الجزءالثانى والأخير من رسالتى للنخبة السياسية والمثقفة :معضلة الالتقاء الفكرى بين الاسلامى والقومى والليبرالى والاشتراكى

-الصورة للشيخ محمد الغزالى-

معضلة الالتقاء الفكرى بين الاسلامى والقومى والليبرالى والاشتراكى

فى تقديرى ان السبب الجوهرى للفشل الذى أصاب ثورة 25 يناير بل الفشل الذى يعتور الحياة السياسية المصرية منذ عشرات السنين ويعرقل اطلاق نهضة وطنية راسخة الأركان هو حالة التمزق الفكرى والسياسى بين المكونات الأربعة للحياة السياسية والفكرية : الاسلامية والقومية  والليرالية والاشتراكية . فلايمكن إقامة جبهة وطنية متحدة فى ظل هذا التمزق ، وقد تقوم جبهات على أسس تكتيكية واهية فسرعان ما ينفرط عقدها . وهناك معضلة لا أحاول التهرب منها ، وهى الخلافات الفكرية الايديولوجية الحقيقية بين الفرقاء . وهذا هو موضوع هذه الورقة وهو موضوع فريد من نوعه ، أشبه بالمغامرة ولكنها إن شاء الله مغامرة مبدئية فلن أبيع آخرتى بدنياى ، ولن أقبل التلاعب بالدين لتحقيق مصلحة دنيوية ولا توجد مصلحة دنيوية أصلا لدى عبر الزمان الماضى ولا أتصور أن تظهر وأنا أودع الحياة واستعد جديا لملاقاة ربى ، وقد تركت صراعات السياسة للآسباب الواردة فى رسالتى للشعب المصرى . والفيصل فى الحكم على ما أقول من آراء هو التحاكم للعقل والمنطق والأدلة الشرعية القاطعة المجمع عليها .

مقدمة الموضوع

أولا :هذا البحث مكتوب وكـأنه للاسلاميين وهذا طبيعى فأنا لا أخلع عن نفسى شرف الانتماء  للاسلام ومنهجه ولكن كما تعلمون فهناك آراء واجتهادات شتى فى كل مجال تحت مظلة الاسلام ( رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب ) ولكننى أخاطب الجميع ومع ذلك فأنا لست فوق الجميع ولا فوق التيارات وسأظل اعتبر نفسى اسلاميا وأخاطب الجميع من هذا المنظور ولكن بالرؤية التى أراها صحيحة وأكثر تعبيرا عن الاسلام .

ثانيا : الأفكار الواردة هنا هى وليدة معاناة فكرية وثمرة تأمل طويل أبعد من سنوات السجن السبع الأخيرة وإن ساهم الحبس الانفرادى فى المزيد من صفاء الروح والذهن . ولست مدفوعا فيها لمحاولة حل مشكلات عملية وإلا لتحول الموضوع إلى براجماتية فاشلة والسوق عامر بالبراجماتية مع الأسف ولا يتطلب المزيد . مجال الفكر له استقلال نسبى عن مشكلات الواقع اليومية ،ولاشك أن الفكر الصحيح ليس معزولا عن الواقع ولكن العلاقة بينهما ليست ميكانيكية آلية بل علاقة مركبة ومعقدة وهذا ما أعنيه بالاستقلال النسبى للفكر عن الوقائع اليومية . فأنا لا أحاول أن أحل ببساطة المشكلات التى حدثت فى ميدان التحرير أو فى لقاء فيرمونت بإيجاد حلول فكرية فهذا يعتبر نوعا من التلفيق غير المقبول . ولكن فقد قمت بعملية مراجعة فكرية لممارسة عشرات السنين فى مصر ، ودراسة التطورات الفكرية والايديولوجية فى العالم بأسره . وهى ليست آراء جديدة تماما بالنسبة لى ولكنها لا شك أكثر تبلورا ووضوحا .

ثالثا : لقد جرت مياه كثيرة فى أنهار العالم وهذا يسهل هذا النوع من الحوارات . أنا لم انطلق من هذه النقطة ولكن لاحظت أخيرا أنها تساعد فى ترويج أطروحتى باعتبارها لن تكون خيالية تماما !! أقصد أن الماركسية لم تعد هى الماركسية كما “أنزلت” على ماركس وانجلز والاشتراكية عموما لم تعد هى الاشتراكية بالمعنى الواسع للاشتراكية ومدارسها المتعددة ، والليبرالية لم تعد هى الليبرالية بل الظاهر على السطح فى الغرب الآن مناقشة أزمة الديموقراطية ومحاولة التفرقة بين الديموقراطية والليبرالية ( فريد زكريا الأمريكى ) وتصاعدت هذه الحوارات مع صعود ترامب وهى ظاهرة وليست مسألة شخص . ستقولون : ستقول أما الاسلام فلم يتغير !! لا لن أقول ذلك فاجتهادات البشر تتغير وماورد فى كتب الفقه والتفسير ليس مقدسا ، وقد حدثت تغييرات عدة عبر العصور فى أفكار واجتهادات المسلمين ، ولكن لاشك أن القرآن والسنة ثابتان لايتغيران ، ولكنهما بالأساس ينظمان فى المجال السياسى والاقتصادى بطريقة وضع الأسس الدستورية العامة بدون الدخول فى التفاصيل . وهذا واضح بلا جدال فى القرآن والسنة المؤكدة ولكن هناك فى مجال السنة بعض الاختلافات بسبب عدم الاجماع عن كل ماورد فى الكتب الأساسية الستة أو التسعة ولكن أحسب أن المبادىء العامة متفق عليها . وبالتالى فان الفكر الاسلامى يتغير وعلى سبيل المثال فقد قدم الشيخ محمد الغزالى ود. محمد عمارة وغيرهما الكثير مما يبدو فيه تجديدا للدين يواجه بعض ماتكلس فى كتب الفقه وممارسات الجماعات الاسلامية .

الموضوع

فى العمل الجبهوى هناك مصطلحات شائعة صحيحة كالحديث عن القواسم المشتركة بين الفرقاء وهذا أمر لابأس به ويعمل به فى المجال السياسى والتكتيكى . ولكننى أدعو لتجاوز ذلك إلى بعض الاتفاقات والتفاهمات الفكرية المبدئية بناء على قناعات مشتركة . ليس الهدف وليس مطلوبا إنهاء الخلافات بين البشر ، فهذه سنة الله فى خلقه ( ولايزالوا مختلفين ) هود 118 ولكن لابد أن نستهدف عدم الخلاف فيما لايجوز الاختلاف حوله كضرورة الاتفاق على التخلص من الهيمنة الأجنبية ومن الجهل ومن استيراد منتجات الحضارة بدلا من المشاركة فى صناعتها الخ وقد اقترحت برنامجا بسيطا من 9 نقاط فى الجزء الاول من هذه الدراسة . وهنا أحاول وضع الأسس النظرية للاتفاق .

الوطنية : كان من المثير للرثاء أن يختلف الفرقاء حول الوطنية ( الانتماء لمصر ) ، وسمعنا من بعض الاسلاميين أن سيناء التى كانت محتلة هى مجرد رمال بلا قيمة والمهم العقيدة . وكأن هناك تعارض بين الأرض والعقيدة . وماوقع فيه المرحوم محمد مهدى عاكف من زلة لسان ، وتم استخدامها بشكل واسع ومبالغ فيه ضده وضد الاخوان ، إلا أنها لم تكن زلة لسان بمعنى أنه قال بما لايؤمن به . فقال لماذا لايحكم مصر ماليزى وطز فى مصر . أى أن الأممية الاسلامية فوق الوطنية والحقيقة ان التاريخ الاسلامى يرد على ذلك ونصوص القرآن والسنة تقر بالوطنية والقومية . وفى حوارتى فى هذه النقطة مع الاسلاميين من مدرسة الاخوان ومدرسة الجهاد والقاعدة وداعش فقد كانوا يتفاجأون عندما استند لدليلين من القرآن الكريم على ذلك فيلوذون بالصمت أو بتغيير الموضوع . الأول : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) الحجرات 13 والثانى ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين ) الروم 22

لايوجد أى تعارض بين الدين والوطن ، ولم يقل القرآن الكريم أن الوطنية أو القومية مرحلة لابد من تجاوزها ،فسيظل التنوع بين البشر وألوانهم ولغاتهم من سنن الحياة . ( راجع دراستى : العروبة ومشروعنا الاسلامى ). والجميع يعلم كيف كان تأثر سيدنا محمد وهو يغادر مكة مهاجرا وقال ( تعلمين أنك أحب بلاد الله إلى قلبى ولولا أن أهلك أخرجونى منك لما خرجت ) ونعلم كيف أصاب الصحابة فى المدينة أمراض الشوق للوطن ( مكة ) وكانت الجزيرة ممزقة ولم تتوحد الا فى ظل الاسلام ولذلك فإن الانسان ينتمى إلى قبيلته وقريته وكأنها وطنه . وقد أدى عدم حسم هذه المسألة إلى كوارث . ففكر الجهاد والقاعدة وداعش قام على احتقار الأوطان وعدم إعطاء أى اعتبار لها . وكما قاتل الشيوعيون من كل مكان فى العالم فى الحرب الأهلية الأسبانية ، فإن الاسلاميين تجمعوا من كل مكان فى العالم للقتال فى أفغانستان ضد السوفيت ولا زلنا نعانى من آثار هذا التوجه ( نشأة تنظيم القاعدة كتنظيم بدون وطن ) ، ثم حدثت تجربة سوريا المريرة التى مولها الخليجيون بتوجيهات أمريكية لتمزيق سوريا والعراق والداعشيون لم يهتموا بحكاية الاوطان فأخذوا قطعة من سوريا وقطعة من العراق وصنعوا دولة جديدة بتمزيق مجتمعين . ووصل الأمر فى سوريا إلى أن معظم المقاتلين لم يكونوا سوريين بل من كل أقاصى الأرض من الصين حتى هولنده وكل دول أوروبا والعالم العربى . وكل هؤلاء لايعلمون مكونات الشعب السورى  ( مسيحيون – دروز – علويون – شيعة – اسماعيلية – بعثيون ) وكانوا يقتلون الجميع باعتبارهم كفارا تابعين للحكومة أو شيعة . فلم تعرف الثورة كيف تتعامل مع الشعب ولكن تحولت الثورة إلى عملية عسكرية للسيطرة على المواقع وإبادة السكان . وأنا لا أتحدث الآن عن أخطاء النظام السورى ولكن عن فكرة جمع المقاتلين من 80 أو 90 دولة لاسقاط النظام السورى لا لمحاربة اسرائيل والأمر المنطقى أن يحشد المسلمون لقتال اسرائيل لأنها مدعومة من كل طواغيت الارض ولايمكن للشعب الفلسطينى أن ينتصر وحده . ( وعدت بنشر دراسة عن سوريا ولا زلت عند وعدى ولكن التكاليف كثيرة ). والآن تقوم داعش والقاعدة وهما من نبع واحد بأعمال عجيبة فى مناطق وسط افريقيا وبلاد الساحل والصحراء فى عمليات غير مفهومة لاراقة الدماء ، عابرة للحدود والأوطان ، دون أن تحرر بلدا واحدا ودون أن تقيم دولة الاسلام فى أى وطن ( نيجيريا – تشاد – افريقيا الوسطى – مالى- النيجر). وقد تورط الاسلاميون المصريون من كل الفصائل فى تجربة سوريا الفاشلة التى كانت تحت اشراف الناتو وأمريكا سواء أدركوا ذلك أم لا . وشاركوا من قبل فى تجربة أفغانستان ولاتزال جرحا نازفا حتى الآن . لأن طالبان بدلا من الاهتمام بإقامة دولة اسلامية انشغلوا بمحاربة كل بلاد العالم عن طريق القاعدة . ولعلهم الآن أكثر تعقلا وهو ما نراه ونرجوه .

أعتقد ان الاتفاق على الوطنية المصرية لايمثل معضلة كبيرة بعد كل هذه التجارب المريرة ليس بالنسبة للاسلاميين فحسب بل أيض بالنسبة لليساريين لأن فكرة الأممية العابرة للقارات والدول والأوطان لم تعد متأصلة لديهم ، وأحسب أنهم وطنيون مشغولون أساسا بإصلاح وطنهم . وكلنا لدينا اهتمام اقليمي وعالمي ولكن استنادا لقاعدة الاهتمام بالوطن . والليبراليون والقوميون ليس لديهم مشكلة فى هذه القضية وكذلك المسيحيون فهم متمسكون للغاية بالوطنية المصرية  ويرون أنهم أساس مصر . وأضع المسيحيين مع التيار المدنى لأنهم هكذا يضعون أنفسهم باعتبار أن المسيحية لاتشكل مذهبا سياسيا .

القومية العربية

التمسك بالقومية العربية موقف الناصريين والتيار القومى عموما والمؤسسة العسكرية تضع نفسها فى هذا التيار ( الوطنى والقومى ) ولا أرى مشكلة فى هذه القضية مع اليسار الاشتراكى والليبراليين على خلاف حزب الوفد القديم الذى لم يعط اهتماما بالقضايا العربية وأتصور أن التيار الليبرالى الحديث ليست لديه مشكلة فى ذلك ، أو لاتوجد مشكلة فى إقناعهم بذلك لأن مشكلات مصر لايمكن أن تحل بعيدا عن محيطها العربى ، وكذلك المسيحيون ليسوا بعيدين عن التيار العروبى بل يرى بعضهم نفسه فيه حيث توجد قطاعات مسيحية فى مختلف البلاد العربية . والمسيحية كدين نشأت فى فلسطين . وأيضا يدركون كمصريين ارتباط مصر بمحيطها العربى باعتبارالعرب هم الجيران من مختلف نواحى مصر شرقا وغربا وجنوبا. وأشرنا إلى الموقف الاسلامى الصحيح من القومية والوطنية ، العروبة هى الدائرة الاسلامية الأولى لمصر ولايمكن تحقيق الوحدة الاسلامية ( الكونفيدرالية ) إلا عبر الوحدة العربية . والنبى عربى والقرآن عربى واللغة العربية هى اللغة التى خاطب بها الله الناس ، لا أدرى كيف يعادى الاسلاميون العروبة . وكانت المسألة نكاية فى عبد الناصر والحركة البعثية والقومية العربية ، وهذا العداء التاريخى بين التيارين يجب أن ينتهى وقد قطعنا شوطا كبيرا فى هذا المجال وتم تأسيس المؤتمر العربى الاسلامى فى بيروت ولكن الثورات العربية الفاشلة أعادت الحياة لهذا العداء التاريخى وهى مسئولية الطرفين وعلينا تجاوز ذلك . كما كتبت مرارا ان التجمع العربى هو التجمع الوحيد فى العالم الذى لم ينشىء تجمعا اقتصاديا متعاونا ولذلك فنحن فى أخر قائمة الأمم قبل افريقيا التى تحتل المركز الأخير  لنفس السبب فالتجمعات المعلن عنها كالكوميسا ليست حقيقية فى واقع الأمر . كل العالم أدرك ضرورة تجمع الجيران فى كل منطقة فى تجمع اقتصادى واحد فهو لمصلحة كل الدول المشاركة . النافتا فى أمريكا الشمالية – الاتحاد الاوروربى – الميركسور فى أمريكا اللاتينية – الاسيان فى جنوب شرق آسيا الخ

الليبرالية

بعيدا عن النظريات فان الليبرالية تعنى بالحريات السياسية وحكم القانون وحرية الانتخابات ولا مجال للعداء بين التيار الاسلامى والليبرالى فى كل هذه الزوايا فالاسلام يعنى بحرية الفكر ( لااكراه فى الدين ) البقرة 256 وحق الاختلاف فى الآراء والاجتهاد حتى فى أمور الدين مالم يوجد نص قاطع الدلالة وتطبيق القانون على الجميع بلا استثناء ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ) والانتخابات هى البيعة التى سبقت الغرب ب13 قرن ، والشورى هى الديمقراطية عدا نصوص الوحى . وقد قيل إن المذاهب هى أحزاب اسلامية . وقد سبق الاسلام الغرب ب 13 قرنا أيضا فى إعطاء حق المشاركة السياسية الكاملة للمرأة ،و حق الاقتراع الذى لم يقر فى الغرب إلا فى أوائل القرن العشرين . والحقوق محفوظة كلية للأقليات غير المسلمة . وهذا لم يكن أبدا فى التاريخ الاوروبى . إن المحافظة على قدسية الصندوق الانتخابى أمر بالغ الأهمية لمنع الفتن وإراقة الدماء فى مجال الصراع على السلطة . ولا أعتقد أن القوميين والاشتراكيين والمسيحيين يمكن أن يختلفوا على ذلك .

 وإذا كانت الليبرالية هى الجانب السياسى للنظام الرأسمالى فإن الاسلاميين المستقيمين يرفضون النظام الرأسمالى وأيضا الاشتراكيين ، ولكن فكرة تواجد قطاع خاص كبير فى المجتمع أصبحت فكرة مقبولة فى مختلف أنحاء العالم . وأذكر اننى أجريت منذ سنوات حديثا صحفيا مع مجموعة من الصحفيين الشبان الاوروبيين حول الاقتصاد الاسلامى وقلت لهم أنه قريب الشبه بمدرسة الاشتراكية الديموقراطية الاوروبية لأنه يجمع بين القطاع العام والخاص ويؤمن بالتامينات الاجتماعية والصحية وبالأجور العادلة ومسئولية الدولة عن التنمية والخدمات الاجتماعية الأساسية كالتعليم ، وقد أعجب الشباب هذا الكلام لأنه كان جديدا بالنسبة لهم ، ونشروا الحديث بصحيفة أوروبية وكان الإقبال على قراءته كبيرا وفقا لعداد الصحيفة . وقلت أيضا إن الاسلام سبق العالم حين وضع أسس النظام المختلط الذى يجمع بين القطاعين العام والخاص والآن أتجه العالم شرقا وغربا إلى هذا النظام ، فقد كان إلغاء الاشتراكية للقطاع الخاص نهائيا نوعا من الشذوذ المناف لفطرة الانسان وكذلك فإن إلغاء القطاع العام نهائيا مسألة تعسفية لأن هناك مهام أو مشروعات لابد من القيام بها اذا أحجم عنها القطاع الخاص أو عجز . والآن فإن أمريكا والصين وروسيا وكل أنماط النظم الاشتراكية والرأسمالية تجمع فى التطبيق بين القطاعين العام والخاص بدون حرج . وأخيرا قامت إدارة أوباما بانقاذ شركة جنرال موتورز من خلال مشاركة الدولة فيها حتى ظن بعض الناس خطأ أن أمريكا تتجه للاشتراكية !

الاشتراكية كانت قد أصبحت مروحة واسعة النطاق من الاشتراكية الفابية والديموقراطية والخيالية والعربية حتى الشيوعية  انقسمت بدورها إلى عدة مدارس : سوفيتية وصينية وفيتنامية وكوبية ويوغسلافية وأوروبية وتروتسكية . وهذه الدراسة لاتدعو الفرق المختلفة لتغيير آرائها أو معتقداتها ولكن تدعو للبحث فى الاتفاق النظرى وليس السياسى فقط ، طبعا فيما يمكن الاتفاق عليه . كل هذه الفرق الاشتراكية كانت تستهدف قيمة عليا وهى تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين الناس ووقف الظلم والاستغلال ، كما أن الليبرالية كانت تستهدف الإعلاء من قيمة حرية الانسان الفرد . والحقيقة فإن القيمتان تستحقان كل التقدير والعناية والاتفاق عليهما . فأصحاب النظريات كانوا أصحاب مبادىء وتطلع لحياة مثالية ، حياة أفضل من تلك التى عاشها الانسان حتى ذلك الحين . إن العدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر بمعنى التقارب الشديد بينهم دون إلغاء الفوارق تماما لأسباب يطول شرحها . أهداف ومبادىء لا أعتقد أن يختلف الناس عندنا عليها . فى أمريكا هناك من يؤمن بالراسمالية المتوحشة ويعلن ذلك صراحة . فبعض الجمهوريين وأصحاب مدرسة شيكاغو ( صندوق النقد ) يقولون أن الدولة غير مسئولة اطلاقا عن بؤس الانسان ، والفقير هو المسئول أولا وأخيرا عن حالته وعليه أن يتحمل العواقب ، فلا دعم ولا تأمينات ولاتدخل للدولة لتحسين أحواله المعيشية ، وهو غبى وكسول ويستحق مايجرى له . وتحت هذه الشعارات حارب الجمهوريون برامج التأمينات الصحية فى أمريكا حتى الآن . هذه الأفكار لايمكن أن تسمعها صراحة فى مصر أو فى البلاد العربية والاسلامية ، هذه أفكار تظهر فى مجتمعات قامت على أساس إبادة البشر. اعتقد يمكن الوصول إلى صيغ متقاربة للعدالة الاجتماعية بين التيارات الفكرية المختلفة فى مصر . ومن الأمور المثيرة ان التيارات الاسلامية فى مصر والبلاد العربية لاتهتم كثيرا بهذه الأمور وهو أمر مثير للعجب رغم اهتمام الاسلام أيما اهتمام بالعدالة بين الناس فى الدنيا ، حتى لقد جاء فى القرآن الكريم أن الظلم الاجتماعى من الأسباب الأساسية لدخول النار ( إنه كان لايؤمن بالله العظيم ولايحض على طعام المسكين فليس له اليوم ها هنا حميم ) الحاقة 33 – 35وراجع سورة الماعون وغير ذلك .

هذه مجرد أمثلة للبحث عن نقاط الالتقاء الفكرية بدون تغيير كل طرف لكامل أفكاره . المجتمعات التى تقدمت ونحجت هى التى قامت بعملية مشابهة ، فأصبح كل الفرقاء يتحركون فى نطاق واحد ولكن على درجات متباينة . أذكر أن الفرق بين الحزب الاشتراكى الفرنسى والحزب الشيوعى الفرنسى فى البرامج الانتخابية كان يتركز حول عدد الشركات الواجب تأميمها ، بعد أن تخلى الحزب الشيوعى الفرنسى كباقى الأحزاب الشيوعية الاوروبية عن مسألة ديكتاتورية البروليتاريا. فى أمريكا يتبادل السلطة الحزبان الجمهورى والديموقراطى بدون خلاف جوهرى أى يعملان تحت مظلة نظام واحد وهو مايسمى ( الدستور ) وبالتالى لاتضطرب الأحوال خلال عملية تبادل السلطة وفى اوروبا يدور الصراع بين فريقين أساسيين : الفريق المسيحى الديموقراطى الليبرالى ( أى الرأسمالى التقليدى ) ، والفريق الاشتراكى الديموقراطى وفى الهند بين حزب المؤتمر العلمانى الذى يميل إلى دور أكبر للدولة وحزب جاناتا الدينى الهندوسى اليمينى المؤيد لحرية السوق وتبادل السلطة بينهما لم يعطل مشروع نهضة الهند فى المجال التنموى والصناعى والالكترونى والفضائى والنووى وحتى السينمائى !! . وفى اسرائيل يتم تدوال السلطة بين تكتل حزب العمل واليسار المضمحل وكتلة الليكود اليمينية ولايزال المشروع الصهيونى يسير فى طريقه ، والآن توجد حكومة تجمع بين أقصى اليمين واليسار . البلاد الموجودة على خريطة العالم وتسمى البلاد المتقدمة وصلت إلنخبة فيها إلى مشتركات فكرية وسياسية كأعمدة أسمنتية للنظام ، و يتم تبادل السلطة وتظل القاطرة تسير إلى الأمام . وليست الصين استثناء كما يتصور البعض فالتيارات المختلفة تعتمل داخل الحزب الشيوعى الصينى وتحدث تغييرات فى السياسات بين مرحلة وأخرى فى إطار الحكمة الصينية المبهرة اذا استخدمت تعبير الراحل أنور عبد الملك الذى قاله لى فى آخر حدبث بيننا قبل أن يرحل عن عالمنا . عندما تتصارع الفرق والتيارات الفكرية المختلفة بالطريقة التى تجرى فى مصر ، فى مثل هذه الحالات فإن مثل هذه البلاد تظل محلك سر.

وأخيرا فإننى أرحل عنكم ولا أحمل أى ضغينة لأحد حكاما ومعارضين رغم كل مابدر منهم . وأرجو ألا يحزن منى أحد فى كتاباتى القادمة لأننى لا أستهدف إلا استجلاء الحق ولا أريد الاساءة لأحد ولست حزينا من أحد لأننى لم أكن أطلب أى شىء لنفسى . وبالتالى فاذا ذكرت اسما ( كما ذكرت اليوم الاستاذ عاكف ) فهو بسبب التوثيق وسيكون ذلك فى إطار دراسات أو مذكرات شخصية أو قصة روائية ! ويعلم الله أننى لا أرى نفسى أعلم أو أفضل من الآخرين . ولكننى أجاهد بقلمى ( أو بالكى بورد خاصتى !) بحثا عن الحقيقة ولارضاء الله والفناء فى حبه ، ولست راضيا عن نفسى أبدا ، ولكن اقوم بواجبى كما أتصوره وعلى أساس أن الحسنات يذهبن السيئات وصلى الله على محمد وآله وصحبه . ( ملاحظة أخيرة : هذا الجزء من الرسالة فقد فى السجن وقد أعدت كتابته أمس وهذا يبدو واضحا من الأمثلة الحديثة ). 

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading