-صورة لأحد آثار الحضارة العريقة فى أمريكا الجنوبية –
الأسس الفكرية لمشروع النهضة 14
السياسية الخارجية – أمريكا اللاتينية
أمريكا اللاتينية بعيدة جغرافيا والمحيط الأطلسى يفصل بيننا من غرب الوطن العربى ، لذا هى أكثر بعدا عن مصر ، وهذا يؤثر على التعارف ( المعرفة المتبادلة ) ويؤثر بطبيعة الحال على العلاقات الاقتصادية والسياسية . ولكن ما أثر أكثر ان هذه القارة العريقة ذات الحضارات العتيدة كالأزتيك والانكا ما كادت تتحرر من الاستعمار الاسبانى حتى سقطت فى براثن الاستعمار الامريكى ، ولم يأخذ الاستعمار الامريكى الشكل التقليدى ولكن أخذ شكل الاستعمار الجديد الذى يعتمد على الهيمنة الاقتصادية ، ومن خلال الاقتصاد سيطر على السلطة السياسية من خلال وكلاء مدنيين وعسكريين . وكان الجيش الامريكى مستعدا دوما للتدخل ، ولكن على الأغلب فى بلدان أمريكا الوسطى اللصيقة بالولايات المتحدة ، وهى دويلات صغيرة لطالما تعرضت للغزو الأمريكى المباشر لتثبت إرتباطها بأمريكا ، مثل السلفادور وجرينادا وكوبا وبورتوريكووالأخيرة عملتها الدولار حتى الآن . اعتمدت أمريكا أساسا على طبقة وكلاء من قادة الجيوش الذين تم تدريبهم وتجنيدهم وتسليح هذه الجيوش بأسلحة امريكية وتواجد مستشارين عسكريين أمريكيين وذلك بالتلاحم مع طبقة سياسية مستفيدة من النفوذ الأمريكى فى محاولة لإقامة ما يسمى نظم ديموقراطية جديرة بصداقة أمريكا . ولكن عندما تنجح أحزاب يسارية أو مستقلة وترغب فى الخلاص من النفوذ الامريكى ، كانت أمريكا تحرك قادة الجيوش للقيام بانقلابات عسكرية للاطاحة بها .حتى اشتهرت أمريكا اللاتينية بأنها قارة الانقلابات العسكرية كما كان الوضع فى افريقيا .
كذلك فإن أمريكا بعد أن استولت على أراضى سكان أمريكا الأصليين والذين سموهم الهنود الحمر ، وحتى الساحل الغربى وكانوا بعشرات الملايين ، توسعت أمريكا جنوبا واحتلت ثم ضمت أجزاء واسعة من المكسيك ، فكل الولايات الجنوبية المحاذية للمكسيك حاليا هى أراضى مكسيكية فى الأصل . ثم انشغلت بعد ذلك ببسط سيطرتها على أمريكا اللاتينية ، وكانت تساعد الثوار ضد الاستعمار البرتغالى و الأسبانى والفرنسى ، ثم لتفرض نفوذها هى من خلال هذه الطبقات العميلة المدنية والعسكرية وأصدر الرئيس الأمريكى مونرو 1832 ما يسمى مبدأ مونرو والذى يعلن أن النصف الغربى من الكرة الأرضية تحت السيطرة الأمريكية ولن تسمح لأى قوة أوروبية أن تتدخل فى الأمريكتين . ولم يظهر الدور الاستعمارى لأمريكا فى منطقة الشرق الأوسط خلال القرن التاسع عشر لأنها كانت مشغولة بإحكام السيطرة على هذا الجزء من العالم وهو الجزء اللصيق بها والذى سمته الفناء الخلفى للولايات المتحدة . ثم قامت بأو ل عملية احتلال خارج الأمريكيتين فى الفلبين عام 1898 التى انتزعتها من أسبانيا التى كانت قد فرضت عليها الكاثوليكية ، بينما كانت فى الأصل بلدا اسلاميا عاصمته أمان الله وتم تحريف اسمهما إلى مانيلا ، وكانت قد تكونت من مسلمين قادمين من الملايو واندونيسيا . ولايزال المسلمون متركزين فى الجزر الجنوبية ( مورو) ويسعون لانتزاع حكم ذاتى فى مفاوضات مضنية مع السلطات وبعد خوض كفاح مسلح طويل الأمد .
المهم أن أمريكا احتلت الفلبين ( وكانت قد سميت الفلبين نسبة لاسم ملك أسبانيا فيليب ) وقد سلمت أسبانيا الفلبين لأمريكا . وهكذا فإن أول توسع واحتلال لأمريكا خارج الأمريكيتين كان فى أرض اسلامية . وقد ارتكبت أمريكا فظائع فى حرب استمرت ثلاثة سنوات أدت إلى مقتل 600 ألف مسلم ثم حرب جرثومية ( نشر الكوليرا والطاعون والجدرى ) أودت بحياة 200 ألف مسلم . وكان هذا أول لقاء أمريكى مع الاسلام والمسلمين .
. تبعية هذه البلدان اللاتينية للولايات المتحدة كانت تمنعها من حرية اتخاذ سياسات اقتصادية مستقلة ، وكان هذا من أهم أسباب تهميش العلاقات مع العرب والمسلمين. وكذلك ” الحال من بعضه ” فالعرب والمسلمون لايقلون تبعية لأمريكا ! أمريكا كقوة عظمى مسيطرة لاتحب أن يتصل الأتباع فى علاقات أفقية ، فهذا يقويهم ويساعدهم على التفكير سويا فى مصالحهم المشتركة والانفكاك من السيطرة الامريكية . نظام التبعية يقوم على العلاقات الرأسية بين كل بلد تابع والمتبوع بأكبر نسبة ممكنة لاتقل عن 90% . لاحظ ان العلاقات البينية بين العرب فى التجارة شبه ثابتة عبر العقود بين 10 و12 %. وأخيرا أعربت الولايات المتحدة عن قلقها الشديد من اتساع العلاقات بين دول أمريكا اللاتينية والصين فى مجالات التجارة والاستثمار ، فهى أيضا لاتريد علاقات أفقية مع دول عظمى أخرى .
فى النصف الأول من القرن العشرين لم تتحررمن التبعية سوى كوبا . فوجود أمريكا اللاتينية على مقربة من أمريكا يسهل كافة عمليات التدخل بما فى ذلك التدخل العسكرى ، ولكن جزيرة كوبا أفلتت من قبضتها رغم قربها الشديد من الأراضى الأمريكية بثورة مسلحة عام1959 ( كاسترو – جيفارا ) حيث استولى الثوار على السلطة بصورة خاطفة وأطاحوا بالعميل باتيستا . وسرعان ما أقام الثوار جسرا مع الاتحاد السوفيتى الذى قدم لهم الحماية ضد أى غزو أمريكى . ثم تطور الأمر وهدد بالوصول إلى حرب عالمية نووية والمعروفة بأزمة خليج الخنازير . وهذه هى المرة الأولى والوحيدة فى الستينيات من القرن العشرين وفى عهد الرئيس الامريكى جون كينىدى ونيكيتا خوروشوف السوفيتى التى تم فيها تبادل التهديدات بالحرب النووية الصريحة بين البلدين ووصلا بالفعل إلى حافة الهاوية بسبب وضع السوفيت صواريخ نووية فى كوبا وهى على مرمى حجر من السواحل الامريكية . بعد ذلك كلما وقع انقلاب يسارى آخر أو نجح يساريون فى الانتخابات فقد كان سلاح التدخل أو الانقلاب العسكرى على أهبة الاستعداد . فغزا رونالد ريجان الرئيس الامريكى جرينادا للاطاحة بحكم يسارى ، وتم تدبير انقلاب على حكم الماركسى سيلفادور الليندى الذى وصل الحكم بالانتخابات فى تشيلى . كان الانقلاب بقيادة الجنرال بينوشيه وفقا لخطة أمريكية متكاملة عام 1973 كما اعترفت أمريكا بعد ذلك بسنوات .
ارتكبت أمريكا عبر قرن ونصف القرن جرائم بشعة وصلت إلى حد التصفية الدموية لنقابات واتحادات وأحزاب وحركات جماهيرية باشراف مباشر على الحكام العسكريين كما حدث مثلا فى السلفادور وجواتيمالا . كانت اللغة الديموقراطية الوحيدة هى التصفية الجسدية وكثيرا ما عطلت الانتخابات صراحة . هذه الجرائم البشعة وثقها عدد من الامريكيين ذوى النزاهة مثل نعوم تشومسكى اليهودى اليسارى وهو معارض لاسرائيل . . ومثل الأديب العالمى جارسيا ماركيز فى روائعه القصصية ( أديب كولومبى ) . أدت هذه الجرائم الدموية على مدار قرابة 150 عاما إلى تعاظم الكراهية للأمريكان وعملائهم ، فنشأت حركات مسلحة عديدة فى معظم بلدان أمريكا اللاتينية خاصة مع غياب الانتخابات .
فى أواخر القرن العشرين وأوئل القرن الحالى ضعفت أمريكا وضعفت النظم العميلة لها ، فقرروا التساهل أو التراجع التكتيكى بالسماح بحرية الانتخابات لدرء خطر الثورات المسلحة والتى بدأت تتعاظم ، وبدأ بعضها يصل للحكم مثل حركة الساندينتسا فى نيكارجوا بأمريكا الوسطى . ولكن الانتخابات الحرة بدورها تحولت إلى وبال على أمريكا . ففى أواخر القرن 20 وأوائل القرن الحالى نجحت الحركات اليسارية والمعادية لأمريكا فى الفوز فى الانتخابات . وأصبحت هناك كتلة مخيفة لأمريكا تمثل معظم القارة متكاتفة ضدها وتنتهج سياسة مستقلة على رأسهم أكبر بلدين من حيث عدد السكان والمساحة : البرازيل والأرجنتين وكانت كوبا لاتزال صامدة ثم انضم إليهم الاكوادور وبوليفيا وفنزويلا وتشيلى حيث عاد الحزب الاشتراكى للحكم ونيكارجوا ظلت صامدة رغم ما أثارته أمريكا ضدها من تحركات عسكرية باستخدام مجموعة الكونترا . وجاء إلى بيرو حاكم مستقل . بنظرة واحدة كانت أمريكا تكاد تفقد القارة اللصيقة بها والتى كانت تطويها تحت جناحها وتنعم بثرواتها الرهيبة وتغترف منها بالمليارات .
فى هذه المرحلة كان يمكن للعلاقات العربية اللاتينية أن تزدهر ‘ بل كانت المبادرة من اللاتين إذ دعوا لقمة عربية لاتينية . ومن العجيب والمحزن أنه لم يحضر رئيس جمهورية أو ملك عربى واحد وأرسلوا مندوبين أصغر ، لم يذهب سوى عباس أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية وهو ليس رئيس حقيقى ! كان هذا الموقف ترمومتر للحالة العربية وربما تلقوا تعليمات من أمريكا بعدم الحضور .
ولكننا نكتب عن أمريكا اللاتينية من أجل المستقبل . وفى هذه الفترة كان التوسع الصينى حيث بلغت استثمارات الصين فى مجال الطاقة والتكنولوجية والنقل فحسب إلى 110 مليار دولار فى البرازيل والأرجنتين والمكسيك بين عامى 2003 و 2016 . ثم التوسع الروسى ثم التركى ثم الايرانى . وهى نفس المجموعة من الدول التى تتوسع فى افريقيا . وهو ما يعكس أن هذه الدول تملك رؤية استراتيجية فى العلاقات الدولية .
رغم التراجع الأمريكى إلا أنها لاتستسلم أبدا بسهولة ، فأمريكا كقوة عظمى حكمت امريكا اللاتينية لمدة 150 عاما واستثمرت فيها كثيرا وتملك مئات وآلاف الأدوات والكروت : شركات – عملاء – جمعيات مدنية – وسائل اعلام الخ وقررت أمريكا عدم العودة لسياسة الانقلابات العسكرية فى وقت تصم آذان العالم بأنها زعيمة الديموقراطية ، فقررت فى غرف العمليات السرية السوداء تنظيم سلسلة من المؤمرات فى كل الدول التى تمردت عليها ، وقامت بنوع من الانقلابات الناعمة أى بوسائل سياسية وقانونية وجماهيرية وانتخابية ، مع استخدام كل وسائل العقوبات الاقتصادية ، كما فعلت مع فنزويلا . وبدأ دعم الأحزاب الليبرالية العتيقة بالمزيد من المال والاعلام والدعاية ، كما تم استغلال القضاء الذى نشأ أصلا فى حضن هذه الأنظمة الفاسدة ولم يتم تطهيره فى العهد اليسارى . فقام بفبركة قضايا فساد كما حدث فى أهم وأكبر دولة ، البرازيل ، فتم حبس لولا دى سيلفيا رئيس البرازيل السابق الذى حكمها 8 سنوات وحولها إلى واحدة من العشرين الكبار وقضى على نسبة كبيرة من الفقر . ففى عهده بين 2003 و2011 أصبحت البرازيل رقم 10 ضمن أكبر اقتصادات العالم ، وتم انتشال 30 مليون مواطن من الفقر . ثم تم عزل رئيسة البرازيل التالية وهى من نفس حزب العمال ، لأن لولا لم يكن له أن يرشح نفسه لفترة ثالثة ورفض تعديل الدستور ، تم عزلها بقضية فساد مفبركة . وبالاستخدام المنسق للاعلام وهو سلاح خطير نجح بولسينارو اليمينى المتطرف ، عميل ترامب ، وهو رئيس فاسد ويستحق المحاكمة لا هؤلاء المناضلون الذين غيروا وجه البرازيل نحو الأفضل .
وحدث انقلاب بأسلوب آخر فى بوليفيا وتمت الاطاحة برئيس بوليفيا اليسارى ، وهو من السكان الأصليين . وحدثت انتفاضة مدعومة أمريكيا فى فنزويلا مع حصار اقتصادى تام لمنعها من تصدير البترول وإصطناع أزمة اثتصادية . ولولا وقوف روسيا والصين وإيران مع مادورو لما استطاع الصمود . وكان هناك إعداد لغزو أمريكى مسلح كما هدد ترامب , المهم انقلب حال أمريكا اللاتينية مؤقتا ، ولكن بشكل معاكس فاز رئيس اشتراكى فى المكسيك وهى دولة مهمة ، وهناك ثورة فى شيلى وثورة أخرى فى كولومبيا وأزمات اقتصادية طاحنة فى الأرجنتين ليست بعيدة عن الأصابع الأمريكية . وعادت أمريكا لفرض العقوبات على كوبا . ولكن الأحوال لن تستقر فى القارة حتى يعود المسار الاستقلالى . وقد خرج لولا دى سيلفا من السجن ، بينما يعانى الرئيس البرازيلى الفاسد من أزمات عديدة والشعب البرازيلى ينتفض ضده بعد أن أدرك أنه تعرض لخديعة .
نحن لسنا طرفا فى هذه الأزمات والنزاعات ، ويجب إقامة علاقات طبيعية مع كل دول القارة كدول عهد لاتعتدى علينا ، ومصالحنا الاستراتيجية متقاربة كدول نامية ومستضعفة ، بغض النظر عن طبيعة الحكومات . يجمعنا مع هذه الشعوب الإرث الاستعمارى المرير ، بل هم تعرضوا للابادة أكثر من العرب ( عدا فلسطين ) ولكن الأسبان والبرتغال اختلفوا عن الانجلوسكسون ، فالأخيرون وهم من انجلترا وشمال أوروبا أبادوا سكان أمريكا الشمالية بالمعنى الحرفى ، أما الاسبان والبرتغال فجمعوا بين الإبادة ، وبين كثلكة هذه الشعوب . فقد كانوا يحتاجونهم كأيدى عاملة وأشبه بالعبيد . فى حين أن الانجلوسكسون واجهوا مشكلة نقص العمالة بجريمة اختطاف وترحيل عشرات الملايين من الافارقة واستخدامهم كعبيد وأيدى عاملة فى الزراعة وشتى أنواع العمل اليدوى .
واستمرت العبودية فى أمريكا حتى عام 1865 وكان عدد العبيد فى عام 1800 20 % من السكان ( مليون من 5 ملايين ) ، وكانت نسبتهم فى الجنوب تصل إلى 40% وظل السود فى الجنوب محرومين من حقوقهم المدنية حتى الستينيات من القرن العشرين ، أى حتى قيام حركة حقوق الانسان التى شنها مارتن لوثر كينج . وعانى السود من نظام قضائى لايختلف عن نظام الفصل العنصرى فى جنوب افريقيا حتى ثمانينيات القرن العشرين . كذلك ظلت العبودية فى انجلترا حتى 1838 وفى فرنسا حتى 1848 ( أى حضارة علمت الأخرى الحرية وحقوق الانسان حضارة الاسلام أم حضارة الغرب ؟) . فى أمريكا اللاتينية لم تكن الابادة كاملة وتم تخيير الناس بين المسيحية الكاثوليكية أو الموت فاختاروا المسيحية كى يعيشوا ! ولذلك فى القارة نسبة كبيرة من السكان الأصليين بالاضافة لنسبة من السود الذين تم استيرادهم كسلعة من افريقيا كعبيد ، والبيض من أصل أسبانى أو برتغالى أو أى بلد أوروبى والخلاسيون وهم خليط من هذه الأنواع الثلاثة بالتزاوج . بالإضافة إلى الهجرات الحديثة من مختلف أنحاء العالم ، ولكن بنسبة أقل من الولايات المتحدة لانخفاض فرص العمل وعمق المشكلات الاقتصادية عموما .
نأمل أن تعود القارة إلى تعزيز طريق الاستقلال فهذا يفتح الباب بصورة أكبر للتعاون العربى الاسلامى معها ، وكى نتعاون ضد الطغيان الأمريكى . ولكن مرة اخرى لابد أن نتحرر نحن أولا وفى كل الأحوال نتعامل مع كل الحكومات اللاتينية بغض النظر عن طبيعتها ولنكن على ثقة ان انتصار الخط الاستقلالى هو كلمة التاريخ وحكمته . ( يتبع ) magdyahmedhussein@gmail.com