نحن أمة تختنق فى 4 % من مساحتها – انتقلنا من الرؤية الناصرية إلى العدم .. إلى اللاشىء .. إلى تفكيك المجتمع وتسليم قيادنا لأمريكا

-الصورة لرشدى سعيد الذى أؤيد مشروعه –

لا يمكن الحديث عن تصوراتنا للبناء الاقتصادى والتنمية المستقلة دون أن نبدأ بأوضاعنا الراهنة, فمصر تعيش الآن واحدة من أسوأ مراحلها فى التاريخ, ويمكن أن نقول أن مصر منذ 4 سنوات وهى تعيش بدون عقل مركزى. فمصر خلال عهد عبد الناصر كان لها خطة ورؤية وتصور, فإذا ثبت أن هذه الرؤية يجب تعديلها أو تطويرها أو تغييرها فإن هذا يستدعى الانتقال من رؤية إلى رؤية أخرى. ولكن منذ رحيل عبد الناصر عام 1970، مصر انتقلت تدريجيا من رؤية محددة إلى اللاشىء أو انعدام الرؤية أو الفوضى أو الاندفاع التلقائى مع أمواج البحار. وهذا لم يتم بشكل حاد وفورى, بل جرى تدريجيا. وكانت المرحلة الأولى متمحورة حول الأراضى المحتلة وإنجاز حرب أكتوبر, وكان هذا فى إطار الاستجابة لضغوط الواقع والانفجار الجماهيرى (72-1973).وقد تصور البعض بعد ورقة أكتوبر 1975 التى تحدثت عن الانفتاح الاقتصادى, وما جرى بعد ذلك من تحولات فى السياسة العامة أننا انتقلنا من الرؤية الاشتراكية القائمة على دور الدولة الأساسى فى الاقتصاد وعلى حكم الحزب الواحد، وعلى الإيمان بالوحدة العربية، والعداء لإسرائيل إلى الرؤية الرأسمالية القائمة على الاقتصاد الحر وما يستتبع ذلك من تغيير شبكة علاقاتنا الدولية من المعسكر الاشتراكى إلى المعسكر الغربى, وما يتواكب مع ذلك من تعددية حزبية (ليبرالية) وتغليب السلام والصداقة مع إسرائيل على الحرب, ولكن ما حدث رغم أنه يبدو هكذا على الورق، إلا أنه لم يحدث بصورة تفاعل مدروس فى صفوف النخبة الحاكمة وغير الحاكمة، ولكنه أخذ شكل الانزلاق التدريجى الذى يرتبط إلى حد كبير بمزاجية ورؤية الحاكم الفرد (السادات ثم مبارك), وحيث اتضح أن الطابع الفردى للحكم ما يزال أقوى بكثير من المؤسسات، بل إن مؤسسات الدولة لديها من المرونة بحيث تتكيف مع أى توجهات جديدة للحاكم الفرد!! فالذى جرى على أرض الواقع – وليس على الورق – لا يمكن أن يسمى انتقالا نظاميا من رؤية إلى رؤية، بل كان انتقالا عشوائيا إلى حالة من انعدام الرؤية. نقول ذلك من منظور وطنى فلو أن نخبة مجتمع ما قررت بعد بحث وتأمل جاد الانتقال من وضع لآخر بناء على اعتبارات محددة, فإن ذلك سيتم بصورة منظمة ويؤتى ثماره, وطالما أن الخيار وطنى فهو قابل دائما للمراجعة والتعديل. أما ما حدث بين 1975-2010 فهو فقدان الرؤية الوطنية, وتسليم قياد المجتمع لقوى أجنبية فى كل المجالات: السياسة – الاقتصاد – العسكرية – الثقافة – التعليم – العلم. وهكذا أصبحت الرؤية الحاكمة من خارج البلاد، وهى بطبيعتها لا تبحث إلا عن مصالحها, وهى غير مهمومة بمشروع نهضة للبلاد. بل لا تريده بالأساس كما ذكرنا فى الحلقة السابقة. وبالتالى أصبح لدينا وضع مشوه لا يمكن مقارنته بعشرات التجارب الآسيوية واللاتينية التى غيرت مساراتها بقرار وطنى فقفزت وتقدمت للأمام. أما نحن فكنا أشبه بزورق تتجاذبه وتتخطفه أمواج البحر. فنحن لم ننتقل بدقة إلى ما يسمى الاقتصاد الحر، وهذا له آلياته ونظمه وقواعده، بل أصبح مفهوم حرية الاقتصاد هو حرية الحصول على أموال بأى وسيلة, ولم توجد أى قوانين أو هيئات لتشجيع العمليات الإنتاجية, ولم تتحقق حياة سياسية تعددية فعلا، وحتى الهدنة مع إسرائيل تحولت إلى صداقة حميمة مع عودة الحملات ضد العروبة.ونقول لو أن هذا الخيار كان وطنيا تحت لافتة: الانكفاء عن مشكلات المنطقة والتركيز على التنمية الاقتصادية لكنا أنجزنا انجازا رهيبا خلال 35 عاما، ولكن الذى حدث أننا أضعنا 35 عاما من عمر الأمة، بمعنى أننا تأخرنا وسبقتنا عشرات الأمم التى كانت بجانبنا أو خلفنا. النظام دمر القطاع العام ولم يبنى قطاعا خاصا قويا يقود التنمية، دمر الصناعة الوطنية ولم يهتم بتنمية الثروة الزراعية بكل فروعها: الأرض – الثروة الحيوانية – السمكية. حدثت حالة توقف فعلى وشامل فى مجال البحث العلمى. لم نكن إذن أمام انتقال من خيار إلى خيار, بل إزاء تفكيك وتدمير للمجتمع، والبقاء على قيد الحياة فى هذه الحالة يكون بزيادة الاعتماد على الخارج فى كل شىء: استيراد سلع – ماكينات وآلات – قروض – منح – خبراء وشركات أجنبية.وليس من مهمة هذه الرسائل وصف وتحليل حالة مصر فى العقود الثلاثة الأخيرة فهذا عرضناه فى مجالات أخرى. ولكن كان لابد من الإشارة إلى الحالة الفوضوية التى وصلت إليها مصر وأضافت مشكلات جديدة تحتاج لحلول عاجلة.التركيب السكانى وحسن التوزيع:ولعل أبرز مشكلات البلاد نتجت عن التعامل العشوائى مع مسألة التركيب السكانى وحسن توزيع السكان, فقد ذكرنا فى البداية هذه الخاصية التى تميز مصر وهى نادرة بين البلدان الأخرى. وهى تركز معظم السكان فى 4% من مساحة البلاد. وقد أدى تزايد السكان إلى حالة من التكدس غير المسبوق فى الدلتا والوادى, وأدى إلى تجريف أكثر من 2 مليون فدان من أجود الأراضى الزراعية. وأدى اختفاء الطمى الذى يجدد التربة (بعد بناء السد العالى) إلى تراجع عام فى جودة الأراضى، بالإضافة لزيادة ملوحة الأرض فى شمال الدلتا، مع احتمال تآكل أجزاء من الدلتا فى السنوات القادمة فى إطار المتغيرات المناخية وارتفاع مستوى البحر. ومع ذلك فإن الدولة تقف عاجزة أمام مواصلة تجريف الأراضى الزراعية بصورة متوحشة ويومية، وما تزال تتحدث عن وجود 9 ملايين فدان ولا تخصم أبدا الأراضى الضائعة.وكان الخبير المصرى المعروف “رشدى سعيد” قد طرح مشروعا فى منتهى الأهمية، نحن نعتبره مشروع حياة أو موت. كان “رشدى سعيد” خبيرا معتمدا للدولة فى عهد عبد الناصر, أما فى عهد السادات – مبارك فتحول إلى مجرد كاتب لا يؤخذ برأيه، وهذا رمز للحالة التى بدأنا بها الحديث, فالمشكلة مع النظام الحالى ليست أن له رؤية خاطئة، بل فى أنه ليس له رؤية على الإطلاق. فإذا رفض مشروع “رشدى سعيد” فما هو المشروع البديل؟ لا يوجد.المشروع يقوم على فكرة أساسية وهى إعلان حالة الطوارىء الرسمية والشعبية لإنقاذ ما تبقى من الوادى والدلتا, واعتبار هذه المنطقة محمية طبيعية، ويوقف البناء فيها إطلاقا، بل يتم نقل ما يمكن نقله مما بنى بالفعل من مبانى رسمية ومصانع إلى خارج الوادى (فى الصحراء). ويتضمن المشروع وقف تصدير الغاز الطبيعى وتوجيه كل الناتج المحلى للنهضة الصناعية.المشروع فكرته بسيطة, ولكن حيوية إلى أبعد مدى, لأنه يستهدف الحفاظ على مصر الزراعية، ولكن تنفيذه يحتاج لعزم الرجال وروح الجهاد, وهى أمور غير متوفرة لدى حكام هذا العهد. المشروع يشير إلى الحفاظ على مصر الزراعية كحد أدنى ضرورى لضمان الأمن الغذائى, ولكنه يؤكد أن النهضة الاقتصادية الكبرى لابد أن تكون فى الصناعة, وهذا هو التوازن الذى أؤمن به .

أكذوبة غزو الصحراء:

شعار غزو الصحراء عن طريق زراعتها تردد كثيرا، دون مراعاة حقائق العلم، فالمعروف تاريخيا وجيولوجيا أن الصحراء لم تكن كذلك فى الماضى, وكانت موزعة بين البحار والأنهار والمزروعات, وأن ظروفا مناخية متغيرة أدت إلى تصحرها. وبالتالى فإن الصحراء نتاج ظرف مناخى تاريخى، من أهم ملامحه ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة. وبالتالى فإن الحديث عن زراعة الصحراء يجب أن يتم بحذر, وأن يتركز على الأراضى المتاخمة للوادى والدلتا, وهذا ما حدث بنجاح فى فترات سابقة. فالظروف المناخية تكون ملائمة وإمكانية توصيل مياه النيل تكون سهلة وأقل تكلفة. مع مراعاة أن مصر بدأت تدخل فى مرحلة الفقر المائى, وهذه أهم عقبة تواجه مسألة التوسع الزراعى عموما فى مصر. أما المياه الجوفية فلابد من الاستعانة بها, مع ملاحظة أنه لا توجد تقديرات علمية دقيقة لحجم هذه المياه فى الأماكن المختلفة, وهذا أيضا من شواهد غياب الرؤية والمشروع من أذهان الحكام. لأن الأقمار الصناعية ووسائل البحث العلمى والتنقيب سهلت الأمور, ولكن حكامنا غير مشغولين بهذه الأمور!بل أراد الحاكم أن يحقق مشروعا ضخما ينسب إليه، وأن يقال أنه أنشأ دلتا جديدة، فكان مشروع “توشكى” الفاشل, لأنه لم يراع الاشتراطات التى أشرنا إليها، فهو بعيد عن الوادى، ويعتمد أساسا على مياه النيل التى نعانى من عجز منها حيث يحتاج (5 مليارات متر مكعب سنويا)، كما أن المناخ فى هذه المنطقة غيـر ملائـم لمعيشة البشــر حـيث تتجاوز درجات الحرارة أحيانا الـ 50 درجة، كذلك تتعرض المنطقة لظاهرة كثبان الرمال، وهذا ما يهدد قناة المياه والمزروعات، كذلك فإن قناة المياه لابد أن تكون مبطنة بالأسمنت، ولكن نسبة البخر تكون عالية.وتوصل العلماء بالتجارب إلى معادلة بسيطة للغاية تقول: الزراعة = الماء. بمعنى أن الماء هو الشرط الضرورى وربما الوحيد للزراعة، فهناك مزروعات تم استنباتها فوق المياه بدون تربة. والبحر به مزروعات، والصحراء بها مزروعات فى حدود الأمطار التى تهطل أو العيون التى تتفجر. وبالتالى فإن كثرة الحديث عن غزو الصحراء باستخدام مياه النيل نوع من الضجيج الأجوف، لأن نصيب مصر من المياه يتناقص كل عام مع زيادة عدد السكان. ولدينا – فى حزب العمل – تصورات حول كيفية مواجهة مشكلة نقص المياه, ولكننا سنظل بالتأكيد من البلاد التى لا تتمتع بوفرة من المياه. وهذا يعنى أن إمكانياتنا فى التوسع كبلد زراعى محدودة. مما يحتم ضرورة الحفاظ على ما تبقى من الأراضى الصالحة للزراعة لضمان الأمن الغذائى, ولا شك أن أراضى الوادى والدلتا هى أخصب هذه الأراضى، ولابد من الحفاظ على ما تبقى منها.أما الانطلاقة الكبرى للنهضة والتى ستمكننا من نقل ملايين المواطنين من الوادى والدلتا إلى الصحراء فهى الصناعة.والذى حدث فيما يسمى المدن والمجتمعات الجديدة كان كارثة بكل معانى الكلمة من زاوية إعادة توزيع السكان, فقد بنيت المدن والمجتمعات الجديدة فى الصحراء ليس من باب رجاحة العقل وحسن الفطن، بل لأن الأرضى الزراعية المحيطة بها قد تم تدميرها بالبناء (مدينة 6 أكتوبر بعد تدمير الزراعة فى كل مناطق الجيزة والهرم كمثال)، ومع ذلك فإن هذه المدن تحولت إلى امتدادات فعلية للقاهرة الكبرى، فهى لم تنشأ كمجتمعات مستقلة بها كافة الخدمات ويسكن فيها من يعمل فيها ويتعلم فيها. فأغلب سكانها يعملون خارجها، والعاملون فيها يسكنون خارجها وحتى فى مدينة العاشر من رمضان تجد كثيرا من العاملين فيها إما من القاهرة أو من الشرقية (الدلتا) وبالتالى لم تتحول إلى مراكز مستقلة. وهكذا تحولت القاهرة الكبرى إلى مدينة مجنونة قطرها يتراوح بين 50 كيلو مترا إلى 70 كيلومترا يعيش فيها ما بين (16-20 مليون) وهو أمر لا مثيل له فى العالم. ثم يجرى الحديث عن مشكلة مرور، وهل يمكن حل مشكلة المرور فى هذا الوضع؟! كما أن هذا التكدس لا يساعد على خلق ظروف مناسبة لعمل إنتاجى ولا حياة آدمية مناسبة.وبالإضافة لكارثة القاهرة الكبرى، نجد أن الخروج من الوادى إلى الصحراء أخذ شكل الترفيه عن الأثرياء والسياح, فتم تحويل الساحل الشمالى إلى منتجعات خاصة على طول الطريق بين الإسكندرية ومرسى مطروح. بينما يرى خبراء الزراعة أن هذه المنطقة صالحة لزراعة 3 ملايين فدان من القمح بالتزاوج بين المياه الجوفية والأمطار. وقد تكرر نفس الشىء على طول ساحل البحر الأحمر حيث تحول إلى ساحل سياحى, دون أى اهتمام بتطوير أشكال أخرى من التنمية كالثروة السمكية والتعدينية، وتعمير سيناء بعد 28 عاما من استردادها تركز فى مشروعات سياحية فى جنوب سيناء. والمعروف أن المشروعات السياحية التى هيمنت على كل هذه المناطق الصحراوية لا تستوعب إلا أعداد قليلة من العاملين.وبالتالى فإن كثرة الضجيج عن الخروج من الوادى تحول إلى مجرد خروج المصطافين المصريين بالإضافة لاستقبال السياح الأجانب. ولم يؤد كل هذا الحراك إلى أى تعديل يذكر فى توزيع السكان.وإذا عدنا من جديد إلى مشروع “رشدى سعيد” نقول إن ندرة الأرض الزراعية تجعل من العبث أن نبنى أى مشروع داخل الدلتا والوادى لا علاقة له بالزراعة. لذا ما معنى أن نبنى مصنعا على أرض زراعية، ثم نبنى مساكن للعمال على الأرض الزراعية.. إلخ. وليس المقصود بالصحراء هو الذهاب إلى أعماقها أو إلى أماكن سيئة المناخ كما ذهبوا فى توشكى, بل إن بناء التجمعات الصناعية يكون ملائما بالقرب من موانىء التصدير أو بالقرب من الوادى والدلتا.المنطقة من القاهرة للسويس كمثال نموذجى لذلك. ولكن ماذا حدث فيها؟ تم بناء عدة تجمعات سكنية تحولت إلى امتدادات للقاهرة, أما مشروع المنطقة الصناعية فى السويس وشرق التفريعة فى بورسعيد فما يزال حديث الصحف والتمنيات.وحدثت نفس الكارثة فى الصعيد فتحولت المدن الجديدة إلى مجرد امتداد للوادى, فلا يوجد بها أى نشاط إنتاجى ولا حياة مستقلة، بل تحولت الوحدات السكنية فيها إلى مجال للمضاربات على سعرها دون أن يتم إشغالها بالفعل.وهكذا بعد 35 عاما لم يتم إعادة توزيع السكان وزادت الحياة اختناقا وتخرج القرى تدريجيا من النشاط الزراعى وتتحول إلى مدن صغيرة فاشلة. ومن هذه الأماكن تحديدا يخرج آلاف الشباب يضحون بحياتهم فى هجرة غير شرعية لأوروبا عبر سفن الصيد!ولن تنهض البلاد إلا عبر صحوة صناعية خارج الوادى والدلتا فى إطار مجتمعات متكاملة بها من الخدمات وأماكن الترفيه وأماكن السكن ووسائل النقل والمواصلات ما يجعلها جاذبة للعاملين من أجل الإقامة الدائمة (رشدى سعيد يقترح أيضا تفكيك المصانع القائمة وإعادة تركيبها خارج الدلتا والوادى).لا مستقبل لمصر – كباقى الأمم الناهضة – إلا بالاندفاع فى صحوة صناعية حقيقية، صناعة وطنية تقدم على تشغيل عدد كبير من العمال لإشباع الحاجات الأساسية للناس، وتقتحم مجالات الصناعة المتطورة من أجل احتياجات البلاد ومن أجل التصدير.ما يعنينا الآن أن مواجهة أزمة تكدس السكان والبطالة وضياع رقعة الأرض الزراعية لا يمكن أن يتم إلا بضربة واحدة.. هى النهضة الصناعية على أن تتموضع خارج الوادى.مصر بلد طارد للسكان لأول مرة:أصبحت مصر لأول مرة فى التاريخ بلدا طاردا للسكان، وبعد أن كانت جاذبة للمهاجرين من العرب والعجم، وهاجر المصريون بالملايين إلى بلاد العرب والعجم، ورغم أن السياسات الاقتصادية الخاطئة مسئولة عن ذلك، إلا أن اكتشاف أماكن للرزق الأوسع كان سببا مهما إضافيا لهذه الظاهرة الجديدة. وهذه ظاهرة تاريخية يجب ألا تقلقنا فهى دورات، وكما استقبلنا ممثلين من شعوب أخرى، فيمكن لشعوب أخرى أن تستقبلنا فى ظروف أخرى.على المستوى العربى خاصة فى السودان (وقد تحدثنا عن ذلك) نرى أن هجرة وتوطن المصريين ظاهرة إيجابية تساعد على تلاحم الشعوب العربية وإعادة انصهارها مع بعضها البعض.ونحن نرى أن الهجرة المصرية المنظمة للسودان وأى بلد عربى آخر ظاهرة إيجابية, شريطة أن تكون تحت السيطرة وتحت إشراف الحكومة المصرية، وأن تكون هناك علاقات منظمة معهم حتى لا تترك أحوالهم للظروف العشوائية حتى وإن حصلوا على جنسية أخرى ومن باب أولى أن يحدث ذلك مع الجاليات المصرية فى شتى أنحاء العالم, فكل هؤلاء قوة لا تقدر بثمن إذا أحسن توظيفها لخدمة مصالح البلاد.أما ما يحدث الآن فهو نوع من الهروب الجماعى من مصر, والحكومة لا تملك أى سياسة تجاه هذه الظاهرة، بينما أصبح السفر العشوائى للمواطنين يعرضهم لسوء المعاملة والمغامرات غير مأمونة العواقب.*****مصر بلد العشوائيات:فى ظل غياب تصور للتعامل مع الحراك السكانى أو حل مشكلة الإسكان، الناجمة أساسا من هذا التكدس السكانى، أو طرح تصورات غير واقعية كالمدن الجديدة ذات الأسعار المرتفعة للسكن، بالإضافة لبعدها عن أماكن العمل، تحركت الجماهير بمبادراتها الخاصة وصنعت بمبادرتها الخاصة أكبر التجمعات وأكبر المدن والأحياء بأرخص الأثمان وأقرب ما يكون لأماكن العمل، فكانت حركة العشوائيات بالملايين التى التفت بأحزمتها حول المدن، أو صنعت بؤرها الخاصة فى أى فجوة بين الأحياء القائمة بالفعل، فيما أصبح يعرف بالمناطق العشوائية, ولطالما صبت الحكومة وإعلامها جام غضبها على الناس الذين فعلوا ذلك ولكنهم كانوا فى الحقيقة يحلون مشكلة الإسكان المتفاقمة فى المدن والتى تخلت الحكومة عن حلها. وقد أدت هذه العشوائيات إلى المزيد من التضخم السرطانى لمدينة القاهرة وغيرها من المدن, وأدت إلى اختناقات فى الخدمات، ولكن الناس فعلوا بعشوائية ما رفضت الحكومة أن تقوم به بانتظام, وأصبح أمرا واقعا جديدا يؤكد حالة التكدس السكانى فى أصغر مساحة من البلاد، ومن أغرب الظواهر التى نشأت خلال ذلك تحول مقابر القاهرة إلى مساكن للأحياء الذين رأوا أنه لا خيار أمامهم إلا مشاركة الأموات فى حياتهم بالمقابر!!وتكررت نفس الظاهرة العشوائية حول وداخل مختلف المدن. أما فى الريف فأخذت العشوائية شكل التوسع فى البناء على الأرض الزراعية (التجريف) خارج إطار القواعد والقانون.وما يهمنا هنا أن هذه الظاهرة فاقمت فى حالة التكدس السكانى على أصغر مساحة من مصر، أى داخل الوادى والدلتا، ولم ترتبط بظهور مراكز حضارية أو إنتاجية جديدة, بل كانت تتحلق وتدور حول نفس المراكز السكانية والإنتاجية القديمة, وهو الأمر الذى كان لابد أن يؤدى إلى تفاقم معدلات البطالة التى وصلت حقيقة إلى 19%، وأيضا إلى زيادة معدلات الجريمة، واتساع ظاهرة الاقتصاد السفلى (تجارة المخدرات – التهريب – الصناعات غير المرخصة.. إلخ).*****آثرنا أن نبدأ بهذه الخلفية، فهذا هو مسرح العمليات، وقد تحولت مصر إلى أرض ضربت الفوضى فيها أطنابها، وتكدس الإنسان والحيوان والنبات معا أدى إلى حالة من التعفن (بتعبير د. جمال حمدان) وأصبحت البلاد مكانا كريها طاردا لأهله بالمعنى الروحى والمادى، وليست مكانا للسعادة المشتركة، بل فى مقابل هذه الصورة القبيحة التى يعانى منها معظم السكان قام المترفون – عبر وزارة الإسكان وبأموال الشعب – ببناء عشوائياتهم الخاصة, وهى مدن وقرى وتجمعات الأغنياء المغلقة عليهم بأسوار من حديد ستجدها حول القاهرة أيضا التى تتوسع بلا نهاية فى كل الاتجاهات، وستجدها على كل سواحل مصر، وعلى طريق مصر – الإسكندرية الصحراوى, ولا أحد يعرف ماذا يدور خلف هذه الأسوار إلا من خلال بعض الإعلانات التى تثير حفيظة وجنون الشباب العاطل الذى لا يطمع فى أن يجد مأوى للزواج يوما ما فى أى مكان.وفى ظل غياب خطة للتنمية تستوعب طاقات من 80 ألف إلى مليون باحث عن فرصة عمل سنويا، فإن الذى أخر الانفجار الاجتماعى الكبير هو ما سميناه حالة الهروب الكبير من البلاد للعمل بالخارج, ولكن هذه الفرص تقلصت الآن بصورة كبيرة، فأغلقت العراق ودول الخليج وليبيا، كما أن أوروبا ترفض وتقيد معظم الهجرة غير الشرعية. ولا تزال بعض الأسر تعيش على مدخرات الماضى أو ما تمكنت من استثماره, ولكن آفاق الحياة الاقتصادية تضيق، وفرص العمل المجزية تكاد تتركز فى العمل مع الشركات الأجنبية، والعاملون فيها يشكلون شريحة ضيقة جدا من إجمالى قوة العمل فى البلاد.هذا ليس عرضا لكل مشكلات البلاد الاقتصادية، ولكن الصورة الخلفية أو مسرح العمليات من زاوية الانتشار السكانى. فنحن فى بلد يكتظ بالسكان على 4% من مساحته (التى تبلغ مليون كيلو متر مربع) دون خطة واضحة للتنمية أو للخروج من الوادى، فالناس تكاد تأكل بعضها خاصة فى المركز (القاهرة الكبرى التى تحوى ربع السكان) بدأت عملية الهروب للخارج منذ عقود، الآن يتعرض انسيابها لمشكلات كبيرة، فتحول الهروب إلى عمليات انتحارية عبر المتوسط، الصعيد أصبح طاردا لسكانه، أكثر من أى وقت مضى، وفرص العمل والإنتاج تكاد تكون معدومة بالنسبة للأجيال الصاعدة والكثافة السكانية فيه تقل، ويتكدس الناس أكثر حول القاهرة والدلتا!! وليس لدى الحكومة ما تقوله فى هذا الشأن إلا الدعوة المستمرة لتحديد النسل وسنخصص حلقة لهذا الموضوع، ولكن الرد العملى والسريع جاء من الصين والهند فأكبر بلدين من حيث عدد السكان أصبحا الآن فى المركزين الثانى والرابع على مستوى الاقتصاد العالمى بعد أن كانا فى عداد البلدان الفقيرة والمتخلفة منذ عقدين أو ثلاثة عقود، كما اكتفيا من القمح ويصدرانه للخارج!

الفصل السابع من كتاب الرؤية الاسلامية لمشروع النهضة – سجن المرج – 2009 – 2010

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading