبته مابقى معنا . وعندما وصل الركب إلى حدود المدينة تصدى عبد الله الابن لأبيه ابن سلول وقال له بحدة لن تدخل المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تعرف من هو العزيز . وأطاحت الصدمة برشد ابن سلول فتراجع تماما عن خطته . وهنا يمكن أن يشار إلى أن مكانة ابن سلول بين الخزرج وعزوته وأنه كان على وشك أن يصبح ملكا للمدينة قبل وصول رسول الله إليها ، هذه المكانة كان لابد أن تؤخذ فى الحسبان حتى لاتحدث فتنة بدون ضرورة وحيث يمكن تطويق الحدث بهدوء .ولكننا لسنا أمام مجرد ملاءمات سياسية وإن كان تعلمها من السيرة ضرورة ، ولكن لابد أن نرى أننا أمام تشريع ( سنة عملية ) لاتضع عقوبة للمرتد ( الإعدام ) ولكن تفتح الطريق لمعالجة الأمور بحيث يعود المرتد إلى صفوف الوفاق من جديد! أى إظهار الاسلام وإبطان الكفر والكف عن الأعمال العدائية ضد الاسلام والمسلمين . ولامانع بطبيعة الحال أن يعود إلى الاسلام الحق وهذا هو الهدف الأسمى ، ولكن ماذا لو نجح ابن سلول فى خطته ونظم تمردا ناجحا ( وهذا مجرد افتراض نظرى لمعرفة حكم الاسلام ) وتمكن من حشد الأنصار أو مجموعة مقدرة منهم لطرد المهاجرين من المدينة ووقف التكافل والتآخى معهم ؟ ستجد الحكم فى القرآن الكريم بصورة فريدة وفى آيات ولا أروع منها فى الجرس والموسيقى والرهبة والحسم ، وهى آيات طالما تأثرت بهاشخصيا كلما قرأتها رغم معرفتى بأن ما بها من حكم لم ينفذ أبدا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه بفضل الله وحسن تدبير رسول الله لم تنجح أى مخططات لإحداث فتنة فى التحول إلى مرحلة التنفيذ العملى بصورة تهدد الدولة الاسلامية ، ولكنها توضح الحكم فى هذه الحالة ، وهذا مالم يلتفت إليه كثيرون من المتحمسين لحد الردة !

تقول الآية الكريمة ( لئن لن ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض والمرجفون فى المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا ‘ سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ) الأحزاب 60 – 62

هذا تهديد صريح بالقتل إذا تحولت الفتنة إلى ردة جماعية تهدد أمن وسلم المجتمع المسلم و الدولة الاسلامية .نجد هذا التركيز على التهديد الجماعى وليس على ارتداد شخص منعزل هنا أو هناك . وهذا ما حدث فى عهد أبى بكر .

الواقعة الثانية

نحن نتحدث عن أبرز وقائع النفاق التى أخذت صورة الردة الصريحة كما وردت فى كتب السيرة ، وهذه الواقعة خلال غزوة تبوك وأيضا مسجلة فى القرآن الكريم .

وهذه الواقعة مهمة لأنها أخطر ولأنها لاتمس ابن سلول حتى لايقال إن الموقف كله من مسألة النفاق كان قائما على الوزن الاجتماعى والسياسى لهذا الشخص .هناك عدة وقائع وقعت خلال غزوة تبوك أهمها أنه كانت هناك محاولة لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام باتفاق وتآمر بين بضع عشر رجلا وذلك خلال مسيرة ليلية . وقد هموا بالفعل بالفتك برسول الله أثناء السير ولكن الله حفظه . لم تحدد روايات السيرة كيف فشلت هذه المحاولات ، وأيضا لم يحدد القرآن الكريم . ولكننا نعلم أن الله سبحانه وتعالى يحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعده فى القرآن أنه يعصمه من الناس ( والله يعصمك من الناس ) المائدة 67  حتى أن رسول الله ليقينه الذى لايتزعزع أمر الحراسة حول بيته بالانصراف . ولكن روايات السيرة تقول أن محمدا صلى الله عليه وسلم علم بأسماء هؤلاء ولكنه لم يقتلهم ولم يتخذ إجراء ضدهم ولم يعلن عن الموضوع أصلا حتى يموت كعمل محبط وفاشل . ولكن لا شك أن العيون كانت عليهم عندما وصل الركب إلى المدينة ، لأن هذه عناصر خطرة يمكن أن تضر فى أى اتجاه . وقد أشار القرآن إلى هذه الواقعة دون تفصيل لخطورتها وهى فى الآية الكريمة ( يحلفون بالله ماقالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالواومانقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وأن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والآخرة ومالهم فى الأرض من ولى ولا نصير ) التوبة 74

فى هذه الآية نجد أكثر من مسألة حاسمة : أولا  الآية قاطعة فى أن هؤلاء المنافقين انتقلوا صراحة إلى الكفر بعد إسلامهم أى أننا أمام ردة صريحة ، دون أن يقترن ذلك بعقوبة ما يسمى حد الردة ولكن الحديث عام عن عذاب الدنيا أما العذاب فى الآخرة فالأمر طبيعى. ثانيا : ( وهموا بما لم ينالوا ) هى إشارة إلى تلك المحاولة الخسيسة للاعتداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال السير فى غزوة تبوك ليلا . وجاء فى تفسير الشيخ متولى الشعراوى ( ان المنافقين كانوا قد تآمروا على حياة النبى صلى الله عليه وسلم ليدفعوه من أعلى الصخور ولكن حذيفة بن اليمان تنبه للمؤامرة ، وهكذا لم ينالوا مايريدون ).

الحقيقة نحن أمام درس رفيع فى الفهم الاستراتيجى فى التعامل مع مثل هذه الأمور الدقيقة ، ذلك أن كشف مثل هذه المؤامرة وخلال الحرب حتى وإن كان فى طريق العودة ، فى أى بلد لابد أن يؤدى إلى عمليات تصفية وإعدام بصورة فورية وفى الميدان . ولكن تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بحكمة غير عادية وأدى إلى قتل المؤامرة فى المهد. فالمؤامرة لقتل رئيس الدولة والجيش ( دعك من النبوة التى لايؤمنون بها )فمدام الله يعصم الرسول من الناس ‘ فإن الاعلان والكشف عن المؤامرة لن يؤدى إلا لإثارة دوى مخيف فى المجتمع وفتن قد تخرج عن حدود السيطرة من الجانبين . وهو درس حتى فى حالة قائد غير رسول الله ‘ فإن كتم الأمر والسيطرة على الموقف هو التصرف الأسلم . الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه يضع اللمسات النهائية للدولة الاسلامية الكاملة والموحدة . فقد انتهت الغزوات تقريبا وبغزوة تبوك تم تأمين الحدود الشمالية مع الامبراطورية الرومانية لفترة معقولة من الزمن . لم يبق سوى حجة الوداع وتعليم الناس مناسك الحج وأن يخطب رسول الله خطابا تاريخيا أرجو أن يدرسه المؤمنون بدقة فقد كان فيه النصائح النهائية والتقديرات المهمة لأهم القضايا التى لاتزال تشغل العالم حتى الآن فى القرن ال21 : قضية المساواة بين البشر ، الاهتمام بالمرأة ومكانتها ، الربا . لاحظ كيف كانت آخر كوارث الربا فى أزمة 2008 فى ظاهرة انهيار سوق العقارات فى أمريكا وكيف امتدت لمعظم دول العالم الغربى وهى أزمة مستمرة ولم تنته كما يزعمون ، فهى أزمة النظام الربوى المتجددة .. فى خطبة الوداع كان لدى رسولنا إلهام بإقتراب النهاية ولكنه لم يصرح بذلك ولم يكن على يقين لعدم معرفته بالغيب ، ولكن بعض الصحابة بكوا وشعروا بالنهاية فى سورة النصر.( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ). بكى عمر بن الخطاب وقال : وكأن الرسول ينعى نفسه من خلال هذه الآيات . وقد كانت الوفاة بعد عدة شهور . نقصد بذلك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يرى معظم هذه النهايات ، كان يرى المشهد يتصاعد إلى ذروته . فما كان معنى تفجير وإثارة مسألة الفتنة ومحاولة الاغتيال لتعكير صفو ذروة المشهد . ولكن لاشك أن الأمور الأمنية كانت تحت السيطرة كما ذكرنا ، وكانت العيون على هؤلاء المتآمرين ولكنهم وسائر المنافقين كانوا قد انكسروا ، وقد كشفتهم بالتفصيل صورة التوبة التى نزلت بمناسبة أحداث غزوة تبوك .

ماذا بقى اذن من حد الردة ؟!

يقول الرأى التقليدى

:إن لدينا حديثا صريحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل من يغير دينه .

الأول : ( من بدل دينه فاقتلوه ) صحيح البخارى والترمزى والنسائى وأبو داود وابن ماجة ولكن هناك حديث مثله أكثر اتساعا وشرحا للموضوع وهو فى صحيح البخارى أيضا .

الثانى : حديث ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ( لايحل دم امرء مسلم يشهد أن لا اله الا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزانى ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ).

فى الحديث الأول نرى تحديا للمرتد ( من بدل دينه ) وتبديل الدين يعنى الاعلان الصريح وكأن المرتد يأتى فى ميدان عام أو يعلن فى صحيفة أو يذهب إلى معبد ليعلم الجميع أنه ترك الاسلام . انتشار مثل هذه الظواهر يفت فى عضد المجتمع وينشر فكرة التحدى لدين الاسلام . وهذا أوضح فى الحديث الثانى ( التارك لدينه المفارق للجماعة ) وهو يعنى أنه يعلن مفارقته لجماعة المسلمين والعمل مع جماعة دينية أخرى بصورة توحى بالعداوة والتحدى . أما اذا غير انسان معزول دينه فى صمت مع افتراض أن قناعاته قد تغيرت ، فلن يشعر به أحد ولن يلتفت المجتمع لهذه الظاهرة اذا عرف بها أحد . فكم من الناس توقفوا عن أداء صلاة الجمعة ولكن أحدا لايفتش حول عقيدتهم وهل فى هذا إهمال ومعصية أو جحود وارتداد .

المقصود هو العداوة واعلان الحرب على الاسلام ( المفارق للجماعة ) فأنتم تعلمون أن المواطنين من أهل الكتاب يعيشون فى المجتمع المسلم كمواطنين وكأفراد ويشاركون ويعملون فى كل شىء عدا الأمور المتعلقة بالعقيدة الاسلامية ولهم أحوالهم الشخصية وقوانينهم الخاصة وأداء الشعائر الدينية وأى أمور أخرى متصلة بالعقيدة ، وهم لايوصفون بأنهم مفارقون للجماعة ، الا اذا غير أحدهم ولاءه وأصبح مواليا لدولة أجنبية أو منظمة أجنبية تضر ببلاد المسلمين ، وحتى هذا ينطبق على المسلم .

نرى أن هذين الحديثين يدخلان فى السياق العام لمفهوم الردة الذى تحدثنا عنه فى البداية وهى الردة الجماعية  ( أو فرد ينضم لجماعة خارجية معادية ) أو التى تأخذ شكل جماعات وتحارب المسلمين والنظام الاسلامى صراحة ، فهؤلاء لا مناص من قتالهم كما قاتلهم أبو بكر الصديق وصحبه . والا فإن أى مجموعة انقلابية يمكن أن تتحرك وتسقط النظام الاسلامى بسهولة اذا اكتفى النظام الاسلامى بالحوار معهم ، فأمثال هؤلاء ليسوا أصحاب حوار وقد حسموا أمرهم ضد الاسلام لسبب أو لآخر . ولكن كان أبو بكر الصديق يوصى بإجراء مواجهة حوارية أخيرة قبل القتال مع أى قوم متمردين ورافضين لدفع الزكاة أو مرتدين صراحة عن الاسلام ، لأن هؤلاء كانوا مسلمين أصلا ، فلن تعرض عليهم الجزية مثلا ! فاذا لم يستجيبوا حوربوا . كذلك كان يوصى أبو بكر بعدم مواجهة مسلحة مع أى قرية ترفع آذان الصلاة .

هل نكتفى بهذا القدر حول حد الردة ؟ أم نزيد الأمر إيضاحا ؟! ( يتبع )

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading