محمد على .. دروس فى الاستقلال والتنمية – كتاب جديد لمجدى حسين

                              

                                     مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد :
كتب كثيرة ودراسات كتبت عن عهد محمد على باعتباره باعث النهضة المصرية والعربية الحديثة ولكن أتصور أن هذه الدراسة تنظر من زاوية خاصة فهى رؤية اسلامية لهذا العهد ولكنها مختلفة عن رؤية الكثير من الكتاب الاسلاميين الذين اتهموا محمد على بالماسونية والعمالة للانجليز والسعى لهدم الدولة الاسلامية العثمانية وأنه لم يهتم إلا ببناء الجيش لا القيام بعملية تنمية شاملة .
هذه الدراسة أيضا تعتمد على التحليل وليس على السرد وتجميع المعلومات وهى لاتستهدف الدفاع عن عهد محمد على وإن كان يستحق الإنصاف من كل من ظلموه من الاسلاميين وغير الاسلاميين ، ولكننى درست تجربة محمد على فى إطار دراسة تاريخ الشرق العربى الاسلامى ككل . وكان إهتمامى منصبا على التجربة من زاويتين أساسيتين : الاستقلال –・التنمية . حيث أرى أن هاتين هما أخطر قضايا أمتنا ، وأن نكبتنا تولدت من عدم إدراك ذلك . وأرى أن النهضة العربية الاسلامية لن تتحقق إلا بالبناء على التجارب الإيجابية فى الماضى القريب والبعيد . وأن الاستقلال والتنمية مفهومان إسلاميان أصيلان كما سنوضح فى هذه الدراسة .
أساس وجود الأمة هو استقلالها أى استقلال إرادتها وقدرتها على إتخاذ قراراتها وإدارة حياتها وفقا لمعتقدات أبنائها ، وهذا وثيق الصلة بإعتمادها على نفسها فى معيشتها : نأكل مما نزرع ، ونلبس مما نصنع ، أى سياسة الاكتفاء الذاتى . وهذه السياسة لاتعنى كما يصورها البعض أنها سياسة إنغلاقية غير واقعية ، حيث لايمكن لأى مجتمع أن ينعزل عن العالم ، ولايمكن لأى مجتمع أن يوفر كل احتياجاته . الاعتماد على الذات يعنى توفير الأساسيات وضروريات الحياة وبنسبة تصل إلى 90 % على الأقل . كما يعنى أن يكون المجتمع أساسا منتجا لا مستهلكا لمنتجات الآخرين . المجتمع الناجح هو الذى يصدر أكثر مما يستورد . وعندما تكون منتجا يمكن أن تبادل منتجاتك مع منتجات أخرى من الخارج . والمقصود بالإنتاج هو الزراعة والصناعة لا المواد الأولية من المعادن والثروات الطبيعية .
فى عهد محمد على أى منذ أكثر من قرنين حققت دولته المصرية العربية الاكتفاء الذاتى فى المجالين الزراعى والصناعى ، ولكنه أقام تجارة دولية مزدهرة حققت فائضا فى الميزان التجارى . و كانت ميزانية الدولة تحقق فيها الإيرادات مواردا أكثر من النفقات . ورحل عن عالمنا ومديونية مصر = صفرا ، وصنع الجنيه المصرى . وترك مصر وبها كوكبة على أعلى مستوى من المتخصصين فى مختلف المجالات : مهندسين ، أطباء ، صيادلة ، قادة جيوش ، صناع فى مختلف المجالات . وظلت مصر تعيش على هذه الكفاءات حتى بعد ضرب تجربة محمد على ، وهى التى تولد منها بعد ذلك جيل طلعت حرب ومن بعده جيل الصناعيين فى عهد 23 يوليو.
لم يكن محمد فقيها بطبيعة الحال ولكنه كان على فطرة الاسلام ، فهذا الأمى الذى تعلم القراءة والكتابة وسنه فى الأربعين ، نجح فيما لم ينجح فيه من بعده أساتذة الجامعات والمتعلمين فى أكبر جامعات الغرب ، وهو لم يقم تجربته فى مواجهة علماء الأزهر كما يردد البعض ، فهو وفيما عدا خلافه مع عمر مكرم نقيب الأشراف ، كان على صلة وثيقة بسائر علماء الأزهر واعتمد عليهم فى مختلف مناحى تجربته التنموية والاستقلالية .
عندما كنت مقبلا على هذه الدراسة كنت أحمل رؤية إيجابية لتجربة محمد على ، ولكننى أعترف أننى أصبت بحالة من الذهول عندما تعرفت على تفاصيل التجربة وبالذات فى المجالين الصناعى والعسكرى وأيضا فى مجال الرؤية الاستراتيجية ، رغم الأخطاء التى وقع فيها ، وإدراكه هو وابنه ابراهيم لطبيعة الصراع بين أمتنا والغرب .
وفى مجال الأمانة العلمية لابد أن أؤكد أن مرجعين أساسيين ساعدانى فى هذه الدراسة ، كتاب : عصر محمد على للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى والذى كان مصدرا أساسيا لكثير من المعلومات من الزاوية التى تهمنى ، وكتاب مصر فى عهد محمد على لعفاف لطفى السيد مارسو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا –・بلوس أنجلوس وقد تشرفت بلقائها فى لوس أنجلوس أثناء إحدى زياراتى للولايات المتحدة ، وقد لايكون إتفاقى معها بنفس مستوى إتفاقى مع الرافعى ، ولكن لاشك أن دراستها قيمة ومنصفة وغنية بالمعلومات الخاصة من مصادر ووثائق رسمية .
وهناك مصادر أخرى كثيرة على رأسها كتب د. جمال حمدان وموسوعة تاريخ مصر لأحمد حسين ، وستكون هناك إشارة لكل هذه المراجع داخل المتن نفسه .
ولكن أحسب أننى فى النهاية قدمت رؤيتى الخاصة وإجتهادى فى فهم هذه المرحلة التاريخية الحاسمة فى تاريخ مصر والمنطقة العربية .
وأدعو لقراءة هذه الدراسة بمنظور أوضاعنا العربية الراهنة لكى نستفيد من دروسها ونكتشف ما ينقصنا ، ونكتشف الثغرات الخطيرة فى هذه التجربة ، حتى لا نكررها .
مرة أخرى .. هذه الدراسة تؤكد أن خلاص الأمة فى الاستقلال والتنمية الاقتصادية .
والحمد لله رب العالمين
المؤلف فى القاهرة –・22 مايو 2022

                                        - 1 -

تعاون إنجليزي –・عثماني –・مملوكي ضد إختيار المصريين

كان الغزو الفرنسي لمصر خلال أعوام 1798- 1801 م نقطة إشتعال وتصادم كبري بين القوتين الأعظم في العالم في ذلك الوقت حول السيطرة علي مركز العالم (الشرق العربى ) وكان الغزو الفرنسي أيضاً بداية الصدام السافر والحقيقي لعملية استعمارية صليبية لوراثة “أملاك” الدولة العثمانية في قلب الوطن العربي أو ماعرف فيما بعد باسم المسألة الشرقية .
كانت “كذبة” كبيرة لنابليون عندما قال في بيانه الأول للشعب المصري إنه صديق السلطان العثماني ، فهو لم ينسق معه بل ولم يبلغه بعملية الغزو ، وجاء لإقتطاع مصر من السلطان العثماني . إن الهبة الشعبية البطولية للشعب المصري قد كسرت أنف نابليون ، وقصمت ظهر الجيش الفرنسي الذي اضطر للانسحاب بعد أكثر قليلاً من 3 أعوام ، ولكن التعاون الإنجليزي –・العثماني كان شرطاً مواتياً لإنتفاضة المصريين . بل ان الإنجليزلم يكتفوا بالحصار البحري بعد تدمير الأسطول الفرنسي في أبي قير بل نزلت بعض قواتهم البرية من السفن علي الأرض في شمال مصر الساحلي ، وتعاونت مع القوات العثمانية في معركة أبي قير البرية التى هزم فيها الفرنسيون .
وكان الأسطول البريطاني وهو يقتفي أثر سفن نابليون ، قد احتل الجزيرة اليونانية كورفو 1799 م , واحتل جزيرة مالطة التي كان الفرنسيون قد احتلوها في طريقهم الي مصر لتكون نقطة إمداد وتموين .
وبعد ثورات الشعب المصري وهزيمة فرنسا في عكا ثم اغتيال كليبر خليفة نابليون جرت مفاوضات في العريش بين العثمانيين والفرنسيين لترتيب انسحاب الجيش الفرنسي في مصر ، ولكن المفاوضات تحولت إلي ثلاثية باشتراك إنجلترا فيها وتم توقيع مايسمي معاهدة أميان بين الأطراف الثلاثة والتي تنص علي انسحاب الفرنسيين والإنجليز من مصر ، وعلي أن يتم ترحيل القوات الفرنسية علي متن السفن البريطانية  باعتبار أن سفن فرنسا قد دمرت ، ولكن كان يمكن إرسال سفن من فرنسا ،ألا أن بريطانيا كانت ترغب في إذلال الفرنسيين . ثم حدثت مفاجأة دراماتيكية إذ بدأ الإنجليز في التلكؤ ولم يسحبوا قواتهم بل بقيت القوات البريطانية بعد خروج الفرنسيين لأكثر من عام علي أرض مصر . وكأنها كانت محاولة جدية للقيام بعملية استبدال فوري استبدال الاحتلال الانجليزي بالفرنسي . ولكن ماكان الشعب المصري ليقبل هذا ولا العثمانيون وقد كانوا في موقف المنتصر . وكان للإنجليز بالإضافة لبعض القوات البرية والبحرية في الإسكندرية مسئول عسكري : حتشنسون مقيم في الاسكندرية ومسئول آخر في الجيزة ( رمزي ) وتابعت فرنسا ممارسة الضغوط علي انجلترا لتنسحب من مصر وأرسلت مبعوثاً خاصاً (سبستياني ) لمصر ليشرف علي خروج الانجليز من مصر وفقاً لنصوص معاهدة أميان ، ومن الواضح ان التوازنات الدقيقة في أوروبا ، والحروب المتصاعدة بين انجلترا وفرنسا كانت عاملاً أساسياً في عدم زيادة عدد القوات البريطانية في مصر وعدم الاحلال الفوري للاحتلال الإنجليزي . ولم يكن الانجليز غافلين عن يقظة الشعب المصري , أو الصحوة العثمانية ولم يكن من السهل إهدار تحسن العلاقات مع السلطان العثماني فورا ، بعد كل هذا التعاون معه ضد فرنسا .
وأخيراً في أواخر عام 1802 م أصبحت مصر خالية من القوات البريطانية بعد خلوها من القوات الفرنسية .
ولكن الخطط الاستعمارية لاتعرف الخواطر أو الشرف أو العواطف فقد أضمرت انجلترا خطتها لاحتلال مصر في اسرع وقت ممكن . وكان الإنجليز قد بدأوا خلال وجودهم في مصر في توطيد علاقتهم مع المماليك في إطار التعاون المشترك ضد الغزو الفرنسي . وعندما رحلت القوات البريطانية أخذت معها الألفي بك زعيم المماليك ، وفي لندره (لندن ) تم الاتفاق التفصيلي علي التعاون بين المماليك والانجليز لاحتلال مصر عندما تعود القوات البريطانية في وقت قريب لمصر . وبعد انهاء الاتفاقات عاد الألفي من انجلترا بعد عدة شهور . وأدرك محمد علي قائد قوات الأرنؤود (الألبان) أن الألفي لاشك قام بأمور مريبة مع الانجليز . فقد خرج معهم علناً وليس في هذا أي نوع من التصرف الوطني أو الإسلامي . واتفق محمد علي مع عثمان البرديسي ( خليفة الألفي في زعامة المماليك ) علي الخلاص من الألفي ، وحدث اشتباك معه وكادوا أن يقتلوه ولكنه هرب بأعجوبة واختفي في مكان ما في مصر في انتظار الإنجليز !
وقبل الحديث عن تولي محمد علي الحكم وماذا فعل بعد ذلك ! أريد أن أكمل قصة الانجليز ، حيث كانوا متعجلين –・رغم انسحابهم –・السيطرة علي مصر .
بعد تولي محمد علي الحكم وصدور الفرمان المؤذن بتوليته ، ظلت انجلترا تسعي بمختلف الوسائل لترد السلطة إلي محمد بك الألفي ، وكان دبلوماسيوها في الآستانة لا يفتأون يسعون لدي الباب العالي في إسناد حكم مصر إليه ، بينما يقوم قناصلها في مصر بمد المماليك بالمعونة ويحركون الطمع في نفوسهم ويلقون في روعهم أن انجلترا لاتدع صنائعها ولاتتخلي عنهم وانها لابد محققة آمالهم . والمماليك من ناحيتهم كانوا يجمعون جمعهم ليحاربوا الوالي الجديد . فقد أرسلت الآستانة عمارة حربية أي قوة بحرية بقيادة قبطان باشا / عبد الله رامز إلي الإسكندرية ليدرس الموقف هل يثبت الوالي خورشيد ؟ أم يوافق علي المبايعة الشعبية لمحمد علي ؟ وقد كان معه فرمانان ليظهر أحدهما حسب تقديره ! رغم ان الآستانة كانت قد أرسلت موافقتها سابقاً علي محمد علي رضوخاً للإرادة الشعبية ولكنها كانت لاتزال مترددة فتم ارسال هذه العمارة تحت إدعاء أنها جاءت لعزل خورشيد وإنزاله من القلعة . ولكن هذا لم يكن يستدع ارسال عمارة بها 2500 جندي لأن الشعب هو الذي رشح محمد علي أصلاً !
ولذلك فرغم إنهاء مسألة خورشيد إلا أن العمارة البحرية ظلت تراقب الموقف لفترة من الزمن ولم تترك الاسكندرية ، وقد راسل محمد بك الألفي زعيم المماليك قبطان باشا وعرض عليه أن ينحاز بقواته إلي سلحدار خورشيد باشا ( القوة العسكرية الخاصة به ) الذي كان لم يزل بالجيزة يناوئ محمد علي , وأن ينضموا جميعاً إلي الجنود الذين جاء بهم قبطان باشا , ويزحفوا علي القاهرة لينتزعوها من محمد علي ويطردوا الجنود الأرناؤد من البلاد .
وتردد علي قبطان باشا أثناء مقامه في أبى قير رسل الإنجليز وأيدوا مطالب محمد بك الألفي وسعوا في اقناعه بإسناد ولاية مصر إليه ، وحسنوا له ذلك الأمر ، زاعمين أن المماليك هم وحدهم القادرون علي حكمها وإعادة الأمن والنظام في ربوعها ، وإن بقاء محمد علي في كرسي الولاية يجدد الفتن ويستفز المماليك إلي استئناف الحرب والقتال ويحفزهم إلي الزحف علي القاهرة لاسترداد سلطتهم القديمة ، فيضطرب حبل الأمن . ولم يكتف رسل الانجليز بتأييد صنائعهم المماليك بل كشفوا أن الحكومة الإنجليزية قد تضطر إلي تجريد جيش علي مصر لتحقيق ذلك وهذا ماحدث بالفعل بعد عامين :1807 م { عصر محمد علي –・عبد الرحمن الرافعي –・الهيئة المصرية العامة للكتاب –・مكتبة الأسرة -2000} وأرجو أن نضع هذه المعلومات ومايتلوها عن مماليك ذلك الزمان في أذهاننا ولا ننساها حتي نصل لمذبحة القلعة عام 1811 م .
وبالفعل دبر المماليك الهجوم علي القاهرة ( كما هدد الانجليز وهذا مايوضح مستوي التنسيق بين الطرفين) لإسقاط محمد علي في اغسطس 1805م . بعد شهرين من تولي محمد علي للحكم ، وقد عجلوا بالهجوم في ظل وجود العمارة العثمانية بالاسكندرية ، ليشهد قبطان باشا بعينه قوة المماليك وشدة بأسهم فينحاز إلي جانبهم ويولي واحداً من زعمائهم حكم مصر . هجم المماليك علي القاهرة في قوة تبلغ ألف مسلح واتصلوا اثناء وجودهم بعمر مكرم والشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر ولكنهما رفضا التجاوب معهم ، مما أشعرهم بالفشل فانسحبوا وقتل منهم العديد خلال انسحابهم علي يد جند محمد علي ( حوالي مائة قتيل ) وعلق الجبرتي علي هذا الحدث بقوله : {ولم يتفق للأمراء المصرية ( المماليك ) أقبح ولا أشنع من هذه الحادثة وطبع الله علي قلوبهم وأعمي أبصارهم وغل أيديهم } . واستغل محمد علي هذه الأحداث واستولي علي الجيزة التي كانت ماتزال تحت سيطرة المماليك . ولم يعد قبطان باشا يتردد إلي أي الفريقين ينضم إليه ، ورأي أن محمد علي باشا هو الأحق بالتأييد لأن الشعب والقوة بجانبه واعتزم أن ينقلب إلي الآستانة فرحل عن البلاد في اكتوبر 1805 م ومعه خورشيد باشا الوالي المخلوع .
وأواصل الحديث عن المماليك من زاوية ارتباطهم بالمخطط الإنجليزي للعودة إلي احتلال مصر ، فقد قرر محمد علي تجريد جيش لمحاربة محمد بك الألفي في الصعيد في ابريل 1806 م ، بعد فشل محاولات الألفي في الإتصال بعمر مكرم لطلب وساطته عند محمد علي وشفاعته لديه ليصفو له وللأمراء المماليك وتنتهي الحرب بينهم علي أن يقطعهم جهة يقومون بها ويستغلونها ولكن محمد علي –・كما يقول عبد الرحمن الرافعي –・كان أبعد نظراً من أن يطمئن لخصومه الألداء وانسحب الألفي بك إلي الفيوم يعد العدة للقتال ، واعتزم محمد علي أن يزحف عليه ليستخلص الوجه القبلي من سلطة المماليك .
وكان المماليك يسيطرون علي الفيوم وأسيوط وإسنا والمسافة الواقعة بين اسيوط والمنيا . وانتصر الألفي علي قوات محمد علي في جنوب الجيزة وواصل الألفي زحفه إلي الجيزة ومنها سافر شمالاً إلي البحيرة حتي يكون قريباً من الأسكندرية لأنه ينتظر مجئ الإنجليز بين لحظة وأخري , بينما ظلت قوات مملوكية تحاصر حامية محمد علي في المنيا .
تعاون عثماني –・انجليزي ضد محمد علي :
توقفت الحرب في الصعيد ضد المماليك ، لأن محمد علي كان يواجه طامة كبري ، فالعثمانيون وكأنهم لاينامون الليل حتي يطيحوا بمحمد علي رغم أنه الحاكم الوحيد في الامبراطورية الذي جاء بإرادة الشعب ، بل بسبب هذا بالتحديد ، فهم لا يريدون أن تفرض الشعوب الولاة  لأن نوايا وخطط محمد علي الاستقلالية لم تظهر بعد وربما لم تتكون بعد في ذهنه ، فالحكم لم يستتب له بعد . ووصل الأمر بالعثمانيين وكان يحكم السلطان سليم الثالث (1798-1807) إلي حد التعاون مع الإنجليز والمماليك للإطاحة السريعة بمحمد علي . ورأينا كيف تلكأوا مع خورشيد باشا , وارسالهم لعمارة بحرية ، وأيضاً اصدار أمر لمحمد علي ليتولي إمارة جدة ( ولكنه رفض ) . وفي العام التالي مباشرة 1806 م يصدرون فرماناً جديداً بتقليد محمد علي ولاية سلانيك وهي في اليونان وتعد ثاني أكبر مدينة في الدولة العثمانية وكل هذا لإغراء محمد علي بالموافقة . فالمطلوب هو الفصل السريع بين محمد علي ومصر المهمة، وبين محمد علي والشعب المصري وزعاماته حيث أصبحوا معاً قوة واضحة تنبئ بالاستقلال . فبدلاً من ادراك الجانب الإيجابي لذلك ، أي بدلاً من اقامة علاقة خاصة مع محمد علي ليكون ركيزة الدولة في المنطقة العربية وأن يكفوا عن الفكرة السخيفة بأن يكون الوالي مدته سنتان ( مع ان محمد علي مازال لم يكمل سنتين !! ) واصلوا محاولاتهم إلي إقصائه إلي حد التعاون مع الانجليز وهي السياسة التي أدت في النهاية لتمكين الانجليز من مصر ومن القضاء علي الدولة العثمانية بأسرها . ولاشك أننا نتحدث الآن عن مرحلة أفول الدولة العثمانية وهي مرحلة استمرت قرناً بأكمله ( القرن 19 ) . وهذه قصة سلانيك !
استمر شهر العسل بين الدولة العثمانية والانجليز منذ ايام الحملة الفرنسية . وكلما قوي ساعد انجلترا في اوروبا أصبحت مسموعة أكثر في الآستانة . وفي عام 1805 م وبعد هزيمة الفرنسيين في مصر التي شارك فيها الأسطول البريطاني ، انتصرت انجلترا علي فرنسا في معركة ( الطرف الأغر ) البحرية . انتصر الأميرال نلسون ( الذي حاصر الفرنسيين في مصر ) علي الأسطول الفرنسي وأكدت انجلترا مجدداً سيادتها علي ظهر البحار ( وبالتالي علي العالم كما اكرر دائماً) فصار البحر المتوسط انجليزياً وأصبح لها اليد العليا في الشرق خاصة علي ضفاف البسفور. وكانت سياستها في مصر هي السيطرة عبرالمماليك بدلاً من الاحتلال السافر وأرادت ان تحقق ذلك من خلال استمالة الباب العالي عن طريق وسوسة سفيرها بالآستانة الذي كان يركز علي ضرورة عزل محمد علي وإسناد الحكم إلي محمد بك الألفي ، ودائماً ماتفلح وسوسة الشيطان إذا وجدت هوي عند المتلقي . وكان الألفي علي اتصال مستمر بعمال ( أي الممثلين الدبلوماسيين ) الانجليز يتبادل وإياهم الرسائل والرسل ليتخذ انجلترا شفيعة بل حامية وكفيلة له لدي الباب العالي . وتوصلت انجلترا لفكرة أكثر ذكاءً ، أي إقناع الحكومة التركية بتعيين والي جديد بدلا من محمد علي يكون من طراز الولاة الأتراك الأقدمين الذين كانوا يتركون سلطة الحكم للأمراء المماليك  ( أي لم يتمسك الإنجليز بأن يكون الألفي هو الوالي مباشرة ! حتي لايقلق العثمانيون ) .
ولكنهم أكدوا بأن الألفي كقائد للمماليك يتعهد بأداء جزية سنوية مقدارها 1500 كيس (ثلاثة أرباع مليون قرش ) تضمن الحكومة الانجليزية إيفاءها مع خضوع الأمراء لأوامر الآستانة ، مع توسع المعاملات التجارية بين انجلترا والدولة العثمانية بما يعود بالنفع علي رسوم جمارك مصر وسوريا لصالح خزانة الآستانة . فاقتنع العثمانيون لأنهم كانوا قلقين من هذه السابقة ” الخطيرة ” أن يختار الشعب واليه ( حاكمه ) !
وبالتالي صدر فرمان بتولية موسي باشا لمصر وتقليد محمد علي ولاية سلانيك . وهذه هي المحاولة العثمانية الثالثة للإطاحة بمحمد علي خلال شهور قليلة .
وكان من المفترض أن يكون موسي مجرد أداة في يد المماليك كعادة الولاة طوال القرن 18 م وصدر قرار بالغ الخطورة وهو السماح للمماليك بشراء أفواج الرقيق من جنسهم وجلبهم إلي مصر ورفع الحظر الذي كان مضروباً عليهم في هذا الصدد فيعودون إلي قديم قوتهم الحربية ، وبذلك تحكم انجلترا من خلالهم. وإن كان العثمانيين يستهدفون استمرار نفوذهم بالطريقة القديمة .و هكذا تعود مصر إلي حالة الجمود والتخلف الحضاري الذي كان قائماً قبل مجئ الحملة الفرنسية ، وهذا ضرب من العبث ، ولكن نجاح مشروع محمد علي أفشل هذه الخطة الخبيثة .
أنفذت الحكومة التركية عمارة بحرية جديدة بقيادة قبودان صالح باشا لتثبيت موسي ونقل محمد علي . وكان الألفي قد أطلع من قبل علي مفاوضات الإنجليز والباب العالي ووقف عليها من قناصل انجلترا في مصر ، وهذا هو السبب الذي دعاه –・كما ذكرنا –・إلي التحرك من الفيوم قاصداً الوجه البحري ، حتي يلتقي القبودان صالح باشا أو الانجليز أيهما أقرب ؟! وكلاهما أصبحا جبهة واحدة . فلما وصل إلي قرب دمنهور علم بوصول العمارة العثمانية وكان ذلك في أول يونيو 1806 م فابتهج لهذا النبأ ابتهاجاً عظيماً كما يقول المؤرخون . وكانت العمارة من أربع بوارج وفرقاطتين وسفينتين أخريين وبها قوات برية قوامها 3 آلاف مقاتل أي أن استخدام القوة كان وارداً . وفي بلدة حوش عيسي ( وهي معروفة بهذا الإسم حتي الآن ) التقي الألفي برسل الترك والانجليز وهنأوه بقرب تحقيق آماله . وهذا ما أكده الجبرتي , وشهادته مهمة لأنه كان فيما بعد معارضاً لمحمد علي , (وردت سعاة من الاسكندرية وأخبروا بورود أربعة مراكب وفيها عساكر من النظام الجديد وصحبتهم رسل وبعض الشخصيات من الإنكليز ومعهم مكاتبة خطاباً إلي الألفي وبشارة بالرضا والعفو للأمراء المصرية ( المماليك ) من الدولة العثمانية بشفاعة الانكليز فلما وصلوا إليه بناحية حوش ابن عيسي بالبحيرة سر بقدومهم ، وعمل لهم شنكا ( إطلاق أعيرة نارية من البنادق في الهواء ) وضرب لهم مدافع كثيرة ، وأرسلهم إلي الأمراء القبليين ( المماليك بالصعيد ) وصحبتهم أحد سناجقه وهو أمين بك ومحمد كاشف تابع ابراهيم بك الكبير , ثم إنه أرسل عدة مكاتبات بذلك الخبر إلي المشايخ وغيرهم بمصر وكذلك إلي مشايخ العربان مثل الحويطات والعائد وشيخ الجزيرة ) بالمناسبة قبيلة الحويطات في جنوب الأردن وقد كان لها أدوار مخرية فيما سمي الثورة العربية أيام الشريف حسين ضد الدولة العثمانية ومع الانجليز 1916 م فلزم أن نحيطكم بـ “الحويطات” !!
  ويضيف الجبرتي في موضع آخر : { وكان ( محمد بك الألفي ) مع ماهو فيه من التنقلات والحروب يراسل الدولة والانجليز ، وأرسل أمين بك إلي الانكليز فسعوا مع الدولة لمساعدته وحضروا إليه بمطلوبه فعمل لهم بحوش ابن عيسي شنكا وأرسلهم مع أمين بك إلي الأمراء القبليين }
إذاً لم تكن المسألة إبدال والي بآخر , بل هي دسيسة إنجليزية –・تركية حيكت شباكها في الآستانة بقصد إعادة المماليك إلي حكم مصر وبسط النفوذ الإنجليزي عليها .
وتظاهر محمد علي بالقبول ولكنه قال ان الجنود يعارضون في رحيله قبل أن تؤدي رواتبهم المتأخرة ! وكان يكسب الوقت ليدرس مقاومة هذا القرار مع عمر مكرم .
الشعب المصري العظيم مرة أخري:
  الشعب المصري العظيم الذي قاوم الإحتلال الفرنسي 3 سنوات ثم قام بثلاث ثورات مجيدة ضد الولاة العثمانيين الظلمة من 1801-1805 م , هذا الشعب هو الذي أفشل المؤامرة في مهدها . فعندما اعتزم الألفي عندما وصلت العمارة التركية إلي الأسكندرية أن يستقر في دمنهور ليتخذها مركزاً يجمع فيه قواته ويدير خططه ، فأعلنهم بقدوم العمارة التركية ووصول فرمان يقلده حكم مصر ( لم يذكر لهم حكاية موسي إلا كوالي شكلي ) لكن الأهالي رفضوا التسليم وأعدوا لمقاومته والامتناع في المدينة وأرسلوا إلي السيد عمر مكرم ( لاحظ أنهم بادروا أولاً بدون استشارة ثم ارسلوا لعمر مكرم ) ينبئونه بالخبر ، وضرب الألفي حصارا حول دمنهور لإكراههم علي التسليم . واجتمع العلماء ورفعوا عريضة رسمية للسلطان يقولون فيها إنهم لايقبلون عودة حكم المماليك ويريدون حكم محمد علي مع التأكيد علي ولائهم للسدة السلطانية . وارسل قبطان باشا رسالة إلي العلماء للإمتثال للفرمان السلطاني والذي كان يتضمن رحيل الجنود الأرناءود مع محمد علي , ولكنهم لم يستجيبوا له . وبدأ محمد علي بمد القلعة بالميرة والذخيرة وحصن الطوابي المحيطة بالقاهرة واستدعي قوات من الصعيد مع تأييد شعبي عارم له لعمق كراهية الناس لعودة تسلط المماليك علي أرواحهم وأموالهم ومزروعاتهم . وأرسل محمد علي رسولاً من ابنائه إلي السدة السلطانية ومعه 2000 كيس . ولكن الأستانة أرسلت تفوض قبطان باشا في التصرف وهو بالاسكندرية وفقاً لموازين القوي. 
وحدثت أول موقعة بين قوات محمد علي وقوات الألفي في البحيرة وانتهت بهزيمة مرة لقوات محمد علي حيث خسروا نحو 600 بين قتيل وأسير واستولي المماليك علي الرحمانية . وارسل الألفي رؤوس القتلي والأسري إلي القبودان (صالح باشا) ليؤكد له أنه الأقوي . وتشجع الألفي بهذا الإنتصار وعاود محاصرة دمنهور فدافع أهلها دفاعاً مجيداً مدة شهرين وذلك بالإعتماد علي قواهم الذاتية ( أي بدون أي نجدة من القاهرة ) , واسأنف حصاره مجهزاً هذه المرة بالمدافع الكثيرة التي يقوم عليها رماة من الأروام والإيطاليين أمده بهم الإنجليز . ولكن الألفي عجز عن قهرهم ، حتي وصلتهم الذخيرة والميرة من القاهرة . يأسرني هذا الشعب الذي طالما تتطاول عليه نخبة المثقفين ولذلك أتوقف عند شهادة الأجانب.

قال المؤرخ الغربي فولابل في كتابه مصر الحديثة : {يمكن اعتبار دفاع دمنهور ذلك الدفاع الذي جمع بين الشجاعة والثبات وكذلك تخاذل رؤساء المماليك ، من أهم أسباب إحباط خطة الباب العالي والإنجليز{ ويقول المسيوجومار الفرنسي } إن أهالي دمنهور قد اظهروا مثل هذه الشجاعة والمثابرة أثناء الحملة الفرنسية ، في ظروف تختلف عن الظروف التي قاوموا فيها قوات الألفي مما يدل علي مافطروا عليه من الشجاعة } . المرجع : مانجان .تاريخ مصر في حكم محمد علي .
وساعد علي إنهيارالمماليك الشقاق الدائم بينهم ، وهذا ديدنهم خاصة في مراحل انحطاطهم فهي نخبة انتهي عمرها الافتراضي منذ أيام آخر حاكم مملوكي محترم ( الناصر قلاوون وابنه أشرف ) فقد شق علي البرديسي أن الألفي يتصل وحده بالإنجليز ، وكان –・أي البرديسي من أنصار الإلتجاء إلي فرنسا (!!) وكذلك كانت قيادة المماليك الأخري تنفث علي الألفي طموحه الفردي للزعامة . فقرر صالح باشا –・وفقاً للتفويض –・تثبيت محمد علي والرحيل بعد أخذ هدايا وأموال لنفسه ( !! )
ولكن حدث أمر عجيب لايحدث إلا بين الأعداء , ففي حين أعلن محمد علي التزامه بدفع 4 ألاف كيس للباب العالي ، أخذ صالح باشا معه ابراهيم بك ابن محمد علي ليكون رهينة بالآستانة لضمان دفع هذا المبلغ بصورة دورية ، وقد استمر كذلك حتي آواخر عام 1807 م (!!)
تلي ذلك صدور فرمان بتثبيت محمد علي والياً ، وفرمان آخر يأمره بتسفير المحمل ( موسم الحج ) وإرسال القمح المطلوب إلي جدة ! ( نوفمبر 1806 )
الألفي يواصل الخيانة :
استمر الألفي يتصل بقنصل انجلترا في مصر يطلب من دولته النجدة والمدد ، بعد تخلي الدولة العثمانية عنه . وتدهورت العلاقات بين انجلترا وتركيا ، وقررت انجلترا احتلال مصر بصورة مباشرة ، وأنبأ قنصل انجلترا الألفي  بقرب وصول العمارة الإنجليزية ، فعاد الألفي لمحاصرة دمنهور ليستولي عليها ولكن مقاومة الأهالي ظلت صلبة كما هي وأصاب جنوده التعب والحر ونفذت مؤونتهم وتمردوا عليه ! , بينما كان ينتظر النجدة الإنجليزية . ثم اضطر للإنسحاب بما تبقي معه من جنود إلي الصعيد وكان جيشه الذي يتجاوز 7 آلاف من العربان ، والمماليك والترك والنوبيين لا يمر –・وهو في طريقه للصعيد –・ببلدة إلا أباحها لجيشه نهباً وسلباً وكأنهم جيش من أسوأ جيوش الغزاة الأجانب . وعندما وصل شبرامنت وافته المنية ، حيث مات كمداً واستراحت منه البشر والشجر والحجر (وعمره 55 عاما , وهو ليس عمراً كبيراً ولكن اذكره للعبرة .. فماذا حقق في دنياه القصيرة وماذا سيجني في الآخرة ) ولكن مع الأسف فإن الخونة لايتعظون لأنهم لا يقرأون التاريخ ومن أقدار الله التي كانت واضحة (كل الأمور بقدر الله ، ولكن هناك أمور تكون مواقيتها عجيبة ) موت البرديسي أيضاً وكان مرشحاً لخلافة الألفي وعندما مات الألفي كان الأسطول البريطاني يمخر عباب البحر ليصل إلي مصر وكان الإنجليز يعتمدون علي الألفي كنصير ومساعد داخلي وقد وصلت هذه الحملة إلي الإسكندرية بعد موته بنحو أربعين يوماً ولم يكونوا قد عرفوا بالطبع بهذا النبأ السيء ! وقد يكون موته من اسباب إخفاق تلك الحملة .
لم تكن في ذلك الوقت وكالات أنباء أو فضائيات ناهيك عن الإنترنت فلم يعرف محمد علي ان الجيش الإنجليزي في الطريق إليه ، فما كاد يشفي من مرض الكوليرا الذي اصيب به حتي قام بنفسه بحملة علي المماليك في الصعيد بقوة من 6 آلاف مقاتل وفارس و800 مركب , وهزمهم في أسيوط واحتل المدينة ، واتخذ معسكره فيها ، وهناك تلقي أخبار الحملة الإنجليزية التي وصلت بالفعل إلي الأسكندرية .
لقد دقت ساعة العمل الإستعماري الحديث وهو إمتداد طبيعي للحروب الصليبية ولكن بشعارات مختلفة وفي ظروف مختلفة وهي تنامي الفجوة التكنولوجية والحضارية لصالح أوروبا ، وأفول نجم الدولة العثمانية أصبح واضحاً في مقابل رسوخ أقدام الثورة الصناعية في انجلترا وفرنسا ، وهذا لايقدم أي مبرر أخلاقي أو تاريخي لاحتلالنا ولكن هذه سنة الحياة الأقوى يسيطر علي العالم وهو لايمكن أن يسيطر علي العالم بدون السيطرة علي مركز العالم ، الشرق العربى ، الذي سموه المسألة الشرقية قبل أن يسموه بعد ذلك ( الشرق الأوسط ) . كانت الحرب طاحنة بين القوتين الأعظم : انجلترا –・فرنسا في كل مكان في العالم ولكن خاصة في أوروبا والشرق العربي . ولم تكن انجلترا تريد أي فراغ استراتيجي في الشرق الأوسط لأن هذا يعني بروز قوة عربية اسلامية . وبعين فاحصة رأى الإنجليز ان هذا الحاكم الطموح ( محمد علي ) ذا الثلاثين عاماً عندما وصل لمصر وأصبح الآن في الخامسة والثلاثين ، هذا الحاكم الطموح المستند لشعب مصر والذي يتعامل بندية مع الدولة العثمانية منذ اليوم الأول ، رغم إنه لم يكن منذ قليل إلا مجرد جندي أو ضابط في الجيش العثماني ، بعين فاحصة بل عبر محاولات للاتصال به لم تسفر عن أي استجابة منه ، رأوا ضرورة التخلص منه ، والإسراع باحتلال مصر لتصبح كل الخطوط متصلة وتحت السيطرة الإنجليزية من انجلترا حتي الشرق حتي الهند والشرق الأقصي ( الصين ) .

>
– 2 –
المصريون قتلوا 586 إنجليزياً وأسروا 770 في رشيد

النصاري والأروام والشوام هبوا لحفر الخنادق حول القاهرة
والمغاربة والأتراك والصعايدة وأولاد البلد توجهوا إلي رشيد
أهالي رشيد التحموا بأيديهم مع عساكر الإنجليز فأرهبوهم
لماذا كان محمد علي حاكماً مصرياً صميماً ؟

كانت الأحداث متلاحقة في مصر بصورة سريعة فلم يكد يأتي فرمان سلطاني بتثبيت محمد علي والياً في نوفمبر 1806 م حتي تحركت العمارة الإنجليزية في فبراير 1807 م ووصلت الأسكندرية في مارس 1807 م , رأي الإنجليز أنها فرصة العمر لإختطاف مصر درة الشرق خاصة بعد الهزيمة المرة للأسطول الفرنسي أمام الإنجليزي في ” الطرف الأغر ” 1805 م ، مع الضعف العثماني ، والتعاون المملوكي معهم بقيادة محمد بك الألفي . وتدهورت العلاقات بين تركيا وانجلترا ، بسبب التقارب التركي مع فرنسا . ووصل الأمر إلي حد إعلان الحرب بين تركيا وانجلترا ، ودخل الأسطول الإنجليزي بوغاز الدردنيل ثم رأت انجلترا أن تضرب الدولة العثمانية في مصر محققة في ذات الوقت خطتها في الشرق .
كانت الحملة الإنجليزية بقيادة الجنرال فريزر معتمدة إلي حد كبير علي إتفاقها مع الألفي ، وبالتالي لم تحشد قوات ضخمة كانت في حاجة لها في معارك أوروبا مع فرنسا والتي ستتواصل حتي 1815م ( معركة ووترلو التي هزم فيها نابليون ) .
والواقع إن عدم وجود وكالات أنباء أو فضائيات فضلاً عن الإنترنت حجب المعلومات عن محمد علي الذي كان يقاتل المماليك في أعماق الصعيد ( أسيوط ) , ولكن القاهرة كانت قد وردتها رسائل من الآستانة تنذر بتحرك الحملة الإنجليزية صوب مصر ، ويقول الجبرتي في فبراير 1807 م :
{شرع أهل الأسكندرية في تحصين قلاعها وأبراجها وكذلك أبو قير وأمر كتخدا بك نائب محمد علي ببناء قلعة في البرلس}.
وسنري صفحة مجيدة أخري للشعب المصري بالتواصل مع الثورات ضد الفرنسيين والولاة الظلمة ، فأعلن العلماء بقيادة عمر مكرم الجهاد في سبيل الله وفتح باب التطوع وتم نشر هذه الدعوة عبر الخطب في المساجد في عموم مصر خاصة في القاهرة . ويروي السفير الفرنسي في مصر عن هذه اللحظة فيقول : (كان عمر مكرم يذهب صبيحة كل يوم لإقامة الإستحكمات والخنادق حول القاهرة وملئ هذه الخنادق بالمياه ، وكانت جموع الجماهير تتبعه وتعمل في حفر هذه الخنادق ، ويبقي عمر مكرم النهار كله في خيمة أعدت له ليتابع أعمال البناء والحفر يثير الحماسة والشجاعة في نفوس المصريين) ويؤكد الجبرتي أن (عمر مكرم أمر الدارسين بترك الدروس ، بل أمر العلماء بذلك).
الله أكبر فهذا واجب الوقت : التصدي لغزو الكفار من ملة أخري غير ملة الفرنسيس وعندما وصلت العمارة الإنجليزية في الأول من مارس 1807 م أرسلت عبر قنصل إنجلترا في مصر رسائل إلي البكوات المماليك في الصعيد ، وكانت سفينة واحدة في البداية للإستطلاع ولإخبار المماليك للإستعداد ، بينما وصلت العمارة كاملة في 15 مارس ، وعندما علموا بموت الألفي أسقط في يدهم ولكن ماكان لهم أن يرجعوا بل عولوا علي قيادات المماليك الأخري ، ولم يكن في الحملة الإنجليزية سوي 6 آلاف مقاتل ( لاحظ أن الحملة الفرنسية كانت تضم 35 ألف ولكن الإنجليز كان يعتمدون علي المماليك ) . وكان محافظ الأسكندرية أمين أغا (كانت الأسكندرية تتبع الآستانة مباشرة ولها حاكم خاص يعين من خلالها وسبحان الله فقد كان هذا هو وضع الأسكندرية في عهد الإمبراطورية الرومانية ) . المهم أن المحافظ العثماني وهو ضابط سلم الأسكندرية بدون قتال ، سلم نفسه كأسير حرب ومعه 300 مقاتل لم يطلقوا طلقة واحدة علي الإنجليز . وقارن بينه وبين أهالي رشيد، وبينه وبين محمد كريم حاكم الأسكندرية الوطني الذي قاوم الفرنسيس ، ولم يكن تابعاً للدولة العثمانية ، وإنما تولي منصب المحافظ بمناسبة وجود الحملة الفرنسية ولكنه نظم المقاومة الشعبية ضدها . وكل هذه دلائل علي الحالة العثمانية في ذلك الوقت ، ولاحظ أن الآستانة التي أرسلت العمارة البحرية أكثر من مرة للضغط علي محمد علي لترك مصر لم ترسل جندياً واحداً للدفاع عن مصر رغم إنه كان لديها بعض الوقت لمعرفتها بالغزو .
عندما وصلت الأنباء لمحمد علي في أسيوط عقد صلحاً مع المماليك ليحكموا الصعيد مقابل دفع خراج الصعيد للقاهرة . وكان موقفاً تكتيكياً من الطرفين . ولم يكد محمد علي ينسحب بقواته إلي القاهرة حتي احتل المماليك عواصم الوجه القبلي وتقدموا إلي الجيزة .
أرسل فريزر 2000 من جنوده لإحتلال رشيد لتكون قاعدة التوغل في مصر إستناداً لفرع رشيد . وكان علي بك السلانكلي محافظ رشيد –・علي خلاف محافظ الأسكندرية رجل شجاع وثاقب النظر ولديه 700 جندي فعزم علي مقاومة الإنجليز بمساعدة الأهالي ووضع خطة ذكية شبيهة بخطة المماليك في المنصورة خلال غزو لويس التاسع لمصر في عهد الملك الصالح ، إذ توارت الحامية والأهالي في البيوت ، وتصورت القوات الإنجليزية أن المدينة قد استسلمت كالأسكندرية ، فلما دخلوها واستراح عساكر الإنجليز من إرهاق السير علي الرمال من الأسكندرية لرشيد وبدأوا في الإسترخاء ، أصدر علي بك أمره بإطلاق النار من النوافذ والسطوح من الأهالي والحامية فقتل قائد القوة الجنرال ويكوب والكثير من ضباطه واستولي الذعر علي نفوس الإنجليز ولاذوا بالفرار إلي أبي قير بعد سقوط 170 قتيلا و250 جريحاً و120 أسيراً .
يقول الجبرتي عندما وصلت الأنباء للقاهرة ( ضربوا مدافع وعملوا شنكا) .
وكان للأهالي الدور الأكبر في المقاومة وقد آثروا عدم طلب المدد من القاهرة لمعرفتهم بسوء سلوك الأرناءود والدلاة ( أكراد من سوريا ) وأخلاط السلطنة العثمانية . وكانت الحامية العثمانية في دمنهور لما بلغتها أنباء احتلال الإنجليز للأسكندرية أخلت دمنهور وانسحبت إلي فوه خاصة بعد مجيئ الهاربين من حامية الأسكندرية . هرب قائد حامية دمنهور ومن معه بسرعة بدون حمل المدافع والأثقال . ثم أرسل في اليوم التالي ليأخذها !! ( وكأن الجبن سيد الأخلاق !)
عيد في القاهرة
أهتم بهذه المشاهد ونحن نعيش في زمن الاستخزاء أمام  أمريكا وإسرائيل لأذكر النخبة بهذه الأمجاد بل التي لايعرفونها فإن حملة فريزر لم تأخذ سوي سطور قليلة في مناهج التاريخ بالمدرسة ( عندما كنت تلميذاً ) .
يقول الجبرتي: (فلما كان يوم الأحد 26 محرم 1222( إبريل 1807 م ) أشيع وصول رءوس القتلي الإنجليز ومن معهم من الأسري إلي بولاق فهرع الناس إلي الذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم إلي ساحل بولاق ( في إطار موكب ) ودخلوا من باب النصر وشقوا بهم من وسط المدينة وفيهم فسيال ( ضابط ) كبير وآخر كبير في السن وهما راكبان علي حمارين والبقية مشاة في وسط العسكر ورءوس القتلي معهم علي نبابيت وعدتها أربعة عشر رأساً والأحياء خمسة وعشرون ولم يزالوا سائرين بهم إلي بركة الأزبكية وضربوا عند وصولهم شنكا ومدافع وطلعوا بالأحياء إلي القلعة وفي يوم الإثنين وصل أيضاً جملة من الرءوس والأسري إلي بولاق فطلعوا بهم علي الرسم المذكور وعدتهم 121 رأساً و13 أسيراً وفيهم جرحي )
وعن موقف العلماء قال الجبرتي (تكلم العلماء في شأن حادثة الإنكليز والإستعداد لحربهم وقتلهم وطردهم فإنهم ” أعداء الدين والملة ” ويجب أن يكون الناس والعسكر علي حالة الألفة والشفقة والإتحاد وأن تمتنع العساكر عن التعرض للناس ( لاحظ ! ) بالإيذاء كما هو شأنهم وأن يساعد بعضهم بعضاً علي دفع العدو) .
وهكذا نري ان شعار التعبئة كان كوقت الحملة الفرنسية ، واجتماع الأمة لمواجهة الكفار وأعداء الدين والملة ولم يتحدثوا عن الأجانب أو القوات الدولية أو العولمة أو الإستعانة بالأجنبي لتحرير الكويت ( أقصد الإستعانة بالإنجليز للخلاص من المماليك أو العثمانيين ) رغم ما ورد في حديثهم أي العلماء عن جرائم العسكر ، فهذا موضوع تحله الأمة داخلها وهذا ماحدث بعد ذلك في مذبحة القلعة للخلاص من الورم السرطاني للمماليك ، وفي قرار بناء الجيش المصري من أبناء البلد كما سنأتي ، وما حدث بالفعل من رفض الولاة العثمانيين الفاشلين .
ولتأكيد ارتباط الناس بالأماكن أقول إن التحصينات الرئيسية التي قام بها العلماء ولحماية القاهرة كانت في باب الحديد ، وهو مانسميه الآن ميدان رمسيس أو حتي باب الحديد وكان في ذلك الوقت منطقة زراعية متصلة بالنيل وعلي مقربة من حي السبتية الحالي ، وقد شارك في حفر الخندق في هذا المكان {أهل بولاق ونصاري ديوان المكس ( الجمرك ) والنصاري والأروام والشوام والأقباط واشتروا المقاطف والغلقان والفوس والقزم وآلات الحفر وشرعوا في بناء حائط مستدير بأسفل تل قلعة السبتية} الجبرتي .
ولما استنجد أهالي رشيد بالعلماء لا بالعسكر لإرسال تعزيزات ، جمع عمر مكرم المتطوعين ، ولما طلب كتخدا بك نائب الباشا انتظار محمد علي حتي يأتي من الصعيد ، لم يسألوا عليه وأرسلوا المتطوعين لأنه لايوجد استئذان في الجهاد . وكذلك تطوع أهالي البحيرة وزحفوا إلي رشيد .
ويوضح الجبرتي نوعية المتطوعين من القاهرة يقول إنه كان منهم (طائفة من المغاربة وأتراك خان الخليلي وكثيراً من العدوية والأسيوطية وأولاد البلد).
وصل محمد علي من الصعيد في 12 إبريل 1807 م وتابع كمحترف أعمال الخندق حول القاهرة وربطها بالنيل لتمتلئ بالمياه لإعاقة الجيش الإنجليزي وأغرق عدة مراكب بين جزيرة بولاق والشاطئ لمنع مرور السفن الإنجليزية في النيل إذا جاءت من رشيد ، ونصب بطاريات المدافع، وأرسل 5500 من الجنود والفرسان إلي رشيد .
وكان الإنجليز قد طوقوا رشيد من الجنوب في ( الحماد ) واحتلوا آكام أبي مندور ووضعوا عليها المدافع لضرب رشيد التي أصبحت محاصرة من الجنوب والغرب . وتصور الانجليز أن قصف هذه البلدة الصغيرة بالقنابل سيركعها ، ولكن هيهات فقد كانت المعنويات في السماء كما يقال ، ورغم قصفها بـ 300 قنبلة من العيار الثقيل حيث تهدمت كثير من البيوت واستشهد أعداد كبيرة من الأهالي إلا أنهم لم يستسلموا ولم يسلموا المدينة . بل كانوا يخرجون من المدينة من آن لأخر لمناوشة الإنجليز ، واستمر القصف 12 يوماً دون طائل حتي لقد ارسل قائد القوة المهاجمة الجنرال ستيوارت إلي قائد الحملة الجنرال فريزر يقول له : ( إن الأعداء لايكترثون بالمصائب التي تنزل بهم رغم أن قواتهم لاتزيد عن 300 فارس و800 من الآرناؤوط وألف من الأهالي المسلحين ) واضاف : (إن نجاحنا متوقف علي نجدة المماليك)!!
بل نجح المصريون في تركيب مدفعين علي البر الشرقي واخذوا يقصفون ميمنة الجيش الإنجليزي بالبر الغربي في الحماد .
وعندما وصل مدد قوات محمد علي تم اكتساح الإنجليز في الحماد وهي المدخل الوحيد بين المياه إلي رشيد ، بل تمت إبادة القوة الإنجليزية عن بكرة أبيها بين قتيل وأسير ( 416 قتيل و400 أسير) وذلك في 3 ساعات فقط .
وعندما علم الجنرال ستيوارت الذي كان يحاصر مدينة رشيد بهذه النكبة ، قام بإتلاف مدافعه وهرب بقواته سريعاً إلي أبي قير وقام بعض الأهالي بتعقب المنسحبين حتي بحيرة إدكو .
ويروي الجبرتي هذه الصورة الحية للمقاومة الشعبية التي تسلحت بالإيمان والعزة الوطنية في معركة رشيد .. {وكذلك أهل البلاد قويت همتهم وتأهبوا للبروز والمحاربة واشتروا الأسلحة ونادوا علي بعضهم بالجهاد وكثر المتطوعون ونصبوا لهم بيارق وأعلاماً وجمعوا من بعضهم دراهم وصرفوا علي من انضم إليهم من الفقراء ، وخرجوا في مواكب وطبول وزمور ، فلما وصلوا إلي متاريس الإنكليز دهموهم من كل ناحية علي غير قوانين حروبهم وترتيبهم وصرفوا في الحملة عليهم ، وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا برميهم وهجموا عليهم واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتي أبطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك وقبضوا عليهم وذبحوا الكثير منهم وحضروا بالأسري والرءوس علي الصورة المذكورة} وأتوقف عند قوله : {وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتي أبطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم}.
فهذا يذكرنا بمقولة سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه حين كان يحرض جند المؤمنين في معركة القادسية ضد جنود كسري ، يحرضهم علي التكبير( الله أكبر ) فقال لهم : إن الله رزقكم التكبير وخصكم به من دون الأمم ، وبالفعل فقد كان التكبير أحد أهم أسلحة المؤمنين ضد جيوش كسري والتي انتصروا بها عليهم . وهذا يذكرني بما قاله أحد أبطال حرب أكتوبر وهو يصف عبور القوات المصرية إلي سيناء. {كان مشهداً مهيباً ..  كانت صفحة مياه القناة ممتلئة عن آخرها بالجنود في القوارب و هم يهتفون الله أكبر .. لم يكن هؤلاء بشراً !! }
وبالفعل فلقد لعب هتاف ” الله أكبر” دوراً خطيراً في إرباك جنود اليهود داخل قلاعهم المحصنة فكأنهم قد شلت أيديهم ، ولاشك ان هذا المشهد أرعبهم ، وهذا الهتاف أرهبهم ، فكانت خسائر الجيش المصري في العبور مفاجأة كبري من حيث قلة الخسائر . ويروي لي أحد المقاتلين وقد كنت مجنداً في الجيش في ذلك الوقت ولكنني كنت في الصفوف الخلفية حول القاهرة ، وكنت من القوات ( الفرقة الثالثة ) التي تقدمت لمواجهة الثغرة ، روي لي أحد الزملاء المشاركين في العبور إن كثيراً من الجند لم يأبهوا بالتعليمات وعبروا دون أمر ، وبعضهم عبر دون أي احتراز أو احتياط ، وهو مازاد عدد الجنود والقوارب العابرة ، وزاد من رعب الأعداء من المنظر ومن علو صوت هتاف ” الله أكبر ” . وهو نفس ما يصفه الجبرتي عن موقف رشيد { فلما وصلوا إلي ( الأعداء) دهمومهم من كل ناحية علي غير قوانين حروبهم وترتيبهم وصدقوا  في الحملة عليهم وألقوا أنفسهم في النيران ولم يبالوا برميهم وهجموا عليهم واختلطوا بهم وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتي ابطلوا رميهم ونيرانهم فألقوا سلاحهم }
وقد برهنت التقارير ان شبكة أنابيب ضخ النابالم الحارق علي صفحة القناة كانت حقيقة واقعة ضمن تحصينات خط بارليف ، ولكن اليهود شلت أيديهم من هول المفاجأة والاقتحام فلم يستخدموها اصلاً .
وقد وصل الرعب بالإنجليز إلي حد قطع مياه سد أبي قير لتطغى مياه بحيرة أبوقير علي مريوط وتحيط المياه بالأسكندرية من جميع الجهات حتي لايتقدم المقاتلون المصريون من رشيد إليهم .
وأرسل الجنرال فريزر بمندوب ( ضابط ) لمحمد علي طالباً الصلح والإنسحاب ! وتم عقد “معاهدة جلاء الإنجليز عن الأسكندرية وتضمنت وقف القتال وجلاء القوات البريطانية عن الأسكندرية في مدي عشرة أيام وتنسحب من جميع القلاع والإستحكامات والمنشآت وتتركها بالحالة التي هي عليها الآن” وإطلاق سراح أسري الإنجليز –・ووصفت المعاهدة التي وقع عليها الإنجليز محمد علي بأنه  “صاحب العظمة ”  . ( دمنهور 14 سبتمبر 1807 م ) أي بعد احتلال دام 6 شهور لم يتجاوز الشريط الساحلي بين الأسكندرية ورشيد .
وهكذا صد الشعب المصري العدوان ومعه قوات محمد علي وتأجل احتلال بريطانيا لمصر 75 عاماً !!
وكانت هزيمة الإنجليز فرصة لإعادة ضم الأسكندرية للوطن ! بعد أن كانت مدينة تابعة مباشرة للآستانة لاتخضع حتي لسلطة الوالي العثماني علي مصر . ودخل محمد علي الأسكندرية لأول مرة وكان يوماً مشهوداً أطلقت فيه مدافع القلاع والأبراج ابتهاجاً بالحدث السعيد .
وعند هذه اللحظة أعادت الحكومة التركية ابراهيم بك ( باشا ) ابن محمد علي إلي مصر وكان بالآستانة رهينة حتي يؤدي محمد علي الأربعة آلاف كيس التي التزم بأدائها ، وكان قد دفعها بالفعل فأطلقت الحكومة سراحه إعراباً عن ابتهاجها بإنتصار الجيش المصري !!
محمد علي .. مصرياً
كانت حياة محمد علي سلسلة لاتنتهي من التحديات ، وسلسلة لاتنتهي من الإستجابات العنيدة لهذه التحديات . لم يمر عليه يوم سهلاً ميسوراً ، وكان رجل الصعوبات وإلا لانزوي ذكره مبكراً ، وكان يمكنه أن يكون والياً تقليدياً لمصر أو انكشارياً تقليدياً للدولة العثمانية العظمى ، وينضم لطابور لا متناهي من الأسماء في هذا المجال . ولكن هذا الشخص الأمي الذي لايعرف القراءة والكتابة ، ويقال أنه بدأ تعلمها في سن الأربعين أي بعد وصوله لمصر بـ 10 سنوات أي عام 1811 م ، هذا الأمي كان شخصاً ذكياً لماحاً يتسم بقدرة فائقة علي استشراف الواقع السياسي –・الإقتصادي .
كان محمد علي قد  ابتلي بمصيبتين في مصر : المماليك ” وقواته هو ” التي جاء قائداً لها : الأرناءوط هودلر في قولة وهي من أعمال اليونان ، ولكنه ألباني الأصل ، وكانت قواته ألبانية ، والألبان يطلق عليهم الأرناءود . وقد استولت الدولة العثمانية في وقت مبكر علي ألبانيا واليونان وانتشر الإسلام في ألبانيا وهي من دول البلقان وهي حتي الآن دولة إسلامية من حيث إنتماء الشعب للدين الإسلامي .
نشأة محمد علي في بلدة يونانية بينما هو ألباني كرست فيه أنه مواطن عثماني ليس له انتماء وطني أو تاريخ في وطن محدد ، وعمله في تجارة الدخان قبل انخراطه في الجيش العثماني أعطاه ثقافة عامة من خلال الإتصال بالتجار من مختلف الجنسيات والدول والقوميات . وعندما أضمر محمد علي في نفسه عندما جاء علي رأس قوة الأرناءوط عام 1801 م في أعقاب الإنسحاب الفرنسي ، عندما أضمر في نفسه أن يحكم مصر ، كان يتحول فعلياً إلي مواطن مصري ، وهذا ما لا يدركه كثير من المثقفين الذين يتحدثون كثيراً عن أن مصر لم يحكمها مصريون منذ المصريين القدماء إلا محمد نجيب وعبد الناصر وحتي الآن . وهذا ليس كلاماً صحيحاً خاصة في ظروف مصر . وقد تحدثت عدة مرات من قبل وأكرر إن مصر بوتقة صهر للبشر فهي بحكم موقعها تقع علي مفترق دول وقارات العالم ( علي الناصية كما نقول ) فالقادم من أوروبا يمر بها في طريقه إلي الشرق ، والشرقي الآسيوي يمر بها في طريقه لأوروبا ، والإفريقي يمر بها في طريقه إلي آسيا أو أوروبا والآسيوي يمر بها في طريقه لإفريقيا . وفي العهد الإسلامي أصبح الحجيج الإفريقي كله تقريباً أي القادم من غرب ووسط وشمال افريقيا لابد أن يمر بمصر ثم يتجه للحجاز عن طريقين :
1-        الطريق البحري عبر البحر الأحمر من عدة موانئ : القصير –・عيذاب –・القلزم (السويس ) ولهذا نجد الشاذلي ( شيخ الطريقة الشاذلية ) قد تمركز في منطقة البحر الأحمر وهو قادم من المغرب علي سبيل المثال.
2-        الطريق البري عبر سيناء ثم الإنحناء جنوباً من العقبة في طريق الحجاز ( لم تكن قناة السويس قد حفرت بعد ) والآن فإن الطريق البري بالأوتوبيسات يمر في نفس طريق الإبل سابقاً ، عبر نويبع والعبارات للأردن .
تجد في مصر التجمعات المغربية والكردية والأرمينية والشوام والفلسطينية والتوانسة والعراقيين والأتراك واليونان ( الجريج ) والسودانيين وبعضهم استقر في مصر لدي عودته من الحج . وإذا عدنا لخط الحج من جديد تجد سلسلة المشايخ والصوفية قد جاءوا من المغرب العربي ( شمال افريقيا ) واستقروا في مصر بعد عودتهم من الحج فمصر جذابة . ليس الشيخ الشاذلي فحسب بل ستجد خط الساحل الشمالي هكذا : سيدي عبد الرحمن –・سيدي كرير –・المرسي أبو العباس بالأسكندرية وهكذا ، وقد لاتعرف أن حي بولاق الدكرور نسبة إلي ضريح الشيخ التكروري الموريتاني الذي استقر في مصر في هذا المكان وهو عائد من الحج . وقد استوطن وتمصر العديد من فروع القبائل العربية القادمة من الحجاز التي كانت تقبل علي مصر حتي من قبل الفتح الإسلامي ، وهذه معروفة ولا حصر لأسمائها فهي بالمئات ان لم يكن أكثر وقد تسمت بها البلاد والمناطق : بني عدي –・الهوارة .. الخ . في طرق الحج فإن سواحل إفريقيا الشرقية فقط هي التي يمكن لمسلميها أن يحجوا بالذهاب بحراً ومباشرة إلي الحجاز عبر البحرالأحمر دون المرور بمصر .
هذا علي مستوي التفاعل الشعبي –・السكاني , والذي أدي إلي ان ملامح المصري واضحة ومعروفة وأنت يمكن أن تتعرف علي المصري من سحنته في أي مكان في العالم ولكنك تجد في المصريين كل درجات لون البشرة من السمرة الشديدة إلي البياض الناصع ومن الشعر الأسود والأكرت إلي الشعر الأصفر والناعم ومختلف ألوان العيون . إن المصريين أبعد مايكونون عن ” العرقية ” وإن كانت الشعوب النقية العرق تماماً غير موجودة . ولكن في المقابل لن تجد في الشعب الروسي مواطناً أسمر أو أسود كذلك في السويد وكل بلاد الاسكندنافية لأن كل هذه البلاد في أقصي شمال الأرض ، وبالتالي فهي ليست ممراً مفتوحاً للغادي والرائح . وفي قلب افريقيا الداخلي لايمكن أن تجد مواطناً أبيضا لأن هذه المناطق الواسعة أبعد ماتكون عن الإحتكاك مع الشعوب الأخري . كذلك في قلب جنوب شرقي آسيا والصين ستجدهم جميعاً تقريباً بعيون ضيقة وقامة تميل للقصر ، وشكل واحد في كوريا أو فيتنام حتي انك تتعجب كيف يفرقون بين بعضهم بعضا .
الأمر لم يقتصر علي التفاعل السكاني –・الشعبي , ولكن الموقع الإستراتيجي لمصر ، جعل مصر ملقفاً ومطمعاً لكل القوي الطامعة في السيطرة ، ومركز مصر الحضاري جعلها نقطة جذب لتلقي العلم فجاء النابهون  من أبناء الشعوب للتعلم فيها بدءاً من أيام جامعة أون / عين الشمس كأهم جامعة في العالم في الزمن الوسيط ، انتهاءاً بالأزهر كأهم جامعة في العهد الإسلامي . كذلك لكون مصر واحة زراعية حول النيل كانت مركزاً جاذباً لكل البدو والرعاة من حولها . ولكن تعود للأهمية الإستراتيجية لموقع مصر ( وماينطبق عليها ينطبق علي الشام والعراق ولكن بدرجة أقل ) لوقوع مصر علي أهم بحرين في وسط العالم : المتوسط والأحمر وأيضاً للأسباب الأخري المشار إليها آنفاً ، فكانت جاذبة لقوي المنطقة والعالم لتأتي وتحتلها وتحكم المنطقة والعالم من خلالها –・ففي مصر القديمة حكم مصر عدة ملوك من أصل نوبي ( سوداني ) أو ليبي وكذلك الهكسوس الذين زحفوا لمصر من الشام –・وأصلهم من إستبس وسط آسيا كما يقول جمال حمدان – بشكل استيطاني شامل وليس عبر الغزو المسلح فحسب ، وكذلك الآ شوريون والفرس ثم اليونان والرومان ثم الفتح العربي –・الإسلامي الذي زاد من الهجرة العربية لمصر. وطوال الحقبة الإسلامية توالي علي حكم البلاد أجناس تركية وشركسية وكردية في اواسط آسيا ( المماليك ثم العثمانيين ) وقبلهم الدول الطولونية والأخشيدية والفاطميين القادمين من المغرب والأيوبيون الأكراد والمشرقيين عموماً . ولاشك ان من كل هؤلاء كان هناك قسم عابر وغير مستقر ولكن أعداداً غير قليلة استقرت في مصر واستوطنت فيها وتمصرت ، ولاحظ أننا نتحدث عن آلاف متصلة من السنين . وفي مصر ستجد الصعايدة أكثر إنسجاماً وتقارباً من حيث السحنة والسلوك من أهل بحري والسواحل ، لأنهم كانوا دائماً الأقل إحتكاكاً بالعالم الخارجي من حيث التزاوج والتعاملات ، وان كانوا أكثر تعرضاً للهجرات العربية ( عبر البحر الأحمر ) والسودانية ( من الجنوب ) . حتي إن أقصي جنوب مصر لايفرق كثيراً عن شمال السودان ، وبالتالي فان افتعال الخلاف بين مصر والسودان حول حلايب وشلاتين أمر بالغ السخف ، والأجدر أن تكون منطقة تكامل في إطار إعادة توحيد البلدين كما كانا عبر التاريخ . كذلك سنجد التداخل علي الحدود الغربية مع ليبيا والطابع الأهلي المشترك : قبائل أولاد علي العربية علي الجانبين ، والأمازيغ في واحة سيوة ، وعلي حدود فلسطين سنجد الطابع المشترك الأهلي السلوكي والعرقي بين غزة ورفح والعريش وفي سيناء سنجد القبائل العربية القادمة من الحجاز من قديم الأزل .
ولكن عبقرية المكان ، عبقرية الموقع والموضع والعمق الحضاري حولت مصر إلي بوتقة لصهر كل هؤلاء ، ففي باطن الأرض تنصهر عشرات العناصر وتخرج في النهاية معدناً واحداً كل علي حدة ، رغم وجود بعض الشوائب في كل معدن . إن مصر كانت أشبه بهذا البركان ولكن بهدوء نادر المثال . وبالتالي فإن الشخصية المصرية ظلت حقيقية ومستقلة ومتسامية فوق كل هذه المكونات وشكلت انساناً جديداً مختلفاً عن كل هؤلاء علي حدة اسمه “المصري” وهذه ليست نظرية عرقية بل هي بالتحديد ضد العرقية ، فالمجتمع المصري كان قد نشأ واستقرت مكوناته قبل قدوم كل هؤلاء وبالتالي اصبح قادراً علي الامتصاص والاستيعاب والفرز وأخذ عناصر وترك عناصر. المسيحية ثم الإسلام كرسالات سماوية هما فقط اللذان أعادا تشكيل الشخصية المصرية بشكل جوهري ، والدين أهم مايشغل المصري وهذه من أهم خصائصه ، كما ان مصر كانت دائماً موئلاً للأنبياء : إدريس –・أيوب –・موسي –・يوسف . ومرقس أحد حواري المسيح هو الذي نشر المسيحية في مصر.
في بلاد أخري تؤدي الهجرات الكثيرة إليه إلي خلق نوع من الفسيفاء التي تؤدي إلي حالة من التنافر وتكون مبعثاً للقلاقل وعدم الإستقرار. وهذا مايبدو ظاهراً في الشام والعراق ( فلسطين أقرب إلي مصر وهي أقرب أجزاء الشام انصهاراً مع بعضها بعضا ) وأغلب بلاد وسط آسيا. أقول كل ذلك ليس لشرح مصرية محمد علي أو محمد علي الذي أصبح مصرياً أصيلاً فحسب بل أيضا لشرح ظاهرة حكام مصر من منابع غير مصرية لتأكيد أن اغلبهم تمصر بشكل حقيقي وغير مفتعل . وهذا لاينطبق بطبيعة الحال مع الإستعمارين اليوناني والروماني ولا الإستعمار الفارسي القديم ، لأنهم كانوا حكماً يستند أساساً لقوة عسكرية أجنبية ومع ذلك فإن ظاهرة الإنصهار تنطبق علي شريحة محدودة من اليونان وبعض الأروام الذين بقوا في مصر بعد الاحتلال .

>
– 3 –
نريد دولة عظمي مرهوبة الجانب لنحمي أنفسنا وعقيدتنا

الدولة الإسلامية لابد أن تحاكي أوروبا في المؤسسات

اليابان ارسلت بعثة لمصر لدراسة تجربة محمد علي
 

ستلاحظون من الآن فصاعداً أنني لن أواصل أسلوب الاسراع في عرض أحداث التاريخ لأن مايهمني هو التحليل وليس التأريخ . والتأريخ ليس حرفتي وليس هدف هذه الدراسة ، ولكن هدفها إدراك الأبعاد الإستراتيجية لمركز العالم –・الشرق العربى ، الذي جعلتنا الأقدار من أبنائه ومن ساكنيه . هذه الأهمية الاستراتيجية بالغة الأثر والتأثير علي حياتنا العامة والسياسية وحتي الشخصية ، ووثيقة الاتصال بالقضية الأم : كيف نبني الدولة العربية الإسلامية الحضارية ، كدولة عظمي ، كما أمرنا الله ، لنكون دولة عظمي بين دول عظمي أخري . فلم يأمرنا الاسلام بإبادة الآخرين أو محو فكرهم أو لغاتهم ، ولكن أمرنا بحماية أنفسنا وأوطاننا وعقيدتنا وأن نؤمن لها حرية الانتشار والدعوة حتي يختار بني البشر بدون إكراه ويمكن أن يرفضوها مقابل ( دينار واحد-أو جنيه –・أو دولار واحد أو شئ قريب من ذلك ) دون أن تضار حياتهم الخاصة ورفاهيتهم الإقتصادية أو حرياتهم الدينية والسياسية ، ويكون لهم حقوق المواطنة (كما وردت في صحيفة المدينة في عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم) نحن نريد دولة عظمي مرهوبة الجانب ، لنحمي أنفسنا وعقيدتنا لا لنعتدي علي الآخرين أو نتوسع بطريقة المستعمرين . وطبيعي أن تكون عظمي لأننا 400 مليون عربي ولأن المسلمين تجاوزوا المليار ( آخر التقديرات المنشورة 1.8 مليار مسلم )  مساحة الوطن العربي وحده هي ثالث مساحة من حيث الحجم بعد روسيا وأمريكا .نريد دولة عظمي لأن هذه طبيعة الأمور من حيث العدد السكاني والمساحة ومن حيث أن لنا رؤية مختلفة عن حضارات الآخرين . فنحن لايمكن أن نلتحق بحضارة الهندوس في الهند أو الحضارة الغربية أو الصينية أو الحضارة الروسية السلافية . وعدم وجود دولة تضمنا جميعاً أو جزء كبير منا علي الأقل وتتولي حمايتنا من الآخرين يحولنا إلي عبيد تائهين بين البشر. ولاتوجد حالة وسط ، فإما أن نكون سادة في بلادنا المستقلة أو نكون عبيداً للقوي العظمي الأخري . ولايوجد في القرن الواحد والعشرين تجمع بشري بائس مثلنا إلا التجمع الإفريقي ( بإستثناء جنوب إفريقيا ) بل ان التجمع الإفريقي أكثر بؤساً مننا وأضل سبيلا ، بل ان 60%من القارة مسلمين ، فنحن في هم واحد أو مشترك . آخر إحصاء اطلعت عليه عن البؤس الإفريقي ان 100 مليون طفل لم يذهبوا إلي المدارس .
وهذا البؤس هو إرث الاستعمار الذي لم يرحل أبداً فلاتزال معظم إفريقيا تحت الهيمنة الفرنسية والأمريكية والإنجليزية .
عدد أبناء القارة الإفريقية 1200 مليون نسمة وتقول التقارير الدولية أن افريقيا هي أكثر مناطق العالم فساداً . وان 35 مليار دولار يتم نهبها سنوياً من القارة علي يد المسئولين الأفارقة في صفقات فاسدة مع الغرب . وقدر تقرير لبنك التنمية الإفريقي أنها فقدت 1300 مليار دولار بين عامي 1970 و2008 كأموال مهربة إلي الغرب ( !) , وافريقيا لاتحصل من الاستثمارات العالمية سوي علي 1.2% مقابل 18.9% لدول جنوب شرق آسيا . و28% لدول الجنوب في آسيا وأمريكا اللاتينية . ويقدر البنك الدولي احتياجات الدول الإفريقية للإستثمار في البنية التحتية وحدها بنحو 98 مليار دولار سنوياً لاتستطيع توفير سوي 43 مليار منها , ويعد الفساد من أبرز الأسباب الطاردة للاستثمارات . وتقول الإحصاءات في عام 2004 ان لأفريقيا نحو 200 مليار دولار استثمارات بالخارج عجزت الحكومات عن استعادة ولو جزء منها بسبب التواطؤ بين الفاسدين من حكام افريقيا والغرب .
وحال الجامعة الإفريقية ( أو الإتحاد الإفريقي ) لاشك اسوأ حالاً من الجامعة العربية أو تجمع دول المؤتمر الإسلامي . ولكن هذه التجمعات الثلاثة هي اسوأ تجمعات في الكرة الأرضية ، بكل الإحصاءات والمقاييس والمعايير المتفق عليها دولياً . وفيما عدا هؤلاء سنجد الأمم أفضل حالاً بكثير . هناك تجمع أمريكا الشمالية ( اقتصادياً اسمه النافتا ) , أمريكا اللاتينية تنهض في تجمع الميركسور ، وتحطم اغلال التبعية لأمريكا وتتقدم في معارج العلم والتكنولوجيا والصناعة المتقدمة رويداً رويداً ، وتتعرض مؤخراً لنكسات ( في البرازيل مثلاً ) بسبب التآمر الأمريكي ولكن خطها البياني في تصاعد مثلاً تقدمت البرازيل إلي المرتبة الثالثة في صناعة الطيران المدني بعد الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي بالإضافة للصناعات الحربية والسيارات وانتاج الوقود من المحاصيل الزراعية.
الاتحاد الأوروبي .
التجمع الروسي : روسيا وماتبقي حولها من روسيا البيضاء وشبه جزيرة القرم وأجزاء من جورجيا واستعادة بعض النفوذ في شرق اوروبا ووسط آسيا

  • تجمع البريكس : وهو التحالف الإقتصادي الصاعد بين روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا .
  • تجمع الصين : الصين وحدها مليار وربع المليار مع نفوذها المتنامي في جنوب شرق آسيا .
  • تجمع الآسيان ( جنوب شرق آسيا )
  • التجمع الهندي: ( الهند وحدها مليار نسمة )
    ايران تجعل من نفسها عنصراً مشتركاً بين روسيا والهند والصين ( عضو مراقب في البريكس ) وتقيم تكتلاً اقليمياً في الشرق العربى : سوريا والعراق ولبنان واليمن .
    والمؤتمر الإسلامي يعزلها لا لأنها يحكمها المذهب الشيعي بل أساساً بسبب تبعية معظم الدول الإسلامية لأمريكا .
    هذه خريطة سريعة لتجمعات البشر ، فستجد أن التجمع العربي الإسلامي هو أضعف التجمعات طراً وأكثرها تفككاً وبالتالي  ليس له حضور علي المستوي الدولي بل هو مهضوم الحقوق وواقع رسمياً تحت الإنتداب الأمريكي- الإسرائيلي عدا التكتل الإيراني وتركيا . ولطالما دعونا إلي علاقات مستقرة ومنظمة ومؤسسية مع أهم جارتين : تركيا وايران . ونتناول ذلك في مجال آخر مع ملاحظة تدهور المواقف التركية خلال الأعوام الأخيرة .
    ولكنني كنت أركز فحسب علي هدف الدولة العظمي ، وانه هدف مشروع ومنطقي بل وبديهي ومشكلتنا اننا لانمتلك ولا نسعي إلي هذه الدولة العظمي .
    والذي فرض علي هذا الموضوع هو الشرق العربى نفسه ، فالشرق العربى سيظل نهيبة للرائح والغادي، لكل شذاذ الآفاق ، ولكل القوي العظمي ، وسيظل أهله مستعبدين لهم. ولايمكن تصور قيام دولة قوية في مصر وحدها ، أو سوريا وحدها ، أو العراق وحده . أي دولة قوية سيتم خنقها من باقي دول الشرق اذا كانت تابعة لدولة عظمي غاشمة واستعمارية . ونحن لن نقيم دولة اسمها ” المستطيل القرآنى ” أو تقتصر عليه بل دولة عربية اسلامية . طبعاً هي ستنشأ بالتدريج ومن خلال عمليات انضمام كما حدث في بناء الدولة العثمانية الأولي في الأناضول ( آسيا الصغري ) حيث كان انضمام الامارات التركية للإمارة العثمانية الأكبر يتم طوعاً .
    أو كما حدث في الفتح الإسلامي لكسر شوكة المعتدين حيث كان الرومان يحتلون الشام والفرس يحتلون العراق . وكما انضمت سوريا واليمن إلي مصر طواعية في عام 1958 م وسنروي كيف تم إجهاض ذلك .
    المقصود بالمستطيل القرآنى ما يسميه الغرب الشرق الأوسط ، ولقد سميته كذلك لأنه يمثل مجمل الجغرافية القرآنية وهو على وجه الحصر : الوطن العربى الآسيوى + مصر . وهذا موضوع دراسة بهذا الاسم يمكن الرجوع إليها فى مدونتى الشخصية
    magdyhussein.id
    والدولة العربية –・الاسلامية التي ندعو إليها أشبه ( من حيث الإطار المؤسسي ) بالاتحاد الأوروبي الحالي ، وأشبه بالتحالف الغربي ، وأشبه بالدولة الإسلامية الأولي كيف ؟ الإتحاد الأوروبي توسع طوعاً ، والعلاقات الأوروبية –・الأمريكية هي علاقات طوعية تحكمها المصلحة والثقافة المشتركة والدين المسيحي . أعني أنها يجب أن تكون دولة لا مركزية ، وليست علي طريقة الدولة العثمانية في مرحلتها الثانية  ، أو الإتحاد السوفيتي من زاوية المركزية الشديدة في السياسة والاقتصاد ، دولة لا مركزية قائمة علي التنوع وقدر كبير من الحكم الذاتي . ولنركز الآن علي الاتحاد الأوروبي لأنه نموذج معاصر نراه أمام أعيننا ونفس الشئ التحالف الغربي من خلال الناتو أو أي أشكال أخري ( كالسبعة الكبار ).
    نحن أمام اتحاد كونفدرالي أي اتحاد في السياسة الخارجية والحربية وهذا مانجده واضحاً علي أرض الواقع نحن أمام سياسة خارجية واحدة تقريباً تضم الدول الغربية    : أمريكا –・الاتحاد الأوروبي –・كندا –・استراليا –・نيوزيلنده . الموقف واحد تقريباً تجاه روسيا –・الصين –・الهند –・الاسلام والمسلمين والعرب –・أمريكا اللاتينية –・اسرائيل –・افريقيا . كذلك الأمر في المجال العسكري من خلال الناتو . كل دول الناتو تقريباً حاربت في افغانستان والعراق وهي تشكل الآن التحالف الدولي ضد ما تسميه الإرهاب .
    حدث استثناء اثناء غزو العراق 2003 م حيث حدث خلاف صريح علي غزو العراق من المانيا وفرنسا وبلجيكا ، لأسباب تكتيكية ولخلاف في المصالح ولكن بمجرد احتلال العراق عادت النغمة موحدة من جديد . وفي النظم اللامركزية من الطبيعي أن تحدث بعض الخلافات أحياناً ولكن يتم تسويتها .
    وعلي المستوي الاقتصادي نجد في الاتحاد الاوروبي اتفاقاً علي سياسات عامة مشتركة .. كتوحيد العملة –・إلغاء الجمارك ..الخ ولكن لن تجد كل السياسات الاقتصادية موحدة فكل دولة لها سياساتها في الاستثمار والضرائب واقامة العلاقات الثنائية مع مختلف دول العالم . ويمكن أن تنشأ مشروعات اوروبية مشتركة ولكن باتفاقات خاصة وليس بشكل اوتوماتيكي , كتأسيس شركة الايرباص للطيران المدني –・أو تأسيس وكالة فضاء اوروبية . أي أنه لاتوجد وزارة صناعة مركزية واحدة , أو وزارة زراعة مركزية واحدة وهكذا .
    في المقابل نجد الطابع المسيحي مشترك بين الجميع . مسيحية متزاوجة مع العلمانية أيضاً في صياغة مشتركة . ولكن ما الذي يعيق تأسيس وحدة اقتصادية عربية كهذه الاوروبية طالما أن كل دولة تحتفظ بكيانها ؟ ولكن أهم مايشغل الحكام العرب أنهم يحبون السلطة والعلم والنشيد والقصور . وإن كان العائق الأساسي أن هذه الدول كلها تقريبا مستعمرة ، وتحت الانتداب الأمريكي ،  ولاتملك قرارها في مثل هذه الموضوعات الكبري . وأمريكا ودول الغرب يريدون العرب مقسمين وأسواقهم مقسمة وثرواتهم منهوبة ، وقوتهم العسكرية تحت السيطرة من خلال التسليح الغربي المجاني أو بالفلوس !
    وبالتالي فان محاكاة أوروبا في الاتحاد تحتاج لنظم مستقلة , تحتاج لتحرك واعى لإسقاط التبعية وتحرير إرادة البلاد في السياسة والإقتصاد وشئون الحرب والدفاع . ولكن ثورات 2011 ولا أنكر أنها كانت ثورات حقيقية ولكن النخبة المثقفة لم تكن مشغولة بهذه القضايا الكبري ، وانحصر تفكيرها في مسائل الليبرالية (الحريات ) ولست ضدها بل أراها ضرورية ولكن لايمكن اختصار مشروع الأمة فيها . حقاً الحرية هدف في حد ذاته من أجل كرامة الانسان ، ولكنها أيضاً وسيلة من أجل تحقيق كذا وكذا ، تحقيق التقدم والرفعة ، التنمية والاستقلال والصناعة والعلم والتكنولوجيا والسيطرة الوطنية علي الموارد الطبيعية وتحرير السياسة الخارجية من الخط الأمريكي –・الصهيوني –・العولمي . وان شاء الله نحقق هذه الأهداف في المستقبل وعليكم خير !
    لكل هذه الأسباب لن أعدو سريعاً في عرض أحداث التاريخ من الآن فصاعداً مرة أخري ليس من أجل استقصاء أخبار التاريخ ولكن من أجل مناقشة قضايا العصر الحالي الذي نعيش فيه . فمنذ بداية عصر محمد علي ( بداية القرن التاسع عشر ) وحتي الآن (اوائل القرن الحادي والعشرين ) فالقضايا الأساسية واحدة والتحديات والأخطار واحدة ، وبرامج التصدي والتغيير واحدة ، والأهداف واحدة . وعلي رأسها قضية الاستقلال ، الاستقلال بمعناه الواسع السياسي –・الاقتصادي –・الحضاري ، توحيد العرب والمسلمين وفقاً للأسلوب المشار إليه آنفاً ، أي بطريقة الاتحاد الاوروبي ( والحقيقة هي طريقة دولة الاسلام الأولي فيما يتعلق باللامركزية ) –€・التنمية الاقتصادية المستقلة المتمحورة حول الذات أي التي تعتمد علي الذات بالمعني المصري –・العربي –・الاسلامي ثم الانفتاح علي العالم من موقع القوة كما فعلت الصين مؤخراً في العقود الثلاثة الأخيرة . وهذا يعني أن يكون التعليم والعلم في أعلي درجات الأولوية ، ومن ثم البحث العلمي والولوج في معارج التكنولوجيا المعاصرة بحيث لانكون مجرد مستهلكين كسالي تابعين لمن سبقونا ، بل نكون منتجين ومشاركين في انتاج أسباب التقدم الحضاري . ولاحظوا ان الذين سبقونا لم يعودوا يقتصروا علي الغرب ، بل لقد سبقنا الشرق أيضاً، ومعظم الجنوب بينما نقف نحن بينهم حائرين مترددين وكأننا الذين وصفهم القرآن الكريم (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة 45. القرآن يصف حال المرتابين من المنافقين ، وهو وصف دقيق لحالنا ، فنحن ضعاف الإيمان لا نثق في أنفسنا وفي قدرتنا علي اللحاق بالقوم الذين سبقونا لأخذهم بالأسباب ، بل ومنافستهم في منجزات العلم والتكنولوجيا .
    عبقرية محمد علي
    محمد علي انشغل بالقضايا التي ماتزال هي قضايا الأمة بعد قرنين من الزمان ، بل حقق علي الأرض ما لانحققه الآن في اوائل القرن الواحد والعشرين .
    النظام السياسي –・الاقتصادي الذي أسسه محمد علي ليس هو النموذج الذي ندعو لمحاكاته أو لجعله مرجعية نسعي للإلتزام بها ، فمحمد علي لم يكن فقيهاً أو مفكراً ولكنه كان بائع دخان ثم جندياً في الجيش العثماني ، وكان أمياً لايقرأ ولا يكتب ، فنحن لاننتظر منه أي تأصيل فكري أو فقهي . وان كان في فطرته وذكائه الحاد قام بانجازات كبري وكشف عن عقلية فذة . إن عيوب نظامه ومثالبها واضحة للعيان لاتخفي علي أحد فنحن أمام حكم الفرد المستبد ، أمام ضعف واضح للمؤسسية بالمعني السياسي والفقهي العام ، وإن وجدت مؤسسية فهي من النوع الفني علي طريقة ( اعطي الخبز لخبازينه ) . لقد ضغط في المرحلة الأولي من حكمه علي الفلاح المصري من حيث التحكم في تقييم أسعار المحاصيل والضرائب ، و استبعد مرجعية العلماء والشوري رغم أن العلماء هم الذين قادوا الثورات حتي تم تنصيبه حاكماً ، وان كان الأمر تلخص في استبعاد عمرمكرم وحده ( وهذا ليس بالشئ القليل لأن عمر مكرم كان أمة ) وان كان استند إلي باقي العلماء ووضعهم في مجالسه المختلفة علي طريقة الاستخدام الحالي لمختلف السلطات للعلماء لاضفاء المشروعية علي حكمهم وقراراتهم . هذه هي مثالب محمد علي الظاهرة والأساسية ، وسنأتي إليها ، أما منجزاته فتتمثل أساساً في حمله لأبرز قضايا الأمة التي بدأت في عهده ولاتزال مستمرة حتي الآن . علي رأسها مسألة الاستقلال والتنمية الاقتصادية . وحري بنا أن نتعلم هذا الدرس من محمد علي قبل ان نتعلم مثل هذه الدروس من اليابان أو الصين أو الغرب .
    أعجب لإخوة يستشهدون بأمثلة من الشرق والغرب علي أساس أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها ، ويستنكفون أن يستشهدوا بل وأن يتعلموا من محمد علي من بني جلدتهم لأنه ليس أصولياً بما يكفي . بل يوجد تيار قوي بين الاخوة الاسلاميين يعتبر أن محمد علي هو الذي قضي علي الاسلام !! بناء علي معلومات غير صحيحة أو مايسمي ( اشاعات تاريخية ) وربما استناداً للموقف الوهابي نتيجة محاربة محمد علي لهم . في أحد المرات سمعني أحد الاخوة من تيار الجهاد بل يسمى منظر تيار الجهاد فى مصر ( وأنا احاور الأخوة من كل التيارات ) سمعني أتحدث عن محمد علي بما سوف أتحدث به لاحقاً في هذه الدراسة ، فشكك في اسلامي ووصفني علي سبيل التأدب بأنني “وطني” وقال : ( أنتم الوطنيون تدهشوننا .أنت تتحدث عن محمد علي با حترام ألا تعلم أنه حارب الشيخ محمد عبد الوهاب وأنه قتله ) قلت له ” ان محمد علي لم يقتل الشيخ محمد عبد الوهاب ومعلوماتي انه مات ميتة طبيعية ، أما محاربته إياه فقد كانت بتوجيهات من الدولة العثمانية باعتبار ان عبد الوهاب متمرداً عليها، فإذا اردت التكفير ، فلابد أن تكفر الدولة العثمانية أولاً , لا محمد علي “. فسكت ولم يقل لى إنه مثل عبد الوهاب يكفر الدولة العثمانية !
    وفي إحدي المرات جاءني أحد قيادات حزب العمل (الاستقلال) وقدم لي بفرح شديد كتاباً مطبوعاً له عن جرائم محمد علي ، وأصابني الذهول ولم أناقشه حتي الآن بسبب انشغالنا الشديد بالأحداث الجارية ، ثم اعتقلت لمدة عامين، ولكن كان من سمات حزب العمل أنه لايصادر الآراء ويتعايش مع التعددية داخله ، الا في الأمور الحاسمة الجارية كالموقف من نظام حسني مبارك أو الموقف من الثورة ( 25 يناير ) .
    أما في مجال تقييم الماضي كتجارب عبد الناصر ومحمد علي بل وحتي أحداث الفتنة الكبري الأولي بين الصحابة فالأمر يحتمل قدراً من تعدد الآراء .
    وبمناسبة دراسة تجارب الأمم ودراسة كل أمة لماضيها . هناك معلومة ثابتة ومعروفة وذكرها الشيخ رشيد رضا ان اليابان بعثت في القرن التاسع عشر بعثة خاصة لمصر لدراسة تجربة مصر في التقدم في عهد محمد علي وأسرته من بعده ، ولعل ذلك كان في عهد اسماعيل حيث وجدوا خطاً للسكة الحديد ولم تكن اليابان قد دخلت عصر القطارات بعد وقال لي أحد الذين درسوا في اليابان إن هناك علي باب إحدي محطات السكة الحديد ( هذا في القرن العشرين ) باليابان لافتة مكتوب عليها مامعناه إن أول محطة قطارات خارج أوروبا كانت في مصر عام 1856 م .
    والذي يهمني ان نتعامل مع التاريخ عموماً ومع تاريخنا خصوصاً باحترام ، وأن نكف عن حكاية رفع بعض العهود إلي السماء وبعضها في الأرض ( باستثناء الأنبياء والرسل والخلافة الراشدة ) . وأرجو أن نتعلم من الحكمة الصينية حيث توجد لدي الدولة الصينية لجنة أو مؤسسة عليا لدراسة التاريخ الصيني ، وكل حقبة تدرس الحقبة السابقة علي مدار عقد أو عقدين من الزمان بمنتهي التفصيل بحثاً عن كل السلبيات والإيجابيات . وأرى ان هذا من أسباب التقدم الصيني . وقد علمنا القرآن هذا المنهج من خلال القصص الذي به كل الإيمانيات وكل المظالم وأشكال الفساد ، حتي ان الآيات القرآنية التي نصلي بها تتضمن حجج الكفار وادعاءاتهم ! وحتي بالنسبة لمرحلة الجاهلية وان كانت مرفوضة ككل ، إلا أن الإسلام ثبت كل ماهو صحيح وكريم فيها ، كحلف الفضول والكرم وكثير من مناسك الحج بعد تخليصها من شوائب الشرك ( كالسعي بين الصفا والمروة ) والطواف حول الكعبة باعتبارها من بقايا عهد ابراهيم عليه الصلاة والسلام .. الخ .
    ففكرة رفع سيوف الرفض المطلق لتيار أو إتجاه أو تجربة من الماضي أو حقبة من الزمان ليس من الرأي الراجح أو الفكر السليم أو صحيح الإيمان . طبعاً هناك مواقف وأفكار وآراء لا مصالحة معها ولاتهاون ولاتمييع ، وهناك قوي شريرة عالمية أو محلية لا مساومات معها . ولكننا نتحدث الآن عن تجارب الماضي ، وتجارب الحاضر غير الإسلامية وأهمية دراستها كأسباب نجاح اليابان أو الصين أو النمور الآسيوية ، ولماذا سبقنا الغرب ؟! فكل هذا مما يتصل بسنن العمران التي وضعها الله سبحانه وتعالي ، وبالتالي فإن من يأخذ بالأسباب ينجح في الدنيا وان لم يكن مؤمناً ، ويفشل المؤمن الخائب الذي لا يأخذ بهذه الأسباب ( راجع آراء ابن تيمية الصحيحة ) . ولا أعني من كل ذلك ان محمد علي لم يكن مسلماً ، ولكن لاشك أنه لم يكن أصولياً ولم يكن بالتأكيد يبحث عن الأدلة الشرعية في كل مايتخذه من قرارات ، وهذا علي أي حال ديدن معظم الحكام المسلمين !!
    سنتحدث عن أهم توجهات محمد علي في بناء دولة قوية مستقلة ، في بناء جيش مصري وصناعة مصرية وتنمية إقتصادية والقيام بنهضة تعليمية ، ثم نعود لموقفه من الإسلام والشريعة الإسلامية ولكننا وفقاً للتسلسل الزمني سنبدأ بموقفه من عمر مكرم وعلماء الأزهر .
    في البداية لابد من الإشارة لصفحة مجيدة من تاريخ مصر وهي الثورات الشعبية (3 ثورات ) ضد مظالم الوالي العثماني وعصابات المماليك المتنفذة التي تواصلت أربع سنين كاملة (1801 –€・1805 ) وحيث هتف الرجال والنساء معاً (ايش تاخد من تفليسي يابرديسي ) و(يارب يامتجلي إهلك العثمانلي!) وهي ثلاث انتفاضات أو ثورات مظفرة انتهت بتنصيب الشعب محمد علي حاكماً لمصر رغم أنف السلطات العثمانية ولأول مرة في التاريخ . وقد كانت هذه الثورات امتداداً لثورتين عظيمتين ضد الفرنسيس بل وجهاد متصل استمر ضدهم 3 سنوات ( 1798م-1801 م) حيث كلل الشعب المصري بغار المجد . بل ان هذه الصحوة الشعبية قد بدأت قبل وصول الحملة الفرنسية بأربع سنوات , اذ يشير الجبرتي ( مؤرخ ذلك العصر )    إلي أن علماء الأزهر قادوا ثورة جماهيرية كبري عام 1794 م ضد المماليك الذين كانوا هم الحكام الحقيقيين للبلاد ، ثورة اشترك فيها العامة الذين توافدوا من أطراف القاهرة بعد أن أغلقوا –・أي العلماء –・الجامع الأزهر وأمروا العامة باغلاق أسواقهم ومحلاتهم لما استشري من ظلم المماليك وعسفهم بالرعية واضطر المماليك الي التراجع ووقعوا مع العلماء وثيقة سميت ” وثيقة العدل ” تضمنت رفع الظلم وتخفيف الضرائب ، وكان من قادة الثورة العرايشي مفتي الحنفية- وشيخ الأزهر الشرقاوي والشيخ البكري .
    وقد قدمت عرضاً  وتحليلاً كاملاً لهذه الثورات (1801-1805 ) في كتاب ( مدونات ثورية من تاريخ مصر ) –€・دار الفكر العربي –・مدينة نصر. كذلك يمكن الرجوع للانترنت عبر احدي محركات البحث مثل جوجل لنفس هذه الدراسة وكانت بعنوان ( رسائل التاريخ ).
    ولست معنياً الآن بسرد تاريخ الخلافات بين محمد علي وعمر مكرم في اواخر 1807 م ويمكن الرجوع الي تفاصيلها في الجبرتي او عبد الرحمن الرافعي . ولكن مايهمني هو الأحكام العامة .
    يتهم محمد علي بالانتهازية مع العلماء خاصة عمر مكرم نقيب الأشراف ، حيث تعاون معهم وخضع لهم حتي اوصلوه للسلطة ثم قلب لهم ظهر المجن واستبعدهم وانفرد هو بالحكم رغم العقد الدستوري الذي كان بينهم من ضرورة التزامه بالشوري مع العلماء خاصة فيما يتعلق بالضرائب .
    وفي هذا المجال اذكر عدد من الحقائق :
    1- ان محمد علي كان يسعي للانفراد بالحكم وحقق مأربه ولامجال للجدال في هذا . ولكن اؤكد ان هذه هي طبيعة الحكم في بلاد المسلمين مع الأسف من أول حكم الأمويين حتي الآن . ( راجع الكتاب الرائع للدكتور حاكم المطيري –・الحرية أو الطوفان –・المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثانية -2008) لاداعي اذاً لعمل مكيال خاص لمحمد علي دون حكام المسلمين من معاوية بن ابي سفيان حتي حكام السعودية الحاليين الذين يزعمون أنهم يحكمون بالشريعة .
    كذلك فان هذا كان ديدن حكام اوروبا جميعاً وكل بلاد العالم في ذلك الزمان بل ارتدت الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر ثلاث مرات علي الاقل للحكم الملكي الشمولي .
    2- هناك روايات تاريخية مؤكدة وعلي رأسها رواية الجبرتي تؤكد أن العلماء عندما أختلفوا مع محمد علي الضرائب كان بسبب ان الضرائب امتدت لهم بعد أن كانوا معفيين منها ، ولذلك كان منطقه قوياً ، ثم عادوا وتصالحوا جميعاً معه وتخلوا عن عمر مكرم ، بل عينوا محمد السادات نقيباً للأشراف بدلاً منه .
    3- محمد علي ظل يتعامل مع عمر مكرم بمنتهي الإحترام حتي عندما تم تحديد إقامته في دمياط ووافق علي سفره للحج وتوجد رسالة تقطر عذوبة من محمد علي لعمر مكرم في مجال الموافقة علي سفره للحج . ونحن نعلم ان الطغاة يسيئون معاملة المختلفين إلي حد السجن والتعذيب والتشهير والقتل.
    4- النقطة الأكثر أهمية ان المستوي السياسي والثقافي للعلماء لم يرتفع إلي أفكار محمد علي للنهضة بدليل عدم مجاراته ومشاركته فيها وسأوضح ذلك أكثر عندما أبدأ في تفصيل مشروع محمد علي للنهضة .

>
– 4 –
محمد علي ترك مصر وديونها تساوي صفر
محمد علي صنع البوارج ونحن لانصنع الأستيكة
الجنيه المصري ظل يساوي 7 جم ذهب طوال القرن 19
مصر حققت فائضاً في الميزانية والتجارة الدولية
الحاج عمر السكندري كان له دور اساسي في صناعة السفن
السفن الحربية المصرية كانت تضارع الأوروبية وتفوقها احياناً
قصة أسطول الصيد الذي اختفي في عهد مبارك

” الصناعة .. الصناعة .. الصناعة ” هكذا كنت اصرخ في مقالاتي من مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ، في محاولة للتأكيد علي أن الصناعة هي كلمة السر في حل مشكلاتنا الاقتصادية وكثير من مشكلاتنا الاجتماعية بل أكثر من ذلك هي بداية الالتفات والاهتمام بالنهضة التعليمية والبحث العلمي ، هي عمل وطني جليل في ذروة الأولويات ، وعمل عقائدي من الطراز الأول (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) . و مجرد أن أهتم وأصرخ بأهمية الصناعة ونحن قد تخطينا حاجز القرن العشرين إلي الحادي والعشرين ، فهذه كارثة في حد ذاتها .
لأن معظم البشرية دخلت في الثورة الصناعية وتطورت الصناعة إلي حد أصبحت الصناعة موضة قديمة ! فمنذ الثلث الأخير من القرن العشرين والحديث يجري عن مرحلة ما بعد الصناعة ، أو السبرنتيك أو الصناعات الألكترونية أو الأتمته الكاملة للصناعة من خلال الإنسان الآلي ( الروبوت ) أو الحديث عن صناعة التكنولوجيا الفائقة ، ليس حديثاً فحسب فالمصانع الآلية تماماً والتي تعمل بالروبوت دخلت مرحلة التشغيل التجاري منذ عدة عقود في اليابان والصين وغيرهما . بينما يخرج علينا في مصر ( أم الدنيا ) رئيس الوزراء مثل عاطف عبيد مثلاً ليقول إن الحكومة تستعد لإنتاج الأستيكة ( الممحاة ) ! وأذكر أنني كتبت مقالاً مخصوصاً في هذا الموضوع وقلت للدكتور عاطف عبيد : أحييك وأؤيدك في مشروع انتاج الأستيكة وأنا معك بروحي وقلبي وقلمي !! وكنت اسخر بطبيعة الحال لمعرفتي بأحوال النظام في التسعينيات من القرن العشرين , ولم أخف سخريتي لأني لما أنهيت حديثي بالقول : (وأتحداك أن تنفذ وعدك فإنك لن تفعل!)، سبحان الله كيف أتاني كل هذا اليقين ( المستند للتحليل ) فبعد قرابة عشرين سنة أو ربع قرن لم يتم انتاج الأستيكة المصرية ولا معظم الأدوات الدراسية . ( آخر كراسة اشتريتها كانت من انتاج ماليزيا ! )  الصناعة هي مرحلة دخلت فيها البشرية جمعاء عدا معظم الأفارقة والعرب والمسلمين ، ودخلت المراحل المتطورة التي أشرت إليها .. بينما نحن في مصر أبطال استيراد كل شئ ، ثم نتساءل ببلاهة : ماهو سبب الأزمة الإقتصادية ؟ وكيف نحلها ؟ ولماذا تستشري البطالة ؟! ولماذا ينهار الجنيه أمام الدولار ؟
هل تعلم أن الجنيه المصري هو صناعة محمد علي ؟! في عام 1836 م صدر الجنيه المصري كرمز للاستقلال عن الدولة العثمانية ، وبدأ جنيهاً مصرياً ذهبياً وزنه 8.5 جم ذهب وحل محل القرش العثماني ( لاحظ أن القروش كانت كلمة ألمانية !!) . وظل الجنيه المصري شامخاً حتي عندما تحول إلي جنيه ورقي وظل يوازي 7.43 جم ذهب عام 1898 م ( في عهد أبناء محمد علي ).
استخدم ابراهيم باشا ( ابن محمد علي ) عندما كان حاكماً للشام العملة المصرية ، وتعجب أهل الشام عندما رأوا عملة مصرية لأول مرة ، ولهذا السبب وحتي الآن فان أهل الشام ( سوريا –・لبنان –・الأردن –・فلسطين ) يسمون الفلوس مصاري ( نسبة لمصر) . وظل الجنيه المصري أقوي من الإسترليني اما الآن فتعلمون ماهو سعر الجنيه المصري أمام الدولار والإسترليني ؟! وسنأتي لتفصيل ذلك . المهم أن قوة العملة من قوة الإقتصاد . والإقتصاد الذي لاينتج ويعتمد علي الإستيراد هو إقتصاد ضعيف منهار .
عندما أصرخ بعد أكثر من قرنين من الزمان أي بعد أكثر من قرنين من حكم محمد علي مطالباً بالإهتمام بالصناعة فهذا يعكس أي حالة مجنونة وصلنا إليها ، أي حالة من التخلف أصابت النخبة الحاكمة وغير الحاكمة . كمن يصرخ مطالباً بتوفير الأكل للناس لأن الأكل من ضرورات الحياة !! فلابد أن أحد الطرفين مجنون إما الذي يدعو للصناعة ولتوفير الأكل (لأنه لايعرف ان هذا متوفر ولكنه لايراه) . وإما حكام البلاد والمؤسسات الحاكمة والنخب المثقفة كلها قد أصابها الخلل العقلي يحيث تنسي هذه الأولويات وتنشغل بأمور أخري .
الصناعة الآن ومنذ زمن تدخل في كل مانستهلكه حتي الغذاء والإنتاج الزراعي يمر أغلبه في درجة من درجات التصنيع : تعليب أو تغليف أو تجفيف أو تحويل أو علي الأقل نقل والنقل يتم بوسائل نقل مصنعة .
لم يكن عقلاء الأمة غافلين عن ذلك وكان أول العقلاء محمد علي الذي قام بأول موجة حديثة من التصنيع . فأنا اتحدث عن الصناعة الحديثة وإلا فالصناعات اليدوية والبسيطة والصغيرة موجودة منذ فجر التاريخ خاصة في مصر : منسوجات –・مشغولات –・مناجم –・صناعة الورق البردي .. السفن والقوارب .. الخ
1-        كانت الموجة الأولي للتصنيع في عهد محمد علي
2-        الموجة الثانية حدثت خلال الحرب العالمية الأولي بسبب إنقطاع الإستيراد.
*ولكن الحركة الواعية كانت عقب الحرب بريادة طلعت حرب , واستمرت قوتها الدافعة إلي ماقبل 1952 م
3-  الموجة الثالثة في عهد نظام 23 يوليو التي بلغت ذروتها في الخطة الخمسية الأولي والأخيرة 1959-1964 م . وحدث إنكسار هزيمة 1967 .  
4-الموجة الرابعة : تدمير كل منجزات الموجات الثلاثة السابقة  في عهدي السادات ومبارك من خلال بيع القطاع العام وتفكيكه بعد أن كان هو القاعدة الأساسية للصناعة ، بيع القطاع الخاص لشركات أجنبية ، تحول النشاط الصناعي إلي توكيلات أجنبية أو صناعات إستهلاكية خفيفة  او إنتاج يعتمد علي مكونات وسلع وسيطة أجنبية . ومع بقاء بعض الجزر الصناعية المنعزلة هنا وهناك من بقايا الماضي إلا أن الإتجاه الكاسح هو الإعتماد علي الإستيراد أو صناعات التجميع ( التوكيلات الأجنبية ).
كيف فكر محمد علي في الصناعة ؟.
الفكر الفطري السليم عند محمد علي يقول ببساطة إن مصر وأهلها ليسوا أقل من أهل أوروبا فإذا كان الأوروبيون دخلوا مرحلة الصناعة الحديثة فإن المصريين قادرون أيضاً علي الولوج إليها . وهذا هو الفكر البسيط الذي ندعو إليه اليوم ، والذي يطالب بالتخلص مما يسمي عقدة الخواجة .
نحن الآن مهزومون تسيطر علينا فكرة خبيثة : إننا متخلفون وعاجزون عن اللحاق بركب الحضارة وليس أمامنا سوي الإستيراد أو يأتي استثمار أجنبي يصنع لنا مانعجز عن صنعه . رغم ان العالم الغربي مليئ بالعلماء والشخصيات الفذة من المصريين في مختلف المجالات : الصواريخ –・الفضاء –・صناعة القطارات –・الأنفاق –・الذرة .. الخ
في عصر محمد علي دخل الأوروبيون ( الإنجليز والفرنسيون أساساً ) عصر البخار أي الآلة التي تدور بالبخار والسكة الحديد والسفن التي تسير بالبخار فتابعهم وأدخل مصر في عصر البخار . ولولا ماحدث من إنتكاسة في عهد أبناء محمد علي في مجال الصناعة مع التدخل الأوروبي الفاضح في شئوننا الداخلية والذي أدي إلي احتلال مصر ، لولا ذلك لكنا نسير مع الأوروبيين شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما هو حال اليابان التي بدأت بعد محمد علي .
في دراسة سابقة كتبت عام 2010 م ( مدونات ثورية من تاريخ مصر –・دار الفكر العربي –・مدينة نصر أو رسائل التاريخ –・في الإنترنت ) ستجد فصلاً مهماً عن محمد علي خاصة في المجال الإقتصادي والتعليمي ، وقد استندت في هذه الدراسة المكثفة إلي كتاب يحوي التقارير الدبلوماسية الرسمية التي كان يرفعها قناصل ( سفراء ) الغرب إلي وزارات الخارجية في بلادهم وعلي رأسهم قناصل انجلترا وفرنسا وأمريكا وروسيا . في مسألة الصناعة كان بعض هؤلاء القناصل يحاولون إثناء محمد علي عن الولوج إلي الإقتصاد الصناعي لأنهم كانوا يخشون أن تمتلك مصر أسباب القوة فيصعب السيطرة عليها ، يروي أحدهم في أحد التقارير حواراً دار بينه وبين محمد علي وكيف أنه حاول أن يثني محمد علي عن دخول عصر الصناعة والإكتفاء بإستيراد المنتجات الصناعية في الغرب بحجة أن تكاليف الإنتاج الصناعي ستكون مرهقة للميزانية المصرية ويكفي الإهتمام بالإنتاج الزراعي الذي تبرع فيه مصر ، كذلك فإن جو مصر المشبع بالأتربة والرمال سيؤدي إلي سرعة عطب آلات وماكينات المصانع ، وهذه سخافة واضحة ، إلا أن القنصل الأوروبي يقول في تقريره إن محمد علي لم يستجب له وكان مصراً علي الإستمرار في الطريق الصناعي وأنه قال له : كما نجحتم أنتم الأوروبيون في الصناعة فلماذا لاينجح المصريون ؟!
وهذه هي القضية وهذا هو الطرح الصحيح للمسألة والذي يجب أن نطرحه مجدداً اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ! وبمنتهي البساطة هكذا !
وتشير التقارير الدبلوماسية الأوروبية إلي نجاح محمد علي مع مرور السنين ، وأنه حقق فائضاً في الميزان التجاري . وبعد كل ما قام به من مشروعات البنية التحتية والتطوير الصناعي والزراعي والحروب في الشام وتركيا والجزيرة العربية واليونان والسودان وبعد بناء الأساطيل البحرية الحربية والتجارية ، وبناء الجيش وصناعات السلاح ، فإنه خرج من الحكم عام 1848 م والديون المصرية الأجنبية تساوي صفراً !
أما إذا نظرت لأرقام الميزانية ، ولاحظ قبل محمد علي لم تنقل لنا كتب التاريخ أي ميزانيات للحكومة حيث لم تكن هناك دولة بالمعني الحقيقي .
إذا نظرت لأرقام الميزانية  في بعض السنين علي سبيل المثال ستجد التالي :
السنة                                                          الإيرادات                                                      المصروفات
1821                                                    199.700 ج                                            947.090 ج
1833                                                    2.525.275ج                                1.999.070 ج
1842                                                  2.926.625ج                                2.176.860 ج
وهكذا نري عجزاً في ميزانية 1821 م قد تحول إلي فائض في ميزانيتي 1833 م, 1842 م وهو الأمر الذي لايحدث في مصر منذ عدة عقود في آواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين .
صناعة الأساطيل البحرية :
ويقول بعض المؤرخين وكأنهم يطعنون في محمد علي إن إهتمامات محمد علي بالصناعة والتعليم لم تكن إلا من أجل بناء جيش قوي . وأقول لهؤلاء اذا تأملتم تاريخ وحاضر الأمم ستجدون أن الإهتمام بالصناعات الحربية هو الذي أدي إلي تطوير الصناعات المدنية . لأن الإثنين يقومان علي نفس التكنولوجيا . وفي البلاد المهددة بالغزو الأجنبي فإن بناء جيش وطني قوي من الأولويات الأساسية للحكم الرشيد .
بدأ محمد علي صناعة السفن في أوائل عام 1810 م أي بعد تولي الحكم بخمس سنوات ، بدأ في بناء السفن في دار صناعة ( ترسانة ) بولاق ، وكانت أجزاء السفن يتم ترقيمها وتنقل علي ظهور الإبل إلي القلزم ( السويس ) حيث يتم تركيبها هناك وتنزل البحر .
وكان ذلك في البداية بسبب الحرب ضد الوهابية في الجزيرة العربية ( سنتحدث عن الحركة الوهابية إن شاء الله بعد الإنتهاء مما نراه الأكثر أهمية في عهد محمد علي ) ولكن أدي وجود أسطول مصري في السويس إلي تمكين مصر من السيطرة علي البحر الأحمر وثغوره . وقد كانت في المرحلة الأولي عملية شاقة استخدم فيها 10 آلاف من الإبل وكان يتم استبدال كثير منها عندما تموت من ثقل احمالها ، وبذلك انشأ 18 سفينة كبيرة في مدة 10 شهور . كذلك تم في ترسانة بولاق صناعة السفن التجارية التي استخدمتها الحكومة لنقل البضائع والمهمات علي النيل وعلي شواطئ البحر المتوسط . وكانت الأخشاب تأتي من الشام وتركيا بالإضافة لمصر أيضاً . ويقول الجبرتي عن عام 1812 م ( واستمر –・أي محمد علي –・ينشئ المراكب الكبار والصغار التي تسرح في النيل من قبلي إلي بحري ومن بحري إلي قبلي ولا يبطل الإنشاء والأعمال –・في ترسانة بولاق –・علي الدوام ، وكل ذلك علي ذمته ، ومرمتها وعمارتها ولوازمها وملاحوها بأجرتهم علي طرفه لا بالضمان كما كان في السابق ، ولهم قومة ومباشرون متقيدون بذلك الليل والنهار ).
وكان بالأسكندرية ترسانة تبني فيها بعض السفن علي الطراز القديم وقد عهد برئاسة الهندسة فيها إلي رجل يدعي شاكر أفندي الإسكندري يعاونه في ذلك مهندس بارع من أهالي الإسكندرية اسمه ( الحاج عمر ) وهو من مشاهير المعلمين في فن بناء السفن فجعله محمد علي رئيساً للإنشاء وعمارة السفن وجعل علي الإشراف موظفاً يدعي الحاج أحمد أغا .
واتوقف عند ( الحاج عمر ) فأمره مهم جداً ، فهو يكشف أن محمد علي كان يبحث ( بمنكاش ) عن كفاءة مصرية ، وأنه لم يكن عنده عقدة الخواجة ، ولكنه استعان بالخبراء الأجانب بقدر ، وبقدر الإحتياج . ولم يكن بالأسكندرية وقتئذ سوي الترسانة القديمة وكانت تصلح لتكون نواة لإنشاء دار صناعة ( ترسانة ) كبري لبناء السفن الحربية . لم تكن الترسانة القديمة سوي مظلات من الخشب في مكان قريب من البحر ، ومع ذلك تم بناء 3 سفن حربية فيها . وقد عهد محمد علي –・كما قلنا –・برئاسة هندسة السفن وبنائها في هذه الترسانة القديمة إلي الحاج عمر وهو من أهالي الأسكندرية ،  وقد تردد اسمه كثيراً في المراجع الأجنبية والعربية وفي جريدة الوقائع المصرية ( الجريدة الرسمية التي تصدر عن الحكومة وهي لاتزال تصدر حتي الآن !!) اذ كان مهندساً بارعاً في فن بناء السفن بينما لم يكن خريجاً لأي مدرسة أو كلية هندسة لا في مصر التي لايوجد فيها حتي هذه اللحظة أي كلية هندسة ولا في الخارج ولكنه الذكاء المصري العتيد المقترن بتراكم الخبرة . وعندما استعان محمد علي بالمسيو دي سريزي بك وهو مهندس بحري فرنسي من ثغر طولون اشتهر بالكفاءة والخبرة في فنون البحرية وخاصة في فن بناء السفن والأحواض والترسانات ، عندما استعان به ليكون مشرفاً علي الترسانة الكبري الجديدة لبناء السفن الحربية أعجب المهندس الفرنسي بالحاج عمر وبكفاءته وجعله مساعده الرئيسي في تحقيق برنامجه ، واستغني عن شاكر افندي التركي الذي كان رئيس الهندسة في الترسانة القديمة . ووصف كلوت بك في كتابة لمحة عامة إلي مصر الحاج عمر بأنه ” رجل طاعن في السن يجمع بين الشهامة والكفاءة في بناء السفن ” . وقال عنه علي باشا مبارك في كتابه ( الخطط التوفيقية ) انه ( كان الرئيس علي إنشاء وعمارة السفن بتلك الميناء وهو رجل من الأهلين وكان صاحب ادارة ومعرفة طبيعية وأقدم علي هذه الأعمال مع الإصابة ) وقالت عنه الوقائع المصرية في عددها 112 الصادر في 27 شعبان 1245 ( فبراير 1830 )
(الحاج عمر يوزباشي –・واضح انه حصل علي رتبة يوزباشي وكانت هذه الرتب للموظفين العسكريين والمدنيين –・من أهالي الأسكندرية رئيس المعماريين في ترسانة الأسكندرية ، لم يكن له نصيب من علم الهندسة ، ومع ذلك زاول أعمال سفن التجارة مدة ، وصار كأنه مهندس رياضي بكثرة المزاولة في الأعمال ، وبسبب قوة ذكائه وفطانته ، والآن تم إنشاء سفينة الفركطون الذي شرع في انشائه بمعرفة المرقوم ، وطولها من قربينتها 132 قدما, ومن كورتنها 147 قدماً وعرضها 37 قدما وعمقها 31 قدما , وبطاريتها الأولي تسع 28 مدفعاً وكذلك بطاريتها الثانية ودوارتها تسع مدفعين ، فنزلت في يوم الاثنين الموافق 15 شعبان المعظم , ولما رآها موسيو سريزي الذي جاء من فرنسا وهو مهندس ماهر في إنشاء السفن  تعجب من حال المعمار المرقوم حيث انشأ تلك السفن من دون علم الهندسة وأكمل جميع مايحسن لها ).
وشرع المسيو سريزي في بناء الترسانة الكبيرة بمساعدة الحاج عمر وقدم رسوم التصميم لمحمد علي في 9 يونيو 1829 . وبدأ في تأسيس أقسام وورش للنجارين والحدادين والقلافطة والسباكين والميكانيكيين من مختلف أنحاء مصر وتم تدريبهم علي يد المسيو سريزي والحاج عمر، وأصبح جميع العاملين تحت إمرة الحاج عمر وتم الإنتهاء من بناء الترسانة عام 1831 م ومعظم العاملين فيها مصريون .
وكان محمد علي يحضر بنفسه كثيراً للإشراف علي العمل وبث الهمة والحماس في نفوس العاملين . وكذلك كان يفعل ابنه ابراهيم باشا وفي 3 يناير 1831 ( الترسانة بنيت في أقل من عام ونصف العام ) تم الإنتهاء من إنشاء بارجة حربية مصرية 100% ذات مائة مدفع ، وخلال عدة من السنين أصبح لمصر أسطول حربي كامل بديلاً عن الأسطول الذي دمر في معركة نافارين ( سنتحدث عن المعارك فيما بعد ).
  وكانت هذه الترسانة التي بنيت في أقل من عام ونصف عام تضم 14 ورشة ومخزن للذخائر والمهمات ، بالإضافة لمصانع أخري خارج الأسكندرية تمدها باحتياجاتها وهي مايسمي في الاقتصاد ( الصناعات المغذية ) فتم انشاء مصنع في رشيد لتصنيع ونسج قماش الأشرعة ، ومصانع أخري للحدادة ، وكذلك كانت في القاهرة مصانع تورد احتياجات الترسانة . وكانت هناك خطة سليمة بعدم تركيز كل المصانع المرتبطة بالترسانة في مكان واحد حتي لا تتعرض جميعاً للدمار في حالة حدوث هجوم أجنبي . وبلغ عدد عمال الترسانة 8 آلاف عامل . وطبعاً لقد تم تعميق مياه البحر في الترسانة حتي تستطيع أن ترسو فيها أكبر السفن في ذلك الزمان .
في هذه الترسانة الجديدة تم بناء البارجتين ( مصر ) و ( عكا ) وهما بحجم السفن الفرنسية ذات الثلاثة سطوح تحمل كل واحدة منهما 100 مدفع بعيارين مختلفين .
ثم أربعة بوارج من ذات المائة مدفع ايضاً ( المحلة الكبري ) –€・( المنصورة ) –€・(الأسكندرية) –€・ حمص ) . وسفينة من طراز كورفيت وأخري من طراز جوليت ( عزيزية ) وأخري ( قوط النزهة ) وسفينة لمدافع الهاون وسفينة لحمل الأخشاب . كما تولت الترسانة تسليح البارجة ( بيلان ) ب86 مدفع . وحسب كتاب كلوت بك 1839 م كان العمل جاريا في بارجتين كبيرتين و فرقاطة . وقد جري هذا من خلال إنجاز لم يكن متحققاً في كثير من السفن الحربية الأوروبية وهو توحيد عيارات مدافع السفن الحربية الكبري كما قامت الترسانة بترميم فرقاطة كانت من انتاج ايطالي .
ومجموع انتاج الترسانة التقريبي : بناء 13 بارجة وفرقاطة –・ترميم 22 سفينة حربية –・بناء 4 سفن للنقل –・عدد غير معروف من السفن الصغيرة –・4 بواخر مدنية وتجارية أي تعمل بالبخار ، فقد بدأت مصر تلتحق بعصر البخار . الذي بدأ لتوه .
وكان محمد علي يرفض مد السكة الحديد  بين الأسكندرية –・القاهرة –・السويس لأسباب أمنية استراتيجية ( سنتحدث عنها فيما بعد ) إلا انه بنى سكة حديدية في إطار مشروع الترسانة وهو خط قصير طبعاً يصل مستودعات البضائع والغلال بالرصيف لتسهيل نقلها إلي السفن . كما قام المهندس المصري مظهر باشا أحد خريجي البعثات ببناء فنار الأسكندرية لإرشاد السفن القادمة إلي الميناء والخارجة منها وهو من أجل أعمال العمران التي تمت في عهد محمد علي.  
وكتب المارشال مارمون في كتابه عن زيارته لترسانة الأسكندرية 1834 م فقال : (زرت الترسانة والأسطول وكنت شديد اللهفة لزيارة هذه المنشآت المدهشة التي لم يكن يتصور العقل تأسيسها . ففي سنة 1828 م لم يكن بالأسكندرية إلا ساحل مقفر . ولكن هذا الساحل أصبح في سنة 1834 م مغطي بترسانة كاملة بنيت علي مساحة واسعة وأحواض للسفن ومخازن ومعامل ومصانع لكل نوع ، ومما استوقف نظري ورشة الحبال التي يبلغ طولها 1040 قدماً أي في طول ورشة الحبال بثغر طولون ( بفرنسا ) وقد شاهدت في الترسانة عمالا يعملون في مختلف معاملها ، ولهم مهارة في كل مايعهد إليهم من الأعمال البحرية ، وهم جميعاً من المصريين ويسود بينهم النظام والعمل والنشاط { وكل هذا الإنتاج للسفن تم } في بلاد ليس فيها أخشاب ولاحديد ولانحاس ، ولم يكن فيها عمال ولابحارة ولا ضباط مجربون ، أي أنها كانت مفتقرة إلي كل العناصر اللازمة لإنشاء أسطول . وهذه همة لانظير لها في التاريخ). ويضيف (وكان محمد علي يقضي أياماً بأكملها وسط العمال فكان حضوره يبعث في نفوسهم روح النشاط والهمة ، ويذلل العقبات التي تعترض العمل ويحمل كل واحد من العمال علي بذل كل مافي طاقته من الجهود).
ثم يتحدث المارشال مارمون عن كفاءة المصري وأنا أتعمد إقتباس كلامه بالتفصيل في زمن (أوائل القرن الواحد والعشرين ) انهارت فيه ثقة المصريين في أنفسهم .. يقول ( وانا كأني أقرأ قصيدة شعر لم تحدث في مجال الأدب والشعر ) .
(إن العربي –・يقصد المصري –・له حظ عظيم من المقدرة على التقليد تبلغ درجة النبوغ وهو متصف بالاستقامة والنشاط والغيرة مع المرونة والطاعة ، وبهذه الصفات يمكن الوصول إلي تحقيق كل مايريده الإنسان ، وبفضل هذه المزايا صار العمال الذين خرجوا من صفوف الفلاحين أخصائيين في الفروع والفنون التي توفروا عليها . كل فيما خصص له . ولم يقتصر الأمر علي تدريبهم علي أعمال الخشابين والنجارين والحدادين بل تخصص منهم كثيرون لأعمال بلغت غاية الدقة فنجحوا في صنع آلات البحرية كالبوصلات والنظارات . وقد شاهدت بنفسي المعامل التي تصنع فيها هذه الآلات ، والعمال الذين يصنعونها ، ورأيت الإتقان في صنعها ، والعمال الفنيون الذين يصنعونها لم يمض عليهم سنتان في التمرن علي تلك الأعمال . ومن الحق أن يقال أنه لاينتظر الوصول إلي هذه النتيجة بمثل هذه السرعة من عمال أوروبيين يؤخذون من صفوف الفلاحين مهما كانت الأمة التي يختارون منها )
( رحلة المارشال مارمون –・الجزء الثالث )
ويقول المارشال وهو عسكري متخصص ( ولاشك أن وحدة العيار لها فائدة كبري عندما تشتبك البوارج في القتال ، ومن المدهش أن هذه الميزة السهلة في ذاتها لم تلتفت لها الدول البحرية الكبري وأن ابتكارها يجئ علي يد دولة حديثة تبدأ عهدها بالحضارة ) . وعندما زار البارجة (عكا ) من الداخل قال عنها
(تفقدت البارجة وأمعنت النظر فيها بعناية خاصة فلم أر إلا مايستوجب الإعجاب بنظامها وترتيبها وهذه البارجة كغيرها من البوارج الكبري هي المنشآت البديعة التي أخرجتها ترسانة الأسكندرية ) .
أخي القارئ هل أصابك الدوار وأنت تقرأ ، إن لم يصبك الدوار فلابد أن تتشكك في وطنيتك !! . لابد أن يصيبك الدوار عندما تري كيف وصلت مصر إلي هذا المستوي منذ قرنين من الزمان . وقد يكون لديك عذرك فأنت لاتعرف ما الذي جري في ترسانة الأسكندرية فى عهد مبارك السعيد ، وغالباً فإنك لاتعرف لأن إعلامنا الموقر العام والخاص الحكومي والمعارض لاينشغل بهذه القضايا التافهة !! (الترسانات البحرية ) .
منذ عهد مبارك ( بل منذ عهد السادات ) انهارت الترسانة البحرية ولاتكاد تصنع أي سفن تجارية ، بينما يتآكل الأسطول التجاري من السفن المستوردة أو التي كنا نبنيها والمثير للسخرية (أو الكوميديا السوداء) اننا نتحدث عن اتفاق الكوميسا والتصدير لأفريقيا بينما لاتوجد لدينا سفن لحمل بضائعنا لإفريقيا ، إذا وجدت البضاعة الصالحة للتصدير أصلاً . نحن ننقل ماتيسر من بضائعنا وما نستورده علي سفن أخري وبالأخص سفن شركة زيم الإسرائيلية لوكيلها خيري من قيادات الحزب الوطني بالأسكندرية . ولاتحدثني عن السفن الحربية ، فإن بناءها مسألة غير مطروحة أصلاً ومن اساءة الأدب الحديث في هذا الموضوع !! وبمناسبة مشكلة الأسماك وارتفاع أسعارها ، أقول أنه في اوائل الستينيات من القرن الماضي اشترينا (ولا اقول بنينا ) من الاتحاد السوفيتي أسطولاً للصيد في أعلي البحار علي أعلي مستوي تكنولوجي وأسسنا الشركة المصرية لمصايد أعالي البحار 1967 ( ابن عم علي بواب عمارتنا كان بحاراً في هذا الأسطول وكنت أحبه وأفتخر به وكان أكبرمني سناً ).
تجمد نشاط الشركة عام 1978م عام كامب ديفيد ( عهد السادات ) وعاد عام 1985م ثم توقف تماماً عام 1988م وكانت إنتاجية الأسطول عام 1975 م 171ألف طن من الأسماك حتي وصل إلي نصف طن عام 1985 م ! ثم مات الأسطول بالسكتة القلبية في عام 1988 م . وبعد ذلك تقولون إن حسني مبارك مصري ومحمد علي ألباني !!
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) الحديد 25 .   
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

                                                           - 5 -

خطة محمد علي لبناء سفن حربية مصرية 100 %
السفن الحربية المصرية لاتقل كفاءة عن الأوروبية
قارن ذلك بإنهيار صناعة السفن في مصر الآن

لم ينته الحديث عن صناعة بناء السفن الحربية والمدنية في عصر محمد علي دون أن يصل الحديث بعد إلي فاعلية الأسطول البحري في العمليات العسكرية ، فنحن لا نزال في مسألة الصناعة كأبرز أعمال ومنجزات محمد علي خاصة في زاوية المقارنة مع أوضاعنا الراهنة في اوائل القرن الواحد والعشرين بعد أكثر من قرنين من الزمان ، من زاوية قضايا أمتنا الراهنة الآن .
لم نكمل الحديث عن بناء السفن التجارية . ليس لدينا احصاءات دقيقة في هذا المجال لدي المؤرخين لأن هذه السفن من وجهة نظرهم ليس لها الخطر الذي للأساطيل البحرية وأري أن لا فرق بينهما رغم أولوية السفن الحربية للدفاع عن بيضة الأمة ،لأن السفن التجارية من أسباب القوة الإقتصادية للأمة ، منذ صنع أجدادنا السفن التجارية للتجارة مع بلاد بونت (الصومال) ومدن الشام وأبعد من ذلك .
قلنا إن محمد علي كان يُجد السير بل يُجد العدو حتي يقصر المسافة ( الفجوة ) بيننا وبين أوروبا ، فدخل مبكراً عصر البخار وصنع عدة بواخر حربية ومدنية تعمل بالبخار ، فكان كالمتسابق في العدو الذي يكون في الصفوف الخلفية ثم يشد حيله في منتصف السباق أو في آخره فينتقل سريعاً إلي المراكز الأولي لينافس علي المركز الأول . وخصص عدة بواخر (أي التي تعمل بالبخار ) لحمل البريد وجعل لها ادارة خاصة سماها القومبانية المصرية . كما شيدت الترسانة سفناً عديدة للنقل جعل لها ادارة خاصة تولي رئاستها مصريون .
وأنا أتحدث هنا عن شقين 1- النقل عبر البحار للتجارة تصديراً واستيراد وتذكروا أن مصر كانت تحقق فائضاً تجارياً أي أن نقل الصادرات أكثر من الواردات .
2- النقل النهري . وضعنا الراهن في مطلع القرن الواحد والعشرين مزري للغاية ، وقد كتبت معلومات تفصيلية عن انهيار أسطولنا التجاري من حيث بناء السفن بل وحتي من ناحية استيرادها !! استناداً لتقارير رسمية في كتابي (الجهاد صناعة الأمة) –€・الطبعة الثانية -2000 وكان فيها حصر شامل لحالة أسطولنا التجاري في نهاية القرن العشرين ، هذا فيما يتعلق بالنقل البحري ( أي عبر البحار ) ، أما فيما يتعلق بالنقل النهري فواضح أننا نسينا تماماً هذا المجال . فقد أضعنا تماماً فكرة الاهتمام بالنهر كوسيلة رخيصة للنقل ، وقد أضعنا ميناء بولاق النهري ولم أسمع في حياتي عن وجود موانئ للنقل النهري ، وكأن السكة الحديد أو الطرق تغني عن النقل النهري خاصة في بلاد بعيدة في الصعيد .
في الستينيات في القرن العشرين عندما كنت صبياً كنت أتابع بشغف السفن الشراعية الكبري وأيضا بوابير تسير بالمواتير ، وهي تمر أمام بيتنا الواقع علي النيل ، وكانت تحمل بضائع مثل الصخور للبناء (حجر ابيض) أو قلل قناوي قادمة من الصعيد وقد انتهت هذه الظاهرة الآن تماماً مع انها وسيلة متحضرة للنقل ، وإن كانت بطيئة نسبياً ولكنها أرخص وغير ملوثة للبيئة ، وتخفف الضغط على الطرق والسكة الحديد . وكثيراً مانقرأ في الصحف السيارة بين الفينة والأخري مطالبات باستخدام النقل النهري داخل القاهرة لتخفيف الضغط علي شرايين الطرق التي أصابتها الجلطات . لا أريد ان أستبق الأحداث حيث يوجد وجه شبه بين عهدي محمد علي وعبد الناصر , ولكن الموضوع يطرح نفسه ففي الستينيات من القرن العشرين ظهرت مسألة الأوتوبيس النهري وقد كنت استخدمه بالفعل وأنا طالب للذهاب والعودة من جامعة القاهرة . ولكننا نحب ونهوي العودة إلي الخلف ، فكلما تقدمنا خطوة إلي الأمام نرجع خطوتين للوراء ، فانتهت ظاهرة الأوتوبيس النهري في القاهرة وغيرها .
نحن نستخدم حتي الآن ” معديات الموت ” في بعض أماكن الصعيد لقلة الكباري للعبور من ضفة النهر إلي ضفة أخري , وهي معديات غير آمنة وتغرق بالناس بين حين وآخر لذلك سميتها ” معديات الموت ” . بينما النيل لم يقدم لمصر : رقعة الأرض الزراعية والبيئة الموحدة المتصلة من طيبة حتي سواحل البحر المتوسط , بل قدم وسيلة النقل ( السريع في وقت القدماء المصريين ) التي ربطت بين المصريين تجارياً واقتصاديا وثقافيا وانسانياً ووحدت بينهم وساهمت في بناء شخصية مصرية واحدة منسجمة . وسنري فيما بعد كيف اهتم الخديوي اسماعيل ( حفيد محمد علي ) بمسألة النقل النهري . وأخيراً بدأت الحكومات المصرية بالاهتمام بالسياحة النهرية وهذا جيد وان جاء في سياق الاهتمام بالسياحة وحدها كحل للمشكلة الاقتصادية .
ولدينا قطاع آخر في مجال بناء السفن ينهار الآن وهو قطاع صناعة سفن الصيد واليخوت . وكان قد صدر في بداية التسعينيات قانون يمنع تصنيع سفن الصيد واليخوت !! ويبدو أنه يضع اشتراطات صعبة او يمنع بناء سفن كبيرة ، رغم أن انتاج هذا النوع من المراكب مهم جداً للصيد والسياحة بل وأيضاً للتصدير للبلاد العربية . وقد قرأت عن هذا القانون في الصحف القومية ولكنها ليست تحت يدي الآن وليس لدي وقت للبحث عن نص القانون ولا أريد أن أتشعب في الموضوع أكثر من ذلك ولكن ” الأهرام ” سمت بنفسها القانون الذي صدر عام 1991 بأنه قانون يحظر بناء سفن الصيد . ولا أدري كيف تطور الأمر من الناحية القانونية ، ولكن لاتزال الصحف القومية وأنا لا أستغني عن متابعتها رغم تدهورها المستمر لأنها تعطيني معلومات رسمية . وأنا أكتب فى العقد الأول وأوائل العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين . ولاتزال هذه الصحف تنشر بين الفينة والأخري تقارير عن إحتضار صناعة سفن الصيد واليخوت خاصة في معقلها الرئيسي بمدينة عزبة البرج بدمياط حيث تقوم بتصدير انتاجها لليونان وقبرص ومالطا والسعودية والسودان وليبيا والإمارات . ومنذ عام 2010 حتي الآن ( 2013- 2014) تقوم جهة اسمها ” هندسة النيل ” بتحرير محاضر ضد المنتجين بحجة أن لها ولاية علي الأرض بل وحصلت هذه الإدارة علي أحكام قضائية ضد هذه الورش أي ورش تصنيع مراكب الصيد واليخوت  لأنها تدعي ملكية الأراضي رغم أن هذه الأرض كانت مخصصة من قبل وزارة الزراعة منذ عام 1961 لصناعة مراكب الصيد.
وقد قلت وكتبت عدة مرات ان اسرائيل اذا نجحت في دس رئيس صهيوني لمصر فلن يفعل أكثر مما فعله مبارك طوال 30 سنة . ولكنني كنت مخطئاً فقد تبين لي مؤخراً من خلال وثائق اسرائيلية وأمريكية رسمية ان مبارك كان فعلاً هو الرئيس الصهيوني الذي تم دسه علينا و وبالتالي لا داعي لتخيل ماهو قائم بالفعل !! وسأتناول ذلك ان شاء الله اذا سمحت الظروف والعمر !!
أعود مرة أخري لصناعة السفن الحربية في عهد محمد علي ، فقد عرضنا شهادة المارشال مارمون والمهم أن نسمع شهادة كلوت بك الفرنسي الذي ارتبط بتجربة محمد علي وله الفضل في تأسيس مستشفي القصر العيني وكلية الطب بها وهذه من ضمن صروح عهد محمد علي الشاهدة علي منجزاته . ولكلوت بك كتاب مهم صدر في مصر بالعربية اسمه ( لمحة عامة إلي مصر ) وفيه عن الترسانة البحرية {إن العمال المصريين هم الذين كانوا ينجزون أعمال إنشاء السفن وقد أظهروا  فيها من الأهلية والدراية مايوجب الدهشة . المصريون يدركون بسهولة سر الصنعة مما كان ينجز أمامهم من الأعمال ويتفهمون دقائقها بما عهد فيهم من الذكاء ودماثة الأخلاق والامتثال للرؤساء . هذا فضلاً عن أنهم فطروا في فهم مايعجم عليهم فهمه علي تحكيم النظر أكثر منه علي الذكاء والعقل ، حتي ان الرسم البسيط يرشدهم إلي فهم حقائق الأشياء بمجرد النظر إليه قبل إمعان الفكر والروية فيه . وترسانة الإسكندرية التي يصنع فيها كل شئ بأيدي المصريين وتناظر جميع ترسانات الدنيا ، دليل ناطق علي مبلغ مايمكن الاستفادة به من العمال المصريين ، ويقيني أن عامة الشعب في أوروبا لايستطيعون أن يؤدوا من جلائل الأعمال مايؤديه العمال المصريون في مثل الوقت القصير الذي يقومون بها فيه } .
ماذا نستفيد من هذه القصة ؟
لقد قام محمد علي بنفس الخطة التي قامت بها الاقتصادات النامية في عصرنا الحالي . وسآخذ من تصنيع السفن الحربية والمدنية مثالاً لاكتشاف الخطة في باقي قطاعات التصنيع . ماقام به هو ماقامت به اليابان ( التي كانت قد أرسلت بعثة لمصر لدراسة تجربته ) وباقي دول جنوب شرق آسيا التي تسمي النمور الآسيوية ففي صناعة السفن مر بـ 3 مراحل :
1- استيراد السفن الحربية كاملة ( تسليم مفتاح كما نقول ) من الدول الأوروبية مع ملاحظة (ورغم الإشاعة السائدة بين الإسلاميين ان محمد علي كان عميلاً لانجلترا أو موالياً لها أو إنجليزي الهوي !! ) مع ملاحظة انه كان يتجنب إلي أقصي حد التعامل مع انجلترا ، لأنه أدرك بمستوي استراتيجي عال أن انجلترا هي الخطر الرئيسي علي مصر .
لم يكن في العالم قوي عظمي في ذلك الوقت إلا انجلترا وفرنسا ، وقد رأي محمد علي بنفسه انكسار فرنسا أمامه في مصر خلال حملتها 1798-1801 ولم يكن من المتصور بعد هذه التجربة المرة أن تعيد الكرة ، بل لقد هزمت فرنسا هزيمة ساحقة في معركة واترلو 1815 أمام انجلترا مما أدي إلي الإطاحة النهائية بنابليون بونابرت .
كانت فرنسا كالأسد الجريح الذي لا يُخشي منه في المدي القريب ، خاصة أن تكرر حملتها علي مصر. في المقابل رأي محمد علي بنفسه محاولة الانجليز الاستمرار في مصر بعد رحيل الفرنسيين بل استمروا عاماً كاملاً حتي تم إخراجهم بإحراجات وضغوط دولية . ثم عادوا بعد سنوات قليلة في حملة فريزر 1807 وكانت الحرب مباشرة بين محمد علي وانجلترا ، ورأينا تحالف انجلترا مع الألفي زعيم المماليك ، ومع المماليك عموماً وهم الأعداء الأساسيون لمحمد علي ، بل رأينا كيف تعاون الانجليز مع العثمانيين للاطاحة به . ظل محمد علي يدرك أن الخطر الرئيسي عليه وعلي مصر هو انجلترا حتي مات . وقد أثبتت الأيام صدق توقعاته وحساباته .
      ولكل هذه التقديرات فقد كان شراء محمد علي للسفن الحربية من فرنسا وايطاليا (وهي أضعف بكثير من فرنسا ) وأمريكا التي كانت لاتزال بعيدة جداً عن النشاط الدولي في هذه المنطقة ، اشتري منها أي من أمريكا سفينتين ومن انجلترا اشتري سفينة واحدة (النيل) وهي تعمل بالبخار وربما هذا هو سبب شرائه لها مقابل شراء 9 سفن من فرنسا و5 سفن من ايطاليا .
2- المرحلة الثانية أن يطلب من الموانئ الأوروبية تصميم وتصنيع سفن معينة وفق مواصفات خاصة . وهي امتداد لنفس المرحلة السابقة .
3- التصنيع المصري الكامل :
ويتم ذلك في ترسانة الاسكندرية علي النحو المشار إليه وكان مجموع السفن المصرية عام 1843 م 17 سفينة . والوصول للتصنيع المصري الكامل يتم بالتدريج وفق خطة محكمة . ففي البداية تمت الاستعانة بالمسيو سريزي الفرنسي المتخصص في بناء السفن ، والذي كان يبني السفن المطلوبة لمصر في موانئ فرنسا ، وقد كان التعاقد شخصياً وليس عبر الحكومة الفرنسية ، ولكن حتي اذا وافقت الحكومة الفرنسية فقد كانت الاستعانة به مؤقتة . وقد استعان سريزي في بدء الأمر بجماعة من الصناع الاوروبيين الفنيين للقيام بالأعمال الفنية التي لم يكن المصريون قد حذقوا فيها بعد ، كما تولوا رئاسة الأقسام المختلفة . وبالفعل وبمجرد اتقان المصريين لهذه الصناعات إلي حد أن ضارعوا الأوروبيين فيها بدأ محمد علي –・وقد كان يتابع بنفسه –・الاستغناء عن فريق كبير من هؤلاء الأجانب بحيث أن الأعمال صار يُنجز الشطر الأوفي منها بأيدي العمال الوطنيين ، بينما بقي عدد محدود من المعلمين الفرنسيين . ولم يكن الصناع الأوربيون سعداء بما يفعله سريزي بك في مصر لأنه يغلق عليهم فرص الاستثمار فكانوا يواصلون التآمر عليه ، وتحريض الفنيين الأوروبيين لتخريب العمل حتي دفعوا سريزي للاستقالة . وكانت المفاجأة في عدم حدوث أي اضطراب في العمل بل استمر العمل في تقدم مستمر بالترسانة . بفضل ادارة المهندسين المصريين وكان علي رأسهم حسن بك السعران ومحمد بك راغب وهما من خريجي البعثة البحرية التي تعلمت في الخارج . كثيراً ما تهاجم البعثات التي أرسلها محمد علي لأوروبا ومعظمها كان لفرنسا وايطاليا لا لانجلترا باعتبارها قامت بمهمة التغريب والعلمنة ومن المؤسف أن يقول ذلك بعض الأخوة الاسلاميين بدون أي معلومات صحيحة أو دقيقة . فالأغلبية الساحقة ان لم تكن كل البعثات كانت في فروع العلم التطبيقي . طب –・هندسة –・بحرية –・صناعة سفن –・صيدلة ..الخ . ولم تكن في الآداب أو الفلسفة أو أية فروع أخري للعلوم الإجتماعية وسنعود لذلك . ولكن الآن نحن أمام ثمرة هذه السياسة ، فاستقالة سريزي بك تحت الضغط الخارجي وربما من حكومته الفرنسية ، جاءت بعد أن تم إعداد البديل المصري . في الامور العلمية والتكنولوجية عندما تحدث فجوة لا بديل لسدها إلا بارسال البعثات أو المطالبة بالاحتلال الأجنبي !! ولاشك أن إرسال البعثات فيه نوع من المخاطرة ولكنها يمكن أن تكون مخاطرة محسوبة ، ويمكن أن تكون الخسائر محدودة . أما في حالة المطالبة بالاحتلال فان الاحتلال لن يعلم أبناء البلد أي شئ مهم حتي يظلوا يستوردون احتياجاتهم جاهزة من المحتل . بل لقد شهدت الترسانة تطوراً أكبر بعد استقالة سريزي ، في ظل القيادة المصرية الي حد بلغت العمارة الحربية المصرية درجة تفوق كثيراً الدول الأوروبية ، وحرب المورة –・اليونان – أثبتت ذلك .
بل أكثر من ذلك فقد بدأ محمد علي –・وهذا مافعله في مختلف الفروع . انشاء مدارس وطنية لتعليم البحرية حتي يتوقف عن إرسال البعثات للخارج . هذا الرجل لم تفته أي حلقة من حلقات الانتاج ، وهو يواصل تمصير كل الحلقات والمراحل .
فتم انشاء معسكر لتعليم البحارة من الجنود الأعمال البحرية ليكونوا بحارة الأسطول وجنوده تم انتقاؤهم من مختلف المحافظات وأقيم المعسكر في رأس التين ليضم 19 ألف فرد !!
وتم اعداد مركب فوق البر بسواريها وقلوعها للتدريب عليها وكأنهم فوق سفينة في البحر (وهو يسمي الآن تدريب بالمحاكاة ! ) . وبعض هؤلاء المتدربين تم تشغيلهم بعد ذلك في سفن النقل . وتم انشاء مستشفي خاصة في شبه جزيرة رأس التين لهؤلاء البحارة المحظوظين ومستشفي أخري في الترسانة . ولم يكتف محمد علي بذلك بل اسس مدرسة بحرية علي ظهر البحر حتي يكون التدريب كاملاً .
وذلك بتخصيص إحدي السفن الحربية لتكون مدرسة عائمة في البحر فعلاً ثم أصبحت مدرستين في سفينتين . وكان قادة هذه المدارس مصريين .
كذلك تم استخدام بعض العائدين من البعثات , ان لم يكن كلهم في ترجمة أحدث الكتب الصادرة في أوروبا عن مختلف فنون البحرية وقوانين البحار والبحرية ومختلف التخصصات في الملاحة والعسكرية البحرية ، وذلك لاستخدامها في التدريس وهكذا يتم الاستغناء عن أو تقليص البعثات للخارج أو استمرارها لاكتشاف أي جديد . وهذا الأسلوب تكرر في مختلف التخصصات . من الروايات الطريفة أن محمد علي كان يحتجز كل مبعوث عائد داخل القلعة ولا يذهب إلي بيته حتي يترجم كتاباً في تخصصه ، أقصد يحدد إقامته بالقلعة حتي لايتصور أحد أنه يضعه في زنزانة !! نحن أمام حالة غير عادية من الجدية والصرامة في البناء .
بقيت حاجة ناقصة في منظومة الصناعة الوطنية للسفن .. احذروا ماهي ؟!
هي نفس الحلقة المنقوصة التي تعجزالصناعة المصرية حتي الآن في اوائل القرن 21 –€・وهي استيراد السلع الوسيطة الداخلة في المنتج النهائي . فأنت اذا لم تصنع كل أو معظم مكونات المنتج المصري خاصة اذا كان منتجاً استراتيجياً .فستظل تعتمد علي الاستيراد من الخارج ، وهو قد يُمنع في حالة السلع الاستراتيجية أو يرتفع سعره بصورة غير متوقعة . وكان التجار الافرنج يتعمدون رفع أثمان المهمات والأدوات الداخلة في صناعة السفن ويوردون الأصناف الرديئة ، فألف محمد علي لجنة مهمتها توفير كل مايلزم لأعمال السفن من داخل البلاد.
وهكذا كما ترون نحن لسنا أمام حدوتة أو محاولة لتقريظ محمد علي بل استخراج خطة التنمية والتنمية المستقلة في مصر القرن الحادي والعشرين !
وقد أشار الأفغاني لاعتماد النهضة اليابانية علي  البعثات التي أرسلت إلي البلاد الأوروبية للدراسة والتعلم في مختلف فروع العلم وما اتبع ذلك من استقدام عدد من الأخصائيين الأجانب في شعبات الإدارة لسنين محدودة مقابل رواتب معينة لمتابعة عمل هؤلاء المبعوثين بعد عودتهم لليابان كل في تخصصه . وقد اعترف هؤلاء الخبراء بتفوق اليابانيين ورحلوا من اليابان قبل انتهاء العقود !    ( خطرات جمال الدين الأفغاني )
وهذا مافعلته الصين وكوريا الجنوبية في نهضة القرن العشرين ، فكان استقدام الاستثمارات الاجنبية مرتبطاً بخطة لتدريب كفاءات وطنية لتحل محل الخبراء الأجانب .
وزيادة تدريجية للمكون المحلي للمنتج وفق جدول زمني متفق عليه ، وهذا مافعلته الصين مع بعض الماركات العالمية للسيارات بحيث أصبحت صينية 100% بينما تضع عليها علامة الشركة الأصلية الكبيرة مقابل مبلغ من المال . ولكن من خلال ذلك تعلمت الصين صناعة السيارات وأصبحت تنتج سيارات صينية بماركات صينية وموديلات صينية وهي متوفرة في السوق المصري الآن وكل أسواق العالم .
صناعة البحرية :-
منذ وعيت علي الدنيا وأنا أتابع السياسة منذ أواخر الخمسينيات ولم أطلع ولم أسمع أو أقرأ أبداً عن أي صناعة في مجال التسليح البحري في بلادنا ، وكانت هناك بعض البدايات الجادة في عهد نظام يوليو لولوج باب التصنيع الحربي . وانتجنا بعض الأسلحة في بعض المجالات ولكن هذا لم يحدث في مجال البحرية فاعتمدنا بشكل كامل علي الاستيراد من الاتحاد السوفيتي. وهذا سبب توقفي الطويل أمام هذا الانجاز المبكر لمحمد علي بهدف التنبيه لما هو مطلوب الآن في القرن الواحد والعشرين وليس الهدف التمجيد في محمد علي فهذا ليس من شغلي أو عملي ، وبالمناسبة فمعظم كتابات التاريخ تنصف محمد علي وتتحدث عن انجازاته ، وكل الشعب المصري يعرف القناطر الخيرية وان محمد علي هو صاحب هذا المشروع . مايحيرني هو قلة من المؤرخين الاسلاميين التي تحمل علي محمد علي باعتباره رائد التغريب ومحاربة الاسلام . ولايهمني أن يأخذ أي اسلامي  أو أي باحث أي موقف من أحداث التاريخ . ولكن مايهمني أن يهتم الاسلاميون بهذه القضايا ( التنمية الاقتصادية –・الاستقلال –・بناء القوة المسلحة –・تطوير التعليم –・تطوير جهاز الدولة ..الخ ) وليس من المصادفة ان عموم الاسلاميين لايهتمون بهذه القضايا ، باعتبارها ، كما يظنون ، أمور غير متصلة بالعقيدة وأنا لا أتبرأ من موقعي الاسلامي ، ولكن لي أراء إنتقادية لبعض مواقف الحركة الاسلامية ، وأحسب انها اجتهاد خاص مني ، أبتغي به وجه الله تعالي المطلع علي النيات.
البحرية المصرية
منذ أيام في اواخر عام 2013 تم اغلاق جريدة الشعب التي أتشرف برئاسة تحريرها وهذه هي المرة الخامسة التي تغلق فيها وليس جديداً علي هذا الموقف ولذلك أتقبله بصبر . وقد انتقدني بعد اغلاق الجريدة بعض قيادات الحزب وقالوا لي إنني تسببت في ذلك ” بتطرفي ” المعهود ، وقالوا إن الأعداد الأخيرة كانت بها موضوعات خطيرة وأشاروا بشكل خاص إلي موضوع تقرير كبير وواف عن البحرية المصرية . وقالوا : لعل هذا هو سبب إغلاق الجريدة , وغالباً هو كذلك .
حزنت ساعتها لأنني أدرك أن قرار غلق الجريدة وهو قرار سياسي ( غير قانوني ) يتصل بمواقفها العامة مما يجري في البلاد وليس من أجل هذا الموضوع أو ذاك . وان كنت لا أنكر إنني لا أصلح كصحفي في الكتابة إلا في صحف مغلقة !! أي مهددة دائماً بالغلق بسبب مواقفها ، وهذا ماورثته عن والدي رحمة الله عليه .
لقد آليت علي نفسي أن أقول الحقيقة وهذا هي أمانة الكلمة . فيما يتعلق بموضوعنا ، احسب أنه موضوع تاريخي ، وأنا مستعد للموت في سبيل نشره ، أي إن كان نشره سيكلفني حياتي فلا أتردد . لا أستطيع أن ألخص التقرير الآن فقد احتل صفحتين كاملتين من الجرنال . ولم أكن كاتبه وكان بدون توقيع . وقد نشرته حباً في هذا الوطن وفداءً لهذا الجيش الذي اتمني أن يعود لمحاربة اسرائيل وسيفعل يوماً ان شاء الله . وعندما قرأت التقرير هالتني أوضاع التسليح في بلادنا عموماً والتسليح البحري خصوصاً ، ولم أتردد لحظة في نشره وكان هو مانشيت العدد . وكان العنوان ساخراً من أجل جذب الناس للقراءة ( نرفض أن تكون البحرية المصرية من طراز نورماندي تو )
وهي مركب صيد عبد الفتاح القصري في فيلم حميدو التي غرقت فور تدشينها في البحر ! وكان هذا التعبير موجوداً في التقرير ولم أكتبه من عندي لأني غير متخصص في الموضوع من أصله ! ولكنني فقط وضعته في العنوان .
وقصة هذا التقرير أنه زارني في مكتبي بالجريدة شخص محترم متوسط العمر مرتين أو ثلاث مرات وأعطاني تقريرين للنشر هذا أحدهما الذي يهمنا الآن في موضوع البحرية . هو لم يعرف نفسه وعندما قرأت التقرير لم يكن هناك أي احتمال سوي انه من كوادر جهاز مخابرات (إما العامة او الحربية ) وليس هو كاتب التقرير علي الأغلب ، فهو مجرد شخص مقنع لتوصيل الرسالة . التقرير ويمكن الرجوع له اذا كان لايزال علي الانترنت علي مستوي رفيع لاتكتبه إلا لجنة من كبار ضباط البحرية أو ضباط بحرية متمرسين و التقرير رغم عنوانه الكوميدي هو تقرير في منتهي الاحترافية . ومالدي من ثقافة عسكرية واستراتيجية عامة ساعدني في تقدير التقرير .
المهم ان التقرير لايحوي أي أسرار ولكن يصف مستوي التسليح المتخلف للبحرية المصرية ، والتي تستخدم قطعاً بحرية لم تعد موجودة في الخدمة في العالم ! وهو كله سلاح مستورد من دول غربية ، وبالتالي لاتوجد أي اسرار.
خلاصة التقرير أنه صرخة لتحديث تسليح القوات البحرية . أنتهز الفرصة الآن لأقول : كفانا استيراداً للأسلحة من الشرق والغرب ، نريد أن نعود للتسليح الوطني لأن حربنا لتحرير فلسطين قادمة.. قادمة باذن الله ، ولابد أن نعد لها ما استطعنا من قوة . وقد أشرت عدة مرات فى دراساتى إلي  أهمية القوات البحرية بل أكدت إن أي قوة عظمي لا تحكم العالم بدون قوات بحرية قوية . وأيضاً في المجال الدفاعي لمصر التي تقع علي البحرين المتوسط والأحمر لاتملك إلا أن تكون لها قوة بحرية قوية . وهذا يؤكد المستوي الاستراتيجي الرفيع لدي محمد علي وسنري في الحروب كيف برهن هذا الأسطول علي أهميته . وان كنت أطمع كما ذكرت آنفاً أن تكون مصر قائدة أو علي الأقل جزءاً لايتجزأ من الدولة العربية والاسلامية العظمي ولكن الواقع والموقع والقرآن يرشحها للقيادة . ولهذا السبب أطلت في تفاصيل تجربة محمد علي في الصناعة البحرية .
حاشية : أثناء وجودى فى “الاعتكاف” ! بين 2014 و2021 لاحظت من خلال الصحف الرسمية
ان القوات المسلحة المصرية لم تُحدث أي فرع بأكثر مما حدثت القوات البحرية إلى حد شراء حاملة طائرات هليكوبتر وقطع أخري متنوعة .
– 6 –
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

محمد علي يصنع المدافع والبنادق والبارود بجودة أوروبية

مصانع الغزل والنسيج والسكر تغطي محافظات مصر
المنسوجات المصرية تفوق الأوروبية وتغزو أوروبا
انشاء أول خط تلغراف بين مصر والاسكندرية

 
اهتمام محمد علي بالتصنيع ومحاولة اللحاق بالثورة الصناعية التي بدأت لتوها في أوروبا في بدايات القرن 19 م هو الأمر الأهم اللافت للنظر ، واذا لم تنكسر هذه الموجة الصناعية لكنا نعيش الأن في عصر واحد من الناحية التكنولوجية والاقتصادية والصناعية مع أوروبا والغرب ، كما هو حال اليابان .وهو الأمر الذي غاب عن ذهن حكام مصر قبل وبعد محمد علي بل وغاب عن اهتمامات الدولة العثمانية رغم احتكاكها المباشر بالواقع الأوروبي . ولاتزال الآن وبعد قرنين من الزمان المهمة الأساسية المفقودة في اهتمامات حكام مصر والعرب وهو الأمر الذي يحكم علينا بأن نظل في ذيل الأمم ، بل ” ملطشة ” الأمم ، الحائط الواطي ، والأمة المستباحة المديونة والمتسولة .وحتي البلدان النفطية فقد أضاعت أموالها لعمل ازدهار سطحي مصطنع دون القيام بتنمية حقيقية . وأنا أريد تسليط الضوء علي هذه المهمة الملحة المفقودة من خلال وقفتي الطويلة نسبياً مع انجازات محمد علي منذ 200سنة في المجال الصناعي .
وكما اهتم محمد علي ببناء السفن والأسطول الحربي فإنه أول من يعرف أن سفنا بدون أسلحة متطورة لاقيمة لها من الناحية العسكرية . وقد تضافر هذا الاهتمام مع إدراكه لضرورة بناء جيش قوي لحماية استقلال البلاد بل ولتوسيع نفوذها . كان محمد علي مفكر بشكل فطري بسيط ، وكما يقال أحيانا فإن الفلسفات الكبري تنبع من الأمور البديهية ، وان الاصرار علي تنفيذ الأفكار البسيطة هو الذي يصنع المشروعات الكبيرة . لاتوجد أية ألغاز في طريق التقدم العلمي والتكنولوجي . المسألة مجرد جدية وإصرار ومتابعة وتراكم خبرة وإرادة.
هذه الأفكار لاتغيب عن ذهن حكامنا المعاصرين ولكنهم يتسمون بالرخاوة وعدم الجدية والاستنامة للتبعية وتلقي السلاح مجاناً من الأعداء ، وكأن ذلك بلا ثمن من استقلالنا وكرامتنا وحرياتنا وقدرتناعلي تحقيق أهدافنا . رأي محمد علي إن إنشاء جيش يحمي البلاد ، وقد رأي غزوتين متتابعين من فرنسا وانجلترا 1798- 1807 ، أمر غير ممكن بدون توفير السلاح والذخيرة من داخل البلاد ، اذ الاعتماد علي جلب السلاح من الخارج يعرض قوة الدفاع الوطني للخطر ويجعل الجيش والبلاد تحت رحمة الدول الأجنبية . وبدأ بتأسيس ترسانة القلعة لصنع الأسلحة وصب المدافع بإسناد هذه المهمة لأدهم بك قائد المدفعية . وكان في هذه الترسانة الممتدة لمسافة كبيرة حول القلعة 900 عامل ، ويصنع فيها كل شهر 650 بندقية ، تتكلف كل بندقية اثني عشر قرشا مصريا. عندما كنت في الجيش المصري 1972-1975 كان التسليح الشخصي يعتمد علي البندقية الآلية من طراز كلاشينكوف الروسي وهي بندقية آلية ممتازة ، وعلمنا أنه أصبح لدينا مصنع ينتجها في مصر في ذلك الزمان وهذا جيد .ولا أعرف الوضع الآن وإن عرفت لن أكتب فقد تكون أسراراً عسكرية.
  في ترسانة القلعة كان يتم صنع زناد البندقية والسيوف والرماح وكل احتياجات تسليح المشاه والخيالة بالإضافة لمصانع لتصنيع صناديق البارود ومواسير البندقية ، ومصنع آخر لصنع ألواح النحاس التي تستخدم لوقاية السفن الحربية . وكان أهم مصانع الترسانة معمل صب المدافع .وكان يصنع كل شهر 4 مدافع من عيار 84 رطل ، ومدافع الهاون ، ومدافع قطرها 24 بوصة . ويعمل في هذا المصنع 1500عامل .
وقد زار المارشال مارمون – المشار إليه سابقاً –・ترسانة القلعة عام 1834 وكتب في كتابه :(زرت دار الصناعة بالقلعة وعنيت بها فحصاً وتقصيا فألفيت البنادق التي تصنع فيها بالغة من الجودة مبلغ ما يصنع في معاملنا وهي تصنع علي الطراز الفرنسي. وتتخذ فيها الاحتياطات والوسائل التي نستعملها نحن لضمان جودة الأسلحة . وتتبع النظام نفسه الذي نتبعه نحن في تصريف العمل وتوزيعه والرقابة عليه ، وكل مايصنع يعمل قطعة قطعة ومعمل القلعة يضارع أحسن معامل الأسلحة في فرنسا من حيث الإحكام والجودة والتدبير)  – رحلة المارشال مارمون جزء3 .
وستؤكد مجريات أحداث الحروب التي خاضها الجيش المصري مصداقية هذه التقديرات , كما سنأتي ان شاء الله . ونعود لنؤكد أن أدهم بك ( أصبح باشا فيما بعد) الذي أسس هذه الترسانة لم يكن خبيراً أجنبياً ولم يذهب إلي أوروبا في البعثات التعليمية وكان أصله من الأستانة ولكنه استوطن مصر وتمصر تماماً وشارك محمد علي في تأسيس الجيش النظامي المصري ، وكان ضابطاً بالمدفعية ، وكان يدرس الهندسة لقيادات الحكومة المختصة بشئون هندسية وكان راهباً في محراب صناعة الأسلحة ، فعندما عزل من منصبه لفترة قصيرة كان المعلمون في الورش كما يقول علي باشا مبارك . يحضرون إليه في منزله ويستفهمون منه عن العمل في البنادق والمدافع ونحو ذلك وهو يفيدهم بجد واجتهاد رغبة منه في خدمة الديار المصرية –・الخطط التوفيقية . ثم أعاده محمد علي إلي العمل ورقاه إلي أمير لواء ، ثم تولي وزارة المعارف ( وزير التعليم ) من 1839-1850 . وعاد لتوليها في عهد اسماعيل 1863. ويثني عليه علي باشا مبارك في عمق تدينه وإخلاصه واهتمامه بمشكلات المستضعفين ورعايته الدقيقة لأحوال المدارس .ويقول المارشال مارمون (إن إختيار محمد علي لمثل هذا الرجل لمعاونته لدليل علي صدق نظره وفراسته وحسن توفيقه في اختيار رجاله ) .
انشأ محمد علي مصنعا آخر للبنادق في الحوض المرصود (أعتقد أنه بالسيدة زينب) عام1831 وتولي إدارته رجل إيطالي أسلم وأصبح اسمه علي أفندي وهو من تلاميذ أدهم بك . ووصل عدد العمال في المصنع إلي 1200 وكانوا يصنعون في الشهر 900 بندقية والبندقية تكلف 40 قرشاً .
وكانت المدافع المنتجة تتعرض للتجارب كل أسبوع ويتم استبعاد غير الصالح (حوالي الخمس) .
وتم انشاء مصنع ثالث في ضواحي القاهرة للأسلحة ، وكانت المصانع الثلاثة تصنع في السنة 36 ألف بندقية عدا الطبنجات والسيوف .
وأقيم معمل للبارود في جزيرة الروضة ( 90 عامل ويصنع كل يوم 35 قنطاراً).
وتم انشاء 5 معامل أخري للبارود في البدرشين والأشمونين والفيوم واهناس والطونة ومجموع انتاج المعامل بالسنة 15.784 قنطاراً . وأذكر مواقع المصانع متعمداً حتي يدرك القارئ أن التطور الصناعي كان يمتد علي كامل رقعة الوطن وحيث يتعلم المواطنون في مختلف المحافظات هذه الأعمال .
وتم تصنيع ملابس جيدة للجند ( جوخ في الشتاء . قطن سميك في الصيف ).
مصانع الغزل والنسيج :-

كان أول مصنع للغزل والنسيج في الخرنفش لغزل خيوط الحرير لصناعة القطيفة والساتان الخفيف وغزل ونسج القطن لانتاج البافتة والموسلين والبصمة والشاش والباتست . ويتم تبييض المنسوجات في المبيضة بشبرا .وهي منطقة لاتزال بنفس الاسم في شبرا اسمها (المبيضة) . ويوجد ملحقاً بالمصنع ورش في مختلف التخصصات لصيانة الآلات . ثم مصنع غزل ونسيج في بولاق . وكانت المصانع في ذلك الزمان تعتمد علي دواليب يحركها الثيران .
وفي بولاق كانت توجد 8 أفران لصهر الحديد وسبكه لصنع مراسي المراكب وكل مايلزم لبناء السفن . وكان مسبك الحديد يصب كل يوم خمسين قنطار من الحديد . كما يوجد مصنعان آخران لغزل القطن .
وكان الجمهور يقبل علي المنتجات المصرية من الأقمشة ويفضلها علي الأنواع الواردة من ألمانيا وانجلترا حتي قل الوارد منها . كما وجدت مبيضات أخري في القليوبية وشبين والمحلة الكبري والمنصورة . وفي عام 1833 تم انشاء مصنع نسيج في بولاق يعمل بآلة بخارية وانشأ في حي السيدة زينب مصنع لأمشاط الغزال ، وبه قسم للنسيج . ومصنع للجوخ في بولاق . وآخر في دمنهور وبعض المصانع الأخري بالقاهرة .
وكان في مصر قبل محمد علي نسيج الأقمشة الحريرية ولكن محمد علي توسع في غرس أشجار التوت ليكثر من إنتاج الحرير ، وأحضر عمالاً متخصصين في هذا المجال من الآستانة . وجرت الصناعة في مصنع الخرنفش وفي عام 1833 انتج من الحرير زنة 4 آلاف أقة . وحذق العمال المصريون صناعته وان لم يرتق الانتاج إلي مستوي المنسوجات الإيطالية . وتم انشاء مصنع للحبال خدمة للترسانة البحرية كما ذكرنا . وصنعت في القاهرة منسوجات الصوف كملابس البحارة والبطانيات (4000 نول ) . ومصنع طرابيش في فوة حيث تم استدعاء صناع من تونس المشهورة بصناعة الطرابيش حيث علموا العمال المصريين الصنعة.
ولاحظ ان فكرة استدعاء الفنيين تجري من بلدان شتى اسلامية أو غير اسلامية حسب الإحتياج. وكان المصنع ينتج 720 طربوشاً كل يوم لتغطية احتياجات الجيش والمدنيين .
في بدايات القرن العشرين اندثرت صناعة الطرابيش في مصر بينما كانت من ضمن الزي الرسمي للموظفين والطلاب والناس عموماً ولذلك كانت الطرابيش تستورد من الخارج !! لذا فان مشروع القرش الذي دعا إليه أحمد حسين وهو طالب بالحقوق قام بتأسيس مصنع لانتاج الطرابيش وبدأ انتاجه عام 1931 تقريباً ، والمصنع لايزال موجوداً بالعباسية ولكن حُور إنتاجه إلي إنتاج بطاطين للجيش.
وكما ذكرت فإن النهضة الصناعية تمتد  لتشمل معظم المحافظات . فمصانع الغزل والنسيج أنشئت في قليوب وشبين الكوم والمحلة الكبري وزفتي وميت غمر والمنصورة ودمياط ودمنهور وفوة ورشيد ، وصنعت في رشيد آلة بخارية لتدير طواحين تبييض الأرز بمساعدة ميكانيكي إنجليزي . أما في الصعيد فأنشئت مصانع الغزل والنسيج في بني سويف وأسيوط والمنيا وفرشوط وطهطا وجرجا وقنا .
وكان جزء من القطن المغزول يتم تصديره إلي موانئ البحر الأدرياتي وثغور التوسكان بإيطاليا حيث توزع في إيطاليا وألمانيا وبعض المنسوجات كانت تصدر إلي سوريا والأناضول وجزر بحر الأرخبيل ( اليونان ) . لاحظ ان المحلة الكبري تستورد في أوائل القرن الواحد والعشرين الغزول من الخارج من ( ايران وغيرها من الدول ) وطبعا فان المنسوجات والأقمشة الآسيوية تغزو الأسواق المصرية الآن. أما في عهد محمد علي فان الإنتاج المصري من المنسوجات أضر بالواردات الأجنبية . والبفتة الهندية بعد أن كانت تغمر الأسواق المصرية انقطع الوارد منها لما حلت محلها البفتة المصرية ، وهذا ماحصل لأقمشة البنغال (في القرن الواحد والعشرين سبقتنا البنغال أي بنجلاديش في صناعات النسيج وتصديرها ).
وكانت مصانع الكتان موجودة قبل محمد علي ولكن كمية الانتاج زادت في عصره إلي 3 مليون قطعة سنوياً يصدر قسم منها إلي تريستا بإيطاليا وليفورن .
وانشأت الحكومة مصنعاً لانتاج ألواح النحاس التي كانت تبطن بها السفن وأداره ميكانيكي انجليزي وقام بتدريب المصريين .
أما مصانع السكر فكانت في الصعيد في ملوي بالمنيا وتولي إدارتها انجليزي وتبعه صاحب  مصنع من كورسيكا ( جزيرة تابعة لفرنسا ) أي لم يترك محمد علي أي بلد في العالم لم يستقدم منه خبيراً أو فنياً . وتم انشاء مصنعين آخرين أحدهما في ملوي والثاني في ساقية موسي . وتم انشاء سلسلة مصانع للنيلة ( صبغة زرقاء ومنها نقول : ” جتك نيلة ” لأن لونها كان أزرق غامق ) وذلك في شبرا شهاب والعزازنة وميت غمر والمنصورة ومنوف وابيار والأشمونين وبركة السبع والمحلة الكبري والجيزة وأبو تيج وملوي ومنفلوط وطهطا وأسيوط والفشن وتستخدم المصانع سدس محصول القطر المصري والباقي يباع في القاهرة أو يصدر للخارج. وانشئت مصانع أخري مختلفة ، منها مصنع للصابون ومدبغة للجلود برشيد ومصنعان للزجاج والصيني وآخر للشمع ومصنع للورق ومعاصر للزيت .وهذه كانت موجودة من قبل .وانشأ محمد علي داراً للرصد الفلكي ( رصد خانة ) في بولاق .
التلغراف :-
تم انشاء خطوط تلغرافية علي طريقة ( شاب ) القديمة علي عدة مراحل وكانت الرسالة التلغرافية يستغرق وصولها من الأسكندرية لمصر 35 دقيقة ، وهذا جيد جداً في ذلك الزمان . أما التلغراف الحديث فأدخله الخديوي سعيد ابن محمد علي ولما تم العدول عن خط سكة حديد من القاهرة إلي السويس استخدمت القضبان في مد سكة حديد قصيرة بمحاجر طرة لنقل الأحجار إلي شاطئ النيل كي تستعمل في بناء القناطر الخيرية .
لماذا لم تتواصل النهضة الصناعية ؟

السؤال البديهي الذي يطرح نفسه لماذا لم تتواصل النهضة الصناعية بعد محمدعلي؟
كما ذكرت في البداية في سلبيات عهد محمد علي الظاهرة غياب أو ضعف المؤسسة. بناء دولة المؤسسات هو الذي يضمن استمرارها واستمرار انجازاتها فكل هذه الانجازات الجبارة في عهد محمد علي في الصناعة وغير الصناعة لم تستمر لأنها كانت مرتبطة بشخصه ، ليس لأنه احتكر الزراعة والصناعة فهو لم يحتكرهما بغرض الطمع الشخصي في الحصول علي الأرباح ولكن من أجل تمويل المشروع الاجمالي .أي إنه قام بما نسميه الآن القطاع العام وليست هذه هي المشكلة فقد كان يمكن تصحيحها بإعادة الإعتبار تدريجياً للملكية الشخصية وهذا ماحدث فعلاً في أواخر عهده وفى عهد أولاده وأحفاده . ولكن المشكلة انه لم ينشئ وزارة صناعة ومجلس أعلي للتصنيع ولم تدار البلاد كمؤسسات : جهة للتخطيط وجهة للتنفيذ وجهة للتشريع ومجلس شوري حقيقي يدير البلاد تنفيذياً أو تشريعياً أو رقابياً . كان محمد علي يقوم بكل شئ بنفسه وهذه وإن كانت قدرات فذة إلا إنها لاتصلح إلا علي المدي القصير , وبالكثير جداً في عهده هو وخلال حياته أما أولاده وأحفاده الذين بذل جهداً كبيراً في تربيتهم وإعدادهم فقد كان أنجحهم ابراهيم باشا ومات مبكراً حتي قبل محمد علي ، يليه الحفيد ابن ابراهيم الخديوي اسماعيل وسنتحدث عنهما ، فحتي لو عاش ابراهيم بضع سنين وتجنب اسماعيل ماوقع فيه من أخطاء الإستدانة فقد كان مآل نهضة محمد علي إلي زوال قريب بسبب غياب المؤسسات ,وهذا من أهم أسباب تواصل النهضة اليابانية وأيضاً الصينية . أما كارثة التوريث فهذه كارثة الأمة منذ الحكم الأموي حتي الآن ، لأنه مهما كان إعداد الوريث جاداً فهذا لايكفي لضمان نجاحه ، كما أن هناك صفات شخصية لايصلح معها الإعداد والتدريب والتعليم . ولابد أن توجد آليات واسعة في المجتمع لتوسيع دائرة اختيار أو انتخاب الحاكم بعيداً عن حكاية الأسرة الحاكمة . وهذا هو النظام الشوري الاسلامي الحقيقي .
( راجع كتابي  النظام السياسي في الاسلام + كتابان لحاتم المطيري : الحرية أو الطوفان –・مرجع سابق وتحرير الانسان  وانصح كل مسلم بل كل من يريد أن يفهم الاسلام علي حقيقته ان يقرأ هذين الكتابين ).
النظام التعليمي في عهد محمد علي هو الذي استمر أكثر من غيره ، بل لعله ظل مستمراً حتي الانهيار الكبير في التعليم في عهد مبارك . لماذا؟ لأنه في مجال التعليم انشأ ديوان المدارس الذي تطور الي وزارة المعارف والتي تحقق فيها أعلي قدر من المؤسسية حيث ترك ( العيش لخبازينه ) . فلم يكن محمد علي يخشي من وزارة المعارف أن تنازعه السلطان !! فترك المؤسسية تأخذ مداها ، ولذلك فرغم الانتكاسات الكبري التي حدثت في مشروع النهضة في عهدي عباس الأول وسعيد إلا أن إعادة إحياء المجال التعليمي كان ميسوراً أكثر من غيره في عهد اسماعيل وما بعده من فترات جيدة متقطعة في حكم أسرة محمد علي الذي استمر حتي 1952 .ورغم تأسيس ديوان لإدارة الفبريقات ( اي المصانع ) إلا أنها كانت لمجرد الادارة اليومية ، ولم تقم بوضع أي خطط لتطوير الصناعة وتنمية البحث العلمي في مجال الصناعة ، وتشجيع كبار الملاك الزراعيين للولوج في مجال الاستثمار الصناعي ، وهذه من أهم سمات النهضة اليابانية ، فإمبراطور اليابان ( الميكادو ) استخدم مؤسسات الدولة لإقناع أو لدفع كبار الملاك الزراعيين ( الاقطاعيين ) للتحول إلي النشاط الصناعي ، وبذلك انتقلت اليابان من المرحلة الزراعية الاقطاعية إلي المرحلة الصناعية بدون ثورات كتلك التي حصلت في فرنسا ( الثورة الفرنسية في اواخر القرن 18 ) للقضاء علي النظام الإقطاعي وتأسيس نظام صناعي رأسمالي . بينما نحن لانزال كنخبة مشدودين للتجربة الأوروبية ونجعل أوروبا- كما تريد هي –・مركزاً للعالم ونصور أن ماحدث فيها لابد أن يتكرر في بلاد افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية التي تخلفت عن ركب الحضارة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهكذا ضاقت علينا الدنيا بما رحبت !

<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

>
– 7 –
محمد علي واللحاق بأوروبا في عصر البخار

أدخل القطن طويل التيلة وقام يوسف والي بتدميره
استنساخ الآلات الأوروبية لتأكيد الاعتماد علي الذات
فرض الحواجز الجمركية لحماية الصناعة المصرية
لايسير في النهضة الصناعية حالياً إلا ماليزيا وتركيا وايران

علي خلاف رأي كثير من المؤرخين ، أري أن جهود محمد علي وانجازاته في مجال الصناعة هي الأهم طراً بشكل عام وهي مهمة للمقارنة مع التحديات الراهنة التي تواجهنا في مقتبل القرن الحادي والعشرين .
كانت مصر قبل تولي محمد علي الحكم ، وطوال القرن الثامن عشر في أحوال متدهورة عموماً بلغت ذروة تدهورها قبيل الحملة الفرنسية ، أعني في المجالات الإقتصادية والاجتماعية والعمرانية بشكل عام .كانت مصر دائماً في هذا القرن (18) دولة مصدرة للقطن الخام ، وكانت لاتزال قادرة علي تصدير بعض المنسوجات القطنية وكانت تستورد كل احتياجاتها من الحرير الخام وبعضاً من احتياجاتها من القطن من الشام .
وكانت مصر –・في المقابل –・تدفع ثمن هذه الواردات من صادراتها من الأرز والحبوب إلي المنطقة ، بالإضافة لبعض المنسوجات بل كانت تصدر المنسوجات إلي فرنسا في الجزء الأول من القرن الثامن عشر ثم تقلصت بعد ذلك .
وكانت لدي محمد علي منذ وقت مبكر في حكمه فكرة التوسع في الصادرات لتزيد عن الواردات كمنبع أساسي لتراكم الثروة . والعجيب ان علي بك الكبير الذي سبقه في محاولة للاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية في القرن الثامن عشر كان يفكر بنفس الطريقة ، ولكنه حقق نجاحاً أقل من محمد علي . وكان مفتاح النجاح لدي كليهما هو وجوب سيطرة الدولة علي التجارة وعلي توجيهها وهذا ماحققه محمد علي ولكن بأسلوب أكثر تطوراً بتزايد الاعتماد علي تطوير الصناعة لاستخدام منتجاتها في التصدير وهذا أعلي ربحاً من تصدير الحاصلات الزراعية .
وسجل بورنج ( دبلوماسي انجليزي ) ان محمد علي قد أبلغه رداً علي محاولة بورنج وغيره لإثنائه عن الطريق الصناعي باعتباره غير ذي جدوى لمصر الزراعية والمتخلفة أبلغه أنه كان يقيم مصانعه من أجل ( أن يتعود الناس علي الصناعة أكثر من كونها من أجل أي ربح مباشر متوقع . كما برر إجراءات الحظر الحمائية ( اي الحماية الجمركية ) التي اتبعها بأن أشار إلي أن هذا النظام نفسه كان متبعاً في انجلترا وفرنسا . وذكر بورنج في تقرير له أن محمد علي قال : ” كان لكم أنتم ( انجلترا ) بداياتكم مثلما كان لي وكانت مكلفة بالنسبة لكم مثلما هي بالنسبة لي ، وأنا لا أتوقع أن أبدأ بالكثير من النجاح لكني سوف أنجح شيئاً فشيئاً “
كانت الأمور واضحة ناصعة الوضوح في ذهن محمد علي . في أواخر القرن العشرين وحتي الآن لا نجد من حكام المسلمين من يفكر هكذا إلا في ماليزيا وتركيا وايران . يقول محمد علي للفرنسي بوالوكونت (إن مصانعي تحررني اليوم من الإتاوة التي اعتادت الصناعة الأوروبية أن تفرضها علي مصر ، كما أن المبالغ التي كنت أدفعها مقابل المنسوجات والحرائر التي نستوردها منكم سوف تبقي الآن في البلاد)
Une mission militaire francaise de Mohamed Aly- Douin, Boislecomte.    القاهرة 1923
العثمانيون أيضاً يحاربون التصنيع في مصر
كان العثمانيون طوال فترة حكم محمد علي لمصر في أسوأ أحوالهم بل ظلوا في انحدار دائم حتي السقوط الرسمي للخلافة في اوائل القرن العشرين . وكما ذكرت من قبل فقد كان مشروع محمد علي طوق النجاة لهم وكان يمكن أن يجدد دماء الأمبراطورية العثمانية بالنهضة التي يقوم بها في قلب العالم العربي والاسلامي ، وقد كان في سنين حكمه لايسعي إلا إلي نوع من الحكم الذاتي أو الاستقلال ، ولكن في اطار الدولة العثمانية ، أى بالمفهوم الكونفدرالى الحديث . ولكن السلاطين لم يشغلهم إلا اخضاع محمد علي بل الخلاص النهائي منه حتي وإن كان بالتعاون مع القوي الأوروبية المعادية للاسلام . وهم دائما الذين بدأوا محمد علي بالعداوة والبغضاء والتآمر منذ اليوم الأول لحكمه – كما أوضحنا. بل في وقت يطلبون منه ويلحون فى إنفاذ حملة للحجاز لإخضاع الحركة الوهابية ، وعندما يأخذ محمد علي استعداده لهذه الحملة بعد أن أمن الجبهة الداخلية من تمرد المماليك ، ويقرر إنشاء مصانع للذخائر والبارود والأسلحة ، وعندما بدأت المصانع تعمل بالفعل عام 1810 وتنتج هذه الأسلحة والذخائر وتصل أنباء ذلك للباب العالي يصدر فرمان ويتم ارساله لمصر ، فرمان يحذر فيه الوالي محمد علي من أن إنشاء هذه الورش لتصنيع الرصاص والرش يعد أمراً ممنوعاً . فهل أرسلت الآستانة إحتياجات الجيش المصري ؟ وهل تضمن انتظام الامدادات بالأسلحة والذخيرة من الآستانة لمصر ثم من مصر للحجاز ؟ . وقال العثمانيون انهم يحتكرون مثل هذه المواد من خلال مصنعين في أوسكدار وأزمير . وطبعا لم يأبه محمد علي بهذا الهزل ، وفي نفس الوقت واصل التزامه بالحملة التي خرجت للحجاز عام 1811م ، ولاشك انه اهتم بالحملة في اطار مشروعه الاستقلالي ولكن أيضاً في اطار عدم التمرد علي الآستانة . وسنلاحظ فيما بعد اصرار محمد علي على هذا التوازن حتي النفس الأخير من عمره ( الاستقلال عنده كان نوعا من الكونفدرالية التي تحدثنا عنها من قبل بخصوص الاتحاد الأوروبي ) .
مصانع اخري
بالاضافة لكل ماذكرنا وتأكيداً علي ماسبق فان ترسانة التسليح شملت مصانع للذخائر لانتاج قذائف المدفعية وطلقات الرصاص . وأشرنا من قبل لمصنع الصابون ، ولكن لهذا المصنع قصة وهي تهمنا في مسألة التنمية (لاحظ اننا نعتمد في القرن الواحد والعشرين علي صابون كامي وغيره من الأنواع الأجنبية ). كان ذلك في عام 1815 وكان المصنع مرتبطاً بمشروع زراعي كبير ، إذ أمر محمد علي بتجهيز منطقة تجريبية تسمي ” رأس الوادي ” بالقرب من بلبيس (الشرقية ) بسواقي لزراعة أشجار التوت وتربية دودة الحرير ، واشجار الزيتون لاستخراج الزيت .
وصدر الأمر بتزويد المنطقة بألف ساقية ، وأقيم مصنع للصابون ” علي الطريقة الشامية ” ومعاصر للزيت لاستخراج زيت الزيتون واستخدام جزء منه في صناعة الصابون .  ونقول للشباب الذين نشأوا في جيل “الكامي ” إن أفضل صابونة للاستحمام كانت الصابونة ماركة نابلسي نسبة إلي نابلس بفلسطين وكانت تنتج في مصر اعتماداً علي زيت الزيتون ، وهو أيضاً أفضل صابون للحفاظ علي الشعر . وغالباً كان منتج هذا الصابون فلسطيني أو شامي مقيم في مصر ، وأتحدث حتي فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين .
كذلك تم إنشاء مدارس فنية للتخديم علي الصناعة : مدارس للذخائر الحربية والتعدين والهندسة والكيمياء التطبيقية لتجاوز الاعتماد على البعثات للخارج .
قام محمد علي باستخدام التجار الشوام المسيحيين والتجار اليونانيين الذين استقروا في مصر ( من اليونان زيزينيا الذي يتسمي باسمه أحد أحياء الاسكندرية حتي الآن ) وبالمناسبة فقد تحول بعض هؤلاء اليونانيين إلي الإسلام . وكان لمحمد علي وكلاء تجاريين ( للتصدير !! قبل الاستيراد ) في فرنسا وانجلترا ومالطة وأزمير وتونس ونابولي والبندقية واليمن والهند . نعم لقد قرر مواجهة انجلترا في عقر دارها الاستعماري في الهند وابتداء من عام 1816 عرض تقديم مليون ونصف مليون ريال لمن يتولي مهمة تنظيم التجارة مع الهند وقد قبل ثلاثة هذا العرض وحصلوا علي ثلث الأرباح كنصيب لهم .( الجبرتي ) وكان التصدير لسائر أنحاء الأمبراطورية العثمانية من الثوابت بطبيعة الحال . وكان من أسباب إقبال محمد علي على التوسع في مساحات القطن وبمحاولة زراعة أشجار التوت وتربية دود الحرير تخفيض الواردات من المواد الخام . وسرعان ما اكتسحت الأقطان المصرية ( المنسوجات ) بعد تغطية السوق المحلي ، البحر الأحمر والسودان وسوريا والأناضول حينما أصبحت كل هذه المناطق جزءاً من الامبراطورية المصرية .ولم يكن يستورد إلا المنسوجات القطنية الفاخرة والمنسوجات الحريرية والأصواف ذات الجودة العالية .
وعندما اندفع محمد علي في صناعة الحرير ، صرخ القنصل الفرنسي  “روسل ” في تقاريره للخارجية الفرنسية في عام 1817 ( في خلال سنوات قلائل سوف توجه مصانع الحرير التي أنشئت في مصر ضربة مميتة إلي مصانع ايطاليا وحتي إلي مصانعنا نحن ) وفي عام 1818 قال : (ان مصر ربما تنافس المنتجات الفرنسية ) .
احتدام معركة المنسوجات بين مصر وبريطانيا :
احتدمت معركة منتجات النسيج القطنية بين مصر وبريطانيا في الصراع علي الأسواق العالمية وكانت هناك معركة موازية بين بريطانيا والهند حيث كانت صناعة النسيج الهندية متطورة وكان هناك تقارب تكنولوجي بين الطرفين . وقد اضطرت بريطانيا لاستخدام القوة العسكرية لإجهاض صناعة النسيج في مصر والهند , وكانت محتلة للهند وفي الطريق لاحتلال مصر . ولكن مع مصر كان يجب ان تخوض المعركة الاقتصادية أولاً لتعذر الاحتلال ( لقوة مصر العسكرية ) وتمهيداً لهذا الاحتلال بعد كسر القوة العسكرية . وكان من أسباب اشتعال المواجهة هو التطور التكنولوجي للثورة الصناعية في انجلترا الذي جري علي أساس هذه السلعة بالذات ( المنسوجات ) حيث أدي اختراع آلة السحب إلي إعطاء دفعة كبيرة لتقنيات غزل القطن ، لكن ظلت عملية النسيج تؤدى علي النول اليدوي حتي عام 1820 وعندما بدأ تطبيق استعمال النول الذي يدار بالطاقة ( البخار ) وبدأت المصانع المدارة بالطاقة في الانتشار السريع وأصبح هناك فائض من الانتاج يحتاج إلي أسواق جديدة ، وكانت المنسوجات تشكل نصف الصادرات البريطانية بأكملها ، أي كان ميزان المدفوعات البريطاني والبحرية التجارية والتجارة الخارجية البريطانية تعتمد علي هذه الصناعة بمفردها .
Eric. Hobsbawn,Industry and Empire. لندن 1969
وكان الخبراء والتجار الأجانب في مصر قلقين إزاء المنافسة المصرية للمنتجات الأوروبية . وكان الأمر قد وصل إلي حد أن كل الأقطان الأوروبية كانت قد نسخت التصميمات الشرقية ، وأصبحت أوروبا هي المقلدة وأن أكثر الأقطان جمالاً كانت النوعيات الهندية وليست الفرنسية أو البريطانية . بل وصل الأمر إلي حد أن فرنسا وبريطانيا وضعا تعريفات حمائية ( جمركية ) لإعانة صناعاتهم الوليدة ، وعندما أدرك محمد علي ذلك قام –・كما ذكرنا –・بفرض اجراءات حظر لإبقاء صناعات مصر قادرة علي المنافسة .  وكانت بريطانيا لاتملك المادة الخام (القطن ) بينما كانت مصر تملكها وهذه كانت نقطة قوة اضافية لمصر . كذلك كانت العمالة رخيصة والسوق مقيدة . ( وهو نفس الوضع الموجود الآن بين الصين والولايات المتحدة ) .
وامتدت المعركة للكتان فكتب دوين ( فرنسي ) ان انتاج مصر من منسوجات الكتان زاد الي حد أصبحت قيمته الانتاجية جزءاً من اثني عشر جزءاً من انتاجنا . وان مصر بدأت في التصدير بعد إشباع الاستهلاك المحلي ، وان سعر منتجاتها هو نفس سعر المنتج الأوروبي .                مرجع سابق Douin
وفي عام 1831 استوردت مصر أقمشة كتانية بـ 140 ألف قرش ولكنها صدرت في المقابل من نفس الأقمشة الكتانية ماقيمته مليون ونصف المليون قرش إلي الامبراطورية العثمانية وتوسكاني والنمسا واليونان ومالطة ( وهذا من ميناء الاسكندرية فحسب !!).
وأكد القنصل البريطاني في تقرير له ( أن الأقمشة القطنية كانت السلعة الوحيدة التي سببت أضراراً للصادرات التجارية البريطانية اذ أن انجلترا لم تعد ترسل الأقمشة القطنية والموسلين الهندي إلي مصر . ( عام 1838 ) .
ويقول الفرنسي دوين ان البريطانيين ( قاموا بتخريب الصناعة المصرية بصورة غير مباشرة اذ قام مستشاروهم بارسال فيض من الآلات الناقصة والمعيبة والمستهلكة غير القادرة علي الآداء إلي مصر ، وتم دفع مقابلها جميعاً نقداً وبأغلي الأسعار ) ولكننا نعرف بصورة مؤكدة ان محمد علي كان ينوع مصادر استيراد الآلات ، ويسعي لتصنيع الآلات في مصر فعلاً وهذا ماحدث إلي حد معقول . ولكننا نشير إلي نوايا ومخططات الانجليز . مسألة التصدير بالنسبة لانجلترا في لحظة تفجر الثورة الصناعية كانت مسألة حياة أو موت ( التصدير أو الموت !!) ولم تكن مشكلة محمد علي في السوق المصري وحده ، ولكن لأنه يحجب عن انجلترا أسواق السودان والشام والحجاز والأناضول واليونان ومالطة ، بل أكثر من ذلك يخترق الأسواق البريطانية نفسها . في ذلك الوقت ظهرت في انجلترا نظريات اقتصادية حول ” الامبريالية الرأسمالية ” اعتبرت أن بناء الامبراطورية كان ضرورة إذا ما أريد للصناعة الجديدة أن تحيا
Bernard semmel,TheRise of free Trade Imperialism- كامبريدج -1970
وازدهر علم الاقتصاد السياسي ودافع ريكاردو( وهو المفكر الاقتصادي الذي تدرس أفكاره حتي الآن في كل الجامعات ) عن فكرة الاعتماد المتزايد علي التجارة الخارجية للتغلب علي تدهور معدل الربح بينما رأي ويكفيلد (اقتصادي انجليزي ) أن ( المجتمع الصناعي مواجه إما بالثورة أو بالاستعمار ) . لماذا ؟ لأن الرأسماليين رغم التقدم الصناعي الكبير لم يحققوا أرباحاً مجزية ولم يعد بإمكانهم إعطاء أجور معقولة للعمال تضمن هدوءهم واندماجهم في المجتمع ، وبالتالي فقد شهدت هذه الفترة تمردات شعبية وعمالية متعددة بالاضافة لقيام العمال بحرق الآلات باعتبارها ستؤدي إلي زيادة نسبة البطالة . وهكذا عمد الصناعيون البريطانيون الذين تحولوا إلي الأنوال التي تعمل بصورة آلية كاملة ، وتوسعوا بالتالي في انتاج النسيج إلي ممارسة الضغوط علي الحكومة لفتح أسواق خارجية للسلع البريطانية ( لاحظ أن هذا القانون لايزال يعمل حتي الآن في أمريكا وغرب اوروبا فكلما زادت الانتاجية وفي كل السلع وليس المنسوجات فحسب فان الحاجة للتصدير تتعاظم وإلا يخسر الصناعيون ، أو علي الأقل لايحققون الأرباح الطائلة المأمولة ) , حتي لقد لجأت بريطانيا إلي الوسائل العسكرية لفتح الأسواق كما حدث في حروب الأفيون في الصين . وبالمناسبة فقد كانت حروب أفيونية حقيقية تستهدف نشر الأفيون في صفوف الشعب الصيني لتغييبه وتخديره للمساعدة علي إخماد طاقاته الاقتصادية المعروفة من فجر التاريخ ، وكان لليهود دور كبير في تمويل هذه الحروب . وفي هذا الاطار العالمي وفي ظل هذه العقيدة كان لابد من تدمير محمد علي وصناعاته ، فلم تكن بريطانيا تريد دولة جديدة مستقلة في البحر المتوسط ، دولة قوية عسكرياً واقتصادياً وتكون بالتالي قادرة علي التصدي لتغلغلها في تلك المنطقة وفي الخليج العربي ( وكان اسمه ساعتئذ الخليج الفارسي ).
وفي المقابل كان محمد علي يدرك أن دولته الناهضة يمكنها الحصول علي المزيد من الأموال عن طريق تصدير المنتجات تامة الصنع أكثر من تصديرها للمواد الخام .علي عكس حكام اليوم في بلاد العرب والمسلمين الذين يفضلون تصدير الزيت والغاز ( البترول ) كمادة خام بدلاً من استغلاله في نهضة صناعية وأيضاً تصدير الذهب والحاصلات الزراعية والفواكه والخضروات وكل هذه تحقق هامش ربح أقل بكثير من المواد المصنعة .
وقد ساعد محمد علي ما اتخذه من قرار باحتكار التجارة فأصبحت قبضته حديدية وبالتالي تم وقف الاستغلال الحر لثروات البلد بواسطة الوكلاء الأجانب الذين كانوا يرتعون في البلاد من قبل ، مما أثار حقدهم وغضبهم ، ولكن فليذهبوا إلي الجحيم فقد كانوا يمتصون دماء وثروات البلاد . وأكد كلوت بك في كتابه ان القماش المطبوع في ” المبيضة ” ينافس المستورد من انجلترا وألمانيا بحيث أصبح الانخفاض في الواردات من هذه الأقمشة محسوساً .
وقد كان محمد علي يقرض التجار الأوروبيين ، ولكنهم كانوا يتهربون من السداد ، مما دفعه إلي طردهم من البلاد وكان كثير منهم انجليز . وقال قنصل بريطانيا في تقرير له ( إن محمد علي كان رحيماً مع هؤلاء التجار اذا يكتفي بطردهم ولو كانوا مديونين في بريطانيا لأودعوا في السجون حتي يتعفنوا ) . وتعلم محمد علي أن يصدر مباشرة للخارج وليس عبر هؤلاء الوكلاء والتجار الأجانب المقيمين في مصر . مما شكل لهم ضربة قاصمة . فكانت سفنه تصدر البضائع المصرية لأوروبا وتعود محملة بسلع مستوردة بدون وسطاء ووكلاء يسمسرون ويحصلون علي أموال من دم البلاد . وكان محمد علي يستخدم كما ذكرنا بعض التجار الأجانب أو الأتراك أو الشوام ولكنه يحولهم إلي موظفين عنده وكانوا يعدون علي أصابع اليد أو اليدين ، ويعملون تحت سيطرته الكاملة . وبحلول عام 1819 بلغت تجارة محمد علي الداخلية والخارجية من الاتساع والربحية درجة جعلته يقرر الاستقرار في الاسكندرية ثلاثة أرباع العام ليراقب التجارة عن كثب ! وفي عام 1820 أصدر قراراً شاملاً لكل التجار الأجانب بأن يدفعوا ديونهم أو يغادروا البلاد . واتفق القنصل الفرنسي في الاسكندرية مع القنصل البريطاني في مصر على وصف هذه السياسة بالكرم ( أي الطرد بدلاً من الحبس ) وكان بعض التجار يزعمون انه ليس لديهم أموال تغطي تكاليف السفر فكانت الحكومة تدفعها للخلاص منهم !! ومع ذلك ظلت هذه الدول الأوروبية علي قدر من الاستنطاع بحيث اعتبرت هذا الطرد انتهاكاً لحقوق الانسان وخرقاً للامتيازات الأجنبية . هم هكذا كانوا دائماً ولن يتغيروا وعلي أمتنا أن تحمي نفسها من هؤلاء الذئاب الذين يرتدون الآن رابطة العنق والبدل ويرشون أنفسهم بالعطور وكأن هذه هي علامات التحضر . ولكن هذا القنصل الفرنسي في الاسكندرية بيللافوان يعود ليكتب في تقرير له 1820 ( إن إحساسي أن التجارة لن تصبح شيئاً هنا طالما ظل الباشا المالك الأوحد ، ولعلاج هذا الموقف يتحتم علي السادة السفراء أن يحصلوا من الباب العالي علي إقرار بمبدأ حرية الاتجار في مصر ، وعلي الباب العالي أن يعامل الباشا في مصر كما يفعل مع سائر الولاة وأن يغيره سنوياً بحيث لايسعي خليفته إلي التشبه به ) .
وبالفعل ومع الأسف فان الضربة الاقتصادية لتجربة محمد علي أتت من الدولة العثمانية عندما عقدت الأخيرة اتفاقية تجارية مع انجلترا 1838 تضمنت خفضاً كبيراً للحواجز الجمركية لصالح انجلترا في سائر أراضي الامبراطورية العثمانية بما في ذلك مصر ، بل كانت مصر من أهم أهداف هذه الاتفاقية بالنسبة لانجلترا كمنافس صاعد وخطير . وحيث كانت انجلترا عاجزة  عن فرض هذا التنازل علي محمد علي منفرداً .
كذلك لم يكن غائباً عن ذهن محمد علي مسألة البنية التحتية الأساسية ، ( التي فلقنا بها عهد مبارك ) بل قام بأفضل تطوير لها من خلال تنظيم طرق الري التي أتاحت زراعة محصولين وثلاثة في العام بدلاً من محصول واحد وأتاحت زيادة رقعة الأرض الزراعية  بلغت مساحة الأرض الزراعية 5 ملايين ونصف مليون فدان وكانت 3 مليون في بداية عهده  وعندما بني السد العالي في عهد عبد الناصر كانت المساحة 6 مليون فدان أي زادت نصف مليون خلال أكثر من قرن . كما تم تطوير البنية الأساسية في شكل طرق , اذ كان شاطئ كل قناة وترعة يمهد كطريق ، وكانت أشجار الظل والأشجار الخشبية تزرع علي امتداد ضفاف القنوات بالاضافة لتوسيع شبكة النقل النهري والبحري كما ذكرنا . وتم ايقاف ظاهرة عجيبة كانت موجودة اسمها قرصنة نهر النيل أي السطو علي البضائع في النيل بالاضافة لوقف إغارات البدو في البر وهي الأمور التي أضرت كثيراً بالتجارة في الماضي .
بلغ عدد عمال المصانع 230 الف عامل أي قرابة ربع مليون وهذا رقم كبير جداً لأن عدد سكان مصر في ذلك الوقت وصل بالكاد إلي 5 ملايين عام 1840 .
وكان أجر العامل الصناعي يساوي 3 امثال أجر العامل الزراعي . واذا كان للعامل أبناء فقد كان يصرف لكل ابن 15 قرشاً من الحكومة ويجب أن يؤخذ الطفل ليتسلمها في يده هو . واختلفت الروايات في ذلك هل هو من قبيل الضمان الاجتماعي أم أن الأطفال كانوا يلحقون بالعمل كصبية أو متمرنين يدربون علي الصنعة بواسطة آبائهم . وكانت تصرف للعمال ثلاث وجبات يومية وتضم وجبة الغذاء كمية كبيرة من الخبز البني الخشن والفول المطبوخ ( مدمس أو بصارة ) ويقدم لهم الزيتون مع وجبة الافطار أما وجبة اللحوم فهي مرة كل اسبوع ( سانت جون ) . كما كان يتم تشغيل اللقطاء. ونلاحظ أن عمال بريطانيا كانت أحوالهم أشد بؤساً في ذلك الزمان ( ويمكن مراجعة روايات تشارلز ديكنز وغيرها ) . وعندما كان بعض العمال يتعرضون للتعطل كان محمد علي يأمر بإمدادهم برأسمال يمكنهم من فتح ورش خاصة بهم . كذلك كان يصرف للعمال كسوة .
في كتابي ” مدونات ثورية من تاريخ مصر ” مرجع سابق أو علي الانترنت بعنوان ( رسائل التاريخ ) ستجد نص رسالة من محمد علي إلي المسئولين عن المصانع يوصيهم فيها بحسن معاملة العمال باعتبارهم ثروة قومية  وتحدث عنهم كأنهم أعز أبنائه . وكان يعفيهم من أعمال السخرة . ومرة قال : إن لمصر ملكين : السلطان محمود ( الباب العالي ) والفلاح . في ذلك الزمان لم يكن هناك تلفاز أو فضائيات أو اذاعة أو صحف حيث عودنا الحكام في عصرنا أن ينافقوا الشعوب . في عهد محمد علي لم تكن منافقة الشعوب من الأبواب المطروقة في حديث الحكام . ولكن محمد علي –・كما ذكرت وأكرر –・كان يتعامل مع مصر كعزبة خاصة به ، لذلك فهو يعطف علي الفلاحين والعاملين فيها وحتي علي البهائم وسائر الكائنات . وهذا أفضل من الحاكم الذي يستنزف ثروات البلاد  لنفسه كبقرة حلوب حتي يقضي عليها . ( مبارك هو النموذج للنوع الثاني وهو منتشر في عصرنا في بلاد العرب والمسلمين ) . وعندما علم محمد علي مثلاً بهروب أربعين عاملاً من أحد المصانع عام 1826 بسبب التأخير في صرف المرتبات . قام بتأنيب مدير المصنع وأصدر الأمر له بدفع الأجور علي أساس شهري وبأن يعمل علي ألا يكون لدي العمال سبب آخر للشكوي .
نماذج أخري من أرقام الصادرات والواردات :-
ذكرنا من قبل ان الميزان التجاري بشكل عام كان فائضاً لصالح مصر وتصل الصادرات احياناً إلي 4 أمثال حجم الواردات . وفيما يلي بعض الأرقام الأخري
    العام                            الصادرات                                                            الواردات
1823                          7.276.000دولار                          3.282.450 دولار
1824                        10.636.529 دولار                5.043.000 دولار
ويؤكد دبلوماسي فرنسي في تقرير رسمي مرفوع لوزارة الخارجية الفرنسية إن صادرات مصر تزيد أربعة أضعاف عن الواردات . ( وهي تقديرات أعلي من التقديرات المصرية ) وفيما يتعلق بايرادات الدولة تظهر الأرقام أنها تضاعفت 10 مرات خلال عقد واحد ,
السنة                    الايرادات                          المصروفات                        صافي الدخل
                              (بالجنيه)                                ( بالجنيه )                          ( بالجنيه )
1798            158724                              135887                            22836
1818            1502134                          355149                          1148984
1822            1881499                        266122                            1615370
1833          2421670                        1927079                            494591
1842          2926625                          2176860                        749765
 
هذه الاحصاءات بالجنيه الاسترليني لأن الجنيه المصري صدر عام 1836 ( !!)
بل ان احصاءات قنصل روسيا ( كونت ميديم ) كانت أعلي من ذلك فقدر ايرادات مصر بـ 3.600.000 عام 1838 أي بزيادة 50% عن المصادر المصرية .
أما القنصل البريطاني باركر فرفع الايرادات إلي 7 مليون أي بزيادة 189% وقال الفرنسي ( بوالوكونت ) ان ايرادات مصر تساوت مع ايرادات فرنسا وبلغت خمسة أمثال ايرادات روسيا. بينما وصلت تقديرات أجنبيىة أخري إلي أن ايرادات مصر بلغت 25 مليون دولار عام 1829 . و23 مليون دولار عام 1840 .
أي علي خلاف الوضع الحالي , حيث تعلن الحكومات المصرية أرقاماً مبالغ فيها بالمقارنة مع الأرقام الدولية ! في عهد محمد علي كانت الأرقام المصرية أكثر تواضعاً من الأرقام الدولية . ولا حول ولا قوة الا بالله .
نكتفي بهذا القدر من بحر النهضة الصناعية وقد أطلت –・كما أوضحت –・بقدر اهتمامي ودعوتي لنهضة صناعية مصرية في القرن الواحد والعشرين.


>
– 8 –
احتدام معركة المنسوجات بين (مصر والهند ) وبريطانيا العظمي!

في عهد محمد علي زادت الأرض الزراعية من 3 إلي 5.5 مليون فدان
صادرات مصر تفوق الواردات بأربعة اضعاف
وايرادات الدولة تضاعفت 10 مرات خلال عقد واحد

 
كانت المعركة الكبري بين نظام  محمد علي وأوروبا قد بدأت بعد توليه للحكم وحتي نهاية حكمه في الأربعينيات من القرن التاسع عشر بل وحتي سقوط مصر في براثن الاحتلال البريطاني في عهد توفيق ابن حفيده اسماعيل 1882 . عادة ما يركز المؤرخون علي معارك محمد علي في الشام والأناضول حتي أبواب الآستانة ويتحدثون عن المواجهات العسكرية بين محمد علي وأوروبا ( خاصة انجلترا ) بدءاً من معركة نفارين البحرية خلال حرب المورة (اليونان) انتهاء بصلح كوتاهية ثم معاهدة لندن 1840 التي ترافقت مع حصار بريطانيا البحري علي مصر . ولكن المعركة بدأت من اللحظة الأولي لإتضاح توجه محمد علي لبناء دولة قوية في مصر تستند إلي القوة الاقتصادية قبل القوة العسكرية ، لانه بدون  قوة اقتصادية تصبح الجيوش مجرد بناء للقصور علي الرمال أو حسب التعبير الأسير عند الغرب بناء بيوت بورق اللعب ( الكوتشينة ) حيث يقوم الأطفال ببناء بيوت بأوراق اللعب .
كانت المعركة الأساسية والطاحنة لأوروبا ( خاصة بريطانيا القوة الأكبر فيها وفي العالم ) حول المشروع الصناعي لمحمد علي الذي بدأ يزعج الأوروبيين ويقتحم أسواقهم ، ويتحداهم في الموازين التجارية ، وهو الأمر الذي يؤدي إلي تدعيم استقلال الشرق المسلم ، ويقدم امكانية لتمويل بناء جيش قوي . فقليلاً ما يهتم المؤرخون لدينا بالأبعاد الاقتصادية ، ويركزون اهتمامهم علي حركة الجيوش والمعارك الحربية في المحل الأول ، بينما العمل العسكري ماهو إلا إنعكاس للقوة الحضارية الشاملة لكل طرف و خاصة في المجال الاقتصادي بل كما يقول كلاوز فيتز أبو علم الاستراتيجية ( ان الحرب هي امتداد للسياسة ولكن بوسائل أخري ) . ولاشك ان الصناعات الحربية أكثر ما يثير الازعاج لدي الأعداء . قلنا انه في العالم الاسلامي المعاصر فانه لاتوجد سوى 3 بلاد تهتم بالنمو الصناعي الاستقلالي وهي ماليزيا وتركيا وايران وتأتي اندونيسيا بعد ذلك وان كانت أقل استقلالية ولكنها الآن أصبحت كتركيا من العشرين الكبار . ولكن في المجال الحربي أي التصنيع الحربي لاتوجد سوى ايران وباكستان التي لم تصنع القنبلة النووية وحدها بل لديها منظومة لانتاج مختلف الأسلحة التقليدية وبالأخص أنواع الصواريخ . عندما كنت في زيارة لباكستان أثناء حكم برويز مشرف ، قطع التلفزيون الباكستاني إرساله ليذيع خبراً متلفزاً بالصورة الحية لنجاح تجربة لإطلاق صاروخ من طراز جديد ، وكذلك قرأت في الصحف الباكستانية عن بداية جادة لتصنيع الطائرات . وقد شعرت بالفخر رغم معارضتي الشديدة لحكم مشرف ، وكنت في ضيافة الجماعة الاسلامية برئاسة قاضي حسين رحمة الله عليه.
في القرن التاسع عشر كان لدي الدولة العثمانية قطاع صناعي للانتاج الحربي لابأس به ، ولكن الحالة العامة للدولة العثمانية كانت في تراجع ، وشهد هذا القرن بداية التفوق التكنولوجي لأوروبا على الدولة العثمانية والذي تبدى في أحد مظاهره باستخدام البخار كمولد للطاقة ومسير للسفن . وكانت التجربة الصناعية لمحمدعلي فتية وشاملة وتنذر بالخطر لذلك أضيئت المصابيح الحمراء في كافة العواصم الأوروبية . ومنذ عام 1810 بدأت تنشأ في مصر مجموعة متكاملة من الصناعات الجديدة المرتبطة بالجيش ، تشكل مثالاً نموذجياً لمجمع صناعي حربي يضم ترسانات وأحواضاً لبناء السفن ومصانع ومستشفيات ومدارس . في البداية لجأ محمد علي لشراء الذخائر من الخارج من انجلترا وفرنسا وبلجيكا وغيرها ، ولاحظ أن هذا الإجراء أبطأ كثيراً من أن يلبي احتياجاته اذ كان لابد من بيع بضائع للحصول علي النقد الذي يشتري به الإمدادات . وعلي سبيل المثال بعث بوغوص ( وهو أشبه بوزير خارجية محمد علي ) إلي شقيقه في تريستا بايطاليا ليبيع 3 آلاف قنطار من القطن ويشتري مدافع بحصيلة البيع .(سامي . مرجع سابق ) . وفي بعض الأوقات بطبيعة الحال رفضت الدول المعنية بيع الأسلحة اللازمة . فالأسلحة سلعة استراتيجية ترتبط بالتوجهات السياسية للدولة المصدرة ، وليست مسألة تجارية عادية . ولكن عندما كانت المدافع والبنادق ومدافع الميدان والقذائف تشتري كان يتم نسخها علي الفور في مصر لتجنب الاضطرار للعودة إلي المصادر الأوروبية ( كما كان يحدث مع آلات المصانع ) . ومثلت حقيقة افتقار مصر لأي من الفحم أو الحديد عقبة رئيسية أمام تصنيع الذخائر ، اذ كان لابد من استيراد المواد الخام كلها ، ولهذا لم تكن حملة السودان مخططة للبحث عن قوي بشرية للتجنيد في الجيش فحسب ولكن من أجل البحث عما يكون فيها من معادن . –€・Sir John Bowring, Report on Egypt and Candia +larevolution de l industrie en Egypt et ses Consequences socials au 19 e siècle 1800-1850-
1954 لندن- مصطفي فهمي
وانتجت محاجر وادي النطرون مواداً كيميائية عالية الجودة استخدمت في مصانع البارود .
وأدت الحاجة إلي دفع مقابل الأسلحة والآلات المستوردة إلي المزيد من التطورات . ففي البداية كانت مبيعات الحبوب في الخارج تكفل أرصدة وفيرة تكفي لدفع قيمة أي واردات . لكن بعد عام 1813 عندما تضاءلت مبيعات الحبوب ، كان من الضروري إيجاد سلع تجارية جديدة. وقام التجار البريطانيون الذين يشترون الحبوب من مصر بمضاعفة صادراتهم إليها ليدفعوا ثمن الحبوب ، فأغرقوا البلد بالمنسوجات القطنية الرخيصة المعروفة باسم ( الموسلين الهندي ) . وتسبب تدفق هذه الأقمشة في إغلاق عدد من المصانع المحلية عندما عجزت عن منافسة البضائع البريطانية الأرخص ثمناً . وكانت هذه المعركة تقضي في طريقها علي الصادرات الفرنسية لمصر بالإضافة للحصار البريطاني المباشر علي هذه الصادرات الفرنسية ، مما أدي بالقنصل الفرنسي أن يصرح في أحد تقاريره لوزارة الخارجية الفرنسية وكأنه حريص علي مصر فقال {انجلترا هي عدو كل مامن شأنه أن يسهم في إحياء الرخاء الاقتصادي القديم لمصر}. هو يقصد رخاء فرنسا في مصر أثناء مرحلة تصدير بضائعها لها!!
وقد أدت عملية الاغراق البريطاني أي الحرب التجارية علي الصناعة المصرية ، أدت بمحمد علي إلي فرض حظر علي المنسوجات البريطانية لمنعها من إغراق الأسواق بأقمشة رخيصة. وهكذا يمكن كما قال محمد علي للقنصل الفرنسي : (يمكن أن يكون لهذا البلد أقل احتياج ممكن للمنتجات الأجنبية وأن يصبح قادراً علي إمداد جيرانه بمثل هذه المنتجات )
مرجع سابق . Afaf Lutfi Al_sayyid
لم يكتف محمد علي بالدفاع السلبي ( حظر الاستيراد) بل استخدم المبدأ الاستراتيجي المعروف ( الهجوم خير وسيلة للدفاع ) فقام بحملة مضادة لغزو أوروبا بالبضائع المصرية !!
( من يفعل هذا من حكام العرب والمسلمين في القرن الواحد والعشرين إلا ماليزيا وتركيا ).
كان محمد علي اذا علم بأي انتاج جيد في أي مكان في العالم يسعى لاستجلابه وتوطينه في مصر . أحد الأجانب المقيمين بمصر كان يجلس مع محمد علي ، وقال له أثناء الدردشة أنه زار الباشا الفلاني ( لا أذكر اسمه ) فوجد في حديقته نباتاً في منتهى الأهمية وهو نبات القطن طويل التيلة . كان هذا حديثاً عرضياً ، وما أكثر الثرثرة التي تحدث في مجالس الحكام .
ولكن محمد علي لم يمر علي هذه  المعلومة مرور الكرام ، وعلم ان هذا القطن يزرع في الهند ، فأرسل لاستيراد شتلات منه وتعميم زراعته في مصر حتي أصبحت مصر الدولة الأولي في العالم في انتاج القطن طويل التيلة . وكانت مصر تعرف قبل ذلك القطن قصير التيلة فحسب .ثم قام محمد علي فيما بعد بإدخال زراعة القطن طويل التيلة في السودان . القطن طويل التيلة يترنح الآن في مصر بفضل العميل الصهيوني يوسف والي الذي تركه مبارك علي رأس الزراعة أكثر من عشرين سنة ( بالاضافة لقيادة الحزب الوطني الحاكم وتولي موقع النائب الأوحد لرئيس الوزراء ) اضمحلت زراعة القطن في مصر في آواخر القرن العشرين وحتي الآن ، من أكثر من مليون فدان إلي عشرات آلاف من الأفدنة . والمثير للحنق أن التقارير المنشورة تتحدث عن ان آلات النسيج في مصر لايناسبها الآن إلا القطن قصير التيلة  في الأغلب الأعم . كما أن السفهاء يكتبون في الصحف السيارة عن أهمية وأولوية القطن قصير التيلة وهو الأقل جودة .
في صناعة النسيج فان منتجات القطن طويل التيلة أكثر جودة بكثير من القطن قصير التيلة ، هو أعلي سعراً ، ولكن الغالي ثمنه فيه ، ويوجد زبون للمنتجات الأكثر رقياً . ولست أدعو لإلغاء زراعة القطن قصير التيلة فهو يفيد في المنسوجات الشعبية الأرخص سعراً . ولكن بالتأكيد فان التقليص الشديد لزراعة القطن طويل التيلة كارثة . القطن طويل التيلة هو الذي أدخل المنسوجات المصرية إلي العالمية . في إحدى قصص الأديب العالمي جارسيا ماركيز الكولومبي الحائز علي جائزة نوبل للأدب ، وهي قصة ( الحب في زمن الكوليرا ) كان بطل القصة يمر بأزمة نفسية وفي حالة ضيق شديد ولم يفرج عن همه إلا بالنزول إلي السوق حيث اشترى قميص مصري من طراز لينو!
ليست هذه هي القصة الوحيدة في حياة محمد علي ، التي تظهر كيف يلتقط معلومة ويستخدمها في إحداث انقلاب اقتصادي . خذ مثالاً آخر وان لم يحقق نفس نجاح القطن طويل التيلة . كانت المنسوجات الصوفية ضمن اهتمامات محمد علي وكانت الحكومة –・باعتبارها محتكرة للصناعة –・تقوم بتسليم قطعان من الخراف إلى البدو لتربيتها من أجل صوفها الذي تشتريه الحكومة وتصنعه ، ولكن في عام 1825 تم استيراد قطعان من ماعز كشمير ومعها رعاتها لتحسين انتاج الأقمشة الصوفية والتوسع فيها لتشمل ” الشيلان ” النسائية التي كانت تستورد عامة من كشمير ( في الهند ) . وتم كذلك إنشاء مصنع للسجاد .
أشرنا من قبل لمصنع الخرنفش الذي تخصص في صناعة المنسوجات الحريرية . ولكن الاقتحام الواسع لمجال صناعة الحرير كان أشبه بالجبهة القتالية ( وأصف دائماً في كتاباتي عمليات البناء والتنمية الجادة بأنها أشبه بالعمليات القتالية ) فقد رأى محمد علي أن مصر يجب أن تبرع في هذا المجال كما برعت في المنسوجات القطنية.
( قال لي أحد رجال الأعمال الوطنيين في المحلة أن شركة مصر في بداية القرن الواحد والعشرين اشترت ماكينات نسيج ألمانية للقطن طويل التيلة ، ولعدم توفر القطن طويل التيلة تم بيع الماكينات على أنه مكن كهنة !!)
وبدأ مصنع الخرنفش عام 1816 والتاريخ مهم لأنه يبرهن علي الاهتمام المبكر بالصناعة عموماً وعدم اقتصارها على الصناعات المرتبطة ببناء الجيش كما يردد بعض المؤرخين . وكان مقرراً لهذا المصنع أن يحاكي المخمل المصنوع في جنوة بإيطاليا . وأعقب ذلك مصنع جديد في ” بركة الفيل ” وكان يديره بعض الأرمن المجلوبين من تركيا ، الذين كانوا متخصصين في الحرير الموشى ، البروكار والسيرما ( البروكار هو نسيج من الحرير الموشى  بخيوط الذهب أو الفضة أما السيرما فهو قماش من المخمل المطرز بخيوط الذهب والفضة ) تونس مشهورة به الآن .وكان المصنع ينتج 60 ألف أقة من الحرير سنوياً وكان الناتج قماشاً من نوعية جيدة . وزرعت منطقة ” وادي طميلات ” ومساحات من الفيوم وأسيوط بمليون شجرة من أشجار التوت لإنتاج الحرير . وتم اجتلاب عائلات من الدروز من لبنان لتربية دود الحرير . وفي عام 1828 صدر قرار بإعفاء عمال الحرير من الخدمة العسكرية وإعفاء النساء المشتغلات بتربية دود الحرير من العمل في الأقمشة الكتانية مدة الأشهر الثلاثة المقررة. ولاحظ بورنج ان العمل يتم بصورة جيدة وان الأقمشة منسوجة بدقة وتتميز الرسوم بالذوق . ( كلوت بك –・مرجع سابق .)
ولصناعة الزجاج  قصة قصيرة . حيث أقيم مصنعان للزجاج عامي 1822, 1836 . وعندما شكا مدير مصنع الأسكندرية من أن الإنتاج المحلي يتبقي دون بيع لأنه كان يتم استيراد الكثير من الزجاج ، أمر محمد علي بوجوب استخدام الزجاج المحلي وألا يستورد أي زجاج ( أمين سامي –・تقويم النيل 3 اجزاء –・القاهرة -1936)
وفي عام 1827 انشئ مصنع لدباغة الجلود وكان ينتج المصنوعات الجلدية اللازمة للجيش . وفي وقت ما كانت الجلود تستورد من اوروبا لدباغتها في مصر لاستخدامها في صناعة السروج ولوازم الخيالة والأحذية والحقائب . أما مصنع الورق الذي أنشئ عام 1831 فكان لتصنيع الورق من خرق القماش التي كانت تشتري من الأهالي أو من بقايا مصانع النسيج ومن الورق الذي يجمع من الدواوين والمصالح الحكومية المختلفة ، وتلك محاولة مبكرة لإعادة تدوير المواد . وفي عام 1847 زود مصنع الورق بآلة بخارية .
البحث عن الفحم والحديد والمعادن خارج مصر :
من يقوم بنهضة صناعية لابد أن يبحث عن مصادر للحديد ومختلف أنواع المعادن والفحم الذي هو عماد الطاقة في ذلك الوقت ( البخار ) . ولم تكن هناك أي معلومات عن وجود هذه المواد داخل مصر . أقامت مصر علاقات تجارية مع السويد في أقصى شمال أوروبا حيث صدرت مصر لها الحبوب واستوردت في المقابل حديد الزهر . وكما تلاحظون فان الحبوب (وعلي رأسها القمح ) كان سلعة استراتيجية للتصدير منذ أيام الامبراطورية الرومانية مروراً بعهد عمر بن الخطاب حيث أرسلت مصر مليون إردب قمح لمواجهة عام الرمادة ( الحرية أو الطوفان –・مرجع سابق ) حتى القرن التاسع عشر الميلادي ، ولم تعرف مصر استيراد القمح إلا في عهد عبد الناصر ، ثم انهارت زراعة القمح كلية في عهد مبارك ، عهد يوسف والي وزير الزراعة المشئوم الذي أعلن سياسة زراعة الموز والتفاح والكانتلوب ببذور وتقاوي اسرائيلية مهندسة وراثياً كبديل أفضل من زراعة القمح ! وكان من أهداف التوسع في السودان البحث عن الفحم والمعادن والذهب . وحيثما توسع محمد علي كان يبحث في هذه المواد ، وكان ضم الشام مكسباً كبيراً في مجال الحصول علي الأخشاب لبناء السفن .
إنتاج الذهب فى سنار بالسودان
ولمحمد على قصة طريفة وما أكثر قصصه ، وهى طريفة بمعايير حقبة الكسل الحالية التى نعيش فيها ، ولكنها قصة فى منتهى الجدية والأهمية ، وتشرح فى حد ذاتها كيف فهم محمد على جوهر عملية التنمية الاقتصادية . فقد أقام مصنعا لإنتاج الذهب فى سنار بالسودان بمعاونة روسيا . قصة تؤكد إصرار محمد على على إقتحام كل مجالات التقنية والتعدين والصناعة ، وتكشف أسلوبا مغايرا غير استغلالى وغير استعمارى من روسيا القيصرية . والقصة شيقة ومليئة بالتفاصيل لذلك أحيل القارىء المهتم بقضايا التنمية وتقييم روسيا إلى كتاب ذهب سنار –・أ.ف . أنتوشين –・دار نشر أنباء موسكو بالتعاون مع معهد الاستشراق –・أكاديمية العلوم الروسية –・الطبعة الثانية –・2014 –€・القاهرة مدينة العبور.
اقتحام عصر البخار والهندسة العكسية :
لم تكن محاولات اقتحام عصر البخار قليلة ، والبخار كان نقلة نوعية في الثورة الصناعية في أوروبا ، ومن ثم في العالم بأسره . فكما ذكرنا فقد كانت المصانع تولد الطاقة من خلال دوران مجموعات من الثيران ، والانتقال إلي البخار أعطى كفاءة عالية وانتاجية مرتفعة وانتاج وفير بما لايقاس . كانت هناك محاولة من محمد علي لتعميم استخدام البخار في توليد الطاقة بالمصانع وقد استدعي هذا استيراد آلات أكثر تطوراً وهذا ماسماه الجبرتي ( الآلات الغريبة التي بدأت تتواجد في المصانع ).
استورد محمد علي التكنولوجيا الجديدة للمغازل التي تدار بالطاقة ( البخار ) وفي عام 1830 أقام مهندس بريطاني آلات بخارية لمصنع نسيج في شبرا وآخر في قلعة الكبش ( السيدة زينب) . كذلك استخدمت آلات بخارية لتقشير الأرز في رشيد ومسبك بولاق ، وفي 1847 تحول مصنع الورق –・كما ذكرنا –・ليدار بطاقة البخار. وتم انشاء مصنع للغزل والنسيج في بولاق يعمل بالبخار ( تقرير أجنبي عن عام 1837) .
واشرنا من قبل إلي البواخر أي السفن التي تسير بالبخار والتي انضمت لأسطول النقل النهري.
كانت تكاليف استيراد الفحم اللازم للآلات البخارية هي العقبة الرئيسية وراء تعميم استخدام البخار . وكان محمد علي قد كلف مهندسين استأجرهم خصيصاً بالبحث المستمر عن الفحم في مصر والبلاد التابعة لها دون مردود يذكر . ولو تواصلت النهضة الصناعية بعد محمد علي لتم تجاوز هذه العقبة حتى باستمرار الاستيراد .  ولكننا أشرنا من قبل إلى سبب انكسار هذه النهضة رغم أنها شهدت بعض التحسن في عهد اسماعيل . أشرنا للأسباب الداخلية لهذا الانكسار والمتمثلة فى غياب دولة المؤسسات و وسنشير لاحقا للعوامل الخارجية . ولكن قبل ذلك لابد من التذكرة والتأكيد علي أن محمد علي كان يحاول اللحاق بعصر البخار الذي كان قد بدأ لتوه في أوروبا فعصر البخار باستغلال الفحم بدأ عام 1780 وهو عام بداية ظهور الآلات البخارية . أي قبل تولي محمد علي الحكم بـ 25 سنة . بل ان تسيير القطار بالبخار لم يبدأ في بريطانيا إلا عام 1825 أي بعد تولي محمد علي الحكم بعشرين سنة . وفي أول رحلة تجريبية للقطار في انجلترا كانت سرعته 15 كم في الساعة . وناقش البرلمان هذا التطور بإنزعاج شديد وأبدى العديد من النواب قلقهم من هذا الكائن الخطير والسريع والذي يمكن أن يدهس البشر !! وكانت انجلترا تعرض على محمد علي تسيير قطار بالبخار من الاسكندرية إلى القاهرة ومن القاهرة إلى السويس ، ولكن محمد علي رفض استناداً لاعتبارات الأمن القومي (حسب الاصطلاح الحديث !).
فانجلترا تريد مد الخط لخدمة اتصالها بالهند ، ولكن محمد علي لم يكن يريد أن يسمح بمشروع على أرض مصر يزيد أطماع بريطانيا في الاستيلاء على مصر واحتلالها . وكان يدرك –・كما ذكرنا –・بذكاء نافذ أن انجلترا هي الخطر الرئيسي على مصر . ولهذا السبب أيضاً رفض مشروع قناة السويس كما سيأتي الحديث .
أما نحن في القرن الحادي والعشرين فقد فاتتنا عدة عصور ولانحاول اللحاق بأي منها ، في عصر الكهربا نحن مجرد مستهلكين ، في عصر البترول ومشتقاته نحن مجرد مستهلكين سمحوا للأجانب باستخراجه ، فاتنا عصر الذرة وعصر الفضاء وعصر السربنتيك أو العصر مابعد الصناعي الذي يعتمد على الانسان الآلي (روبوت) ، وعصر الالكترونيات وعصر التكنولوجيا الفائقة وعصر النانوتكنولوجي ( نحن نعقد ندوات عن النانو تكنولوجي فحسب ) بل نحن لم ندخل بعد مرحلة الصناعة التقليدية !! فبعد أن دخلناها ارتددنا عنها منذ عهد السادات وانفتاحه الاقتصادي ، فتم تدمير القاعدة الصناعية العامة والخاصة لصالح الاستيراد والاقتصاد الريعي ( دخل قناة السويس –・السياحة- تحويلات المصريين –・تصدير البترول الخام ) . كذلك لم نلحق بعد بعصر الطاقة الشمسية التي أصبح استخدامها تجارياً في العديد من بقاع العالم والتي لاتملك شمساً ساطعة كشمسنا !!
في عام 1815 قام مصري هو ” حسين شلبي عجوة ” باختراع آلة لضرب الأرز بسطت كثيراً من هذه العملية . حكامنا المعاصرون لايتأثرون باختراعات شباب مصر الذين ينتحبون كل يوم في وسائل الاعلام لأن أحداً لايعيرهم اهتماماً . أما محمد علي فعندما علم بقصة حسين شلبي عجوة تأثر وقال : (يبدو أن لدى المصريين استعداداً للعلوم) – ( الجبرتي) وقد كان هذا الحدث هو السبب المباشر لأن يأمر بجمع عدد من المصريين وبعض من مماليكه في مدرسة سميت ” بالمهندسخانة ” أي مدرسة الهندسة . وهناك تلقوا العلم على أيدي عدد من الأوروبيين.  وقد تكون هذه هي الأولى في سلسلة من المدارس . ثم تلى ذلك في 1828 إرسال عشرة مصريين إلى أوروبا لتعلم الميكانيكا ….الخ
في التجارب التنموية المعاصرة خاصة في البلاد الآسيوية ظهر مصطلح ” الهندسة العكسية ” وقد عرفنا هذا المصطلح في مصر في الستينيات عندما كنا نهتم بالصناعة .  والمقصود به شراء أو الحصول على ماكينة واحدة من الخارج وفكها وإعادة تركيبها لاكتشاف أسلوب صناعتها. فمن خلال الفك تكتشف كيف تم تركيب أجزائها ،  وما هي أجزاؤها حتى تصنعها في المسابك والورش الوطنية . كل البلاد الآسيوية الساعية للاستقلال الاقتصادي فعلت ذلك  حتى تستغنى عن استيراد الآلات وتستغنى عن التبعية . وقد فعلت الصين ذلك على نطاق واسع وأصبحت قوة منافسة تدميرية للاقتصاد الأمريكي والغربي عموماً ، بجمعها بين الجودة والسعر الأرخص . ولذلك نسمع في الغرب صراخات كثيرة حول الملكية الفكرية وضرورة احترامها . وفي عهد محمد علي جرى شئ من هذا ، فكانت الآلات تستورد ثم تستنسخ ، واستخدم تعبير الاستنساخ نظراً لبساطة الآلات وعدم تعقيدها في ذلك الزمان ولم يستخدم تعبير (الهندسة العكسية ) وان كان الجوهر واحد  . وفي عهد محمد علي كانت المصانع تحتوي على آلات مستنسخة أي آلات  مصرية تقلد الآلات الغربية مما قلل من استيراد الآلات..  وصنعت كفاءات هندسية مصرية ماتزال متوارثة رغم مراحل الانحطاط بعد محمد علي .
( أشار سانت جول في كتابه عن مصر إلى أنه تحدث إلى الرائد الأول صانع الآلات وهو رجل مصري في مقتبل العمر علي درجة عالية من الذكاء ويتحدث الانجليزية بطلاقة )
كان تركيز الصناعة المدنية في قطاع المنسوجات القطنية حتى قبل اكتشاف القطن طويل التيلة وقد وضع محمد علي بذلك الهيكل الأساسي للزراعة المصرية ، بأن جعل القطن على قمة الأولويات . حتى عهد ماقبل مبارك ويوسف والي ، كان القطن يستوعب قرابة ثلث العمالة المصرية زراعة وتصنيعاً . وعلى يد الوزير الصهيوني تم تدمير العمود الفقري للاقتصاد المصري ، وكما يحدث للانسان اذا خرب عموده الفقري فهو إما يموت أو يصبح عاجزاً . وهذا ماحدث بالفعل للاقتصاد المصري . حقاً إن الاقتصاد المصري لاينبغي ان يبقى محصوراً في دائرة القطن ، ولكن اذا أردت تطوير اقتصاد ما فلابد ان ترتكز على نقاط القوة فيه وتحافظ عليها  لتنطلق في مجالات أخرى بينما لا يمكن الانطلاق لمجالات أرحب بعد تدمير القاعدة المتوفرة لديك فعلاً . فالقطن كان يوفر أفضل دخل للفلاح ( موسم الزواج يكون مع موسم القطن ) وأفضل دخل للدولة ، ومادة أولية لأهم قطاع صناعي ( الغزل –・النسيج- الحلج- الصباغة والطبع ) بالاضافة لأشياء اخرى عديدة فزيت بذرة القطن كان يستخلص منه أجود أنواع الزيوت ، والكسب أي مايتبقى من البذرة بعد عصرها علف للمواشي ، حتى أعواد القطن فهي حطب أي وقود للأفران في البيوت ! وأيضاً وسيلة للتدفئة في أيام الشتاء . وفي هذا الاطار يتم توظيف ملايين المصريين ، ويتم تحسين الميزان التجاري اذا صدرت القطن خاماً أو منسوجات . فاذا أردت الاندفاع في كل فروع الصناعة التحويلية وحتى الصناعة الألكترونية فهذا لايبرر تدمير الثروة المتوفرة في يدي ، ولاتعارض بين التوسع في الجديد والحفاظ علي القديم . طبعاً حكامنا دمروا  القطن ولم يفعلوا شيئاً آخر !! في مجال المنسوجات الآن سبقتنا بلاد مثل بنجلاديش وجنوب شرق آسيا والصين وسوريا  في النوع والكم .
في أربعينيات القرن التاسع عشر كان يوجد بالبلاد 31 مصنعاً للقطن تستهلك 50 ألف قنطار من القطن ويعمل بها 20 ألف عامل .

>
– 9 –
القناطر الخيرية أكبر مشروع ري بالعالم
 
أعمال الري طولها مليون متر –・سعة كل القناطر 116 مليون م3
شق 36 ترعة جديدة وتطهير مئات الترع القديمة
محمد علي أنشأ الري الدائم أي 3 زراعات في السنة
 

بحكم تخصصي ودراستي للشئون الاقتصادية أقدر حجم الانجازات التي جرت في هذا العهد . كذلك فإن هذا المشروع النهضوي لعهد محمد علي يفرض علي العقل والوجدان الحالة المتردية التي وصلنا إليها في مصر بعد قرنين من الزمان ليس بالمقارنة مع العالم المعاصر بل بالمقارنة مع عهد محمد علي !! وأرجو ان تساهم هذه المعلومات في استفزاز غيرة المصريين ليدركوا كم يضيعون الوقت في الصراع بين بعضهم البعض بينما تتحول مصر إلي دولة خارج نطاق الخدمة . وهي في هذا تجذب معها منطقة الشرق العربي بأسرها إلي الحضيض بحكم الوضع القيادي لمصر ، وهو الأمر الذي يثبت أقدام اسرائيل وأمريكا في المنطقة .

النهضة الزراعية

في البداية نشير إلى شق 36 ترعة جديدة في 10 مديريات ( محافظات ) في اطار الجسور والقناطر : تطوير هيكل منظومة الري وفيما يلي بعض التفصيل:

يقولون إن محمد علي أدار مصر كعزبة خاصة له وهذا صحيح . ولكن المذهل في الأمر كيف استطاع أن يلم بمشكلات عزبة بهذا الحجم !! وقد كتبت مرة في عهد مبارك رداً على من يصفه بأنه حول مصر لعزبة له ولأسرته فقلت : ياليت الأمر كذلك ، فصاحب العزبة يهتم بالفلاحين العاملين لديه بل ويهتم بالبهائم والدواجن والمناحل ، فكل هذه تعد رأسماله الخاص . بل إذا مرضت جاموسة فإنه يحملها إلى مركز الطب البيطري أو يحضر طبيباً بيطرياً خاصاً للكشف عليها . أما مبارك فإنه يدمر مصر بل وصل الأمر إلى حد الموافقة على إغراق الأسواق المصرية بمواد زراعية مسرطنة من اسرائيل ، وقلت ساعتها : ان مبارك هو الحاكم الوحيد الذي وضع السم لشعبه في الأكل ، ولم يكتف بالقمع والاعتقالات وتزوير الانتخابات . وهذا ليس أسلوب التعامل مع مصر كعزبة ، ولكنه وأسرته وعصابته ينهبونها ويضعون الأموال في الخارج . ورحل مبارك وكان المجلس العسكري استمراراً له برئاسة وزير دفاع مبارك ( طنطاوي ) ولاتزال الأحوال مضطربة حتى الآن ولم نتمكن من إحلال نظام وطني كبديل ( مرة أخرى هذه الدراسة كتبت بشكل متقطع خلال 2013 وحتى منتصف 2014 )
أقول كل ذلك بمناسبة الجسور ، فكما تعلمون فان من القضايا المطروحة منذ سنوات مسألة نحر البحر للساحل الشمالي المصري والدلتا بسبب قوانين النحر المعتادة بالإضافة لمسألة التغير المناخي واحتمالات ارتفاع مستوى سطح البحر . وكثيراً مانكتب في الصحف ننتقد الحكومات المتعاقبة لعدم إيلاء هذا الموضوع الاهتمام الكافي وعدم وجود خطة واضحة لمواجهته بل هناك معلومات مؤكدة عن تآكل فعلي لمناطق الدلتا خاصة حول دمياط ورشيد .

لم تفت هذه القضية محمد علي وهو كصاحب عزبة وحريص عليها فإنه لايعقد اللجان من أجل أبحاث لاتنتهي بل يذهب بنفسه ويحل الموضوع . فقد كانت مياه البحر تتسرب من فتحة بحيرة أبو قير إلى ترعة المحمودية بما يهددها بطغيان المياه المالحة عليها ، فقام ببناء جسر من الأحجار تمنع ذلك . وقد أدى هذا إلي تجفيف بحيرة أبي قير تدريجياً حتى صارت أرض زراعية . وإقامة هذا الجسر كما يقول محمد علي استغرقت عدة سنوات لعمق المياه داخل خليج أبو قير إلى حد خمسة أمتار . وطول هذا الجسر 1243 متراً وقام بمشروع مماثل لحماية بحيرة المنزلة لأن تدفق مياه البحر كان يصل إلى حد إغراق الأراضي المجاورة وإتلافها فقام ببناء سد فتحة الديبة .ومع اختلاف المشكلات ولكننا نعلم كثيراً عن تحول بحيرة المنزلة حالياً إلى مزبلة ومياه ملوثة بالمجاري والصرف الزراعي والمبيدات مما أفسد الأسماك ، بل وقيام أصحاب المصالح بردم أجزاء منها وتحويلها إلى أرض بناء أو زراعة . وما كان يمكن لكل هذه المهازل أن تحدث في عهد محمد علي.

أما الجسور التي تقام على الترع فحدث ولا حرج في بني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا.
أما فيما يتعلق بالقناطر فالناس تتحدث كثيراً عن القناطر الخيرية ولكنها لم تكن إلا نهاية المطاف فقد تم انشاء قناطر عديدة على الترع لضبط مياهها بلغت حوالي 45 قنطرة في الدلتا والصعيد .

القناطر الخيرية :
كما ترون فأمر أزمة المياه تلوح في الأفق ببداية بناء سد النهضة في أثيوبيا . لم يواجه محمد علي مشكلة كهذه ولكنه آلى على نفسه ألا تضيع قطرة مياه هباءً في البحر .

وقد كتب المؤرخ لكبير عبد الرحمن الرافعي عن هذا الموضوع واستوفاه حقه واقتبسه كما هو –・وأدعو الشباب لقراءة كل كتبه في تاريخ مصر الحديث ( 14 كتاباً) وهي صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ودار المعارف . فمن لايقرأ هذه الكتب أحسب أنه لايعرف بلاده.

يقول الرافعي : (كانت أراضي الوجه البحري إلى أوائل القرن التاسع عشر تروى بطريقة الحياض كري الوجه القبلي فلا يزرع فيها إلا الشتوي ولايزرع الصيفي إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المشتقة منه ، وقد أخذ محمد علي في تغيير هذا النظام تدريجياً ، اذ أخذ في شق الترع وتطهيرها وإقامة الجسور على شاطئ النيل ليضمن توفير مياه الري في معظم السنة ، وصارت الترع تروي الأراضي في غير أوقات الفيضان ولاسيما بعد إقامة القناطر عليها . وقد توج محمد علي أعمال الري التي أقامها بإنشاء القناطر الخيرية وهي قوام نظام الري الصيفي في الوجه البحري . وهي وإن كانت آخر أعماله في الري إلا أنها أعظمها نفعاً وأجلها شأناً وأبقاها على الدهر أثراً وقد فكر فيها بعد ما شاهد بنفسه فوائد القناطر التي أنشأها على الترع ورأى أن كميات عظيمة من مياه الفيضان تضيع هدراً في البحر ، ثم تفتقر الأراضي إلى مياه الري في خلال السنة فلا تجد كفايتها منها ، فاعتزم ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق ولإحياء الزراعة الصيفية في الدلتا ، وذلك بانشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل المعروفة ببطن البقرة ) . عبد الرحمن الرافعي –・مرجع سابق.
عهد محمد علي لمجموعة من المهندسين الفرنسيين بدراسة المشروع وتقديم تصميم له ،  وتم تغيير المشرف الفرنسي بآخر مع تغيير التصميم وكان يساعده مهندسان كبيران مصريان من متخرجي البعثات العلمية / مصطفى بهجت باشا ومظهر باشا .

تم وضع حجر الأساس في 1847 وتم البناء في عهد الخديوي سعيد .
ويقول المسيو شيلد وهو فرنسي وكبير مهندسي السودان : ( إن مشروع القناطر الخيرية كان يعد في هذا العهد أنه أكبر أعمال الري في العالم قاطبة. لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم مابلغه اليوم . ( يقصد عام 1891 زمن صدور كتابه ( النيل والسودان ومصر ) , فإقامة القناطر الخيرية بوضعها وضخامتها كان يعد إقداماً يداخله شئ من المجازفة)
وقال المسيو بارو في كتابه ( الري في مصر ) وكان يشغل موقع السكرتير العام لوزارة الأشغال : {إن هذه أول مرة أقيمت فيها قناطر كبرى من هذا النوع على نهر كبير } يقصد أول مرة في العالم .

وهكذا تلاحظون ان محمد علي أجرى انقلاباً في الزراعة المصرية من خلال تطوير الري وهو انقلاب غير ما هو مستقر منذ قرابة 14 ألف سنة في مصر ، وقد أدى هذا –・كما رأينا –・إلى الانتقال من ري الحياض ( زراعة واحدة في السنة ) إلى الري الدائم الذي يتيح زرعتين أو ثلاث في العام . من هنا نشأت فكرة الدورة الزراعية . في كتابي مدونات ثورية من تاريخ مصر يمكن أن تقرأ عن انبهار السفير الفرنسي بهذا الانجاز ، حيث كتب في تقريره للخارجية الفرنسية ، ان محمد علي أدخل مسألة جديدة لا نعرفها في فرنسا أو أوروبا وهي مسألة الدورة الزراعية . وقد أدى تنويع نوع المحصول من زرعة لأخرى إلى الحفاظ على جودة التربة التي تجهدها بعض المحاصيل وتقويها محاصيل أخرى . وقد سعى يوسف والي وزير الزراعة طوال عقدين من الزمان ( وكان نائب رئيس وزراء وأمين عام الحزب الوطني ) إلى إلغاء الدورة الزراعية أو بالأحرى تدخل الدولة في تنظيم الدورة الزراعية للحفاظ على التوازن البيئي وتوازن المنتجات .
ودعا بتأييد من أمريكا واسرائيل إلى مبادئ السوق الحرة تماماً ، وإلى زراعة الفراولة والموز بدلاً من القمح . وقد هاجمته كثيراً لسياساته التخريبية هذه وعلى رأسها التطبيع الزراعي مع اسرائيل ، وتم حبسي عامين بتهمة السب والقذف .
ما يهمني في هذا أن انجازات محمد علي كبيرة إلى حد أن العملاء مايزالوا يهدمون فيها حتى نهاية القرن العشرين . ولكنهم لم يهدموا القناطر الخيرية حتى الآن .

النهضة الاقتصادية:
رغم أن المؤلف الكبير عبد الرحمن الرافعي لم يكن ضليعا في الاقتصاد، إلا أنه كانت له نظرات ثاقبة في الأبعاد الاقتصادية للنهضة فقال هذا الكلام الدقيق والجميل (من القواعد الأساسية في نهضة الأمم أن إنماء ثروة البلاد والمحافظة على كيانها المالي من أكبر دعائم الاستقلال لأن العمران مادة التقدم، والثروة الأهلية هي قوام الاستقلال المالي، ولا يتحقق الاستقلال السياسي ما لم يدعمه الاستقلال المالي والاقتصادي، تلك الحقائق التي أجمعت الآراء على صحتها ووجوب العمل بها. كان محمد علي أول من قدرها فقد اتجهت أنظاره منذ أوائل حكمه إلى إصلاح حالة البلاد الاقتصادية وإنشاء أعمال العمران فيها لتنمو ثرواتها القومية، ولم تفتر عزيمته عن متابعة جهوده من هذه الناحية حتى خلف أعمالاً ومنشآت يزدان بها تاريخه) . مرجع سابق- عبد الرحمن الرافعي
عندما تتابع أعمال الري في عهد محمد علي ستكتشف أن هيكل نظام الري في مصر في أوائل القرن الواحد والعشرين ماهو إلا تطوير وإضافات إلى هيكل الري الذي صنعه في مقتبل القرن 19 ، وطبعاً سنجد هنا وهناك تدميراً لمنجزات الري التي صنعها ! والمقصود بهيكل الري منظومة الترع التي تنظم نقل مياه النيل للأراضي الصالحة للزراعة ومنظومة القناطر التي تنظم تدفق المياه بين فترات الفيضان
وفترات التحاريق ( الشتاء ).
سد ترعة الفرعونية :
يشير الجبرتي في حوادث يناير 1809 إلى أن ترعة الفرعونية التي تربط بين فرعي النيل دمياط ورشيد أضرت بالمناطق الزراعية حول فرع دمياط والتي تروى منه وخاصة من المنصورة ومايليها شمالًا لأن الترعة كانت تسحب المياه من فرع دمياط فيقل ماؤه ويطغي عليه البحر ويفسد مياه النيل بملوحته إلى قبلي فارسكور فتفسد زراعة الأرز وشكا الأهالي على توالي السنين حتى استجاب لهم محمد علي وأمر ببناء جسر من الأحجار لمنع انسياب مياه فرع دمياط للفرع الآخر وانشأ ترعاً أخرى تعوض جهات البحيرة ماكان يجيئهم من ترعة الفرعونية قبل سدها .

لم أكتب هذه التفاصيل عفو الخاطر ، فدراستي غير معنية بكل هذا التفاصيل ولكنني سأفاجئ القارئ عندما أقول له إنني سافرت –・من تلقاء نفسي –・بعد أن قرأت كثيراً عن شكاوي الفلاحين من انقطاع مياه الري في نفس المنطقة ( شمال المنصورة ) مما أثر على زراعة الأرز كان ذلك عام 2008 أو 2009 وكنت قد آليت على نفسي بعد اشتداد أوجاع الناس أن أذهب بنفسي إلى أماكن شكوى الجماهير للتضامن معهم وبحث وسائل الحل ونشرها على الانترنت ( حيث كانت الشعب الورقية مغلقة بين 2000 حتى قيام الثورة 2011) وعندما ذهبت إلى هناك وأمضيت يوماً مع الفلاحين وجدت أن حالة الري اسوأ من حالته حتى قبل أن تتولى حكومة محمد علي سد الترعة الفرعونية . فقد وجدت أن منطقة شمال المنصورة تتم زراعتها بالأرز اعتماداً على المياه الواردة من مصرف كتشنر، وان المياه في هذا المصرف تنقطع كثيراً ويتم تحويلها لبعض أراضي الكبار !! ولكن الشئ المذهل أكثر من ذلك ان مصرف كتشنر هذا كان مختلطاً إلى حد كبير بمياه الصرف الصحي . وعندما قلت للفلاحين : هل تثيرون كل هذه الضجة من أجل مياه الصرف الصحي ؟ قالوا لي : ماذا نفعل ليس لدينا حل آخر ، ومياه الصرف أفضل من لاشئ ! وهذا موسم زراعة الأرز ! وتجولت في الأراضي الزراعية وكانت رائحة المجاري تزكم الأنوف فمياه الصرف تأتي إليهم ولكن بصورة متقطعة وغير كافية (لاحظ أن ذلك في الأرز الذي نأكله أو نصدره ) .أي ان وضع الري في القرن الواحد والعشرين في هذه المنطقة اسوأ مما كان حتى في عهد ماقبل محمد علي .

ماذا أقصد من كل ذلك في دراسة استراتيجية ؟ أقصد بصراحة القول بأن مصر ترجع للوراء منذ أربعين عاماً في شتى المجالات حتى وصلت في بعض المجالات لأحوال المماليك قبل محمد علي والحديث عن أي دور لمصر في المنطقة العربية أو حتى أي نهضة في مصر أصبح من قبيل العبث ، مالم يتم تغيير سائر النخبة الحاكمة في البلاد والتي لاتزال مستمرة حتى بعد إسقاط مبارك ونفر قليل من حوله .

فتح ترعة المحمودية :

ومن الأعمال الجليلة شق ترعة المحمودية ( ترعة الأسكندرية القديمة ) وكانت الأتربة والرمال قد طمرتها فشرع في حفرها من جديد . وقد عني محمد علي بفتح هذه الترعة عناية كبيرة فكان يتعهد الأعمال فيها بنفسه وكان غرضه من شقها إحياء الأرضي الزراعية في مديرية البحيرة ، وجعلها طريق المواصلات النيلية بين الأسكندرية وداخل البلاد وتم افتتاحها في 1820 ، وقد كانت أشبه بحفر قناة حتى لقد مات في حفرها 12 ألف مصري في مدى 10 شهور ، وذلك من ضمن 313 ألف فلاح شاركوا في حفرها جاءوا من مختلف المديريات (المحافظات ) كان عملاً ضخماً بالفعل ، والنتيجة رائعة فمن جهة المواصلات صارت تجري فيها السفن بين الأسكندرية والداخل تحمل حاصلات البلاد أو وارداتها ، وكانت سبباً في عمران البلاد التي مرت بها في البحيرة بإحياء أراضيها . وأفاد عمران الاسكندرية منها فائدة كبرى إذ جعلتها الترعة ملتقى للبضائع الذاهبة إلى داخل البلاد أو الآتية منها . وساعدت مياه الترعة علي الإكثار من الزرع وغرس الأشجار والحدائق في ضواحي المدينة فاتسع نطاق العمران وابتنى الأغنياء القصوروانشأوا البساتين والحدائق على ضفاف الترعة في جهات كانت من قبل مقفرة جرداء.

وتحدث الجبرتي عنها كثيراً ( سألني مرة أحد الشباب من هو الجبرتي ؟ فقلت له : هو يابني مؤرخ مصر الأهم في أواخر القرن 18 ومطلع القرن 19 ونص كتابه الأخير موجود ومتوفر) وقال ان حفرها استغرق 3 سنوات .
وقد كانت ترعة المحمودية تحفة من تحف العمران يتحدث عنها الركبان طوال القرنين 19 , 20 وكأنها جنة الله في الأرض بعد أن كانت صحراء قاحلة ( تجدها في الطريق الزراعي بين دمنهور والأسكندرية ) وعندما دخلت الكهرباء البلاد تمت إنارة ضفتي الترعة وانعكست الأضواء على صفحة مياه الترعة فزادتها بهاء وجمالا .
وهذه ثمرة تضحيات 12 ألف فلاح ماتوا تحت أديمها وهناك شكاوي عديدة من سوء المعاملة التي أدت إلى هذه الخسائر غير المقبولة بين الفلاحين . وسنأتي لمسألة العدالة الاجتماعية في عهد محمد علي ولكننا لا نزال نتحدث عن انجازات العمران التي عاشت حتى الآن . ترعة المحمودية لاتزال تستخدم في الري والشرب حتى الآن ، ولكن المواصلات النيلية انتهت في بلادنا عموماً كما ذكرت . ويقول القاطنون في هذه البقعة الآن إن الترعة تحولت إلى بؤرة للمياه الفاسدة الملوثة والقاذورات . ويجب ألا يتحجج  أحد بزيادة عدد السكان فلابد لأي نظام رشيد الا يجعل الزيادة السكانية مبرراً لتخريب البيئة .

وبلغ اجمالي أطوال أعمال الري في عهد محمد علي أكثر من مليون متر ( 1.135.775مترا) وكانت السعة التخزينية لإجمالي القناطر 116 مليون متراً مكعباً من المياه ( 116050843 متراً مكعباً ) . {مرسوم رسمي صادر عن الدولة في يوليو 1841 }

تعامل محمد علي في مسائل الري :
تدعيم الجسور وتنظيف وتطهير الترع خاصة في الأوقات السابقة لوصول مياه الفيضان . كان محمد على يتعامل مع هذه المسائل كمعركة حربية ، كديدنه في شتى نواحي التنمية الاقتصادية وهدد في واحدة من النشرات الدورية جميع نظاره في الوجه القبلي ، وأمر بتجميع 24 ألف رجل لهذه المهمة وبعث إلى موظفيه يقول :{ اذا قلتم إن ذلك يزعج الفلاحين عندما لايكون هناك داع فأنا أقول : إن الولد لايذهب طوعاً إلى المدرسة ، ولكن يجبره أبواه حتي يكبر ويعرف قيمة التعليم ، لذلك فان سوق الرجال إلى الجسور والترع عسير عليهم لكنه ضروري } وأضاف { أنه اذا مارفض الفلاحون أن يذهبوا طوعاً فإن على النظار أن يستدعوا جنوداً من مدير المديرية ليُخرجوا الفلاحين قهراً وجبراً} . وقد طبق هذا الاجراء في الأعوام الواقعة بين عام 1834 وعام 1837 الذي شهد كل واحد منها فيضاناً مدمراً . وقد لحقت المصائب بالمسئولين الذين فشلوا في صيانة الترع . ويقول محمد علي في النشرة الدورية : {اذا اصبحت الأرض شراقى –・أي تفتقد المياه –・نتيجة لإهمال تدعيم جسر ” بني خالد ” فليس هناك عقاب سوى الموت!!}
هكذا أنذر كل نظار الأقسام . ويضيف :{ اذا رأينا قيراطاً واحداً من الأرض غير مروي فسوف تدفنون فيه !!}
كان الفلاحون مكلفين بالعمل في السخرة لمدة شهرين في السنة . ويحدث ذلك خلال الأشهر التي تكون الأرض فيها متروكة بلا عمل ولا يكون هناك الكثير من الأنشطة الزراعية . ولكن يجب أن يكون واضحاً ان التهديدات بالموت والدفن والتي كانت من لوازم منشورات محمد علي الادارية كانت دائماً على سبيل الزجر والتخويف والإرعاب على طريقة الأب الذي يهدد ابنه بالقتل اذا سقط في الامتحان. ولم يحدث ابداً تنفيذ لمثل هذه التهديدات ولكنها كانت تتحول إلى عقوبات إدارية وخصومات من المرتب . وأيضاً لابد من الاشارة إلى أن شق الترع وبناء السدود بواسطة أعمال السخرة كانت تتم مقابل أجر يتقاضاه الفلاحون كما ذكر الجبرتي (ونؤكد مرة أخرى انه كان من المعارضين لمحمد علي ) عن حفر ترعة الأشرفية أنه كان يدفع عشرة ريال للفلاح وعند العمل يدفع لكل شخص قرش كل يوم ( والقرش مبلغ لابأس به في ذلك الزمان ).
بل بالاضافة للأجر { كانوا يطعمون شوربة أو دشيشة صباحاً ومساءً . فقد كان الوقت شتاءً } كما تذكر نشرة دورية خاصة بالعمل في قناة المحمودية عام 1819 . كذلك كان العاملون (الفلاحون ) يأكلون اللحم مرة كل عدة أيام .

بل كانت الأوامر تصدر إلى كل المأمورين لإطعام العمال يومياً وصرف تعيينات من الحبوب لهم تتراوح بين ثلاثمائة وخمسمائة درهم من الذرة. لا يبدو ان هذا كان منتظماً وإلا لماذا مات 12 ألف أثناء الحفر ؟ هذا أمر يحتاج للمزيد من التحقيق .
كان ري المحاصيل المزروعة درساً أولياً يتعلمه كل طفل فلاح بعد ادخال الري الدائم ، اما ري الحياض منذ أيام القدماء المصريين فليس فيه أي فن فقد كان يقوم على غمر الفيضان للأرض! ولذلك أدخل محمد علي ادوات ميكانيكية للري مثل السواقي . وقد تلقى كبير مهندسي الدلتا الأوامر بإقامة السواقي في جميع مناطق الدلتا لضمان ريها . وقد قدر عدد السواقي التي انشئت ب52836 ساقية . ويمكن للساقية الواحدة أن تروي ثلاثة ارباع الفدان في أربع وعشرين ساعة ، لكن السواقي تبلى وتحتاج لإحلال كل خمس سنوات لذلك فان صيانتها ضرورية . وكانت السواقي مسجلة في دفاتر الحكومة والأرض التي ترويها . واذا نقصت الأرض عن الرقم المسجل فعندئذ يتم استخدام الساقية في أراضي مجاورة . واذا ماضبط أي شخص متلبساً بتخريب ساقيته فإنه كان يعاقب عقاباً صارماً . (الحتة – تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير –・القاهرة 1950) وهكذا تم تجديد نظام الري القائم بأكمله ، وجرى تطهير وتعميق كل الترع حتى يمكنها أن تستوعب مياه الصيف . وبلغ إجمالي حجم التراب الذي أخذ من مجاري الترع الجديدة والقديمة التي يتم تطهيرها حوالي 100 مليون متر مكعب . وبلغ مجموع عدد العاملين المشاركين في هذه الأعمال قرابة ثلت مليون فلاح . وإذا أخذنا نموذجاً محلياً نجد أنه في عام 1829 تم تطهير كل الترع في مديرية الغربية وكان من بينها 43 ترعة يبلغ طولها مجتمعة 74 ألف قصبة  وتضمن المشروع شق ترعة جديدة في المحلة شارك في حفرها 32 ألف رجل ( القصبة طولها 3 أمتار).

من قبل تحدثنا عن شق 36 ترعة جديدة ويبدو أن هذا الاحصاء لايشمل إلا الترع الكبيرة كذلك فإن تطهير الترع لايقل أهمية عن شق ترع جديدة وهكذا نجد في مديرية واحدة تطهير 43 ترعة

إدخال محاصيل جديدة :
كما ذكرنا في حديثنا عن الصناعة فقد تمت زراعة ثلاثة ملايين شجرة توت لتربية دودة القز لانتاج الحرير , وبلغ محصول الحرير 1832-1833 12ألف أقة ( كادلفين- مصر والنوبة –・الجزء الثاني ).

واهتم محمد علي بغرس عدد وفير من الأشجار علي اختلاف أنواعها لاستخدام أخشابها في بناء السفن وأعمال العمران . وذلك بعد أن قطع كثيراً من الأشجار المغروسة للاستفادة من أخشابها في إقامة السواقي وصنع عربات المدافع والسفن الحربية.

  في القرن الواحد والعشرين يتحدث الخبراء الدوليون في الأمم المتحدة وخارجها عن ما يسمى (التنمية المستدامة) أي التنمية التي تحافظ على البيئة ولا تدمرها، والتنمية التي تستغل الموارد دون أن تستنزفها على حساب الأجيال القادمة. ويتصور هؤلاء الخبراء الدوليون الذين يصدرون لنا كل يوم مصطلحات جديدة لنبذل جهدنا في تفسيرها وفهمها، يتصورون أنهم يقولون جديداً. ومحمد على وما فعله من تعويض استنزاف الأشجار بزرع المزيد من الأشجار ما هو إلا ممارسة واعية لما يسمونه اليوم (التنمية المستدامة)!!
وأشرنا من قبل إلى قصة القطن طويل التيلة، ولكن محمد على لم يكن ليصدر قراراً بيروقراطيا وينام في قصره، بل يسعى لإحاطة القرار بكل ضمانات النجاح. فعندما أصدر قراراً بتعميم زراعة القطن طويل التيلة، أنشأ السواقي اللازمة لزراعته، واشتراه بأثمان مرتفعة ليشجع الفلاح على زرعه حتى أصبح انتاج مصر منه عام 1827 344 ألف قنطار وأصبح كما أوضحنا من قبل أساس ثروة مصر الزراعية بل والصناعية أيضا.

وكانت زراعة الزيتون قبل محمد علي محدودة جداً، وتحدثنا من قبل عن التوسع في زراعة أشجار الزيتون من أجل الزيت (وفرعيا الصابون) وهو غذاء صحي كثر الحديث عنه الآن في القرن الواحد والعشرين، وقد خصصه محمد علي لغذاء الجنود وبحارة الأسطول (في الجيش الآن لا يمكن أن يصرف زيت الزيتون!!)، وأمر بغرس كثير من أشجار الزيتون في الوجهين البحري والقبلي، وزرعها ابنه ابراهيم بالآلاف في أطيانه الخاصة الواسعة.
تحدثنا من قبل عن النيلة (وهي صبغة زرقاء) كانت زراعتها محدودة، ولأهميتها في صناعة النسيج جلب محمد علي عام 1826 بذور النيلة الهندية، واستحضر- كعادته- بعض الهنود الأخصائيين في زراعتها، فأخذت زراعتها في النمو والتقدم وبلغ الانتاج 77 ألف أقة سنويا. وتمت زراعة الأفيون بمساعدة أرمن من أزمير بتركيا ويستخرج من بذرة الأفيون زيت للوقود.
ولكن ما هي المحاصيل الجديدة التي أدخلها محمد علي؟!

>
-10 –
جدتي تركية وأقدر العثمانيين ولكن هذه كوارثهم بمصر

“ولكن مصر القرن 18 أفضل من مصر ق 21 اقتصادياً”
المماليك في العهد العثماني يمتصون مليار باره من دم المصريين
شاعر مصري : أهر على روحي عندما يأتي جابي الضرائب
فرنسا مديونة للجزائر بعشرات الملايين ومع ذلك قامت باحتلالها !!

لايمكن فهم وإدراك حجم الانجاز الاقتصادي الذي تحقق في عهد محمد علي بدون مقارنته بالأوضاع التي سبقته خلال القرن ( 18 ) . كما انه يوضح حالة التردي التي وصلت إليها مصر بعد 3 قرون من حكم الدولة العثمانية التي نكرر انها لم تعط أي اهتمام يذكر بالنهضة الاقتصادية أو الحضارية لمصر أو لمجمل الشرق العربي ، فهي لاتهتم إلا ببقاء السيادة والسيطرة العامة عليها فحسب ، والحصول علي خراج مالي منها . الدولة العثمانية حصرت اهتمامها في الاناضول وفي تركيا الأوروبية ( الروميللي ) وبعض أجزاء شرق أوروبا ، وان كانت المحصلة التاريخية في نشر الاسلام قد تركزت في البلقان وبالأخص البوسنة وألبانيا والتي ماتزال آثارها بادية حتى الآن . وبالتالي لاداعي لبعض الأخوة الاسلاميين أن يحملوا على محمد علي انحيازاً للدولة العثمانية ، ويتهمونه بأنه طعن دولة الاسلام في الظهر ، دون ان يلحظوا ان دولة الاسلام قد أدارت ظهرها إلى مصر والشرق العربي ، عدا معاركها في العراق مع الصفويين التي انتهت إلى نتائج محدودة بل العراق أصبح أغلبه (60-65%) شيعة . وقد أعطيت في دراساتى حق الدولة العثمانية ودافعت عنها بالحق وأشرت إلى كل إيجابياتها ولا أزال أعدها دولة إسلامية حملت راية الاسلام 6 قرون متصلة ، وأنا أحاول ان أكون منصفاً إلى أقصى حد لأنني أحب الدولة العثمانية كما تعني كلمة الحب من معنى ، فأنت تحب المرء رغم أنك تعلم عيوبه ومثالبه ولكنني أحبها عقائدياً بقدر ماحملت مسئولية الدفاع عن الاسلام ونشره في بقاع الأرض ، ولاينكر فضلها إلا جاحد بل ربما اذيع سراً ( وان كان سراً معلنا !!) فإن في عروقي تجري دماء تركية ، وهو أمر لم أهتم به إلا أخيراً . فجدتي مباشرة أم أمي تركية تعيش في مصر . ولكننا لم نتحدث في الأصل التركي كثيراً في الأسرة ، ولم تعد لنا أي صلة بأي جذور تركية ، ولم التق بأي تركي له صله عائلية بنا ، ولم أذهب إلى تركيا إلا كمواطن مصري سائح أولاً ثم كسياسي ثانياً . وقد علمت أخيراً جداً أن جدتي من أسرة كانت تعيش في جزيرة كريت التي كانت تابعة لمصر في عهد محمد علي . ولم أزر هذه الجزيرة ، ويبدو أنها تابعة لليونان حالياً .واستكمالاً لهذه الذكرى الغائمة التي لم أهتم بها إلا بعد موت أمي وخالاتها التركيات الأصل اللاتي تزوجنا جميعاً من المصريين ، في آخر زيارة لتركيا كنت في ندوة ببلدة بدروم الساحلية الساحرة ، وفي نزهة مع زوجتي في أحد لنشات البحر أشار لي قائد اللنش : هذه جزيرة كريت وهي تابعة لليونان ، وبالفعل ظهر إسم اليونان على هاتفي المحمول . وأنا أكشف عن هذا الجانب الشخصي بهدف صريح وهو أنني سأضطر لانتقاد الدولة العثمانية كثيراً في مرحلة هبوطها ( طوال القرن التاسع عشر ) بل لعلي بدأت بالفعل منذ تناول عصر محمد علي أيضاً في اطار الموضوعية والانصاف .
فنحن لانقدس دولة لأنها اعلنت التزامها بالاسلام . فكل شخص له ايجابياته وسلبياته وكل دولة مهما بلغت عظمتها لها جوانبها السلبية والايجابية . ولكن في اطار الدول والأمم تكون هناك مرحلتان : صعود وهبوط ، فلامعنى للاشادة بالدولة وهي تهبط إلا تزييف الحقائق ، بدلاً من استجلاء الوجه الصحيح للدولة الاسلامية التي ننشدها الآن وفي المستقبل .
وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان للدولة العثمانية دور سلبي في كل من مصر والشام والعراق ( حتى في اطار المناطق السنية ) على مدار 3 قرون . كيف ؟
لم يكن لدى الدولة العثمانية الادراك الاستراتيجي الحقيقي لأهمية المستطيل القرآني (الشرق الأوسط) ، ولم تدرك أنه مركز العالم الحقيقي وليس استانبول . ولكنها أدركت أهميته بالحد الأدنى حيث رأى سليم الأول –・عن حق –・ضرورة ضم مصر والشام والعراق للدولة العثمانية وقد كتبت فى دراسة لى عن ذلك مرحباً ورأيته قراراً صائباً ( 1516-1517 ) على خلاف رأي راغب السرجاني . كان العثمانيون مهتمين بأن تكون مكة والمدينة والقدس كرموز مقدسة في اطار الدولة الاسلامية التي أصبحت تسمى فى مرحلة لاحقة الخلافة الاسلامية .
السلطان كان يحب أن يسمي نفسه خادم الحرمين . ولكن منذ جاء سليم الأول فاتحاً الشام ثم مصر حيث بقي أقل من عام وعاد إلى استانبول ، لم يزر سلطان عثماني مصر قط إلا السلطان عبد العزيز في عهد الخديو اسماعيل ، وكانت زيارة شخصية عاد منها محملاً بهدايا ملأت سفينة كاملة . ووفقاً لمعلوماتي لم يقم سلطان عثماني بأداء فريضة الحج أو أداء العمرة وبالتالي لم يزر أحد منهم الجزيرة العربية ، رغم دفاعهم المجيد عنها عندما تعرضت لعدوان برتغالي كما أشرنا .  وكان أحد السلاطين الضعفاء يفكر في زيارة مصر ولأداء الحج ولكن أطيح به قبل القيام بها وقتل . أما اليمن فلم يهتموا بها إلا من زاوية فرض السيادة ،و دخلوا حروباً متتالية ضد الزيديين . وفي عهد محمد علي أعطوا مسئولية الجزيرة العربية واليمن له. وفي مقابل عدم التمركز في مصر والشرق العربى كمركز للدولة الاسلامية مما يستدعي إقرار اللغة العربية كلغة رسمية اولى ، في مقابل ذلك قاموا بأسوأ شئ ممكن بأن اعتمدوا المماليك حكاماَ في مصر والعراق وبعض العائلات الموسرة من التجار في الشام . أما المماليك في مصر والعراق فقد كانوا في اسوأ أحوالهم , بل في مصر حيث درست هذا جيداً ، فانهم قد تحولوا إلى حثالة حقيقية ولاعلاقة لهم بمماليك قطز أو بيبرس أو قلاوون . وهذه الحثالة هي التي حكمت مصر 3 قرون ، ولكن من أجل الدقة فقد تدهورت أحوالهم نحو الأسوأ دائماً في القرنين16 و 17 حتى وصلوا إلى مستوى الحثالة الحقيقية في آواخر القرن 18 .
فالحقيقة أن أقدار الله هي التي أرسلت محمد علي لينقذ مصر من الهوة السحيقة التي كانت قد هوت إليها . والطريف أن محمد علي قال قولاً قريباً من ذلك ( إن المصريين لم يعرفوا قيمة مصر وقد هيأ الله لي أن أحضر لها وأعيد لها المجد الذي تستحق). والحقيقة أن محمد علي أعاد الاعتبار لمصر اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ، وماكان يمكن أن نتوقع منه أكثر من ذلك كأمي وكضابط في الجيش العثماني . طوال 3 قرون –・كما ذكرنا- كان الوالي العثماني يحكم في المتوسط عامين ، وكان الفاسد منهم يسعى لجمع المال لنفسه خلال الفترة القصيرة وهذا لايكون بدون التعاون والاقتسام مع المماليك ، والشريف منهم يتعرض لغضب المماليك . وكانت الآستانة تستمع لطلباتهم بتغيير الولاة.
  بعد المقارنة بين عصر محمد علي وعصر المماليك العثماني في القرن 18 ، وبعد توضيح الحالة المتردية للدولة العثمانية ، فهناك سبب ثالث يجعلنا نعود مرة أخرى إلى وقفة مع القرن الثامن عشر ، ورغم كل ماقلته فان مصر القرن الثامن عشر كانت أقوى اقتصادياً من مصر القرن الواحد والعشرين !!
وكل هذا بالأرقام والحقائق ، فمصر في عهد حثالة المماليك وبقوة الدفع الذاتي لمراحل النهوض السابقة كانت من زوايا عدة في المجال الاقتصادي أفضل من الآن بمقارنة مصر بعصرها في الحالين .
حكم مصر طيلة القرن الثامن عشر تحالف من المماليك والتجار ( على اعتبار أن الوالي العثماني طرطور عادة ) وقد قام الازدهار الاقتصادي على عاملين :
1-  الانتاج الزراعي الذي كان معقولاً .
2- والتجارة التي اصبحت مصدراً كبيراً للدخل بسبب الموقع الجغرافي لمصر كحلقة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب . وكانت مصر مورداً مهماً للامبراطورية العثمانية من انتاجها وانتاج الغير خاصة من آسيا . ومع منتصف القرن 18 كانت أوروبا في احتياج لتصريف منتجاتها الصناعية في مصر ( وغيرها من الولايات العثمانية ) وفي احتياج للمواد الخام الزراعية من مصر والشرق الأوسط ، وفي المقابل كان المماليك في احتياج لشراء السلاح من أوروبا لاستخدامه في صراعاتهم بين بعضهم البعض (!!)
وهكذا زادت التجارة بين مصر وأوروبا ولكن بعجز لصالح اوروبا . وكان التجار في مصر يعوضون هذا العجز بزيادة الصادرات الزراعية للامبراطورية العثمانية . المهم لقد كان لدى مصر ماتصدره من انتاجها . أما من التجارة العابرة فقد حقق التجار المصريون ثروات طائلة من إعادة تصدير البن ( القادم من اليمن ) مايساوي 2 مليار باره سنوياً ( الباره عملة فضية صغيرة والقرش به 40 باره وهذا مايوضح القدرة الشرائية الكبيرة للقرش في ذلك الزمن ). ولكنهم تعرضوا لمنافسات دولية من فرنسا وغيرها ضربت احتكار المصريين لتجارة البن وهذا ما أضعف مواردهم في أواخر القرن 18 .( ولكن لاحظ أن هذه التجارة العابرة التي تستغل موقع مصر لم تعد موجودة الآن !! فلم يبق منها إلا دخل قناة السويس) . ولكن مصر القرن الثامن عشر كانت قادرة أيضاً على تصدير المنسوجات القطنية الممتازة ( انتاج دمياط والمحلة ورشيد وأسيوط ومنفلوط وأبوتيج ) .
وكانت تمثل عام 1731  45% من الصادرات المصرية وكانت تصدر إلى فرنسا وهولندا وأسبانيا ولكن في أواخر القرن الثامن عشر بدأت اجراءات الحماية الجمركية للمنسوجات الفرنسية وكان هذا سبباً آخر لتدهور الأحوال الاقتصادية في مصر . وأصبحت التجارة المصرية تحقق عجزاً سنوياً قدره 60 مليون بارا . ومع الأيام غلب على الصادرات المصرية المنتجات الخام الزراعية : الأرز والكتان والصوف وخيوط القطن والجلد والزعفران ( هل نزرع الزعفران الآن ؟ لا أعتقد ) وملح النوشادر . وفي المقابل بدأت المنسوجات الفرنسية تغزو السوق المصري .
والحقيقة لم يكن المماليك وحدهم شركاء التجار المصريين بل كانت الانكشارية ( الجنود العثمانيون ) شريكاً منافساً آخر وهم ” لايتخيرون ” عن المماليك فهي قوة عسكرية من المفترض ألا تكون لها أي علاقة بالتجارة ولكنه البيزنس بالمعنى الفاسد . ومع اقتراب القرن الثامن عشر من نهايته كان المماليك يكسبون الصراع مع الانكشارية باعتبار أن المماليك أكثر دراية بالشئون المصرية باعتبارهم متمصرين  ولكن الانكشارية بدورها تمصرت ( !!) ولم تعد تستورد جنوداً من استانبول بل تجند من داخل مصر . ولكن المماليك انتصروا في الصراع خاصة وأنهم يمتلكون معظم الأراضي الزراعية ولديهم بالتالي أموال طائلة من غير التجارة وبالتالي استطاعوا تمويل حروبهم الأهلية مع الانكشارية والانتصار عليهم . والحقيقة فقد أصبحت مصر نهباً لصراع عصابات وليست إدارة رشيدة اسلامية أو غير اسلامية. (حدثونا اذا عن الاسلام الذي كان يطبق في مصر !! ثم ضربه محمد علي ! ) فقد كانت هذه العصابات : المماليك ضد بعضهم بعضا  ، والمماليك ضد الانكشارية تتصارع على امتصاص دماء الشعب المصري بالاتاوات والضرائب بالإضافة لاستغلال المماليك للفلاحين وفق نظام الالتزام . *نظام الالتزام يعني أن كبراء الريف والمماليك تتوزع عليهم أراضي البلاد الزراعية وكل ملتزم يلتزم بجمع الضرائب للحكومة بمنطقته مقابل الحصول على امتيازات (كقطعة أرض خاصة تسمى الوسية ) ولكن الملتزم عادة مايجمع أضعاف الضريبة المطلوبة ويضع الفرق الكبير في جيبه .
فقد كان المماليك يحتاجون لأموال طائلة لدفع رواتب جنودهم  بل وصل الأمر لبناء قوة بحرية وليس لقتال الصليبيين عبر البحر  ولكن من أجل حماية التجارة البحرية الخاصة بهم من القرصنة . وهذا قوى علاقة المماليك بالتجار وجعلها عضوية بل ومصيرية . وقد تكرر هذا النمط في فلسطين أشهرهم أحمد الجزار وهو مملوكي ( وان كنا نذكر له صموده أمام نابليون في عكا ) وضاهر العمر الذي تحالف مع نابليون ضد أحمد الجزار لأن الأخير أخذ منه ولاية عكا !! وحدث نمط من هذا في حكم البلقان أما في العراق فقد تم تسليمها للمماليك كمصر بالضبط . واذا عدنا لمصر نجد أن الانكشارية عندما ضعفت في تحالفها مع التجار اتجهت لاستغلال أصحاب الورش والحرف وهو ما أدى إلى تدهور انتاج المنسوجات وكانوا يحصلون منهم 10% من دخلهم . وفي سوريا حدثت أوضاع مماثلة : صراعات بين مجموعات عرقية والانكشارية في دمشق وبين الانكشارية والأشراف في حلب . وكانت الصراعات حول السيطرة على التجارة  وكان التجار يفضلون التحالف مع المجموعات العرقية والمحلية ضد الانكشارية وكانت الانكشارية تفعل –  كما تفعل في مصر أي تتزاوج مع أهل البلد وتدخل في منافسات حادة مع المماليك والمجموعات المحلية .
  في مصر لم يكن للفلاحين حقوق الملكية على الأرض الزراعية ( والشائع خطأ ان محمد علي هو الذي ألغى الملكية في مصر والحقيقة ان الفلاح المصري عبر التاريخ لم يعرف ملكية خاصة مستقرة للأرض إلا في عهد عبد الناصر ( الشريحة التي استفادت من الاصلاح الزراعي ) ولكن منذ القدماء المصريين فالفلاح يحوز الأرض وفقاً لمبدأ حق الانتفاع التي كانت تتحول أحياناً إلى ملكية صريحة ولكن ليس وفق نظام متكامل . كذلك فان الخديو سعيد –・قبل عبد الناصر –・هو أول من أصدر قانونا للملكية الخاصة الزراعية ( اللائحة السعيدية ) 1858 ولكن لاشك ان صغار الفلاحين لم يستفيدوا كثيراً من هذا القانون  .
في نهاية القرن 18 كانت مساحة الأرض 3 ملايين فدان سيضاعفها محمد علي تقريباً إلى 5.5 ملايين فدان في نهاية عهده أي ضاعفها خلال 40 سنة . في نهاية ق 18 كان خمس الأراضي ( 600 ألف فدان ) أراضي أوقاف . وهذه يديرها ويستفيد منها علماء الأزهر والأشراف . وقد استغل محمد علي هذه الحقيقة أثناء خلافه مع العلماء .
كان نظام الالتزام المملوكي يشمل أراضي الفلاحين وهي اغلب الأراضي بطريقة المنفعة . ولم تسلم الانكشارية بسيادة المماليك على الأرض الزراعية كملتزمين وخاضت معهم معارك دموية في نطاق السيطرة على الأراضي الزراعية  ومال الميزان في آواخر القرن 18 لصالح المماليك أصحاب البلاد ” الأصليين ” نسبياً بالنسبة للانكشارية . كما أصبح التجار والعلماء ملتزمين إلى جوار بكوات المماليك وحققوا ثروات طائلة حتى انه عندما مات أحدهم ( محمد الشرايبي ) ترك تركة قيمتها 37 مليون باره.
وفي عام 1718 خلال محاولة علي بك الكبير المملوكي للاستقلال بمصر استبعد القوات العثمانية واستأجر بدلاً منهم جيشاً من المرتزقة ويروي الجبرتي انه ( جند رجالاً من كل الأجناس الدلاة والدروز والمتاويلة والشوام .وقتل كل منافسيه ونفى أعيانه  وفرق جمعهم في القرى وتتبعهم وخنق وقتل . أبادهم أصلاً وفرعاً ونفى الباقيين واستأصل كبار خشداشيته وقبيلته . وهدم المساكن القديمة وأخرم القوانين الجسيمة والعوائد المرتبة ) !
ولم يهتم “علي بك” والمماليك بإزاحة الانكشارية فحسب . مع ما تلى ذلك من اضطرابات للإقطاعات الحضرية التي استغلوها واستنزفوها بلا رحمة بل قاموا كذلك بإزاحة التجار المسلمين من خلال تشجيع التجار الشوام المسيحيين على حساب التجار المسلمين .
وكل ماشغل العثمانيون كيف يتخلصون من ” علي بك ” عن طريق الاتفاق مع مساعده محمد أبو الدهب لقتله ، وعندما تحقق لهم ذلك لم يهتموا بإقامة العدل وإعادة الاستقرار بل تركوا البلاد مرة أخرى لصراعات مملوكية –・مملوكية لا تنتهي والمهم هو استمرار التبعية الاسمية للدولة العثمانية ودفع الخراج السنوي . ويمتلئ تاريخ الجبرتي بعد موت ” علي بك ” بترديد وتكرار للقروض والإتاوات التي فرضت على الأهالي تتخللها روايات عن حركات تمرد متفرقة احتجاجاً على ذلك . ولقد ازدادت الحالة سوءاً إلى درجة أن الجبرتي لم يكلف نفسه عناء سرد حوادث السنوات القليلة الأخيرة من حكم الثنائي المملوكي ( مراد بك –・ابراهيم بك) واكتفى بإيراد بيان عام حول أعمال النهب والطغيان التي مارسها المماليك  حيث اتسمت البلاد بحالة حرب أهلية شبه دائمة . وهي الأمور التي تحدث عنها كتاب وصف مصر الفرنسي ورأوا في بعضها تعبيراً عن المقاومة الوطنية للنهب وحيث تم فقدان السيطرة المركزية على المناطق الريفية .  وكذلك حدثت حركات تمرد مشابهة في القاهرة من جانب الصناع الحرفيين وسيلة لمقاومة موقف غير محتمل . وهي التمردات والثورات التي تواصلت بعد انسحاب الفرنسيين من 1801 حتى 1805.
وقد أدت هذه الأحوال عام 1784 إلى ترك الفلاحين لقراهم نتيجة لعجزهم عن سداد ضرائبهم أو دفع الإتاوات التي فرضها البكوات وذهبوا إلى المدينة يصرخون من الجوع ويأكلون مايتساقط في الطرقات . واشتد بهم الحال حتى أكلوا الميتة من الخيل والحمير والجمال (الجبرتي) وقدر القنصل الفرنسي الأرض المتروكة بغير زراعة بثلاثة أرباع المساحة الكلية للأرض الزراعية ، وحتى إن بدت هذه مبالغة فهي تعطي صورة عامة عن حالة التدهور الشامل .
  البلطجة الفرنسية :
وعلى اتصال بتصدير الحبوب المصرية لفرنسا في القرن( 18 ) تجدر الإشارة إلى أن مصر ظلت مزرعة القمح لأوروبا كمسألة ثابتة منذ عهود البطالمة والرومان أي منذ قبل الميلاد ولاحظ أننا الآن نستورد الحبوب من فرنسا وروسيا وأمريكا وكل مكان . ولكن تجدر الاشارة أيضاً لأمر عجيب يخص هؤلاء الفرنجة المجرمين ، فقد صدر قانون في مدينة مرسيليا (الميناء الفرنسي الأساسي ) يسمح بمصادرة السفن المحملة بالحبوب الراسية في الميناء اذا مادعت الحاجة . وهو القانون الذي استخدم بالفعل . نحن اذن أمام عصابة لا دولة ، عصابة اسوأ من المماليك فالمماليك لايفعلون ذلك ! قد ينهبون الشعب المصري!! وكذلك يفعلون !! ولكنهم لايصادرون شحنات السفن الأجنبية لمجرد الاحتياج لما بها من مواد . وقد اعتمدت فرنسا طويلاً على استيراد القمح من مصر ومن الجزائر ، حتى انها كانت مديونة للجزائر بعشرات الملايين كمتأخرات لم تدفعها عن استيراد القمح . وكأنهم حولوا الاستيراد إلى مصادرة على طريقة قانون مرسيليا . وسوف تتعجب أيها القارئ العزيز وأحسب أن أغلبكم لايعلمون ، أن فرنسا احتلت الجزائر عام 1830 لأن الجزائر كانت تطالبها بدفع ديون القمح ! وهذه حادثة فريدة في التاريخ ، فالدول تحتل البلاد المديونة لاستعادة حقوقها كما فعلت انجلترا مع مصر عام 1882 ، ولكن هذه أول مرة وربما آخر مرة نسمع عن دولة مديونة تحتل الدولة الدائنة .. ماذا نسميها؟ إنها وقاحة السنين ، وقاحة باريس بلد النور والحضارة والإخاء والمساواة .
في القرن( 18 ) كانت فرنسا تستورد من مصر 800 ألف أردب من الحبوب وهو الأمر الذي أنقذ باريس من المجاعة عام 1792 ، وكان رد الجميل باحتلال مصر بعد ذلك بـ 6 سنوات ولكن لاتوجد معلومات عن مديونية فرنسية كتلك التي سبقت احتلال الجزائر !!
في القاهرة كما ذكرنا تمت مواصلة الضغوط على الحرفيين وأصحاب الورش إلى حد بلغت الضرائب والرسوم عليهم في آواخر القرن ( 18 ) 500 مليون باره وهو يساوي نفس المبلغ المنهوب من الفلاحين في الأراضي الزراعية أي أن المجموع مليار باره . وكانت الاجراءات التي تتخذ في القاهرة أكثر عنفاً منها في الريف حيث كان يمكن لأهالي القرية أن يتهربوا مؤقتاً من جامع الضرائب بالإختباء في الكهوف أو التلال . أما في القاهرة فقد كان يمكن للبكوات المماليك أن يحطموا ويدخلوا أي منزل باستخفاف متناه . وعندما كان أحد البكوات يتلقى تأنيباً من زميليه ” مراد بك ” و” ابراهيم بك ” على الإتيان بمثل هذه الأفعال كان يجيب ببساطة (نحن  جميعاً ننهب ، أنت تنهب ، وأنا أنهب ) – الجبرتي .
كانت محصلة وضع مصر عشية حكم محمد علي : كثير من الأراضي الزراعية مهجورة –・واختفاء جميع الصناعات .
نيقولا الترك Gaston wiet 1804-1798 chroniqued’Egypte
ناشر ومترجم 1950
وبالرجوع إلى سفرالجبرتي وهو أهم مرجع مصري إن لم يكن الوحيد المعاصر لأواخر القرن 18 وأوائل القرن التاسع عشر نجد الصورة كالتالي : ان الانتفاضات الشعبية كانت سمة مستوطنة للبلاد طوال القرن الثامن عشر وكانت أكثر ندرة تحت حكم محمد علي .
وقام الشعب المصري –・المتهم دوما من نخبتنا الكريمة بالخنوع –・بإنفجارات متواصلة قد تكون قصيرة ولكنها متواترة ومتجددة طوال القرن 18 وحتى تسلم محمد علي الحكم في 1805 وأخذت مقاومة الفلاح صورة اضطراب ريفي متزايد ، مصحوباً بأعمال قطع الطريق والقرصنة ، وإحراق المحاصيل وتخريبها . أما في عهد محمد علي فقد أخبر هو بنفسه بوالو كنت الفرنسي بتقييم قريب للواقع حين قال له : ( معي يجني الفلاح القليل لكنه يكون على ثقة من البيع ، وقد حسبت أسعارنا بما يسمح له بربح معقول ).
مرجع سابق –・Afaf Lutfi ALsayyid
وحديث محمد علي معقول إلى حد كبير ولكن مايقوله لم يتحقق في البداية ، فالبداية كانت صعبة للغاية على الفلاح وظلت تنفرج بالتدريج . ومحمد علي قال ما قال في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر . كان محمد علي يعيد بناء الإقتصاد من جديد وعلى راس ذلك اعلان احتكار الدولة للزراعة وأراضيها ، وكما ذكرنا لا جديد تحت الشمس في هذا منذ المصريين القدماء . ولكن كل عهد جديد يعيد التأكيد على ذلك لأنه عبر السنين تضمحل صلات الدولة بالأرض وتعود الملكية الخاصة الصريحة للظهور، ثم التوسع فيها . في آواخر عهد المماليك العثماني انتشرت مثلا الوسايا والوسية هي مزرعة ممنوحة من الدولة للملتزم مكافأة على جهوده في جمع الضرائب ( آسف في مص دماء الفلاحين ) والمفترض ان تكون الوسية في إطار الانتفاع حتى وإن ورثت للأبناء ، ولكنها كانت تتحول مع الأيام لملكية خاصة صريحة وهكذا .
( في العامية نقول ” هي وسية ولا ايه ” عندما يتصرف المرء بحرية لتحقيق مصالحه على حساب الآخرين فى أى مؤسسة ) . فعندما يعيد محمد علي الاحتكار الصارم للدولة مرة أخرى فإن هذا يحدث اضطراباً في العلاقات الإقتصادية وغالباً مايدفع الضعفاء الثمن الأكبر . ولكن عندما تستقر الأمور الجديدة تتحسن الأحوال . ونفس الشئ تكرر في الصناعة والتجارة باحتكار الدولة لهما.
ثم عاد محمد علي في نهاية عهده بالتخفيف من هذه الغلواء خاصة في الزراعة ثم الصناعة . ولكنه ظل قابضاً بقوة على التجارة الخارجية لأنها مصدر أساسي للثروة. احتكار الزراعة والصناعة كان يستهدف توجيه الاقتصاد وفق أولويات محددة.
  في أواخر العهد المملوكي –・العثماني كان مايدفعه الفلاح من ضرائب يذهب ثلثه فقط للحكومة أما الثلثان فيذهبان للملتزم والوسطاء .
وهذا الشعر العامي البسيط الذي كتبه يوسف الشربيني الذي عاش في ذلك الزمان وجاءنا عبر كتابه ( هز القحوف في شرح قصيد أبي شادوف ) هذا الشعر البسيط يلخص حالة الفلاح بلا رتوش في العهد العثماني –・المملوكي السابق لمحمد علي
(ومن نزلة الكشاف –・جباة الضرائب –・شابت عوارضي وصار لقلبي لوعة ورجيف ويوم يجي الديوان تبطل مفاصلي وأهر على روحي من التخويف)  !
بدأ محمد علي التخفيف عن الفلاح منذ وقت مبكر في مسألة الضرائب فعندما فرض قرضاً جبرياً أو ضريبة ” فردة ” نقداً أو عيناً بين الحين والحين أعفى الفقراء منها :
( لاحظ أن كلمة ” فردة ” تستخدم الآن في العامية لوصف الإتاوة التي يفرضها المجرمون ولكنها هي في الأصل كلمة ميري تعني نوعاً من الضرائب التحكمية ، وكان  في ضمير الشعب المصري أنها عملية نهب وليست مصطلحاً قانونياً !!) . ثم تعددت الإعفاءات الضريبية في الأرض الزراعية : اذا ظلت الأرض غير مروية ( شراقي) نتيجة لفيضان منخفض كانت تعفى وأحياناً لاتعفى سوى الأراضي غير الخصبة وأحياناً تدفع نصف الضرائب . أما الأراضي التي يغمرها الفيضان فكانت بصفة عامة معفاة من الضرائب ابتداء من عام 1822 . كما ان الأرض التي تغل محصولاً ضعيفاً (هايف) معفاة من الضرائب . وكذلك المحاصيل التي احترقت مالم يكن عمداً . ولم يكن هذا يحدث قبل محمد علي .
وهكذا اتجهت البلاد إلى مايسمى الاستغلال المخفف أو المحسن للفلاح ، وكان التحسن يجري على أي حال بصورة بطيئة ولكن بالتدريج .
الانتاج دائماً وحجمه هو أهم معيار لتحسن أحوال الفلاح ، وفي بدايات عهد محمد علي عادت مصر إلى وضعها الطبيعي في تصدير الحبوب وكانت مصر هي المورد الوحيد للحبوب بكميات كبيرة حتى عام 1812 وبأسعار باهظة حيث لم يكن هناك بديل لها ، ليس للإمبراطورية العثمانية فحسب بل حتى لأوروبا خاصة انجلترا . وظلت استانبول تعتمد على الحبوب المصرية وكذلك مالطة وجزر الأرخبيل ( اليونان ) وأسبانيا والبرتغال وصقليه وتريستا وليجهورن وجنوة . وقدرت صادرات القمح المصرية بـ 3 ملايين فرنك . وأصبحت انجلترا مديونة لمصر نظراً لارتفاع اسعار الحبوب .وتغلبت على ذلك بإغراق السوق المصري بأقمشة رخيصة قبل أن يحظرها محمد علي .
وكان القنصل البريطاني ميسيت يشتكي عام 1811 من أن الوالي ( لايحترم أيا من المزايا الممنوحة لانجلترا طبقاً لاتفاقية امتيازاتنا مع الباب العالي ) في إشارة إلى الضرائب الجمركية التي فرضها على الواردات من انجلترا . وأشار أحد القناصل الأوروبيين إلى مسألة مهمة وهي أن أكبر المستهلكين أي محمد علي وعائلته وأتباعه ( أبدوا قدراً من مظاهر الترف والتباهي أقل كثيراً من سابقيهم المماليك ) . أما فيما يتعلق باستهلاك القمح فقد كان الفلاحون نادراً مايأكلون القمح ويعتمدون على الذرة الشامية والذرة العويجة مما وفر القمح للتصدير . وأخيراً عثرت على احصائية للسفن المدنية التي بنيت في عهد محمد علي وهي 200 مركب للنقل النهري لنقل القوات المسلحة والحبوب .
وكان الدخل الشخصي لمحمد علي لايزيد عن 9 ملايين قرش سنوياً .
ووصل تصدير الحبوب في عام 1841 إلى مليون ونصف المليون اردب في حين كان الحد الأقصي للتصدير في العهد العثماني –・المملوكي 100 ألف أردب .

                                     - 11 -

القوات العثمانية بمصر استباحت الأهالي والنساء والأموال والمواشي
 

الألبان كانوا مجموعة من الرعاع والصيع وقائدهم قاطع طريق
القوات الألبانية تحاول قتل محمد علي وتنهب قصره وممتلكاته
ماذا جرى في المكاتبات الودية بين أم السلطان العثماني ومحمد علي ؟

قبل أن نختتم باب النهضة الزراعية لابد أولاً أن نغلق القوس حول سخائم العهد المملوكي- العثماني لابد من إلقاء الضوء سريعاً على السنوات القليلة الأولى من القرن التاسع عشر في المجال الأمني والسياسي عموماً ( 1801-1805) بعد الدور المشهود للدولة العثمانية في الضغط على الاحتلال الفرنسي في مصر ومهاجمته وإجباره على الانسحاب ، وهو آخر دور إيجابى للدولة العثمانية في مصر، حتى وان كان بالتعاون مع الانجليز، لأنه في النهاية أدى إلى إنسحاب فرنسا دون أي استبدال للاحتلال الفرنسي باحتلال انجليزي مستقر ، ودون أن ننسى الدور الأساسي لإنتفاضة ومقاومة الشعب المصري . وكان محمد علي هو أحد قواد المفرزة التي تشكلت في “قولة” وهي في مقدونيا والمتنازع عليها الآن بين اليونان ومقدونيا والمفترض أن مقدونيا جزء من ألبانيا الكبرى، واليونان تدخل حالياً في نزاع حول دولة مقدونيا وتعتبرها جزءاً من اليونان ، خاصة وأن الاسكندر الأكبر مفخرة اليونان هو أساساً من مقدونيا ، وكانت مقدونيا في الزمن الغابر قبل الميلاد جزءاً من الدولة اليونانية . وأيا كان فإن ” قولة ” وهي بلدة صغيرة سكانها أساساً من الألبان ، وهذا ما يعطي لمحمد علي الذي ولد فيها الهوية الألبانية . المهم هذه المفرزة التي تم تشكيلها في قولة انضمت إلى القوات العثمانية ، وهي اذن تعتبر قوات غير نظامية . وتولى محمد علي فور وصول هذه القوة إلى مصر القيادة بعد الرحيل الفوري لـ “علي أغا ” القائد الأصلي للقوة والتي أرسلت لمصر عام1801 لتعزيز الوضع العثماني بها بعد رحيل الفرنسيين بل لقد وصلت قبيل رحيل الفرنسيين حيث اشتبك محمد علي في إحدى المناوشات مع القوات الفرنسية وحصل علي رتبة ( البنباشي الأرناؤوط) أي المقدم الألباني.  محمد صبري
L,empire egyptien sous Mohamed-Ali et la question d,orient
وبسرعة كبيرة اكتسب محمد علي المزيد من الشهرة كقائد قدير وكفء وترقى بسرعة ليصبح الرجل الثاني في قيادة القوة الألبانية بكاملها وليس في القوات القادمة من قولة فحسب . وقد شكل جميع الألبانيين في القوات العثمانية في مصر داخل الجيش كتلة مميزة ومنفصلة عن بقية القوات ، وكانوا تحت قيادة ضابط يدعى ” طاهر ” . وكان العثمانيون قد بدأوا منذ منتصف القرن السابع عشر يستعينون بالألبان كجنود مرتزقة لتحقيق التوازن مع الانكشارية غير الموثوق فيها وسائر الوحدات ” الوجاتات ” الأخرى .
ونظراً لكونهم غير نظاميين فقد جنحوا للإحتفاظ بتكوينهم القبلي . كان الألبان يتحدثون القليل من التركية وكانوا يمقتون الانكشارية العثمانيين الذين كانوا بدورهم يحتقرون الألبان باعتبارهم رعاعاً منحطين ” وعاملوهم معاملة الخدم ” وفقاً لتعبير الجبرتي ، فقد كان الألبان –・كمايقول- أشد فظاظة وأكثر صعوبة في القياد من العثمانيين . وأضاف ( غالبهم لم يصم رمضان ولم يعرف لهم دين يتدينون به ولامذهب ولاطريقة يمشون عليها وأسهل ماعليهم قتل النفس . وأخذ مال الغير وعدم الطاعة لكبيرهم وأميرهم وهم أخبث منهم –・أي الانكشارية –  فقطع الله دابر الجميع ) ( انتهى الاقتباس ) ولكن لاشك أن جموع الألبان كانوا مسلمين ، ولكن يبدو ان هذا الصنف المرتزقة كان من الرعاع حقاً .
ولكن في المقابل فإن الإنكشارية كانت أحوالهم –・بدورهم –・متدهورة ، ولم يكونوا تلك القوة الفتية التي تم تربيتها على العزة والعقيدة والروح القتالية في بداية الأمر ، ولكننا –・كما نؤكد –・نشهد التدهور في كافة مناحي الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر آخر القرون الستة للدولة العثمانية .
منذ شرفت القوات العثمانية أرض المحروسة في 8 مارس 1801 وبمجرد وصولها للقاهرة اندفع الجنود إلى الأسواق ووضعوا أسلحتهم وأعلامهم على المقاهي والمحلات والحمامات ، في اعلان على أنهم سيشاركون أصحاب هذه المنشأت في الأرباح !! ثم انطلق الترك والألبان إلى خارج حدود القاهرة لملاقاة الفلاحين القادمين ببضائعهم واشتروا كل مامعهم من منتجات بثمن بخس ثم أتوا بها إلى المدينة وأعادوا بيعها إلى التجار بربح كبير ( الجبرتي )
وهكذا في السنوات الأولى في القرن 19 ورغم التخلص من الاحتلالين الفرنسي والانجليزي ظل الشعب المصري نهباً لأربعة محاور قوات الألبان والأتراك التي لم تكن أي منهما تطيع أوامر ضباطها من الرتب العليا ، ومحورين للمماليك ( جناح الألفي بك –・جناح ابراهيم بك / البرديسي ) .
تصور المماليك أن يعودوا مثل ريما إلى عادتها القديمة ، فعاد الألفي بك إلى جباية الضرائب من أهالي الصعيد بمنتهى الوحشية حتى ( لجأ سكان الوجه القبلي إلى الفرار إلى القاهرة هرباً من الضرائب الألفية ، بل قام الألفي باغتصاب الممتلكات الشرعية من أصحابها ومصادرة ممتلكات كل المتوفين تاركاً العوز لوارثيهم ( الجبرتي ) وفي الصراع على المغانم تواصلت الاغتيالات المتبادلة بين جناحي المماليك ( الألفي- البرديسي) .
وبدا في أول الأمر أن العثمانيين لديهم نوايا حسنة في القضاء على المماليك حيث أبلغ الوالي العثماني ( قبل محمد علي ) خسرو باشا الفرنسي سباستياني عام 1802 ان ” لديه أوامر قاطعة من البلاط بشن حرب إبادة ضد البكوات وأن ينبذ بلا رحمة أي محاولة للتوصل إلى التفاهم معهم ” بل وأطلع سبستياني على أمر سلطاني بهذا المعنى ، ولكنه كشف له عن أمر سلطاني آخر إلى الوالي بإهانة زعماء العلماء وتجريدهم من أموالهم وأن يخص بضرباته “الشيخ البكري ” و” الشيخ السادات”. ولاشك أن العلماء علموا بهذه النوايا مما دفعهم إلى أحضان محمد علي . ( السادات كان من زعماء الثورة الأولى والثانية ضد الاحتلال الفرنسي ورفض عضوية ديوان نابليون ) . لم يكن اذن موقف العثماني جنوحاً إلى العدل ، وانما جنوحاً للسيطرة والهيمنة والقبضة الحديدية والتي لم يدركوا أنهم لا يمتلكون أدواتها ، حتى لو تصورنا انحياز محمد علي لهذه السياسة لأن الشعب كان يغلي كالمرجل وقد انتصر على الفرنسيين وكان شعاره ( لن نستعبد بعد اليوم ) . بضع آلاف من القوات العثمانية ماكانت لتخضع هذا الشعب الثائر الذي فاض به الكيل : وقد برهن محمد علي على ادراكه الدقيق لموازين القوى فانحاز للعلماء وانحاز للشعب فربح الجولة وظل رابحاً حتى مات !
ضاعت فرحة الشعب المصري بالنصر على الفرنسيس وقد رأوا القوات العثمانية التي ظنوا أنها جاءت لتحررهم فإذا بها إضافة جديدة لقطاع الطرق من المماليك . ويقدم لنا الجبرتي الشاهد الوحيد الذي كتب شهادته في هذا الزمان فقال : ( وقد حضرت عساكر كثيرة من جنود الأتراك والأرناؤود . فأحضروا مشايخ الحارات وأمروهم بإخلاء البيوت لسكناهم فأزعجوا الكثير من الأهالي وأخرجوهم عن دورهم بالقهر فحصل للناس غاية الضرر. وكلما سكن منهم طائفة بدار أخربوها وأحرقوا أخشابها وطيقانها وأبوابها ). وفي موقف آخر( وقفت جماعة من العسكر بخط الجامع الأزهر في طلوع النهار وشلحوا عدة أناس وأخذوا ثيابهم وعمايمهم وأغلقوا الدكاكين وذهب الناس إلى الشيخ الشرقاوي والسيد عمر النقيب والشيخ الأمير فعملوا جمعية وأحضروا كبار العسكر ووقف الوالي وأمامه عدد كبير من عساكر الأرناؤود ونادى المنادي بالأمن للرعية وإن وقع من العسكر والمماليك خطف يضربونه . وبعد مرور الحكام وانفضاض الجمع خطفوا عمايم ونساء حتى كان الناس إذا مشي يربط عمامته ).
كان الجنود لايرون أي فائدة لأبواب البيوت الخشبية فكانوا يستخدمونها في التدفئة أو كوقود للطهي . وعندما كانوا ينتهبون حياً بأكمله ينتقلون إلى أحياء أخرى ليبدأوا من جديد . وهكذا تم تدمير مساحات من المدينة بأكملها .وقام هؤلاء بالتحرش بالنساء في الشوارع والحمامات واختطفوا الدواب من راكبيها من المارة ، وصادروا كل الحمير من طائفة السقاءين ، الذين كان عليهم أن يحملوا قرب الماء على ظهورهم قسراً وبالتالي يطلبوا أجراً أعلى مقابل ذلك .
واختطفوا الناس واحتفظوا بهم رهائن من أجل الحصول على فدية . ولم يكن أحد يجرؤ على السير في الطرقات بعد غروب الشمس .
كان إجمالي عدد الجنود العثمانيين عشرة آلاف ( المماليك لديهم عدد قريب من ذلك) وكانت هناك مشكلة مزمنة يعانون منها في مصر، إنهم لا يحصلون على رواتبهم !!
وهذا يفسر بعض سلوكهم وليس كل هذا الإجرام ، فالمفترض أن يتمردوا على قادتهم أو الوالي العثماني ، لا على خلق الله . ولكن الكارثة أن دولة عظمى كالدولة العثمانية لاتقدر معنى عدم دفع رواتب الجند. بل ان الوالي عادة لايلجأ للأستانة لحل هذه المشكلة بل بالمزيد من الضرائب الجائرة .
وكان المماليك أيضاً غير منتظمين فى دفع المرتبات للمرتزقة التابعين لهم !! وقد تأخر الوالي خسرو باشا في دفع مرتبات الجنود خاصة الألبان لمدة خمس شهور . وهنا حاول محمد علي توجيه الغضب تجاه خسرو باشا لا تجاه الشعب المسكين الذي وصفه الجبرتي بأنه يوشك على الهلاك. فنظم الألبان وعددهم 6 آلاف أي 60% من القوة العثمانية مظاهرة للمطالبة بأجورهم المتأخرة فماذا كان رد خسرو باشا المستهتر؟ قال: إن الألبان لا قيمة لهم ويجب إعادتهم إلى بلدهم وإلا سيأمر بقتلهم جميعاً ، فأعلنوا العصيان فرد الوالي بأن وجه المدافع من القلعة إليهم . أدرك الأهالي حرج موقفهم فبدأوا يسلحون أنفسهم للدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم . وقام طاهر باشا قائد القوات الألبانية بالإستيلاء على القلعة ووجه المدافع إلى قصور الوالي خسرو وتقاتلت الفئتان وهرب خسرو ( وكيف سيقتلهم وهم 60% من القوة العثمانية؟!)  وتولى طاهر باشا السلطة مؤقتاً ! ولكن من هو طاهر باشا ؟! يقول نيقولا الترك (مرجع سابق) : ان طاهر باشا في الأصل قاطع طريق (!!) وكان مولعاً بالقتل ، ولذلك بعد أسابيع ثلاثة فقط قام اثنان من الإنكشارية بقتله ! وقام الانكشارية بتعيين أحمد باشا والي مؤقت وكان في الأصل معيناً والياً للمدينة المنورة . وكان في مصر عابر سبيل ( ترانزيت) ولكن هكذا أصبحت تدار أهم ولاية عثمانية . طبعاً التعيين المؤقت يعني : حتى يأتي فرمان الآستانة بالوالي الرسمي  . ولكن المماليك والألبان لم يقبلوا بذلك وأنذروا الوالي المؤقت بمغادرة المدينة خلال 24 ساعة.
وتم إلقاء القبض على خسرو باشا الذي كان هارباً في دمياط ثم وصل فرمان الآستانة بعزل خسرو وتعيين علي الجزايرلي باشا والياً والذي وصل للاسكندرية.
ورفض المماليك دخول الجزايرلي إلى القاهرة إلا ومعه 200 جندي فقط ، فخاف على نفسه وبقي في الاسكندرية . بينما سيطر محمد علي على القاهرة وقام باقتحام مخازن الحبوب التي تحت سيطرة المماليك ووزعها على الأهالي ، فازدادت شعبيته .
وكان ابراهيم بك أحد قادة المماليك موجوداً بالقاهرة وفي خضم هذه الإضطرابات جمع العلماء وطلب منهم أن يدعو الله لإغاثة مصر خاصة وقد جاء الفيضان منخفضاً ورد عليه الشيخ العروسى بكلمة بليغة ( أرجو ان تتذكروها عندما ندعو الله كثيراً في هذه الأيام ولايستجيب لنا ) قال :
{حاشا ان الله تعالى يسمع منكم أو من الرعايا أو من الحكام لأن الظلم والجور والفساد قد عم الأرض والبلاد وحكامنا الموجودين ليسوا بمسلمين . فلو كانوا من الاسلام وأهل عدل وإحكام لكانوا أبطلوا المكوسات والعكوسات ورفعوا المظالم والمغارم وطمنوا رعاياهم وأصلحوا نواياهم وعمروا البلاد وأمنت العباد . والحال اننا ناظرين أن الأمر يخالف مايقتضيه الإنصاف لأن في مدتهم كثر العناد والظلم زاد واستباحوا المنكر .. ولا من يدافع ولا من يرافع .. وكيف يقبل منا دعاء أو صلاة ومماليكهم وعساكرهم مدى الليل والنهار يسلبون وينهبون ويضربون ويقتلون ولايهابون أميراً ولايخشون كبيراً} .( الترك- مرجع سابق )
حتى عندما جاء الغزو الإنجليزي ( حملة فريزر ) أشرت من قبل إلى أن أهالي رشيد طلبوا من عمر مكرم إرساله تعزيزات أهلية لا انكشارية !! لمعرفتهم بسوء الجند . ولكن كان لابد من استخدام محمد علي للجنود الأتراك في المرحلة الثانية من معركة رشيد ، وبمجرد جلاء الإنجليز نزل الأتراك على بلدة الحماد التي جرت فيها المعركة الفاصلة وما جاورها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها زاعمين أنها صارت ديار حرب (ياسلام على الفقه!!) بل كل هذه محرمات في ديار الحرب!!
وكان محمد علي يدرك منذ البداية ان القوات العثمانية بما فيها قوته الألبانية من الرعاع وأيضاً إحدى مشكلاته الكبرى ، وكان يحتاجها لمواجهة المماليك وفرض النظام وهو يعلم أنهم لايقلون سوءاً عن المماليك لم يكن أمامه بديل في المدى القريب المنظور للاستعانة بهذه القوات الألبانية للوصول إلى الحكم ثم محاولة فرض الأمن . ففي 27 فبراير 1804 انفجرت حركة تمرد عسكرية أخرى بين صفوف الجنود للمطالبة بمرتباتهم المتأخرة ففرض البرديسي ( الحاكم الفعلي ) ضريبة غير عادية على الأهالي فانفجرت ثورة الأهالي تسب المماليك وجنود العثمانيين معاً . وأرسل محمد علي رجاله إلى مختلف أحياء المدينة ليمنعوا الجنود من القيام بأعمال السلب والنهب . وأصدر أوامره بالقبض على أي جندي يقوم بالإعتداء على أي مدني . وفي الاجتماع الذي ضم العلماء والبرديسي لبحث إلغاء الضريبة انحاز محمد علي للأهالي والعلماء وقال ( رواتبنا علي الميري وليس علي الناس . ادفعوا للجنود من خزائنكم ولا تضغطوا علي رعاياكم . لن نسمح لكم بإجبار الناس على الإسهام بالمال ) . وأعقب ذلك هجوم القوات الألبانية على المماليك الذين فروا من المدينة ، وقام الأهالي هذه المرة بنهب منازل المماليك (!!) . عقب ذلك عين الباب العالي ” خورشيد باشا ” والياً جديداً فماذا فعل لاستتاب الأمن ؟ استدعى قوة عسكرية جديدة خاصة به ليس من الجيش النظامي العثماني ولكن من أقلية عرقية من سوريا ( 5 آلاف جندي ) من الدلاة الذين يطلق عليهم ” المجانين المخيفين المشهورين بالوحشية ” . وكانت أصولهم خليطاً من الأكراد والدروز والمتاولة ، وكانوا يبعثون الرعب في أهل البلاد وفي القوات الألبانية على السواء (لك الله ياشعب مصر). وكان قائد الدلاة شقيقاً للرجل الذي اغتال طاهر باشا واغتاله الألبانيون انتقاماً لمقتل طاهر باشا ، والآن لابد أن ينتظروا من الدلاة رداً انتقامياً ! وبمجرد وصولهم للقاهرة أشاعوا بين الناس أنهم قدموا لإجلاء الألبان . وكما تقول عفاف السيد : ( وهكذا أضيف كابوس جديد إلى الآخرين الذين كانوا يمتصون مصر حتى الموت ) . في ذلك الوقت كان محمد علي في الصعيد للقضاء على إحدى فتن المماليك والذين كانوا منذ أيام الفرنسيين استولوا على الصعيد بكامله تقريباً . واستولى محمد علي على المنيا وعاد للقاهرة حيث كان 9 آلاف من الجنود العثمانيين يصرخون طالبين الرواتب !!
ثم بدأ الدلاة نشاطهم في مايو 1805 ’€・انطلقوا هائجين كالمجانين ’・اختطفوا واغتصبوا وقتلوا ونهبوا كما شاءوا ، وكانت ثورة الأهالي والعلماء ضد الوالي خورشيد باشا الذي عجز عن وقف الدلاة عن جرائمهم . وبعدها عين الباب العالي محمد علي والياً للحجاز لإبعاده عن مصر . رغم ان الإعتماد عليه كان أفضل الحلول لإنقاذ مصر من مشكلاتها . خاصة بعد فشل خورشيد باشا رغم أنه كان قائدا عسكريا عثمانيا كبيرا انتصر في معارك كبرى من قبل في اليونان . وأقيم حفل لتنصيب محمد علي والياً للحجاز ، وأثناء الحفل ثار الجنود وطلبوا مرتباتهم فأجاب محمد علي بهدوء : هاهو الوالي –・يقصد خورشيد –・عندكم اطلبوا منه مستحقاتكم . وهاج الجنود على الوالي الذي تمكن من الهرب . وطالب أعيان المدينة في انذار لخورشيد بطرد جنوده من القاهرة ومنع فرض ضرائب جديدة . وتصاعدت الثورة ولم يسافر محمد علي لجده بطبيعة الحال وكان جنوده يقفون خلف المتاريس مع الأهالي ضد قوات خورشيد. ولكن جنود محمد علي طالبوا بمرتباتهم ورفضوا أن يقاتلوا حتى يدفع لهم وتخلوا عن مواقعهم. احتل الأهالي مواقعهم ( ومع ذلك يجب أن نتذكر أن محمد علي كان في الأصل مجرد متطوع في مفرزة ألبانية غير نظامية !!) وتفجر القتال بين المدنيين والعسكريين وسادت الفوضى . لا يستطيع أحد أن يفرق بين صديق وعدو كما قال الجبرتي . أحياناً كان الناس والجنود يتقاتلون وفي أحيان أخرى كانوا يتحدون ويقاتلون من في القلعة ( خورشيد ) الذين حرضوا الجنود العثمانيين والألبانيين على محاربة الفلاحين . ومن حين لآخر كان خورشيد يصدر أوامره بإطلاق شامل للمدافع على المدينة عامة وما يليه ذلك من ذعر وهو مايعكس حالة من الغشومية، وعدم إدراك الواقع السياسي في وقت بلغ فيه عدد الأهالي المسلحين 40 ألف .أي أكثر من كل القوات النظامية والمملوكية . وحتى لايتصور أحد ان القاهرة هي وحدها التي كانت مبتلاه بهذه السخائم .
نقول ان المماليك من رجال الألفي طاحوا في الدلتا يسلبون وينهبون . بينما تركز نهب وسلب واغتصاب الدلاة في قليوب . ( تقسيم عمل ..ماشاء الله ).
سيقول البعض ولكن محمد علي مسئول عن قطائع القوات الألبانية . ولا شك في ذلك بطبيعة الحال . ولكن طموحاته السياسية في الوصول للحكم ورغبته في كسب ثقة العلماء والشعب جعلته يبذل أقصى جهد في محاولة لضبط انفلات الألبان وكان ينجح أحياناً ويفشل أحياناً أخرى . والمسألة متعلقة بالمرتبات . وهؤلاء ليسوا عقائديين ليتحملوا حياة الكفاف .
وعندما تولى الحكم وتم القضاء على حملة فريزر الإنجليزية عام 1807 كما تذكرون : دخل محمد علي الأسكندرية فاتحاً بعد طرد الإنجليز واستعادة الأسكندرية من السيادة العثمانية !! كان يفكر في معاودة جهوده للقضاء على سلطان المماليك في الصعيد ولكنه سمع عن تمرد جنوده هو في القاهرة !!
والمهم هنا أن نذكر ان محمد علي فور توليه للسلطة في 1805 خلص مصر وشعب مصر من كارثة ( الدلاة ) وهم 5 آلاف من الأشقياء المسلحين فأصدر قراراً بترحيلهم إلى الحدود السورية ( من حيث أتوا ) وفي أثناء جلائهم عن مصر نهبوا قرى الوجه البحري وعاثوا وأفسدوا . ولكن محمد علي كان يرى أن الألبان وماتبقى من عناصر عثمانية أخرى خطراً على استقراره في الحكم لإنفلات تصرفاتهم وقد رأى ماذا فعلوا بالقاهرة والأرياف بعد جلاء الإنجليز 1807 ؟ فكانت معضلته الكبرى ضرورة تأديبهم ولكن بأي قوة ومن البديل ؟ وبالفعل في 28 أكتوبر 1807 تجمهر الأرناؤود وتوجهوا إلى سراي الباشا نفسه ( محمد علي) يطالبون برواتبهم المتأخرة وتم وعدهم بالدفع ولكنهم أخذوا يهاجمون القصر بإطلاق النار من بنادقهم على أبواب القصر ونوافذه حتى نفذت ذخيرتهم !!
وبعد 3 ساعات تكرر نفس المشهد من مجموعة من بقايا الدلاة . وكان المتمردون يعتزمون قتل محمد علي فلم يبت في قصره بالأزبكية وتحصن في القلعة في اليوم التالي 29 أكتوبر حيث ذهب إليها سراً . فما كان من الجنود المتمردين إلا أن قاموا بنهب سراي محمد علي في الأزبكية واستمرت الفتنة 7 أيام حتى جاء الإحتفال ببدء شهر رمضان .
وقام محمد علي بمساعدة عمرمكرم بجمع أموال من التجار ( لا من الأهالي ) لدفع رواتب الجند ثم قام بنفي أكثر عناصر الأرناؤوط خطورة مثل رجب أغا ( وكان قد انشق من قبل وعمل مع قوات الألفي رئيساً لقواته المشاه ! فلما مات الألفي جاء يعيث فساداً في القاهرة . وأخيراً تم ترحيله عبر دمياط خارج البلاد .
وفي هذه اللحظات اختمرت فكرة بناء جيش مصري نظامي في عقل محمد علي .( ولا أدري هل يحسب هذا له أم عليه ؟!).وكان مع محمد علي قلة من الضباط والجنود والألبان كما أنه تمكن في اجتماع ضم المتمردين من كسب الجولة بالتأكيد على أنه أعطى الضباط مبالغ كبيرة من المال لتوزيعها على الجند ولكنهم لم يفعلوا . وتم إبعاد مجموعة من قادة التمرد وليس أغا وحده و تم دفع رواتب 3 شهور ووافق الجنود على إعادة مانهبوه من منزله !!
في ذلك الوقت كانت استانبول تشهد أحداثاً دراماتيكياً مأساوية فقد أطاح الانكشارية بسليم الثالث اعتراضاً على تحديث الجيش وقتلوه وعينوا مصطفى ابن أخيه الذي مالبث أن قتل وتولى محمود الثاني الحكم وخلال هذه السنوات استراح محمد علي من الضغط العثماني ولكنه ظل يصر على البقاء في إطار الدولة العثمانية –・وسيظل حتى موته –・وكان يراسل أم السلطان محمود الثاني (اسما) ليؤكد لها أن تساعده في البقاء كوالي وكانت رسائله مصحوبة دائماً بالهدايا المالية الكبيرة والمراسلات بين محمد علي وأسما محفوظة في الوثائق العثمانية . ونختم هذا الجزء عن طبيعة النظام السياسي العثماني في مصر قبل مرحلة محمد علي لنرى كيف كان حكم محمد علي خطوات إلى الأمام وليست إلى الخلف ؟ لنرى كيف أدى إهمال العثمانيين لمصر إلى هبوطها إلى مرحلة الحضيض.


ولنقرأ هذا الكلام الدقيق والموضوعي للرافعي : ( إن مصر كانت أهم ولاية عثمانية وكان يحكمها أحد الباشوات يعينه السلطان لمدة سنة واحدة تدوم إلى اثنتين وجرت العادة أن تصل إلى ثلاث سنوات ونادراً إلى أربع ولا يحصل عليها إلا في مقابل إتاوة من المال أربع مائة إلى خمسمائة ألف ريال علاوة على هدايا تصل إلى مائة ألف ريال مع كل تجديد وعندما يصل الباشا الجديد إلى الأسكندرية يبلغ الديوان نبأ وصوله فيرسل شيخ البلد رئيس المماليك وفداً من أذكى البكوات لاستقباله فيظهرون له الطاعة وخلال ذلك يتحسسون نياته فإذا رأوا أنه لايوافق هواهم أرسلوا بذلك رسولاً إلى الباب العالي بأن الباشا الجديد جاء بنيات عدائية تؤدي إلى حدوث الفتنة فلا يرفض الباب العالي لهم طلباً في العادة .
ويضيف الرافعي ان منصب الباشا كان نوعاً من النفي فالسلطة الفعلية للحكومة كانت في شيخ البلد فهو كبير المماليك ورئيس الحكومة المحلية والباشا والوالي بجانبه لاحول له ولاقوة ، يليه في الأهمية أمير الحج ثم الدفتردار وزير المالية  . والباشا لايستطيع الخروج من القلعة إلا بإذن شيخ البلد وهو سجين وسط مظاهر الأبهة ولايد له في شئون الحكم ومرتبه المحدود من رسوم جمارك السويس والبضائع التي ترد من البحر الأحمر . وكان علي الباشا الحاذق أن يستدر عطف حزب من المماليك الذين يعينهم سناجق في الأقاليم مقابل إتاوات وإليه يؤول ميراث الملاك الذين يموتون بلاعتب ( انتهى الاقتباس)
ولكن أحياناً كانت ترسل الأستانة والياً ذا ثقل وأهمية كالقائد العسكري الكبير خورشيد ولكن كما رأينا فقد كان أداؤه بالغ السوء في التعامل مع الشعب . وفي تغليظ الضرائب والعنجهية حيث قال : أنا الذي عينني الباب العالي لايطيح بي فلاحون .
فلم نسمع خلال حكم العثمانيين على مدار 3 قرون شيئاً على محور العدالة الإجتماعية في الإسلام وعلى رأسها الزكاة ولم نسمع على محور الجهاد تجنيد المصريين للقتال في الجيش العثماني من خلال تأسيس فرع مصري لهذا الجيش ولم نسمع شيئاً في مجال الإزدهار العلمي الشرعي أو علوم الطبيعة . ولم نسمع شيئاً في مجال تطوير الصناعات أو تطوير نظم الري .
ولم نسمع شيئاً في مجال تطبيق الحدود أو القوانين الإسلامية والتي تحرم في ذاتها هذا الطغيان الغرائبي بلا ضابط على المعوذين والفقراء والمساكين . وكيف يحدث ذلك في ظل حكم المماليك وقد تحولوا إلى عصابات نهب وسلب بلا أي ضوابط شرعية أو وضعية ؟!
ولذلك أعجب أشد العجب من راغب السرجاني الذي يتحدث عن هذه المرحلة بدون دراسة كافية ( جاء حديثه في إطار الحديث عن فلسطين ) فقال بالنص ( ان محمد علي قتل العلماء (وهذا غير صحيح فلم يقتل عالماً واحداً ) وضرب المماليك الذين عاشوا في كنف الدولة العثمانية بدون مشاكل ) ولا أريد أن أكرر ماذكرناه آنفاً عن المماليك، بل العثمانيون كانوا قد ضجروا منهم ولكنهم يستعينون بهم مضطرين لأنهم –・فيما عدا علي الكبير –・لايملكون طموحاً خارج مصر .حتى ان محمد علي عندما قام بمذبحة القلعة اغتبط السلطان العثماني، وأرسل محمد علي –・وفقاً للوثائق العثمانية الرسمية –・قائمة بأسماء 24 من البكوات وأربعين رجلاً وهؤلاء كانوا من الكشاف أي جباة الضرائب المتخصصين في مص دماء المصريين( أي 64 ) هم من أعدمهم في القلعة وأرسل آذان ورؤوس هؤلاء إلى السلطان . وهذا حدث فريد لم يتكرر طوال حكم محمد علي . ولم يكن هناك ثمة وسيلة للقضاء على وباء المماليك سوى ذلك . وهم البقية الباقية بعد أن شتت الآخرين النوبة والشام أو تم استيعابهم تحت الإقامة الجبرية في القاهرة . ( ولم يصل عدد القتلى إلى 40 أو 50 كما قالت القناصل الأوروبية ) . هؤلاء القادة من المماليك يستحقون القتل وفقاً لحد الحرابة ولكن هل كان هذا ممكناً في ظل موازين القوى الدقيقة وقوة المماليك المسلحة لاتزال موجودة وكان توقيت مذبحة القلعة مرتبطاً بخروج حملة ابنه طوسون إلى الحجاز لإخضاع الوهابيين . وكان محمد علي يخشى من استغلال المماليك لغياب القوة الضاربة للجيش خارج مصر .
ويتفق عدد من المؤرخين على أن السلطان محمود الثاني ( 1808-1839) الذي عاصر محمد علي . قلد محمد علي في تعامله مع المماليك . ( من هؤلاء مثلاً : العالم العربي في العصر الحديث –・د. عبد العليم علي عبد الوهاب أبو هيكل –・أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر –・كلية الآداب –・جامعة القاهرة ود. عاصم الدسوقي –・عوامل الوحدة والتفكك العربي –・مؤسسة ابن خلدون -2001 ).
  ذكرنا أن سليم الثالث أراد تحديث الجيش العثماني ليكون على أحدث الطرز الحديثة للجيوش، واعترض الانكشارية حيث رأوا أن وضعهم الخاص سيتأثر . وثاروا عليه وقتلوه. ونصبوا ابن أخيه مصطفى فقتل بدوره وجاء محمود الثاني وقرر تصفية الانكشارية وكان عددهم أكبر من أن يدعوهم لوليمة عشاء كما فعل محمد علي !! فقام بقصف معسكراتهم بالمدفعية وقتل أعداداً كبيرة منهم لاتقارن بمذبحة القلعة الصغيرة واعتقل البعض الآخر . وهو ما سماه د. أبو هيكل اقتباس من مذبحة المماليك في القلعة . د. عاصم الدسوقي يرى نفس الشئ في مذبحة إبادة الانكشارية بالمدفعية التي قام بها محمود الثاني عام 1826 وحل الطريقة البكتاشية المرتبطة بالانكشارية وهدم عدداً من زواياها . وألغى نظام التيماء ( الاقطاع العسكري ) مصدر قوة الانكشارية . والنظام الانكشاري هو عموماً نفس النظام المملوكي ولكن تحت السيطرة المركزية للدولة العثمانية.


                               - 12 -

>
الوالي العثماني: السلطان أعطاني مصر وأنا أعطيها للمماليك!

في الربع الأخير من ق17 حكم مصر 30 والياً
بعد تمرد الانكشارية واستعانتهم بالصفويين..
العثمانيون اعتمدوا على المماليك في حكم العراق أيضاً
جعلوا مصر واليمن ولاية واحدة وقسموا العراق إلى 4 ولايات !

كان الغرض من التوسع في أحوال مصر في القرن الثامن عشر أي قبل مجئ محمد علي هو المقارنة لتوضيح حجم التطور الإقتصادي الزراعي والصناعي في عهده وقد استدعى هذا أيضاً المقارنة بين الأحوال السياسية في العهدين : القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر ومابعده ( أي عهد محمد علي وأبنائه ما قبل توفيق الذي كان رمزاً للاحتلال البريطاني ) والهدف من هذه المقارنة السياسية أن بعض الأخوة الإسلاميين يتحدثون –・بدون دراسة كافية فيما أعتقد لأن المراجع عن عهد محمد علي ضخمة وكثير منها باللغتين الفرنسية والإنجليزية وطبعاً بالتركية)- يتحدثون عن أن عهد محمد علي هو العلامة الفارقة بين العهد الإسلامي وعهد التغريب والسقوط في المستنقع الغربي وتقويض الشريعة الإسلامية . وفي المقابل لا أرى أن محمد علي هو المثل الأعلى الذي يجب أن يحتذى في إطار نظامه السياسي . لماذا اذن أهتم بإنصافه ؟! لأن الحملة الهوجاء على محمد علي تمحو دروساً مهمة جداً في النهضة الاقتصادية والحضارية نحن في أمس الاحتياج لها الآن في أوائل القرن الواحد والعشرين . وعناوين هذه الدروس : دور الدولة الحاسم في التنمية الإقتصادية –・وبالتالي دور التخطيط المركزي  – الدور الحاسم للصناعة ومتابعة آخر التطورات التكنولوجية ( عندما سافر ابراهيم باشا ابن محمد علي للعلاج في أوروبا في أيامه الأخيرة لم يكن مهتماً إلا بزيارة المصانع ومتابعة آخر التطورات التكنولوجية ) –€・استخدام العلم في تطوير الزراعة ( شبكات الري –・والقناطر وادخال محاصيل جديدة ) بناء جيش مصري قوي مع قاعدة تصنيع حربي وطنية –・بناء أسطول حربي قوي كمسألة استراتيجية –・النهضة التعليمية الشاملة المرتبطة بمتابعة آخر اكتشافات العلم في مختلف المجالات  – بناء دولة عربية إسلامية موحدة وكان محمد علي يرى عن حق أن الدور القيادي للدولة العثمانية قد انتهى ولكنه كان يريد العمل في إطارها وأن يعطي تفويضاً لقيادة المنطقة العربية ( مصر –・الشام –・اليمن –・الحجاز –・السودان ) وكان يفكر في العراق وامتدت طموحاته إلى الجزائر غرباً ( في التفكير دون التنفيذ ) –€・درس الاستقلال السياسي فلم يكن محمد علي –・كمايقال –・عميلاً لفرنسا أو انجلترا . بل كان في تحد دائم لهما خاصة انجلترا وهي الأقوى والأكثر سيطرة على العالم في ذلك الوقت . كان محمد علي يستفيد من الخبراء الأجانب خاصة الفرنسيين دون أن يسمح لهم بالتدخل في شئون السياسة المصرية . وتقارير القناصل الأوروبيين تؤكد ذلك ( كثير من المكاتبات بين القناصل ووزارات الخارجية الأوروبية مترجمة للعربية ) . وقد تناولنا سابقاً الحرب التجارية التي كانت قائمة بين مصر محمد علي وأوروبا خاصة انجلترا وفرنسا باعتبارهما الأكبر صناعياً . خاصة انجلترا لأن محمد علي كان يخشى دائماً من أطماعها أكثر من فرنسا . فانجلترا هزمت فرنسا هزيمة قاصمة في ووترلو 1815 وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط نابليون بونابرت وإلى إضعاف فرنسا في السباق مع انجلترا على السيطرة العالمية وكانت هذه هي سمة فترة محمد علي وهو التراجع الفرنسي والصعود البريطاني حتى رضيت فرنسا وقنعت بالمركز الثاني في الشرق الأوسط وفي العالم عموماً . وقد مر علينا من قبل دور انجلترا في حصار بونابرت في مصر وهزيمة فرنسا وهذه بالذات اللحظة التي وصل فيها محمد علي إلى مصر وقد اشتبك عسكرياً مرة مع الفرنسيين ورأى بنفسه تلكؤ انجلترا في الإنسحاب من مصر لمدة عام ثم عودتها عام 1807 . وسنتحدث عن العداء الدفين والمستعر بين انجلترا ومحمد علي عندما نتحدث عن توسع محمد علي خارج مصر . ولكن حتى هذه اللحظة رأينا الصراع التجاري على الأسواق بين انجلترا وصناعة مصر الصاعدة والمنافسة وسنعود إليه لنوضح أن الدولة العثمانية هي التي نصرت انجلترا على محمد علي في موضوع الانفتاح التجاري وإلغاء الحواجز الجمركية . ولكننا نحتاج لوقفة مع العلاقات بين محمد علي وفرنسا . هنا حدث تزاوج بين مسألتين : 1- بعد الهزيمة الفرنسية عام 1815 أمام انجلترا وتأكد التفوق السياسي والعسكري والبحري لانجلترا حدث انكسار فرنسي وحدث تدافع من الفرنسيين الذين كانوا يعملون في الجيش وتم تسريحهم أو كانت لهم ميول بونابرتية ( فهم مغضوب عليهم ) حدث تدافع من هؤلاء على مصر بحثاً عن عمل يتعيشون منه. كما حدث من بعد من علماء الصواريخ الألمان الذين جاءوا للعمل في مصر في عهد عبد الناصر حيث لم يكن هذا بإذن من دولة ألمانيا الغربية . وتعرضوا لمحاولات اغتيال اسرائيلية بطرود ملغومة . هؤلاء الفرنسيون تم استخدامهم ليعلموا المصريين التكنولوجيا وليقوموا بتدريب الجيش على الأساليب الغربية وليديروا وينشئوا المصانع . وقائمة الفرنسيين الذين عملوا في مصر معروفة تماماً . إذ أن الغرب قد نسب إليهم طويلاً فضل تحديث مصر . أما فيما يتعلق بالحاكم (محمد علي ) فقد كان هؤلاء أدوات في يده . كانوا في مصر لأداء وظيفة محددة . أن يعلموا موظفيه الإداريين علمهم . وما ان كانت تنتهي هذه المهمة ، حتى يرغب في الإستغناء عنهم . اذ لم يكن يثق في قيامهم بالحفاظ على مصالحه بمثل مايفعل أتباعه خاصة وأن الكثيرين منهم كانوا صائدي وظائف ومغامرين .( من وثائق القنصلية الفرنسية بالأسكندرية-
الجزء25-4يناير-1832)Correspondenc- comnerciale                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                وكان المصريون يشغلون المراكز الثانية في القيادة وكانوا يدربون ليحلوا محل الأجانب . وقد تحدثنا عن ذلك من قبل ولكن هذا تقدير الوثائق الفرنسية . ونذكر بأن سيريز الذي أسس الترسانة البحرية تم دفعه للاستقالة تحت ضغوط أوروبية .
2- لاشك أن فرنسا استعادت بعض التوازن بعد هزيمتها 1815 على يد انجلترا قبل أن تهزم هزيمة ماحقة عام 1870 على يد الألمان الذين وصلوا إلى باريس !!
في العشرينيات والثلاثينيات من القرن التاسع عشر حاولت فرنسا استعادة نفسها ومواصلة منافسة بريطانيا ولكنها ظلت الأضعف وهو الأمر الذي ظهر بوضوح ساعة احتلال انجلترا لمصر عام 1882 وطرد هذا المنافس  – فرنسا –・الذي كان يشكل مع انجلترا صندوق الدين –・والمراقبة الثنائية للمالية المصرية في عهد إسماعيل .
في فترات الإفاقة لاشك ان النظام الفرنسي كان يحاول اقامة علاقات حسنة مع محمد علي . ومحمد علي لايرفض بطبيعة الحال لأنه كان على يقين من أن فرنسا لاتشكل منفردة أي تهديد مباشر لمصر . وقد أثبتت الأيام صدق حدسه . ولكنه لم يكن ساذجاً ولم يتم أي تحالف استراتيجي مع فرنسا . بدليل أنه كف عن استيراد السفن الحربية من فرنسا وبدأ في تصنيع سفن حربية مصرية خالصة كما تقدم . كذلك كانت الحروب التجارية قائمة مع فرنسا كما هي مع انجلترا . إذاً لايوجد أي خطأ استراتيجي أو عقائدي في وجود علاقات ودية مع دولة غربية غير محاربة ( في لحظة محددة ) كما أقامت الدولة العثمانية علاقات طيبة مع ألمانيا وكما يمكن أن نقيم الآن علاقات طيبة مع الصين أو أي دولة أوروبية لاتحارب المسلمين في العراق أو أفغانستان .
تقارير القناصل الفرنسيين أيام محمد علي لم تكن ودية على الإطلاق . وكانت توضح أن محمد على خصم عنيد وخطير لفرنسا ولكل أوروبا .
كانت قضية الاستقلال السياسي والاقتصادي مسألة واضحة جداً في ذهن محمد علي . وهو لم يكن حريصاً على الاستقلال عن الدولة العثمانية بل منع القوى الأوروبية من الهيمنة على مصر . وكان يسعى لأوسع حكم ذاتى ولكن في إطار الدولة العثمانية .
واخيراً فإن القول بدور محمد علي في تقويض الدولة العثمانية الاسلامية يجعلنا نضيف أكثر حول طبيعة النظام العثماني في مصر والشرق العربى . وقد رأينا حساسية غير عادية لتقبل ولاية محمد علي رغم الاحتياج الموضوعي لشخص مثله لضبط الأوضاع في مصر فحاولوا إقالته مراراً بفرمانات فعلية 3 مرات على الأقل رغم عدم مرور عام على ولايته . والسبب ان الفكرة الرئيسية أن الوالي يجب أن يكون أداة وتابعاً بصورة عمياء للآستانة ولا شخصية له بحيث يمكن عزله بسهولة . ولم تكن المسألة مسألة كفاءة ، وهذا شرط تسلطي غير إسلامي من دولة إسلامية . وأكرر لا نشكك في اسلامها أو نصفها بأنها دولة استعمارية كما يقول بعض المثقفين . ولكن ليس معنى ذلك أنها فوق النقد. يقول راغب السرجاني ان الدولة العثمانية أرسلت شخصية قيادية أو زعيم لاصلاح الأوضاع في مصر ولكنه انقلب عليها . وهذا يؤكد ان السرجاني لم يبحث في هذا الموضوع ونقل عن آخرين لم يبحثوا ايضاً . محمد علي لم يكن زعيماً ولم يكن مرسلاً من الدولة العثمانية . بل ان الآستانة لم تعلم باسمه إلا بعد أن فرض نفسه على الأحداث في مصر ، بل عدم معرفة الآستانة لمحمد علي هو سبب توجسها ورفضها له . فوفقاً للمصطلحات التركية فان أي والي لأي ولاية لابد أن يكون قد تمت تربيته في استانبول . وأن يكون قد تم اختباره فعلاً في الإدارة الداخلية ( التي تسمى إندروم) وهو بالأساس إختبار الولاء ( أهل الثقة) وعندئذ يتم إرساله إلى الادارات الخارجية (البيرون) أما محمد علي فقد كان متطوعاً في ميليشيات أي قوة ألبانية غير نظامية . وكان قائد مفرزة واحدة لا كل القوات الألبانية التي كان يتولاها طاهر باشا حتى قتل كما أسلفنا . الآستانة لم تكن تعلم أي شئ عن هذا الشخص النكرة !!
وبالتالي فان نجاح محمد علي في الوصول لموقع الوالي عبر ثورة شعبية ومؤيداً من العلماء أمر لاتهضمه الآستانة وهي غير مستعدة لقبوله إلا تحت الإكراه مؤقتاً . وستظل تحاول التآمر عليه حتى عام 1811 فوفقاً للمفهوم السياسي الاسلامي فان اختيار الولاة يكون برضاء الشعب لا بعنجهية السلطة المركزية حتى ان رسول الله صلى عليه وسلم عندما جاءه أهالي إحدى النواحي يشتكون من العامل المرسل منه إليهم . قال لهم مامعناه ( أما كان منكم أن تعزلوا من لم ترضوا عنه ) أي حتى بدون الرجوع إليه .وكانت هذه سياسة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى ان قراراته بعزل الولاة تعددت وشملت كبار الصحابة ، مثل سعد بن أبي وقاص لا لخطأ ارتكبه –・كما قال بنفسه –・بل لعدم رضاء الناس عن أسلوبه . والدليل انه كان من الستة الذين اختارهم عمر للشورى في اختيار خليفته . وكذلك عزل عماربن ياسر وغيره . نعلم أن محمد علي غير ضليع في الفقه ، ولكن على من ينتقده بوصفه معاد للإسلام أن يحاكمه ويحاكم الدولة العثمانية معاً بالمعايير الاسلامية .
حكم العثمانيون مصر خلال القرون 16.17.18 وتحدثنا عن القرن (18) . فماذا كان يجري قبل ذلك ؟!
في القرن السابع عشر وفى عهد السلطان مراد الرابع عام 1638 عاث الوالي العثماني في مصر حسين باشا قتلاً ونهباً بالمصريين ، على أساس أن الوالي الذي سبقه (أحمد باشا) لم يتمكن من الوفاء المالي للآستانة . وعندما احتج الناس وتمت إقالة حسين باشا خلفه محمد باشا وكان أكثر سوءاً ففي عهده تم اهمال القنوات الخاصة بالري وحدث عجز زراعي وعجز الفلاحون عن دفع الضرائب . وجاء بعده مقصود باشا 1641 والذي اشتهر عهده بانعدام الخدمات الصحية وانتشار الأوبئة . واستمرت ولايته 6 شهور حيث مات المئات بالمرض وتحولت عشرات القرى إلى أطلال . وفي ذات العام ثار جند الأوجاقات ( الوحدات العسكرية العثمانية ) على رؤسائهم لعدم العدل في توزيع الأعطيات ونهبوا مخازن الغلال . وخلال الربع الأخير من القرن السابع عشر حكم مصر 30 والياً (أي بمعدل سنة واحدة لكل والي ) تحت السيطرة الكاملة للمماليك برئاسة شيخ البلد المملوكي . وفي ذلك الزمن قام قادة المماليك بشراء المزيد من المماليك من خارج البلاد لتدعيم قواتهم وميليشياتهم وكان الانقسام في ذلك الوقت بين فريقين ( زجنواثية –・قاسمية) مملوكين . ومع بداية القرن الثامن عشر أصبحت السلطة مقسمة بين مماليك القاسمية والمماليك الفقارية . وكان التصادم بين الفريقين بالسلاح مألوفاً في شوارع القاهرة !! وكان فريق القاسمية هو الأقوى ، بزعامة قاسم إيعاظ بك شيخ البلد المملوكي وقد لحق الجبرتي بهذه الفترة أي في منتصف القرن 18 حيث قال ( ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما وأهرقت فيه الدماء . فكم حزنت بلاد وقتلت أمجاد وهدمت دور وأحرقت قصور وسبيت أحرار وقهرت أخيار ) .
وانحصرت السلطة في العسكر ( أى لايوجد أى ذكر للوالي العثماني ) والعسكر منقسمون إلى مماليك وإنكشارية وتصارعا للحصول على إلتزام الأراضي الزراعية والجمارك خاصة جمرك السويس الذي تأتي إليه البضائع الآسيوية وهو مصدر أساسى للثروة .
في عام 1740 وصل الوالي الجديد علي باشا فماذا قال في بيان توليه الولاية ؟
قال : ( إنني لم آت إلى مصر لبث الفرقة بين الأمراء –・يقصد المماليك  – فمهمتي رعاية حقوق الجميع (!!) لقد تنازل السلطان لي عن أرض البلد وأنا بدوري أهبها لكم ( أي الأمراء ) وكل ما أرجوه هو ألا تخلقوا مصاعب في تحصيل الضرائب ) . وهذه الكلمة تلخص النظام السياسي العثماني في مصر . فمصر غير مهمة بالنسبة للآستانة إلا أن تدفع الخراج من حصيلة الضرائب وهذا كل مايعني الوالي وهذا ماعلموه هناك وهذا ماكان يحدث بالفعل وتفويض كل السلطات لأمراء المماليك الفاسدين مع التأكيد أنه سيكون على الحياد في صراعاتهم . ومايعنيه فقط هو عدم خلق صعوبات في تحصيل الضرائب : فلا توجد لديه أي سياسة في الاقتصاد أو التشريع أو التعليم أو الصحة أو حتى القضاء .
في هذه الأجواء نشأت تجربة علي بك الكبير الذي انشق عن الدولة العثمانية وقد أشرنا إليه من قبل ولكن نتوسع قليلاً في إطار كشف طبيعة النظام الساسي في الزمن العثماني في مصر . علي بك الكبير مملوكي شركسي تولى موقع شيخ البلد وقد لاحظ بنفسه أن كل السلطات تعود إليه فلماذا لايصبح هو الوالي ؟! بدأ بالتقتير في دفع مرتبات الانكشارية وعمل على تراجع قوة الأوجاقات ( الوحدات العسكرية العثمانية ) وعمد إلى زيادة أعداد المماليك بالشراء من الخارج ولم يسمح لغيره بالشراء بأكثر من 100 مملوك وسيطر تماماً على الالتزام ( أي الأراضي الزراعية ) وأصبحت في يده القنوات المالية والعسكرية وأعلن صراحة ان مصر قد عادت إلى حكامها الحقيقيين من السلالة المملوكية . وانتزع سلطة الوالي وتوقف عام 1769 عن إرسال الخزينة إلى الآستانة وأحجم السلطان العثماني عن تعيين والي . وأمر علي بك الكبير بسك عملة تحمل اسمه وخاتم السلطان العثماني ، فاضطر الأخير للاعتراف به مؤقتا وأقره على مصر وطلب منه إقرار الأوضاع في الحجاز !
وحاول علي بك الكبير أن يمتد للشام وهذا خط أحمر للعثمانيين . أى ان يلعب المملوكي خارج ساحته الأصلية ويمتد خارجها فتآمروا مع مساعده أبي الدهب ليقتله وقد كان . من بعدها ارتدت البلاد لحكم الثنائي المملوكي ابراهيم بك ومراد بك في الصراع البائس بينهما على ثروات البلاد ودم الشعب .
مماليك العراق :
كانت نفس السياسة العثمانية متبعة في العراق فعندما قام أحد الانكشاريين وهو بكر الصوباشي  بحركة انشقاقية ( 1621-1623) وقتل والي بغداد ، أرسلت الآستانة قوة مسلحة لإخضاعه . فاستعان بالصفويين ( الشاه عباس ) الذي أرسل له قوات لمساعدته في بغداد عام 1623 وهي أحداث تؤكد اعتماد العثمانيين على العسكر ( الانكشارية ) وليس على عناصر عقائدية ودعاة وقادة اسلاميين . وهكذا ما أسهل على الانكشاري العسكري أن ينشق بل ويلجأ إلى الشيعة . وهذا مايؤكد ان التربية العقائدية الانكشارية ( وهم من أصول عرقية مختلفة ) لم تكن كافية أو أنها اضمحلت عبر السنين . كان العثمانيون يهتمون بالعراق عندما يهاجمها الصفويين !! وقد انشغلوا بالصفويين كثيراً ربما لأنهم أعتبروهم حاجزاً يمنع امتداد الدولة العثمانية شرقاً في وسط آسيا . لذلك جاء السلطان مراد الرابع لبغداد 1624 واستعادها ولكن الصفويين عادوا من جديد بعد رحيله . واضطر مراد الرابع للعودة مرة اخرى لبغداد 1638 وعقد معاهدة في 17 مايو 1639 في مقر شيرين مع الصفويين تم فيها ترسيم الحدود بين ايران والعراق على النحو المستمر حتى الآن .
كيف قرأ العثمانيون تجربة انشقاق بكر الصوباشي ومابعدها ؟! بدلاً من التفكير في تأسيس ولاية إسلامية على أسس عقائدية في العراق ( وهم لايبدو أنهم يملكون هذه القدرة من حيث غياب إعداد القادة والدعاة والفقهاء الاسلاميين ) مع تغليب البعد العسكري . بدلا من ذلك اتخذوا أسوأ قرار وهو الاعتماد على المماليك لحكم العراق باعتبار انهم غير مذهبيين ( أي لاسنة ولاشيعة !!) ولا عراقيين . المهم هم يفكرون في القبضة العسكرية . وهذا النهج هو الذي أدى إلى إنتشار الشيعة في العراق إلى حد 65% حتى بعد انسحاب الصفويين منها . ويبدو أن المماليك نجحوا فعلاً في صد هجوم نادر شاه 1731- 1733 عندما حاول احتلال الموصل والبصرة حيث تصدى له سليمان الأكبر أشهر مملوك عراقي ولكنه ظل نجاحاً عسكرياً . ولكنه فشل في المقابل في صد الهجوم الوهابي على البصرة وكان هذا هو سبب سقوط سليمان الأكبر .
ثم اعتمد العثمانيون بعد ذلك على عصبيات عائلية : آل عبد الجليل في الموصل حيث كان التجار هم العمود الفقري لولاية الموصل الشمالية وكانت شبه مستقلة بين 1726-1834 . والبصرة منذ 1615 سيطر عليها آل أفراسياب وامتدت حتى الاحساء التى أصبحت ولاية واحدة مع البصرةعثمانياً ولكنها سقطت بعد سيطرة الوهابيين.
الشام:
أما حلب ودمشق وصيدا وطرابلس أي كل الشام تقريباً كان العثمانيون يعتمدون على أسرة آل العظم ، وأسرة ضاهر العمر الزيداني في فلسطين وهي أسر تسيطر على الاقتصاد (خاصة التجارة ) ولاتمثل أي قيادة اسلامية عقائدية وقد شملت سيطرة ضاهر العمر نابلس وغزة ويافا وعجلون والرملة وتم قتله بعد تحالفه مع علي بك الكبير . لم يكن اذاً هناك اقتناع أو التزام أو ولاء للدولة العثمانية إنما هي مسألة منافع ( شيلني واشيلك ).
وظهر أحمد الجزار كزعامة جديدة في الشام وهو مملوكي وكان يخدم عند علي بك الكبير ولكنه حول ولاءه للباب العالي عام 1768 وشارك في الإطاحة بضاهر ثم أخذ عكا وصيدا واستمر حتى مات 1804  ( وللمرة الثانية نحييه على وقفته من نابليون . ولا شك ان طبيعة قلعة عكا المحصنة طبيعياً ساعدته ولكن هذا لايقلل من وقفته ) .
ومن الممكن أن نكون أمام رجال (مجدع) كما نقول في مصر ولكن المجدعة ليست هي العقائدية التي تحمي دولة الاسلام على المدى الطويل . وتقوم بنماء اسلامي في البناء الداخلي. وقبل وفاة الجزار كان قد تحالف مع الشهابيين بجبل لبنان ( البعض يدين ابراهيم باشا لأنه فعل ذلك !) وأخذ دمشق من العظم واحتكر القمح والقطن وطرد وكلاء فرنسا بعد هجوم نابليون على عكا .
ومع ذلك فإن العثمانيين لايحبون الشخصيات القوية لذلك حاولوا عام 1782 نقله والياً للبوسنة ولكنه رفض . كذلك رفض الجزار القيام بحملة على مصر لإخماد تمرد البكوات عام 1784 . ولكنه ظل يرسل المطلوب مالياً للآستانة !! وهذا مايريحهم بالحد الأدنى ويهدئ من مواطن القلق لديهم ! وهذا ما ظل محمد علي يفعله هو وابناؤه وأحفاده .
تقسيم الولايات العثمانية :
لم يكن هناك أي منطق رشيد وراء تقسيم الولايات العربية . فهي مجرد توازنات وضرورات عملية من وجهة نظر الآستانة ، دون مراعاة للاتساع الجغرافي أو التجانس . فتتعجب عندما تعلم أن مصر واليمن كانا ولاية واحدة . والعراق 4 ولايات ( بغداد –・البصرة –・الموصل –・شهرزور ) الخليج تابع لولاية الاحساء ( هذا منطقي وسليم ) . الشام ولاية واحدة من دمشق وحلب وطرابلس ( لابأس). وجود حكم خاص في الحجاز والقدس بسبب الأماكن المقدسة (معقول ) ولكن اللخبطة زادت مع بداية القرن 17 اذ أصبح للدولة العثمانية 32 ولاية منها 13 ولاية عربية ( الولايات العربية هكذا تعتبر كثيرة ) وتم تقسيم الولايات إلى سناجق . فأصبحت حماه وحمص سنجق واحد ( مديرية ) بينما دمشق 2 سنجق ثم تم تحويل حماه وحلب لسنجق واحد –・ثم أصبحت صيدا مع دمشق ولاية واحدة (!!) ثم صيدا وحيفا ومرجعيون ولاية ولكن البصرة بدون سناجق .
وهذا تفتيت للشام وللعراق بدون داع إلا إذا كان الهدف مجرد السيطرة (التفتيت بغرض إحكام السيطرة ) ولكن هذه النطاقات الجغرافية لاتصلح لعمل تنمية اقتصادية رشيدة مثلاً .
ثم لاحظ ان قوات الولاة المجرمة التي تحدثنا عنها في مصر كانت أداة اساسية للسيطرة في الشام !! ( أبوهيكل –・مرجع سابق )
بداية العثمانيين في العراق :
ولكن لابد أن نذكر أن بداية العثمانيين في العراق كانت مبشرة حيث دخل سليم الأول تبريز الإيراينة وأخرج الصفويين من وسط وجنوب شرق الأناضول . وضم ولايتي ديار بكر وكردستان للدولة العثمانية ولكنه انسحب من تبريز عاصمة الصفويين وبذلك سيطر العثمانيون على شمال العراق وذلك عام 1514. وتلاه سليمان القانوني ويشار إليه غالباً كأفضل سلطان عثماني على الاطلاق ( 1520 –€・1566) حيث أقام علاقة ودية مع الصفويين وأبرم معهم هدنة ولكن موت اسماعيل شاه أربك هذا التقدم حيث حدث صراع داخلي صفوي وكان البعض يصر على استمرار حكم بغداد . وانقلب الأكراد كعادتهم وبايعوا الصفويين وظل العراق الأوسط والجنوبي تحت السيطرة الصفوية ( لاحظ ان هذا هو انتشار الشيعة الآن ) ولكن سليمان القانوني دخل بغداد عام 1533 وأتبع سياسة تهدئة وجذب للشيعة فبينما أعاد بناء ضريح أبي حنيفة في بغداد ، حدد أوقاف للمزارات الشيعية وأقام مشروعات خدمية في كربلاء وقام بتوسيع الترعة الحسينية وبناء السدود لحماية البلاد من الفيضانات ( وهي أمور لم يهتم العثمانيون بها في مصر ) وهكذا خضع العراق بالكامل للسيادة العثمانية . ولكن تغليب السطوة واستخدام المماليك وعائلات التجار عادت بالوبال علىى العثمانيين وعلى العراق وعلى السنه.


لقد اتسع القوس ولابد من اغلاقه ! لقد فتحنا القوس في المجال الزراعي والاقتصادي لنقارن بين عهد محمد علي والعهد العثماني المملوكي ثم انتقلنا للجانب السياسي للحكم في مصر والشام والعراق ايضاً للمقارنة ، ردا على بعض الكتابات الاسلامية ضد محمد علي . وأنا لست في معركة حياة أو موت دفاعاً عن محمد علي فهو ليس النموذج المرتجى ولا المطلوب إعادته . ولكنني بالتأكيد في حالة حياة أو موت تجاه القضايا المشار إليها : الصناعة –・التنمية الاقتصادية المستقلة –・الاستقلال السياسي عن الغرب –・بناء جيش قوي وطني واسلامي –・تصنيع حربي –・دولة عربية اسلامية عظمى اتحادية أو كونفدرالية . وأرى أننا أمام خلاف منهجي لاخلاف في المعلومات لأن المعلومات واضحة لمن كان له فؤاد أو ألقى السمع وهو شهيد .
وأقولها بوضوح –・حسبة لله تعالى –・ان الاسلاميين في مصر وخارجها  – إلا من رحم ربي وهم بالتحديد في ماليزيا وتركيا وايران –・لا يركزون بالقدر الكافي كما ورد في القرآن ،على الحديد ، على الصناعة ، على التنمية ، على الاقتصاد ، على امتلاك القوة العسكرية ( وهنا يمكن أن نضم باكستان ونحذف تركيا وماليزيا ! ) . نحن لانريد اسلام الضعفاء ، نريد اسلام القوة والعزة والعدالة والأنفة والكبرياء بالحق ، نحن لانتسول من أحد .
ولاناخذ قرضاً من أعداء أو معونة أو سلاح ثم نزعم اننا نسعى لإرضاء الله ورسوله وإقامة دولة الاسلام . ولذلك ببساطة لم ينصرنا الله .. ولكن نصر ايران وتركيا وباكستان وماليزيا بقدر مانصروه . وكل منهم أخذ ما يستحقه بلا زيادة أو نقصان . رحم الله الشيخ محمد الغزالي الذي قال عن أصدقاء حكام المسلمين مايلي ( كفرة أهل الكتاب هم في عصرنا مصدر البلاء الذي يعاني منه ديننا وسر النكبات التي حاقت بأمتنا ،ان كفرة أهل الكتاب كانوا ولا يزالون من أشد الناس حقداً على الاسلام في مواريثه وقيمه كلها) – فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء –・دار الشروق –・2008 –€・محمد الغزالي .

>
– 13 –

>

ولاة مصر : 19 جيدون -26 سيئون- 90 طراطير

142 واليا حكموا مصر تم اعدام وقتل 12 منهم
العثمانيون أقاموا نظام الشورى الانكشارية العسكرية

رغم أنه يبدو أنني اتمادى في ” الفلاش باك ” بالعودة إلى النظام العثماني في مصر والعراق والشام في القرن 18 لعقد مقارنة مع عهد محمد علي . إلا أن الموضوع أكبر وأهم وأخطر من هذه المقارنة . فنحن نريد أن نعطي صورة دقيقة عن الحكم العثماني الاسلامي لأن هذا يمس جوهر قضيتنا الآن في مطلع القرن الواحد والعشرين . ماهي الدولة الاسلامية التي نستهدفها ؟ ماشكل الحكم فيها ؟ ماهي الضوابط الشرعية لها بحيث لا تتحول إلى حق إلهي في يد البشر؟ والحقيقة فهذا هو جوهر هذه الدراسة . فهي ليست دراسة تاريخية أو جغرافية أو استراتيجية مجردة وإن انطوت على كل هذه الأبعاد . ولكننا نبرهن طول الوقت على ضرورة قيام دولة عربية إسلامية على أرض المشرق العربى –・الوطن العربى الآسيوى + مصر – قابلة للتوسع شرقاً وغرباً عربياً وإسلامياً باعتبار أن هذا الشرق هو قلب العروبة والاسلام . وإذا لم نقم بذلك فسنظل محط الأطماع العالمية وسنظل عبيداً لأي قوى عظمى تأتى لتحتل المشرق العربى باعتباره مركز العالم الذي لاغنى عنه. وهذه الدولة العظمى الإقليمية لن تكون إلا عربية إسلامية بحكم تكوين شعوب المنطقة وثقافتها ودينها . لذلك من المهم أن يكون تصورنا عن آخر دولة إسلامية ( العثمانية) صحيحاً ومنصفاً ودقيقاً للإستفادة من هذه التجربة حتى نقيم دولة راشدة جديدة . والذين يدافعون عن الدولة العثمانية بحماس التدين لن يساعدونا في تجنب مواطن الزلل . فبعد مرحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي (مرحلة التشريع) وبعد مرحلة الخلفاء الراشدين لاتوجد تجربة إسلامية كاملة للحكم ، يصح أن نعتبرها نبراساً لنا بدون رؤية نقدية: الدولة الأموية –・العباسية –・الايوبية –・دولة المماليك ومن بين هؤلاء دولة السلاجقة وغيرها من الدول الاسلامية عبر 14 قرنا. يجب دراسة تجاربها ووضعها تحت المجهر الإسلامي لنبين حقيقة مالها وماعليها . ورغم أننا تناولنا في دراسة سابقة نشأة الدولة العثمانية وبدايات دخولها ( الشرق الأوسط ) أما هذه المرة فلا نستهدف مجرد إضافة لمزيد من التفاصيل بل محاولة تبين ( على طريقة التوقف والتبين ) خصائص النموذج العثماني بعد وضعه على المعيار الاسلامي النظري النقي ( القرآن والسنة –・مبادئ حكم الخلافة الراشدة وحتى الخلافة الراشدة ، ورغم أنها مثل أعلى فلابد أن نميز بينها وبين السيرة النبوية باعتبار الأخيرة –・كما ذكرنا –・تشريعاً ومبادئ نظرية لاخلاف عليها .
كما أننا سنركز في هذا التقييم على تجربة الحكم الاسلامي العثماني في الشرق العربى خاصة مصر التي بحثت فيها أكثر من غيرها وهي بلا شك أهم دول الشرق العربى بل هي التي امتدت للشام وجزيرة العرب واليمن ، بحيث لم يبق بعيداً عن مصر محمد علي سوي العراق وبعض إمارات الخليج ضمن دول الشرق العربى . وسننظر إلى القرون 16 و17 و18 معاً بالإضافة لمطلع القرن 19 . وقد كان تركيزي مؤخراً على القرن 18 ليس في صالح الدولة العثمانية . لأنها كانت تتدهور قرناً بعد قرن بينما لا أستهدف الهجوم عليها كما ذكرت وإنما النقد الموضوعي الصريح . وهذا لمصلحة الأمة ولمصلحة القضيةالاسلامية ونموذجها السياسي المرتجى . أي أننا لن نعود إلى التقييم الشامل للتجربة العثمانية التي استمرت أكثر من 6 قرون وعلى رأس ذلك ماكان يجري مركزياً في استانبول ثم الأناضول ثم الروميللي (تركيا الأوروبية ) ثم مناطق في شرق أوروبا التي كانت في حضن الدولة العثمانية والأكثر قرباً لاهتماماتها لأن هذا سيكون فعلاً خروجا عن مقتضيات وحدود دراستنا . ولكن نذكر في هذا المقام فكرة أساسية وهي أن التجربة العثمانية غلب عليها البعد الجهادي العسكري . ثم البعد العسكري عموماً بشكل غير متوازن مع البعد الدعوي والفقهي والعلمي الشرعي بدليل أن هذه التجربة العظيمة والممتدة عبر الزمن لم تخرج لنا جامعة بوزن الأزهر أو الزيتونة أو مساجد العراق  أو المسجد الأموي . ولانقول ان هذا البعد الدعوي –・الفقهي –・العلمي لم يكن موجوداً ولكن لم يكن بالقدر الكافي والمتوازن مع الاعداد العسكري . ورغم التطور الإداري في المركز التركي والذي لايمكن نكرانه إلا أنه لم ينعكس في أطراف الدولة خاصة الشرق العربى . ومرة أخرى فإن الدولة العثمانية لم تقدر الشرق العربى حق قدره واكتفت بمجرد ضمه والحفاظ على سيادتها الشكلية عليه دون أن تدرك ثقله في الصراع العالمي . رغم أنها لا تصبح دولة خلافة إسلامية تستحق هذا الاسم إلا بضم هذا المشرق الذى اصبح يسمى الشرق الأوسط . ولم تهزم ويقضى عليها نهائياً إلا في هذا المشرق ( احتلال مصر –・ثم مايسمى الثورة العربية خلال الحرب العالمية الأولى التي تحالفت مع بريطانيا ضد تركيا. وماتوافق مع ذلك من سايكس – بيكو ووعد بلفور والمشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين ) ولاشك أن من أهم المنابع الدعوية والفكرية للدولة العثمانية تتمثل في بعض الطرق الصوفية . وإن كنا لا ننكرالطابع الجهادي لهذه الطرق ، كما هو حال بعضها في إفريقيا ، وماتمثله من منابع روحية تغذي العقيدة بالدماء الحارة إلا أنها لاتخلو من مغالاة وخروج من بعضها عن العقيدة القويمة. كما أنها لاتمثل طبعاً مصدرا عميقا للفقه الاسلامي أو العلم الشرعي عموماً. كذلك فإن الإهتمام بالشرق العربى مسألة إستراتيجية مركبة على رأسها الإهتمام الفائق باللغة العربية ، الاهتمام بتطوير المراكز العلمية في العواصم العربية والشرقية ومصر وجزيرة العرب باعتبارها هي المؤهلة بحكم امتلاك اللغة العربية للقيام بالدور الفقهي الأساسي . كذلك الإهتمام بالقوة العسكرية المسلحة في مصر والشام والعراق وسائر الجزيرة العربية وهذا مالم يحدث فقد كانت القوة المسلحة التابعة للمركز العثماني في مصر تافهة في مواجهة أي خطر خارجي ، وهذا ماظهر خلال الحملة الفرنسية بل ظل الاعتماد على ايفاد قوات من المركز عند الأزمات مثل مواجهة الدولة الصفوية في العراق . أما اليمن والهند فتم الاعتماد على مصر . ولكن القوة المسلحة العثمانية في مصر ظلت تضمحل وسريعاً مع الأيام وبمجرد انتهاء القرن 16 كان لابد إذاً من تجنيد شعوب المنطقة في الجيش العثماني المركزي وإقامة الصناعة الحربية وعدم الاكتفاء باستانبول . والاهتمام بالاقتصاد عموماً وهو أمر كان غفلاً لدى معظم الولاة العثمانيين ولم تكن ثمة خطة مركزية في هذا الصدد . فالاقتصاد عندهم لم يزد عن متابعة التجارة . وجمع الخراج من الأرض الزراعية . دون أي إهتمام كاف بتطوير العمل الزراعي والصناعي والحرفي . حتى عندما جاءت الثورة الصناعية لم يدرك أهميتها العثمانيون كما أدرك محمد علي كذلك تحولت القيادة العثمانية للمنطقة إلى قيادة بيروقراطية لاتهتم بكل مناحي الحياة الثقافية والسياسية والأدبية وعدم الاهتمام بمعيار الكفاءة والاعتماد على معيار الثقة أساساً ،مع تغييب الشورى إلى حد إعتبارها نوعاً من إساءة الأدب مع الباب العالي ، بل تتم الموافقة على قراراتها تحت الضغط وبصورة مؤقتة لحين الانقضاض عليها . كذلك ضعف الاهتمام بالعدل الاجتماعي ، وعدم إعطاء الفقراء والمساكين الأهمية الواجبة التي طالما حث عليها القرآن الكريم ، كذلك غياب الشورى بالنسبة للشعوب الاسلامية على المستوى المركزي وهو الأمر الذي تم الالتفات له بعد فوات الآوان في الهزيع الأخير من عمر الدولة . والآن لنبدأ عملية جرد قمنا بها لولاية مصر مع ملاحظة أن الأوضاع في الشام والعراق واليمن كانت أسوأ . فقد كان السلاطين فعلاً يدركون أهمية مصر ولكن ذلك ظل عادة في الاطار البيروقراطي لذا سنرى ما الذي جرى في مصر على مدار 3 قرون . الآن نقدم وثيقة تاريخية غير مسبوقة . قمنا بصناعتها بأنفسنا من خلال الإعتماد على مختلف المصادر التاريخية الموثوقة ( مصرية –・تركية –・عالمية ) وستقرأون إحصاءات لم يقم بها أحد من قبل في حدود علمنا . وهي متعلقة بمصر وحدها وهي عينة ممثلة للمنطقة بصورة جيدة لأن استانبول كانت تضع مصر في مقدمة اهتماماتها .
عدد الولاة الذين حكموا مصر خلال 3 قرون : 142 والياً
في القرن 16              25 واليا ( 83 سنة فقط من القرن بدءاً من 1517)
في القرن 17          54 واليا                                           
  في القرن 18        56 واليا                                                                               
في القرن 19          7 ولاة  ( في ست سنوات فقط بسبب استيلاء محمد علي وأسرته على الحكم منذ 1805)
كثرة الولاه في حد ذاته معيار خطير على سوء الإدارة لأن الفترة القصيرة جداً للوالي لاتتيح له أن يفهم الأوضاع ثم يبدأ في العمل والتطوير فهو لم يكد يبدأ يفهم حتى يطاح به . وسنجد تدهور حتى في هذا المعدل . ففي القرن 16 كان المعدل 3 سنوات للوالي الواحد ثم تحول إلى أقل من سنتين للوالي الواحد في القرنين 17 و18 أما في مطلع القرن 19 فقد وصل لأقل من عام واحد للوالي الواحد ، وهذه مهزلة في حد ذاتها لاتقبل عادة لمدرب فريق لكرة القدم أو رئاسة شركة . الوالي بهذا الأسلوب لا يمكن أن يكون قائداً حقيقياً بل يتحول إلى مجرد رمز للسيادة المركزية ومدة الولاة أقل من ذلك بكثير ففي القرن 16 استمر اثنان من الولاة 20 سنة ( 11 سنة و9 سنين ) وهذا يوضح أن الباقيين استمروا أقل من 3 سنوات . وفي القرن 17 استمر والي واحد 25 سنة في موقعه ( متوسط الكفاءة !!) وهذا يعني بقاء باقي الولاه أقل من سنتين بكثير!!
والآن ننتقل إلى تصنيف آخر للولاة من حيث الكفاءة إلى ثلاثة انواع :
1- ولاة جيدون
2-  سيئون
3- بلا سلطات إطلاقاً لهيمنة المماليك عليهم .
  وحتى لانزيد في الاحصاءات فلابد أن يكون واضحاً أن كل قرن كان أسوأ من الذي كان قبله بمعنى أن عدد الولاة الجيدين في تناقص مستمر لحساب عدد الولاة السيئين والمعدومي السلطة والأخيرون سيزيدون جداً في المرحلة الأخيرة . ومن الطريف أن نؤكد أن الوالي الجيد قد يكون حسن الأخلاق ولكن ضعيف إدارياً وإلا لتناقص عددهم بشكل خطير . أما الوالي السئ فهو ليس مجرد سئ بل مجرم سفاك للدماء ونهاب للمال . حتى لقد وصل الأمر عند المؤرخين إلى مدح بعض الولاة فيقولون ( لم يكن سفاكاً للدماء !! وكأن سفك الدماء هو الأصل ) . ولقد وضعنا في هذه الخانة ( السوء ) من حاول أن يضبط انفلات العسكر فغلب على أمره أو قتل لأن هذا يعني أنه فاشل أو أن من عينه لم يعطه القوة التي تساعده على مواجهة انحراف العسكر العثماني والمماليك . أما الخانة الثالثة ( بلا سلطات ) فتعني الولاة الطراطير الذين كانوا مجرد دمية في يد المماليك أو سجناء في القلعة . وقد ازداد عددهم مع مرور الأيام وكانوا معظم الولاة في القرنين 17 و18 !!
ولاة جيدون        19
ولاة سيئون          26
ولاة بلا سلطات  90
المجموع =          135
وذكرنا أن عدد الولاة كان 142 وهذا الفارق المحدود بسبب أن بعض الولاة تكرر تعيينهم كما تولى ولاة مؤقتون للمنصب لحين مجئ الوالي الرسمي ( قائم مقام ) وهؤلاء كانوا يستمرون لفترات غير قصيرة .
إحصاء ثالث :
  من بين هؤلاء الولاة انتهي حكم 12 منهم بالقتل أو الإعدام ، 5 منهم ماتوا بالقتل بأمر من السلطان أو المماليك أو الانكشارية أو الجمهور !! 7 منهم ماتوا بالاعدام الرسمي في استانبول بسبب نهبهم للأموال غالباً وليس بسبب سفكهم لدماء الرعية !!
ويدخل في النهب فرض ضرائب إضافية على الرعية بدون إذن رسمي . ومع ذلك يدخل إعدام هؤلاء في خانة الإيجابية ولكن مع الأسف فإن الإعدامات لم توقف مسلسل جرائم الولاة لأن آليات التعيين وقصر المدة تساعد على الانحراف .
هذا هو العمود الفقري للمعلومات التي تتحدث بنفسها عن سوء الأحوال ولكن لابد ان يكسو هذا العمود الفقري ببعض اللحم والشحم والدم لتصبح الأمور أكثر وضوحاً وأكثر إنصافاً .
التنظيم الإداري لسليم الأول :
قبل أن يغادر مصر بعد فتحها وضع السلطان سليم الأول نظاماً إدارياً لمصر يكفل دوام تبعيتها للعثمانيين وضمان عدم خروج ولاتها عن الطاعة وذلك بتقسيم السلطة فيها إلى ثلاث قوى يقف كل منها للآخر بالمرصاد وهذه القوى الثلاثة هي :
*قوة الباشا الحاكم وواجبه إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة والشعب ومراقبة تنفيذها .
*قوة الجيش ( الوجاقات ) : وقد عين للإقامة في القاهرة والمراكز الرئيسية بالبلاد ستة آلاف فارس وستة آلاف جندي من المشاه مقسمين إلى ستة وجاقات أي ستة فرق وهي:

  • وجاق المتصرفة – وهو مؤلف من نخبة الحرس السلطاني .
  • وجاق الجاويشية –・وهو مؤلف من صف ضباط الجيش السلطان سليم وعهد إليه جباية الخراج . ( لاحظ أننا نستعمل هذا التعبير حتى الآن الجاويش أو الشاويش لصف الضباط في الجيش و الشرطة )
  • وجاق الهجانة –・لحراسة الحدود .
  • وجاق التفقجية أي حملة البنادق .
  • وجاق الانكشارية وهو أهم الوجاقات فالانكشارية كانوا هم القوة المحاربة الأولى في الجيش العثماني ومهمتهم الرئيسية المحافظة على البلاد .
  • وجاق الغرب
    وكان على رأس كل وجاق ضابط يلقب بالأغا يساعده الكخيا ( أي النائب ) والباش اختيار الدفتردار والخازندار والروزمانجي ومن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات يتألف مجلس شورى الباشا أو الديوان الذي لايقضي الباشا أمراً إلا بمصادقتهم –・ولهم أن يوقفوه عن اتخاذ أي إجراء وأن يستأنفوا قراراته إلى ديوان السلطان باستانبول ولهم أيضاً أن يطلبوا عزله إذا اشتبهوا في تصرفاته ومقاصده .
    (3) قوة المماليك :
    رأى السلطان سليم الأول في وجود المماليك إلى جوار القوتين السابقتين مايحفظ التوازن بين الباشا والوجاقات. وكان قد عرض على طومان باي حاكم مصر المملوكي بعد مصرع قنصوه الغوري أن يبقى على رأس مصر في مقابل إعترافه بتبعيته وسيادة العثمانيين في مصر ولكنه رفض وهذا يحسب إيجابياً للسلطان سليم حيث كان حكم المماليك في تلك الآونة امتداداً لعهودهم الزاهرة وإن طرأ عليهم الضعف بالمقارنة مع العثمانيين ولكنهم كانوا يحاربون البرتغال دفاعاً عن الأراضي المقدسة في الحجاز وفي البحر الأحمر والمحيط الهندي . وأيضاً تأكيداً لمعنى اندماج نظامين اسلاميين وليس مسألة استعمار من تركيا للشام أو مصر . ولكن طومان باي قاتل حتى قتل.
    أصدر سليم الأول أمره بإيقاف عملية القتل في المماليك بعد أن بلغ عدد قتلاهم عشرة آلاف ونودي عليهم بالأمان ودعوا للظهور للإضطلاع بدورهم في الحياة الجديدة حيث عهد إليهم بإدارة مصر لحساب الحكم العثماني فقسمت مصر إلى 24 وحدة إدارية ( سنجقية والأصغر كاشفية ) على أن يكون السناجق والكشاف من المماليك . وجعل مهمتهم جمع أموال الخراج والمحافظة على الأمن ومنح السنجق رتبة بك .
    على كل مافي هذا التوجه من إستنارة وإعتماد على عناصر قيادية إسلامية من داخل البلد ، فالمماليك أصبحوا مصريين أصلاء وكانوا قادة البلاد لأكثر من قرنين من الزمان إلا أن هذا الترتيب الإداري وإن كان قوياً في المدى القصير وربما على مدار ماتبقى من القرن السادس عشر . إلا أنه حمل بذرة فنائه منذ البداية .نلاحظ منذ البداية الأولى مايلي :
    *أن مهمة الوالي مجرد ابلاغ أوامر السلطات ومراقبة تنفيذها فهو ليس لديه أي نوع من الصلاحيات المحلية أو الصلاحيات العامة المحدودة وهذا يؤكد أن شخصية الوالي لابد أن تكون بعيدة عن المبادرة والمعروف أن النظم الإتحادية حتى الفيدرالية لابد أن تعطي مساحة من المبادرة الخاصة والصلاحيات في حدود الإقليم أو الولاية . فهل كان يمكن للأندلس أن تدار من دمشق بهذه المركزية أم لابد أن تأخذ اللامركزية مساحتها المنطقية ( نقول هذا في عهد الدولة الأموية على سبيل المثال ) .
    *ومايترتب على السلطة التنفيذية يسري على السلطة التشريعية فلابد لأي ولاية أن يكون لها مساحة للتشريع المحلي المرتبط بالظروف الخاصة وبالذات حين نتحدث عن بلاد أصيلة ومركبة مثل مصر والشام أو العراق ، وإن كان ذلك في إطار الشريعة الاسلامية التي يتسع حكمها وتتسع معاييرها لكل أشكال التنوع البشري والمتغيرات .
    *نلاحظ العسكرة في النظام السياسي حتى تحولت الشورى إلى شورى عسكرية مع قادة الوجاقات ( الوحدات العسكرية ) بل أصبحت هذه الشورى ملزمة للوالي أو على الأقل تملك حق الطعن والفيتو ورفع الأمر للآستانة . وهذه شورى ممتازة إذا كانت بين أولي الأمر من العلماء والقادة وأهل الرأي والفكر مع العسكر ( العقدة والحل ) ولكننا رأينا أنها شورى عسكرية فحسب .
    حقاً إن العسكر خاصة الانكشارية كانوا يربون تربية عقائدية ولكنها ليست هي التربية المؤهلة للقيادة السياسية الشاملة . فبدلاً من الدعاة أو الحزب الاسلامي المركزي أو خريجي معاهد خاصة لإعداد القادة نجد هذه الروح العسكرية والتي كانت مرشحة للتدهور السريع بحكم تكوينها أو طبيعتها . بل سنرى كيف تحولت الإنكشارية إلى نوع من المماليك المتخلفين وكيف ساهموا في هدم الدولة وضرب الشورى على المستوى المركزي إلى حد قتل وتصفية السلاطين وفرض سلاطين آخرين !
    *الاستعانة بالمماليك كحزب إسلامي حاكم في مصر قبل مجئ العثمانيين فكرة صائبة من حيث المبدأ فالفتح الإسلامي خاصة بين بلاد إسلامية ( كما هو مع بلاد غير إسلامية لايقتضي استئصال الطبقات الحاكمة الأصلية وهذا مفهوم جديد في العلاقات الإنسانية الدولية . ورؤية إسلامية صائبة تستهدف الإستيعاب والامتصاص والإندماج الطبيعي . ولكن هذه العملية تحتاج لفرز على أساس الكفاءة والصلاحية . ولايمكن أن تؤخذ هكذا بالجملة لإراحة النفس خاصة في إطار دولة إسلامية كبرى موحدة . وفي المقابل فإن تطوير التعليم والأزهر من شأنه توفير دماء جديدة للبناء الإسلامي . وكل هذا ربما لم يرد على ذهن العثمانيين ولم يكن بمقدورهم تنفيذه لأنه ليس في إطار قدراتهم وتصوراتهم .
    والآن سنقدم عرضاً تحليلياً شديد الإختصار لمرحلة حكم العثمانيين لمصر على مدار 3 قرون مع ربط ذلك بالحالة العامة المركزية للدولة العثمانية وكل ذلك بهدف شرح وتحليل الرؤية السابقة الواردة في هذا الفصل . وبهدف استشراف المعنى الصحيح للدولة الإسلامية المرتجاه بإذن الله تعالى .
    تولية خاير بك ( باشا) كأول والي لمصر :
    هكذا بدأ السلطان سليم وهو في مصر تولية أول والي وقد كان من قيادات المماليك حاكم حلب السابق الذي ساعده على فتح مصر وهو خاير بك الذي أصبح باشا . ومن أخطاء السلطان سليم أنه أبطل النقود القديمة ليضرب نقوداً جديدة تحمل إسمه دون ان يراعي انها كانت أخف من القديمة بمقدار الثلث فخسر الناس في ذلك ثلث أموالهم . والمعروف الذي درسناه في المدارس ان السلطان سليم أخذ معه لإستانبول عدداً كبيراً من أرباب الصنائع، المهندسين والبناءين والنجارين والمرخمين والمبلطين وطائفة من الفعلة وقد ترتب على هذه العملية تعطل خمسين صناعة في مصر على مايقول إبن إياس وهو المؤرخ المصري الذي لم يحمل كثيراً من الود تجاه العثمانيين ! هذه الواقعة صحيحة ( نقل الحرفيين ) ولكن لابد من الإشارة إلى أن خلفه سليمان القانوني وكان أكثر رجاحة في العقل والحكمة، خّيرهم بعد سنوات بين البقاء في اسطنبول أو العودة لمصر ولكن حتى إن عادوا فلا شك إن الحرف في مصر اختل عملها بسبب هذا النقص المفاجئ للخبرة لعدة سنوات . ويواصل ابن إياس غضبه على السلطان سليم الأول ولوعته من أجل مصر فيقول أن السلطان خرج (متجهاً إلى حرب الصفويين ) محملاً بما غنمه والذي احتاج لحمله ألف جمل . حملت كلها بالذهب والفضة والتحف والأسلحة والصيني والنحاس المكفت التي وصلت إلى حد إقتلاع الأعمدة الرخامية والزخارف والنقوش وكل ماله قيمة فنية في قصور أمراء المماليك وأعيان الناس . كما أضاف إن ابن عثمان هتك حريم مصر ، وما خرج منها حتى غنم أموالها وقتل أبطالها ويتم أطفالها وأسر رجالها وبدد أحوالها وأظهر أهوالها فلاحول ولاقوة إلا بالله .
    وبالتأكيد هذه ليست ممارسات إسلامية مع افتراض صحتها (ولابن إياس مصداقية كبيرة كمؤرخ ) وهي صحيحة بشكل عام فبين المسلمين لاتوجد مغانم ولا أسرى .
    والواقعة الأخطر من نقل الحرفيين أن السلطان سليم الأول أصدر أمره بترحيل طوائف من أعيان الناس . مابين قضاة ونواب قضاة وأكابر من المسلمين والمسيحيين واليهود والتجار والوراقين إلى اسطنبول ليقيموا بها إقامة إجبارية فيكونوا أشبه بالرهائن ( وهذا هو الأسلوب العسكري ) من ناحية ولكي يألفوا الحياة العثمانية في عاصمة الدولة  من ناحية أخرى ولابأس من ذلك ولكن ليس بالإجبار .
    السلطان سليمان القانوني ومصر :
    بعد فتح مصر بـ 3 سنوات مات سليم الأول وتولى ابنه سليمان الحكم عام 1530 وعمره 28 عاماً وحكم خمسين سنة بلغت الدولة العثمانية اوج مايمكن أن تصل إليه دولة من العظمة والذي سيلقبه الأوروبيون بسليمان العظيم . أما رعايا دولته فيطلقون عليه سليمان القانوني لكثرة ماوضع من أنظمة قانونية توخى من ورائها تحقيق العدل من خلال سيادة القانون .
    أي حاكم عثماني رشيد لابد أن يضع مصر في قمة أولوياته لأهميتها الاستراتيجية وهذا مافعله السلطان سليمان منذ البداية حيث أطلق سراح الخليفة المتوكل ( آخر خليفة عباسي وكان يعيش في القاهرة في آخر عهد المماليك ، وكان أبوه سليم الأول قد نفاه خارج إسطنبول واعتقله ، فأعاده إلى اسطنبول ورتب له نفقة شهرية ثم أعاده إلى مصر كما سمح –・كما قلنا –・لكل المصريين ( حرفيين أو علماء ) الذين فرض أبوه عليهم الإقامة الجبرية في اسطنبول أن يعودوا إلى مصر وأجرى تعديلاً للنظام الإداري في مصر بحيث يجعل المماليك جزءاً مؤسسياً وغير متفلت من الإدارة فأنشأ وجاقاً سابعاً لهم . وبهذا أصبحت عدة الجنود في مصر عشرين ألفاً . ولكن ظل وجاق الانكشارية هو أهم الوجاقات السبعة وقائده هو المقدم والرئيس على سائر الوجاقات الأخرى .
    كما أعاد تنظيم الديوان الكبير وانشأ إلى جواره ديواناً آخر دائماً . فأما الديوان الكبير الذي كان يتألف من قادة الوجاقات الستة فقد أضيف إليهم قادة الوجاق السابع المملوكي يضاف إليهم أمير الحج والقاضي الأكبر والمفتيون الأربعة والأئمة الأربعة ورؤساء المشايخ والأشراف. (موسوعة تاريخ مصر –・أحمد حسين –・دار الشعب –・القاهرة –・1973)
    وأصبح من حق هذا الديوان إصدار كل القرارات التي لايتعلق صدورها بالباب العالي ، ولايملك الباشا الوالي إلا ان يصدق على هذه القرارات . على أن هذا الديوان لم يكن ينعقد إلا بدعوة من الباشا ويمكن أن يوصف هذا الديوان بأنه مجلس شورى وإن زادت فيه الجرعة المدنية ظلت تغلب عليه الصفة العسكرية .
    أما الديوان الصغير الدائم الذي ينعقد يومياً فكان يتألف من كتخدا الباشا ( نائبه) والدفتردار والروزنامجي ومندوب من كل وجاق . ولكن ماهي وظائف هذه المناصب ؟!

>

                                                     -14 -

شيخ الأزهر يعترض على الوالي المخصي لأنه رقيق

والآستانة تستجيب وترسل شهادة عتقه
اذا لم تعط الوالي هدية قتلك واذا أعطيته أخذها وقتلك!
محمد الثالث قتل 19 من أخوته و10 من جواري أبيه كانت حبالى
الانكشارية فرضت إباحة الخمر
سليمان القانوني أقر حق الشيعة في أداء الحج
عرش من الذهب الخالص من مصر للآستانة

ذكرنا أن السلطان سليمان القانوني أعاد ترتيب النظام الإداري في مصر وفرق بين الديوان الكبير والديوان الصغير الدائم ثم حدد المناصب الكبري علي التالي :
•€「الكخيا (الكتدخدا) أو نائب الباشا.
•€「الدفتر دار وهو القائم بحفظ الدفاتر وضبط السجلات ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه إشارة إلي تسجيله في دفاتره.
•€「الروزنامجي : وظيفة إدارة الخراج وضبط حساباته ( أي ضرائب الأطيان ).
•€「أمير الحج : وهو يحمل الصدقات والهدايا التي ترسل من السلطان سنويا إلي مكة والمدينة وعليه حماية قافلة الحج ذهابا وإيابا ولم يلبث شاغل هذا المنصب أن أصبح الرجل الثاني في الدولة.
•€「أمير الخزانة : ( الخاندرار) : يحمل الأموال والحاصلات المقرر إرسالها سنويا إلى إسطنبول عن طريق البر وهو المكلف بحمايتها وتوصيلها سالمة.
•€「والقباطنة الثلاثة : وهم قومندانات ثغور السويس ودمياط والإسكندرية.
وكان تعيين الكتخدا وقباطين الثغور يصدر رأسا من السلطان ويظلوا تابعين له مباشرة ويستدعون إلي إسطنبول في آخر كل سنة ، إلا إذا صدر مرسوم جديد باستمرارهم في وظائفهم لعام جديد ، أما باقي السناجق والبكوات وأصحاب الوظائف الكبري الأخري فيكون تعيينهم بمعرفة الديوان ويصدق علي هذا التعيين الباشا ويثبتهم الباب العالي.
التنظيم الأقتصادي :
ثبت السلطان سليمان القاعدة التي كان معمولا بها من أن السلطان هو المالك لجميع أراضي مصر من الناحية القانونية . هذا كان هو وضع الأراضي الزراعية منذ المصريين القدماء –・كما ذكرنا – ولم يكن اختراعا من محمد على بما في ذلك التعديلات الأساسية التي أدخلها سليمان القانوني من الناحية الفعلية، فقد تم البدء بإعادة مسح الأراضي المصرية من جديد ثم قسمت الأراضي علي شكل إقطاعات وزعت علي أشخاص أطلق عليهم الملتزمون ( وقد تحدثنا من قبل عن هذا النظام بمناسبة تولي محمد علي الحكم )  وقضي السلطان سليمان أنه بعد اقطاع الأراضي للملتزم لا يجوز نزعها منه ما دام يؤدي ماعليه من إلتزام كما أنها تورث من بعده لورثته فأشبهت بذلك أن تكون ملكا حقيقا، وكان الملتزمون يعهدون بزراعة الأرض للفلاحين فكان كل فلاح يختص بقطعة من الأرض لا تنزع منه يورثها من بعده لورثته ما دام قائما علي دفع المطلوب منه وكان علي الفلاحين والملتزمين خراج يدفعونه إما نقدا أو عينا ومن يتأخر عن دفع المستحق عليه تؤخذ الأرض منه.
  وتحدد خراج مصر علي ما يقول ابن إياس بمليون دينار وثلاثمائة ألف دينار وستمائة ألف  أردب نصفها من القمح ونصفها الآخر من الحبوب الأخري. ولم نر في التاريخ أي إشارة لتنظيم وجمع الزكاة وتوزيعها وكأنها ليست من أركان الإسلام  . وسيظل هذا الحدث مغفلا علي مدار ثلاث قرون بل لم تصلنا أي أنباء عن جمع الزكاة في الدولة المركزية في تركيا وما حولها. لم استقص هذا الأمر لأنه خارج نطاق هذا البحث .
االقضاء:
وأحدث السلطان سليمان ما يمكن أعتباره انقلاب في دنيا القضاء إذ ألغي نظام القضاة الأربعة واستبدله بقاضي واحد يبعث به من أسطنبول وأطلق عليه أسم ( قاضي عسكر )

  • أول تمرد مملوكي في الشام :
    كان الأمير جان بردى الغزالي ثاني اثنين خانا السلطان الغوري آخر حكام دولة المماليك وهيأ للسلطان سبل احتلال مصر والشام ، وقد كافأه السلطان سليم بتوليه علي الشام  كما كافأ صاحبه خاير بك بالولاية علي مصر . فلما مات السلطان سليم طمع الغزالي في السلطة تصورا منه بضعف السلطان سليمان فأعلن نفسه سلطانا علي الشام وراح يراسل خاير بك ليحرضه علي الإنضمام إليه ولكن خاير بك  بعث برسله إلي إسطنبول فأرسل السلطان سليمان جيشا أخمد الحركة وقبض علي الغزالي وقطع  رأسه ( 1521م )
  • السلطان سليمان يستولي علي مدينة بلغراد :
    وفي نفس السنة فتح السلطان سليمان مدينة بلغراد ( عاصمة يوغسلافيا في القرن العشرين وعاصمة دولة الصرب حاليا ) وقد دخل السلطان سليمان نفسه إلي المدينة وحول أحد كنائسها إلي مسجد ليصلي فيه الجمعة وبسقوط بلغراد التي كانت تعتبر الحصن المنيع الذي يحول دون تقدم العثمانيين إلي ما وراء نهر الدانوب انفتح الطريق أمامهم إلي قلب أوروبا وقد تزينت مصر وأحتفلت احتفالا رائعا بهذا النصر وهكذا نشأ الحب من جانب المسلمين في مصر والمنطقة العربية تجاه العثمانيين.
  • ماذا فعل خاير بك بمصر ؟
    في عام 1522 مات خاير بك أول والي عثماني لمصر حيث استمر خمس سنوات  وثلاث أشهر ويقول عنه ابن إياس أنه فوق خيانته للغوري فقد كان جبارا عنيدا سفاكا للدماء قتل في مدة ولايته عددا كبيرا بشتي الأشكال وكان يقتل لأوهى الأسباب حتي لقد قتل بعض من سرق الخيار من بستانه ، وقد أحصي ما كان في خزانته بعد موته فكان عدته 600 ألف دينار ذهب بخلاف ما كان في بيت المال من الأموال وخلف من الخيول والبغال والحمير عددا كبيرا وكميات كبيرة من الغلال والأغنام والأبقار، ويقول ابن إياس وبالرغم مما كان لدي خاير بك من أموال فقد كان شحيحا لا يميل إلي الفقهاء وإلي طلبة العلم ويصادر الأغنياء ولا يعطى  المماليك مرتباتهم بدعوي عدم وجود المال وقد شيعه الناس إلي مقبرته باللعنات ولهجت الألسنة بذمه، حتي لقد قالوا عنه إنه كان ينهض من لحده ليلا ليستغفر الله علي ما أتاه من الشرور في حياته .
  • سانحة اهتمام بمصر سرعان ما تبددت :
    أرسلت الأستانة وزير السلطان وزوج ابنة السلطان سليم مصطفي باشا ليكون حاكما علي مصر فدل ذلك علي اهتمام السلطان سليمان بمصر وتقديره لأهميتها وخطورتها، ففي تصورنا أن الدولة العثمانية كانت لابد أن تعين حاكما غير عادي لولاية مصر طول الوقت . ولكن هذا لم يحدث كما أن بعض الكبراء كانوا ولاة فاشلين للظروف التي أشرنا إليها من نقص الصلاحيات وماحدث بعد ذلك من تنامي سلطان المماليك وانحلال الإنكشارية وقد تضمن مرسوم تولية مصطفي باشا الإشارة إلي ضرورة إصلاح العملة التي ارتفعت شكاوي الناس بسببها.
  • الإستيلاء علي جزيرة رودس :
    كانت جزيرة رودس تضم آخر بقايا فرسان الصلبيين وتؤلف شوكة في جانب الأساطيل العثمانية المصرية في العهد المملوكي فاستولي عليها السلطان سليمان عام 1523م ولم تجرؤ الأساطيل الأوربية أن تتدخل وسمح للصليبيين الذين كانوا يحكمون الجزيرة باسم فرسان القديس يوحنا أن ينسحبوا إلي جزيرة مالطة ولعلهم لا يزالون موجودين فيها بشكل رمزي حتي الآن وحيث يفتحون لهم سفارة في مصر وإن لم يكونوا دولة بالمعني المعروف للكلمة، وقد هاجمنا هذا الوضع مرارا في جريدة الشعب . ومن الطريف ان فرسان القديس يوحنا بمصر قدموا وساما لتكريم  بطرس بطرس غالي وزير الدولة للشئون الخارجية وأمين عام الأمم المتحدة .
    أ أحمد باشا والي مصر يعلن الأستقلال (1524)
    ما ذكرناه فإن سانحة الإهتمام بمصر سرعان ما ذهبت سريعا أدراج الرياح فبعد عامين ودون أن نلحظ أي إنجاز لمصطفي باشا تم استبداله بأحمد باشا وكان يتولي منصب الصدر الأعظم، أى رئيس الوزراء ، وتم عزله فاستبد به الغضب ومايكد يستقر بمصر حتي يري  الإنتقام لنفسه بإعلان استقلاله عن الدولة وكانت هذه المخاطر متوقعة ، فكانت هناك رسالة من الصدر الأعظم الجديد تأمر بقتل أحمد باشا وكانت موجهة لبعض الأمراء ووقعت الرسالة في يد أحمد باشا فقتل هو هؤلاء الأمراء وأعلن التمرد والعصيان ، وطلب من الخليفة المتوكل ( العباسي ) وكان قد عاد إلي مصر أن يبايعه سلطانا علي مصر، فأجابه الخليفة إلي طلبه وخطب له في المساجد وأصدر أمره أن تضرب النقود باسمه ولكن القوي الأخري في نظام الولاية التي أشرنا إليها تصدت له    وقتلته . ولكن لنلحظ هنا أن هذا هو التمرد الثاني خلال سنوات قليلة، واحد في الشام ( من مملوكي ) والثاني في مصر ( من عثماني ) وهذا يؤكد سوء الإختيار للولاة منذ البداية أو اعتبار مصر منفي للمعزول من موقع الصدر الأعظم والصدر الأعظم هو رئيس وزراء الدولة أي الرجل الثاني وهذا هو مستوي ولائه للدولة رغم أنها كانت لا تزال في أوج مجدها .
  • إستيلاء سليمان علي المجر :
    في 1526م استولي السلطان سليمان علي المجر بعد موقعة موهاكز حيث قتل لويس ملك المجر و20 ألف من جنوده ودخل السلطان العاصمة بوادبست.
      – من الصدر الأعظم إلي الوالي المخصي:
    مع ذلك استمرت صحوة اهتمام السلطان سليمان بمصر فأرسل الصدر الأعظم الجديد إبراهيم باشا إلي مصر ليعيد الأمن إلي نصابه ويعيد تنظيم شئون مصر بما يقر العدل في رحابها ويقمع فتن الأعراب التي تكاثرت وقد اضطلع إبراهيم باشا بما جعل الألسنة تلهج بالثناء عليه (دائما الشعوب تلحظ سريعا لفتات الإصلاح ) . ولكن سرعان ما تم استدعاؤه لاسطنبول حيث قام هو ( إبراهيم باشا ) بتعيين سليمان باشا الخادم ( المخصي ) والذي استمر يحكم مصر 9 سنوات ويرجع إليه الفضل (أي في عهده ) فى بدء استعمال القهوة .
  • 1535 بدء نظام الإمتيازات الأجنبية التي شقيت به مصر :
    أبرم فرانسوا الأول ملك فرنسا معاهدة تحالف مع السلطان سليمان القانوني ضد أسرة الهابسبورج التي كانت تحكم النمسا وأسبانيا . وبموجب هذه المعاهدة وضع الأساس الأول لهذا النظام البغيض الذي لم يلبث أن تشقي منه مصر، وهو نظام الإمتيازات الأجنبية حيث خول للفرنسيين المقيمين في الدولة العثمانية بعامة ومصر بخاصة أن يتحاكموا إلي قناصلهم وليس أمام القضاء المحلي وأن يكونوا معفيين من الضرائب التي تقرر علي المواطنيين المحليين. وعندما ضعفت الدولة تحولت هذه الإمتيازات إلي غل في أعناقها، وسبيلا للتدخل في شئونها الخاصة وبدأت الدولة الأوربية تطالب لنفسها واحدة بعد الأخري بنفس الحقوق والإمتيازات بينما لم يستفد السلطان سليمان من محالفته مع فرنسا شيئا!
  • 1538 هزيمة الحلف المقدس :
    تألف حلف مقدس من أسبانيا والبندقية والبابا ضد العثمانيين ولكن قوة العثمانيين وسيادتها في البحر المتوسط بفضل خير الدين بربروسا بطل البحار الأسطوري جعل هذا الحلف ينتهي إلي الإخفاق وخسرت البندقية آخر مراكزها في بلاد المورة (اليونان ) التي أصبحت كلها تحت حكم العثمانيين .
    والي خصي جديد علي مصر :
    أعقب سليمان باشا الخادم، داوود باشا الخصي علي ولاية مصر ومع ذلك فقد أجمعت كتب التاريخ علي أنه كان رجلا مستقيما كريم الأخلاق محبا للعلماء آخذا بناصرهم كلفاً بالمطالعة وبنوع خاص المؤلفات العربية فجمع منها عددا وافرا واستنسخ كل ما ظفر به من الكتب فاجتمعت له مكتبة قيمة وكان الأهالي في مدة حكمه في أمن ورخاء.
    وقد مد داوود باشا الحكم العثماني إلي بلاد النوبة وأوفد إليها حاكما من لدنه وأقام القلاع علي ضفتي النيل ليثبت الحكم العثماني .
    ودام حكمه 11 سنة من الراحة والطمأنينة لشعب مصر وهي حالة لن تتكرر كثيرا مات في مصر ودفن فيها في ضريح الإمام الليث . وكان من أعماله تعمير مقام السيدة.
    وشهد عصره واقعة بالغة الأهمية ذكرتنا بمواقف الشيخ العز بن عبد السلام مع المماليك فيروي أن الشيخ أحمد بن عبد الحق شيخ الجامع الأزهر أعترض علي داوود باشا باعتباره رقيقا وأحكامه باطلة ولما رفع الأمر إلي الباب العالي أرسل ورقة عتقه إلي داوود باشا مع الشكر لشيخ الإسلام الذي قام بواجبه في الحرص علي أحكام الدين.
  • مصائب الوالي محمد باشا الشهير بدقادن زاده :
    وبدون حصر للولاة نتوقف عند المواقف المهمة. تولي عام 1554 م الوالي محمد باشا الشهير بدقادن باشا زاده فأراد زيادة جباية الأموال وبدلا من تحصيل 800 ألف بندقي (وحدة العملة الذهبية ) وهي مقدار مخصصات الباب العالي حصل محمد باشا مليون وربع المليون (1.200000 ) بندقي ليحظي برضا السلطان ولكن السلطان سليمان رفض أن يقبل في الخزينة أكثر من المقرر علي مصر ، وأمر بإستعمال الـ 400 ألف بندقي الزائد في تحسين الحالة في مصر بإنشاء القناطر والجسور والترع والمنشأت العامة.
    وكان طبيعيا أن ترتفع الشكاوي من مثل هذا الوالي وأن ينتشر الغلاء في عهده فضجت منه الجماهير وشكوا إلي الباب العالي فاستجاب وعزله وحوكم وصدر حكم بإعدامه ونفذ فيه الحكم .
      – 1555 السلطان سليمان يقر حق الشيعة في أداء الحج :
    في هذه السنة استعاد السلطان سليمان بغداد والعراق وغرب فارس وعقد معاهدة مع شاه إيران يعترف فيها الأخير بحق الدولة العثمانية في العراق واعترف السلطان بحق الشيعة من الأعاجم بحج بيت الله الحرام ومزاولتهم مذهبهم دون أن يتعرض لهم أحد ( المقصود الأثني عشرية )
  • 1566 الوالي يأخذ الهدية ويقتل مقدمها :
    وتعاقب الولاة بالتفاوت الذي أوردناه في الإحصاء العام فكان منهم علي باشا الخادم وكان من أهل الصلاح منزها عن الرشوة عادلا في أحكامه لم يترك عند وفاته سوي سبعة دنانير .
    يعقبه مصطفي باشا شاهين حيث كانت الرشوة شعاره والظلم دثاره ( أمين باشا سامي – مرجع سابق) .
    أما محمود باشا الذي جاء عام 1566 فكان يحتم علي الأهالي منذ وصل إلي الأسكندرية أن يستقبلوه بالهدايا العظيمة وعندما أعطاه أمير الصعيد سفينة محملة بالعديد من الهدايا بالإضافة إلي 50 ألف دينار قدمها له، فأخذ الباشا الهدية ثم أمر بخنقه كما أمر بخنق القاضي يوسف العبادي لأنه لم يأت لمقابلته ولم يهده شيئا ( هل أرسلت الأستانة رجلا مجنونا ) .
    وطبيعي أن تنتهي ولايته بالقتل عام 1568 واتهم بقتله فلاحان مظلومان وجدا بالقرب من الحادث وكان محمود باشا يسير مصحوبا بجلاده الشوباصي الذي كان يقتل بمجرد الإشارة من سيده ! ( موسوعة تاريخ مصر أحمد حسين مرجع سابق )
    1567 وفاة سليمان القانوني :
    أدركته الوفاة وهو يحارب في المجر وعمره 76 سنه حكم منها 48 سنه بلغت فيها الدولة أوجها فاتسعت رقعة فتوحاتها برا .. وبلغت جيوش الدولة  300 ألف جندي وكان أسطولها سيد البحر المتوسط بـ 300 سفينة مما لم يكن موجودا لدي أي دولة أوربية مما ساعد علي ضم تونس والجزائر . وهكذا امتدت الدولة من نهر الدانوب في وسط أوربا حتي الخليج العربي ومن أوكرانيا شمالا حتي الشلال في السودان بجنوب مصر . ومع ذلك ففي عهده تم وضع بذور ضعف وفناء الدولة وقد أشرنا لمعاهدة الامتيازات الأجنبية، وفي تاريخه نقطة سوداء فقد قتل ابنه الأكبر مصطفي ظلما بتحريض من زوجته الروسية روكسلانا لتزيحة من طريق ابنها سليم. كما قتل ابنه الأخر بيازيد وأولاده الخمسة تحت تأثير دسائس مماثلة من رجال البلاط ويبدو أن كثيرا من المؤرخين لا يدركون أن هذه كانت ممارسة شائعة في الدولة العثمانية ثم تحولت إلي قانون وهي قيام السلطان في لحظة تولي الحكم بتصفية الورثة المحتملين عدا ولي عهد واحد من أبنائه وبالتالي فإن قتل الأخوة وحتي الأبناء كان شائعا، لضمان عدم الصراع علي السلطة ووصل أن هذا القتل أصبح يتم بصورة طبيعية ومعلنة وتتمم مراسم الدفن للمقتولين بصورة رسمية. ولأن هذا مخالف لسنة الله وشرعه فإنه لم يحم السلطة العثمانية من الصراعات كما تصوروا وهذا ما يكشفه التاريخ، والحقيقة أن هذا حدث في تاريخ الدولة الرومانية وكذلك في تاريخ المماليك ( ولكن بين الأقران ) كما مرعلينا ولكنه لم يتحول أبدا إلي ( نامة ) أي قانون رسمي . وكان يحدث عندما يشعر الحاكم بتهديد مباشر وليس قتلا أخذا بالأحوط !!
    ولاية سنان باشا أفضل والي لمصر :
    يعتبر سنان باشا من أفضل ولاة مصر وانتقل بعدها إلي موقع الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) فقد أعاد ترعة الأسكندرية التي كانت قد ردمت فحرمت الأسكندرية معين الحياة. ويبدو أن هذه الترعة ترمومتر الحاكم الجيد الذي يهتم بالتنمية ( وهي من أبرز أعمال محمد علي في المجال المائي والزراعي، ترعة المحمودية التي سبق الحديث عنها ) وبني سنان باشا وعمر جوامع وشوارع وحمامات وأختص بولاق باهتمامه وهي ميناء نهري تجاري أساسي في القاهرة ، فشق فيها شارعا وأنشأ وكالات للتجارة، وشيد جامعا لا يزال قائما في بولاق مشهورا باسمه. ويصنف أمين باشا سامي عهد سنان باشا بقوله إن الرخاء شمل مصر في أيامه حتي وصل سعر أردب القمح عشرة أنصاف وأعاد توزيع المستحقات للعلماء والفقراء والمرضي .
    التطورات العامة للدولة العثمانية :
    في عهد السلطان سليم خان الثاني تم فتح جزيرة قبرص التي كانت البندقية احتلتها لحظة زوال سلطان المماليك مما أكد السيادة العثمانية المطلقة علي البحر المتوسط ( 1571 ) لذلك تم تشكيل تحالف أوروبي لضرب الأسطول العثماني وهذا ما حدث في معركة ليبانتو ( بعد موت خير الدين بارباروسا ) ولكن العثمانيين فاجأوا العالم بإعادة إنشاء الأسطول العثماني خلال سنة واحدة مما عد من قبيل المعجزات الصناعية والعسكرية، مما جعل البندقية تعلن تنازلها النهائي عن جزيرة قبرص وتمكن سنان باشا بعد عودته لاسطنبول من هزيمة أسبانيا وضم تونس للسيادة العثمانية وكانت أسبانيا قد مدت نفوذها لتونس وأصبحت طرابلس وتونس والجزائر تحت السيادة العثمانية .
  • مراد الثالث يمنع الخمر :
    في عام 1574 تولي مراد الثالث العرش ابن سليم الثاني وكان عمره عشرين سنة وكان فاتحة سلطنته أن أصدر أمرا بعدم شرب الخمر الذي شاع استعماله أيام أبيه ولكن الإنكشارية اضطرته فيما بعد علي إباحته بشرط عدم الإفراط فيه وفي عهده تم ضم المغرب للدولة العثمانية بعد هزيمة البرتغال ولكن هذا الضم لم يستمر طويلا .
    عرش من الذهب الخالص من مصر إلي الاستانة :
    الوالي حسن باشا الخادم كان ناهبا للمال وكرهته البلاد حتي إنه غادر مصر خفية بعد عزله مخافة انتقام الشعب منه وخلفه إبراهيم باشا الذي جاء يحقق في أعماله ورفع تقريرا للسلطان يؤكد فيه المظالم التي ارتكبها ضد الأهالي والأموال التي اختلسها من الدولة وحوكم وأعدم، واستقال إبراهيم باشا من منصبه وعاد إلي إسطنبول محملا بالكنوز التي استولي عليها من مقتنيات حسن باشا الخادم، وكان من بينها عرش من الذهب الخالص مرصع بالأحجار الكريمة سرعان ما أصبح هو العرش الذي يجلس عليه سلاطين آل عثمان عند تتويجهم !
  • امتداد الدولة العثمانية إلي القوقاز :
    في 1590 وفي صلح جديد مع الفرس حصل العثمانيون علي جورجيا وأذاربيجان وشروان ووصلت حدودهم إلي القوقاز وبحر قزوين شرقا .
  • ماذا فعل العثمانيون بالوالي العثماني ؟
    رغم أن الإحصاء العام الذي ذكرناه يكفي ولكن بعض التفاصيل تكون مهمة لتجسيد الحالة، ورغم أننا لا نزال في مرحلة مبكرة وحيث الدولة العثمانية بعافيتها، نجد الوالي العثماني علي مصر أويس باشا 1590 قد فكر أن يفرض علي الجنود النظم العسكرية الحديثة فعصوه وهجموا عليه وأهانوه ونهبوا بيته وذبحوا الأمير عثمان قائد وجاق الجاويشية وخربوا بيت قاضي العسكر وقتلوا قاضيين من قضاة مصر ثم عمدوا إلي نهب الحوانيت، فسرت موجة من الذعر والفزع بين الجماهير، وتحول الأمر إلى فتنة عامة، وحاول الدفتردار تهدئة غضب الجند، فأرسل تعليمات إلى القضاة، أن لا تخالفوا للعساكر أمراً، فلم يزيدهم ذلك إلا عتواً وفجوراً، حتى لقد قبضوا على أبناء الباشا الوالي رهينة وقد اختلف المؤرخون حول نهاية أويس باشا،  هل مات حزنا ؟ أم مقتولا ؟ أم استقال ؟
    أعقبه حافظ أحمد باشا الخادم ويوصف بأنه كان حاكماً خيراً ولكن ما أقصي ما يعني هذا ؟ نحن لا نزال بعيدين عن فكرة الإصلاح الجدي أو الجذري وهذا أساسا ليس من صلاحيات الوالي ، بينما السلطة المركزية لا توصي بأي شئ إلا الكلام العمومي وتحصيل الخراج . فيقال عنه – للوالي الجيد – أنه كان على جانب عظيم من حب العلم وطالبيه وكان رفيقا بالأهالي كثير الحسنات علي الحجاج والفقراء وجدد كثيرا من العمارات وأنشأ في بولاق وكالتين وعدة مؤسسات خصص ريعها أو ربع دخلها لعمل الخير .
  • 1585 عام بداية انحلال الامبراطورية العثمانية :
    هذا رأي المؤرخين الأوربيين ويلخص رأيهم وليم لانجر صاحب موسوعة تاريخ العالم ففي عهد مراد الثالث بعد موت صقللي باشا وكان من أفضل الصدور، بدأ السلاطين في الضعف والتخلي عن شئون الحكم للوزراء وانتشر الفساد ونفوذ الحريم والانحلال الذي أصاب الجهاز العسكري وخاصة بين الجند الانكشارية، حيث سمح السلاطين لرعيتهم من الاتراك بالإلتحاق به. وبعد أن صارت الإمبراطورية متاخمة لأطراف الدول الأوربية القوية فإن فتوحاتها غدت مستعصية، كما قلت الاقطاعات العسكرية العثمانية وكان لابد من ترضية الجند دائما بالهدايا والمنح وكانت الجند الانكشارية في الأصل حرسا خاصا ولكنها بدأت تعين السلاطين وتخلعهم كما صار معظم أولئك السلاطين ألعوبة في أيديهم وفي عام 1595 بدأ عهد السلطان محمد الثالث بزيادة الضرائب في الإمبراطورية مع ضآلة الدخل الحكومي في وقت بدأ فيه الهولنديون والإنجليز والفرنسيون تجارة زاهرة في الشرق ومع العالم الجديد .
      – محمد الثالث يقتل 19 أخ و 10 جواري لأبيه :
    وفي إطار ما ذكرنا عن هذا التقليد الذي ارتفع إلي مستوي القانون المكتوب ( نامه ) كما ذكر المؤرخ العثماني بجوي وهو مجري دخل الإسلام وحسن إسلامه وعمل في الإدارة العثمانية وكان قريبا من السلاطين، في موضوع إعدام الورثة المحتملين فقد كتبه بجوي بروح محايدة أي بدون تعليق وإن كان لا يخلو من الحزن وهو يصف إعدام جماعي ومراسم عزاء ودفن جماعي للورثة المحتملين .
    نقول في هذا الإطار أن السلطان محمد الثالث ابن محظية للسلطان مراد الثالث، عندما تولي الحكم كان عمره 29 سنه وكان أول عمل قام به أن أمر بقتل إخوته الذكور وكانوا تسعة عشرا أميراً! وأمر بإغراق عشر جوار لأبيه كانت حبالي! وذلك كله للحيلولة دون وقوع منازعات حول العرش .
  • إنتصار كبير علي النمساويين :
    أحرز السلطان محمد الثالث نصرا مؤزرا علي جيشين متحالفين للنمسا وترانسلفانيا حيث كبدهم 100 ألف قتيل وكادت فيينا أن تسقط لولا دخول فصل الشتاء ورغم ما في هذه المعركة من استعادة لهيبة العثمانيين إلا أنها لم تؤد إلي تغيير حاسم في موازين القوي، وتجددت الحروب مع النمسا بعد ذلك .
  • ولاية محمد باشا الشريف :
    في إطار عرض عينات لبعض الولاة نشير إلي محمد باشا الشريف الذي أعاد ترميم الجامع الأزهر، وجعل فيه توزيعاً يومياً من العدس المطبوخ علي الطلبة الفقراء كما أصلح بناء المشهد الحسيني، وقد حاول أن يمنع العساكر من أخذ الضريبة التي فرضوها علي الأهالي فتمردوا ضده وهموا بقتله فاحتمي بالقلعة، وقتلوا بعض كبار الأمراء وعلقوا رؤوسهم علي باب زويلة ونهبوا بيوتهم وأثخنوا في الناس قتلا ونهبا فتم عزله وتم تعيين من هو أسوأ !
    ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<< - 15 - بعد قرنين من حكم العثمانيين : منع الخمور والدعارة

العثمانيون أدخلوا الدخان لمصر وللعالم الاسلامي
ثورات الشعب المصري ضد المماليك والعثمانيين بدأت في القرن 17
حصيلة الفتوحات العثمانية في أوروبا تلخصت في البلقان

نواصل استعراض الحكم العثماني لمصر قبل محمد علي بعد فشل محمد باشا الشريف في إصلاح شئون العسكر وعزله أرسل الباب العالي من هو أسوأ منه، أرسل خضر باشا في بداية القرن السابع عشر الميلادي . وكان من الولاة الجشعين الذين يميلون لجمع المال بكل الوسائل، فأغضب الأهالي إذ أمر بقطع جميع الأعطيات التي كانت توزع على العلماء والفقراء من القمح وانضم الجند إلى الأهالي عندما قطع عنهم بعض أعطياتهم، فثاروا وأخذوا القاضي وزحفوا على الديوان فقتلوا نائب الباشا ( الكخيا) وبعض الأمراء واضطر الوالي إلى التسليم بمطالب الجند والأهالي فخمدت الثورة ولكن تم عزله . وفي هذه الفترة ( بداية القرن 17م ) بدأت عادة شرب الدخان لأول مرة في مصر، وفي عهد السلطان أحمد خان المتوفي في 1617 أبيح إستعمال التدخين رسمياً في الدولة العثمانية وكانت هولندا هي التي أدخلت عادة التدخين إلى البلاد الإسلامية وكان التدخين قد وفد إلى أوروبا بعد إكتشاف أمريكا . وقد قوبل التدخين في بادئ الأمر بالإعتراض وأصدر مفتي السلطنة الفتاوي بإنكاره ولكن الجنود سخطوا على هذه الفتاوي واشترك معهم بعض كبارموظفي القصر السلطاني وانتهى الأمر إلى إباحته .
  ثورات الشعب المصري تنجح في عزل الولاة:
ليس صحيحاً أن ثورات الشعب المصري في بداية القرن التاسع عشر 1801 –€・1805 للإطاحة بالوالي العثماني واستجابة الباب العالي لها قد حدثت لأول مرة ، وهي الثورات التي انتهت بولاية محمد علي 1805، ولكن تاريخ مصر العثماني يشهد على سوابق عديدة ومنها على سبيل المثال ثورة شعب مصر على موسى باشا السلحدار الذي كان يجمع ضرائب إضافية ويختلسها لنفسه، حيث اجتمع أهل الحل والعقد في جامع السلطان حسن وهم العلماء والقضاة والسناجق وأمراء المماليك وزعماء الوجاقات ورفعوا للباب العالى مطلب الشعب بإقالة موسى باشا واستجاب الباب العالي . ( أواسط القرن السابع عشر )
1645غزو جزيرة كريت :
في عهد السلطان مراد الرابع تم غزو جزيرة كريت وهي آخر جزيرة في شرق المتوسط كانت لاتزال في يد البندقية وتم الإستيلاء عليها عدا قلعة كنديا.
ازدياد نفوذ المماليك:
في منتصف القرن السابع عشر بدأ يتضح زيادة نفوذ المماليك (1647) وتحولهم إلى القوة الأولى في مصر، حيث كانوا هم العنصر الدائم، في حين كان الولاة في تغير دائم، وبدأ انقسام المماليك إلى حزبين أو فريقين، كل حزب يسعى إلى السيطرة وحده، وهو الأمر الذي ظلت تعاني منه البلاد حتى مجئ الحملة الفرنسية في آخر القرن الثامن عشر .
1648 حكم السلطان محمد الرابع :
تميز هذا الحكم بتولي محمد كوبريللي منصب الصدر الأعظم وهو من رؤساء الوزراء المميزين من نوع صقللي باشا السابق فلعب دوراً كبيراً في وقف تدهور أحوال الإمبراطورية،  حيث قام بمحاولة جادة لكسر شوكة الانكشارية، وأخذها بالشدة والصرامة وقتل القادة غير الأكفاء وطهر البلاط، وهزم أسطول البندقية وطردهم من الجزر التي احتلوها في مدخل الدردنيل رافعاً بذلك الحصار عن الدولة. وفي عهد ابنه أحمد كوبريللي تواصلت المسيرة وهزم النمسا هزيمة منكرة ( وكانت من أهم الدول العظمى في أوروبا ) وفتح قلعة كنديا في كريت وأجبر البندقية على التنازل عنها ومن آيات العظمة العثمانية في ذلك الوقت (1676) أن بولندا أغارت على أوكرانيا فاستنجد حاكم الأخيرة بالدولة العثمانية فأنجده السلطان محمد الرابع وسار بنفسه على رأس جيشه . وانتصر على البولنديين الذين تعهدوا بدفع جزية سنوية قدرها 220 ألف بندقي ذهب والإعتراف بسيادة الدولة العثمانية على أوكرانيا .( أوكرانيا التي فجرت في بداية هذا العام 2014 الصراع بين روسيا والغرب فيما يعرف بحرب القرم ) ! وظلت الحرب تتجدد مع بولنده حتى عقدت معاهدة زورانتا التي تم الإعتراف فيها بحق الدولة العثمانية في معظم أوكرانيا، ولكن هذا التطور هو الذي وضع الدولة العثمانية وجهاً لوجه أمام القوة الجديدة قوة روسيا النامية .
1682 المماليك يحكمون السيطرة على مصر :
انشغل المماليك ، انشغال الدولة العثمانية في حروب طاحنة في أوروبا ، لتعزيز قوتهم في مصر وأكثروا من شهر السلاح في وجه الولاة، الذين لم يعودوا يملكون حولاً أو طولاً . فالوجاقات التي كانت ترابط في مصر كانت قد أصبحت مصرية، تتألف من جنود ولدوا في مصر وارتبطت مصالحهم بمصالح أمراء مصر من المماليك فأصبحوا أطوع لهم من الولاة العثمانيين وبدأ المماليك يستكثرون من جديد من شراء المماليك خالقين منهم قوة وعزوة لايسهل قمعها وخاصة عند اتحاد المماليك وهو مايحدث من حين لآخر.
1699-1703 روسيا دولة أوروبية جديدة في المعادلة :
شهدت نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر اشتداد ساعد الدولة الروسية الصاعدة التي كانت مضعضعة بعد ثلاثة قرون من الإستباحة التتارية لها . وأصبحت الدولة العثمانية تواجه ضغطاً من الشمال بعد أن كانت تواجه ضغطاً من الغرب فقط . في عام 1699 اضطرت الدولة العثمانية في معاهدة كارلوفتز إلى التنازل عن المجر وترنسلفانيا للنمسا وعن مدينة آزاق ومينائها لروسيا وبذلك أصبحت روسيا تطل على البحر الأسود ( وهي عقدة روسيا المستمرة حتى بوتين الآن لأنها بدون ذلك تصبح مجرد دولة برية محاصرة عدا شهور قليلة من خلال البلطيق أو في آخر الشرق على المحيط الهادي !!) كما تنازلت الدولة العثمانية عن أوكرانيا لبولندا وتنازلت للبندقية عن إقليم دلماسيا على بحر الأدرياتيك . وفي عام 1703 نجح الانكشارية في عزل السلطان مصطفى الثاني عندما حاول إصلاح أحوالهم، وتولى السلطان أحمد الثالث وفي عهده حاول بطرس الأكبر مؤسس دولة الروس اجتياح الدولة العثمانية ولكن هزم هزيمة منكرة كادت تودي بالدولة الروسية الوليدة لولا أن كاترين ( زوجة بطرس فيما بعد) وكانت تصاحبه استطاعت أن تقنع القائد العثماني بعد أن غمرته بالمجوهرات الثمينة أن يعقد صلحاً، تعيد روسيا بمقتضاه للدولة العلية مدينة آزاق وأن تتعهد بأن لاتقترب من شواطئ البحر الأسود فضلاً عن أن تكون لها سفن فيها .
1715 ااسترداد اليونان واستكمال السيطرة على كريت :
في هذه السنة استردت الدولة العثمانية شبه جزيرة المورة ( اليونان ) من البنادقة كاملة وإخراج البنادق من آخر مواقع لهم في جزيرة كريت، ودائما كانت نتائج الصراعات المسلحة في اوروبا هي ترمومتر صعود أو هبوط الحالة العثمانية ولكن المشكلة أن هذه الانتصارات المتقطعة كانت تصيبهم بالنشوى وبحالة كاملة من الرضاء عن النفس ولم يلتفتوا لجوانب الصراع الأخرى أو بالأحرى ضرورات التطور والبناء الإقتصادي وتعزيز لحمة كافة أطراف الدولة الإسلامية. في عام 1724 تم تقسيم ايران بعد تدهور أحوال الدولة الصفوية، بين الدولة العثمانية وروسيا .
والي عثماني يمنع الخمور والدعارة في مصر :
في عام 1728 جاء إلى مصر والي جديد في محاولة لوقف الفتن بين حزبي المماليك : الفقارية والقاسمية وكان كيورلي زادة عبدالله باشا، ونجح في ذلك وتصفه أوراق التاريخ بأنه كان من الرجال الصالحين الأفاضل الذين لايسعون في إيقاد الفتن وكان رجلاً متديناً ( وكأن هذا غير متوفر فيمن سبقوه ) منقاداً للشريعة ولذلك فقد اصدر أمره بإبطال المنكرات والخمامير ومواقف الخواطئ ( أي أماكن البغاء ) والبوظ ( محل شرب البوظة ) وجعل لوالي القاهرة والمقدمين الذين كانوا يتكسبون من ضرائب هذه المنكرات ( لاحظ !!) راتباَ يتقاضونه ( كتفويض ) وكتب بذلك حجة شرعية لعن فيها كل من يتسبب في رجوع ذلك . وهذا بعد أكثر من قرنين من حكم العثمانيين لمصر . مع الأسف لم أستطع تتبع إلى متى تم الالتزام بذلك فهذا يحتاج لمؤرخ محترف ومتفرغ . أرى أن المؤمنين يتعين ألا ينزعجوا بشدة من هذه الأخبار . فهذا هو حال الدنيا بين مد وجذر، وبين حق وباطل ، حتى في ظل حكم إسلامي . وهذا درس حتى لايفرط الإسلاميون في التكفير وإلا سيكفرون كل التجارب الإسلامية . كذلك يجب أن يتعلموا التواضع في تقييم الأنظمة الوطنية وكل هذا دون أي تساهل في العقائد او الإيمان بالمرجعية الإسلامية . غاية ما هنالك ألا يتملكنا الغرور، وأن نعمل بصبر لمعالجة هذه الانحرافات كلما ظهرت في مجتمعات المسلمين وأن نهتم أكثر بالبناء الروحي والأخلاقي والثقافي الإسلامي والاستفادة في ذلك من كل الوسائط الإعلامية والفنية، وألا ندفع للحكم إلا الأكثر كفاءة والأكثر اقتراباً للمعايير الإسلامية من أولي الأمر السياسيين فالقدوة الصالحة هي الأهم في تربية الشعوب وإصلاحها .
المطبعة تدخل لأول مرة الدولة العثمانية:
دخلت المطبعة لأول مرة إلى الدولة العثمانية عام 1730 بعد أن كانت قد انتشرت في أوروبا وكانت أحد الأسباب في نهضتها الحديثة، إذ وسعت نطاق العلم والمعرفة، والحقيقة فهذا تأخر كبير في إدخال المطبعة والتي كانت معروفة وغير سرية في أوروبا وكان هناك قرار سياسي أمني عثماني بعدم إدخال المطابع لأن إدخال المطابع لن يضمن السيطرة على انتشار الأفكار، وهذا موقف غير حضاري يؤكد جوانب الضعف القاتلة في التجربة العثمانية وكان الكوريون عرفوا الطباعة بالأحرف المعدنية المنفصلة عام 1234 أي في القرن الثالث عشر الميلادي بل أن الصين سبقت ذلك بالطباعة بالقوالب الخشبية مع نهاية القرن الرابع الميلادي وهو الأسلوب الذي انتقل إلى كوريا في القرن السابع وأخيراً ظهرت مطابع أوروبا من إختراع جوتنبرج في 1455 أي في القرن الخامس عشر والباحثون لايستبعدون أن تكون هذه التقنية الصينية –・الكورية قد وصلت إلى أوروبا الغربية عبر طريق الحرير إلى القسطنطينية قبل إحتلال العثمانيين لها !! لاحظ أن محمد الفاتح فتح اسطنبول عام 1475 م أي بعد تاريخ ظهور مطبعة جوتنبرج بعشرين سنة .
لووجدنا العذر في أن العثمانيين لم يدركوا تطور الطباعة في الصين وكوريا فلن نجد لهم عذر في عدم إدراك أهمية المطبعة التي انتشرت في أوروبا من حوالي 280 سنة قبل أن يسمح لها بالدخول إلى اسطنبول وهذا يؤكد ما اطلعت عليه في إحدى المراجع من أنه كان قراراً سياسياً أمنياً !!
وأضف إلى كل ذلك أن حركة مارتن لوثر لإصلاح الكنيسة وتأسيس الحزب البروتستانتي عام 1526 الذي تحول إلى المذهب البروتستانتي، قد اعتمد على وجود المطابع لطباعة الإنجيل الذي كانت الكنيسة الكاثوليكية في روما تحرم طباعته أو الإطلاع عليه إلا لرجال الدين وحدهم. اذن المطبعة استخدمت في حركة تنويرية مسيحية قبل قرنين من دخول المطبعة إلى عاصمة الإمبراطورية الإسلامية ! وهذه أحد مؤشرات الهبوط الحتمي بل والانهيار الكامل لهذه الإمبراطورية في أوائل القرن العشرين ولكن الترمومتر الأوروبي مايزال يعمل !
كما ذكرنا فإن المعارك الحربية مع أوروبا كانت هي ترمومتر قياسي للحالة العثمانية، حتى يدرك المسلمون متأخراً إن الصراع ليس عسكرياً فحسب بل أيضاً هو صراع حضاري شامل إقتصادي –・صناعي –・تكنولوجي –・علمي –・ثقافي وكل هذه المحاور كانت معطلة، ففي عام 1735 انتصر العثمانيون على النمسا وروسيا معاً وتم توقيع معاهدة بلغراد وبموجبها أرجعت النمسا مدينة بلغراد وكل أراضي الدولة التي كانت قد استولت عليها وكذلك فعلت روسيا وتعهدت بعدم وجود أي مراكب حربية أو تجارية لها في البحر الأسود أو بحر آزوف.
محاولة عثمانية يائسة للقضاء على المماليك :
لم تنجح الدولة العثمانية في خطتها الرامية إلى إضعاف سلطة المماليك عن طريق تأليبهم على بعضهم بعضا . فبدأت تزود ولاتها بأوامر شديدة للعمل على إبادتهم أو بالأحرى إبادة زعمائهم ولكن الولاة عجزوا عن تحقيق هذا الهدف فقد كانت الوجاقات العثمانية التي انقطع تغييرها وتبديلها قد أصبحت وجاقات مصرية أكثر منها تركية ، فقد تزوج أفرادها في مصر كما ذكرنا والتحق بصفوفها تجار وصناع وفنيون من مصر لينالوا حمايتها ولم يلبث أن أصبح رؤساء هذه الوجاقات من المماليك انفسهم وهكذا تحولت الوجاقات كلها وعلى رأسها وجاق الانكشارية إلى قوة مصرية تنسق تصرفاتها بما يحقق مصالحها التي أصبحت تنسجم مع الأمراء المصريين وليس مع الباب العالي .
حصيلة الحرب المميتة المتواصلة في أوروبا:
في 1774 انتهت الحرب المستمرة بين الروس والعثمانيين بهزيمة الجيش التركي فأبرمت معاهدة كينارجي وبموجبها اعتبر التتار بالقرم مستقلين على شرط اعترافهم بالسلطان العثماني كخليفة لهم، وهذه أول مرة يستخدم العثمانيون الخلافة باعتبارها رابطة دينية روحية وأعيدت الأفلاق والبغدان ( رومانيا الحالية ) لتركيا شريطة أن يجري الحكم فيها على سياسة اللين .
وحصلت روسيا في مقابل ذلك على حصون في القرم مع الإعتراف بحقها في الملاحة بالبحر الأسود وفي المياه العثمانية كلها وحقها في بسط حمايتها على المسيحيين الأرثوذكس في الدولة. وصرح للروس ببناء كنيسة كبيرة في أسطنبول، وهكذا تحقق للروس ماكانوا يطمعون فيه منذ قامت دولتهم، وهو أن يعتبروا ورثة الدولة البيزنطية ورعاة الكنيسة الشرقية وكانت هذه المبادئ هي التي صارت فيما بعد الأساس الذي بنت عليه روسيا تدخلها في شئون الدولة العثمانية . وهنا لنا وقفة مهمة فالدولة العثمانية بذلت قصارى جهدها بل معظم قواها لحروب أوروبا التي غلب عليها طابع الكر والفر، وضم الأراضي ثم خسارتها وهو أمر يذكرنا بصراعات الدولة العباسية الأولى مع الدولة البيزنطية منذ تأسيس الدولة العباسية عام 132 هـ حتى 232 هـ ( 749 م حتى 849م ) حيث كان الصراع يجري معظمه في المناطق الحدودية بين الشام والأناضول ، ثم عبر هضبة الأناضول كلها حتى سواحل البسفور ولكن دون تمسك بالأرض أو توسيع الدولة الإسلامية إلا في نقاط حدودية شمال الشام تقع الآن داخل تركيا المعاصرة . كانت حروب تدمير متبادل وقتل وأسرى وإجبار البيزنطيين على دفع الجزية  ، دون أي توسع حقيقي للدولة الإسلامية في معظم هضبة الأناضول . والمعروف أن فضل دولة السلاجقة ثم الدولة العثمانية هو تتريك هضبة الأناضول وإقامة مجتمع إسلامي فيها حتى حدود أوروبا ثم حتى فتح القسطنطينية وإقامة جزء أوروبي صغير لتركيا في أوروبا بعد عبور البسفور. معظم حروب العثمانيين في أوروبا الشرقية كانت شبيهة بأسلوب الدولة العباسية مع الدولة البيزنطية لكن الدولة العثمانية حققت نجاحاً أكبر في محاولة لخلق مجتمعات إسلامية حقيقية في شرق أوروبا في المجر ورومانيا واليونان وشبه جزيرة البلقان وجزر شرق المتوسط وبلغاريا وشمال البحر الأسود فيما يعرف الآن بمنطقة شبه جزيرة القرم وماحولها. ومع إدراكنا لحقيقة التطهير العرقي والديني الذي قامت به أوروبا في مناطق شرق أوروبا وإبادة المسلمين في مرحلة تراجع وإنهيار الدولة العثمانية وهو ماحول المسلمين إلى أقليات محدودة مهيضة الجناح وأحياناً شبه معدومة كما هو الحال في بلغاريا ورومانيا واليونان والمجر إلا أن مجتمع المسلمين قد صمد إلى حد كبير في أجزاء من البلقان: البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا مع أقليات مسلمة مقدرة في سلوفينيا ومقدونيا وهي الدول التي انبثقت من الدولة اليوغسلافية الإتحادية الشيوعية التي كانت تحت قيادة بروزتيتو ثم انهارت في إطار انهيار المعسكر الشيوعي وإنحلت إلى عناصرها الأولى عدا ألبانيا التي ظلت دولة مستقلة طول الوقت . فعندما يتحول شعب بأكمله للإسلام يصعب إبادته وهذا ماتحقق في البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا . وإن جرت محاولات جادة لإبادته كما رأينا في آواخر القرن العشرين على يد الصرب الأرثوذكس والكروات الكاثوليك ،ولكن الشعب المسلم صمد في حرب بطولية بقيادة علي عزت بيجوفيتش كرم الله ثراه ( تشرفت بلقائه مرة في القاهرة وأحببته واحترمته وقرأت كتبه واستفدت منها والتي كتبها في سجون الشيوعية في عهد تيتو) فمسلموا البلقان وشرق أوروبا تعرضوا في آخر مرحلة لحرب إبادة شيوعية وصلت إلى حد منع الأسماء العربية والمسلمة للمواليد، بل وشطب الأسماء العربية وذات الطابع الإسلامي من على شهود مقابر المسلمين كما حدث في بلغاريا الشيوعية وخضنا حملة على ذلك في جريدة الشعب، وأذكر أن مندوباً من السفارة البلغارية طلب لقائي كرئيس تحرير وزارني في مقرنا البرلماني في مجلس الشعب وكنت عضواً به ( 1987-1990) وعندما حضر حاول أن ينفي صحة المعلومات المنشورة ولكنه لم يكن مقنعاً ولم يقدم لي أي رد مكتوب . وكانت معلوماتنا صحيحة 100% كذلك فإن المسلمين في رومانيا والمجر أبيدوا إلى حد الإقتراب من الإختفاء النهائي أما بالنسبة لبلغاريا فقد زرت عام 1970 ( في رحلة شبابية ) بلغاريا وذهبت للصلاة في المسجد الوحيد في العاصمة صوفيا وكان خلواً من المصلين تقريباً والتقيت مع عدد ضئيل من العرب المقيمين في بلغاريا وكان شيخ المسجد بلغارياً واستضافني في بيته وكانت حالته الإقتصادية والإجتماعية بائسة للغاية، وحدث في اليونان شئ من ذلك بحيث تمت محاصرة المسلمين في أقصى الشرق في منطقة تسمى تراقيا الشرقية مع الصعوبة الشديدة لإظهار الإسلام أو إقامة مسجد. ومؤخراً في القرن الواحد والعشرين كانت هناك معركة لبناء مسجد واحد في أثينا ولا أعلم هل كللت بالنجاح أم لا؟ بل ان المسلمين في أثينا يجدون صعوبة بالغة في توفير مقابر يدفنون فيها، فهم محرومون من الوجود أحياء أو أموات !! لم ينجو من هذه الإبادة إلا المجتمعات المسلمة في البلقان لأن الدولة العثمانية عمقت جذور الإسلام في هذه المنطقة وأخذت منها عناصر الإنكشارية الأولى التي تعلمت الإسلام وتفقهت فيه نسبياً، واستعانت بهم في بناء الدولة وكان منهم الوزراء وهم يسمون (البوشناق ) وهؤلاء مواطنون بلقان أصلاء وليسوا أتراك مستوطنين وهذا ماضمن استمرار الإسلام في هذه التربة. وفي إحدى المؤتمرات التي حضرتها في تركيا في زمن حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان كنت في غرفة واحدة مع شابين من سلوفينيا ( هي الآن دولة بلقانية مستقلة بها أقلية مسلمة كبيرة ) كانا مسلمين أحدهما يحفظ القرآن كما قالا ولم يكونا يتحدثان العربية بسهولة .
إذاً استقرار الإسلام في البلقان وألبانيا يحسب للدولة العثمانية بشكل كبير ولكنها نتائج محدودة بالنسبة لعدة قرون من الصراع المسلح خاضته الدولة العثمانية في شرق أوروبا حتى وصلت إلى أسوار فيينا لأن الصراع غلب عليه الأسلوب العباسي المشار إليه ضرب القلاع والمدن وجلب الغنائم وفرض الجزية والإنسحاب !! أي الإعتماد على هذه البلدان وإدارتها من خلال الملوك الذين تم إخضاعهم وهزيمتهم في الحروب، ولابأس ولكن أين كان دور الدعوة ونشر الإسلام وتعميق وجوده في هذه البلدان. وكان العثمانيون يكتفون غالباً بالغنيمة والجزية وفرض النفوذ السياسي مع ملاحظة ان هذه الحروب عمقت الكراهية للإسلام في الغرب وإن كانت هذه مسألة لامهرب منها وقد جاء الصليبيون إلى عقر دارنا قبل أن تنشأ الدولة العثمانية. ولكن مايهمنا هو المحصلة النهائية وكذلك يحسب للدولة العثمانية انها كانت رحيمة غالباً في غزواتها في التعامل مع المدنيين ومع الخلاف العقائدي الديني وأنها لم تكره أحداً على دخول الإسلام بعكس مافعل الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا مع بعضهم البعض والذي وصل إلى حد الإبادة الجماعية المتبادلة ( راجع كتابي –・أحكام القرآن الكريم في موالاة الكفار والمشركين –・الطبعة الثانية ) وهذه شهادة المؤرخين الأوروبيين المنصفين وكذلك شهادة نهرو زعيم الهند في كتبه . ولكن هناك استثناء حدث فى البلقان وهو تجنيد أطفال البلقان وإدخالهم فى الاسلام من خلال تجربة الإنكشارية ، ولكنهم لم يكونوا مضطهدين ، بل تولوا أعلى المنصب المدنية والعسكرية ، وكانت مرتباتهم عالية ومستواهم الاجتماعى مرتفعا مما شجع أسرهم على دخول الاسلام .
كان لابد من هذه الوقفة التقييمية وهي ليست خروجاً عن دراستنا حول محمد على لأن مصر كانت جزءاً لايتجزأ من الدولة العثمانية من عام 1517 حتى عام الاحتلال البريطانى 1882 .
بداية النفوذ التجاري الإنجليزي والفرنسي في مصر
:
بعد القضاء على تمرد المملوكي علي بك الكبير لمصر جاء محمد بك أبو الدهب ليحكم مصر بالأمر الواقع بينما كان خليل باشا الوالي العثماني أشبه بالسجين بالقلعة . وقع الإنجليز مع محمد أبو الدهب معاهدة تقضي بفتح ميناء السويس للسفن والبضائع الإنجليزية وكان ذلك عام 1774 وكانت الدولة العثمانية تحظر على السفن الأوروبية أن تتخطى ميناء جدة على أساس أن مياه البحر في هذه المنطقة جزء من الأرض المقدسة وذلك منذ محاولات البرتغال الإعتداء على الحجاز .
  وفي العام التالي 1875 استطاعت فرنسا ان تلحق بإنجلترا في نشاطها الإقتصادي بمصر فأبرمت مع مراد بك قائد المماليك و مع إبراهيم بك في إطار حكمهما الثنائي لمصر، أبرمت معاهدة تخول للتجار الفرنسيين والسفن الفرنسية إمتيازات وتسهيلات جمركية في الموانئ المصرية تفوق تلك التي حصل عليها الانجليز بموجب معاهدتهم مع محمد أبو الدهب الذي كانت قد وافته المنية . فعادت إنجلترا وعينت قنصلاً عاماً موفداً من وزارة الخارجية البريطانية ليقيم في مصر، وكل ذلك بدون موافقة الباب العالي، لذلك رأى ضرورة التصدي لإعادة سلطان الدولة العثمانية في مصر وإبادة المماليك بصفة نهائية . فأرسلت إلى الإسكندرية أسطولاً وجيشاً تحت قيادة حسن باشا قبطان الذي اعلن أنه جاء ليقتص من الخائنين إبراهيم بك ومراد بك ورفع الظلم عن العباد وإصلاح الأحوال فهرب الإثنان ودخل حسن قبطان باشا القاهرة 1786 وأمر بمصادرة أموال الأمراء الهاربين وعين إسماعيل بك شيخاً للبلد ليكون أداة في يد العثمانيين، ولكنه سرعان ما مات صريعاً للطاعون بعد انسحاب القوات العثمانية ، فعاد ابراهيم بك ومراد بك إلى القاهرة ( وكأنه مسلسل كوميدي ) وكان بالقاهرة والي لا يهش ولا ينش ! محمد عزت باشا ، واقترح على الدولة الإعتراف بالأمر الواقع، فصدر من السلطان سليم الثالث مرسوماً بالعفو والإذن لإبراهيم بك ومراد بك بالدخول إلى القاهرة (!!) ولكن الرجلين كانا قد دخلا بالفعل وباشرا سلطانهما ولاسلطان إلا بفرض الضرائب على الناس وتحصيلها وممارسة صنوف من الظلم والطغيان .
1795 ثورة شعبية ضد المماليك :
  كانت شرارة الثورة بمظالم ارتكبها محمد بك الألفي أحد زعماء المماليك الذي أشرنا إليه مراراً، مظالم ارتكبها في بلبيس، واشتكي الفلاحون لشيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي الذى عرض هذه الشكاوي على مراد بك وإبراهيم بك دون جدوى . دعا الشرقاوى مشايخ الأزهر إلى الإضراب العام بغلق المتاجر والحوانيت واعتصموا هم بالجامع الأزهر، واستجابت الجماهير لندائهم واحتشدت الألوف حول الأزهر هائجة مائجة طوال الليل . وفي اليوم التالي سارت هذه الجموع في مظاهرة حاشدة إلى بيت الشيخ السادات وهو مجاور لقصر ابراهيم بك فهالته هذه الجموع الغاضبة واضطر زعماء المماليك إلى التراجع عن المظالم المحدثة وإلغاء كل الضرائب من نوع الكشوفيات والتفاريد والمكوس وأن يكفوا أتباعهم عن السطو على أموال الناس وأن يدفعوا لأصحاب الحقوق المتأخرة 750 كيساً وأن يرسلوا غلال الحرمين والأموال الموقفة عليها ..الخ في تعهد مكتوب. وكانت هذه الثورة قبل مجيئ الحملة الفرنسية وماحدثت خلالها من ثورات وماتبعها من 3 ثورات ضد المماليك والظلم العثماني. أي ثورات متصلة على مدار 10 سنوات ، ومع ذلك فإن نخبتنا العتيدة في القرن الواحد والعشرين تقول إن شعب مصرخانع ولايثور. والواقع إنه يحتاج لقيادة كي يقوم بثورة ، بل أحياناً يثور وسط خذلان القادة كما حدث في ثورة 25 يناير 2011 التي اندلعت بينما كانت النخبة العظيمة لا تفعل شيئاً إلا مبايعة البرادعي الذي يعيش عادة خارج مصر !! ( انتهي الفلاش باك)
ملاحظة ختامية:
في نهاية هذا (الفلاش باك) وهو عودة للخلف بعد أن تقدمنا فى عرض وتحليل عهد محمد علي نقول أن هذه العودة للخلف ( الفلاش باك ) بسبب اطلاعي على عدة آراء ورؤى ناقمة على محمد علي وعهده، وتعتبر عهده ردة على الإسلام وتمرد على الدولة العثمانية الاسلامية و عهد ماسونية وتغريب وعلمانية وعمالة للانجليز . وأهم هؤلاء الكتاب : محمد قطب –・صديقى د. جمال عبد الهادي –・د. علي الصلابي –・راغب السرجاني. وكما لاحظتم في هذه المراجعة ( الفلاش باك ) فقد أوضحنا بالحقائق الدامغة التاريخية الحالة الحضارية والاسلامية المتراجعة للدولة العثمانية خلال القرنين 18 و19 حتى لانظلم عهد محمد علي ونمحو منه أهم انجازاته التي عادت بالخير على مصر والعرب والمسلمين .

<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

                                                - 16 -

معظم الفواكه التي نأكلها الآن أدخلها محمد علي

البرتقال الليمون اليوسفي البرقوق الكمثرى التفاح المشمش الموز
قصة بناء الجيش المصري الحديث وحكاية سليمان الفرنساوي !

بعد كل هذا الفلاش باك الكبير نعود إلى قصتنا حيث توقفنا وكنا نوشك ان ننهي الملف الزراعي . ماحدث خلال نصف قرن من حكم محمد علي هو نقل مصر من وضع إلى وضع وهذا أثر على مجمل حالة الشرق العربى ، وهذا ما سرع نشوء المسألة الشرقية أي كيفية القضاء على الدولة العثمانية وتوزيع ميراثها في منطقة الشرق الأوسط ، المنطقة الأهم  في العالم.
تضاربت المصادر التاريخية حول التوسع في الأراضي الزراعية وقد كان كبيراً في ظل كل هذا التوسع في قطاع الري من قناطر وترع وسدود، وأقرب الأرقام إلى الصحة ماورد في سجلات الحكومة المصرية حيث كانت الأراضي الخاضعة للضرائب قبل تنفيذ الأشغال العامة المشار إليها حوالي 3 مليون فدان وربع مليون الفدان وأصبحت هذه المساحة 4 ملايين فدان و 400 ألف فدان عام 1863، أي أضاف محمد علي مليون فدان و177 ألف فدان وهي نفس المساحة التي من المفترض أن السد العالي في الستينيات في القرن العشرين اضافها لمصر. ولكن كانت هناك مصادر أخرى أشرنا لها ذكرت أن الأراضى الزراعية بلغت فى نهاية عهد محمد على 5 ملايين ونصف المليون . وحتى إذا أخذنا بالرقم الأقل فهو يمثل زيادة لمساحة الأرض الزراعية بحوالى 50 %.

  • المحاصيل الجديدة:
    بعد قطن طويل التيلة تم التوسع في زراعة قصب السكر الذي كان يزرع بكميات محدودة ثم أصبح صناعة رئيسية كصبغة النيلة والكتان والأرز، ( الكتان يضمحل في مصر في القرن الواحد والعشرين , والمصنع الوحيد له تم بيعه ويعاني من مشكلات تهدد بإغلاقه ) . إلا أن المذهل أنه بتوجيه مباشر من محمد علي تم إدخال مايقرب من مائتي محصول جديد غيرت الخريطة الزراعية في مصر وستكتشف أن معظم مانستهلكه الآن نتاج هذه المرحلة ، الفاكهة : السفرجل ( ولكنه ينقرض الآن ) أنواع البرتقال والليمون والموالح كاليوسفي ، والبرقوق والكمثرى –・التفاح –・المشمش –・الخروب –・الموز –・التوت –・الجوز –・الجميز- الأعناب –・الزيتون –・التين –・الخوخ –・الرمان.
    ولادخال كل ثمرة أو محصول قصة ، وقد تحدثنا عن قصة إدخال القطن طويل التيلة والآن نتحدث عن قصة إدخال اليوسفي  ونكتفي بذلك حيث لايتسع المقام :
    يوسف أفندي كان من الشباب الذين أرسلوا إلى أوروبا لتعلم الهندسة الزراعية وعاد إلى مصر وقد أحضر معه بعض أشجار الفاكهة التي اشتراها من سفينة قادمة من الصين واليابان واستقرت في مياه مالطة ثم حمل طبقاً من هذه الثمار إلى محمد علي باشا فأعجبه وسأل الشاب : ماذا نسميها في مصر ؟
    فقال يوسف أفندي : نسميها طوسون باشا تخليداً لذكرى ابن محمد علي الذي مات بالطاعون . فشكر الوالي يوسف وقال : نسميها يوسف أفندي فأنت الذي أحضرتها لمصر، ثم تحولت إلى يوستفندي ثم إلى يوسفي ! , ومن الأشجار الجديدة التي زرعها، الصفصاف والأزدرخت (يسميه أهل الريف الزنزلخت) , والسرو والمُخيط والسنط والتي كانت تستخدم إما من أجل أخشابها أو لاستخراج الفحم النباتي أو لتجميل الريف ، ومن المؤسف أنه أدخل أيضاً زراعة الدخان . كذلك تم استيراد أزهار من جميع الأنواع ، إذ كان الوالي مغرماً بالحدائق الجميلة . وخلال 3 أعوام فقط من ( 1828 –€・1830 ) تمت زراعة 4 ملايين و400 ألف شجرة . وكانت مصر دائماً تصدر السكر إلى الإمبراطورية العثمانية ، وفي إطار الإحتكار الزراعي كانت الدولة ملزمة بتقديم البذور للزراع حتى عندما يتلف المحصول أو عند حدوث أزمات مثل الفيضان أو الجفاف . كما بدأت سياسة تشجيع زراعة الأرض البور بإعفائها من الضرائب أو تجفيفها أو تأجيلها أو إعفاء مؤقت لمدة 3 سنوات . وقد استفاد من ذلك الكبار أما صغار الفلاحين فكانوا يتعاونون للحصول على قطع أرض صغيرة في صورة أبعاديات وكانت تلك أيضاً معفية من الضرائب .
    الارشاد الزراعي:
    في إطار ربط الماضي بالحاضر في الأمور المهمة سنجد أنه في عام 1829 تم تأسيس مجلس شورى برئاسة إبراهيم باشا وهو تشكيل يجمع بين عمل البرلمان والحكومة ! وكان يتكون من 33 من كبار المسئولين التنفيذيين وكبار رجال الدين والإفتاء وضم الشيخ البكري والشيخ السادات مع 24 من مأموري المصالح ومائة من مشايخ البلد . وكان من توصياته التي تم تنفيذها فعلاً ، إصدار لائحة زراعة الفلاح تتضمن دليلاً لكيفية زراعة المحاصيل بالطريقة الصحيحة ، وكيفية قيام الموظفين بواجبهم في تحسين ظروف الإنتاج الزراعي ، وقد تطور هذا الأمر في القرن العشرين إلى مسألة الإرشاد الزراعي حيث يقوم مهندسون زراعيون بإرشاد الفلاح في عمله الزراعي بدون مقابل كخدمة من الدولة لرفع مستوى الانتاج الزراعي وفي عهد مبارك السعيد ووزيره يوسف والي تم إيقاف تعيين مرشدين جدد حتى انقرضت هذه المهمة في وزارة الزراعة المصرية !!
  • إنصاف الفلاح :
    اشرت فيما مضى إلى ان أحوال الفلاحين كانت قاسية في البلاد في ظل نظام الإحتكار المحكم ولكن أحوال الفلاحين كانت تتحسن تدريجياً وبنفس عقلية صاحب العزبة فقد كان محمد علي يدرك أهمية عدم تصعيد الضغط على الفلاحين وهم أساس ثروة البلاد ، ومن خلال التجربة والخطأ تم تعديل العديد من السياسات لصالح الفلاح تدريجياً . من ذلك أن مجلس الشورى أقر بعدم عمل الفلاحين في السخرة إلا لمدة خمسة شهور في السنة ، وأن يعملوا في أراضيهم هم أثناء الشهور المهمة ، وليس في أعمال السخرة ، كما قرروا مناوبة أعمال السخرة أسبوعياً وألا يعفى من أعمال السخرة إلا عمال المصانع . وبعد أن تمت إقامة جهاز إداري مركزي حاول الوالي ان يستوثق من قدرته على السيطرة عليه ، وحث الأهالي على الشكوى إليه شخصياً من أي إساءة إستعمال للسلطة . وتم إصدار مجموعة من التشريعات تحدد العقوبات التي يختص بها الموظفون الذين يعتدون على الأهالي أو يسيئون معاملتهم أو الذين يكذبون عليهم أو يغشونهم أو يسرقون منهم . وفي القسم الأخير من حكم محمد علي أي عام 1830 (وستجد دائماً الإصلاحات في هذا القسم الأخير ) تدخلت الحكومة لوقف إستغلال التجار للفلاحين من خلال شراء المحاصيل مبكراً بأسعار زهيدة أو من خلال قروض ربوية تصل إلى 25%، وأعادت الحكومة للزراع المبالغ التي دفعوها للتجار كفوائد ، وفي عام 1838 تم إيقاف هذه المعاملات نهائياً .
    تحسن أحوال الفلاحين يمكن إدراكه بمعايير موضوعية صارمة أشرنا إلى أحد هذه المعايير من قبل وهو زيادة الإنتاج عدة أمثال العهد السابق لمحمد علي ، والمعيار الثاني هو زيادة عدد السكان، فقد كان تعداد سكان مصر في تناقص مستمر منذ العصور الوسطى . ولاتنظر إلى الوضع الآن حيث إن الزيادة السكانية لاتعكس تحسن الأحوال الإجتماعية والإقتصادية ، لأن مصر في هذه العهود الغابرة كانت تتعرض لدورات مستمرة من الفيضانات المدمرة أو الجفاف ، مما يؤدي لانهيار الزراعة وظهور المجاعات وانتشار الأوبئة كالطاعون والكوليرا وغيرها ، لذلك كانت تحدث إبادة حقيقية للسكان . ومما يؤسف له أن بعض المؤرخين الاسلاميين ( كابن كثير ) يكرهون المصريين في أنفسهم من خلال نشر أخبار عن فلان وعن علان بأن المصريين في أعوام كذا وكذا أكلوا القطط والكلاب بل وأكلوا بعضهم بعضاً ، دون أي نوع من التوثيق . وهل وصل الأمر لأكل لحوم البشر . ومهما كان فقد كان لابد من الإشارة إلى هذه الظروف أي المجاعات التي كانت تحدث بشكل متقطع نتيجة دورات الفيضان والجفاف والتي توضحها سورة يوسف ، وإن عدم التعامل الرشيد ( كما فعل سيدنا يوسف ) مع هذه الدورات يؤدي إلى مجاعات وكوارث وإبادة جماعية . وفي حالة عدم تواجد سياسة رشيدة فيجب أن ينحو المؤرخون باللوم على الحكام ، لا على الشعب المصري الذي اضطر لأكل القطط والكلاب . فمشروعات السدود والخزانات والترع هي التي قللت من كوارث الفيضان والجفاف وكذلك قللت من ضياع ماء النيل في البحر ، ومن هذه الزاوية يجب تقدير ايجابيات مشروع السد العالي لأنه كان كمشروع سيدنا يوسف ( كما يقول الدكتور المهندس مجدي قرقر ) لأنه يقوم بتخزين المياه لسنوات الجفاف ، بينما احتفظ يوسف بنتائج وفرة المياه  في صورة قمح في المخازن في سنبله لسنوات الجفاف ، فكان تخزيناً للمياه بصورة غير مباشرة.
    وكل هذه مقدمة للحديث عن زيادة السكان في عهد محمد علي ، وأوضح أنني أستغل أي فرصة في هذه الدراسة وبدون الخروج طبعاً عن مجالها في شرح وطرح أفكاري فأنا في الهزيع الأخير من العمر وقد تكون آخر دراساتي ، وأريد أن أودع فيها مالدي من أفكار وخبرات وتجارب ولكن مرة أخرى في إطار الدراسة حتى لايتشتت القارئ . والواقع أنها دراسة في الاستراتيجية العامة لنهضة الأمم ومجالها واسع النطاق في السياسة والإقتصاد وسنن التغيير السياسي والإجتماعي والصراع الدولي .. . إلخ.
    فرغم حدوث أوبئة ( في وباء واحد مات نصف مليون مصري) ورغم المشاركة في 5 حروب إلا أن عدد السكان ارتفع من 3 ملايين و850 ألف نسمة عام 1800 إلى حوالي 5 ملايين عام 1840 وساعد على ذلك استتاب الأمن العام . وبينما يتصور حكامنا الحاليون ( القرن الواحد والعشرين ) أن الزيادة السكانية سبب البطالة ، فإن زيادة عدد السكان في عهد محمد علي لم تجار الطلب على العمالة بسبب التوسع في التنمية و التجنيد في صفوف الجيش.
    وفي إطارتحسين أحوال الفلاحين بعث الوالي إلى جميع المديرين وموظفي الحكومة بأمر يحظر عليهم فيه استخدام الفلاحين كعمال في أراضيهم دون دفع أجر لهم . وهو مايعني أن العمل بالسخرة في غير الأعمال العامة كان ممنوعاً تماماً . وكان القانون يفرض على من يضبط مستخدماً فلاحين في العمل بالسخرة في أراضيه أن يدفع للفلاحين ضعف الأجر المعتاد كعقوبة له . وفي مجال تشجيع زراعة الأرض البور مع إعفائها من الضرائب –・كما ذكرنا من قبل – وهي سياسة بدأت منذ 1826 ، كان كبار الموظفين هم المستفيدون أساساً من ذلك ولكن كانت بعض الأراضي تعطي كذلك لفلاحين عاديين ( أنفار ) ، وأحياناً كان الفلاحون يتضامنون معاً في بعض المناطق ليطلبوا منحهم أراضي ” أبعادية ” معفاة من الضرائب لمدة 3 سنوات . وتشير السجلات إلى الاستجابة لهذه الطلبات سواء من المشايخ أو الفلاحين وكذلك رؤساء البدو . وبحلول عام 1837 أصبح حق استغلال ” الأبعديات” قابلاً للتوريث . وبعد ذلك بسنوات صدرت مراسيم تقر بالملكية الكاملة لهذه الأراضي وهذا ما أدى إلى بداية خلق طبقة من ملاك الأراضي الزراعية الوطنيين وفي عام 1833 حدث تطور جديد ، فرغم أعباء الأوبئة والحروب رأت الدولة أن تحمل الأغنياء عبء الضرائب الأكبر بإلزام كبار موظفي الحكومة الأغنياء أو كبار قادة الجيش أو أعضاء الأسرة الملكية بأن يتخلوا قسراً عن بعض ثرواتهم وذلك بإجبارهم على أن يتحملوا بمطالبات الضرائب المتأخرة على القرى . وبحلول عام 1845 كان الوالي وأسرته هم أكبر ملاكي الأراضي الذين امتلكوا 18.8% من الأرض وهو وضع استمر حتى 1952, وهذه المعلومة يجب أن تبقى في الذهن حين نتحدث عن الاصلاح الزراعي عام 1952 ومدى مشروعيته من الناحية الاسلامية .
  • بناء الجيش المصري :
    تقريباً منذ نهاية عهد القدماء المصريين انتهى عهد الجيش المصري ولم ينشأ جيش بهذا المعنى كمؤسسة مصرية حتى وإن كان في ظل الخلافة الاسلامية . لم ينشأ جيش مصري إلا في عهد محمد علي وكاد يضمحل في أواخر عهد الخديوى توفيق وبداية عهد الاحتلال البريطاني وهو اضمحل فعلاً بعد ضرب الثورة العرابية بل صدر قرار بريطاني بحل الجيش المصري . ولكن بدأ استنهاضه بالتدريج البطئ في بداية القرن العشرين وهذه مسألة تحتاج لوقفة للفهم والإدراك ، وهي من معالم بناء مصر الحديثة . وهو أمر لايتعارض – على خلاف مايتصور بعض الاسلاميين –・مع البناء الاسلامي ، فبعد قرابة 280 عاماً من الفتح الإسلامي أصبح أغلب المصريين مسلمين ( في عهد أحمد بن طولون ) ولم يكن من الصحيح عدم بناء جيش مصري حتى في إطار دولة إسلامية موحدة أو اتحادية . وجاء حكم المماليك وسد هذه الثغرة العسكرية من خلال استيراد المزيد من المماليك . ورأينا ماحدث في العهد العثماني ، والضعف ثم الانحراف الذي انتاب الوجاقات العثمانية وهو ماسهل الاحتلال الفرنسي ثم الاحتلال الإنجليزي.
    بل يمكن القول بمنتهى البساطة وبدون أي مبالغة ولكن استناداً لمعلومات التاريخ الدقيقة فإن إنجلترا لم تجرؤ على اتخاذ قرار باحتلال مصر منذ هزيمتها عام 1807 في رشيد حتى عام 1882 أي قرابة ثلاثة أرباع قرن بسبب الجيش المصري القوي الذي بناه محمد علي وكان من أقوى جيوش العالم في ذلك الزمان . فلم يكن هناك حاجز عسكري آخر يمنع تنفيذ الإنجليز لمخططهم الدفين باحتلال مصر ، لا الجيش الفرنسي الذي خرج من السباق في مجال الهيمنة على الشرق العربى أو اوروبا ولا الجيش العثماني الذي بدأ يدخل بقوة في مرحلة الهزال .
    وكان محمد علي منذ تولي الحكم 1805 يضمر في نفسه أنه سيحكم مصر إلى ماشاء الله ، ولن يكون والياً لمدة عام أو اثنين أو أكثر لذلك فكر بشكل منطقي أن الإستقرار في الحكم عماده الأساسي بسط الأمن . وقد رأى بنفسه الأحوال البائسة للقوات العثمانية التي كانت مجرد أخلاط من العناصر المفطورة على التمرد والفوضى يطلق عليها لفظ ( باشبوزق ) أي الجنود غير النظاميين بالإضافة لقوات المماليك المنافسة في الشر أي في السلب والنهب والعمل لحسابها الخاص ، بل وانقسامها هي بدورها إلى حزبين كبيرين متنافسين على النفوذ والسلطان وكان آخرهما ( مراد بك –・ابراهيم بك) ورأينا كيف تعرض محمد علي نفسه لتمرد ضده من كثير من الأرناؤوط (الألبان) والذين من المفترض انه رئيسهم !! ووصل الأمر إلى حد مهاجمة قصره في الأزبكية ومحاولة قتله وكان ذلك عام 1807 –€・كانت تصفية المماليك التي بلغت ذروتها في مذبحة القلعة عام 1811 أحد محاور القضاء على هذه الحالة الأمنية غير المنضبطة وغير المسيطر عليها .
    بعد العودة من حرب الوهابيين في عام 1815 بدأ محمد علي يعمل جدياً لبناء جيش نظامي جديد حين أمر بتدريب فرقة من جنود ابنه إسماعيل باشا على النظام الحديث . ولم يتقبل هؤلاء هذه الفكرة وقام رؤساؤهم بمحاولة جادة للقضاء على محمد علي وأعدوا الخطة ( مرة أخرى ) لاقتحام مقره في الأزبكية . وعندما علم بالمؤامرة تكرر نفس سيناريو تمرد 1807 ، فهرب محمد علي في منتصف الليل من قصره وتحصن في القلعة ، ولكن المتمردين هاجموا قصره بالأزبكية وتبادلوا مع حرسه إطلاق النار ، ولما عجزوا عن الاقتحام عاثوا في الأسواق فساداً سلباً ونهباً واضطر محمد علي إلى تأجيل خططه في بناء جيش نظامي جديد وتعامل مع هذا التمرد بأقصى درجات الحزم ، وعلى خلاف الولاة العثمانيين السابقين ، قرر محمد علي دفع تعويض لجميع التجار الذين نهبت دكاكينهم وعهد بتقدير ذلك إلى السيد محمد المحروقي كبير التجار . ودفعت الحكومة فعلاً التعويضات (والتي قدرها مختار باشا في كتابه التوفيقات الإلهامية بـ 15 ألف جنيه ) . وقبل ان يبدأ في بناء الجيش على أسلوب جديد وكان ذلك عام 1820، وهكذا فهو يتقدم نحو فكرته ببطء وأناة لإدراكه خطورتها ، فقبل أن يبدأ بذلك بدأ بتشتيت الجنود غير النظامية بإخراجهم من العاصمة حتى لا يكون احتشادهم فيها مدعاة لتمردهم وتجديد الفتن ، فوزعهم على الثغور الواقعة على البحر المتوسط كرشيد ودمياط وبعض البلاد القائمة على فرعي النيل ، ولكيلا يشعروا أنه يقصد تشتيتهم أو معاقبتهم أمر أن يرافقهم في معسكراتهم الجديدة بعض أبنائه كطوسون باشا وإسماعيل باشا ، وأمر بإقامة ثكنات في البلاد التي أعدها لإقامتهم . وفي عام 1820 قرر محمد علي فتح مدرسة حربية في أسوان لتخريج ضباط الجيش وقد كان اختياره لأسوان بهدف إبعاد المشروع عن الأنظار قدر الإمكان ، حتى يقف على قدميه وكان لابد من العثور على عسكري أوروبي يدرك أساليب بناء الجيش الحديث ، وهي خبرة لم تكن معروفة في الشرق وقد وجد محمد علي ضالته في ضابط فرنسي من ضباط الأمبراطورية النابليونية وهب نفسه لخدمة مصر وتقدمها ، وهو الكولونيل سيف sevesالذي عرف بعد ذلك بسليمان باشا الفرنساوي .
    وإليه يرجع الفضل في معاونة محمد علي ومؤازرته في تأسيس الجيش المصري على النظام الجديد بحيث صار يضارع أرقى الجيوش الأوروبية ، وبرهن في ميادين القتال على أنه لا يقل عنها دربة وكفاية . وقد وجد بعض الأخوة الرافضين لتجربة محمد علي ( باعتبارها انقلاباً حربياً على الدولة العثمانية !) وجدوا ضالتهم في الكولونيل سيف الفرنساوي كدليل دامغ على عمالة محمد علي للغرب خاصة فرنسا . وأنا شخصياً لا أحب إلا الحقيقة بعد البحث والتدقيق العلمي .
    من هو الكولونيل سيف ( 1787 -1860)؟
    الكولونيل سيف فرنسي الأصل ولد في مدينة ليون الشهيرة 1787 أي كان عمره ثلاثين عاماً عندما تولى هذه المهمة وعنه يقول الرافعي ( كان أبوه صاحب مصنع في المدينة ، ودخل في مهمة البحرية وحضر واقعة الطرف الأغر (التي انتصر فيها الإنجليز على فرنسا ) ثم انتظم في سلك الجيش البري وقاتل في حروب نابليون ، ولما انتهى عهد نابليون قضى على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية وانقطع للتجارة والزراعة ، ثم طلب إلى صديق له وهو الكونت دي سيجور السعي لدى شاه ايران في ان يعهد إليه تنظيم جيشه ، فنصحه بالذهاب إلى مصر ، فجاءها 1819 وقابل محمد علي فأعجب به وعهد إليه تنظيم الجيش المصري على الأساليب الحديثة . وقد اعتنق الإسلام في مصر واختار لنفسه اسم سليمان فصار يعرف بسليمان بك ( ثم باشا) . واشترك في حرب الموره (اليونان ) وهي حرب ضد تمرد مسيحي نصراني وكانت هذه شعاراتها الأساسية وتلقى دعم مختلف الكنائس الأوروبية ( الكاثوليكية في روما –・والأرثوذكسية في موسكو) وهو مايؤكد أن إسلامه كان حقيقياً ، خاصة وأن حرب الجيش المصري في اليونان كانت مظفرة وحررت معظم اليونان ودخلت العاصمة أثينا. وكذلك شارك سليمان في حرب الشام ( الأولى والثانية ) وحرب الأناضول وكان أشبه برئيس الأركان تحت قيادة ابراهيم باشا في كل هذه الحروب ثم عين رئيساً عاماً لرجال الجهادية أي للجيش المصري واحتفظ بهذا المنصب في عهد إبراهيم وعباس إلى سعيد باشا .
    وتتفق رواية عفاف لطفي ( مرجع سابق ) مع هذه الرواية ولكنها تتميز بفارق جوهري وهي نفي مسألة أنه كان ضابطاً برتبة كبيرة في الجيش الفرنسي (كولونيل ) وتؤكد أنه كان مجرد عريف (!) وأنه فصل من الجيش بسبب العصيان ، ولو أنه تم العفو عنه وعاد إلى الجيش وأنه ادعى في مصر أنه (كولونيل) ( ولو قال غير ذلك لما قابله محمد علي ولا عينه كمستشار أول للجيش المصري).
    وتظهر حياته قبل مصر انه كان مغامراً من الطراز الأول أي معارضاً للنظام الفرنسي فقد كان متورطاً في مؤامرة لإنقاذ المارشال ناي من السجن . وعندما فشلت المؤامرة هرب من فرنسا ونزل في مصر بحثاً عن عمل ، كما فعل كثير من مواطنيه ، وتؤكد الرواية الثانية أنه أبعد من أن يكون مبعوثاً من النظام الفرنسي القائم في تلك الآونة . ولكن تتفق الروايتان على سلوكه على أرض مصر وكيف كان مثالاً للجرأة والشجاعة ورباطة الجأش ففي أول تحد له واجه تمرد من المتدربين في الجيش المصري وكانوا ساخطين من أساليب التدريب القاسية فعندما حل موعد التدريب على التصويب (التنشين ) كانت البنادق المصوبة نحو سيف أكثر من تلك المصوبة نحو الهدف . ومن حسن حظ الرجل أن تصويب الرجال كان سيئاً ، ولكن إحدى الطلقات مرت بجوار أذنه ومع ذلك فإن ثباته وشجاعته وصبره على الرجال أكسبته احترامهم ، وقبلوا هم تعليمه بعد ذلك فقد أمر التلاميذ باطلاق النار مرة اخرى . وعندما تمردوا عليه في مناسبة أخرى وهددوه بالقتل ، طلب إليهم أن يبارزوه متعاقبين واحداً تلو الآخر حتى لا يدنسوا أنفسهم بالخيانة والغيلة فكان لهذه الشجاعة والبطولة وسعة الصدر تأثير سحري في نفوس أولئك الفتيان الذين يقدرون الشجاعة حق قدرها ، فتحولوا إلى خاصة أوليائه يحيطونه بإعجابهم وإجلالهم فتمكن سيف من إتمام تعليمهم في مدى ثلاث سنوات . سليمان باشا ارتبط بمصر ولم يذهب إلى فرنسا بعد ذلك ودفن في مصر وله قبر منسق في الحي الذي أقطن فيه (مصر القديمة) وهو محاط بسور حديدي وحديقة في ميدان باسمه وأقمت في هذا الميدان إحدى ندواتي الجماهيرية . أما مايسمى شارع طلعت حرب الآن في وسط القاهرة فقد كنا نعرفه في صبانا وشبابنا باسم شارع سليمان باشا وكان ميدان طلعت حرب اسمه ميدان سليمان باشا وكان هناك تمثال له تم استبدال تمثال لطلعت حرب به . وأنا مع تكريم طلعت حرب بطبيعة الحال ولكن ما كان ذلك ليحدث على حساب سليمان باشا. المهم فإن محمد علي كان حذراً في بناء الجيش وقد عاصر بنفسه كيف فقد السلطان ” سليم الثالث ” عرشه بسبب محاولته تطوير الانكشارية إلى جيش حديث ،  وكذلك كان حذراً من تجنيد المصريين ، وقام بكل المحاولات لبناء الجيش بعيداً عنهم خاصة في القيادة ولكن الزمن (التجربة والخطأ) أقنعه بأنه لامناص من الإعتماد على المصريين ، وأن هذا هو الخيار الأفضل أو الوحيد لبناء قوة عسكرية قادرة لدولته واقتنع بذلك عملياً وتدريجياً بمنتهى البراجماتية ، وهذا افضل بكثير لمصر والإسلام من كل التجارب التي سبقته و التى اعتمدت على مجموعات مستوردة من الخارج!!
    في البداية رأى الإعتماد على الجنود المرتبطين به شخصياً وهم المماليك التابعين له ، فقدم منهم للمدرسة الحربية بأسوان 500 فرد , وطلب من بعض رجاله أن يحذوا حذوه يقدموا من عندهم من المماليك فاجتمع لدى سيف ألف فرد , وكان يتم تدريبهم ليصبحوا النواة الأولى لضباط الجيش . وكان ابراهيم باشا ابن محمد علي والذي كان فعلياً هو نائبه يتواجد أحياناً مع سليمان لمتابعة التدريبات في أسوان ، ولكن من أين يتم إعداد جنود نظاميين ليعملوا تحت إمرة هؤلاء الضباط ؟ أولاً توجه ذهن محمد علي للسودان وكان هذا من دوافع فتح السودان ، وهي نفس العقلية التي تعتمد على الغرباء عن الوطن لبناء الجيش بتصور أنهم سيكونون أكثر انضباطاً وبعيداً عن مشكلات المجتمع ، وهي نفس العقلية التي بنت جيوش المماليك والانكشارية العثمانية ، وكان محمد علي ابن التجربة الأخيرة .. وقد عهد الى ابنه إسماعيل باشا ( قائد حملة السودان ) وصهره الدفتردار وكان معاوناً لإسماعيل أن يرسلا إليه حشداً من السودانيين ، فجاء منهم نحو عشرين ألفاً وأرسلهم إلى بني عدي بالقرب من منفلوط أسيوط ، حيث بدأ تدريبهم على النظام العسكري الحديث على يد الضباط المماليك الذين تخرجوا من المدرسة الحربية بأسوان ، حيث أقيمت لهم هناك ثكنات خاصة ، وحيث أقيم قصر لكتخدا ( نائب ) محمد علي وهو محمد لاظ أوغلي ( الذي يسمى باسمه ميدان لاظ أوغلي بجوار وزارة الداخلية الحالية ) ليتابع بنفسه هذه التدريبات وهذا يكشف الإهتمام المباشر لمحمد علي بمتابعة عملية بناء الجيش ، والتي كانت هكذا تجري في أعماق الصعيد ( أسوان –・بني عدي ) بعيداً عن الأنظار !
    وكان من اسباب التفكير في السودان كمصدر للجنود ان الدولة العثمانية كانت قد حظرت إرسال المماليك إلى مصر ولمنع تطوير قوة عسكرية مصرية خاصة . ومن المفارقات العجيبة أن الجنود السودانيين عانوا من مشكلات عجيبة ، من عدم التوافق مع المناخ المصري ( رغم أنه في الصعيد أقرب لمناخ السودان وأخف حرارة ) وربما عدم التوافق المجتمعي وعدم تقبل التدريبات الصارمة ، فتعرضوا لنسبة عالية من الوفيات . وهذه الظاهرة كانت معروفة بين المماليك المستجلبين من أواسط آسيا وكان يتم التغلب عليها باستجلاب أعداد إضافية مع تراجع هذه الظاهرة بين الأجيال الأقدم . كذلك عرف المماليك تراجعا في معدل الخصوبة وهي ظاهرة مهمة تستحق الدراسة من الناحية الاجتماعية عندما ينقل الناس قسراً من بيئة لبيئة مختلفة فالانسان كالنبات يعتاد على بيئة معينة ومناخ وتربة معينة .
    ولكن ظلت نسبة من السودانيين متواجدة دائماً في الجيش المصري ، وحاول محمد علي بصورة يائسة أخيرة الإعتماد على كتائب من عناصر مجلوبة من الخارج وكانت محاولة فاشلة جديدة فلم يعد هناك بد مما ليس منه بد ، فلنبني الجيش المصري من المصريين !!
    وقد أدى هذا عملياً إلى قفزة هائلة في الإستقرار الأمني الداخلي ، رغم أن ذلك لم يكن الهدف الأول ، بل كان الهدف الأول بناء جيش قوي للدفاع عن البلاد ثم التوسع الإمبراطوري في إطار أحلام محمد علي . ولكن وجود هذا الجيش أدى إلى الإستغناء عن الأخلاط العثمانية الأرناؤوطية وغيرها والتي كانت قد تحولت إلى حثالة من المرتزقة تهدد الأمن الداخلي دوماً وتعتدي على الأهلين وممتلكاتهم وطرق التجارة الداخلية وكذلك انتهت الظاهرة المملوكية للأبد بعد مذبحة القلعة 1811 ولم يتم تجديدها بعناصر جديدة .

>

                                                     - 17 -

ابراهيم باشا يطالب بترقية المصريين بالجيش لرتبة البكباشي

خبراء اجانب يؤكدون حديث الرسول عن خيرأجناد الأرض
قوات الجيش تجاوزت الربع مليون وانتشرت في كل المشرق
محمد علي فرض تعليم الطب والهندسة باللغة العربية ..اين نحن الآن ؟!

وصلنا إلى أن محمد علي قد توصل بصورة إجبارية إلى ضرورة الاستعانة بالفلاحين المصريين لبناء جيش قوي ومن الواضح أن ذلك لم يكن رغبة دفينة لديه وهو لم يتحول سريعا إلى وطني مصري متطرف ، وان كنا نقر بمصريته وفقاً للنظرية التي نلح عليها ، أن كل من أقام في مصر واستوطن فيها فهو مصري . ولكن الجيش ليس لعبة، إنه العمود الفقري للنظام وهو درع الدفاع عن الدولة ، وهو عدة التوسع الإمبراطوري ! فلابد أن يكون الحاكم مطمئناً تماماً إلى أنه طيع في يده وتحت السيطرة تماماً ، ولذلك فكر محمد علي في كل الحلول الأخرى وعندما فشلت لم يعد أمامه إلا طريق إجباري واحد وهو بناء الجيش من المصريين .
 
وهنا يذكر له شيئان
1- أنه خلص البلاد من الأخلاط والأوباش الذين كان لن يعدم وسيلة من جمعهم من هنا وهناك ، ولكنه بذكائه أدرك أن هذه العناصر تسبب زعزعة لاستقرار المجتمع ومن ثم استقرار الحكم .
2- الشئ الثاني والأهم أن هذا هو السبيل لبناء جيش مصري قومي يزود عن البلاد ويحمي أمنها ، خاصة أن مصر مطمع لكل غزاة العالم ، فهي أحوج الأمم لجيش قوي . مرة أخرى لم يكن هذا نابعاً من وطنية مصرية متطرفة ولكنها حسابات رئيس دولة طموح ونحن نفضل أن تكون حسابات الحاكم رشيدة ، بغض النظر عن النوايا ، فالنتيجة لمصلحة البلاد وهذا ما يهمنا ، لذلك من المؤسف أن نجد من يكتب في التاريخ ( ولانقول مؤرخين ) يولولون على مافعله محمد علي في تجنيد المصريين وكيف لجأ إلى أساليب شديدة لتنفيذ ذلك ، وكيف كان هذا هو سبب هروب الفلاحين وتدهور الزراعة ! وقد برهنا بالأرقام أن الزراعة لم تتدهور في عهد محمد علي والذي يقول ذلك يجهل ابسط المعلومات المثبوتة تاريخياً من مختلف الأطراف وقد أشرنا لذلك . أما إن المصريين جزعوا من ذلك فلا شك ان هذا حدث ولكن هذا الأمر لا نلوم عليه محمد علي ، فأي شعب لم يتعود على التجنيد سيجزع منه في البداية ، وبالفعل هرب بعض الفلاحين بسبب ذلك ولكنها ظاهرة لم تستمر ولم تكن واسعة وفي هذا لا يلام محمد علي في قرار بناء جيش مصر بالمصريين!!
 
وسنتحدث عن ابنه ابراهيم باشا ، وسنوضح انه كان مختلفاً عن والده وأنه كان مصرياً صميماً يحب المصريين وينحاز لهم وهو تربى وعاش منذ الصغر في مصر ولا يعرف غيرها ( وقد كان ابراهيم باشا قائد الجيش المصري في أغلب الأحيان). كان محمد علي براجماتيا يحسبها كصاحب عزبة أما ابراهيم فقد تطورت عواطفه ليكون مصرياً بالمعنى الدقيق للكلمة.
صدر أمر للعمد والمشايخ لتجنيد الشباب صحاح الجسد ، ومنذ البداية كانت التوجيهات تحاول عدم التأثير على الإنتاج الزراعي ، فهناك فلاحون غير مشتغلين في الزراعة لأي سبب كان يتم التركيز على تجنيدهم ، ثم صدر قرار بالتجنيد الإجباري 1822 . وقد قامت تمردات شعبية ضد التجنيد كان أشهرها خلال أعوام 1821 ,1822 ,1823 في المنوفية وفي المنطقة من قنا إلى أسوان . كانت الأسر تشعر أن ابنها ينتزع منها للجيش وكأنه ذاهب إلى المجهول ، وكأنهم لن يروه مرة أخرى خاصة وأن أنباء الحروب بدأت تتوالى من الحجاز إلى السودان إلى الموره (اليونان )، كما أن التجنيد الإجباري بدأ يمس العاملين في الزراعة فعلاً ، فالأبناء أيدي عاملة للآباء ، ووصل الرفض والرعب معاً إلى تقليد غريب وهو إحداث عاهات في الأبناء حتى لايصلحوا للتجنيد كقطع السبابة ، ووضع سم الفئران في العين لإحداث عمى مؤقت ، وكانت الأمهات تساعد الأبناء في ذلك ! وقام محمد علي برد فعل مبتكر لمنع هذه الظاهرة إذ أمر بتجنيد المعوقين وتشكيل أورطة خاصة بهم ! حتى يدركوا أن إحداث العاهات لن يعفيهم من التجنيد فيتوقفوا عن ذلك ! ومع ذلك فقد أمر محمد علي بأمر كتابي ابراهيم باشا بعدم اللجوء لوسائل عنيفة للإمساك بالفلاحين ونصح بالاعتدال وأن يحاول تجنيد الرجال بإقناعهم بميزة حياة الجندي ( معية تركية –・وثيقة رسمية ) وأضاف { أنه لامناص من أن يكون التجنيد كريهاً بالنسبة للفلاح على الرغم من أنه ينفذ من أجل نصرة الإسلام وأنه يجب أن تكون وجهة النظر هذه هي المدخل للفلاح ، من خلال علماء القرية والوعاظ } وفي ذلك كتب أحد علماء الأزهر وهو الشيخ خليل الرجبي بإيعاز من شيخ الأزهر ( العروسي) ولاشك أنه بتوجيه حكومي –・كتب كتيباً من سبعة فصول تضمن مدح الجندية وحوى إقتباسات من القرآن الكريم ومن أقوال الرسول للتدليل على أن الجندي الذي يموت في المعركة يذهب إلى الجنة ( مخطوط بجامعة الدول العربية ) ونقول لكتاب التاريخ الذين يحبون فرنسا والثورة الفرنسية أن فرنسا قبل وبعد نابليون كانت تعاقب على التهرب من التجنيد بالكي والإعدام بل كانت العقوبات تشمل كل عائلة المتهرب ( الأب –・الأم –・الأخوة –・الأصهار ) وكل الذي يأوى المتهرب في بيته ، ثم امتدت العقوبة لتشمل الناحية بأكملها !! ولكن تدريجياً عندما بدأ المجندون يزورون أهاليهم وجدوا أنهم يرتدون ملابس جيدة ويتحدثون عن معاملة محترمة وأكل جيد في الثكنات، بدأت المعارضة العنيفة للتجنيد تتراجع رويداً رويداً والمستشار طارق البشري المؤرخ المحترم والأبرز في التاريخ الحديث ، وقد جاء بعد عبد الرحمن الرافعي وقدم إضافات جوهرية وغطى مرحلة زمنية مختلفة وفي مجالات نوعية ، كان له تقدير عال لمحمد علي ويصفه بأنه أعظم شخصية في القرن التاسع عشر وكانت له قرارات جوهرية غيرت مجرى أحوال مصر والمنطقة ، ومن ذلك بناء الجيش المصري الحديث وأن تدريبات هذا الجيش وسفر الجنود إلى مناطق الحدود وما بعدها رفع من مستوى أفراد الشعب من الناحية الثقافية ، ويشير البشري إلى اهتمام محمد علي برفاهية الجنود من الناحية الغذائية , حيث أمر ( أن يأكلوا أرزاً مفلفلاً ولحماً محمراً 3 مرات في الأسبوع ، في مجتمع لا يأكل اللحوم إلا في المواسم ) . حديث فى برنامج وثائقى .
وبدأ المواطن يلحظ في الجندية ملابس نظيفة ومحترمة ، حتى بدأت الجندية تصبح محبوبة ، وتصبح شرفاً ووطنية ترتبط بالعلم والنشيد ، ومن الأمور اللافتة للنظر أن المسيحيين كانوا يجندون في الجيش ، وصدرت أوامر باحترام اولئك الذين يعملون منهم في ترسانة الإسكندرية متضمنة إعفاءهم من “الفردة ” و” الجزية ” وهو قرار يؤكد أن الجزية ظلت سارية في عهد محمد علي . وقد تم الغاؤها رسمياً في عهد ابنه سعيد في مقابل تعميم تجنيدهم بالجيش ، وهذا موقف لابد أن علماء شاركوا في اتخاذه ، لأن الجزية من أحد أهم زوايا إقرارها أن المسلمين يدافعون عن أهل الذمة ولا يكلفونهم بالحرب ، وبالتالي فإنها ترفع في حالة اشتراكهم في الحرب . وكان المسيحيون قد شاركوا في محاربة الفرنسيين والإنجليز ( في حملة فريزر ذكرنا ذلك ) , في حين يركز البعض على قصة يعقوب الخائن النصراني الذي تعاون مع نابليون حتى أخذته القوات الفرنسية ونفر قليل معه اثناء إنسحابهم من مصر.
كان محمد علي يتابع تدريبات الجيش المصري الجديد وعندما علم أن تصويب ( تنشين ) الرجال كان سيئاً أمر جميع المجندين بأن يقرأوا سورة الفاتحة حتى تشملهم البركة قبل أن يبدأوا تدريبات التصويب وكان على ثقة من أن ذلك سيحسن من تصويبهم ( وثيقة رسمية –・معية تركية 10) ويظهر انحياز ابراهيم باشا للمصريين في سجالاته المكتوبة مع والده . فبينما لم يكن مسموحاً في البداية للمصري أن يرقى إلى مرتبة أعلى من ملازم أول ، على اساس قاعدة إجادة القراءة والكتابة ولم تكن في صالح المصريين ، ولكن ابراهيم اشتكى من المستوى العسكري المتدني للضباط المماليك .
وخلال حرب الشام أجبر ابراهيم والده على الموافقة على ترقية المصريين إلى رتبة اليوزباشي ( النقيب) بسبب حاجات الحرب ومقتل ضباط مماليك ، وظل ابراهيم يضغط لإقناع والده بأن المصريين ليسوا جنوداً أكفاء فحسب بل يمكنهم أن يكونوا ضباطاً أفضل من الأتراك وأخذ يرسل رسائل من الشام توضح ذلك بوقائع عملية ، وهذا نص كلام ابراهيم باشا قائد الجيش والذي يوضح حقيقة شخصيته ، وقد كان مستقلاً في تفكيره ولكن يحترم والده وقراراته بدقة كقائد أعلى للبلاد ، فقال له في إحدى الرسائل إنه مندهش لرفضه ترقية المصريين إلى الرتب الأعلى في سلك الضباط وقد أظهروا{ ( فرط الشجاعة ويزداد حبهم لنا كلما ارتفعوا في الرتب ، فما الذي يمنعك إذاً ياصاحب السمو من تعيين عدد منهم في رتبة المقدم ( البكباشي )} وأضاف : {بعد عشرين سنة من الخبرة أستطيع أن أقول : إنه إذا كان هناك ثلاثمائة مخلصون من بين كل ألف من الأتراك (هو هنا    يقصد المماليك) فإن هناك سبعمائة مخلصين من بين كل ألف عربي (هوهنا يقصد المصري) صدقني لأنني أكثر الصادقين من بين أبناء صاحب السمو وأخلصهم له ، كما أنني أتحدث بصراحة لأنني تربيت منذ شبابي بطريقة عسكرية خالصة ، وفي يقيني أن اسأل صراحة لماذا لا ترقى العرب (المصريين) ؟ في المقابل فإن محمد علي من حيث النشأة والحسابات عثماني الهوى (مرة أخرى هو لم يكن تركياً ولم يترب في تركيا) لذلك عندما أسس مطبعة بولاق الجديدة كانت تركز في انتاجها على طباعة الكتب العثمانية ، وليس كتب الغرب كما يدعي أعداء محمد علي ( من كتاب التاريخ) أما كتب الغرب في المرحلة الأخيرة فكانت بالأساس الكتب العلمية والدراسية، العلمية في الطب والهندسة ومختلف فروع العلوم الطبيعية . أما إبراهيم فكان يكره هويته العثمانية ولم يكن لديه اختيارسوى أن يختار هويته ” المصرية ” الجديدة وأن يلح على الإعتراف بفضائلها ، ولكن محمد علي لم يستجب له في اقتراح ترقية المصريين إلى رتبة مقدم (بكباشي) وإن تحقق ذلك في عهد ابنه سعيد ولكن مع ذلك فإن المصريين سرعان ماحلوا في عهد محمد علي / إبراهيم في معظم الرتب الدنيا محل الضباط الأتراك ، وتم اشراك ألفين مصري في سلاح المدفعية.
 
ومع بداية 1823 أصبح بالجيش المصري ست أورطات بقيادة ضباط المماليك المتخرجين من أسوان ، وأصبح تدريب الجنود في معسكر جهاد أباد بالخانكة وكان يحتوي بشكل دائم من 20 إلى 25 ألف من الجنود النظاميين . وفي أبي زعبل القريبة تم انشاء المستشفى العسكري الأولى ثم مدرسة الطب ( وكانت في البداية أساساً لخدمة الجيش) ثم أنشئت المدرسة الحربية للمشاه ومدرسة أركان الحرب في الخانكة . ويؤكد عدد من المؤرخين أن موقف الشعب من التجنيد اختلف فعلاً مع الوقت ، فيقول بورنج مثلاً (إن الفلاح أقلم نفسه على حياة الجيش التي كان يجد فيها مستوى أفضل من الطعام والملبس ومن ثم فقد كان الهروب من الخدمة العسكرية منخفضاً ) ويقول المسيو مورييه ( ولما انتظم الفلاحون في صفوف الجيش النظامي ألفوا بسرعة حياتهم الجديدة ، وبعد أن كانوا معتادين الذل والمسكنة في قراهم استشعروا تحت راية الجيش بكرامتهم الإنسانية ، وكانوا يقابلون غطرسة الترك بمثلها) .
 
وتعددت المدارس الحربية فبعد مدرسة أسوان وأخرى في فرشوط ، تم تأسيس مدرسة في النخيلة وأخرى في جرجا ، وأنشئت مدرسة إعدادية للتعليم الحربي وكانت تخرج التلاميذ للمدارس الحربية والبحرية والمدارس العالية الأخرى ، ونقلت لأبي زعبل وتم تحول القصر العيني لمدرسة الطب (ولاتزال حتى الآن ).
وفي عام 1834 بلغ عدد تلاميذ مدرسة القصر العيني 1200 تلميذ وكان بها مكتبة طبية يوجد بها 15 ألف مجلد ! وكانت مدرسة المشاه في الخانكة ونقلت إلى دمياط ثم عادت إلى أبي زعبل . وتم تأسيس مدرسة السلاح لفرسان ( الخيالة) في الجيزة وكان التدريس باللغتين التركية والعربية وهي تخرج الضباط وكان فيها مصريون وأتراك وفي هذا الإطار التخصصي لتأسيس جيش نظامي حديث تم انشاء مدرسة للمدفعية (الطوبجية) في طره.

وكانت تدرس باللغتين العربية والتركية والحساب والجبر والهندسة والميكانيكا والرسم والاستحكامات ودقة التصويب بالمدافع ( وقد ظهر اثر ذلك في الحروب) وكان بها مستشفى خاص والأهم في كل ذلك إن هذه المدارس بدأت بالاستعانة بمدربين أوروبيين خاصة من فرنسا ولكن قامت الخطة على ارسال بعثات من الشباب المصري لأوروبا لتعلم هذه العلوم والعودة لتولي الدراسة في هذه المدارس الحربية والاستغناء عن الأجانب . وكانت معظم البعثات التي أوفدها محمد علي إلى أوروبا كانت في مجال الفنون الحربية وما يتصل بها من الهندسة والرياضيات ، ويصر كارهو محمد علي على أن يعتبروا هذه البعثات علامة دامغة على التغريب والعلمنة !!

  • شهادات عن الجندي المصري والجيش المصري :
    خلال فترة قصيرة ، بل في أقل من عقد من الزمان أصبح الجيش المصري يضارع أرقى الجيوش الأوروبية في الدربة والكفاية والشجاعة وهو مابرهنت عليه المعارك التي خاضها في ميادين القتال ، ويقول سليمان الفرنساوي الذي اشرنا اليه كأهم مدرب للجيش المصري : ( إن المصريين هم خير من رأيتهم من الجنود فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجلد على المتاعب مع انشراح النفس وتوطينها على احتمال صنوف الحرمان ، وهم بقليل من الخبز يسيرون طول النهار يحدوهم الشدو والغناء ولقد رأيتهم في معركة قونية (بالأناضول ) يبقون سبع ساعات متوالية في خط النار محتفظين بشجاعة ورباطة الجأش تدعوان إلى الإعجاب دون أن تختل صفوفهم أو يسري إليهم الملل أو يبدو منهم تقصير في واجباتهم وحركاتهم الحربية ) . ويقول كلوت بك في كتابه ( مرجع سابق ): ( ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خيرة الجنود ) ( هل قرأ كلوت بك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن مصر  بها خير أجناد الأرض ؟ غالباً لم يقرأها ولكنها ملاحظة متكررة للخبراء الدوليين وهو مايؤكد إعجاز أحاديث الرسول ) لأنهم على الجملة يمتازون بقوة الأجسام وتناسب الأعضاء والقدرة على العمل ، واحتمال المشاق ، ومن أخص مزاياهم العسكرية وصفاتهم الحربية الإمتثال للأوامر والشجاعة والثبات عند الخطر ، والتذرع بالصبر في مقابلة الخطوب والمحن ، والإقدام على المخاطر والاتجاه إلى خط النار بلا وجل أو تردد ) وذكر كلوت بك العديد من قصص بطولات فردية وجماعية للجنود المصريين بالأخص في القتال مع الجيش العثماني في الأناضول والشام . ويؤكد المارشال مارمون في كتابه أنه مع عام 1834 انفتح الطريق بصورة أكبر أمام ترقي المصريين في المناصب العسكرية ، وتحدث بإعجاب عن أداء الجيش المصري في مختلف التخصصات ، رغم أن بعض الوحدات لم تشكل إلا منذ عشرة شهور ( كالفرسان) وتحدث بشكل خاص عن دقة تصويب سلاح المدفعية وقال إنه يضارع الجيوش الأوروبية .
  • القلاع والاستحكامات :
    قام محمد علي بجهد ضخم في إقامة منظومة كبيرة من القلاع والاستحكامات للدفاع عن ثغور البلاد والعاصمة وبدأ باصلاح قلعة صلاح الدين بالقاهرة وبني على مقربة منها على ذروة المقطم قلعة جديدة ( محمد علي )، وفي نهاية عهده توجد وثيقة رسمية تشرح العدد الاجمالي لهذه الحصون التي تم تطويرها أو بناؤها .
    25 حصن بالإسكندرية بعضها لايزال موجوداً حتى الآن  -7 حصون في أبي قير -9 حصون في رشيد –・قلعة البرلس –・3 حصون في دمياط ، والمجموع 45 حصن وقلعة وطابية وكل واحدة مجهزة بالمدافع والهاونات والجبخانات ، تصل إلى 117 مدفعاً في قلعة قايتباي وإلى أعداد أقل من ذلك في باقي الحصون والقلاع حسب الأهمية الجغرافية .
  • في اوائل حكم محمد علي كان تعداد الجيش 20 ألف جميعهم من الجنود غير النظاميين (باشبوزق ) ووصلت القوات البرية وحدها إلى 169 ألف جندي ومع البحارة وعمال الترسانات البحرية يصل العدد إلى 194 ألف جندي وذلك عام 1833 . وارتفع عدد القوات البرية إلى قرابة 236 ألف جندي عام 1839 ، وهذا يشمل القوات النظامية وغير النظامية ، وهذا عدد مهول في بلد لايصل عدد سكانه إلى 5  ملايين إلا بالكاد . وقد وصل انتشار الجيش المصري إلى مصر والشام والسودان والحجاز واليمن والأناضول ( أي معظم تركيا) وباقي الجزيرة العربية ( نجد) حتى الدرعية –・جزيرة كريت –・والشام كانت تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومنها القدس وكان يتمركز بها الآلاي الخامس والعشرون ويضم 1755 جندياً من المشاه ، وكانت المدينة المنورة تضم قوة عسكرية غير نظامية مجموعها أكثر من 8 آلاف جندي وضابط .
    ولا يدخل في هذا الحساب القوات الرديفة ( الاحتياطي ) الجاهزة في أي وقت عند الضرورة من قبائل العربان في مصر كقبائل أولاد علي والزوفة والهوارة والعبابدة…إلخ
    وكنا قد تحدثنا عن الأسطول المصري عند حديثنا عن الصناعة .

  • التعليم والبعثات العلمية :
    مهما قلبت في المراجع أظل أعود لعبد الرحمن الرافعي ليس لما لديه من معلومات فحسب بل لأرائه السديدة التي أتفق معه فيها . وعن التعليم يقول : (عني محمد علي بنشر التعليم على اختلاف درجاته من عال وثانوي وابتدائي ، وقد عني أولاً بتأسيس المدارس العليا وإيفاد البعثات ثم وجه نظره إلى التعليم الابتدائي ونعم مافعل لأن الأمم تنهض أولاً بالتعليم العالي الذي هو أساس النهضة العلمية . وقد أراد بادئ الأمر أن يُكون طبقة من المتعلمين تعليماً عالياً يستعين بهم في القيام بأعمال الحكومة والعمران في البلاد ، ثم في نشر التعليم بين طبقات الشعب ، وقد ساعد على تكوين طبقة تعلمت تعليماً عالياً قبل انشاء المدارس الابتدائية والثانوية أن الأزهر كفل إمداد المدارس العالية والبعثات بالشبان المتعلمين الذين حازوا من الثقافة قسطاً يؤهلهم لتفهم دروس المدارس العليا في مصر واوروبا ، فكان الأزهر خير عضد للتعليم العالي ).
     
    وقد أشرنا من قبل إلى أنه بدأ بمدرسة الهندسة عندما كنا نتكلم عن الصناعة ، وكان ذلك عام 1816 وقد سجل الجبرتي هذه الإنطلاقة. بل من فرط اهتمام محمد علي فقد انشأ هذه المدرسة في عقر داره بحوش السراية ( القلعة ) واستعان بمعلم مصري وآخر تركي وأحضر لهم آلات الهندسة من انتاج الانجليز ورتب لهم شهريات وكساوي في السنة ( ويابخت من تعلم في عهد محمد علي حيث كان التلميذ يحصل على أكل وكساوي ومصروف جيب وهذا في كل مستويات التعليم ) وكان التعليم مجانياً ، وكان الفقير من التلاميذ يحصل على الكسوة مبكراً حتى يتجمل بها بين أقرانه ، وكان باب الاعانات مفتوحاً لمن يحتاج ، وكانت توفر لهم الحمير لتساعدهم في طلوع ونزول القلعة ، وكانت الحكومة تشتري لهم الحمير ، أي مواصلات مجانية. وفي عام 1834 تم تأسيس مدرسة أخرى للمهندسخانة في بولاق وترأس هذه المدرسة العائدون من البعثات من الخارج أي كانوا مصريين ، وقد خرجت هذه المدرسة أهم المهندسين المصريين .
     
    وأشرنا من قبل لتأسيس مدرسة الطب بأبي زعبل لوجود المستشفى العسكري بها وكان الغرض في البداية تخريج اطباء مصريين للجيش ثم امتدت الاستفادة من الاطباء لعموم البلاد وكان تلاميذ المدرسة من طلبة الأزهر وتولاها كلوت بك ودرست فيها علوم التشريح والجراحة والأمراض الباطنية وعلم الصحة والصيدلة والطب الشرعي والطبيعة والكيمياء والنبات ، وكان من المقرر جعل التعليم باللغة العربية ولكن الأساتذة الفرنسيون كانوا يجهلون تلك اللغة ، فاختير لهم مترجمون يجيدون اللغتين الفرنسية والعربية لمساعدتهم في ترجمة محاضراتهم للتلاميذ إلى العربية .
     
    وهنا لابد من وقفة فقد تميز التعليم في عهد محمد علي بأنه بالعربية في كافة التخصصات العلمية ( هندسة –・طب –・صيدلة…الخ ) بينما الآن بعد 62 عاماً من الاستقلال فإن التعليم في العلوم الطبيعية : هندسة – طب –・صيدلة…الخ باللغة الانجليزية،  بل أصبحت هناك كليات نظرية باللغة الانجليزية أو الفرنسية في جامعات الدولة .
  • الدولة العربية التي أعرف أنها تدرس باللغة العربية حتى الآن هي سوريا في عهد البعث –・حافظ –  بشار الأسد ( اعني العلوم الطبيعية ).
     
    وألحق بالمستشفى حديقة للنبات التي تستخرج منها العقاقير وكانت نواة لكلية الصيدلة ، وتم اتباع أسلوب تعيين المعيدين من المتفوقين في كلية الطب وتم ارسال بعضهم الي باريس لاتقان علومهم وإتمامها ، وعادوا ليعينوا أساتذة في المدرسة .
    وفي عام 1837 تم نقل الكلية والمستشفى الى القصر العيني ولا تزال موجودة حتى الآن .
    وكما لاحظنا انبثقت كلية الصيدلة من الطب ثم مدرسة للقابلات والولادة ثم اختيار سودانيات وحبشيات للتعليم فيها.
    وقد تمت الاستعانة بكلوت بك ليس في مدرسة الطب فحسب بل كانت له العديد من المؤلفات الطبية تمت ترجمتها للعربية ، وأسس مجلساً للصحة على مستوى البلاد ، وعني بتنظيم المستشفيات وانشأ مجلسا صحيا بالاسكندرية . وهو الذي أشار بإستعمال تطعيم الجدري لهذا المرض الذي كان يودي بحياة نحو 60 الف طفل سنوياً ولعب دوراً مهماً في مقاومة وباء الكوليرا عام 1830 وهذا سبب حصوله على البكوية ، وكذلك مقاومة الطاعون عام 1835 .
    وعلى مدار الثلاثينيات من القرن التاسع عشر تم تأسيس مدرسة المعادن بمصر القديمة ،والمحاسبة في السيدة زينب ، والفنون والصنائع ، ومدرسة أخرى للصيدلة في القلعة ومدرسة الزراعة بنبروه ( الدقهلية حالياً ) ثم نقلت إلى شبرا –・ومدرسة الطب البيطري في رشيد ثم انتقلت لشبرا –・المدرسة الثانوية بأبي زعبل ثم نقلت للأزبكية ، والمدرسة الثانوية بالاسكندرية.
    ومع اتساع المدارس تم تأسيس ديوان المدارس ( وزارة المعارف العمومية )
    وكانت قيادتها من العائدين من البعثات للخارج . وقرر الديوان تأسيس خمسين مدرسة ابتدائية تغطي مختلف المديريات منهم 4 فقط بالقاهرة وواحدة بالاسكندرية ، أي لم يحدث تحيز للعاصمة في مقابل أقاليم الأرياف وأنشئت هذه المدارس الإبتدائية لأول مرة في مصر عام 1837 .
     
    كان كل التعليم مجانياً والحكومة –・كما ذكرنا –・تنفق على التلاميذ من مسكن وغذاء وملبس وكانت هناك أقسام داخلية لمبيت ومعيشة التلاميذ ) وتجري على كثير منهم الأرزاق والمرتبات . وكان الأهالي ايضاً نافرين من التعليم الذي سيأخذ أولادهم للأقسام الداخلية ، غالباً بسبب بعد المدرسة عن مكان الإقامة . كما كانوا نافرين من التجنيد !!
    حتى لقد لجأت الحكومة في البداية إلى استخدام القوة لإدخال التلاميذ للمدارس !!
    ولكن مالبث الأهلون أن رأوا ثمرات التعليم فكفوا عن المعارضة في تعليم أبنائهم في المدارس وأقبلوا عليها بأكثر من الأماكن المتوفرة فلم يكن من الممكن قبول كل الراغبين . وقد كتبت تفاصيل مسلية عن أنواع الأكل المطبوخ الذي كان يأكله التلاميذ ومقادير مصروف الجيب لكل مرحلة ، حيث قررت الحكومة عدم اشغال التلاميذ بالطبخ حتى يتفرغوا للدراسة والمذاكرة وتم تعيين طباخين للقيام بذلك . ( مدونات ثورية لشعب مصر –€・دار الفكر العربى –・القاهرة –・الطبعة الأولى –・2011 –€・مجدى حسين )

ولكن كيف تم تنظيم البعثات العلمية للخارج ؟, وهل عاد التلاميذ منها متفرنسين متفرنجين متعلمنين كما يقول البعض ، الذين لايدركون أهمية هذه البعثات ولا يقترحون علينا أسلوباً آخر للحصول على المعرفة العلمية والتكنولوجية التي امتلكها الغرب دون الأمة الاسلامية ، وماذا كانت تفعل الدولة العثمانية والمماليك في سد هذه الفجوة واللحاق بالغرب ؟ وهذا مايهمني ، ولهذا أرفض إهالة التراب على هذه المبادرة وعلى رفاعة رافع الطهطاوي الذي تم تحميله كل تبعات التغريب الذي حدث في عهود أخرى تالية !!

>

                                                                 - 18 -

بعثات محمد علي كانت للعلوم الطبيعية ويتهمونه بالتغريب !
4% فقط من البعثات كانت في علوم القانون والادارة والسياسة!
النهضة العلمية والتعليمية اعتمدت على خريجي الأزهر
كيف حول رفاعة الطهطاوي مدرسة الألسن إلى جامعة متكاملة ؟

 
كان إرسال البعثات العلمية للخارج وفق خطة مرتبة تماماَ في ذهن محمد علي ، ويتضح هذا بصورة كبيرة عندما ننشر إحصاءاً دقيقاً بالتخصصات التي ذهبوا للتعلم فيها . وكما رأينا رؤيته في الصناعة حيث كان يقول طالما أن الأوروبيين يحذقون الصناعة فلماذا لايبرع المصريون فيها مثلهم ، فنحن لسنا أقل منهم . وهذه هي الروح التي تنهض بها الأمم . إن جوهر هزيمتنا الآن في آواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين أننا فقدنا الثقة في أنفسنا ونرى أن ” الخواجة ” يفهم في كل شئ ويبرع في كل شئ أما نحن فقد جبلنا على الذكاء المحدود وقلة الحيلة ، ولامناص من الاعتماد عليهم أبداً . الفكرة من البعثات هي إدراك حجم الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين الغرب ، وضرورة سدها بأسلوب يرتكز على الإعتماد على النفس فنحن الآن نسد هذه الفجوة باستيراد المنتج النهائي أو مصنع كامل التقفيل ( تسليم مفتاح ) وبالتالي نظل تابعين ، ولانصل حتى للولد ” بلية” الذي يتشرب الصنعة من الأسطى ، فيتحول بعد عشر سنوات أو أقل أو أكثر إلى ” أسطى ” ويستطيع أن يفتح ورشة مستقلة . وما فعله محمد علي فعلته سائر الأمم الرشيدة فاليونان جاءوا للتعلم في جامعة عين الشمس في عهد مصر القديمة ، والعلماء جاءوا يتعلموا في جامعة الإسكندرية في العهد الروماني ، والأوروبيون أرسلوا البعثات وأرسل الملوك أبناءهم للتعلم في جامعات الأندلس وفي العصر الحديث أرسل اليابانيون أبناءهم للتعلم في أوروبا وأرسلوا بعثة لدراسة تجربة محمد علي !! وماليزيا اعتمدت في نهضتها الحديثة على التعلم من تجربة اليابان ، والصين أرسلت طلابها للتعلم لدى أمريكا الإمبريالية . وقد يقال إننا نفعل هنا في مصر منذ عشرات السنين ( خلال الستين عاماً الماضية ) ولم يتحقق أي تقدم ملحوظ وهذا صحيح ولكن لماذا ؟ نحن نرسل بعض المعيدين أو المتفوقين في الدراسة للحصول على الدكتوراه من أمريكا وكندا وبعض دول أوروبا خاصة فرنسا وإنجلترا فلم يزدنا ذلك إلا تغريباً ولم يزدنا ذلك إلا تبعية وجهلاً !! وقد كان عدد متعاظم من الوزراء في عهد مبارك من أساتذة الجامعات العائدين من أوروبا وأمريكا وكندا بل والحاصلين على جنسيات هذه الدول حتى لقد قيل عن حكومة نظيف أنها كندية !! والحقيقة أن نظام البعثات كان عشوائياً وفردياً بالأساس فإما أن يحصل الطالب على منحة بوسائل خاصة أو يسافر للتعليم على حسابه , أو ترسله جامعته دون خطة محددة للحصول على دكتوراه في تخصصه .  إذا لم تكن هناك خطة لربط هؤلاء المبعوثين بخطة تنمية لدى عودتهم بل أن هؤلاء جميعاً يعودون ليدرسوا في الجامعات كأكاديميين ولايرتبطون بأي مشروعات إنتاجية صناعية أو زراعية ولا بأي خطة بحث علمية لإفادة التنمية وحل مشكلات المجتمع المصري ، وحتى الذين يبرعون في تخصصاتهم ويريدون أن يؤسسوا مشروعات طموحة علمية –・انتاجية يرون أنهم يسيرون في طريق مسدود ، فيرون أن الأكثر جدوى لهم أن يعودوا من حيث أتوا ويستوطنوا في بلاد الغرب . وكذلك فإن إرسال المبعوثين بصورة فردية كان في كافة التخصصات النظرية والعملية ، في العلوم الإجتماعية والطبيعية على السواء ، في حين سنرى أن محمد علي ركز بنسبة 90% أو أكثر على العلوم الطبيعية والتطبيقية وهكذا تحولت جامعاتنا منذ الستينيات حتى الآن إلى نسخ باهتة ومترجمة بشكل ردئ على الأغلب من مناهج الجامعات الغربية في الآداب بكل فروعها : الفلسفة –・التاريخ –・الجغرافيا –・الإجتماع .. والحقوق والتجارة والسياسة والإقتصاد وسائر الكليات النظرية . بعض الأساتذه العائدين من المعسكر الشيوعي قد يضعون بعض البصمات ، ولكن هذا كان قليلاً جداً وربما غير ملحوظ ، فقد كان الاتجاه الغالب هو المدارس الغربية الرأسمالية ، وأنا أتحدث عما لمسته بنفسي في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين ، ولاشك ان هذا التوجه زاد ، فعلاقاتنا انهارت مع الاتحاد السوفيتي بل انهار الإتحاد السوفيتي وانهارت الشيوعية ذات نفسها ! أعتقد أن فترة البعوث للإتحاد السوفيتي لم تكن بأعداد كبيرة ، لأن عبد الناصر كان يخشى من تغلغل الشيوعية ولم تستقر العلاقة مع الاتحاد السوفيتي إلا لفترة قصيرة من 1964 حتى 1970 عام وفاته وكان المبعوثون في المعسكر الإشتراكي كما لاحظت في المجالات العلمية والتطبيقية . كانت الناصرية (كاتجاه قومي ) عاجزة عن صياغة منهج تعليمي قومي في الجامعات لضعف الأساس النظري للفكرة القومية وكان ذلك اكثر سهولة في مرحلة المدارس ( الابتدائية –・الاعدادية –・الثانوية ) خاصة في مناهج التاريخ ، وأخيراً تم فرض الميثاق كمادة دراسية في الثانوية العامة ( الميثاق هو المنهج النظري للإتحاد الإشتراكي ) ولكن النظام لم يتمكن من ذلك في مرحلة الجامعات : الحقوق –・الاقتصاد –・السياسة –・التجارة –・الآداب… الخ فظلت المناهج غربية رأسمالية واضرب مثلاً من الكلية التي درست فيها ( الاقتصاد والعلوم السياسية) خاصة قسم العلوم السياسية الذي تخصصت فيه فخلال 4 سنوات لم ندرس شيئاً عن القضية الفلسطينية أو الشئون الإسرائيلية سواء بالسلب أو الايجاب وفي مدخل العلوم السياسية والفكر السياسي درسنا مكيافيللي كمؤسس لعلم السياسة ! وكذلك درسنا أفكارأرسطو و القديس أوغسطين وتوما الأكويني ( توماس أوكونياس ) وسبينوزا ولم ندرس كلمة واحدة عن ابن خلدون أو أي نوع من الفكر السياسي الاسلامي . وكان كتاب جورج سباين الغربي حول الفكر السياسي هو المرجع الأساسي . أما في الاقتصاد فلم يكن الاقتصاد سوى شرح وتفسير للإقتصاد الرأسمالي بإعتباره هو علم الاقتصاد والمهم أن هذا هو السائد حتى الآن بل إن الكلية حالياً مليئة بمراكز بحثية خاصة معظمها يتلقى تمويل غربي.
وقد انفرد محمد علي في الشرق الاسلامي بسياسة ارسال البعثات المدرسية الى المعاهد الاوروبية ، وحتى الدولة العثمانية لم تنتبه لذلك إلا متأخراً ، ثم ركزت على ارسال بعثات عسكرية لتعلم أساليب بناء الجيوش الحديثة بعد فوات الأوان ، وهؤلاء بالذات هم الذين عادوا مشبعين بالفكر الغربي . بدأت هذه الفكرة تنفذ في وقت مبكر عام 1813 في مصر وفي البداية كان التركيز على ايطاليا باعتبارها دولة ليست قوية الى حد يهدد باستعمار مصر وكان الطلبة يذهبون لتعلم الفنون العسكرية وبناء السفن والهندسة ، وتم ارسال مبعوث خاص ليتعلم فن الطباعة وماتتضمن من سبك الحروف وصنع قوالبها ، واستمر 4 سنوات وعاد ليتولى ادارة مطبعة بولاق 1821حتى توفي 1831  .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 
وهكذا كان إرسال المبعوث لمهمة محددة ، ثم يعود لينفذها فوراً ويسد ثغرة في بناء المجتمع كمتخصص مصري . ثم بدأ بصورة حذرة إرسال أعداد قليلة لفرنسا وانجلترا في مجال بناء السفن والملاحة ومناسيب المياه وصرفه والميكانيكا ، وكان أهم من برع فيهم عثمان نور الدين أفندي الذي صار أميرالا للأسطول المصري . وكان المجموع من المبعوثين من 1813 حتى 1847 – 319 تلميذاً لم يكلف تعليمهم سوى ثلث مليون جنيه وهو مبلغ صغير بالنسبة لما حققوه من انجازات لدى عودتهم . وكعادة محمد علي فإن أي قرار مهم يتخذه يظل يتابعه بنفسه وكان يصله عنهم تقرير شهري ، وعندما لم يسترح لمستوى التحصيل أرسل لهم عام 1829 رسالة مكتوبة فقال ( قياساً على قلة شغلكم خلال الشهور الثلاثة الماضية عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم وهذا الأمر غمنا كثيراً) وأضاف ( وإن أردتم أن تكسبوا رضانا فكل واحد منكم لايفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون ) ودعاهم إلى تقديم تقرير شهري عن ماحصلوه ، وحثهم عن الابتعاد عن أي سفاهة أو تضييع للوقت . وكانت البعثة تقيم في بيت واحد ليكون الأمر تحت السيطرة وكان يصرف لكل منهم 250 قرشاً ماهية شهرية !
وفي مجال الإنتقال لاستخدام البخار في السفن أي لدخول عصر البخار ، تم إرسال الفرقاطة (الشرقية) 1847 إلى انجلترا وهي الرائدة في هذا المجال وكان على متنها 21 نجاراً ليتقنوا فن النجارة هناك مدة وجود الفرقاطة بإنجلترا ، بينما تم تصفيح الفرقاطة وتركيب آلاتها البخارية قوة 550 حصاناً . كذلك أرسل 5 مصريين لتعلم فن مد ووصل خط التلغراف وعادوا ونفذوا ذلك في السودان . معظم البعثات العلمية ( 90% ) مسجلة بالأسماء والتخصصات والبلاد التي درسوا فيها ولولا ما أثير من لغط لدى بعض كتاب التاريخ الذين قالوا إنها كانت حملة تغريب وماسونية (!)  هدفها نزع مصر من الاسلام وشريعة الاسلام ، ما اهتمينا بتثبيت هذه اللائحة ، ولكن المرء ينحاز ويحب الحقيقة ، ويكره الإفتراء بغير حق على الواقع قبل أي شخص، فلا يمكن وصف أكبر نهضة انتشلت مصر من غيابات العصور المقيتة خلال القرون 16 , 17 , 18 بهذه الأوصاف ، فهكذا نفقد البوصلة تماماً ولانعرف ماهي أو ماهو معنى النهضة أو التنمية الإقتصادية ؟!
المسألة تتعلق ب319 تلميذاً ولكنه عدد كبير بالنسبة لعدد المتعلمين في مصر وبالنسبة لاحتياجات البلاد في تلك اللحظة .
–            الإدارة الملكية أو الحقوق والمحاماة    11
–            العلوم والفنون الحربية                              76
–            العلوم السياسية                                                3
–            الملاحة والفنون البحرية                            6
–            الهندسة البحرية                                              3
–            المدفعية                                                                2
–            الطب العام والجراحة                                  4
–            حصلوا على دكتوراه في الطب            12
–            طب أسنان                                                            2
–            طب بيطري                                                          2
–            طب عيون                                                              2
–            الزراعة                                                                  2
–            التاريخ الطبيعي والمعادن والتعدين      5
–            هندسة الري                                                          4
–            الميكانيكا                                                                  21
–            ائمة من الأزهر للإشراف                              2
–            صنع الأسلحة وصب المدافع والقنابل      4
–            الطباعة والحفر                                                        2
–            الكيمياء                                                                          6
–            هندسة ورياضيات                                                  4
–            طبيعيات                                                                      9
–            تعلم صناعة بصم الشيت  2
–            تعلم صناعة الآلات الجراحية 2
–            تعلم صناعة السماعات  2
–            تعلم صناعة الصياغة والجواهر 2
–            تعلم صناعة شمع العسل 2
–            تعلم صناعة نسج الأقمشة الحريرية 2
–            تعلم صناعة النقش والدهان      2
–            تعلم صناعة صبغ الأجواخ      2
–            تعلم صناعة ( السروجية )  2
–            تعلم صناعة صنع السيوف  2
–            تعلم صناعة الشيلان        2
–            تعلم صناعة البنادق والطبنجات 2
–            تعلم صناعة الأحذية      2
–            تعلم صناعة إنشاء السفن  3
–            تعلم صناعة شمع الأختام 2
–            تعلم صناعة الأجواخ والعباءات 6
–            تعلم صناعة آلات البوصلة وميزان الهواء والنظارات ومقاييس الأبعاد وآلات الدوائر المنعكسة وغيرها من الآلات الفلكية  2
–            تعلم صناعة الآلات الهندسية  2
–            تعلم صناعة التنجيد والفراشة 2
–            تعلم صناعة الميكانيكا  2
–            تعلم صناعة الصيني والفخار  2
–            تعلم صناعة السجاجيد    1
–            تعلم النجارة  21
–            تعلم إنشاء ومد خط التلغراف 5
                                                            ——
                المجموع                                            260
الباقي من 319 أي حوالي 59 لايوجد تصنيف للعلوم التي درسوها أو عادوا للوطن بسبب عدم الكفاءة أو المرض بالإضافة لمواطن حبشي وأمير سوداني لايوجد تصنيف لدراستهما ، كما اضاف الاحصاء 28 تلميذاً في بعثة تمهيدية لايوجد تصنيف دقيق لهم ولكن معلوماً أن واحداً درس الطباعة في ايطاليا وأرسل البعض إلى فرنسا ، وأرسل البعض منهم إلى انجلترا لتلقي فن السفن والملاحة ومناسيب المياه وصرفه والميكانيكا وكانت هذه البعثة التمهيدية عام 1813 ، وهي كلها كما ورد لنا لدراسة علوم طبيعية فإذا اضفنا هؤلاء الـ 28 إلى 260 يكون المجموع 288.
لن تجد في كل هؤلاء إلا 11 لدراسة الإدارة والحقوق و3 لدراسة العلوم السياسية ( مات منهم واحد اثناء الدراسة !!) يكون المجموع 13 ، النسبة أكثر قليلاً من 4% أي نسبة المبعوثين لتعلم علوم نظرية . وهؤلاء هم الذين أغرقوا مصر فى التغريب وانتزعوها من الاسلام !!
  وهذا العدد الضئيل لاينبئ بوجود خطة لترجمة القوانين الفرنسية لتحل محل الشريعة الإسلامية والمؤكد تاريخياً أن الذي ألغى الشريعة الإسلامية رسمياً هو الإحتلال البريطاني عام 1883 ولم يحدث أي إجراء رسمي لإلغاء أو استبدال الشريعة الإسلامية في عهد محمد علي ولا فى عهد أحفاده حتى توفيق . بل أشرنا من قبل أن الجزية كانت تطبق على المسيحيين حتى عهد الخديو سعيد ، ولكن تطبيق الشريعة لم يكن دقيقاً وكاملاً أو حياً وكان هذا هو حال البلاد العربية في ظل الدولة العثمانية والتآكل في الالتزام بالشريعة الإسلامية بدءاً من العهد الأموي بإلغاء الشورى وتثبيت حكم الفرد المستبد –・الملك الذي يورث الحكم وهذا أهم مافي الشريعة في مسألة تنظيم المجتمع المسلم وظل التآكل مستمراً في العهود التالية بصورة بطيئة مع عدد من الإرتدادات في الإتجاه الصحيح في مجال العدل والإهتمام بالعلم والعلماء والجهاد ضد الأعداء بعد أن كان قد تراجع ولكن ظل المنحنى في هبوط دائم ، ثم اصبح هبوطاً حاداً في القرنين 18 , 19 وهذا ما أدى إلى سقوط العالم الاسلامي كلية في قبضة الغرب الصليبي وحتى الآن. وهذه هي أهمية الجهاد من أجل إعادة الخلافة الراشدة وفقاً للمفهوم العصري الذي تحدثنا عنه من قبل ، ومن هنا تنبع أهمية كتابي الحاكم المطيري أكرمه الله ( الحرية أو الطوفان) و  (تحرير الإنسان ) اللذين يشرحان هذا الموضوع الحاسم بمنتهى الدقة الشرعية وهو قريب جداً مما طرحته من قبل ( وأنا أقل منه في الإبحار في علوم الشريعة ) في كتابي الجهاد صناعة الأمة –・عام 2000 بحث في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر –・الطبعة الثالثة –・2011 –€・المركز العربى للدراسات –・القاهرة .
أما الحقيقة التي يجب أن يعلمها كل مسلم مصري يكتب في التاريخ أنه في النصف الثاني من عام 1883  اي بعد حوالي سنة من الاحتلال صدرت مجموعة القوانين الحديثة للعمل بها أمام المحاكم وهي مجموعة القانون المدني وقانون التجارة وقانون المرافعات وقانون العقوبات وتحقيق الجنايات والقانون التجاري البحري ، وهي القوانين التي ظل معمولاً بها طوال أكثر من خمسين سنة ثم تم تعيين نائب عام إنجليزي ! وفي عام 1891صدر مرسوم الخديوي بتعيين المستر جون سكوت مستشاراً قضائياً لوزارة الحقانية بدون موافقة رياض باشا رئيس الوزراء ( موسوعة تاريخ مصر –・أحمد حسين –・مصدر سابق ).
ونعود لإحصاء المبعوثين في عهد محمد علي من زاوية أخرى : الدول التي درسوا فيها سنجد التالي :
202 درسوا في فرنسا
46 درسوا في إنجلترا
7  في النمسا
وهناك بعثة تمهيدية من 28 تفرقوا بين إيطاليا وفرنسا وإنجلترا بدون تحديد رقمي في أي وثيقة وهناك بعثة أخيرة من 25 تفرقت بين فرنسا وإنجلترا أيضاً بدون توثيق رقمي .
اذن الأغلبية الساحقة كانت إلى فرنسا مع قلة للنمسا او إيطاليا وأقل من الربع لإنجلترا وقد أشرنا من قبل إلى أن تقديرات محمد علي –・وهي صحيحة –・إن إنجلترا هي الخطر الرئيسي على مصر ، وأن التهديد بالاحتلال يأتي من جانبها ، وبالتالي فإن التعامل مع فرنسا مأمون أكثر لعدم قدرة فرنسا في المدى المنظور على تهديد مصر . كما أن قمع إنجلترا لطموحات فرنسا في أوروبا والعالم الجديد والهند ومصر وتثبيتها في المركز الثاني ، جعل فرنسا تجد مصالحها في علاقات طيبة مع محمد علي ، ولكن عندما يحم القضاء فإن فرنسا تقف مع أوروبا ضد الصعود المصري .
وتطور الأحداث برهن على صحة تقديراته ففرنسا ظلت في المركز الثاني حتى الآن بل اصبحت في المركز الثالث بينما حلت أمريكا أولاً محل انجلترا ، وجاءت الصين وروسيا والهند في المركز الثاني ، وفرنسا وإنجلترا في المركز الثالث عسكرياً وإقتصادياً ونفوذاً ، ولولا نفوذ فرنسا في بعض بلدان غرب افريقيا الفرانكوفونية استغلالاً لمسألة التبعية اللغوية لانمحت فرنسا تماماً من خريطة الدول المؤثرة عالمياً . وقد أعجبني سياسي لبناني عندما كنت اتحدث معه عن دور فرنسا مع أمريكا في بداية تصاعد الأزمة السورية ، فقال لي : وما فرنسا ؟ إن هي إلا محطة اذاعة !؟ وضحكت ووافقت على هذا التقدير لقوة فرنسا في القرن الواحد والعشرين ( لعله يقصد محطة مونت كارلو ) وفي المقابل فإن بريطانيا هي التي احتلت مصر وفلسطين والعراق وبسطت نفوذها على الخليج العربي وايران وعدن وقبرص وأصبحت هي القوة الأولى في المستطيل القرآني ، أى الشرق العربى ، وفي العالم بأسره من أمريكا حتى الملايو ( ماليزيا) والصين وسنغافورة والهند وجنوب افريقيا والسودان وشرق افريقيا وأجزاء من وسط افريقيا –・واستراليا .


والآن كيف استفادت البلاد من هذه البعثات ؟ من المهم أن نعرف وإلا لذهب كل شئ أدراج الرياح ، فإذا نجحت الخطة فيجب أن يكون هناك إعداد لتكرارها ، لأن الفجوة العلمية والتكنولوجية ماتزال موجودة بيننا وبين الغرب ، بل وأيضاً بيننا وبين الشرق : الصين –・اليابان –・ماليزيا –・ومعظم جنوب شرق آسيا والهند وروسيا .
كان العائدون من البعثات واحداً من ثلاثة . فئة قامت بتسلم قيادة المدارس العليا والثانوية ادارة وتعليماً ، فئة ثانية قامت بعملية ترجمة واسعة لمختلف مجالات العلوم ، وغالباً ماقامت بالمهمتين فئة واحدة أي نفس الأشخاص ، وفئة ( أو مهمة ) ثالثة هي قيادة الجيش وإدارة المصانع والمشروعات ومؤسسات الدولة التنفيذية وتقريباً معظم إن لم يكن كل العائدين برعوا ونجحوا في تخصصاتهم وفي مواقعهم ولم تكن هناك أى نسبة تذكر للتفلت . وهذا يعني ان المبعوثين التزموا الجادة ولم يغرقوا في ملذات باريس أو يهربوا كما فعل عدد من المبعوثين في عهد عبد الناصر رغم أن الدولة هي التي أنفقت على تعليمهم .
وكثيراً مايتهم رفاعة رافع الطهطاوي بأنه قائد التغريب الذي كان مسئولاً عن البعثة الأولى في فرنسا ، وقد كان مسئولاً دينياً وتربوياً لضمان حسن سير التلاميذ وتربيتهم دينياً ومتابعتهم في الصلاة … الخ وكان أزهرياً ومعه ثلاثة ائمة آخرون ولم يكونوا مكلفين بأي تعليم في فرنسا . ومن المؤسف أن يوصف رائد نهضة العلم والأدب بقائد التغريب وهو كان أزهرياً حافظاً للقرآن كله من صغره وهو من نسل الأنصار عن طريق أمه .
ورفاعة ( 1801 -1873) كان قد صار من العلماء ويدرس بالأزهر واصبح له جمهور من التلامذه ثم اصبح واعظاً بالجيش في أهم ألايين ( وحدتين ) لمدة عامين 1824-  1826 وهو ما يكشف وجود تربية إسلامية منظمة في الجيش في وقت مبكر . واستمر كواعظ للبعثة 5 سنوات 1826 –€・1831 ولأنه محب للعلم والمعرفة درس اللغة الفرنسية وتحول إلى مترجم بارع . والاطلاع على عناوين الكتب التي ترجمها في فرنسا تكشف ميوله المعرفية العامة لا إعجابه بفكر وثقافة الغرب ، وإن كان فيها مايمكن أخذه بطبيعة الحال .
1- تاريخ الإسكندر الأكبر
2- كتاب أصول المعارف .
3- تقويم سنة 1244 هجرياً لاستعمال مصر والشام .
4- أخلاق الأمم وعوائدها
5- جزء من كتاب ملطبرون في الجغرافية
6- 3 مقالات من كتاب في علم الهندسة
7- مقدمة جغرافية طبيعية
8- نبذة في علم الهيئة
9- كتاب عسكري
10- أصول الحقوق الطبيعيىة لدى الإفرنج
11- نبذة في المثيولوجيا بمعنى جاهلية اليونان وخرافاتهم .
12- علم سياسة الصحة.
إن من يرفض قراءة مثل هذه العناوين كأنه يدعو للجهل والجهالة ، فالعلم ليس تغريباً وقد ظل بعد عودته مهتماً بالترجمة في مجالي التاريخ والجغرافيا ، كما ترجم موضوعات عسكرية كانت منهجاً في المدارس العسكرية المصرية ، وهو الذي اقترح على محمد علي إقامة مدرسة الألسن التي أقيمت في مكان فندق شبرد الحالي .
وعلى خلاف ما يتصور البعض من إسمها ومن مهمتها الحالية في القرن الواحد والعشرين أنها مجرد كلية لغات أجنبية ، ولكنها لم تقتصر على ذلك بل شملت اللغات الشرقية ( التركية –・الفارسية ) مع اهتمام خاص باللغة العربية وآدابها وشعرها ، وكانت تدرس علوم التاريخ والجغرافيا ، والشريعة الاسلامية مع المقارنة بالشرائع الأجنبية وكانت أشبه بكليتي آداب وحقوق مندمجتين ، ويدرس فيها أهم علماء الأزهر . وكما ذكرنا فإن الأزهر كان الخزان الذي يقدم مادة بشرية مثقفة وعارفة بالإسلام لهذه النهضة الثقافية العامة ، فلا يجوز أن يقال أن محمد علي ضرب الأزهر أو همشه بل هو عظم الإستفادة به في هذه النهضة العلمية والثقافية ، بل وتم إشراك علماء الأزهر في مختلف قطاعات الدولة ، طالما إن العلماء لا يتدخلون في مسألة احتكار محمد علي للسلطة السياسية ، وقضية الشورى أمر جلل ، ولكن عدم الإلتزام بالشورى وفقا للمعايير الشرعية لم يكن حكراً على محمد علي في زمانه ولا من قبله ولا من بعده ، فيجب أن نكيل في تقييم الحكام المسلمين بمكيال واحد . ولم يكن في مقدور محمد علي ولا في تصوراته تطوير العلوم الشرعية بالأزهر !! ولم يفعل معظم حكام المسلمين من قبله ولا من بعده شيئاً في هذا المجال بعد أن أصبح الحاكم غير مجتهد في شريعة الله أو متفقهاً في العلوم الشرعية.
تولى رفاعة رافع الطهطاوي إدارة مدرسة الألسن والتي تفرع عنها معهد للفقه والشريعة الإسلامية (!) ومدرسة محاسبة ، ومدرسة إدارة وهكذا تحولت مدرسة الألسن إلى جامعة !     

>

                                                    - 19 -
 لم يؤد أي سلطان عثماني فريضة الحج خلال 6 قرون

محمد علي يعيد آداء شعائر الحج بعد أن أوقفها الوهابيون عدة سنوات
الحرب استمرت 7 سنوات وانتهت باخضاع جزيرة العرب واليمن لمصر
أكبر حركة ترجمة ( ألف كتاب) في مختلف العلوم

ماذا كان تأثير المبعوثين على المجتمع المصري بعد عودتهم من أوروبا؟ كنا قد بدأنا الحديث في ذلك وبدأنا برفاعة رافع الطهطاوي إمام البعثة الأولى الذي طالما تعرض لسهام النقد من قبل بعض الاسلاميين. وبغض النظر عن المواقع التنفيذية التي تنقل إليها الطهطاوي إلا أن أجل أعماله تتجلى في انه كان قائد شبكة المترجمين التي نقلت كماً هائلاً من المعرفة إلى اللغة العربية . كذلك كان من ابرز قادة التعليم في البلاد . وقد كان له الفضل في اقناع الحكومة بطبع طائفة من أمهات الكتب العربية على نفقتها كتفسير القرآن للفخر الرازي ، ومعاهد التنصيص ، وخزانة الأدب ، والمقامات الحريرية وعندما تولى رئاسة تحرير مجلة (روضة المدارس ) وهي مجلة ثقافية راقية كانت توزع مجاناً على كل التلاميذ (هذا لايحدث الآن !) كانت تتضمن مباحث فقهية للشيخ حسونة النووي ، ومباحث لغوية وعلمية وأدبية وفي الاجتماع والتاريخ والرياضيات . وكانت تصدر مرتين في الشهر . وكانت آخر كتاباته فيها سلسلة عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ( نهاية الايجاز في سيرة ساكن الحجاز ).
وقد هوجم الطهطاوي أساساً بسبب كتابه ” تخليص الابريز في تلخيص باريز ” وهو عبارة عن مذكراته وانطباعاته عن فرنسا خلال الأعوام الخمسة التي أمضاها هناك ، باعتباره يكشف عن إعجابه بفرنسا والافرنجية . وقد قرأت هذا الكتاب منذ زمن ولم أشعر أن الطهطاوي قد تبنى الرؤية الغربية للعالم . أما وجود نغمة إعجاب للتقدم الحضاري الفرنسي والاوروبي , فهذا أمر لامفر منه , ومن يذهب لمجتمع أكثر تطوراً ولا يشعر بالاعجاب فلابد أن يكون انساناً متبلداً لايرجى له شفاء! المهم أن يميز بين ماهو مادي وماهو معرفي نظري وفكري ، وأن يميز بين مايمكن اقتباسه من النظم السياسية والاجتماعية ومالايجوز .وأهم شئ كتبه الطهطاوي كان في مجال النظام الدستوري ومن زاوية أن الملك مقيد الصلاحيات وان البرلمان ذي الغرفتين يشاركه السلطة ، وأنه يتعين على الملك في أهم القرارات الحصول على موافقة البرلمان . كذلك أبدى إعجابه بأن المواطنين جميعاً سواء أمام القانون الكبير والصغير ، الملك والمواطن ، وكل هذه مبادئ تتوافق مع الشريعة ومفهوم الشورى الاسلامي . وأثناء وجوده في باريس قام الملك بإلغاء الدستور فقامت ثورة 1830 وانتصرت وثبتت النظام الدستوري وعلى الاسلاميين أن يفرقوا بين الأساس الفكري للنظام الديمقراطي الغربي وبين آلياته وبعض مبادئه ، مثل الانتخابات وتوازن السلطات والمساواة أمام القانون … الخ
فالانتخابات صورة معاصرة للبيعة ، وتوازن السلطات موجود في النظام السياسي الاسلامي بين السلطات التنفيذية –・التشريعية –・القضائية –・فقد كان الخليفة سلطة تنفيذية أساساً أما الأمور التشريعية فكانت لأهل الحل والعقد ( المهاجرون والأنصار خاصة كبار الصحابة ) كذلك استقلت السلطة القضائية . ومن العجيب أن ينعي البعض على طهطاوي إعجابه بالمفكر الفرنسي مونتسكيو ومن أبرز أفكاره هذه الفكرة المتعلقة بتوازن السلطات وهي فكرة مؤصلة في الشريعة ، وان كان هذا التوازن يجري في نظامين مختلفين ، ولكنه اكثر رشداً من تركيز كل السلطات في يد شخص واحد أو سلطة واحدة .
انجازات تلاميذ رفاعة :
قلنا إن المبعوثين تولوا قيادة التعليم في مختلف المدارس أو تولوا تطوير المصانع كل وفقاً لتخصصه .ولكن مانتحدث عنه الآن هو الترجمة ، وبدون ذكر أسماء المترجمين لأنهم كثر ، هذه بعض عناوين الكتب التي ترجمها تلاميذ رفاعة الطهطاوي .
تاريخ الامبراطور شرلمان –・غاية الأدب في خلاصة تاريخ العرب – القوانين العسكرية –・تاريخ بطرس الأكبر –・أما بالنسبة للمؤلفات فقد قدم محمد قدري باشا ثلاثة كتب مهمة في جمع وترتيب أحكام الشريعة الاسلامية في المعاملات المدنية والأحوال والشخصية والوقف على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة . وكانت هذه الكتب الثلاثة مرجعا لرجال القضاء والقانون إلى الآن ( أي الى عام 1930 كما كتب الرافعي ) كما الف كتابا آخر ( تطبيق ماوجد في القانون المدني موافقاً لمذهب أبي حنيفة ) . ويقدر عدد المؤلفات التي ترجمت على يد خريجي مدرسة الألسن نحو ألفي كتاب  أو رسالة في مختلف الفنون والعلوم .
وقد ركز الطهطاوي في مؤلفاته وتراجمه على التاريخ والجغرافية ومبادئ الهندسة والمعادن والنحو وتاريخ مصر وتعليم المرأة وتاريخ العرب –・الطب –・المذاهب الأربعة –・الشعر العربي .
وهنا نتوقف عند تعريبه القانون المدني الفرنسي (قانون نابليون) وعرب قانون التجارة الفرنسي ، وكان ذلك في عامي 1866 ,1868 أي بعد وفاة محمد علي بعشرين عاماً ، أي في عهد اسماعيل . والعبرة ليست بالترجمة للاستفادة ولكن هل تم اقرار هذا القانون في عهد اسماعيل ؟ لا . ولكن كارثة عهد اسماعيل في التغريب هي أكبر من ذلك بكثير ، ولانحمل هذا لجده محمد علي ، ولكننا نحمله ، أى محمد على ، مسئولية نظام التوريث الفاشل ونظام احتكار أسرة لسلطة دولة عبر القرون أو عشرات السنين ، حتى وان كان هذا هو المعمول به في العالم بأسره في ذلك الزمان .
أثناء الحديث عن الاحتلال الفرنسي أشرت سريعاً إلى قانون نابليون وأنا على يقين أن معظم القراء لايعلمون هذه الحقيقة ، فأكررها مرة أخرى ، ان القانون المدني الفرنسي مأخوذ من الفقه المالكي الذى كان منتشرا في الأندلس وفي شمال افريقيا ، والذي كان قد ترجم إلى الفرنسية وسائر اللغات الأوروبية ، فهذه بضاعتنا ردت الينا ، ولكن هذا لا يعني أن نأخذها بدون فحص أو تدقيق وهذا ماحدث فيما يتعلق بفقهائنا القانونيين الذين قاموا بهذه المراجعة وعلى رأسهم الفقيه السنهوري لذلك يقول أساتذة القانون ان القانون المدني المصري ، وأيضاً العراقي الذي صيغ بمعرفة السنهوري ، يتماشى ويتناغم بصورة كاملة تقريباً مع الشريعة الاسلامية في المجال المدني ، على خلاف القانون الجنائي ، وطبعا كل هذا حدث بعد مرحلة محمد علي ، خاصة في ظل الاحتلال الانجليزي .
أهم انجازات المبعوثين

نعود إلى انجازات العائدين من البعثات الأجنبية ، نعود إلى أهم الانجازات ، أما الاستفادة العامة بهم فهي تشمل تولي قيادة المدارس والتعليم والمواقع التنفيذية والمصانع . ومن انجازات المهندس مصطفى بهجت باشا تقديم مشروع لتسهيل الملاحة في الشلالات وهو مشروع بالغ الأهمية من زاوية تسهيل الانتقال النهري بين مصر والسودان . وشارك في بناء القناطر الخيرية ووضع تصميم تجديد الجامع الأحمدي بطنطا وباشر انشاء السكة الحديد من بنها الى كفر الزيات .
وفي عهد اسماعيل خطط تصميم الترعة الابراهيمية من أسيوط الى جسر كوم الصعايدة الفاصل بين مديريتي المنيا وبني سويف . ثم شارك في عملية اصلاح عيون القناطر الخيرية.
محمد بيومي أفندي :
صدرت له عدة مؤلفات في الهندسة والرياضيات ومنها كتاب ( جر الأثقال ) و ( الجبر والمقابلة ) و( ثمرة الاكتساب في علم الحساب ) و( الهندسة الوصفية ) في مجلدين بـ ( جامع الثمرات في حساب المثلثات ) .
محمد مظهر باشا :
بنى فنار الأسكندرية المعروف في رأس التين واشترك في بناء القناطر الخيرية واختص بالاشراف على انشاء قناطر فرع رشيد
اابراهيم رمضان بك :
له مؤلفات في الهندسة منها ( رضاب الفانيات في حساب المثلثات )
أحمد فايد باشا :
من مؤلفاته ( الأقوال المرضية في علم بنية الكرة الأرضية ) و(تحرك السوائل ) و ( الدرة السنية في الحسابات الهندسية )
أحمد بك السبكي :
رسم خريطة قنال السويس –  وخريطة الوجه البحري –・وخريطة الوجه القبلي ودرس على الطبيعة امكانية إقامة سكة حديد من سواكن إلى شندى بالسودان. .
حسن بك نور الدين :
رسم تصميم سكة حديد الفيوم وانشأ سكة حديد دسوق وخط الصالحية .
محمد علي بك البقلي باشا
حافظ القرآن كله –・ألف رسالة في الرمد الصديدي المصري –・وكان نابغة الجراحين –・ومن مؤلفاته ( روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى) و ( غرر النجاح في أعمال الجراح ) في جزئين و( نشر الكلام في جراحة الأقسام)  ( العمليات الجراحية الكبرى ) في مجلدين واصدر اول مجلة طبية عربية سنة 1865 اسمها ( اليعسوب).
ابراهيم بك النبراوي :
كان الطبيب الخاص لمحمد علي وللأسرة الحاكمة ومن مؤلفاته ( الأربطة الجراحية ) ونبذة في ( الفلسفة الطبيعية ) مترجم عن كلوت بك ، وأيضاً ( أصول الطبيعة والتشريع العام).
والحقيقة فانني اسجل هذه التفاصيل لأنني مذهول من مستوى وحجم الانجاز العلمي ، فمن الآن من الأطباء المصريين يؤلف كتباً علمية في الطب حتى وان كانت مترجمة ؟
احمد حسن الرشيدي بك :
له مؤلفات عشرة مابين تأليف وترجمة في (تطعيم الجدري ) –€・(الجغرافية الطبيعية) –€・(ضياء النيرين في مداوة العينين ) –€・( طالع السعادة والاقبال في علم الولادة وأمراض النساء والأطفال ) –€・كتاب آخر في (تطعيم الجدري ) –€・( بهجة الرؤساء في أمراض النساء ) –€・(نزهة الإقبال في مداواة الأطفال ) –€・(الروضة البهية في مداواة الأمراض الجلدية ) –€・( نخبة الأماثل في علاج تشوهات المفاصل) –€・( عمرة المحتاج في علمي الأدوية والعلاج
محمد الشافعي بك : 
وله في التأليف والترجمة ( أحسن الأغراض في التشخيص ومعالجة الأمراض ) –€・في جزءين ( الدرر الغوال في معالجة أمراض الأطفال ) –€・( السراج الوهاج في التشخيص والعلاج ) 4 مجلدات.
محمد الشباسي بك :
له في التأليف ( التنوير في قواعد التحضير ) والترجمة ( التنقيح الوحيد في التشريح الخاص الجديد ) .
عيسوي أفندي النحراوي : مترجم كتاب ( التشريح العام)
حسين غانم الرشيدي أفندي : أتقن علم الصيدلة ومؤلف ( الدر الثمين في فن الأقرباذين)
محمد عبد الفتاح :
ترجم ( نزهة المحافل في معرفة المفاصل ) . ( مشكلة اللائذين في علم الأقرباذين ) –€・البهجة السنية في أعمار الحيوانات الأهلية ) –€・( المنحة لطالب قانون الصحة).
علي هيبة : ترجم ( طالع السعادة في فن الولادة ) –€・و(إسعاف المرضى في علم منافع الأعضاء )
محمد شريف باشا :
الوزير الكبير والملقب بأبي الدستور ، وقد تختلف معه في بعض مواقفه ولكنه كان إنساناً محترماً لأقصى حد معتزاً بنفسه وبالوطن وهو من العناصر النادرة في الطبقة السياسية ، وهو من اكتشاف محمد علي بصورة شخصية .
أمين بك الكرجي :
أتقن في فرنسا صب المدافع وصنع الأسلحة وتولى بالفعل لدى عودته معمل الأسلحة والمدافع ثم معامل البارود..
في مجال الملاحة والعلوم البحرية وبناء السفن :
من خريجي البعثات الأميرال عثمان نور الدين باشا قائد الأسطول المصري . والأميرال حسن باشا الاسكندراني رئيس ترسانة الاسكندرية وناظر البحرية ، ومحمد بك راغب وحسن بك السعران اللذان ترأسا قسم الهندسة وإنشاء السفن في ترسانة الاسكندرية وتوليا العمل الذي كان يقوم به المسيو سريزي بك في الترسانة.
ماذا فعل دارسو الحقوق والعلوم السياسية ؟
حتى الذين ذهبوا في هذه التخصصات فلم يكن مقصوداً أن يعودوا لتولي مناصب في القضاء وفقاً للمفهوم الأوروبي . فأحدهم وهو عبدي شكري باشا تولى وزارة المعارف ، والثاني أرتيني بك صار وزيراً للتجارة الخارجية وأسطفان بك أصبح وزيراً للخارجية في عهد سعيد باشا ، وعبد الله بك السيد هو الوحيد الذي تم تعيينه رئيساً للمحكمة التجارية بالاسكندرية ثم مستشاراً بمحكمة الاستئناف.
الطبيعيات والزراعة : 
أحمد يوسف أفندي تم تعيينه مسئولاً عن دار الضرب وكذلك حسنين أفندي علي البقلي . أحمد بك ندا تخصص في العلوم الكيماوية وأتقن صناعة الصابون وشمع العسل وله مؤلفات في (الأقوال المرضية في علم الطبقات الأرضية ) و ( حسن البراعة في علم الزراعة ) وهو مترجم و( حسن الصناعة في علم الزراعة ) و ( الآيات البينات في علم النباتات ) و ( الحجج البينات في علم الحيوانات ) وهو مترجم.
اصدارات مهمة :
ومن أهم الاصدارات : معجم للمصطلحات الطبية ، وكانت بالبلاد بالإضافة لمطبعة بولاق 3 مطابع صغيرة أخرى . وظهرت أول صحيفة باللغة العربية ( الوقائع المصرية ) وهي الجريدة الرسمية للحكومة عام 1828 ولاتزال تصدر حتى الآن.
كذلك قام علماء وشيوخ أزهريون عدة بمراجعة مختلف الكتب المترجمة والمؤلفة لضبط العبارات والصياغات بلغة عربية سليمة وكانوا من العاملين في مدرسة الألسن.
وهكذا نكتفي برصد كل هذه التطورات النوعية في مجال الاقتصاد والتعليم والبحث العلمي وبناء الجيش والأسطول .
والآن نختم ملف محمد علي المتخم بالانجازات التى أدت إلى تغيير نوعي في بنية مصر ، نختتم بالموضوع الاستراتيجي الشامل وهو تجربة محمد علي في التمدد والسيطرة على معظم المستطيل القرآني / الشرق الأوسط ، وماحوله ، بل التمدد إلى الأناضول ومحاولة احلال الامبراطورية المصرية لترث الدولة العثمانية وتحكم العالم الاسلامي. وهل سعى محمد علي لذلك فعلاً أم كان يعيد صياغة علاقة مصر بالآستانة ؟! وهنا يأتي الصراع المفتوح مع القوى العظمى وعلى رأسها انجلترا والتي كانت تسعى لوراثة الامبراطورية العثمانية لا السماح بتسليمها لمصر.
بسط النفوذ المصري على الأراضي المقدسة :
اذا سرنا وفقاً للترتيب الزمني في بداية بناء وتوسيع الامبراطورية المصرية في عهد محمد علي وبعد صد الاحتلال البريطاني عام 1807 سنجد أولاً مايسمى الحرب الوهابية ، أو بسط النفوذ المصري على الحجاز والأراضي المقدسة والأغلبية الساحقة من جزيرة العرب أي عدا دولتي القواسمة ( الامارات الآن ) ومسقط . ونحن نركز على جوهر المسألة من زاوية رؤية محمد علي فلم يكن لديه دافع خاص من أجل محاربة الحركة الوهابية ، بل كان يمتثل لإرادة الدولة العثمانية فيعزز مكانته لديها ، في حين كان يضمر في نفسه أنه يوسع امبراطوريته الخاصة وان يكون هو حامي حمى وخادم الحرمين الشريفين ، ولايوجد أهم من ذلك لتعزيز مكانته في العالم الاسلامي وداخل الدولة العثمانية ، ولذلك فقد تحمل محمد علي الكثير في هذه الحملة ، وقدم الكثير من التضحيات في المال والأرواح دون أن يتراجع عن القتال في ظروف بالغة الصعوبة في محيط صحراوي ومناخ بالغ القسوة من حيث ارتفاع درجات الحرارة ، مع ندرة مصادر المياه ، وضد حركة مستبسلة في القتال دفاعاً عن مشروعها وأرضها , حتى إنه أرسل ابناءه على رأس هذه الحملات طوسون ثم ابراهيم ، ثم ذهب بنفسه لضمان حسم المعارك نهائياً . سنتعرض الآن لهذه الحملة في اطار هذا التصور الجيواستراتيجي ، أي الجغرافي الاستراتيجي في إدراك أهمية جزيرة العرب في ذهن محمد علي في اطار مشروعه الطموح الذي يضمره داخل نفسه ، والذي بدأ ينفذه تدريجياً وعلى مراحل . وسيظل مسيطراً على كل جزيرة العرب تقريبا حتى عام 1840 . ( علي بك الكبير صاحب المشروع الأول للاستقلال المصري عن الدولة العثمانية بدأ بضم الحجاز بالقوة المسلحة ومبايعة شريف مكه له والدعاء له في مساجد الحجاز وعلى رأسها مكة والمدينة ، وان كان علي بك الكبير لم يكن يملك الأفق الاستراتيجي الواسع لمحمد علي الذي امتلك مشروعاً أكثر رحابة يتصل بتطوير التسليح والصناعة وبناء جيش حديث وتنمية اقتصادية شاملة تنافس الثورة الصناعية في الغرب …….الخ
وكانت الأستانة مافتئت تضغط على محمد علي وتدعوه لمحاربة الوهابيين منذ آواخر 1807 قبل أن يمضي عامان على ولايته . اذ ورد إليه فرمان بتجديد ولايته وإسناد منصب الدفتردار ( مدير الشئون المالية ) الى ابنه ابراهيم ، وتكليفه في الوقت ذاته ارسال الجنود الى الحجاز لقمع التمرد الوهابي على الدولة العثمانية ، ثم جددت الآستانة طلبها في العام التالي 1808 ثم العام الذي يليه 1809 وكان محمد علي في كل مرة يتعلل باشتغاله بمحاربته المماليك . وهذه المعلومات التاريخية مهمة جداً لأن بعض الاسلاميين يحملون محمد علي مسئولية هذه الحملة وكأنه صاحب فكرتها أو المتحمس الأول لها أو كأنه هو المؤرق من أفكار الوهابية دون الدولة العثمانية . بل يذهب البعض إلى ذلك فعلاً ويحمله مسئولية إحداث شقاق بين الوهابيين والدولة العثمانية وهذا أسلوب مذهل في قلب الحقائق ، خاصة وان القائلين بذلك ليسوا بالضرورة من أنصار الفكر الوهابي !!
ولما انتهى محمد علي من حملته على المماليك في الوجه القبلي وعاد الى القاهرة في سبتمبر 1810 ألفي رسولاً من الاستانة يحمل اليه رسالة جديدة تقضي بتكليفه بالإسراع في تجريد الجيش لمحاربة الوهابيين وكما يقول عبد الرحمن الرافعي ان محمد علي لم يستطع وقد فرغ من محاربة المماليك أن يتحمل الأعذار القديمة في التأجيل والتسويف وبادر إلى الاستجابة وبدأ الاستعداد أي بعد الحاح استمر 3 سنوات.
ونؤكد مرة اخرى إن موافقة محمد علي –・على مضض –・القيام بهذه المهمة الثقيلة كانت لضرب عصفورين بحجر فهو من ناحية يرضي الدولة العثمانية التي يسعى دوماً للعمل تحت مظلتها فهي أساس شرعيته رغم ادراكه لكل مافعلته الاستانة معه من عدة محاولات لاقتلاعه من عرش مصر . ومن ناحية اخرى فان دوره في الأراضي المقدسة سيضفي عليه وعلى مشروعه في مصر الهيبة والمكانة الخاصة التي يسعى إليها في المنطقة وفي العالم الاسلامي.
وكانت الدولة العثمانية قد حاولت من قبل وأنفذت عدة حملات للقضاء على الانشقاق الوهابي ولكنها فشلت جميعاً فشلاً ذريعاً الأمر الذي أدى إلى تعطل شعائر الحج لعدة سنوات ، وامتنع ورود عشرات الآلاف من الحجاج من أنحاء الشرق ، فتزلزلت الهيبة العثمانية وأثرت هذه الحالة فيها تأثيراً كبيراً . ووقع الشك في مقدرة السلطان العثماني على الاضطلاع بمهمة “حامي الحرمين الشريفين” تلك التي كانت تجعل لتركيا المقام الممتاز بين الممالك الاسلامية . وبالتالي فقد افترض محمد علي أن نجاحه في هذه المهمة سيثبت وضعه أبداً لدى الآستانة فلا تعد تفكر بتغييره بين حين وآخر .وان كانت الأحداث لم تبرهن على ذلك كما سوف نرى !! ولكن في المدى القصير فان محمد علي بعد نجاح حملته استقر هناك وبسط سلطانه واستقر الجيش المصري ولم يرجع وكانت الحكومة المصرية هي التي تنصب حكام المدن والولايات وقواد الجند في الجزيرة . وفي المدى القصير أيضاً كافأت تركيا محمد علي بإسناد مشيخة الحرم المكي وولاية جده إلى ابنه ابراهيم . وامتد الحكم المصري الى سائر بلاد الحجاز ونجد والعسير وجزءاً من اليمن .حتى شواطئ الخليج العربي واستمر هذا الوضع حتى عام 1840 . والعجيب أن محمد علي نجح في مهمته قبل أن يؤسس الجيش المصري ، بل اعتمد على هذه الأخلاط البائسة من الأرناؤود والدلاة التي أقضت مضاجع المصريين . ومن الطبيعي أن نسمع من الوهابيين أو غيرهم عن بعض ممارسات هؤلاء الجند ولكن هؤلاء هم المادة البشرية للقوات العثمانية ولكنهم كانوا في جوف الصحراء تحت السيطرة أكثر من وجودهم في شوارع وحارات القاهرة . ولاشك ان محمد علي كان سعيداً وهو يلقي بهم الى التهلكة وهو يضمر فكرة بناء جيش جديد على ( مياه بيضاء ) من المصريين وهذا لم يحدث إلا عام 1820 كما ذكرنا ونذكر مرة اخرى بأن مذبحة القلعة كانت مرتبطة بايفاد هذه الحملة للحجاز عام 1811 ، وذلك لضمان تأمين الجبهة الداخلية .
ويردد بعض الاسلاميين أن محمد علي قتل الداعية محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة الوهابية والحقيقة ان محمد بن عبد الوهاب مات ميتة طبيعية عام 1792 أي قبل مجيئ قوات محمد علي بـ 19 عاماً .
والطريف ان محمد علي نصب ابنه طوسون رئيساً للحملة بينما كان عمره 17 عاما ولكنه عين محمد المحروقي كبير التجار مستشاراً سياسياً له كما اصطحبه أربعة من العلماء من أئمة المذاهب الأربعة . ومن الأمور التي ساعدت طوسون في حملته ، ان سكان الثغور كجدة وينبع كانوا معضدين للحملة لأن انقطاع طريق الحج ألحق بهم ضرراً كبيراً اذ كانت أرزاقهم تأتيهم من الحجاج ، فكانوا ناقمين على الوهابيين ودعوتهم ، وكذلك أشراف مكة الذين أصبحوا بلا سلطات . وبعد مصاعب شديدة وآلاف من القتلى في صفوف الجيش المصري تم فتح المدينة المنورة ثم فتح مكة في يناير 1813 ثم الطائف . ولكن تحرج موقف طوسون بهجوم مضاد أجبر محمد علي على السفر بنفسه لادارة المعركة في أغسطس 1813 حيث ذهب إلى مكة وأدى مناسك الحج . ونظراً للخسائر البشرية التي وصلت الى 8 آلاف قتيل ، طلب محمد علي من نائبه الكتخدا ( محمد لاظ أوغلي ) –€・صاحب ميدان لاظوغلي الأشهر بجوار وزارة الداخلية حاليا –・طلب منه إرسال مزيد من القوات ، ولم يجد أمامه سوى فتح باب التطوع للخدمة العسكرية حيث تمكن من تجنيد 7 آلاف مقاتل مابين مغاربة وصعايدة وفلاحي القرى . وقد استخدم الجبرتي تعبير ( تطوع) وهو أمرلم يكن مألوفا من قبل وكأنها مقدمة لسياسة التجنيد وبناء جيش مصري فيما بعد . وقام محمد على بالاشراف على تدريب هؤلاء المتطوعين في جدة ( لاحظ اصرار الرجل وتصميمه رغم المصاعب الجمة ) فقد كان الوهابيون يحاصرون الجيش المصري في الطائف . وفي عام 1814 تمكن محمد علي من تأمين موسم الحج وصار طريق الحجاج مأموناً وحج محمد علي مع الناس للمرة الثانية ، وأقبل الحجاج من مصر ومن سائر الأقطار الاسلامية وأدوا الفريضة آمنين مطمئنين ( في المبحث الخاص بالوهابية سنناقش ان شاء الله مبررات الوهابيين في منع المحمل من القاهرة ودمشق وتعطيل الحج عدة سنوات )
والوهابية حركة اثرت في حياة المستطيل –・الشرق العربى ، ولاتزال حتى الآن بل وفي سائر نواحي العالم الاسلامي ولذلك رأينا أنها تستحق مبحثاً خاصاً ) .
بالمناسبة لم يقم أى سلطان عثماني بأداء فريضة الحج .
ومن خصائص محمد علي انه ليس من المترفين ، فعندما بلغت معاناة الجنود أشدها في المراحل الأخيرة ولم يكن غذاؤهم في الغالب سوى التمر كان محمد علي يقاسمهم شظف العيش ليشجعهم على احتماله وعندما عاد محمد علي للقاهرة أرسل ابنه ابراهيم باشا ( بدلا من طوسون ) وقبل سفره قام بتجنيد ألفين من الفلاحين في أسيوط ليأخذهم معه في الحملة ، وهذه هي المرة الثانية للتوسع في تجنيد مصريين بالجيش . وكان عمر ابراهيم 27 عاما , وهو الذي أنهى الحرب بدخول الدرعية عاصمة الوهابية في 28 اكتوبر 1818 أي بعد حرب استمرت 7 سنوات . وجاء عبدالله بن سعود أسيراً إلى مصر حيث أكرم محمد علي مثواه وعامله أفضل معاملة ولكنه عندما أرسله إلى الآستانة قطعوا رأسه وطافوا بجثته 3 أيام وعلق رأسه عند مسجد السلطان أحمد .   
<<<<<<<<<<<<<<<

                                                               - 20 -
 محمد علي أعاد ضم واحة سيوة لمصر!!

 قضية الأمازيغ .. التي يشعل بها الغرب الانشقاقات في الجزائر والمغرب
 مراسلات رقيقة بين محمد علي وعمر مكرم!

قبل أن ننهي الملف العسكري لحملة محمد علي الحركة الوهابية بالجزيرة العربية لابد أن نشير إلى واقعة شغلت المؤرخين وهي واقعة استغلال لطيف باشا لغياب محمد علي في الجزيرة العربية للقيام بانقلاب ضده بايعاز من دوائر السلطة العثمانية . وأهمية هذه الواقعة فيما تكشفه عن النية المبيتة دائماً في الآستانة للاطاحة بمحمد علي حتى وهو يقدم أجل الخدمات للسلطنة ، حتى وهو يعيد لها السيادة على الحرمين الشريفين . هذه الواقعة ترد على الذين كتبوا في التاريخ ولا أقول المؤرخين لأن المؤرخ يتفرغ تماماً للتاريخ كراهب في المحراب ويمتلك أدوات وقدرات التحليل السياسي والاجتماعي ، فكثير من الاسلاميين كتبوا في التاريخ أو تحدثوا في برامج تلفزيونية أنحوا باللائمة دائماً على محمد علي في مجال الخلاف مع الدولة العثمانية ، وأنه طعنها في الظهر ، وأنه كشف ضعفها كما حدث عندما ضم الشام إلى مصر مما سنأتي إليه . والوقائع الثابتة كما أوضحنا ستظل تؤكد ان الدولة العثمانية كانت هي البادئة دوماً بإحداث المشكلات بل بتدبير المؤمرات المباشرة للاطاحة بمحمد علي وذكرنا فصولاً من ذلك وسنتابع فصولاً اخرى. ولكننا نتوقف الآن عند حلقة واحدة هي مؤامرة لطيف باشا ، وهي بالغة الدلالة لأنها لايمكن تصنيفها إلا تحت بند ( منتهى النذالة ) أن تطيح بمحمد علي بعد أن أعاد لك بل وفور أن أعاد لك مفاتيح المدينة المنورة . وكان على أي عقل استراتيجي في الآستانة أن يدرك أهمية الاعتراف بمحمد علي حاكماً للمنطقة العربية في اطار الدولة العثمانية لأنه يسد ثغرة حقيقية لاتملك السلطنة أن تسدها ، وهي حسن ادارة وسياسة المنطقة العربية أو مايسمى الشرق الأوسط أو بالتسمية التى استخدمها (المستطيل القرآني ) . الواقع أن العثمانيين لم يدركوا الأهمية القصوى لهذه المنطقة في مجال الصراع العالمي ، وكانوا لايتخيلون إلا ان تكون مجرد فناء خلفي لهم . ولو أدركوا لما كان من الحتمية التاريخية أن تسقط الدولة الاسلامية هذا السقوط المدوي عام 1909 ثم رسمياً عام 1924 . فقد كانت الدولة الاسلامية تضعف ولا تموت ، وتنتقل من مركز لآخر ولا تفنى ، تكبو ثم تصحو حتى عام 1924 حيث انتهت كلية ولم نستطع استعادتها حتى الآن بعد مرور قرابة مائة عام .
كان لطيف باشا أغا من مماليك محمد علي قربه إليه واختصه وجعله أمين خزانته ، فلما جاءت الأنباء باستيلاء الجيوش المصرية على المدينة المنورة واستخلاصها من أيدي الوهابيين، أوفده محمد علي إلى الآستانة في صحبة ابنه اسماعيل ليزف البشرى إلى الديوان العالي ومعهما مفاتيح المدينة المنورة . فأنعمت الحكومة التركية على لطيف أغا برتبة (باشا ) –€・وكانت الباشوية كرتبة تصدر من الآستانة . وهذا أول شخص من خارج أولاد محمد علي يحصل على هذه الرتبة ، وهو لم يكن له أي دور في الحجاز ! وتروي كتب التاريخ ان بعض رجال ( المابين ) وهو مايطلق على البلاط العثماني أقنعوه بالقيام بانقلاب على محمد علي ليتولى هو حكم مصر . وعندما عاد إلى مصر ظهرت في سلوكياته أمور تثير الريبة . عندما سافر محمد علي إلى الحجاز طلب من نائبه محمد لاظ أوغلي مراقبته ، وعندما تزايدت الشكوك قام بالفعل بمحاكمته وتم إعدامه ، وهي التطورات التي عجلت بعودة محمد علي لمصر.
ويشكك بعض المؤرخين في علاقة العثمانيين بهذه المؤامرة ، وهو أمر غير منطقي ، فلطيف باشا ماكان ليتآمر لحساب نفسه ، فالتآمر في ولاية عثمانية لايكون إلا بالاتفاق مع الآستانة ، فهدف التآمر ليس إلا من أجل الحصول على موقع الوالي ، خاصة وأن شخصا من نوعية لطيف ليس لديه رؤية لمشروعات انشقاقية ( كعلي بك الكبير مثلاً ) . والمحتمل أن عناصر البلاط العثماني لم تدفعه للانقلاب الفوري ولكن للتحضير بهدوء وبالتدريج للانقلاب لأن الوقت غير مناسب في ظل انتصارات محمد علي في الجزيرة العربية ولأن الأمر يحتاج لتحضير . ومن الأمور التي أثارت شكوك محمد علي قبل سفره للحجاز أن لطيف باشا كان يحاول إقناعه للعودة إلى استجلاب المزيد من المماليك .
عمر مكرم يهنئ محمد علي بالنصر :
كان انتصار محمد علي على الحركة الوهابية مدعاة لحالة من السرور والفرح والأفراح والاحتفالات في مصر وفي مختلف ارجاء العالم الاسلامي ، امتزج فيها ماهو رسمي مع ماهو شعبي . وكان الأمر الذي يهم الناس هو عودة شعيرة الحج التي كانت قد انقطعت لعدة سنوات . وكان الوهابيون قد منعوا دخول المحمل من الشام ومن مصرعلى أساس انه يتضمن مظاهر غير اسلامية . ولكن لعل محمد علي لم يسعد وسط هذه الاحتفالات قدر ماسعد بالتهنئة التي وصلته من السيد عمر مكرم يشيد فيها بما أحرزه من نصر للاسلام والمسلمين ومع الأسف فإن الجبرتي لم ينشر نص الرسالة ، ولكنه نشر نص الرسالة التي بعثها محمد علي رداً لعمر مكرم على رسالته . وهي جديرة بالتسجيل في ظل ماحدث بين الرجلين الكبيرين من خلافات .
النص
{إلى مظهر الشمائل سيفها ، حميد الشئون وسميها سلالة بيت المجد الأكرم  والدنا السيد عمر مكرم :
أما بعد فقد ورد الكتاب اللطيف من الجناب الشريف تهنئة بما أنعم الله علينا ، وفرحا بمواهب تأييده لدينا ، فكان ذلك مزيداً في السرور ومستديماً لحمد الشكور ومجلبة لثنائكم واعلانا نبيلا منكم ، جزيتم حسن الثناء مع كمال الوفاء ، ونيل المنى ، هذا وقد بلغنا نجلكم عن طلبكم الاذن في الحج الى البيت الحرام وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام للرغبة في ذلك والترجي لما هنالك . وقد أذناكم في هذا المرام تقرباً لذي الجلال والاكرام ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام فلا تدع الابتهال ولا الدعاء لنا بالقال والحال كما هو الظن في الظاهرين والمأمول من الأصفياء المقبولين والواصل لكم جوابا منا إلى كتخانا ولكم الاجلال والاحترام مع جزيل الشكر والثناء}
ويعلق احمد حسين على ذلك بقوله : ( وهكذا خاطب محمد على السيد عمر مكرم باعتباره والدا له ولعله أراد في ذلك أن يكفرعن خطيئته نحوه ) وكان محمد علي قبل ذلك قد وافق على انتقال السيد عمر مكرم من دمياط إلى طنطا . وقد عاد السيد عمر مكرم بناء على هذا الخطاب إلى القاهرة وأقبلت عليه جموع المهنئين حتى ازدحمت بهم داره مرة اخرى . ولم تساعد عمر مكرم صحته على تحقيق رغبته في الحج . فظل ملازماً بيته حتى وافته المنية . رحمة الله عليه .
ضم واحة سيوة لمصر!!

عندما بدأت الكتابة عن عهد محمد علي في هذه الدراسة كان تقييمي العام لهذا العهد هو هو الذي توصلت إليه عندما وصلت إلى نهايتها تقريباً . ولكن لا أكتم أنني أصبحت أكثر اندهاشاً من كم المنجزات التي تمت في عهده وقد تكشفت لي تفاصيل هذه المنجزات ، بل تكشفت لي منجزات ” جديدة” أي لم أكن على علم بها ، لأن لا أحد يتحدث فيها ولم ندرسها بالطبع في المناهج الدراسية . فقد كنت أعلم أن محمد علي صانع خريطة السودان الحالي ، ولكن لم أكن أعلم أنه استكمل أيضاً بعض ملامح الخريطة المصرية نفسها . محمد علي هو الذي قام بإعادة ضم واحة سيوة لمصر بعد أن اصبحت لفترة طويلة خارج السيطرة المركزية في اطار اضمحلال الدولة المصرية في العهد العثماني ( قرابة 3 قرون ) والحقيقة فإنني لا أتبين متى آخر مرة كانت سيوة تابعة للحكم المصري . ونعلم من التاريخ أن واحة سيوة كانت جزءاً لايتجزأ من مصر في العهد المصري القديم وان الاسكندر الأكبر عندما غزا مصر زارها ، وقيل أنه زار معبد آمون فيها ، وأنه عمد نفسه إبناً لآمون في هذا المعبد ليرسخ شرعية حكمه لمصر , وواحة سيوة من الأماكن التي تم البحث فيها عن جثمان الاسكندر المفقود ولكن لم يتم العثور عليه لا في سيوه ولافي الاسكندرية ولافي أي مكان حتى الآن .
في فبراير 1820 جهز محمد علي تجريدة من 1300 جندي بقيادة حسن بك الشماشرجي لفتح واحة سيوة ونشب قتال بينه وبين أهلها دام ثلاث ساعات وانتهى بهزيمة الأهلين وخضوعهم وطلبهم الأمان واعترافهم بالطاعة والولاء للحكومة المصرية . وقد جرى ذلك قبيل حملة فتح السودان ، وكأنه أراد أن يأمن حدود مصر الغربية قبل الزحف جنوباً . وأعقب هذا الفتح توارد بعثات لكشف الآثار وتوصلت لمعلومات مهمة حول تاريخ وحضارة مصر. منذ ولدنا لم نسمع عن واحة سيوه إلا كل خير ، وأن أهلها كرماء مضيافون ، وانها تذخر بامكانات زراعية كبيرة لتوافر المياه الجوفية بها إلى حد التفجر . والذي لايعرفه كثيرون أن أهل سيوه الأصليين جميعا من الأمازيج ( البربر) وكلهم مسلمون كباقي الأمازيج في شمال افريقيا . والأمازيج هم أهل شمال افريقيا الأصليين قبل موجات الهجرة العربية الكبرى التي تدفقت مع الفتح الاسلامي من مصر حتى المغرب والأندلس وبعض جزر غرب المتوسط . وقد اختلط العنصران الأمازيجي والعربي بانصهار كبير بفضل الاسلام الذي دخل فيه الجميع خلال فترة غير طويلة ، بينما كان البيزنطيون ( أو الامبراطورية الرومانية ) لم يتمكنوا من توطين الدين المسيحي . وكان الأمازيج أقرب إلى الوثنية قبل دخول الاسلام . والآن يمكن الحديث عن الاسلام بنسبة 100% تقريباً في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب مع وجود أقلية يهودية محدودة في المغرب وأقل من ذلك بكثير في ليبيا وتونس ولعل هؤلاء اليهود من مطاريد الأندلس ، حيث طرد الصليبيون المسلمين واليهود معاً أو ماتبقى منهم بعد المذابح التي أقيمت لأتباع الديانتين . وكان اليهود يعيشون بحرية في ظل النظام الاسلامي الأندلسي . وتركز الأمازيج يتزايد كلما توجهت غرباً ، فالكتلة الأكبر في المغرب والجزائر ثم أقل في تونس وليبيا حتى يصلوا إلى نقطة واحدة في سيوة .
وتاريخياً لم يكن للأمازيج ( البربر) دولة موحدة فقد كان سكان شمال افريقيا أشبه بالجزر الصحراوية المبثوثة في تضاعيف المحيط الصحراوي الكبير أو في الجبال أو في المدن الساحلية وكان انقسامهم إلى مدر ( حضر ) ووبر ( بدو صحراويون ) مما أدى الى عدم نشوء دولة بربرية موحدة وقد ساعد على ذلك أيضاً عدم وجود أي لغة يتفاهمون بها كلهم ، وطريقة يكتبون بها ما يريدون كتابته وهذا ماساعد على تعلمهم للعربية التي أصبحت اللغة الموحدة لهم جميعا. وكانوا خاضعين للنفوذ الروماني خاصة في المدن الساحلية التي اهتم الرومان باحتلالها كثغور بحرية بالاضافة لقربها من الشريط الساحلي الزراعي خاصة في تونس والجزائر وقام الفتح الاسلامي بطرد الروم ونشر الدعوة بين أهل شمال افريقيا وتركوا الأرض الزراعية في أيديهم كمافعلوا في مصر والشام والعراق وهي السياسة التي أقرها عمربن الخطاب وسار عليها من بعده . في البداية دخل أهل الشمال الافريقي في الاسلام بسهولة ولم يقاوموا الفتح الاسلامي إلا قليلا بالتعاون مع الروم وبتحريض منهم في المواقع التي تواجد فيها الروم . وامتد الاسلام سريعاً من مصر إلى برقة حتى طنجة في المغرب بين 20 و64 هجرية . ولكن فشت الردة بين البربر وقاموا بحملة عسكرية مضادة عام 64 هجرية بالتعاون مع الروم ، ولكن عاد المسلمون الى طنجة عام 69 هجرية واستقر المسلمون على طول الشريط الشمال افريقي على يد حسان الغساني ( من التابعين) 82 هجرية ثم أعاد موسى بن نصير فتح طنجة 85 هجرية واستقر الاسلام هذه المرة في صفوف البربر حتى شجع ذلك على فتح الأندلس بسواعد الكثيرين منهم وعلى رأسهم طارق بن زياد عام 92 هجرية . والدخول في الاسلام والاستقرار فيه بين 20 هجرية و85 هجرية أي خلال 65 عاما هي فترة قصيرة للغاية اذا قورنت بدخول أغلب المصريين في الاسلام بعد 280 عاماً ، في حين أن دخول البربر كان ولايزال بنسبة 100% . ولعل تفسير ذلك ان المصريين كانوا يدينون بدين سماوي ( المسيحية ) وان أدخلوا عليه تعديلات ، في حين كان البربر وثنيين ولم يجذبهم الروم الى مذهبهم المسيحي وأنا استخدم مصطلح ( البربر) لأنه هو الموجود في كتب التاريخ وهي التسمية التاريخية الصحيحة وهي لاتعني المعنى العامي المستخدم الآن ( البربرية بمعنى الهمجية ) وهم يفضلون كما قال لي أحدهم عدم استخدام هذا التعبير واستخدام تعبير (الأمازيج) ولكن الأمازيجية هي في الأساس لغة البربر وهي لغة ( محكية ) غير مكتوبة كلغة النوبة . وانا مع مراعاة مشاعر الأخوة في شمال افريقيا ولكنني استخدمت عمداً حتى الآن ( البربر) لأن هذا هو الاسم التاريخي لهم ، واذا قرأت في أي كتاب أو مرجع تاريخي لن تجد سواه . فاذا تحدثت عن الأمازيج دون توضيح فالقارئ لن يجد هؤلاء في كتب التاريخ !! فيحدث ارتباك أو توهان وبعد هذا التوضيح فمن الآن فصاعدا لن أستخدم سوى تعبير (الأمازيج او الأمازيغ ) وسألقي الضوء سريعاً على هذه القضية ليس بسبب سيوة ( وان كان بمناسبة الحديث عنها ) لأن سيوة لاتمثل أي مشكلة في مصر أو لمصر فهم منتمون للمصرية باخلاص . وعدد أهلها القليل في واحة معزولة لايغري أي أحد بعمل أي نشاط انشقاقي عرقي ، والاسلام مستقر بينهم 100% وأخلاقهم حميدة يشيد بها من يزور الواحة كما أن نساءهم منتقبات . ولكن القضية الأمازيغية أصبحت خطيرة من وجهة نظري ولا ينتبه إليها أهل الاسلام في شمال افريقيا أو في عموم البلاد الاسلامية . وبطبيعة الحال فان هذه الدراسة لاتتعصب للمستطيل القرآنى وتهمل كل ماهو خارجه في العالم العربي والاسلامي . فما المستطيل القرآني –・من وجهة نظرنا –・إلا مركز الدولة الاسلامية العظمى الماضية والمرتقبة باذن الله . وهذا المركز لا أهمية له إذا لم يمد جناحيه شرقاً وغرباً في ربوع العالم الاسلامي –・كما حدث في صدر الاسلام –・إلى شمال افريقيا أو مانسميه الآن المغرب العربي مع التلاحم مع تركيا وايران والشرق الاسلامي حتى اندونيسيا ، والأولوية ستكون دوما في اتجاه الأكثر استعداداً وقرباً وتقبلاً للوحدة الاسلامية . وقد أوضحنا من قبل أنها ستكون –・وفق تصورنا –・أقرب للنظم الكونفدرالية التي تعتمد أقصى درجات اللامركزية ، قريبة الشبه بالاتحاد الاوروبي –・وبحلف الناتو –・ومجموعة السبعة الكبار . ولكن نحن نعيش الآن في مرحلة تحرر كل قطرعلى حدة من التبعية والهيمنة الخارجية والعودة الى المرجعية الاسلامية ، ثم نأتي لمرحلة تقارب هذه الأقطار الاسلامية مع بعضها البعض ، ثم التوصل الى شكل من الوحدة أو الاتحاد أو التعاون والتعاضد أو تشكيل جبهة موحدة في السياسة الدولية وكل هذه أشكال ودرجات من الوحدة التي دعانا إليها ربنا ( وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون ) الأنبياء 92 .
غاصت مسألة الأمازيجية في بحار الاسلام العميقة والجميلة ، الاسلام الذي وحد دوما بين البشر جميعا ” كلكم لآدم وآدم من تراب ” ولافرق بين عربي وأعجمي الا بالتقوى سواء هناك في المغرب العربي أو هنا في المشرق نحن لا نعرف سوى الجزائري والمغربي . ولم يلتفت أحد إلى أن زعيم المقاومة المغربية عبد الكريم الخطابي الذي أثرت تجربته في حرب العصابات في أفكار ماوتسي تونج الصيني وجيفارا الكوبي واستقبلناه في مصر ، من أصل أمازيجي فقد كان صاحب عقيدة اسلامية دارساً للقرآن حافظاً له ، وان كان يتحدث بالأمازيجية مع العربية طبعا. فقد بقت خاصة في المغرب والجزائر مناطق أمازيجية لم تختلط فيها الدماء بصورة كاملة بسبب المعيشة في بعض المناطق الجبلية الوعرة ، وهي ظاهرة قريبة من ظاهرة الأكراد وان كانت جبال الكرد أشد وعورة وبالتالي أصبحوا أكثر إنعزالا.
المهم نحن لم نشعر –・هنا في الشرق –・بأي أثر لاستمرار هذه الأصول العرقية مع العلم أنه في الجزائر والمغرب حيث التركيز الأكبر للأمازيج حدثت عمليات تزاوج واسعة بين العرب والأمازيج . وربما حدث هذا بدرجة أكبر في تونس وليبيا . وكل هذا لا يشكل أي مشكلة ، بل لم نسمع بها من قبل ، ولاتشغلنا في شئ لأنها من طبيعة قوانين الاجتماع البشري . ولكن اليهود والغرب لا يتركوننا في حالنا ، وهم لايريدون لنا الاستقرار . وكما يهتمون في المشرق باستثمار الخلاف الشيعي –・السني وهذا لم يحدث إلا بعد قيام الثورة الايرانية . أو استثمار الفالق الجغرافي والعرقي بين الكرد والعرب وبين الفرس والعرب . وبين الترك والعرب (لواء الاسكندرونة السوري الذي ضمته تركيا الأتاتوركية لها ) وفي السودان يستغلون وجود أقليات مسيحية أو وثنية ، أو فالق عرقي بين العربي والافريقي في دارفور وكردفان ، أو فالق اجتماعي بين الرعاة والمزارعين . وفي مصر يتم استغلال المسألة المسيحية ومسألة النوبة في أقصى الجنوب . ففي شمال افريقيا تطورت المسألة الأمازيجية بصورة دراماتيكية في العقود القليلة الماضية وأصبحت ظاهرة على السطح بصورة خطيرة وكأنها مسألة تحرر وطني وحق تقرير المصير . وفي فرنسا الموكل إليها أمر المغرب العربي ، تم تأسيس معهد أمازيغي يرأسه أحد اليهود . وتعددت الأنشطة الغربية لاحياء مسألة الأمازيج ، وقد لاحظت ذلك بقلق خلال زياراتي المتعددة للجزائر والمغرب . وعلى طريقة تأسيس منظمات المجتمع المدني انتشرت في الجزائر والمغرب صحف ومجلات ومنظمات تدعو لإحياء الثقافة الأمازيجية . والمعروف ان اللغة الأمازيجية لغة محكية غير مكتوبة كلغة النوبة والتي هي لغة محورة من اللغة المصرية القديمة وفقاً لبعض البحوث . بدأت معاهد في فرنسا وغيرها تبحث كيفية تحويل الأمازيغية إلى لغة مكتوبة وهو أمر يظهر فيه الافتعال . فاذا كان اليهود سعوا لإحياء لغة ميتة ( العبرية ) فذلك لأنهم كانوا يعدون لبناء دولة يهودية ، كما أن اللغة العبرية كانت مكتوبة . أما السعي لكتابة لغة شفوية بصورة متعمدة فهو محاولة للتمزيق الاصطناعي وإحداث الفرقة .وظهرت ابحاث وممارسات لاحظتها أثناء زياراتى للمغرب ، هل نكتب الأمازيجية بحروف  عربية أو لاتينية . ولا أعرف إلى ماذا انتهوا في هذه القصة فمنذ سنوات لم أذهب الى المغرب ولم أتابع هذا الموضوع اللغوى .
وفي عهد الملك الحسن ( والد الملك محمد السادس الحالي ) حيث كان مساعده الرئيسي يهودي وربما لايزال اليهود مؤثرين داخل البلاط الملكي ، وفي اطار تبعية النظام المغربي عموما للغرب ، سبقت المغرب في اطار إثارة النعرة الأمازيغية ( أحياناً تنطق بالغين وأحياناً بالجيم) فقرر الملك الحسن اذاعة النشرة الاخبارية في القنوات الرسمية باللغة الأمازيغية بعد اللغة العربية والفرنسية ، فأصبحت النشرة تتكرر بثلاث لغات ! وقد شاهدت ذلك بنفسي في إحدى زياراتي للمغرب في أواخر التسعينيات من القرن العشرين . ثم حدث أمر أكثر طرافة . فكما قلنا فان لغة البربر الشفوية ليست موحدة بينهم بل تنقسم إلى عدة لهجات لايفهم المتحدثون بها بعضهم بعضا ، وقد كان هذا من أسباب إقبالهم على اللغة العربية كلغة مشتركة للجميع. وحدث أمر كهذا في جنوب السودان قبل الاستقلال وحتى الآن لأن لغات القبائل ليست موحدة فاعتمدوا على اللغة العربية للتواصل المشترك . فماذا فعل الملك الحسن ؟ لن تتخيلوا! فعندما اعترض بعض الأمازيغ على عدم فهمهم للنشرة الاخبارية . قرر اذاعة النشرة باللغة الأمازيغية 3 مرات وفق أكثر اللهجات انتشاراً . وهذا أمر أتحدى أن تكون قامت به أي دولة في العالم ، وكأن المغرب يسعى لتفتيت نفسه بالقوة . وهي عملية أشبه بالانتحار البطئ . وكان تعدد اللغات أو اللهجات المحكية، كان يفترض إغلاق هذا الباب على أساس عدم وجود لغة موحدة لا فتح الباب على مصراعيه للتشوش وتعميق الانقسام .
وفي احدى زياراتي للجزائر التقيت بحزب الثقافة القومية برئاسة السعدي وقال لي كوادر الحزب إننا نسعى لإحياء الثقافة الأمازيغية ، ونحن حزبنا كله من البربر . ويعتبر هذا الحزب حزباً فرنسياً أو موالياً لفرنسا والغرب ويعلن توجهه الغربي والمتغرب بدون مواربة أو التفاف. وتوجد أحزاب أخرى مماثلة على نفس هذه القاعدة وهم يتركزون في منطقة القبائل بالاضافة لتواجدهم في العاصمة والمدن الكبرى . وأشهر مدن هذه المنطقة ( تيزي أوزو) . وهؤلاء كانوا من أشد أعداء التوجه الاسلامي لجبهة الانقاذ الاسلامية التي فازت في الانتخابات في أوائل التسعينيات من القرن العشرين ، مما استدعى انقلاباً عسكرياً أطاح بالرئيس الشاذلي بن جديد الذي ارتضى بنتيجة الانتخابات ولم يكن يرى بأساً في تولي الاسلاميين للحكم ولو على سبيل التجربة وباعتبارهم مواطنين جزائريين . وقد كنت في الجزائر في هذه اللحظات الحرجة لحضور الدور الثاني للانتخابات التشريعية بعد أن فازت جبهة الانقاذ بـ 80% من المقاعد في الدور الأول وحسم الأمر لذلك وقع الانقلاب قبل اجراء الانتخابات في الدور الثاني .
  ثم حدث في الجزائر تطور مؤسف منذ سنوات قليلة في عهد عبد العزيز بوتفليقة حيث تم ادخال تعديل على الدستور باعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية ثانية في البلاد . وهذه مهزلة كبرى اذ تستجير الجزائر من رمضاء الفرنسة بنار الأمازيغية وهي لم تنجح بعد تماما في عملية التعريب ولايزال عموم الجزائريين يتحدثون بالفرنسية أو يخلطون العربية بالفرنسية (فرانكوآراب) لذلك أحياناً تعاني من الحديث مع مواطن جزائري في الطريق العام.
العودة إلى الاسلام وزيادة وزن التيار الاسلامي هي التي أعادت بعض الرونق للغة العربية . و المغرب يفكر فى تعديل دستوري مماثل .
في آخر زيارة لي للمغرب وجدت أكشاك الصحف تعج بالصحف الأمازيغية وان كانت مكتوبة بالعربية . ولا تنقطع الاحتفالات في مناسبات مفتعلة لإحياء مايسمونه الثقافة الأمازيغية حتى الاحتفال برأس السنة الأمازيغية وفقاً لتقويم خاص قديم . وكذلك حفلات المأكولات الأمازيغية والجمعيات الثقافية ، حالة من الحمى المفتعلة، وكأن المغرب تنتفض لتعود إلى هويتها الأصلية التي سرقها العرب والاسلام . والتمويل الغربي والدعم الاعلامي الغربي واضح لا يحتاج لأي جهد لاستنتاجه . والحكومة المغربية تشجع ذلك أو تصمت عنه باعتبارها من أمور الديمقراطية !!
وهناك توجه غربي –・يهودي واضح لتصعيد الاهتمام المفتعل بهذا ، كما نتعرض في مصر أحياناً لصراعات ( أو هوجات مؤقتة) حول إحياء الفرعونية واللغة الهيروغليفية أو إحياء اللغة القبطية مع ان الانجيل لم ينزل بهذه اللغة .
  ولكن الموضوع في المغرب والجزائر أصبح أكثر صخباً وعلواً حتى فرض نفسه على الدستور وعلى نشرات الأخبار الرسمية .
وأخطر من كل ذلك فان التيارات الاسلامية في المغرب مثلاً لاتدرك خطورة هذا الأمر وربما تخشى إثارته حتى لاتخسر جماهيرياً في قطاعات الأمازيغ خاصة في الانتخابات . لا تكترث التيارات الاسلامية كثيراً بهذا الأمر وتقول إننا نحن أنفسنا أمازيغ ! وليست هذه هي القضية . نحن أمام افتعال حالة ثقافية لتتحول إلى مسألة قومية ويمكن أن تؤدي يوما ما إلى المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال . واذا لم تتحقق هذه المخاطر فعلى الأقل نجد أنفسنا أمام حالة من تمزيق المجتمع ، وتعدد الولاءات الوطنية وخلق حالة من الشقاق وعدم الانسجام ، بل وتوظيف القضية في تعميق العداء للعروبة والاسلام . وكثيراً ما ينقل الاعلام الغربي أنباء عن اجتماعات مجمعة للأمازيغ ومؤتمرات تضم عناصر أمازيغية من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وواحة سيوه ، وربما من بعض جزر البحر المتوسط والمحيط الأطلسي . وقرأنا عن تشكيل جبهة أمازيغية في ليبيا !! وهي من البدع التي لم يكن لها وجود منذ قرون في شمال افريقيا. والاسلام لا يعادي تعدد الأعراق والقوميات واللغات ، ولكن بلاشك لا يسعى لتعميق المفاهيم العرقية والقومية واحياء اللغات الميتة وتحويلها بافتعال إلى لغات مكتوبة بينما لا يوجد في الآثار أي كتابات قديمة لهذه اللغة .
في المجتمعات الأوروبية هناك قوميات متعددة وأيضاً لغات قديمة ولكنهم لايسعون لاحيائها أو تعميق الأصول القومية للمجموعات العرقية مثل ماهو الحال في فرنسا وأسبانيا ولا توجد أي محاولة لاحياء اللغات الميتة . ونمو النزعة الانفصالية في كتالونيا يستند إلى هذه الأسس القومية واللغوية لكن لا الدولة الاسبانية ولا الاتحاد الاوروبي يشجع نمو هذه الاتجاهات وإلا لتمزقت أوروبا للعديد من الشظايا . ومثال آخر في قومية الباسك التي تضم 3 مقاطعات أسبانية ومقاطعتين فرنسيتين ولها لغة خاصة . ولكن ما لا يرتضونه لأنفسهم حفاظاً على وحدتهم وتماسكهم يصدرونه لنا بإحكام وتخطيط ، فالمؤسسات الثقافية الاستعمارية التي تشكلت إبان الغزوات الفرنسية لشمال افريقيا وغربها ، لم تكف عن العمل بعد انهاء الاحتلال العسكري فهي ماتزال تعمل بقوة للحفاظ على الهيمنة والسيطرة والتبعية ، كما هو الحال فيما يسمى المؤسسات الفرانكوفونية .
والآن نعود إلى فتح السودان بعد أن تمت إعادة سيوة للوطن !!
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

                                                     - 21 -

12 ألف جنيه لتركيا لضم سواكن لمصر!

حدود مصر قبل محمد علي كانت أبعد من حلايب بكثير !
أمريكا تصر على تمزيق السودان والبشير يرفع الراية البيضاء

السودان جزء لايتجزأ من مصر ، والحدود الجغرافية والقومية لمصر تشمل وادي النيل من منبعه إلى مصبه ، فمصر والسودان جزءان لا ينفصلان من وحدة سياسية واقتصادية لا تقبل التجزئة ، تربطهما روابط الوطن والتاريخ واللغة والدين وصلات الدم والنسب والمرافق المشتركة . هكذا تحدث عبد الرحمن الرافعي , وهكذا بالضبط كانت تفكر وتدعو حركة مصر الفتاة . ولذلك اقتبست مرة أخرى بالنص كلمات الرافعي , والحقيقة ان الاتفاق كبير بين حركتنا وحركة الحزب الوطني لمصطفى كامل الذي كان يضم عبد الرحمن الرافعي ، الاتفاق كبير في نقاط عدة . وقد كتبت دراسة خاصة في هذا الشأن بعنوان ( مصر والسودان –・التمرد –・الحصار –・الانقاذ ) المركز العربى الاسلامى للدراسات –・القاهرة – 1997 –€・الطبعة الثانية .
والسودان معدود منذ القرون الغابرة جزءاً من مصر ولقد أثبت ( ماسبرو) عالم المصريات الشهير وغيره من المؤرخين مابين مصر والسودان من الروابط التاريخية القديمة وثبت من النقوش الهيروغليفية أن الملك تحتمس الأول توغل حتى إلى منطقة البحيرات واحتل بعض النقاط الحربية التي كانت على النهر (شاير لونج بك . مصرومديرياتها المفقودة). واذا كان السودان قد فصل من مصر في بعض الأزمنة قديماً أو حديثاً فلم يكن ذلك إلا خروجا على القاعدة الأزلية وهي أنه جزء لايتجزأ من مصر .
إن ارتباط مصر والسودان ضرورة حيوية لهما وخاصة لمصر ، فإنها تستمد حياتها من النيل فهي هبة النيل كما قال هيرودوت بل يقول البعض إن مصرهي النيل والنيل هو مصر ، فلا تطمئن على حياتها اذا تملكت منابع النيل دولة أخرى . وهذا يكشف خطورة مانسمعه بين الفينة والأخرى من حكام أثيوبيا وثيقى الصلة باسرائيل وأمريكا عن مشروعات لإقامة سدود على النيل الأزرق المصدر الرئيسي لمياه النيل . ولايتحقق استقلال مصر التام إلا اذا شمل وادي النيل وصارت هي والسودان وحدة سياسية واحدة . ولا تمييز في ذلك لمصر على السودان في هذه الوحدة فكلاهما جزء لايتجزأ من هذا الوادي ، وكلاهما يكمل الآخر ولاغنى له عنه . فمصر لا تستطيع أن تقف على قدميها منفصلة عن السودان ، والسودان أيضاً لا يستطيع أن يقف على قدميه منفصلاً عن مصر ، واذا انفصلا يفقد كل منهما كيانه ويصبح كلاهما إقليما تنقصه مقومات الدولة القوية الحقيقية .
ولم تغب هذه الفكرة عن عقل محمد علي الاستراتيجي الذي كان يدرك تماماً عبقرية مصر موقعاً وموضعاً في أمتها العربية الاسلامية ، ويدرك هذا الارتباط العضوي التاريخي بالسودان ويعدد المؤرخون أسباباً عدة لفتح السودان وهي لا تعدو أن تكون أجزاء من هذا التصور العام . فجرى الحديث عن محاولة لاكتشاف مناجم الذهب والماس في السودان . ومن أسباب هذا الفتح – كما يقول المؤرخون –・الخلاص مما تبقى من الأرناءود باستهلاكهم في هذه الحرب بعد حروب جزيرة العرب ، بينما هو يقوم بتأسيس الجيش المصري في نفس الوقت ، مع تصور أن يستعين بجند من السودان كما أوضحنا . كذلك مطاردة البقية الباقية من المماليك الذين لجأوا من الصعيد إلى اقليم دنقله . ومن ضمن تشوش بعض كتاب التاريخ فانهم يقولون إن هؤلاء فلاحون مصريون هاربون من ظلم محمد علي !!  ولكن يبقى الأساس هو توسيع ملك مصر من الجنوب واكتشاف منابع النيل وإيجاد الروابط الإقتصادية بين مصر والسودان وتأمين طرق التجارة بين البلدين . ويؤكد كاتب انجليزي ( سوني بيل ) إن فوائد الري ومنافعه والاطمئنان على سلامة النيل كانت من أهم أغراضه ، وهذا مايؤكده ابراهيم باشا فوزي في كتابه ( السودان بين يدي غردون وكتشنر ) فيقول إنه علم من أحد المقربين من محمد علي ان دولة أوروبية كبيرة كانت تستهدف احتلال منابع النيل ( يقصد انجلترا ) وهذا ماتوارد علمه لمحمد علي وحفزه على ضرورة إنفاذ الحملة إلى السودان .
  وتبلغ مساحة السودان ضعف مساحة مصر ( مرتين ونصف ) أي 2 مليون كيلو متر مربع ونصف المليون ، ومساحته تضاهي ربع مساحة أوروبا . لذا يعتبر فتح السودان أهم وأفضل حروب محمد علي . ولم يواجه جيش محمد علي مقاومة تذكر فقد كان يواجه قوات مشتتة عزلاء لا سلاح معها إلا الرماح وتركزت المقاومة الشديدة نسبياً في نقاط محدودة ( جنوب دنقلة –・كردفان –・سنار ) وكانت خسائر الجيش المصري أساساً بسبب الحميات والأوبئة.
وقاد الحملة ابن محمد علي الثالث اسماعيل باشا ، واصطحب محمد علي الحملة إلى ما وراء شلال أسوان ليرتب مواقع الجنود ويضع لهم الخطط ويرفع المعنويات وعاد إلى الجيزة . ولم تتجاوز القوات 5400 مجهزين بـ 24 مدفعاً بقيادة اسماعيل . وجيش آخر مواز لفتح كردفان قوامه 4 آلاف جندي وعشر مدافع فالمجموع قرابة 10 آلاف وصحب الحملة 3 من علماء الأزهر لاقناع أهالي السودان بالتعاون والاعتراف بسلطة الحكومة وحقن الدماء . وتم نقل هذا الجيش بـ 3 آلاف مركب و3 آلاف من الابل للسير براً ، ومعهم ألفان من الأتباع .
هرب المماليك من وجه الحملة وتم احتلال بلاد دنقلة كلها بدون قتال . أما في جنوب دنقلة فقد قاتل الشايقية ببسالة ، ولما انتصر عليهم اسماعيل أبدى إعجابه بهم وعرض عليهم الانخراط في الجيش المصري فوافقوا وأخلصوا الوفاء للحكم المصري على مدى السنين . وأعلن ملك بربر ولاءه لاسماعيل فأقره على بلده وذلك في 10مارس 1821، وبعدها قدم ملك شندي (نمر) ولاءه . حتى وصل الجيش إلى ملتقى النيلين الأزرق والأبيض ثم احتل أم درمان والخرطوم التي تقع على ضفة النيل وهي على بعد 1800 كيلومتر من أسوان ولم يكن بها إلا عشرة بيوت من الغاب وهنا تم تأسيس عاصمة السودان . ثم تم فتح مملكة ( سنار ) وأهم مدنها واد مدني ، وقدم ملك سنار الولاء لاسماعيل محمد علي . وهكذا تلاحظون ان السودان لم يكن موحداً بل كان مجموعة كبيرة من الممالك الصغيرة .
إن محمد علي –・بالمعنى الحرفي –・هو صانع خريطة السودان الحديث ، وموحد السودان . الفرع الثاني من الحملة كان جيشاً بقيادة صهر محمد علي محمد بك الدفتردار قام بفتح كردفان في غرب السودان وكانت تابعة لسلطان دارفور كمملكة مستقلة . وتم احتلال (الأبيض) عاصمة كردفان.
كما ذكرنا فان الأوبئة كانت العدوالرئيسي للجيش المصري فمات منها قرابة 1500 حتى اكتوبر 1821 ولم يبق صالحاً للقتال سوى 500 جندي في جيش اسماعيل . فجاء ابراهيم باشا الابن الأكبر لمحمد علي رجل المهام الصعبة ومعه إمدادات ومؤن فرفع المعنويات وقسم القوات الى فرعين فرع بقيادة اسماعيل على النيل الأزرق ( اقليم فازوغلي) وفرع بقيادة ابراهيم في اتجاه بلاد الدنكا على النيل الأبيض ، وهذا هو عمق جنوب السودان . فالدنكا هي أكبر قبيلة في الجنوب ولكن ابراهيم أصابه المرض وعاد إلى مصر . وواصل اسماعيل وفتح فازوغلي وقدم له ملكها ( حسن ) الولاء .
                                                    *
بعد استقرار فتح السودان عين محمد علي حاكماً يسمى (حكمدار السودان) يجمع السلطة العسكرية والمدنية ويتبع وزارة الداخلية ومقره في الخرطوم . وتم تقسيم السودان إلى مديريات وتم استبقاء الحكام الأصليين في مراكزهم كمشايخ النوبة ودنقلة وبربر والحلفاية والرصيرص  وفازوغلي وملك سنار . واستقر في السودان 18 ألف جندي منهم 400 من الشايقية السودانية و400 من المغاربة وكانت الوحدات موزعة على المدن . وقد دخل في هذا الجيش عدد كبير من السودانيين مع مرور الأيام وأثبتت التجارب كفايتهم وولاءهم وحسن أدائهم للخدمة العسكرية ، وصار السودانيون ينتظمون في الجيش المصري كالمصريين تظلهم راية واحدة والولاء لدولة واحدة هي الدولة المصرية . واستمر الحكم المصري للسودان حتى عام 1884 بسبب قرار الاحتلال البريطاني بالفصل بين البلدين . وتراوح أداء ولاة السودان بين العدل والظلم . كان أفضلهم خورشيد باشا الذي أقام العدل وعلم الأهالي صناعة الطوب بديلا للدور المكونة من الغاب والجلود . وأمدهم بالطوب والأخشاب والألواح لتيسير العمران خاصة في الخرطوم ونظم الدواوين ووطد الأمن وانشأ المساجد وعني بالزراعة وطلب من محمد علي إرسال مزارعين مصريين أكفاء لتدريب السودانيين على الزراعة . كما توسع في شرق السودان حتى حدود الحبشة .
وأعقبه أحمد باشا أبو ودان الذي جلب من مصر كثيراً من الحيوانات المستأنسة والنباتات النافعة وبذورها فتحسنت الزراعة وارتقت شئونها ونشطت الصناعة في ترسانة الخرطوم ، واستكثر من السفن الأميرية في النيل وزاد من طرق المواصلات ، فاتسعت التجارة بين مصر والسودان والبلاد الافريقية الأخرى ، وأصبحت الخرطوم مركزاً  تجارياً وفتح اقليم كسلا وهو في الشرق حتى البحر الأحمر وعلى حدود ارتريا الحالية وأسس مدينة كسلا وجعلها عاصمة للاقليم .
وزار محمد علي السودان في جولة استمرت 5 شهور بين أواخر 1838 وأوائل 1839 للبحث في سبل تطوير الاستثمار ، وللاطمئنان على أحوال الرعية والعمل الاداري . وقدم الجيش المصري في هذه الحملة ثلاثة آلاف قتيل معظمهم بسبب الأمراض . وأقام المصريون حكومة منتظمة في البلاد وبسطت الأمن ، وتم التعامل مع السودان كجزء من مصر وليس كمستعمرة وانشأوا المدن وعلى رأسها الخرطوم وهي مكان مناسب كعاصمة حيث تقع عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض ولم تكن سوى محلة صغيرة للصيادين ، وسميت الخرطوم لأن ملتقى النيلين يشبه خرطوم الفيل . وأقيمت مباني الحكومة بالطوب الأحمر والمساجد وأنشئت فيها ثكنة للجنود ومستشفى ومصنع للبارود ثم ترسانة كبيرة تشمل مسبكاً للحديد ومعملاً للنجارة وفيها بنيت السفن النيلية . وانتشرت المباني السكنية التي أعطت شكلاً جميلاً للمدينة . وقام المصريون بتخطيط حدائق واسعة تتسم بالجمال والتنظيم ، وهو مالم نعد نقوم به في مصر الآن !! وزرع الخضر والتين والبرتقال والليمون والموز والنخيل والدوم . وزاد عدد سكان الخرطوم من لا شئ تقريباً الى 30 ألف في نهاية عهد محمد علي ثم 55 ألف عام 1883 . كذلك تم تأسيس مدينة جديدة 1840 في سنار . وعلى خلاف السابق أصبح التنقل في ربوع السودان آمناً مما شجع التجارة والرحالة والكشوف الجغرافية . وكانت تلك من سمات حكم محمد علي في الجزيرة العربية والشام أيضاً .
وقد أدى الأمن إلى تنظيم البريد عبر السفن والإبل بين مصر وجميع مديريات السودان ويقول جومبار الفرنسي إن البريد كان يصل من النيل الأبيض إلى باريس في 32 يوماً ، ومن خط الاستواء إلى باريس في 50 يوماً . وكان هذا امراً غير متصور قبل ذلك .
وأدخل المصريون زراعة القمح والخضر وغرسوا أشجار الفاكهة كالبرتقال والليمون والرمان والعنب ونسقوا الحدائق الغناء .
وتم تعمير مدينة سنار بالمباني الحكومية وثكنة للجنود ومسجد جامع . وأمر محمد علي بحفر الآبار في طريق صحراوي بالنوبة تسهيلاً للمواصلات بين مصر والسودان . وقد أدت هذه الحملة لتعبيد الطريق أمام المكتشفين للوصول إلى منابع النيل في بحيرة فكتوريا وشلالات ريبون . وكان ابراهيم باشا يحدث زواره عام 1821 بان الهدف من الحملة هو الوصول إلى منابع النيل . ووصل مكتشف مصري ( ابراهيم كاشف ) إلى بلاد الشلك والدنكا قريباً من بحر الغزال وهو البداية الحقيقية لجنوب السودان . وفي 1839 تحركت حملة عسكرية برئاسة سليم بك قبطان للمزيد من الكشوف الجغرافية ووصلت الي نهر سوباط وعادت البعثة بحقائق جغرافية علمية مهمة .
وقام سليمان قبطان بحملة ثانية 1840 وصلت إلى غندكرو على بعد 1080 ميلاً جنوب الخرطوم على مقربة من منطقة البحيرات . وكررها بحملة أخرى 1841 وصلت إلى نفس النقطة . ولم يحل دون المزيد من التقدم إلا مرض محمد علي .
اكتشفت هذه الحملات بلاداً ومناطق كانت الى ذلك الحين مجهولة ، ولم يطرقها من قبل سائح أو مكتشف ودرست جغرافيتها وعرفت أحوال سكانها ونباتها وأشجارها ومناخها وحيوانها ، فأفادت الحضارة والعلم فوائد جمة ثم إنها بسطت في طريقها نفوذ مصر فخفقت الراية المصرية لأول مرة في تلك الأصقاع النائية ، وهو ما أكمله الخديو اسماعيل حيث وصل بحدود مصر فعلاً إلى منابع النيل .
وكانت حدود مصر قبل الفتح الأول للسودان ( أي قبل محمد علي ) كانت تنتهي إلى جزيرة ساي جنوبي وادي حلفا ، فرقعة مصر كانت اذن أوسع مما تقره الحدود الحالية التي وضعها الانجليز شمال وادي حلفا . وهي الحدود التي نتشاجر مع السودان حالياً حول مثلث حلايب داخلها . والواقع ان حدود مصر كانت قبل الاحتلال البريطاني وقبل محمد علي تصل إلى الشلالين الثاني والثالث ، أما حدود مصر الحالية التي رسمها الانجليز فتتوقف جنوب الشلال الأول عند كروسكو والفرق بين النقطتين مسافة كبيرة جداً وهي واضحة على الخريطة (عشرات الكيلومترات طولياً ).
وهكذا في نهاية عهد محمد علي وبالدقة حتى عام 1840 فان مصر وحدت ممالك السودان وصنعت خريطته الحديثة كجزء لايتجزأ من مصر . في الشرق وصلت حدود السودان المصري إلى البحر الأحمر بضم اقليم كسلا بين نهر عطبره والبحر الأحمر وهو السودان الشرقي وكان متصلاً بثغري ( سواكن ) السوداني حالياً و( مصوع ) ارتريا حالياً والى الجنوب من كسلا وصل الجيش المصري إلى ( القضارف ) بالقرب من حدود الحبشة بل الى القلابات على حدود اثيوبيا تماماً . وفيما بعد استأجر محمد علي من سلطان تركيا سواكن ومصوع وأدخلهما في حدود السودان المصري ، وكانتا من أملاك السلطنة العثمانية القديمة ، ورأى محمد علي أهميتهما كمنفذ على البحر الأحمر ( لاحظ ان ممالك السودان لم تكن مطلة على البحر الأحمر حتى ذلك الوقت !!) . استأجر محمد علي من السلطان الميناءين مقابل 5 آلاف كيس ( 12 الف جنيه ) . {أي أن مصر دفعت 12 ألف جنيه لاستئجار سواكن في القرن 19 من تركيا . والآن في القرن 21 تصرخ مصر احتجاجاً على السودان لأنه اجر سواكن لتركيا وهي قصة رمزية تروي تدهور حالة مصر .
ومن جهة الجنوب وصل الجيش المصري في اتجاه أوغندا على النيل الأبيض إلى جزيرة جونكر تجاه ( غوندكرو ) , وقام الخديو اسماعيل ( حفيد محمد علي ) باستكمال الفتح حتى مديرية خط الاستواء وأوغنده وهى يشمل منطقة البحيرات .
ومن جهة الغرب تم ضم كردفان ، أما سلطنة دارفور فتم ضمها في عهد اسماعيل ولكن دارفور دخلت رسمياً في أملاك مصر ( حتى قبل فتحها ) بمقتضى فرمان 13 فبراير 1841 الذي أسند إليها ولاية أقاليم السودان وهي كما وردت في الفرمان المذكور . ( النوبة –・دارفور –・كردفان –・سنار وجميع توابعها وملحقاتها ) وقد صدر هذا الفرمان بتصديق الدول الغربية . ولم تكن الدول الغربية غافلة عن مخاطر دولة مصرية قوية تضم مصر والسودان ، ولكنها وافقت مؤقتا في اطار إبعاد اهتمام محمد علي نهائياً عن الشام والأناضول . لأن توسع محمد علي في المشرق خطر حال ، أما توسعه جنوباً فخطر مؤجل . وكان لايغيب عن عين انجلترا أن تقوض هذا التوسع حتى لايستقر كما ستوضح الأحداث .
الأهمية الاستراتيجية للسودان :
كان محمد علي ثاقب الرؤية في المجال الاستراتيجي , وكان اهتمامه بالسودان من أهم معالم هذا الصواب فلم يستقر حكم مصري في السودان ويتوسع إلى هذا المدى منذ عهد المصريين القدماء . ونحن لم نبعد عن قضية هذه الدراسة . المستطيل القرآني / مركز العالم / الشرق الأوسط عندما أبحرنا كل هذا الابحار في عهد محمد علي . لانه خلال هذا النصف قرن أو اقل من حكمه أنقلبت أحوال المستطيل . وكان هو محور أهم أحداثه ، وبالتالي كان محور أهم أحداث العالم . بل سيطر محمد علي على كل المستطيل عدا العراق وبعض نقاط على الخليج العربي . وماحدث في مصر من طفرة بالمقارنة لأقرانها العرب يرجع الفضل فيه لهذه النهضة في عهده . نعم مصر مهيأة دائماً لأن تتصدر المشهد العربي ، ولكن في ظل غياب قيادة قادرة وفاهمة لا يحدث ذلك . هناك طفرة حضارية : علمية – ثقافية –・صناعية –・اقتصادية –・تعليمية –・عسكرية حدثت في مصر بالمقارنة مع أقرانها العرب بسبب هذه النهضة وما يوصف به محمد علي عادة بأنه مؤسس دولة مصر الحديثة فهو صحيح وصائب حقاً ، حتى وان تدهورت في عهد أبنائه ، حتى وان عادت للتدهور في عهد كامب ديفيد . وتظل مصر المسكينة بعد كل ماجرى فيها محط أنظار العرب والمسلمين ، وسبب دموع مقائيهم على غياب دورها ، وكل من حاول ان يحل محلها من العرب بالادعاء وليس لأنه صنع شيئاً حقيقياً ، فان إدعاءه يذهب أدراج الرياح وآخر هذه المحاولات : محاولة السعودية التي تظن أنها  يمكن ان تصنع بأموالها النفطية مجداً غير مستحق . تظل مصر المسكينة منتوفة الريش ، بعد أن تحولت نهباً لليهود والأمريكان ، تظل محط آمال العرب ، ينتظرون بعثها من جديد ، كمن ينتظر المهدي أو الجودو أو المخلص القادم من السماء .
كان توجه محمد علي أشبه بالتوجه إلى الذات ، إلى وجه مصر الحقيقي الافريقي عند منابع النيل وإلى أقصى ضفاف البحر الأحمر جنوباً حين يلتقي مع المحيط الهندي . أي يمم وجهه حيثما يمم تحتمس الأول وحتشبسوت . إلى منابع النيل وبلاد بونت ( الصومال )  .
تحدثنا مراراً عن المستطيل القرآني وهي الخريطة القرآنية أي المواقع الجغرافية المذكورة حصراً في القرآن الكريم وقلنا في بداية الدراسة انها تساوي في خرائط اليوم : الوطن العربي الآسيوي + مصر . وتساوي مايسميه الغرب الآن الشرق الأوسط .
وقلنا إن تاريخ العالم منذ فجره حتى وصلنا الآن إلى منتصف القرن 19 يدور محوره وتدور أحداثه الكبرى  حول وداخل هذا المستطيل القرآني والذي سميناه ايضاً مركز العالم ، وهذا مانسميه أحد أوجه الإعجاز السياسي للقرآن الكريم أو لنقل تحديداً هنا الاعجاز الجغرافي السياسي أي مايسمى الآن علم الجيوبولتيكس.
  في عرضنا الأول لم ندخل السودان في المستطيل القرآني لأننا لاندخل إلا من جاء نص صريح بجغرافيته في القرآن الكريم ، ولاندخل من نرى وفق أي تحاليل جغرافية أو تاريخية ولكن السودان يدخل في المستطيل القرآني من زاويتين :
1- باعتباره جزءاً لايتجزأ من مصر أو اقليم مصر خاصة شمال السودان الذي كان عملياً جزءاً من الخريطة السياسية لمصر في أغلب فترات التاريخ حتى وصل الوجود المصرى أحيانا إلى الشلال الرابع .
2- باعتباره –・أي السودان –・مطلاً على البحر الأحمر ، والبحر الأحمر جزء لايتجزأ من المستطيل القرآني وان لم يرد ذكره صراحة إلا أنه واقع بالضرورة داخل المستطيل ، كالخليج العربي أو البحر الميت أو بحيرة طبريه أو أو البحيرات المرة أو شرق البحر المتوسط . فالبحر الأحمر يقع بين الجزيرة العربية ومصر وكلاهما مذكورين في القرآن الكريم . والمستطيل القرآني مساحته متصلة غير منقطعة . كما أن بعض أحداث القرآن الكريم لا تفسر إلا بالبحر الأحمر . فقصة موسى والخضر جرت على الأغلب في سيناء ومجمع البحرين والبحر والساحل الواردين في القصة لا يمكن إلا أن يكون في البحر الأحمر وإن كان هناك احتمال بأن يكون على ساحل البحر المتوسط حيث الملك الذي يغصب السفن الصالحة ، فسيناء تطل على البحرين . ولكن الاشارة للبحر الأحمر في قصة عبور البحر مؤكدة لأن بني اسرائيل عبروا بحرا بين مصر وسيناء وهو لن يكون إلا البحر الأحمر .وان وجد المؤرخون احتمالين : احتمال ان تكون معجزة العبور تمت في نقطة ما على خليج السويس وحيث توجد بالفعل عيون موسى على الضفة الأخرى ( في الطريق الحالي لرأس سدر ) أما الاحتمال الآخر الذي يقول به البعض فهو لايخرج أيضاً عن البحر الأحمر ، ولكن يقولون إن وقائع التاريخ تؤكد أن البحر الأحمر كان متصلاً بصورة طبيعية بالبحيرات المرة الحالية ، وان بني اسرائيل عبروا هذه القناة ( المتصلة بالبحر الأحمر ) في اتجاه سيناء .
بل هناك افتراض علمي يقول إن هذا الاتصال بين البحيرات المرة والبحر الأحمر ( القلزم ) كان بسبب أحد فروع النيل ( التي كانت قد وصلت في بعض التقديرات إلى 16 فرعا ) كان قد اتجه شرقا واتصل بالبحيرات المرة ثم اخترقها جنوباً إلى البحر الأحمر عند كليزما (السويس). ويبدو ان هذا الفرع سبق قناة سيزوستريس ونخاو الفرعونية الصناعية إلى البحر الأحمر . ( د. جمال حمدان)  .
اذاً ضم السودان لمصر وتوحيدهما في دولة واحدة مسألة استراتيجية لحياة ومستقبل وقوة البلدين . فهما معاً الركيزة الصلبة لبناء الدولة العربية الاسلامية بالاضافة لتكامل العناصر البشرية والطبيعية بين البلدين مع القدرة على التوسع وفرض النفوذ الأدبي والاقتصادي حتى منابع النيل حيث تزايدت في العقود الأخيرة الاختراقات الصهيونية –・الأمريكية لبلدان المنبع خاصة اثيوبيا وأوغندا . وبالتالي فان البلدين مصر والسودان يواجهان تهديداً مائياً خطيراً وحقيقياً . ودائماً الأعداء يكونون أكثر إدراكاً من حكامنا للأبعاد الاستراتيجية . فنجد أن أمريكا واسرائيل وبعض دول الغرب يعطون السودان أهمية استثنائية غير عادية بهدف التمزيق والتدمير والانقسام لمنع قيام دولة قوية سودانية من المحتمل أن تتوحد مع مصر ، فتصبح الدولة الجديدة دولة كبرى اقليمية . وحتى إن قامت دولة قوية في السودان بصورة منفصلة عن مصر وقامت على أسس اسلامية استقلالية فإنها تشكل بالنسبة لهم خطراً شديداً على نفوذهم الاستعماري في قلب وشرق افريقيا ( وهي مجموعة دول الصومال –・ارتريا –・اثيوبيا –・كينيا –・اوغندا –・تنزانيا ) . وحيث تكاد تتعادل فيها نسبة السكان بين الاسلام والمسيحية وان غلب الاسلام على الصومال ( 100% ) وارتريا بين 70-80% .
رأى الاستعمار البريطاني ومن بعده الأمريكي انه لابد من وقف تقدم وزحف الاسلام في مستنقعات جنوب السودان . وذلك من خلال تشجيع التمرد الجنوبي منذ عام 1955 ( أي قبل استقلال السودان بعام واحد ) وحتى الآن حيث أدى في النهاية إلى استقلال جنوب السودان ، وتحوله من مستنقعات نيلية إلى مستنقعات دموية بين قبائل الدينكا والشيلك والنوير . ولكنهم لم يكتفوا بذلك بل عززوا مالياً وعسكرياً واعلامياً وسياسياً حركات منشقة متوالية في غرب السودان بدارفور وكردفان ، ومنطقة جبال النوبة وأبييه والنيل الأزرق ، مع تشجيع التمردات في شرق السودان ( كسلا ) وحتى الشمال النوبي !! إن هؤلاء المجرمون في الغرب واسرائيل لايريدون إلا أن يكون السودان أشلاء حتى يستريحوا ويطمئنوا لتوقف الزحف الاسلامي . ولتكون الحدود الجنوبية لمصر مجرد مرجل يغلي لا يصدر لمصر إلا المشكلات ، ويجعلها لاتنظر أمامها بل تظل دائماً تلتفت إلى الجنوب مذعورة من عواقب مايجري فيه .
ونحن في المقابل فان حكام مصر منذ 40 عاماً تقريباً لا يعطون للسودان الاهتمام الحقيقي الواجب ، ولا يفكرون أصلاً بروح التوحيد الاستراتيجي بين البلدين .
وقد كرس ذلك عبد الناصر بنفض اليد من السودان ، ولكن من جاء بعده تحول إلى معاداة السودان أو التعالي عليه او التعامل معه ببرود وكأنه مجرد ملف من ملفات وزارة الخارجية أو المخابرات .
بينما يتعرض نظام البشير الى حالة من فقدان التوازن بعد أن تخلى عن الخيار الاسلامي وعن الاستقلال . وسار في طريق إرضاء أمريكا والغرب ، ومن شابه شقيقه الأكبر فما ظلم !! كما أنه يعتمد إلى حد كبير على التسول من السعودية وقطر.
 

>

                                                               - 22 -
 الجيش المصري يحتل اليونان وعاصمتها خلال 6 شهور

وابراهيم باشا يحوز لقب “بونابرت الشرق “
المصريون يدخلون مدينة الزيتون (كلاماتا(
أساطيل أوروبا تتجمع لضرب الأسطول المصري في نافارين

كان يمكن أن نعرض للحملة العسكرية المصرية على بلاد الموره ( اليونان ) في سطور قليلة ولكنك اذا قرأت التفاصيل لابد أن تصاب بالذهول من عدة زوايا:
  1- فهذه الحرب التي استمرت من 1824 -1828 برهنت على أن مصر قد أصبح لديها جيش من الطراز العالمي ( الأوروبي) خلال زمن قياسي ، جيش محترف حديث نظامي ينتهج أبرع التكتيكات البرية والبحرية ، ويقاتل بشراسة وبسالة وينتصر دوماً !! حتى وهو يقاتل جيشاً عقائدياً شرساً ومدرباً ومسلحاً بأحدث الأسلحة . كذلك فان الجيش المصري لم يكن قليلا من حيث العدد والعدة والسفن الحربية .
  2- ان هذه الحرب برهنت على أن الجيش المصري قد أصبح أكثر تطوراً وكفاءة من الجيش العثماني الذي ظهر مفككاً متدهوراً مفتقراً للقيادة وحتى للروح العسكرية التي اشتهر بها العثمانيون.
  3-أكدت هذه الحرب أن مصر تصعد لتصبح القوة الأولى في الشرق الأوسط ( المستطيل القرآني ) إنها هي الخطر الأكبر على مصالح وخطط الأوروبيين وأنه لابد من التوحد الأوروبي في مواجهة المشروع المصري .
4-          أكدت هذه الحرب أن مصر أنجبت قائداً عسكرياً يضاهي أكبر قادة العسكر في العالم وهو ابراهيم باشا ابن محمد علي الأكبر ، والذي بدأ الغربيون يسمونه ( بونابرت الشرق ) وسنرى أن ابراهيم باشا لم يخسر في أي معركة تصادمية مع أي جيش في الميدان ، بل كان النصر حليفه دائماً . وهو مالم يحظ به نابليون دائماً.


مرة أخرى نقول للذين يتهمون محمد علي بالتآمر على الدولة العثمانية ، أنها هي التي ألحت عليه واستنجدت به ( السلطان محمود ) للتصدي للتمرد اليوناني بعد أن عجز الجيش العثماني عن مواجهته . واستولى الثوار على معظم المدن الرئيسية بما في ذلك العاصمة تريبولتسا ونكلوا بالأتراك المقيمين بها تنكيلا فظيعا وأعلنوا استقلال البلاد في يناير 1822 . ثم انتقلت السيطرة من البر إلى البحر ( بحر الأرخبيل ) حيث أحرقوا كثيراً من السفن التركية وأحيوا عهد القرصنة .
وقد بدأ الاستنجاد العثماني بمحمد علي في هذه المرحلة أي عام 1821 حيث عهد إليه بتطهير البحر من القرصنة اليونانية . وكان الجبرتي قد اشار في آخر كتاباته قبل وفاته إلى أن الأروام { قطعوا الطريق على المسافرين واستئصلوهم بالذبح والقتل حتى انهم اخذوا المراكب الخارجة من استانبول وفيها قاضي العسكر المتولي قضاء مصر ومن بها من السفار والحجاج فقتلوهم ذبحاً عن آخرهم ومعهم القاضي وحريمه وبناته وجواريه وغير ذلك وشاع ذلك بالنواحي وانقطعت السبل . فنزل الباشا ( يقصد محمد علي ) الى الاسكندرية وشرع في تشهيل مراكب مساعدة للدونانمة السلطانية ( الأسطول العثماني ) }. وقد استمرت الحملة على القرصنة طوال عام 1821 وفي 1822 توجه الأسطول المصري بطلب من السلطان محمود لإخماد الثورة في جزيرة كريت حيث قام الثوار بمحاصرة الحاميات التركية في قلاعها . وقاتلت القوات المصرية في عامي 1822 , 1823 على أرض الجزيرة وفكت الحصار من الحاميات التركية وأحكمت السيطرة على الجزيرة ، وكذلك تكرر ذلك في جزيرة قبرص.
بالتوازي كانت الثورة مشتعلة في بلاد الموره ( اليونان ) من 1821 حتى 1823 وعجز العثمانيون عن إخمادها وتكبدوا خسائر جسيمة فلجأ السلطان محمود مرة ثالثة لمحمد علي ( بعد مواجهة القرصنة وبعد اخماد الثورة في كريت وقبرص ) لاخماد ثورة اليونان على أرض الموره نفسها . والغريب أن المؤرخين يرون أن السلطان محمود أراد ان يحقق هدفين : القضاء على ثورة اليونان وإضعاف جيش محمد علي !! وبعد مشاورات عديدة مع بطانته قرر محمد علي الاستجابة لأن هذا يزيد من وزنه ويفتح الطريق أمام مشروعه بعد سيطرته على مصر والسودان والجزيرة العربية لينتقل إلى ماوراء البحار على الأرض الأوروبية .
الحملة المصرية كانت بقيادة ابراهيم باشا صاحب الانتصار الأكبر على الوهابيين وتألفت من 17 ألف مقاتل من المشاه وأربع وحدات مدفعية و700 من الفرسان مجهزين بالمدافع والبنادق والذخائر وكانت العمارة من 51 سفينة حربية و146 سفينة نقل .
وكتب دريو صاحب كتاب ( تاريخ اليونان السياسي ) : {ان أسطول محمد علي أصبح ضخماً ويشبه الأرمادا ( أسطول أسبانيا لمحاربة انجلترا في القرن 16.م ) ولم ير الشرق حملة تدانيها في ضخامتها منذ حملة بونابرت . فكأن الشرق اراد أن يغزو الغرب جوابا على حملة اوروبا عليه ، وهكذا تنقلب الأطوار في سير التاريخ } وكان ذلك في يوليو 1824 والتقى الأسطولان المصري والتركي في ميناء بودروم على شاطئ الأناضول . {من الطريف انني كنت أخيرا في زيارة لهذا الميناء الذي يعتبر الآن من المعالم السياحية في تركيا وعشت أسبوعاً فيه لحضور ندوة اسلامية ولم أكن أدرك خلفيته التاريخية } بالتقاء الأسطولين ظهر الفرق جلياً بين نظام الأسطول المصري وفوضى الأسطول التركي الذي كان قد تعرض لضربة مؤلمة من اليونان ، حيث غرقت سفينة القيادة وسفينتان أخريين فلجأ الأسطول التركي لبودروم . وسرعان ماتعرض الأسطولان المصري والتركي لهجوم يوناني بالقرب من بودروم فلاذ الأسطول التركي بالفرار من الميدان ، أما ابراهيم باشا فقد صمد للسفن اليونانية حتى اضطرها للتقهقر في سبتمبر 1824 .
  أدرك ابراهيم باشا بعقل استراتيجي أن هزيمة اليونان لاتكون على ظهر البحر حيث تكثر السفن المنبثة في نواحيه ( خريطة لارخبيل اليونان مع جزيرة كريت توضح ذلك ) وأن خير وسيلة للغلبة عليهم هي القضاء عليهم براً في شبه جزيرة الموره ( الجسم الأساسي لليونان ) وقد أوضح المسيو دوان في كتابه فرقاطات محمد علي الأولى ، انجاز ابراهيم باشا في هذه المرحلة البحرية الأولى فقال :
} مضت خمسة شهور على مغادرة الأسطول المصري ثغر الاسكندرية ، في جهود شاقة ومتاعب لا هوادة فيها ومخاطر تتجدد كل يوم وأن ما أبداه ابراهيم باشا في هذه الظروف من الثبات ورباطة الجأش لمما يستدعي النظر ، فان قيادة أسطول بحري من مائة سفينة تقل نحو عشرين ألف رجل ، مثل مهمة كتلك التي حملها بونابرت من قبل مع حفظ النسبة بين الموقفين ، حينما اجتاز البحر الأبيض في أواخر القرن الثامن عشر بأسطول من 280 سفينة تقل 38 ألف مقاتل ، واذا تذكرنا أن مصر لم يكن لها إلى ذلك الحين أسطول منتظم ولا تقاليد بحرية ولا هيئة من الضباط البحريين الأكفاء ولا العدد الكافي من البحارة المدربة . اذا تذكرنا كل ذلك فإنه يحق لنا ان نعجب كيف أن أسطول محمد علي تمكن لمدة خمسة شهور من التجول في البحار دون ان تتفكك أوصاله ، وكيف استطاع أن يثبت أمام الهجمات الشديدة من عدو له حظ كبير من المهارة من غير أن يخسر سوى سفينتين حربيتين وبضعة نقالات {
وفي فبراير 1825 تمكن ابراهيم باشا من النزول إلى البر في ميناء مودون جنوبي اليونان ووجد القوات التركية هناك في أسوأ حال بعد ضربات الثوار من البحر والبر بحيث لم يبق في أيديها سوى هذا الميناء وميناء كورون المحاصر .
ومالبث إلا قليلاً حتى قام بفك الحصار عن كورون وأدخل إلى الجنود المحاصرة المدد والمؤن ثم أنفذ فرقة لحصار مدينة نافارين التي كانت قد سقطت في يد المتمردين وكانت من أهم مواقع اليونان . وقضى في طريقه على فرقة يونانية من 3500 مقاتل وأسر قائدها وشدد الحصار على نافارين ولكن قوات يونانية كانت تتدفق لإنقاذ نافارين ، فقام ابراهيم باشا بتكتيكات عسكرية بارعة بقتل معظم هؤلاء الجنود وتشتيت الباقين في الجبال في أنحاء اليونان . وكانت هذه الواقعة هزيمة كبرى للتمرد اليوناني انتهت بسحق الجيش اليوناني وغنم المصريون غنائم كثيرة وأسروا عدداً عظيماً من الأسرى منهم ضباط وقيادات عسكرية . وقد رفعت هذه الواقعة من شأن الجيش المصري فهي أول معركة يخوضها في القارة الأوروبية بعد حروبه السابقة في آسيا وافريقيا . وكان مسلك الجنود المصريين مع الأعداء مسلكاً انسانياً رائعاً ، فلم يرتكبوا شيئاً من الفظائع وكانوا يحسنون معاملة الأسرى ويعتني الأطباء المصريون بجرحاهم بناء على أوامر ابراهيم باشا .
وتواصل تشديد الحصار على نافارين ولكنها كانت تأتيها الامدادات من البحر ، فرأى ابراهيم باشا أن إحكام الحصار لن ينجح بدون الاستيلاء على جزيره أمام الميناء (اسفاختريا) وكانت محصنة ولم يكن الاستيلاء عليها سهلاً ، وكلف ابراهيم باشا سليمان باشا الفرنساوي بهذه المهمة في مايو 1825 .وقد نجح في المهمة الصعبة بعد استخدام زوارق صغيرة حيث قام 1200 مقاتل مصري من النزول إلى البر تحت القصف والاشتباك بالبنادق حتى احتلوا الجزيرة في مواجهة مقاومة شرسة . فأدرك المحاصرون في نافارين بأن الصمود أصبح مستحيلاً فاستسلموا بشرط تأمين حياتهم وفي 18 مايو 1825 دخل الجيش المصري المدينة بدون تعريض المدينة لأي أذى في واحدة من أعظم الانتصارات في تاريخ الجيش المصري .
وخلال هذه الأحداث كانت السفن اليونانية تحاول مهاجمة الاسكندرية بالقذائف الحارقة التي كثيراً ماحرقت السفن العثمانية . ولكن الأسطول المصري بالأسكندرية كان يقظاً ورد 3 سفن يونانية على أعقابها قبل إحداث أي ضرر بالاسكندرية . بل وخرج محمد علي بنفسه ضمن قوة حربية لمطاردة هذه السفن بعد إغراق واحدة منها واستمرت المطاردة بقيادة محرم بك أميرال الأسطول المصري حتى جزيرة رودس . – حى محرم بالأسكندرية نسبة إليه .
فتح كلاماتا بلد الزيتون !
ثم جاء الدور بعد نافارين على ميناء ( كلاماتا ) المشهورة بزيتون كلاماتا الذي تجده الآن في الأسواق المصرية مصدراً من اليونان (!) وكان سكانها مشهورين بشدة البأس ، وانتصر ابراهيم باشا ودخل كلاماتا وما حولها . وفي يونيو 1825 يتقدم الجيش المصري وكأنه خبير بهذه الأراضي الجبلية الوعرة نحو عاصمة اليونان ( تريبولتا) ويهزم قوات المتمردين ويدخل المدينة . ويواصل تقدمه على مختلف المحاور حتى السيطرة الكاملة على شبه الجزيرة اليونانية عدا مدينة ( نويلي ). وفي 22 ابريل 1826 استنجد رشيد باشا قائد القوات التركية الذي كان عاجزاً عن الدخول لمدينة ميسولونجي المنيعة ، استنجد بالجيش المصري ، فطلب ابراهيم باشا المدد من محمد علي فأرسله له . وذهب ابراهيم باشا بنفسه بقوة تزيد عن 10 آلاف مشاه و500 من الفرسان ، وهناك وجد أن خطة رشيد باشا فاشلة فأعد خطة جديدة مماثلة لخطة اقتحام نافارين أي بالاعتماد على احتلال الجزر الحاكمة للميناء . ونجح في النهاية في اقتحام المدينة ولكن خسائر المصريين لم تكن بسيطة ( نحو ألفي قتيل ) . ولكن رشيد باشا نجح في دخول آثينا ( ولم تكن العاصمة في ذلك الوقت ولم تكن بها قوة مدافعة كبيرة ) .
  ولم يبق في يد المتمردين سوى نويلي بالاضافة للعديد من الجزر فعادوا إلى توسيع دائرة القرصنة في البحر المتوسط . وكان محمد علي يعد لحملة ثانية للقضاء على ما تبقى من التمرد في هذه الجزر .
وإزاء هذه الهزائم الكبرى للتمرد اليوناني بدأ تأجيج المشاعر المسيحية ضد الاسلام في أوروبا من الدوائر الرسمية والشعبية معا .. وكان من رموز الأدباء والشعراء في ذلك اللورد بيرون وفيكتور هيجو وشاتوبريان ، حتى ان اللورد بيرون تطوع في معركة مسيولونجي ومات فيها. كما توحدت القوى الأساسية في أوروبا فأرسلت انجلترا وفرنسا وروسيا أساطيلها لبحر اليونان ( لاحظ فرنسا التي يزعمون أنها صديقة محمد علي المخلصة).
وأرسلت تركيا ومصر تعزيزات بحرية لنافارين حيث رصد أحد ضباط الأسطول الانجليزي ان الأسطول المصري يتميز عن التركي بحسن النظام والترتيب وجودة السلاح . ” كانت السفن المصرية في حالة جيدة جداً ” . وطلبت الأساطيل الثلاثة فرض هدنة بين الطرفين (تركيا ومصر من ناحية ومتمردي اليونان من ناحية اخرى ) والتزم ابراهيم باشا بانتظار التعليمات من محمد علي والآستانة .
واعلان الهدنة هي اللعبة التقليدية عندما تكون الأحوال العسكرية معاكسة ، لاتخاذ فرصة لتعديل موازين القوى . وبالفعل فان المتمردين اليونان لم يتوقفوا عن القتال في البر وقاموا بهجمات معاكسة لحصار الحاميات المصرية مستفيدين من وصول قوات برية من الجيش الفرنسي ! فقام ابراهيم باشا بترك ميناء نافارين لقيادة محرم بك أدميرال الأسطول , والتوجه بقوة برية لصد هذه الهجمات البرية للمتمردين . وفي غياب ابراهيم باشا قامت الأساطيل الأوروبية الثلاثة بعملية غادرة بمحاصرة ميناء نافارين ثم بالهجوم الفوري عليه وكان الأسطولان المصري والتركي ليس في حالة انتشار حربي ولكن في حالة تجمع وتكدس داخل الميناء ، وفي حالة اطمئنان أن هناك هدنة (!!) فتم تدمير معظم قطع الأسطولين المتواجدة في الميناء مستفيدين من الفجوة التكنولوجية ، حيث كانت الأساطيل الأوروبية وان كانت أقل عدداً ، إلا إنها تملك قوة نيران أكبر .
وأدرك محمد علي أن المعركة هكذا أصبحت خاسرة فأمر بسحب القوات المصرية البرية والبحرية فوراً إلى الأسكندرية ، بينما كانت الآستانة ترعد وتزبد بالكلام فحسب ثم سرعان ماوافقت على شروط أوروبا ، وهي الاعتراف باستقلال اليونان استقلالا داخلياً وان يكون للدولة العثمانية مجرد السيادة الاسمية وسرعان ماتحول ذلك في عام 1830 الى استقلال تام .
وخلال تبادل الأسرى بين مصر واليونان حدثت واقعة مثيرة للانتباه فقد تضمن الاتفاق بين محمد علي والحلفاء إعادة الأسرى اليونانيين وتحرير من بيع منهم في مصر مقابل إرجاع الأسرى المصريين وإعادة السفن المصرية الأسيرة ، وكان عدد أسرى اليونان .. 5500 وزعوا على بيوت الكبراء في الاسكندرية والقاهرة  . ولما ابرم هذا الاتفاق لم يقبل منهم العتق سوى أربعمائة أما الباقون وهم 5100 ففضلوا البقاء في مصر وهذه شهادة كبيرة لمصر على حسن المعاملة وأنها مجتمع أفضل من اليونان حتى وان بقوا عبيداً !! وهذا ماأكده المستر باركر قنصل انجلترا في مصر في ذلك الوقت .
حرب اليونان في الميزان :
لم تستفد مصر ولم يستفد محمد علي شيئاً من حرب الموره ( اليونان ) بل أدت إلى تدمير الأسطول المصري وان كان محمد علي سيصر على إعادة بنائه من جديد .
وتكاليف الأسطول وكل تكاليف الحرب تحملتها مصر من خزانتها الخاصة .
واعتبر السلطان محمود أن ضم جزيرة كريت لمصر هو جائزة كافية على مجهودها الحربي الرهيب ودمار الأسطول وآلاف القتلى . في حين ان جزيرة كريت خسائرها أكثر من مكاسبها ، كجزيرة وعرة بدون موارد ، وتضم نوعيات من اليونان شديدة العداء للاسلام ولديها استعداد دائم للتمرد !!
لم يكن السلطان محمود ولا من حوله يدرك ضرورة إعادة تنظيم علاقات الآستانة مع مصر بصورة مختلفة على أن تكون هي المركز الثاني للامبراطورية ، في المنطقة العربية ( منطقة المستطيل القرآني ) التي لم يدرك العثمانيون ابداً أهميتها الاستراتيجية على النحو الصحيح .
وتبرهن أحداث هذه الحرب الضروس التي أبلي فيها الجيش المصري بلاءاً حسناً أن محمد علي قد بذل كل مافي وسعه لتحقيق رغبات الدولة العثمانية ، وانه لم يكن له مغنم خاص أو مطمع في اليونان إلا البرهنة على ولائه للآستانة . ولكنه لم يأخذ إلا جزاء سنمار !
لم يستفد محمد علي –・في المحصلة –・من حرب اليونان شيئاً من الناحية المادية العملية ولكنه استفاد شيئاً جوهرياً هو ظهور الجيش المصري في البر والبحر بهذا المستوى المشرف ، وظهور قوة الدولة المصرية كند للدولة العثمانية ، واتضاح أن مصر خلال سنوات قليلة جداً بدأت في عام 1820 نجحت في بناء جيش مصري حديث قادر على خوض حروب في أوروبا .
وهو مايؤكد أن وجود الإرادة مع قيادة سياسية فاهمة يمكن أن يحقق الكثير خلال سنوات قليلة وليس كما يردد البعض كلما تحدثنا عن أحوالنا الراهنة ان مصر تحتاج لعشرات السنين وربما لقرن من الزمان !
نحن الآن لا نملك إلا الدروس . والدرس الجوهري الثاني والذي سيتكرر بعد ذلك في أقل من عشر سنوات . ان أوروبا لاتحتمل وجود قوة عربية أو اسلامية تدير منطقة قلب العالم (الشرق الأوسط ) إلا إذا أجبرت على ذلك . عندما حدث هذا في صدر الاسلام باستيلاء العرب على مستعمرات الرومان في آسيا وافريقيا واستمر في عهود الأمويين والعباسيين . ولم يكف البيزنطيون عن مهاجمة الدولة الاسلامية من جبهة آسيا الصغرى (الأناضول أو تركيا الحالية ) أو عبر البحر المتوسط تجاه شمال افريقيا ، ثم بعد ذلك من خلال الحملات الصليبية وعندما انكسرت هذه الحملات ، وقامت الدولة العثمانية اضطر الأوروبيون للانكفاء بل سقطت تماما الدولة البيزنطية بسقوط عاصمتها القسطنطينية . والدولة البيزنطية هي الجناح الشرقي للامبراطورية الرومانية ، فلم يبق سوى دول غرب أوروبا الممزقة التي أخذت تجمع نفسها للعودة من جديد إلى قلب العالم ( الشرق الأوسط ) لإحياء مجد الامبراطورية الرومانية ومن قبلها اليونانية . وجاءت الثورة الصناعية واكتشاف أمريكا لتدفع برياح شديدة في أشرعة أوروبا من جديد . ولاتزال استراتيجية الغرب الأساسية أي استراتيجية غرب اوروبا وأمريكا كامتداد لأوروبا حضارياً وثقافياً وعقائدياً هي ضرورة السيطرة على مركز العالم ( المستطيل القرآني ) لأن السيادة العالمية تحسم اساساً هنا . وأمريكا هي الوريث الشرعي للامبراطورية الرومانية فانتقل العالم من السلام الروماني  pax Romana  إلى السلام الأمريكي pax Americana  وهو ليس سلاما ولكن فرض الهيمنة والسيطرة بالقوة المسلحة .
كانت خطة محمد علي هي الخطة السليمة ونحن نتحدث عن الدروس ولانبكي على اللبن المسكوب فتجربة محمد علي –・كما قلنا مراراً –・كانت في كل الأحوال إلى زوال لأنها لم تقم على المؤسسية ( مفهوم الشورى العظيم في الاسلام الذي لم نقدره أبداً حق قدره .. اشارات في القرآن الكريم والسيرة النبوية حسمت أبرز معالمه . ( مرة اخرى راجع حاكم المطيري في الحرية أو الطوفان + تحرير الانسان ) . ولكننا نقصد بالخطة السليمة في هذا المقام مسألتين :
1-          ضرورة سد الفجوة التكنولوجية مع الغرب خاصة في المجال الحربي ، وهذا ما كان محمد علي يسعى إليه بأسنانه . ولكن هذه المعركة فرضت عليه قبل أن يستكمل ذلك وكان أداء الدولة العظمى الحليفة ( الدولة العثمانية ) مخيباً للآمال بصورة خطيرة كما رأينا . وأدبياً لم يكن محمد علي صاحب القرار في هذه الحرب من الناحية السياسية .
2-          ضرورة أن يتوحد العرب والمسلمون في مواجهة التوحد الصليبي الأوروبي الذى يحدث في صورة قانون متكرر. وسنرى نموذج أكبر بعد عشر سنوات في الشام والأناضول . وفي ذلك الزمان لا تحدث الوحدة إلا بإنزال الدول الاسلامية منازلها التي تستحق . فبعد كل ماجرى للجيش المصري وأسطوله في اليونان ، اذا بالأستانة تطلب من محمد علي ارسال قوات أخرى للقتال ضد روسيا.
  بعد كل ماجرى فان السلطان محمود يتعامل مع محمد علي وكأنه مجرد أجير أو موظف عنده ، بدلاً من الجلوس والتحدث بندية كقوى اسلامية في استراتيجية مواجهة موحدة . على المستوى الشخصي نحن نقول : إن كبر ابنك خاويه . ولكن العجرفة التركية لم تعترف أن مصر أو محمد علي ( اختر ماشئت ) قد شبت على الطوق وأنها ليست ولاية ولابد من إعادة صياغة العلاقات بصورة مختلفة لمواجهة المخاطر الأوروبية الجمة .
لاحظ مثلاً ان محمد علي لم يذهب للأستانة مرة واحدة ، لأنه لم يكن يأمن ان يتم اعتقاله ان هو ذهب في زيارة لعقد مباحثات استراتيجية .
مثلاً أمريكا كدولة عظمى لاتتعامل بشكل متساو مع كل دول اوروبا بل تتعامل بشكل خاص ومتميز مع انجلترا أو المانيا أو فرنسا . لابد من انزال الدول منازلها كما ننزل الأشخاص منازلهم . ولكن الدولة العثمانية ظلت لا تفهم في محمد علي إلا مجرد والي مارق فرض نفسه عليها .وسنرى في أزمة الشام والأناضول كيف سعى محمد علي حتى النفس الأخير لإعادة صياغة العلاقات مع الآستانة وليس مجرد التمرد عليها .
حول شرعية قتال شعب مسيحي :
تثير قضية حرب اليونان ( الموره ) مسألة القتال من أجل إخضاع شعب مسيحي لدولة اسلامية . وهذه مسألة مبدئية ومهمة جداً في ميزان الشرع الاسلامي . ونحن نتحدث هنا عن الموقف العثماني الذي التزم به محمد علي  فقد رأينا في هذه الحرب وغيرها في شرق اوروبا أنها تحولت وكأنها محاولة دولة كبرى ( استعمارية أو امبرالية ) لفرض هيمنتها على دولة أخرى وضمها بالقوة رغم خلاف العقيدة . والأصل في الاسلام إننا لانسعى لاحتلال أو ضم دولة مسيحية للدولة الاسلامية بالقوة . فالحرب خارج ديار الاسلام لا تقوم إلا لسبب واحد وهو الاعتداء . فلابد لهذه الدولة أن تبدأ بالعدوان على دولة الاسلام حتى تحاربها دفاعاً عن النفس . كذلك فان الاعتداء قد يأخذ شكلاً آخر وهو أن الدولة المجاورة لدولة الاسلام تمنع نشر الدعوة للاسلام على أراضيها او بين مواطنيها ثم تتحول إلى قهر وتعذيب واضطهاد أو قتل من يدخل في الاسلام من مواطنيها ، وفي هذه الحالة أيضاً يتعين شن حرب على هذه الدولة المجاورة اذا كان هذا في استطاعة الدولة الاسلامية ، وإلا فإنها يمكن أن تلجأ إلى إجراءات عقابية أقل ، كقطع العلاقات ووقف كافة أشكال التعاون التجاري أو الاقتصادي . ولكن لايمكن ان تقف متفرجة على اضطهاد المسلمين في دولة مجاورة ( وفي عصرنا الحالي هذا ينطبق على بنجلاديش وماليزيا واندونيسيا في مواجهة دولة ميانمار ) .
ومن هنا تعلمنا منذ الصدر الأول للاسلام والفتوحات الاسلامية مسألة التخيير بين ثلاثة احتمالات مع الدول المجاورة غير الاسلامية :
1-          الدخول في الاسلام                    2- دفع الجزية والبقاء على الدين
3-          القتال .
  وهذا يفترض توفر القدرة على طرح هذه الخيارات وهي أساساً القدرة القتالية للتخيير بين الاسلام والقتال . أما فرض دفع الجزية ما المقصود به ؟! المقصود هو فرض الإرادة والسيادة على الدول المجاورة غير الاسلامية في مسألة أساسية وهي فتح مجال الدعوة السلمية للدين الاسلامي . وفتح الحرية أمام المواطنين في هذه الدولة للاختيار بين الاسلام أو البقاء على دينهم مقابل دفع مبلغ زهيد عن كل ذكر راشد قادر على حمل السلاح ( حوالي دينار أو دينارين ) أى ان الجزية لاتفرض على النساء أو الشيوخ الطاعنين في السن أو المرضى المزمنين أو الأطفال أو الرهبان أي رجال الدين المنقطعين للعبادة ودور العبادة . المقصود هي ضريبة فردية على من هم في سن التجنيد ،  لأن الدولة الاسلامية في المقابل ستقوم هي بحفظ الأمن والدفاع عن بلادهم في مواجهة أي غزو أجنبي ، ولن تستعين بغير المسلم اجبارياً في أي حروب . والهدف الجوهري من هذا التعاقد ، أن يكون علامة على السماح بحرية الدعوة للدين الاسلامي في البلاد ، لا فرض الدين على أي مواطن . وبمفهوم المخالفة فهذا يعني الإقرار بضمان سلامة الزوار المسلمين وسلامة من يدخل الاسلام في هذا البلد . وهو التعبير الذي استخدمه فقهاؤنا كثيراً : ( التخلية بين الناس وبين حقها في اختيار العقيدة بشكل حر وبدون اكراه بين عقيدتهم الحالية وبين الاسلام ). حدث في التاريخ احتمال آخر : أن تقوم الدولة المجاورة بدفع الجزية مع بقاء حكامها المسيحيين كماهم فى مواقعهم ، وتنسحب القوات الاسلامية مع الاحتفاظ بحق الدعوة السلمية . ويكون ذلك في اطار اتفاق صداقة وتعتبر بذلك دولة عهد أو فى إطار نوع من الوحدة الكونفدرالية أو الفيدرالية .
والحقيقة فان الدولة العثمانية التزمت بشق عدم إكراه الناس على دخول الدين الاسلامي عدا مافعلته في البلقان من تجنيد الصغار من المسيحيين وإدخالهم في الانكشارية وتعليمهم الدين الاسلامي . وان كان ذلك قد فتح لهم باب الترقي في الدولة العثمانية في المجالات المدنية والعسكرية . ولكن هذا الاكراه للصبية والشباب لايجوز. كذلك فان الدولة العثمانية قصرت في مجال الدعوة ( نشر الدين الاسلامي ) في بلاد شرق أوروبا وقد أشرت لذلك من قبل , مما جعل هذه الشعوب تتحوصل حول المسيحية وتواصل العداء للدولة الاسلامية .

 <<<<<<<<<<<<<<<<
                                   - 23 -

سوريا تفتح ذراعيها لمصر والجيش التركي يولي الأدبار!
جنوب الشام (فلسطين) كان جزء من مصر عبر التاريخ
مصر افريقية الجذور آسيوية الروح وطرف أصيل في قصة التوحيد
المشروع العروبي كان متأصلا عند إبراهيم باشا أكثر من أبيه

كان ما حدث في حرب اليونان (الموره) نقطة تحول وإنعطافة كبرى في العلاقات المصرية العثمانية  ، فكما أوضحنا ظهر الفارق الشاسع بين عدة وكفاءة الجيش المصري و تدهور حالة الجيش العثماني تنظيميا ومعنويا واحترافيا . لقد قاتل الجيش المصرى بكل شجاعة وإخلاص وأخضع اليونان التي عجزت الدولة العثمانية عن مواجهتها ، ثم تحمل النتائج بهذا التكالب الأوروبي الذي أدى الى تدمير الأسطول المصري في نافارين .
وقد كان قرار محمد علي بسحبه الجيش المصرى بعد موقعة نافارين قرارا صائبا ، ولكنه لم يكن بموافقة السلطان محمود الذى كان عليه أن يقدر دوافع محمد على لهذا الانسحاب ، بعد خذلان الجيش العثمانى له .
ولكن السلطان محمود كان من رموز حالة التدهور الشامل الذي ألم  بالامبراطورية المتهاوية ، فتراجع عن وعده بضم الشام إلى حكم محمد علي واكتفى بإعطائه جزيرة كريت ( وهي أشبه بمقلب سخيف وبارد كما أوضحنا) وكان ضم الشام هو الموقف الوحيد الذى يمكن أن يعوض لمحمد علي خسائره في حرب اليونان.
وكان يجب أن يتم في إطار الإقرار بنشوء مركز قوة جديد داخل معطف الدولة العثمانية ويتولى حكم وادارة والدفاع عن بلاد العرب ( المستطيل القرآني – الشرق الاوسط ) ولكن أنى للسلطان محمود ومن حوله أن يعلو الى هذا الحد من الأفق الاستراتيجي .

وقد كتب كلوت بك الذي عاش وعمل مع محمد علي فعبر عن الرؤية الاستراتيجية لمحمد علي تجاه الشام فقال : (إن ضم  سوريا الى مصر كان ضروريا لصيانة ممتلكات الباشا فمنذ تقرر ان انشاء دولة مستقلة على ضفاف النيل متطورة حضاريا وجب الاعتراف بانه لا يمكن إدراك هذه الغاية إلا بضم سوريا الى مصر . وقد رأينا فعلاً ان موقع البلاد الحربي لا يجعلها في مأمن من الغزوات الخارجية خصوصا عن طريق برزخ السويس فاذا استثنينا غزوة الفاطميين المغاربة وغزوة الفرنسيين بقيادة بونابرت نجد أن سائر الغزوات جاءت عن طريق سوريا. وعلى ذلك لا يمكن الاطمئنان الى بقاء مصر مستقلة الا بتأمين الحدود السورية لأن حدودها ليست في السويس بل في طوروس) (يقصد الجبال الفاصلة بين سوريا وتركيا).
والواقع ان تاريخ مصر يشهد على ذلك فبعد تأمين وتوسيع الدولة جنوبا فى السودان (ما بين الشلال الأول والشلال الرابع)  كان تأمين بلاد الشمال (الشام) أولوية قصوى ، ولطالما كانت حدود الدولة المصرية تصل الى خط العرض الذى تقع عليه القدس (اورشاليم) . ولكن وصلت أحيانا  حدود مصر الى لبنان (الفنيقية)او تركيا (الحيثية) أو أطراف نهر الفرات .
تاريخيا  كانت مصر مطمع للرعاة ودول الملاحين وحتى دول  فلاحين (كالعراق)ومن هنا أدركت مصر أن حدودها الطبيعية إنما تبدأ خارجها في فلسطين وبرقه ، بينما لا يقل نطاق الأمان من حولها عن الشرق الأوسط كله . ومن هنا  توسعت الإمبراطورية المصرية الى حدودها القصوى كلما أمكنها ذلك ، لا كاستعمار بالمعنى المفهوم ، وإنما لنشر السلام المصري pax aegyptiaca بل اننا يمكن أن نزعم أن الامبراطورية المصرية كانت فى جوهرها وفى معنى ما امبراطورية دفاعية أساسا حتمتها ظروف الصراع الاقليمي والاستراتيجي العريضة في الشرق القديم .
وقد كان من السهل على مصر أن تمد ذراعيها بعيدا  يمينا ويسارا وشمالا وجنوبا بفضل موقعها الأوسط الفريد . والتاريخ بعد هذا يسجل أن أغلب معارك مصر الحاسمة – الدفاعية إنما تمت على أرض الشام ، ابتداء من مجدو تحتمس الى حطين صلاح الدين. وعلى العكس من ذلك انتهت أغلب المعارك الدفاعية التي تمت على أرضها الى معارك خاسرة ابتداء من ريدانية طومان باي إلى أهرام نابليون.
( شخصية مصر – د.جمال حمدان – دار الهلال – كتاب الهلال مايو 1993 ) .
ويضيف د.جمال حمدان ان صراع القوى فى الشرق الاوسط القديم كان بين ثلاث قوى : مصر – العراق – آسيا الصغرى . وفى الغالب كانت سوريا من نصيب مصر ولكن الأغلب أنها كانت تسيطر على نصفها الجنوبى (فلسطين).  اما النصف الشمالي اما ان تفرض تحييده أو أن يقع  إما للعراق او لآسيا الصغرى (تركيا) .
وأكدت موجة الهكسوس ربما لأول مرة أن الدفاع عن مصر يبدأ في سوريا.  وبالفعل فقد تركزوا بعد طردهم من مصر في جنوب فلسطين كقاعده لإعادة زحفهم ، فكان على التحرير المصرى أن يتعقبهم إليها  حيث كانت معركة شاروهن هي النهاية.
وفى ذروة عصر الامبراطورية ( القرن 15 ق.م ) اكتسح تحتمس الثالث في سلسلة من الحملات اتحاد إمارات الشام الذى جمع بضع مئات من الامارات الضعيفة فى معركة مجدو (هرمجدون التاريخ القديم ) . ثم استمر المد المصري حتى عبر نهر الفرات ووصل الى تخوم الأناضول كما سيطر على كل سواحل وجزر شرق البحر المتوسط , ولقد كانت هذه هي أول وآخر مره تخضع مصر  فيها أجزاء من أطراف العراق والميتانى (تركيا) فى التاريخ القديم .
ومن العلاقات الاخرى في النصف الثاني عشر من القرن الميلادي وقعت حطين التى انتصر فيها صلاح الدين من مصر على الصليبيين في مكان قريب من موقع مجدو تحتمس . وفى القرن الثالث عشر سحق قطز المغول فى عين جالوت الشامية ,وتواصلت مطاردة فلولهم الى الفرات الذي حدد بذلك مجال نفوذ مصر ودورتها التوسعية النادرة . وفي القرن الرابع عشر تقف الصخرة المصرية مرة أخرى دون مواجهة تيمورلنك على أرض الشام .
نرى بوضوح  أن سوريا استراتيجيا جسر برى الى مصر على كل من يبغيها أن يعبره ، حتى بعض الحملات الصليبيه أتت عن طريق بيزنطة قاصدة مصر عبر سوريا .ومن هنا نجد ان كل المعارك المصرية الدفاعية أو الهجومية تتم على أرض الشام وبالأخص جنوبه الفلسطينى .
وفي الصراع مع الدولة العثمانية و كما فعلت مصر من قبل بوعى استراتيجي تام زحفت لمعركتها الى خط دفاعها الأول جغرافيا وتاريخيا فكانت معركة مرج دابق- حلب على التخوم بين الاناضول وسوريا . وكأنما جاءت هزيمة مصر المملوكيه فيها لتؤكد التجربة التاريخية التي تحدد مصير مصر على أرض الشام ، اذ لم تصمد مصر بعدها في خط دفاعها الأخير في قلب أرضها في رايدينية القاهره .
ويلخص د. جمال حمدان الموقف الاستراتيجى لمحمد على فى حرب الشام والاناضول فيقول : تحولت ولاية مصر العثمانية الى امبراطورية مصرية كاملة تشمل الحجاز ونجد واليمن وسواحل الخليج العربى والشام والسودان وتنشر أسطولها فى البحرين المتوسط والأحمر لتصبح قوة امفيبية(برمائية) حقيقية . ولعلها جمعت بذلك بين أبعاد جغرافية لم تصلها مصر، حين اخترقت قلب الأناضول وهددت اسطنبول مباشرة في وقت ما – كل ذلك فى إطار التبعية الشكلية ويرى البعض ان موقعتى حمص ونصيبين هما المقابل  المضاد لمرج دابق والريدانية تاريخيا واستراتيجيا.
وبالتوازي مع البعد الاستراتيجي العسكري المباشر يضيف الدكتور جمال حمدان زاوية بالغة الأهمية تخص الارتباط الآسيوي لمصر : : ( فى علاقتها الخارجية  كانت مصر القديمة آسيوية أكثر منها افريقية ، والانحدار التاريخى والجاذبية الجغرافية في مصر هي أساسا في الشمال الشرقي والدلتا تؤدى تلقائيا الى سيناء وهي جسر بري الى آسيا والمدخل الشرقي لمصر ومفتاحها الأم وحلقة الوصل بين القارتين. والى جانب سيناء يأتى البحر الأحمر كدهليز طويل يفضى بمصر  إلى غرب الجزيرة العربية حتى اليمن وهنا كان وادي الحمامات – طريق قنا-القصير (100 ميل فقط ) يقوم كخاصرة للصحراء الشرقية بدور مناظر ولكنه مصغر لدور شريط سيناء فى توجيه مصر نحو آسيا . وكان المصريين القدماء قد سموا هذا الطريق ” طريق الالهة” اعتقادا منهم بأنه طريق أجدادهم الاول . وفى المقابل ربما جاز أن نصف طريق سيناء ” بطريق الغزاة ” ولكثرة ما عبرته الجيوش . وعن هذين الطريقين سيناء والقصير ، دخلت مصر فى علاقة حميمة مع غرب آسيا .
وهنا يظهر البعد الديني فى فهم أبعاد الشخصية المصرية واللافت للنظر أنه كان بعدا آسيويا  في أغلب الأحيان ، فيقول د.. جمال حمدان (من الحقائق اللافتة للنظر أن مصر كانت دائما طرفا في قصة التوحيد في فلسطين وسيناء والحجاز. فقد انصبت هذه  الرسالات جميعا فى مصر على التوالى وان كانت كل فرشة منها تطغى وتغطى على سابقتها حتى سادت أخراها في النهاية (موسى – عيسى- محمد ) حتى في ما يتعلق بالدماء يقول حمدان : (منذ العروبة يلاحظ ان كل الدماء القريبة او البعيدة التي انصبت او تشربت إلى مصر ، جماعات وأفراد جاءت كلها تقريبا من الجبهة الآسيوية باستثناءات قليلة .( عرب – أكراد – تركمان -غز -ديلم – أتراك – شراكسة – أرمن وبالاخص عرب الشام ولبنان وفلسطين ) . أما فى الوقت الحاضر فلا جدال ان الثقل الأكبر من السياسة القومية لمصر 23 يوليو يتجه إلى الجبهة الآسيوية  على طريق التاريخ ، وقد أكدت فلسطين هذا التوجيه وحتمته تماما مثلما فعلت الحروب الصليبية في العصور الوسطى.

ومنذ حرب فلسطين خاضت جيوش مصر معاركها الأساسية على الجبهة الآسيوية بما في ذلك اليمن. فمن الواضح اذن أن البعد الآسيوي هو البعد المحوري في توجيه مصر الخارجي وأنه أساسا علاقة  أخذ وعطاء من طرفين تمتاز بالاستمرار والاطراد دون ذبذبة او تقطع . ثم يتحدث جمال حمدان عن البعد الافريقي لمصر ولكن ليس هذا موضوعنا الان.

ويشير جمال حمدان الى مسألة كثيرا ما تغيب عن اذهان المصريين وهى أن مصر من الدول العربيه القليلة التي لا حدود لها مع غير العرب .  فهذا العمق الجغرافي لم يمنحها الأمن والسلامة الاستراتيجيه فحسب ، بل جعلها طوال التاريخ تتعامل وتتفاعل مع عرب وعروبة ، بعكس أطراف العالم العربى نفسه حيث تعرضت للمؤثرات الاجنبية المتاخمة وبعض من أطراف العروبة تعرف ملامح خلط ثقافى وحضارى  بل وجنسى خطير فثمة مؤثرات التهنيد في كل الجنوب العربي ، والتتريك في تخوم سوريا ، وثمة كانت اخطار الصبغة الاسبانية في هوامش المغرب ، وبالمثل المؤثرات الزنجية في السودان . أي أن مصر كانت دائما جزيرة عربية يحيط بها العرب من كل الجهات. (انتهى الاقتباس بتصرف من كتاب دكتور جمال حمدان مرجع سابق)
لذلك فإن أخطر التطورات على أمن مصر وسلامتها وموقعها وجود الكيان الصهيوني الغريب الاستيطاني على حدودها الشرقية الشمالية منذ  70 عام.
كذلك نعود لنؤكد على ارتباط مصر الآسيوي بأهم رباط وهو رباط الدين بالمسيح ومحمد بالقدس ومكة والمدينة ، فهل توجد أهمية للشام أكثر من أنه جسر الى آسيا التي جاءت منها أنوار الدين ولا تزال . كيف تركنا الكيان اليهودي يفصل بيننا وبين مصدرنا الروحي الذي كنا نسير اليه على الأقدام والابل عبر سيناء وأم الرشراش (ايلات حاليا ) لأداء فريضة الحج.
 
إن الشام أو سوريا وبالاخص الجنوب الفلسطيني هى روح مصر التي لا يمكن أن تسمح لأي عدو أن يخنقها من خلال احتلاله .
ان روح مصر في آسيا منذ آدم حتى محمد صلى الله عليه وسلم ،  وكما بدأنا هذه الدراسة ، و أكدنا بنصوص القرآن أن كل الانبياء والرسل (الخمسة والعشرين) المذكورين في القرآن الكريم نشأوا ومارسوا الدعوة الى الله في المستطيل القرآنية (الوطن
العربي الاسيوي + مصر)  مما يؤكد أن الله يقول لنا انه هنا يقع مركز العالم منذ بدء الخليقة وحتى نهايتها  . ولطالما فرطنا في ذلك بينما أدركه الاعداء بكل هذا الاهتمام الذي يصبونه على هذا المستطيل بعد أن سموه (الشرق الاوسط).  ووضعت الكنيسة الكاثوليكية خرائط تضع القدس في مركز العالم حيث تلتقي القارات الثلاث . وكما ترى فإن الحروب تتفجر كل يوم حولنا فيما سموه الشرق الاوسط والقوات الصليبية متواجدة في سوريا والعراق وكل دول الخليج واليمن والاردن وفلسطين المحتلة ومصر. أي أن كل دول المستطيل عدا لبنان وان كان لبنان به القوات اللبنانية لسمير جعجع وهي قوات صليبية صهيونية .
وبالعودة للأنبياء المذكورين في القرآن الكريم سنجدهم جلهم آسيويين أي عدا اثنين على وجه الحصر هما : موسى وهارون وذلك وفقا لنصوص القران الكريم وليس استنادا لأي روايات أخرى . اما إسماعيل فتجري في عروقه دماء مصرية سيناوية من أمه هاجر التي تقول الروايات انها من الفرما ساحل البحر المتوسط بالقرب من بور سعيد . ولكن بنص القرآن الكريم فان موسى وهارون ولدا في مصر وعاشا في مصر حتي عبور البحر الأحمر إلى سيناء ، وهاجر موسى الى مدين مؤقتا ثم عاد الى مصر ليبدأ دعوته الى الله.

وان كان موسى وهارون من بني إسرائيل فهذا لا يتعارض مع مصريتهما ، خاصة ان بني اسرائيل كانوا قد هاجروا واستقروا في مصر منذ زمن . وهذا هو مفهومنا للمصرية :الاستقرار والتوطن . وإن كان قد أصبح من أهم معاييرالجنسية في العصر الحديث : الولادة- الاستقرار .  والأنبياء فوق معايير الجنسية السطحية ، فهم دعاة إلى الله ، ولكن سنة الله كانت عبر التاريخ إرسال الرسل لأقوام محددين ، فكانوا لابد ان يكونوا من بينهم وليتحدثوا بلسانهم كما أنبأنا القرآن الكريم وكما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان من بين ما يتميز به أنه أرسل للناس كافة . وقد كانت هذه من علامات النهاية ، أى نهاية إرسال الرسل للناس ، فانقطع الوحى الا من طبعته الاخيرة النهائية ( القرآن الكريم) وكان مناسبا لقيادة الناس حتى يوم القيامة كما برهنت الأيام عبر اكثر من 14 قرنا .  كما كانت هناك استثناءات عبر تاريخ الأنبياء فانتقل إبراهيم من العراق الى الشام الى جزيرة العرب حيث قام برفع قواعد الكعبة التي ستظل محورا في تاريخ و عقيدة المسلمين.

كذلك انتقل سيدنا يوسف من البدو (مدين) الى مصر انتقالا إجباريا ، ولكنه تمصر بذلك وأصبح النبي المصري الثالث (بعد موسى وهارون)  وفقا لنصوص القرآن الكريم . 3 أنبياء من مصر من أصل 25 نبيا ذكروا في القرآن .
ما يهمنا هنا أن القارة الآسيوية حظيت بشرف ظهور أغلب أهم الانبياء والرسل حتى تستحق أن تأخذ لقب قارة الأنبياء ، بل في الشام وحدها يكمن عش الأنبياء فما أروعها من أرض مقدسة ، فكم تربطنا بها وشائج المحبة والشجن وخفقان القلوب . واليوم لدينا حكام  يقولون ان الكيان اليهودي (اسرائيل) ولد ليبقى أبد الدهر ولابد ان نعترف به وننحني له ، بل ان بعض الاسلاميين اعترفوا باسرائيل فعلا ، عندما أعلنوا التزامهم بكامب ديفيد كاتفاقية دولية ، ومنهم المراقب السابق للإخوان المسلمين في سوريا ، وحركة الإخوان المصرية التي كان من شروط موافقة أمريكا على تسليمها الحكم أن تعترف بكامب ديفيد ، وما أدى إليه ذلك من تقديم رسالة تهنئة لاسرائيل في ذكرى عيدها القومي (15 مايو) حيث أعرب الرئيس مرسي عن تمنياته وأمنياته بحياة سعيدة لاسرائيل على أرض فلسطين ، وحيث أعلن هشام قنديل في تصريح منشور له في الصفحة الأولى بصحيفة الأهرام عندما كان رئيس وزراء الإخوان المسلمين انه يسعى لتوسيع التعاون مع اسرائيل من خلال اتفاقية الكويز التي تبيح تصدير المنسوجات المصرية لأمريكا بدون جمارك شرط ان يكون بها مكون اسرائيلي لا يقل عن 11.3 % .
نعم نحن لم نصل بعد الى قضية فلسطين في القرن العشرين وسنسهب الحديث عنها إذا امتد بنا العمر ، ولكن ارتباط مصر بالشام ( وفلسطين هي جنوب الشام) هو أساس نظرتنا للقضيه الفلسطينية . فحاكم مصر الذي وحد مصر والشام هو الذي يدرك الحقيقة الاستراتيجية لمصر ويعرف قيمتها ومركزها وكيف يدافع عنها وكيف يحفظ مصالحها . وعندما تم اغتصاب فلسطين عام 1948 فإن ذلك زاد في أهمية ارتباط مصر والشام لو كنتم تعلمون.
هذا هو صلب دراستنا وليس مجرد تتبع أحداث التاريخ ، فهذا التتبع يمكن التعرف عليه من أي مصدر تاريخي . ونحن لا نتتبع الأحداث الأساسية الا بغرض شرح وتوضيح هذه الفكرة الرئيسية : الصراع حول المستطيل القرآني /الشرق الاوسط / مركز العالم وعلاقه ذلك بقضيتنا الأولى: بناء الدولة الاسلامية المعاصرة والحديثة .
 
نعود الى محمد علي الذي كان يتحلى بالنظر الاستراتيجي السليم ، وكل ما سبق يوضح أن توجه محمد على نحو ضم سوريا لمصر كان عملا صائبا تماما .

كان محمد على قد طلب من السلطان خلال الحرب الوهابية أن يعهد اليه بولاية الشام وكانت حجته فى ذلك انه في حاجة الى مدد منها لمعاونته على قتال الوهابيين.
ففكرة ضم سوريا الى مصر كانت تختلج في نفس محمد على منذ 1810 . ومن الراجح كما يقول عبد الرحمن الرافعي ، إن مشروع محمد علي كان يشمل انشاء دولة عربية مستقلة في مصر تضم إليها البلاد العربية في افريقيا وآسيا . ولكن ربما كانت فكرة الدولة العربية أكثر وضوحا في ذهن ابنه إبراهيم باشا الذي عندما سئل خلال حصاره لعكا عن المدى الذي يمكن ان تصل اليه فتوحاته قال : إلى مدى ما يتكلم الناس واتفاهم واياهم باللسان العربى( كادفلين وباور: حرب مصر ضد الباب العالي في سوريا والاناضول 1831- 1833 ) . كما قال البارون (ليوالكونت ) عندما التقى إبراهيم باشا بالقرب من طرسوس بالاناضول عام  1833 ان ابراهيم باشا يجاهر علنا بانه ينوى إحياء القومية العربية، وإعطاء العرب حقوقهم ، وإسناد المناصب لهم سواء في الادارة ام في الجيش ، وأن يجعل منهم شعبا مستقلا ويشركهم في إدارة الشئون المالية ، ويعودهم سلطة الحكم كما يتحملون تكاليفه ، وتتجلى فكرته هذه في منشوراته ومخاطبته لجنوده  في الحرب الأخيرة بسوريا . فانه لا يفتأ يذكرهم بمفاخر الأمة العربية ومجدها التالد ، ويتصل بهذا المعنى مجاهرته بأن كل البلدان العربية يجب أن تنضم تحت لواء أبيه . ويقول البارون إن ابراهيم باشا قال لي إن أباه يحكم مصر والسودان وسوريا ، ومن الواجب أن يضم العراق الى حكمه ، فان  جزيرة العرب تابعة لأبيه الذي يعمل الآن على إتمام فتحها ، وهو في صلاته مع أهل البلاد يستخدم اللغة العربية ، ويعد نفسه عربيا ، ولذلك لا ينفك يطعن في الاتراك ، وقد لاحظ عليه ذلك أحد جنوده وخاطبه بتلك الحرية التي كان يشجع رجاله عليها وسأله كيف يطعن في الاتراك وهو منهم فأجابه ابراهيم باشا على الفور :أنا لست تركيا فأنا جئت إلى مصر صبيا ، ومنذ ذلك الحين قد مصرتنى شمسها وغيرت من دمى وجعلته دما عربيا ” (من كتاب مهمة البارون ليو الكونت) .
ولكن لا أتصور أن هذه كانت أفكار محمد على بالضبط  وسنرى ذلك من خلال مواقفه وأقواله.  كان محمد علي يرى الأبعاد الاقتصادية في فتح سوريا مثل الاستفادة من مواردها من الخشب والفحم والحديد من أجل بناء السفن والمصانع وكانت عينيه أيضا على توسيع صفوف الجيش المصري من سكان سوريا.

 <<<<<<<<<<<<<<<<

                             - 24 -
 مصر جديـرة بوراثة الدولة العثمانية.. رؤية إبراهيم باشا

الجيش المصري يجيد القتال وينتصر في الجبال والحرارة ١١ تحت الصفر
السلطان العثماني يستعين بقوات روسيا بعد ضياع جيشه
حلب تمنع دخول الجيش العثماني إليها
اتفاق كوتاهيه  خدعة لوقف إطلاق النار ثم الانقضاض على مصر

كانت معركة حمص من العلامات الفارقة على الهوة السحيقة بين الجيشين المصري والعثماني. فكان الجيش المصري أقرب الى الجيش العصري الحديث الأكثر تنظيما وتسليحا وتدريبا ، وكان الجيش العثماني أقرب إلى حالة الارتباك والفوضى وعدم الاحتراف العسكري . ففي عهد هذا السلطان محمود كانت حملة القضاء على الانكشارية قلب الجيش العثماني بعد كل ما كانت ترتكب من التدخل في السياسة والإفساد في الأرض والبلطجة . قرر السلطان محمود إبادة القوات الانكشارية عن طريق القصف المدفعي ، ولم يتم في المقابل تأسيس جيش عثماني حديث.
كذلك ظهر الفارق بين القدرة القيادية العسكرية حيث برهن ابراهيم باشا علي امتلاكه عبقرية عسكرية ، وهذه صفة تكتسب بالجدية والعمل والتدريب ، مع وجود استعداد شخصى ومواهب لدى القائد . فقد كان ابراهيم باشا بارعا في التكتيك العسكري ، ماهرا في أسلوب استخدام المدفعية بإخفائها وإظهارها في الوقت المناسب ، وعن طريق تقسيم القوات المصرية إلى مربعات ، والتلاعب في كيفية توزيعها واستخدامها وهو تكتيك اشتهر به نابليون بونابرت وحقق به الكثير من الانتصارات ؟
كما كان ابراهيم باشا يستوعب جيدا طبيعة ميدان المعركة وتضاريسها وجبالها ويعرف كيف يستفيد من هذه التضاريس لصالحه وهذا ما فعله في اليونان وجبال طوروس والأناضول ،  فتمكن من هزيمة الخصم وإن كان متحصنا بالجبال . و كان يجيد فن الالتفاف ومفاجأة الخصم من حيث لا يحتسب ، وهناك كثير من الدراسات العسكرية أبرزت كل هذه الفنون العسكرية لابراهيم باشا الذي لم يحصل عبثا على لقب “بونابرت الشرق” .
ارتد الجيش العثماني بعد هزيمته في حمص الى حلب آخر وأهم مدن الشام قبل الأناضول والتقى مع تعزيزات عثمانية كانت قادمة من أنطاكيا فاتجه الجميع نحو حلب ،  ولكن أهالي حلب الكارهين للحكم التركي رفضوا دخول الجيش العثماني لمدينتهم وأغلقوا أبواب المدينة في وجهه ، ولم يسمحوا الا بدخول الجرحى والمرضى, وهذا مؤشر على الحالة الجماهيرية السورية التي كانت مرحبة بتقدم الجيش المصري.
فلم يجد العثمانيون مكانا حصينا الا في مضيق بلان جنوب الاسكندرونة في المواقع الفاصلة بين سوريا والأناضول ، بينما كان الجيش المصري يتقدم بدون مقاومة أو قتال حتى حماه ثم حلب حيث جاءت الوفود من أورفا و ديار بكر وهما مدينتان تركيتان حاليا لإعلان الخضوع لحكم محمد علي.
ورغم تحصن القوات العثمانية (45 الف من القوات النظامية جيدة التسليح مع 160 مدفعا) في جبل ومضيق بيلان أعد ابراهيم باشا خطة التفافية أدت في  النهاية لهزيمة الترك بعد معركة استمرت ثلاث ساعات فقدوا فيها 2500 بين قتيل وجريح وأسر المصريون 2000 منهم وغنموا 25 مدفعا وكثيرا من الذخائر. واحتل المصريون بيلان المدينة والجبل والمضيق !! .
وعندما علم الأسطول العثماني في ميناء الاسكندرونة بهذه الهزيمه فر من الميناء . وتقدم الجيش المصري فأسر المزيد من الأتراك واحتل الاسكندرونة بسهوله ثم تقدم وأسر  1900 مقاتلاَ تركياَ آخرين ، ثم سرعان ما سلمت أنطاكية واللاذقية والسويدية بدون قتال ، وهرب قائد الجيش التركي لمكان غير معلوم.
كان الجيش العثماني يستعين في كل المعارك السابقة بأعداد من الاكراد ، وكان السلطان محمود قد أعلن في مايو 1832 و بعد الهزيمه في موقعة الزراعةعصيان محمد على وأنه كافر ومرتد ، ولكن ذلك الإعلان لم يكن له أدنى تأثير على سير الحوادث .
واصل الجيش المصري بعد انطاكية اختراق الأناضول وأصبح يتقدم في أراضي تركية واحتل مدينة أدنة ثم أورفا وعينتاب ومرعش وقنسرية.
ورأى السلطان محمود أنه يقاتل معركة الحياة أو الموت فألف جيشا كبيرا جديدا بقيادة محمد رشيد الصدر الاعظم وزميل ابراهيم باشا في حرب اليونان (الموره)  وكان معه 53 الفا أي أكبر من كل الجيوش السابقة ، وفي 18 ديسمبر 1832كانت موقعة قونية حيث درس إبراهيم باشا أرض المعركة جيدا وقام بتدريب جنوده على أساليب القتال فيها قبل بدايتها . وكان البرد قاسيا ووصلت الحرارة الى 11 تحت الصفر وهو مناخ غير ملائم للمصريين إطلاقا بل لم يعرفوه أصلا .
ولكن إبراهيم باشا بمعاونة القادة المصريين من خريجي البعثات للخارج (مختار بك وأحمد أفندى ) تمكن من  تبديد شمل العثمانيين وتم أسر رشيد باشا الصدر الأعظم بعد مرور ساعتين بدون قتال . ولكن المعركة استمرت سبع ساعات ولم تزد خسائر المصريين عن 262 قتيلا مقابل 3  آلاف قتيل تركي وأسر 6 آلاف آخرين مع قائد الجيش وعدد كبير من الضباط والقواد وغنم المصريين 46 مدفعا.
وتعد هذه المعركة من مفاخر الجيش المصري وإن كان يحزن القلب إنها معركة مع جيش اسلامي آخر .  ولكن تذكرون أنني كتبت بنفسي بروح مؤيدة لتقدم الدولة العثمانية على الدولة المملوكية في 1516 و 1517 وضم الشام ومصر للدولة العثمانية ورفضت موقف الاستاذ راغب السرجاني الذي اعترض على ذلك ، وقلت إن من مصلحة الإسلام أن تحتوي الدولة الأقوى والأصلح ديار المسلمين وأن قانون الأواني المستطرقة يواصل فعاليته كقانون طبيعي حيث الماء فى الأعلى يفيض على الماء الادنى .  وبالفعل كان العثمانيون في البداية أفضل بكثير وورثوا عن المماليك التصدي للغزو الصليبي البرتغالي القادم من جنوب البحر الأحمر وطردوهم شر طردة وتعقبوهم حتى الهند وأحكموا السيطرة على باب المندب.
ولكن العثمانيون كما ذكرت مرارا لم يحسنوا مع الأيام إدراك أهمية المستطيل القرآني في الصراع العالمى ،  وتعاملوا معه ومع مصر بمنتهى الاهمال ، إلا عندما يتعرض لعدوان خارجى كما حدث في العراق خلال الصراع مع الدولة الصفوية.ولكن رأينا الهزال العثماني في مواجهة الحملة الفرنسية على مصر .
وفي عام 1832 كانت تجري معركة عكسية : الدولة المصرية هي التي تحاول أن ترث الدولة العثمانيه في إدارة  العالم الإسلامي . ولكن دعونا لا نسبق الأحداث. وهكذا كانت معركة قونية هي مقابل معركة مرج دابق التي هزم فيها الحكم المملوكي المصري لقنصوه الغوري أمام سليم الأول وهي ليست انتقاما لها فقد مر أكثر من 3 قرون ، ولكنها المقابل الطبيعي . إن الأقوى ينتصر وهو الجدير بالقيادة العامة للمسلمين .
بعد هذه المعركة ( قونية ) لم يبق لدى السلطان محمود جيش ليدافع عن اسطنبول عاصمة ملكه ، فانفتح الطريق أمام ابراهيم باشا اليها ، وبدأت جموع الشعب التركي ترحب بإبراهيم باشا في حماس  وتدعوه إلى مدنها لاقرار الأمن والنظام الذي اشتهر به . وأصبح الجيش المصري على مسيرة ست أيام من البوسفور وكان الطريق خاليا من أي جيش او حصن .
  دور الأسطول المصرى :
يكشف حجم مشاركة الأسطول المصرى في معارك الشام كيف أعاد محمد على بناء الأسطول بعد معركة نافارين في سنوات معدودة وهذه همة عالية لا يمكن نكرانها ،  فقد شاركت في الحرب 9 بوارج ، والبارجة أقوى قطع البحر ، تقل 3810 من البحارة ومسلحة ب 484 مدفعا ، وقد شاركت في دك حصن عكا ، كما شاركت مجموعة من 27 سفينة حربية متطورة في مطاردة الأسطول العثماني الذي كان يحاول دعم القوات العثمانية في الشام ومنعته عمليا من أداء مهمته حيث كان يخشى المواجهة ويهرب من السفن المصرية . كذلك قام الأسطول المصري بدور إمداد القوات البرية بكل احتياجاتها ، وكان ذلك أيسر بكثير من الإمداد عبر البر.
فزع الدول الأوروبية:
أصاب الفزع  الدول الأوروبية الكبرى : انجلترا – فرنسا – روسيا  من هذه التطورات التي أصبحت تنبئ بوضوح إلى صعود القوة المصرية الفتية لتحل محل الدولة العثمانية المتداعية،  والتي كانوا يسمونها “الرجل المريض” وكانت كل تدبيراتهم محصورة في كيفية توزيع تركة الرجل المريض فيما بينهم . وقد عاشت الدولة العثمانية في غرفة الانعاش لفترة ما بسبب هذا الخلاف في الوراثة .  وقد كانت فرنسا وإنجلترا من الذكاء الاستراتيجي بحيث كان التركيز على الشرق الأوسط فبدأوا  يتحدثون عن “المسألة الشرقية” وبصعود محمد علي بدأوا يتحدثون وبصوره خاصه عن “المسألة المصرية”  وهي أهم ما في الشرق الاوسط ، ورأينا كيف كان الصراع مفتوحا بينهما لاحتلال مصر ، فرنسا فى 1798 وانجلترا فى 1807 ولكنهما فشلا ، وكان نظام محمد على سداَ منيعاَ في مواجهتهم ، ولكنه الآن ينتقل من الدفاع الى الهجوم وإذا تركت الأمور للتطورات الطبيعية فإن مصر ستتحول الى رقم صعب ،  و تعيد الحيوية والقوة للدولة الإسلامية بوراثة الدولة العثمانية المتداعية فتطرد نفوذ الجميع وتعيد المجد الضائع لأمة العرب والمسلمين ، وما كانا ليسمحا بذلك . أما روسيا الأقل قوة وذكاء فكانت مشغولة بالصراع الموضعي مع الدولة العثمانية حول ممرات البوسفور والدردنيل بين البحر الأسود والبحر المتوسط , والصراع حول مناطق شرق أوروبا المتداخلة مع روسيا و المشتركة معها في السلافية والارثوذكسية المسيحية . وكانت روسيا تتميز انها على حدود الدولة العثمانية مباشرة . وكنا قد عرضنا من قبل كيف ازدادت قوتها في عهد بطرس الأكبر والمكاسب البرية والبحرية والسياسية التي حققتها على حساب الدولة العثمانية. ولم يكن في مصلحة روسيا ان تقوم دولة قوية محل الدولة العثمانية تنزع منها ما حققت من مكاسب ، فأوفدت الجنرال مورافييف الى السلطان محمود ليعرض استعدادها للدفاع بقواتها البرية والبحرية عن السلطنة العثمانية ، وهذا يعني في واقع الأمر بسط حماية روسيا الفعلية  على تركيا التي أصبحت بلا جيش، وهذا ما أثار مخاوف فرنسا وانجلترا لأن ذلك يقلب الموازين في أوروبا لصالح روسيا ، وتوجه التفكير فورا للضغط علي محمد علي لوقف تقدمه ووقف تداعي الدولة العثمانية لقطع الطريق على المبررات الروسية ، وأصبحت الإسكندرية حيث يقيم محمد علي قبلة الدول الأوروبية فجاء الجنرال مورافييف الروسي نفسه إليه بادعاء الوساطة بين مصر وتركيا ، وأحسن محمد علي استقباله  ولكنه لم يتراجع عن موقفه ، وعرض السفير الفرنسي الاميرال روسان على محمد على الاكتفاء بولايات صيدا وعكا وطرابلس والقدس ونابلس وتسوية الأمر.  ولكن محمد علي أصر على ضم سوريا وولاية أدنة التركية لمصر ولتكن جبال طوروس هى الحدود بين البلدين .
ثم وصل أسطول روسي ورسا في مياه البوسفور ، ونزلت قوة من الجنود الروسي الى الشواطئ التركية الآسيوية لتقف في مواجهة الجيش المصري. ( ولم يقل الاسلاميون الذين يدافعون عن الدولة العثمانية في هذا النزاع ، هل يجوز الاستعانة بالكفار لحماية الدولة الاسلامية في اطار صراع اسلامي – اسلامي ؟ أم كان من الأفضل الوصول إلى اتفاق مع محمد علي بدلا من إصدار قرار بتكفيره وردته !! ) كذلك قامت روسيا بإنزال 15 ألف جندي على الساحل الأوروبي التركي لحماية اسطنبول ، وكان ابراهيم باشا قد تقدم بجيشه فاحتل (كوتاهية ) وصار على مسافة 50 فرسخا من الأستانة ووصل الجيش المصري لميناء أزمير بدون قتال واصبح انهيار الحكم العثماني مسألة أيام .
رسائل ابراهيم باشا لأبيه:
قبل توقيع معاهدة كوتاهية جرت  مراسلات مكثفة بين ابراهيم باشا وقائده ووالده محمد علي ، فبالإضافة للخلاف بين ابراهيم باشا ووالده حول مسألة العروبة ظهر تباين فى التقديرات “الثورية” بين ابراهيم ووالده.
عندما كان ابراهيم باشا يتقدم في الشام بسرعة تقدم سكين حاد في قالب من الزبد ودخل دمشق أرسل إلى محمد علي وأثناء تقدمه في اتجاه حلب رسالة جاء فيها (ها قد فتحنا الشام التي يقول المصريون انها جنة فماذا يريدون منا فوق ذلك) .  كانت تصورات محمد علي في تلك اللحظة تتوقف عند استكمال الزحف الى حمص وحلب فكان هذا آخر ما يريده على أمل أن يقبل السلطان رسميا ضم الشام إلى مصر ، و يعيد ترتيب علاقاته مع الدولة العثمانية على هذا الأساس الجديد . لم تكن مدرسة أو ثقافة محمد علي تتجاوز تجربة الدولة العثمانية(رغم انه كان كما أوضحنا من قبل ليس من أصل تركي ولم يعش في تركيا ) فهو ألباني نشأ في الشرعية العثمانية ولا يعرف غيرها ، ولا يتصور أن ينقلب عليها تماما ، بل  يريد تحقيق استقلال لدولته الخاصة في كنف العثمانيين ومواصلة مشروعه الخاص في البناء والتنمية الزراعية والصناعية والعلمية . لم يكن متبلورا في ذهنه أن يصل به الأمر إلى حد الاستيلاء الكامل على ممتلكات الدولة العثمانية حتى فى تركيا و أن يحل محلها بدولة جديدة تماما . ولكن الدولة العثمانية لا تزال تعاند ولا تريد الاعتراف بضمه لسوريا بل كانت قد أعلنت في 13 ابريل 1832 من خلال مجلس شرعى ضم ثلاثة مفتيين واثنى عشر قاضياَ وتسعة من أئمة السراى السلطانية ، أعلنت حكما بتجريد محمد علي وولده ابراهيم من جميع الرتب والمناصب الديوانية وألقاب الشرف الممنوحة لهما من لدن أمير المؤمنين ، ثم القصاص منهما مع سائر من شاركهم في العصيان والخروج على طاعة السلطان . وعندما علم محمد علي بهذا الحكم قال أمام قناصل الدول: هل يسمح السلطان لنفسه ان يحاربني باسم الدين ، وأنا أحق منه بمهبط الدين والوحى لاني أنقذت الحرمين الشريفين وأعدت للدين سلطانه وأنا الآن أحكم مكة والمدينة المنورة.
ولكن محمد علي كان لا يزال يأمل أن يتراجع السلطان عندما تتم سيطرته الكاملة على الشام ، ولكن ذلك لم يحدث بل ظل السلطان يعد الجيش تلو الجيش .
وفي كتاب داود بركات ( البطل الفاتح إبراهيم باشا)  نطلع على بعض مراسلات ابراهيم/ محمد على ، التى كشفت الخلاف في التقديرات بين الرجلين . ولا شك أن محمد علي كان واقعا تحت ضغوط رهيبة من قناصل أوروبا في الاسكندرية لوقف التصعيد ضد الدولة العثمانية ، وما كان محمد علي ليتجاهل ضغوط الدول العظمى بصورة كلية ،  ولكنه لم يكن من أصحاب القلوب الضعيفة ، ولكنه لا شك كان أقل ثورية من إبراهيم باشا ، فبعد الانتهاء من فتح الشام كتب إبراهيم باشا إلى والده يستأذنه  في الزحف على قونية والأستانة أيضا ، وأن يحمل خطباء المساجد على القاء الخطبة باسمه لكن محمد علي بدا مترددا إزاء هذا الموقف ورد على ابراهيم باشا بكلمة دقيقة تكشف سر شخصيته وطريقته في العمل والتفكير (تقول لى فى كتابك إنك تريد أن تضرب المعدن وهو حام وإنك تريد أن يخطب بإسمى في جميع المساجد ، فاعلم يا ولدي أنا لم نصل الى مركزنا الا بقوة الوداعة وخفض الجانب ) !!

ولكن بعد ثلاث شهور ومع استمرار تصلب السلطان ورفضه لأي تفاهم سمح محمد علي لابراهيم باشا بالزحف على قونية ثم الانسحاب منها ! فكتب إليه ابراهيم يجب علينا حسب أوامرك ان نتقهقر إلى الوراء  بعد الاستيلاء على قونية ، والشائع أن الصدر الاعظم يزحف علينا بقوة كبيرة فإذا تقهقرنا عزوا ذلك الى الجبن والخوف ، فأقره محمد علي على رأيه ولكن بشرط ألا يتجاوز قونية لأن الدول الأوروبية لا تنظر بعين الرضا إلى ماوراءها ،. بينما كان إبراهيم باشا يواصل ضغطه : ( يا والدي .. منذ عشرون يوما أبحت إلى إعلان سقوط السلطان والآن تحرمه على ، فما فائدة الرجوع وتغيير الرأى من جانبنا .  لا يجوز لنا أن ننسى أن جيشا قويا باسلا مثل جيشنا لا يحتمل سياسة التردد وجس النبض ، وهي السياسة التي لا تعرف الانتفاع  من وراء الواقع . على أن هذا الجيش لا يستطيع الوقوف طويلا مكتوف الأيدي ونحن ذهبنا إتباعا لأوامرك . لقد أمرتني قبل الآن أن اقف في حلب ثم سمحت لى بالتقدم إلى قونية . فدعنا الآن يا والدي نهزم جيش الصدر الأعظم).
وعندما انتصر إبراهيم باشا وأسر  الصدر الأعظم كما أوضحنا عقد معه  إتفاقا على خلع السلطان محمود الثاني و تعيين ابنه عبد المجيد بدلا منه، وكتب الى محمد علي فقال( أستطيع أن أصل الى الآستانة ومعي محمد رشيد باشا و أستطيع خلع السلطان حالا وبدون صعوبة ، لكني مضطر لأن أعرف هل تسمح لي بتنفيذ هذه الخطة حيث أتخذ الوسائل اللازمة لان مسألتنا لن تسوى الا في اسطنبول ، فالواجب أن نذهب اليها حتي نملي إرادتنا ، وأن من العبث ان نقف عند قونية  ولا نتقدم إلى الأمام وأن رجال الآستانة لن يقبلوا بعقد صلح معنا الا إذا دخلنا عليهم العاصمة كما فعلوا مع الروس . وأنا لولا الأمران الأخيران اللذان تلقيتهما منك لكنت الآن على أبواب اسطنبول . إني لأسأل نفسي ما هو الداعي الذي دعا الى إصدار تلك الأوامر؟  أهو الخوف من أوروبا او شيء لا أعرفه التمس منك ان تنيرني في هذه المسألة قبيل انفلات الفرصة من أيدينا .) .
فلما وصل الكتاب إلى محمد علي أذن إلى ابراهيم بالتقدم ،  وتقدم بالفعل حتى وصل إلى كوتاهية وهناك وصله كتاب من والده يأمره بالتوقف مرة أخرى  ، وهو يعلم يقينا أنه لا يوجد جندى واحد للسلطان في الطريق الى اسطنبول.
وكتب ابراهيم باشا إلى أبيه يرجوه قائلا:  بحق حبنا للأمة الاسلامية و غيرتنا الدينية ، أرجو عمل الواجب المحتم لا العمل لمصلحتنا فقط ،  لكن العمل فوق كل شيء وقبل كل شيء لمصلحة هذه الأمة كلها ، ومن أجل ذلك يجب علينا خلع السلطان المشؤوم ووضع ابنه ولي العهد على العرش ليكون ذلك بمثابة محرك يحرك هذه الأمة من سباتها العميق ،  فاذا اعترضت علي بأن أوروبا تعترضنا ، قلت لك اننا لاندع لها الوقت للتدخل وبذلك ينتفى الخطر من ذلك الجانب لأن مشروعنا ينفذ قبل أن يعرف وبذلك نضع أوروبا أمام الأمر الواقع . وإذا كانت أوروبا تغتنم الفرصة لإشباع مطامعها من هذه الدولة فأية تبعة تقع علينا ؟ وهل نستطيع أن نمنعها من تحقيق خطة تسعى لتحقيقها منذ  84 سنه؟ ولا وقت عندى لتلقي شيء منك أو من اسطنبول يحرم على التقدم ) وقبل ان يصل ابراهيم الى بورصة وموديانا تلقى الامر من والده بأن يقف مرة أخرى . وبعد مفاوضات شاقة بين قناصل الدول ومحمد على ورسل السلطان نجحت فرنسا في أن تصل بالطرفين الى صلح كوتاهية عام 1833 الذي تنازلت بموجبه الدولة العثمانية لمحمد علي عن الشام مع ولايته لمصر وكريت ومنحت ابراهيم أدنة التركية مع ولاية الحجاز .
ابراهيم باشا على حق:
قبل ان نقول رأينا في صلح كوتاهية ، نستكمل المعلومات حول موقف إبراهيم باشا الذي يتضح أكثر في حواره مع البارون ” بوا الكونت”  مندوب فرنسا للصلح بين مصر وتركيا .
إبراهيم باشا:  أنه ليؤلمنى أن الدول منعتني من متابعة الزحف.
بوا الكونت: على العكس اني أظن انه قد آن الأوان الذي يحق فيه للدول أن تفكر في وقف سموكم عن الزحف . فانه لم يكن أمامكم الا بضع خطوات ليصل الجنود المصريون الى اسكدار وهناك تنشب الثورة في اسطنبول.
ابراهيم باشا : لقد كنت شديد الرغبة في دخول اسطنبول على رأس جيشى .
  بوا الكونت: وماذا تقصدون سموكم من الذهاب الى اسطنبول وماذا كنتم صانعين بها ؟
ابراهيم باشا : ما كنت أدخلها للهدم بل الإصلاح ولكى اقيم حكومة صالحة مؤلفة من رجال اكفاء بدل الحكومة الحالية العاجزة عن الاضطلاع بحكم الامبراطورية .
  بوا الكونت: ان سموكم يؤيد بحديثه المخاوف التى ألمحت إليها في كلامي ، فإن ما كنتم تنوون إحداثه هو ما كنا نعمل على منعه لا لأننا مسوقون بفكرة عدائية نحو سموكم أو نحو أبيكم  ولكن لان الانقلاب الذي كنتم عازمين عليه في الأستانة يفضى إلى مشاكل قد تشعل نار الحرب في أوروبا بأسرها.
ابراهيم باشا:  انك واهم فيما تظن فان هذا الانقلاب كان سيحدث دون اي مقاومة فإن السكان على جانبي البوسفور والدردنيل يطلبوننى لإحداث هذا الانقلاب الذي كان سيتم بهدوء وسرعة ودون أن تجد الوقت للشعور بوقوعه وإننى أبحث كثيرا و أتساءل لماذا تحقد الدول الاوروبية كل هذا الحقد على الأمم الإسلامية ؟
بوا الكونت: انى لا أفهم كلام سموكم .
ابراهيم باشا: إنك تقول الآن أن وصول جيشى الى اسكدار كان سيحدث ثورة في اسطنبول وإنى أوافقكم وأرى رأيكم ، ولكن أليس هذا دليلا على أن الأمة الاسلامية لا تريد حكم السلطان محمود ،  فبأي حق ترغمون هذه الأمة على ما لا تريده ، وهل يحق لكم معشر الفرنسيين أن تمنعوها من اختيار حكامها ؟ عجبا لقد كنتم حين ثار البلجيكيون وطلبوا تأليف مملكة مستقلة وحينما قام اليونانيون يطالبون باستقلالهم ، تنادون بأن لكل أمة الحق في اختيار ولي أمرها ونظام الحكم الذي تتبعه ، بل انكم  ساعدتم اليونانيين في ثورتهم فلماذا تحرمون الامة التركيه من هذا الحق ؟ ( …€ヲ.)


هل يمكن أن تكون هناك رؤية أوضح من ذلك ولا مثل هذا النظر الثاقب ؟
لست من مدرسة – وقد قلت ذلك من قبل-  أن نعيد هندسة التاريخ ، وأن نقول: لو حدث هذا بدلا من ذلك ، ولو فعل الحاكم الفلانى كذا مكان كذا لكان أفضل .. ألخ ، أرى أننا كمؤرخين  أو دارسين للتاريخ أو باحثين فى السياسة الاستراتيجية ندرس الواقع كما كان ونحلل أسبابه ونأخذ الدروس والعبر . وأحاول أن أركز على أخذ الدروس والعبر فحسب ، ولكن فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية فإنني لا أهندس التاريخ ولكن أنحاز لرؤية ابراهيم المخالفة لرؤية محمد علي في هذه القضية ، قضية الصراع حول السلطة في الآستانة ، أرى أن مصر أو مشروع محمد علي ما كانت لتخسر أكثر مما خسرته ، لو مضى ابراهيم باشا في تصوره وقام بحسم الأمر بسرعة قبل أن تفيق أوروبا ,  وأن يوحد سلطة المسلمين بين الآستانة والقاهرة لتصبح قوة واحدة .  وكما يظهر في رسائل ابراهيم باشا لابيه فإنه لم يكن متهورابل رتب الأمر مع رشيد باشا ، وكان ينتوى تنصيب عبد المجيد ابن محمود الثاني ، والقيام بمحاولة إصلاح الدولة العثمانية من أعلى ولكن تحت السيطرة العسكرية المصرية التي أصبحت هى قائدة جيوش المسلمين ،  فكما ضمت الدولة العثمانية دولة المماليك فكان ذلك خيرا للمسلمين ، فإن ضم مصر لتركيا وممتلكاتها القليلة المتبقية كان يمكن أن يمثل خيارا أفضل للمسلمين .
ففي كل الأحوال كما لاحظ ابراهيم باشا بذكاء ، فإن  أوروبا ستظل تتوحد وتتآمر ضد الدولة الإسلامية الصاعدة ، وكان مركز المسلمين سيكون أقوى إذا توحدت الدولتان المصرية والتركية في دولة واحدة ، وسيظل الصراع مستمرا بل كما تلاحظون هو لايزال مستمرا حتى الآن في بدايات القرن الواحد والعشرين مع انضمام أمريكا لأوروبا .بعد نظر ابراهيم باشا ظهر جليا وبسرعة ، فلم تكن معاهدة كوتاهية وهي ظاهريا لصالح محمد على الا هدنة حتى تستعد الدولة العثمانية مع دول أوروبا لترتيب الأوضاع لهجوم معاكس على دولة محمد علي فى اتجاه طردها من درنة ومن كل الشام ! ثم بعد ذلك حتى جزيرة العرب واليمن !! بل وتقويض النهضة الصناعية في مصر ، فماذا كان في معاهدة كوتاهية ؟ وماذا حدث بعدها ؟

 >>>>>>>>>>>>>>>>>>

                            - 25 -
 لماذا فشل محمد علي وعبدالناصر في ضم الشام؟

ولماذا نجح المصريون القدماء في حكمها ألف عام ؟!
معاهدة دفاع مشترك بين الدول العثمانية وروسيا ضد مصر!
المؤرخون السوريون يشيدون بمحاسن حكم محمد علي للشام
اسم “الشام” مشتق من انتشار الأراضي الزراعية في الصحراء كالشامات على الوجه

في 8  أبريل 1833 اضطر السلطان محمود – بضغط فرنسى وأوروبا من وراء فرنسا – للموافقة علي اتفاق كوتاهيه وبمقتضاه يتخلى السلطان لمحمد علي عن سوريا وإقليم أدنة-  كما طلب الأخير بالضبط مع تثبيت حكم محمد علي لمصر وجزيرة كريت والحجاز مقابل أن يجلو الجيش المصري عن باقي بلاد الاناضول ، وبمقتضى اتفاق كوتاهيه صارت حدود مصر الشمالية تنتهي عند مضيق (كولك ) بجبال طوروس .
وكما قلنا فإن الاتفاق يعكس ظاهريا انتصارا مؤزرا لـمحمد على فقد تحقق ما كان قد طلبه بالضبط وهو أساسا ضم سوريا وأدنة ، ولكن فات محمد علي ( وأدركه ابراهيم باشا ) ان الاكتساح العسكري المصري  للأناضول وتدمير الجيش العثماني كلية بحيث كان الجيش المصرى على أبواب الآستانة ، أثار الذعر في قلوب الأوروبيين فاضمروا القضاء على هذه القوة البازغة الخطيرة (مصر) . أما السلطان فقد كان جاهزا للانقلاب علي محمد علي بعد أن يدبر شؤونه المبعثرة ، فهو لم يوافق الا مضطرا على هذا الاتفاق . وكان الفرنسيون والانجليز يريدون إبعاد روسيا عن تركيا بالإضافة إلى هدفهم الثابت : الاحتفاظ بالدولة العثمانيه ضعيفة حتى يتسنى لهم تقسيم تركة ممتلكاتها.
 
وقد بدأ الثأر العثماني فورا ، وحيث لم يكن السلطان قد أعاد بناء جيشه المبعثر ، فعقد سرا مع روسيا المعاهدة المعروفة ( هنكار أسكله سي) في 8 يونيو 1833 ، وهي معاهدة دفاعية هجومية التزمت كل دولة بمقتضاها أن تساعد الدولة الأخرى إذا استهدفت بخطر خارجي أو داخلى ، وتعهدت تركيا بأن تأذن للأسطول الروسي بالمرور فى البحر الاسود إلى البحر المتوسط ، وتسد البواغيز في وجه جميع السفن التابعة للدول الأخرى ، ومؤدى هذه المعاهدة تخويل روسيا مد يدها في شؤون تركيا ، وبسط حمايتها الفعلية عليها ، ولم يكن لهذه المعاهدة تفسير الا الاستعداد لمواجهة مصر فهي الخطر المباشر الوحيد في تلك اللحظة . وكان السلطان يضمر الهجوم المضاد علي محمد علي في سوريا ، أما بالنسبة للروس فكان تأمين مرورها في المضائق هو هدفها الرئيسي الذي طالما دخلت الحروب من أجله ، وحصلوا على مبتغاهم بغير مقابل الا أن يحموا السلطان من محمد علي . وكان الجيش المصري عقب اتفاق كوتاهيه بحجم كبير للغاية وصل الى 168 الف جندي على هذا المستوى الذي رأيناه من الكفاءة في حروب الشام والأناضول واليونان .
 
ولكن لابد من وقفة تجاه ملامح الحكم المصري في سوريا :

دخل الشام في حكم الدولة المصرية بعد صلح كوتاهيه الذي توج انتصارات الجيش المصري ، وأصبحت مصر المرجع الأعلى لحكومة الشام ، وصار إبراهيم باشا حاكما عاما للبلاد السورية و قائدا للجيش المصري واستمر حكمه لسوريا 9 سنوات وعنى ابراهيم باشا بإقرار النظام والأمن في ربوعها ، ومنع اعتداء البدو على غلات الأهالي وأملاكهم وأرواحهم . ومن الناحية الحربية أهتم بتأمين الحدود الشمالية مع تركيا في جبال طوروس حيث كان يتوقع زحف الجيش التركي في أي وقت ، وشيد الثكنات والمستشفيات ، ورابط معظم الجيش( وكان 70 ألف مقاتل ) في هذه المناطق والحصون الشمالية ، وقد غلب علي ابراهيم باشا اهتمامه العسكري فاتخذ مقره العام في أنطاكية أي في أقصى الشمال وعين محمد شريف بك حاكما عاما لسورية عام 1832 وهو غير شريف باشا الشهير الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزراء وعرف بأبي الدستور، وتم تعيين شخصية سورية بارزة في اداره الشئون المالية والادارية وهو حنا بك بحري ، وهذا أمر لم تعتاده الإدارة التركية . ويشيد المؤرخ السوري د. مشاقة وهو معاصر لهذه الاحداث بحنا بحري بأنه كان (على جانب عظيم من أصالة الرأي ، وله القدح المعلى في السياسة المدنية ، وكان العدل والإنصاف شأنه والنزاهة زمامه ، لا فرق عنده بين القوي الثرى والضعيف الفقير أو المسلم والذمى و كان يعامل الجميع بالقسط وكانت هذه وصية محمد علي باشا له) . ( من كتاب مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان).
 
وعين ابراهيم باشا حاكما لإدارة كل مدينة وألف لكل مدينة مجلسا يسمى ( ديوان المشورة ) يتراوح عدد أعضائه بين 12 و21 عضوا ينتخبون من بين أعيان البلد وتجارها لإدارة شئون المدينة والفصل في المظالم.
كما وحد ابراهيم باشا سلطة الحكومة المركزية وأبطل سلطة الأمراء والرؤساء الإقطاعيين وضرب على أيدي الأشقياء وقطاع الطرق وبسط رواق الأمن في البلاد ، ونظم طرق الجباية ،  وتعامل مع الأهلين بالعدل والمساواة .
وازدهرت التجارة والزراعة في العهد المصري، فعمم ابراهيم باشا تربية دود القز (الحرير) وأكثر من غرس اشجار التوت لهذا الغرض ، وغرز في ضواحي أنطاكيا أشجار الزيتون وهي مما يتناسب مع المناخ السوري ، وازدهرت زراعة العنب ، وعني باستخراج بعض المعادن خاصة الفحم الحجري في لبنان ، وتوسع النشاط التجاري خاصة بين سورية و البلاد الأوروبية ، ولكن ظل دخل الولايات السورية أقل من نفقات الدولة ، فكانت الخزانة المصرية تسد العجز . ولنتذكر أن محمد علي كان يطمع في أن تكون سوريا مصدرا للمزيد من الدخل للدولة المصرية ، ولعل هذا ما سيدفعه لاتخاذ قرارات خاطئة فيما بعد بزياده الضرائب . ويرى عموم المؤرخين خاصة السوريين أن الادارة المصرية في سوريا رغم ما بها من عيوب أصلح من الحكم التركي السابق خاصة في مجال استقرار الأمن .
وعلى سبيل المثال يقول الأستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق في كتابه (خطط الشام) كان من أول أعمال ابراهيم باشا الجليلة في بلاد الشام ترتيب المجالس الملكية والعسكرية وإقامة مجالس الشورى وترتيب الجباية بالمساواة والعدل ، لذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية ، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم حياتهم الطفيلية ، مع أن البلاد رأت في أيام إبراهيم باشا إبطال المصادرات و تقرير حق التملك ، وفرض على لبنان مثلا 6782 كيسا ويدخل في خزانته (أى لبنان) المال الزائد على المفروض ، وهكذا تم استعادة أعمال الشام عمرانها القديم في أكثر القرى ، كما قرب ابراهيم باشا العلماء والشعراء ، ولكنه أشار الي ما سوف نأتي إليه من أخطاء محمد علي بقراراته المركزية برفع الضرائب وتجنيد الشباب مما أدى الى إنقلاب الرأي العام فيما بعد.
وكتب د. اسد رستم أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في أحد المقالات فأشاد بمحمود نامي بك محافظ بيروت في عهد إبراهيم باشا وكان من خريجي البعثات الأجنبية واستمر محافظا لبيروت طوال مدة حكم مصر، وكان أول من أدخل الأفكار الحديثة فيما يتعلق بالحكومة والإدارة ، وأحكم التدبير وأحجم عن الحكم الاستبدادي وشكل مجالس لادارة بيروت من سكانها فكان هناك مجلس شورى بيروت وديوان بالصحة وآخر للتجاره ..الخ ..
ويقول سليمان بك أبو عز الدين أحد أدباء سوريا أن محمد علي سعى إلى تنظيم الأعمال و توزيع الاختصاص بين هيئات مختلفة ، ومنع الاستبداد بتقييد الحكام وغيرهم من الموظفين بنصوص القانون ، وتدريب الأهلين على إداره شئونهم المحلية ، غير أن جهل الحكام كيفية تطبيق القوانين وعاداتهم الاستبدادية وعدم وجود مراقبة فعالة على أعمالهم وعدم مراعاة تقاليد البلاد وعاداتها وكثرة الاضطرابات في البلاد حالت دون بلوغ الغاية التي وضعت القوانين من أجلها ، ولابراهيم باشا في السنين الأولى فضل خاص في ضبط الأحكام وشدة مراقبة الحكام وإجراء العدل بين الأهلين وقد كان شديد الوطأة على الموظفين الذين يحيدون عن السبيل القويم ، فعاقب كثيرا منهم بالطرد والضرب والحبس للاعتداء على أهل البلاد او عدم النزاهة .
فلو استمرت حكومة محمد علي في سوريا ناهجة هذا المنهج القويم لملكت قلوب السوريين) .(كتاب ابراهيم باشا في سوريا) وهو يشير الى إرسال بعض الشبان لدرس الطب في مصر واستخدام بعض السوريين في حكومة مصر المركزية ، كما يشير الى إنشاء محجر صحي في بيروت والاهتمام عموما بالأمور الصحية ، وإنشاء مصارف للمياه الراكدة في دمشق .
ويقول السيد لويس بلان المؤرخ الفرنسي في كتابه (تاريخ عشر سنوات ) إذا أردنا أن نعرف ما أفادته سورية من حكم مصر فما علينا إلا أن نلقي نظرة على سهول أنطاكية التي اكتست بأشجار الزيتون وضواحي بيروت التي كثر فيها الكروم والنشاط الذي انبعث في حلب ودمشق ، لقد نالت سورية النظام والعمران ) .
ويضيف الأستاذ محمد كرد علي بك رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق , ( ومن مآثر الحكومة المصرية تجفيفها المستنقعات ، وتصريف الأقذار في مجاري خاصة ، وتحديد أسعار اللحوم والعدل بين الرعايا على اختلاف الأديان والطبقات ، وعدم إنفاق المواطن لأي مصاريف لتحصيل حقوقه ، و إنفاق كل مال في وجهه المخصص له ، كانت حكومة مصر من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثه أو أربعه قرون ولا حتى في القرون الوسطى أو الحديثة !! ).
وفي تقرير مرفوع من المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق الى سفير دولته في الآستانة عام 1858 جاء ( خلال حكم مصر عاد  كثير من الناس الي سكنى المدن و القرى المهجورة ، والى حراثة الأراضي المهملة خاصة في حوران وحمص والجهات الواقعة على حدود البادية ، وفي هذه الأماكن أكره ( الأعراب- البدو) على احترام سلطة الحكومة والتوقف عن الاعتداء على الأهالي.
وتحت ادارة شريف باشا ( وكان قد رقى من بك الي باشا) تحسنت الادارة فتضاعف نجاح الاهلين وحسنت المالية في هذه النواحي ، وتم توطيد الامن ، وقدعدت الحكومة ظالمة لكنها في الحقيقة لم تكن تستطيع غير ذلك ، إذ كان عليها أن تصلح عدة أمور مختلفة وأن تبدل الفوضى والتعصب و القلاقل التي كانت سائدة بالعدل).
ونواصل مع تقرير هو شهادة من أعداء محمد علي حيث جاء: ( أصحاب المقامات العالية والافندية والأغوات(رؤساء الجند ) امتعضوا كثيرا من ذلك لأنهم كانوا يثرون من ابتزاز أصحاب التجارة والحرف وسائر الطبقات العاملة ، وقد سر هؤلاء لخلاصهم من الظلم التركي الذي أنوا تحت عبئه طويلا ، و اغتبط المسيحيون خاصة وفرحوا لخلاصهم من التعصب الذي أوصلهم إلى درجة من الذل لا تطاق ، ولم يكن الفلاحون أقل سرورا منهم لأنه وإن كانت الضرائب المقررة تستوفي بكل شدة فلم يكن يستوفي منهم بارة زيادة، ولا تضبط حاصلاتهم وغلالهم ولا يؤخذ منهم شيء دون دفع ثمنه ، ولم يجبروا على تقديم خدمة دون بدل ، والفلاحون الذين قطنوا القرى المهجورة أسلفوا مالا لإصلاح بيوتهم وتموينها ، وأعفوا من الضرائب مدة ثلاث سنين ، وكم من مرة ذهبت الجنود بأمر ابراهيم باشا لمقاومة الجراد ، ولم يكد المصريون يطردون من البلاد حتى عاد القوم الى نبذ الطاعة ، وخلفت الرشوة في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد ، ومنيت المداخيل بالنقص ، واستأنف عرب البادية غاراتهم على السكان ‘・فخلت القرى والمزارع المأهولة جديدا بالتدريج وعادت الفوضى) .
 
أخطاء محمد علي ساعدت على إنهاء الحكم المصري:

دروس أخطاء سياسات محمد علي تجاه الشام بالغة الأهمية وذلك من أجل المستقبل فإذا كانت طموحاتنا ستظل مصرة على توحيد العرب ثم المسلمين فلابد للنخبة الحاكمة والمثقفة أن تدرك الفروق الجوهرية فى خصائص و سمات شخصيات الشعوب ، فأهل الشام يختلفون عن أهل مصر جوهريا في عدة أمور حتى وإن كانوا على دين واحد ، كذلك يمكن اكتشاف العديد من أوجه التميز بين شخصيات الشعب الليبي أو التونسي أو الجزائري او المغربي او السوداني . إن سفرى وتجوالى في هذه البلدان (زرت كل البلاد العربية وبعضها أكثر من مرة عدا موريتانيا و جيبوتي و جزر القمر والصومال أما سلطنة عمان فزرتها عبر مطارها فحسب لعدة ساعات كترانزيت وإن لم يخلو الأمر من بعض الانطباعات) لقد تجولت فى هذه البلدان العربية إلى مستوى زيارة العديد من الأقاليم والمدن وليس مجرد زيارة للعاصمة والاعتصام بالفنادق ! , ورغم ان معلوماتى الأساسية من القراءة ولكن هذه الانطباعات في الزيارات السريعة المتكررة لا تخلو من أهمية ومغزى على الأقل في تجسيد ما قرأته بالاضافة لاكتشاف بعض الملامح الرفيعة المهمة . إذا لم تدرك النخب الحاكمة والمثقفة هذه الفروق و التمايزات ، فأبشروا مقدما بفشل أي محاولات وحدوية . بالنسبة لسوريا (الشام) وتاريخيا يطلق اسم سوريا على نفس نطاق الشام أي هذه الدول الأربعة الحالية : سوريا – لبنان – الأردن- فلسطين ، بالنسبة لسوريا (الشام) فهي أقرب البلاد لمصر وأكثر بلد عاش مع مصر في دولة واحدة عبر التاريخ مع شرق ليبيا (برقة) وشمال السودان ، ومع ذلك فإن إدراك حكامنا ونخبتنا للفروق الجوهرية بين الشعبين المصري والسوري (وطبعا الليبي والسوداني) إدراك محدود ينذر بالخطر حتى على مجرد التعاون المشترك وليس الوحدة.
يبدو أن أفضل مرحلة كانت فيها النخبة الحاكمة المصرية مدركة لخصائص وطبيعة بلاد الشام كانت هى المرحلة القديمة . أما الآن فإننا لا نجيد إلا الحديث الأجوف عن العروبة والأشقاء و الكلام الذي لا يقدم ولا يؤخر بل إن نزعة القومية العربية او النزعة الإسلامية تجعل القوميين والاسلاميين لا يرحبون بمثل هذه النظرات و يركزون على المبادئ العامة: كلنا عرب .. كلنا مسلمون ! عظيم لا بأس ولكن هذا الكلام وحده كما يقول الحديث الدارج ( لا يؤكل خبزا) .
 
ستجدني دائما في أشد المعسكرات حماسة للعروبة والاسلام والوحدة والموت دون ذلك ، ولكن بدون إعمال العقل فلن نحقق تقدما حقيقيا تجاه هذه الأهداف العظيمة .
يبدو أن مصر القديمة ، وأتعمد عدم استخدام (الفرعونية) لأنها على ما يبدو مصطلحا خاطئا ، فدراسات علمية عديدة تشير الآن الى أن الفرعون لم يكن هو اللقب الدائم لكل حاكم مصرى ، وإن فرعون موسى الوارد ذكره في القرآن ، بل هو ثاني شخصية في القرآن الكريم بعد سيدنا موسى من حيث عدد مرات تكرار اسمه ، فسيدنا موسى هو الأول حيث ورد اسمه ( 138 مرة تقريبا ) أما فرعون فورد اسمه 74 مرة !! هذا الفرعون قد يكون هذا هو اسمه او اللقب الذي استخدمه لنفسه ولم يثبت فى الآثار المصرية وجود هذا اللقب مع أى حاكم آخر . كذك لا أستخدم (الفرعونية) لانها تشير لعبادة الحكام والأوثان ، رغم علمنا اليقيني بأن مصر علمت الرسل والأنبياء والرسالات السماوية ، ولكن دراستنا التاريخية والآثار الحجرية و أوراق البردي يغلب عليها هذا التوجه الوثنى او الشركى ، بل لدينا بنص القرآن الكريم حاكم مسلم نبي هو سيدنا يوسف سواء استمر كعزيز مصر له سلطات واسعة أما انه تولى الحكم نهائيا ، لأن الملك اختفى من سورة يوسف بمجرد إعطائه كل الصلاحيات ليوسف (إنك اليوم لدينا مكين أمين) 54 يوسف
وهذا ما يهمنا الآن أن يوسف كان هو الحاكم الفعلي ،وأشرنا من قبل إلى سيدنا إدريس وما وصلنا من روايات عن ارتباطه بمصر ، وكذلك احتمال مجيء سيدنا أيوب من الشام الى العريش ، ولكننا نعرف يقينا من القرآن موسى وهارون .
ان عدم بقاء أي كتب سماوية هي حكمة إلهية ، فكما حفظ الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم باعتباره النسخة الأخيرة المهيمنة على كل ما سبق من كتب كان لابد – كما أتصور وكله في علم الله – أن تختفى النسخ الاصلية الحقيقية لكل الكتب السابقة حتى لا يؤدي وجودها الى أي نوع من التشويش او الإرباك خاصة وقد تم نسخ و تحوير عدد من الشرائع والاحكام ، وهكذا فإن تاريخ مصر مظلوم لانه لا يوجد فيه الا الآثار القديمة وهي لا يمكن أن تصنف دائما بالوثنية ، ولكننا تركنا هذا التراث الثمين في أيدي اليهود والنصارى الغربيين ، وأرى اننا نحتاج لعمل تاريخى أثارى لاكتشاف الوجه الروحي والتوحيدى الحقيقي لمصر . ولكل ما سبق لا استخدام وصف (الفرعونية) الذي يردده إعلامنا حتى الآن حتى في مجال كرة القدم.
كان لابد من هذا التوضيح لأن القارئ سيلاحظ اننى استخدم دائما تعبير (المصريين القدماء او مصر القديمة) ولا استخدم تعبير (الفرعونية) خاصة انه ثبت أنه غير حقيقي.
بالمناسبه والشيء بالشيء يذكر -يرد في تفاسير القرآن عن قوم( تبع ) من ان (تبع) هو لقب ملوك اليمن ، أيضا كل الكشوف الأثرية لم تثبت ذلك أبدا و احتمال كبير أن يكون (تبع) هو اسم حاكم محدد !!
 
أنا لا أخرج عن الموضوع لأن جهلنا بأبسط حقائق تاريخنا لا يبشر بالخير ، و حالة السطحية والجهالة المنتشرة هي أقصر الطرق الى استمرار ما نحن فيه من فشل ذريع ، بل تنذر بالمزيد من الانحدار.
قلت ذلك لأنني اريد الحديث عن المصريين القدماء وعلاقتهم بالشام . ويبدو في حدود ما لدينا من معلومات أن حكام مصر القديمة كانوا هم الأكثر رشدا في التعامل مع بلاد الشام وأهلها ، والدليل الأبرز هو استمرار حكم مصر للشام عدة قرون متقطعة ، والاستمرار يعني النجاح ، والنجاح يعني أنك تسير على الطريق الصحيح.
فعندما أسست مصر أول امبراطورية في التاريخ كانت الشام نواتها الأساسية وقد استمرت هذه المرحلة نحو الف سنة متقطعة حتى نهاية الدولة الوسطى او الحديثة ، وكما ذكرنا من قبل فان الحد الأدنى لحدود مصر الشمالية كان لايقل فى أغلب الأحيان عن جنوب الشام ( فلسطين) بالاضافه لخط ساحلى على البحر المتوسط يتجاوز فلسطين الى لبنان حيث تبرهن الآثار عن علاقات وثيقة بين المصريين والفينيقيين وكان خشب شجر الأرز مصدرا مهما لبناء السفن المصرية . كذلك شهد القرن السابع قبل الميلاد في عهد نخاو تعاون وثيق بين مصر ولبنان لتنفيذ مشروع الدوران حول أفريقيا بحرا وهو ما تحقق بالفعل ، ومع ذلك يدعون الآن ونردد معهم كالببغاوات في كتبنا الدراسية ان فاسكو دي جاما البرتغالي هو مكتشف رأس الرجاء الصالح ،رغم أن المصريين القدماء رسموا خريطة أفريقيا كاملة خلال هذه المرحلة ، وقد اعتمد المصريون على الملاحين الفينيقيين.
اطلعت يوما على وثيقة لطيفة للغاية من وثائق وزارة الخارجية في العهد المصري القديم وقد كانت ترسل سفراء دائمين أو مبعوثين مؤقتين لبلدان الشام ، وكان السفير لإحدى هذه البلدان لابد أن يمر باختبارات خاصة (امتحانات) قبل الموافقة على ارساله ، وكان من الأسئلة التي يجب ان يجيب عليها : اين يقع نهر” النتن” فإذا لم يعرف الإجابة الصحيحة لا يرسل . ونهر النتن هو الذي يسمى الآن “نهر الليطاني” في جنوب لبنان وطبعا هناك اسئلةأخرى ، وهذا يكشف مستوى الدقة والكفاءة والوعى لعمل وزارة الخارجية المصرية القديمة . هذا يكشف إدراكهم لضرورة معرفة الدبلوماسي كافة التفاصيل والدقائق المهمة للبلد المبعوث إليه ، كذلك تكشف الآثار والبرديات ان الطبقه العليا في بلاد الشام كانت ترسل ابناءها للتعليم في مصر ، في معابدها التي كانت أشبه بالجامعات ، بل تم تأسيس جامعة عين شمس وكانت أشهر جامعة في العالم وأتى إليها الكثير من علماء ومثقفي اليونان.
وتكشف لوحات مرسومة في المعابد المصرية صورا تسجيلية لزيارات وفود أهل الشمال (الشام) إلى حكام مصر وتقديمهم الهدايا لهم ، كما انتشرت العقائد المصرية في بلاد الشام وبعض بقاع اليونان.
و يبدو ان مصر كانت تتصرف كدولة عظمي متقدمة ، وينعكس ذلك على أسلوبها الراقي في الحكم والعلاقات مع أهل الشام ، وكانت هذه هي الألفية المصرية السعيدة التي ربما لم تتكرر صورها كثيرا فيما بعد .
ولا نملك الآن أن نواصل مسار العلاقات المصرية – الشامية عبر التاريخ ، ولكن لضيق المجال ننتقل إلى الوحدة المصرية السورية في عهد عبد الناصر (1958- 1961). من الملمح المهم الذي يهمنا مع حكم مصر لسوريا في عهد محمد علي ، الملمح المشترك مع تجربة الوحدة فى عهد عبد الناصر و الذي أدى إلى الإسراع بانهيار التجربة بعد 9 سنوات ثم بعد 3 سنوات ، عدم إدراك الحاكمين الفروق الجوهرية بين طبيعة الشعب المصري ومصر وطبيعة الشام وشعبها . فعبد الناصر تصرف برعونة مع قلة المعلومات وغياب الحد الأدنى لفهم أوضاع سوريا ، فتصور أنه طالما أن الشعب السوري وقائده شكري القوتلي طالباه بالوحدة ، وطالما استقبل استقبالا شعبيا رهيبا في الشام حتى أن الجماهير حملت سيارته ، تصور أنه يمكن أن يصدر القرارات ويعممها بين مصر وسوريا طالما قد أصبحت هناك وحدة اندماجية ، وهو الرئيس للبلدين . واعتمد في الاداره الداخلية على المشير عبد الحكيم عامر بكل مساوئه وعيوبه ، فإذا كان الجيش المصرى يتحمل المشير عامر الذي تمت ترقيته عام 1954 من رائد الى لواء فلأن هذه هي مصر ، التي يبلع شعبها الزلط ، حتى قال محمود شاكر وهو يتحدث بضمير معاوية بن أبي سفيان (مصر يمكن أن يسيطر عليها سيطرة تامة أى انسان يحمل لقب الحاكم أو الأمير) أما أهل الشام ( فلا يمكن أن يحكمواإلا بالدهاء وبإرضاء مطالبهم ) ( التاريخ الاسلامي – محمود شاكر – المكتب الاسلامي – الطبعة السادسة 1991- بيروت – دمشق -عمان -الجزء الرابع – العهد الاموي) . أما المشير عبد الحكيم عامرفقد أثار غضب وسخط ضباط الجيش السوري بأسلوبه وعجرفته وتصوره أنه يمكن أن يدير الجيش السوري وأوضاع سوريا كما يفعل في مصر.
كذلك أخطأ جمال عبد الناصر عندما أصدر قرارات يوليو الاشتراكية (التأميمات) وظن أنه يمكن أن يطبقها في مصر وسوريا على السواء . في مصر لم ينبس أحد ببنت شفة ، أما في سوريا بلد التجارة الحرة والبيزنس الخاص فهي تعشق القطاع الخاص ولا تقبل هذه الأمور (التأميمات) بسهولة.
ثالثا فإن عبد الناصر ألغي الحريات السياسية بجرة قلم في سوريا وكأنه في مصر وكانت سوريا تعيش منذ الاستقلال في 1945 حريات حزبية وصحافية رغم تعاقب الانقلابات العسكرية غير المستقرة .
هذه لقطة سريعة لابد أن نتذكرها عندما نطلع على قرارات محمد علي الغاشمة التي أصدرها وهو جالس في الاسكندرية يستمتع بهوائها العليل لتطبق في سوريا كما طبقت فى مصر ، وذلك في أواخر 1833 وأوائل 1834 أى والحكم المصري لايزال في بداياته:
1- احتكار الحرير في البلاد السورية .
2- أخذ ضريبة الرؤوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم .
3- تجنيد إجباري للأهالى .
4- نزع السلاح من أيديهم .
وقبل أن نناقش تأثير وتفاعل هذه القرارات ، نذكر بما ورد فى هذه الدراسة خلال تناول دور نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي في الانتصار على الصليبيين ، وخلال تحليلنا لمعركة حطين ، ولماذا كانت مصر هي قاعدة صلاح الدين في معركة التحرير في بلاد الشام ، وقلنا إن بلاد الشام مفتتة تاريخيا ، وتعيش دوما معارك مستمرة بين المدن والامارات والأمراء في صراع للنفوذ لا يهتم بوجود الخطر الصليبي أو التتارى بل بعضهم تعاون مع الصليبيين والتتار فعلا في سبيل البقاء فى السلطة أو توسيع النفوذ . – المقصود دراسة المستطيل القرآنى الكاملة حيث أن هذه الدراسة عن محمد على مقتطعة منها .
ومن الطريف أن نضيف أن اسم “الشام” مشتق من انتشار الأراضي الزراعية والواحية تفصل بينها رمال الصحراء كالشامات على الوجه. ( شخصية مصر- د.جمال حمدان – الجزء الأول – دار الهلال) في حين أن مصر قطعة زراعية واحدة متمحورة حول النيل بدون انقطاع ، وهو ما أدى الى نشوء خصائص الشخصية المصرية ، من حيث التوحد والتجانس والخضوع للحاكم الذي يضبط ماء النهر (للرى) ويضبط تقسيم الأراضي . ومن المهم أن نضيف أن سوريا تنطوى على فسيفساء ديني وطائفي ومذهبي وأن المسيحيين في سوريا الحالية 10 – 12 % من السكان ( مقابل 6.6%في مصر) بالاضافة للدروز والعلويين والاسماعيلية وتمركز معظم هؤلاء في الجبال الوعرة والحصينة .
والآن كيف تفاعلت قرارات محمد علي التي وضعت المسمار الأول في نعش الوحدة !؟

<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<

                                               - 26 -

الجيش العثماني يتمرد وينضم بكامله لمصر

هزيمة ساحقة جديدة للعثمانيين أمام ابراهيم باشا في نصيبين
أخطاء محمد علي في حكم سوريا عجلت بهزيمته
معاهدة عثمانية- بريطانية-فرنسية لتقويض الصناعة في مصر

 
 
كما ذكرنا في أواخر سنة 1833 وأوائل 1834 أصدر محمد علي باشا الأوامر التالية
 
(1)احتكار الحرير في سوريا (2)أخذ ضريبة الرؤوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم. (3)تجنيد الأهالي. (4)نزع السلاح من أيديهم
 
وقد أدت هذه الأوامر إلى تذمرالأهالي ، فانتاج وتجارة الحرير مجال أساسي لنشاطهم، وكذلك ضريبة الرؤوس تعتبر جديدة بالنسبة للمسلمين، بالإضافة لظهور سياسة تسخير الحكومة للأهالي في الأعمال العامة ، أما التجنيد الاجباري ونزع السلاح فكان أهم الأسباب المباشرة التي أفضت الى الثورة ،  وعلى خلاف الوضع في مصر فإن معظم الأهالي في سوريا يحملون السلاح وأعتادوا ذلك لدفع سطوات البدو الرحل .
 
كذلك لم تكن الثورات التي اندلعت وهي ثورات مسلحة بعيدة عن الدسائس التركية والانجليزية ، فقد تشكل تحالف صريح بين الدولة العثمانية والانجليز بهدف السعي لطرد الوجود المصري من سوريا و إنهاء مشروع محمد علي لاقامة دولة عظمى اقليمية ،  ووصل الأمر الى حد تعاون الدولتين لتوصيل الأسلحة والمال لرؤساء العشائر والعصبيات الإقطاعية التي أضيرت من الحكم المصرى الذي أفقدها نفوذها السياسي والاقتصادي . وهذا ما أكده المؤرخ السوري د.مشتاقة والذي كان معاصرا للأحداث  ( كتاب مشهد العيان
 
وبدأت الثورة في فلسطين ، ومن المثير للعجب أن د. راغب السرجاني في إطار سلسلة محاضرات عن الجهاد الفلسطيني يعتبر أن المقاومة المسلحة للنظام المصري من ضمن صفحات الجهاد الفلسطيني في إطار ما يتناقله بعض الكتاب الإسلاميين عن ان محمد علي كان ماسونيا و عميلا للانجليز وقائدا لعملية التغريب ، رغم أن ما ذكرناه وسنذكره ينفي هذه الاتهامات وهي حقائق لا خلاف حولها ، كما أن هؤلاء الاسلاميين لا يتعرضون اطلاقا للحالة المتدهورة للدولة العثمانية داخليا ولا لتحالفها الرسمي والصريح مع الروس تارة والإنجليز تارة اخرى، بل ويتهم السرجاني محمد علي انه هو الذي فتح الطريق للعلاقات مع الغرب لأنه وافق على فتح قنصليات أوروبية في فلسطين بينما كانت بهدف تنشيط التجارة بين سوريا و أوروبا ،  ويتغافلون عن التحالف العسكري العثمانى مع روسيا الذي وصل الى حد إنزال قوات روسيا على أرض تركيا ، والتحالف العسكري العثماني الانجليزي المباشر ضد الحكم المصري في سوريا .
 
ورغم أننا سجلنا إعتراضنا على قرارات محمد علي التي أثارت السوريين فذلك لعدم ملاءمتها للواقع السوري (التجنيد – نزع السلاح ) أو على الأقل كانت تحتاج لتمهيد طويل ولكن ليس لانها خطأ من حيث المبدأ . فالتجنيد الاجباري سياسة سليمة ولو استمرت في فلسطين ما احتلها الانجليز ثم اليهود بكل هذه السهولة التي حدثت ، فالأصل هو تدريب الشباب وإعداده للقتال في الدولة الإسلامية .  كذلك فإن نزع السلاح ليس خطأ من حيث المبدأ طالما أن الدولة تنظم الجهاد والحفاظ على الأمن ، ولكنها مسألة ملائمة وتوقيت وتمهيد كما أن هذا الأمر غير عاجل خاصة وأن الظروف ساعتها كانت مستقرة .  كذلك لم يدرك محمد علي أن قرار احتكار الحرير ليس سهلا في بلاد مثل سوريا  ، وإن ما اتخذه من قرارات احتكار في مصر لا يسهل قبوله في سوريا.  بل ان الشعب المصري قاوم بأساليب سلبية وأحيانا في انتفاضات بالمنوفية وأقصى الصعيد سياسة التجنيد ولكن تم السيطرة على ذلك وتجاوزه في مصر،  و لكن الأمر ليس بهذه السهولة في سوريا ، بين شعب يتحالف مع الجبل ويحمل السلاح .  اما بالنسبة لضريبة الرءوس فهي أمر سخيف تماما ولعل ذلك يرجع الى ما أشرنا اليه آنفا من أن ميزانية سورية كانت بالعجز وأن الحكومة المصرية كانت تسدد هذا العجز في وقت كان يأمل محمد علي ان تكون سوريا موردا اقتصاديا يدعم الدولة المصرية ،  ولكن ذلك لا يبرر حل المشكلة بصورة حمقاء وغير عادلة .
 
ابتدأت الثورة حول نهر الأردن بالقرب من بيت المقدس في ابريل 1834 ،  وأعلنت  القبائل عدم التزامها بتلك الأوامر . وعندما توجه إبراهيم باشا من يافا – حيث كان- إلى بيت المقدس بقوات جيشه أجرى مباحثات مع كبار القوم الذين أكدوا أن معارضتهم تنصب على نزع السلاح والتجنيد ،  وتركهم ابراهيم باشا للتفكير والتشاور دون أي تراجع من جانبه ، ولكن العصيان تزايد بعد أن ذاع بين الأهالي أن تركيا تستعد للهجوم العسكري لاسترجاع الشام من محمد علي وامتدت الثورة الى بدو البحر الميت ثم نابلس .  وكان زعيم العصيان هو حاكم نابلس وهو من رؤساء العشائر ذوى العصبيات القوية وهو قاسم الأحمد ، وكذلك أبوغوش صاحب قرية العنب الواقعة بين بيت المقدس ويافا ، وهما من الاقطاعيين الذين أضيرا من الحكم المصري الذي بدأ بفرض القانون على الجميع وألغي سلطاتهم السياسية ، وبدأ العصاة يهاجمون مخافر الجيش المصري بالسلاح و يقتلون الجنود المصريين الذين لم يبدأوا أصلا بأي أعمال عدائية . وقام العصاة بنهب حوانيت مدينة القدس!  ولكن تمكن إبراهيم باشا من إخماد التمرد المسلح في عموم فلسطين في يوليو 1834 ولكن بخسائر كبيرة للجيش المصري حيث اانه كان يواجه حرب عصابات.
 
ولكن الثورة امتدت بعد ذلك الى دمشق في شكل تذمر وهروب للجبال ثم وقعت إضطرابات مسلحة ضد الحامية المصرية في طرابلس وكذلك الأمر بدرجة أقل في حلب وأنطاكية وبعلبك وبيروت .  ولكن أهم ثورة بعد فلسطين كانت ثوره النصيرية في اكتوبر 1834 حول اللاذقية وهم العلويون ولكن نجح ابراهيم باشا في اخمادها . وأصر ابراهيم باشا – وفقا لتعليمات محمد علي – على الاستمرار في تنفيذ أوامر التجنيد ونزع السلاح مما أدى الى زيادة حركة الفرار للبادية مما أضر بالحالة الاقتصادية ضررا بليغا. 
 
ثم كانت ثورة الدروز (لاحظ ان كل طائفة تثور وحدها في تتابع) في حوران في نوفمبر 1837 وكانت أقوى من كل الثورات السابقة واستمرت 9 شهور ، وتمكن الجيش المصري من اخمادها بعد خسائر كبيرة في صفوفه ، فقد خسر الجيش المصري في هذه التمردات أكثر بكثير من ما خسر في الحرب على تركيا !! 
 
رأي عبد الرحمن الرافعي
 
ويؤكد عبد الرحمن الرافعي ما سبق وقلناه فيقول:( كان في إمكان مصر أن تتفادى هذه التضحيات الاليمة ،  والخسائر الفادحة لو لم يتشدد محمد علي باشا في تجنيد السوريين ونزع أسلحتهم ، اذ لم يكن من الحكمة ولا من حسن السياسة أن تبادر دولة فاتحة الى تجنيد الأهالي في بلاد حديثة عهد بفتحها ولما يستقر بعد حكمها فيها ،  وخاصة اذا كان أهلها قد اعتادوا من قديم الزمن حمل أسلحتهم ولم يألفوا نظام التجنيد الاجباري ،  ولوأن محمد علي جرى علي الهوينا في كلا الأمرين ،  وترك للزمن تحقيقهما تدريجيا لما استهدف الجيش المصري لهذه الثورات التي أودت بحياة عشرة آلاف مقاتل ونيف هذا فضلا عن أن إخماد الثورات بالقوة قد أوغر صدور السوريين على الحكم المصري ، فبعد أن استقبلوه في بدء الفتح بقبول حسن وفضلوه على الحكم التركي جنحوا بعد ذلك الى قديمهم ولقيت الدعاية التركية بينهم مرعى ومأوى ) .
 
بعد ذلك منعت الحكومة المصرية – تحرزا من تدفق الأسلحة – دخول السفن التركية الى الثغور السورية ،  ومنعت أيضا دخول القوافل التجارية من جهات الأناضول،  فأضر ذلك بالتجارة ضررا كبيرا . 
 
تركيا تستعد للحرب السورية الثانية
 
كما ذكرنا لم يكن صلح كوتاهية إلا نوعا من وقف النار الاجباري من جانب تركيا لأن جيشها قد تم تبديد شمله ،  وقلنا إنها أضمرت الإعداد والاستعداد لحرب جديدة لطرد الجيش المصري من سوريا وتقويض حكم محمد علي كله إن أمكن . ولذلك قلنا ان إبراهيم باشا كان  أبعد نظرا من والده حين رأى ضرورة ” طرق الحديد وهو ساخن” وحسم الأمر في الأستانة بدخولها والاطاحة بمحمود الثاني وتعيين ابنه عبد المجيد سلطانا جديدا ، فقد رأى أن الآستانة لن تترك مصر بعد كل ما قامت به ، وأنها ستحارب من جديد أو تستعين بقوات أجنبية ،  وكذلك عندما رأى ضرورة أخذ الاوروبيين على حين غرة وحسم الصراع ،  والا فإنهم لن يكفوا أبدا وفي كل الاحوال عن الائتمار بالأمة الإسلامية. 
 
وبالفعل ومنذ 1834 أخذت تركيا في إعداد جيش جديد للزحف على سورية في الوقت المناسب ، وعهدت بقيادته الى رشيد باشا قائد الجيش العثماني الذي أسر في موقعة قونية (وهذا أمر غريب وقرار غير صائب فالقائد المأسور لا يصلح عادة  لقيادة الجيش من جديد ) ولكنه توفي في 1836 وخلفه محمد حافظ باشا أحد أشهر قواد تركيا ، ولكن غزو سوريا تأخر لأن تركيا كانت تدرك تفوق الجيش المصري واحتياجها للمزيد من الأعداد ، ولكنها لم تضع الوقت حيث لم تتوقف عن دسائسها بالاتصال بالقيادات الإقطاعية وتحريضهم للتمرد على الحكم المصري و امدادهم بالمال والسلاح.
 
محاولات محمد علي لاعلان الاستقلال
 
أدى تفاقم الأوضاع في الشام وتآمر الدولة العثمانية الذي أصبح علنيا وواضحا،  أدى إلى توجه محمد علي إلى محاولة لاعلان الاستقلال الصريح والتام لحكمه عن الدولة العثمانية ،  فاستدعى في عام 1838 قناصل الدول ، وأعلن عزمه على الاستقلال أسوة ببلاد اليونان ، ولكن الدول الأوروبية كلها وعلى رأسها فرنسا نفسها (التي طالما لعبت دور الصديق لمحمد على ولكنها عند احتدام الأزمات كانت تقف دائما مع الأوروبيين )    كل الدول الاوروبية وقفت في وجه محمد علي وحذرته من مغبة الاقدام على هذا العمل . وكانت انجلترا صاحبة المشروع التوسعي في الشرق الاوسط أكثر هذه الدول تحذيرا لمحمد علي ، وكانت قد بدأت تترجم مشروعها التوسعي الى أفعال فأقدمت على احتلال عدن في ذلك العام ، وعدن هي مفتاح باب المندب (أي مفتاح البحر الأحمر) وهي كجزء من اليمن تقع ضمن ولاية محمد علي،  كما قامت انجلترا بإجبار أمير البحرين على إلغاء التحالف مع محمد علي و منع المصريين من دخولها.
 
كان الموقف الأوروبي وعلى رأسه الموقف الانجليزي واضحا ، الدفاع المستميت عن الوضع الرسمي للدولة العثمانية (في البلاد الاسلامية طبعا وليس في اليونان مثلا !!) مع استبقائها في غرفة الانعاش حتى يتم تقسيم تركة ممتلكاتها بعد موت “الرجل المريض” وهو الأمر الذي سينتهي في آخر الأمر بحصول انجلترا على نصيب الأسد ،  و حصول فرنسا على النصيب الثاني ثم ترك بعض الفتات لايطاليا ( ليبيا) وأسبانيا ( أجزاء من المغرب) مع خروج روسيا الأضعف (بلا حمص) وقد ظلت دائما خارج التحالف الاوروبي الأساسي.  أما بروسيا فظلت خارج القسمة لضعفها وهي لم تتمكن من توحيد ألمانيا الا في عام 1870 على يد بسمارك.  أما إمبراطورية النمسا والمجر فقد تلاشت واختفت من الخريطة وتحولت الى مجرد دولتين صغيرتين بلا حول أو طول . 
 
وسيظل هذا القانون يحكم العلاقة بين أوروبا و محمد علي والدولة العثمانية :
 
1-أى الحفاظ على الدولة العثمانية بحالتها السيئة ( بعبلها كما نقول في اللغة الدارجة )
 
2-عدم السماح بتجديد دمها او قيام دولة فتية (دولة مصر)  بوراثتها ووراثة دورها حتى يتم القضاء عليها نهائيا وهو ما حدث في مطلع القرن العشرين ومع نهاية الحرب .العالمية الأولى
 
3-  القضاء على القوة الصاعدة المصرية التي تهدد على الأقل بالسيطرة على الشرق الاوسط ، أهم بقعة في العالم . 
 
المعاهدة التجارية بين انجلترا والدولة العثمانية :
 
تناولنا خلال الحديث عن الصناعة في عهد محمد على الحرب التجارية التي نشأت بين مصر وأوروبا عموما و بين مصر وانجلترا خصوصا باعتبارها هي زعيمة الثورة الصناعية.  كانت مصر تشكل تهديدا خطيرا لانجلترا و باقي دول أوروبا إذ بدأت تبرع في بعض الصناعات خاصة النسيج وكانت هى الصناعة الأهم في إنجلترا .  وبدأت منافسة حقيقية بين الصناعات المصرية من ناحية و الصناعات الانجليزية والاوروبية من ناحية أخرى، ووصل الأمر إلى حد إختراق المصنوعات المصرية للاسواق الأوروبية، وظهور حرب الحماية الجمركية بين الطرفين وإلى انكماش الصادرات الأوروبية لمصر ، بل كانت الصناعة المصرية منافسا في أسواق الشرق الأوسط عموما : تركيا – سوريا – اليونان وغيرها.
 
كانت الحرب الاقتصادية تسير بصورة متوازنة مع تصاعد المواجهة العسكرية بل كانت معركة واحدة تستهدف تركيع مصر وضرب نهضتها والقضاء على قوتها العسكرية والحضارية واستقلالها السياسي و المؤسف ان الدولة العثمانية كان طرفا أصيلا في هذه الحرب الاقتصادية – العسكرية حيث أصبح القضاء على النهضة المصرية  هو هدفها الأول مثل أوروبا تماما .
 
وفي هذا الإطار تم إبرام معاهدة تجارية بين انجلترا وتركيا للانتاج التجاري وكان من شروطها إلغاء الاحتكار في جميع أنحاء السلطنة العثمانية وهي تسري على مصر لأنها كانت لا تزال من الناحية القانونية جزءا من السلطنة ،  كما وافقت فرنسا على هذه المعاهدة  وانضمت إليها وكما يطلب صندوق النقد الدولي من الدول المستقلة في القرن العشرين وحتى الآن ،  برنامجا للخصخصة ، ( اي بيع القطاع العام)  اى ضرب القلعة الصناعية الأساسية في البلدان النامية حتى تسقط تماما كسوق مفتوحه للبضائع الأجنبية من أجل تعظيم أرباح القطاع الصناعي الحديث في الغرب ،  فان هذه المعاهدة كانت بداية لتطبيق هذه السياسة الجائرة ، والتي تتعدى على النظم الاقتصادية الداخلية للدول الاخرى ، فلا يكتفون بالاتفاق على تخفيف أو إلغاء الحواجز الجمركية ،  بل يريدون تصفية الصناعة الوطنية بالأساس،  ويريدون تصفية المنافس نفسه بدلا من منافسته في حلبة التبادل التجارى الحر ،  ومهما تكن لدينا ملاحظات انتقادية على أسلوب الاحتكار الصناعي في عهد محمد علي إلا أن جوهره كان صحيحا ،  ففي غياب حركة صناعية خاصة ( برجوازية كما يسمونها في الغرب)  فان الصناعة الوطنية الكبرى لن تقوم الا علي أكتاف الدولة (القطاع العام) .  فطالما أن القوة المالية للاقطاعيين أو التجار لا تتجه لإنشاء صناعة حديثة فلابد للدولة أن تقوم بذلك .  وفي بداية عهد محمد علي لم يكن وعى الاقطاعيين والتجار المماليك ومن تعاون معهم من العثمانيين يمكن أن يصل الى فكرة الصناعة ، فقد أوضحنا أنهم استنزفوا طاقتهم في الصراعات اللصوصية بين بعضهم بعضا ، فبدأ محمد علي باحتكار الزراعة والتجارة ثم الصناعة .  بالتأكيد كان يمكن القيام بذلك بصورة أفضل ،  وبدون احتكار كامل شامل ، وإن كان هذا الاحتكار خف تدريجيا . ومع ذلك وبدون الوقوع فى خطأ هندسة التاريخ (كان يجب فعل كذا  وعدم فعل كذا) فقد كان ما قام به محمد علي في جوهره هو ما نسميه الآن (دور الدولة في التنمية الاقتصادية ) أو( دور القطاع العام ) ولا شك ان النهضة الآسيوية  والأمريكية اللاتينية المعاصرة كان عمادها (دور الدولة الأساسي في الاقتصاد)- في زمن محمد علي كان اعتماد المشروع على دور الفرد وأفكاره (محمد علي نفسه) وغياب أو ضعف المؤسسية هو نقطة الضعف الأساسية التي لم تسمح للمشروع بالاستمرار . وكان محمد علي بذكائه يدرك ضرورة المؤسسية  فأنشأ مجالس الشورى والدواوين ، وفي الصناعة أنشأ ديوان الفبريكات (وزارة صناعة) ولكن لا أتصور أن المؤسسية اخذت مداها وآليتها حتى النهاية ،  ولا شك ان الشخصية الطاغية لمحمد علي كانت هى محور أهم القرارات ،  كما أن المؤسسية ليست عملا فنيا تخصصيا ، ولكنها تقوم أساسا على الرؤى السياسية الشاملة للنخبة السياسية ، والشورى التي تفترض تعدد الأراء وتصارعها قبل اتخاذ القرار ، ولم يكن نظام محمد علي يتسع لكل ذلك . وإذا عدنا للمعاهدة التجارية اللئيمة بين انجلترا والدولة العثمانية ، نرى الدرك الأسفل الذي كانت قد انحطت له الدولة العثمانية ،  فهذه المعاهدة تفتح الطريق للسيادة الاقتصادية الشاملة لانجلترا وفرنسا علي الاقتصاد العثمانى ،  والموافقة عليها تعني أن نوايا التفكير في أي نهضة صناعية لم تكن واردة في أذهان حكام الآستانة ، فهذه المعاهدة تلغي أي حواجز جمركية أمام البضائع الانجليزية والفرنسية .
 
مرة أخرى الجيش المصري يسحق العثمانيين في نصيبين
 
وتأكيدا لما ذكرناه فلم تكن اتفاقية كوتاهية إلا وقف إطلاق نار إجباري من قبل السلطنة العثمانية ، ففي عام 1839 زحف الجيش التركي على بلاد الشام بدون أي مبرر ظاهرى ، فالمسالة واضحة السلطنة تريد طرد النظام المصري من الشام ، ومحاولة الاستمرار لضربه في مصر إن أمكن !
 
وقام ابراهيم باشا كعادته كقائد عسكري متألق بالتصدي للجيش العثماني في نصيبين التي تقع شمال حلب وتعتبر داخل الأراضي السورية ولكن على الحدود مباشرة بين البلدين ، كانت القوات متكافئة من حيث العدد : كان العثمانيون 38 ألف تساعدهم مجموعة من كبار الضباط الألمان. وكان الجيش المصري 40 ألف مقاتل ، ولكن بنفس الفارق النوعى لصالح المصريين تسليحا و تكتيكا وخططا وقدرات فنية باعتراف الضباط الأوروبيين الذين كانوا في معسكر الجيش العثماني حيث شهدوا بأن تحركات الجيش المصري كانت تسير طبقا لخطط الجيوش الأوروبية المدربة علي أرقى فنون القتال العلمية ، وكان الجيش العثماني يتضمن أعدادا كبيرة من الاكراد ضمن أخلاط أخرى .  و انتصر الجيش المصري انتصارا ساحقا ، وبدد شمل الجيش العثماني وهرب حافظ باشا قائد القوات العثمانية وترك أوراقه ومستنداته في خيمة القيادة.
 
وكانت خسائر الترك في معركة نصيبين 4 الاف  قتيل وجريح من بينهم بعض القواد والضباط ، وأسر  15 الف ، واستولى المصريون على 20 ألف بندقية و 74 مدفعا ، وخزانة الجيش بها ست ملايين فرنك ، مقابل خسائر بشرية موازية في صفوف الجيش المصري ( 4 الاف قتيل وجريح ) ، ولكنها كانت أكبر هزيمة للجيش العثماني في مواجهة الجيش المصري ، بل وآخر مواجهة، لأن الانجليز هم الذين سيقاتلون بعد ذلك !!
 
ومات السلطان محمود على فراش الموت قبل أن تصله أنباء هذه الهزيمة ، وتولى الحكم السلطان عبد المجيد وكان عمره 17 عاما !!  بينما واصل إبراهيم باشا تقدمه داخل الأناضول من جديد : بيرة جك – عينتاب – مرعش – أورفه . وأصبح الطريق مفتوحا مرة أخرى إلى الأستانة.
التراجيديا العثمانية وصلت الى ذروة لم تعرف الحروب لها مثيلا إذ تمرد الأسطول العثماني وانضم بكامل قواته الى مصر محمد علي بالإسكندرية !!
 
والقصة تقول إن السلطان عبد المجيد أرسل يستدعي فوزي باشا قائد الأسطول العثماني للآستانة للتشاور ، ولكن لما كان قد عين خسرو باشا (الذي كان واليا في مصر عام 1803) وكان معاديا  لمحمد علي ، صدرا أعظم ( أي رئيس وزراء ) و كان بينه وبين فوزي باشا عداء قديم فظن أن استدعاءه إلي الأستانة لم يكن إلا لعزله أو لقتله ، فقرر أن يلجأ إلي محمد علي خاصة وقد أصبح الرجل الذى يمثل  بعث مجد الدولة العثمانية وتجديد شبابها ، فاقلع من الدردنيل إلي الإسكندرية بقوة مؤلفة من 9 بوارج كبيرة و11 فرقاطة وخمس سفن من نوع الكورفت وعلي ظهرها 16107 من الملاحين وألايان من الجنود  وعددهم 5 ألاف فيصبح المجموع 21,107 . وخرج الأسطول المصري ليستقبل الأسطول العثماني خارج بوغاز الأسكندرية ، ودخلا إلى  الميناء معا وعدد سفنهما خمسين سفينة حربية تقل نحو 30 ألف مقاتل وعليهما 3 آلاف مدفع ، فكان منظر دخول تلك العمارة الضخمة إلي الأسكندرية مهيبا ، وصارت مصر بهذه القوة البحرية المزدوجة أقوي دولة بحرية في البحر المتوسط ، ووصلت مصر بذلك إلي أوج قوتها . وهو أمر ما كان لأوروبا أن تصمت عليه . أضيئت كل المصابيح الحمراء في مختلف العواصم الأوروبية ، وبدأت عملية تشاور مكثفة لمواجهة الأزمة: أزمة اختلال التوازن الأوروبي تجاه وراثة ممتلكات الدولة العثمانية ، حيث تهدد مصر الجميع ، بأن تكون هي الوارث الأكبر لها.     
 
 
موقف محمد علي أصبح واضحا ، فهذه هي المرة الثالثة التي تنهار فيها قدرات الجيش العثماني ويصبح الطريق مفتوحا أمامه لدخول الآستانة ثم يحجم عن ذلك ، لذا أستطيع أن أجزم أن محمد علي كان يستبعد تماما فكرة الاستيلاء علي الدولة العثمانية وإدارتها ، لأسباب نفسية بينه وبين نفسه  ، من أنه رغم كل إنجازاته ليس هو الشخص المؤهل والقادر علي القيام بذلك ، ولأسباب الحسابات الدولية لأنه يدرك أن هذا سيشعل حربا شاملة بينه وبين أوروبا ، وكان كل تفكير محمد علي أن يكتفي بضم سوريا إلي جانب مصر والسودان والجزيرة العربية والحصول علي اعتراف دولي وعثماني به كدولة مستقلة تماما ، أو مستقلة فعليا ولكن مع روابط شكلية مع الدولة العثمانية .
 
ومرة أخري أقول إن هذه الحسابات كانت خاطئة ، وإن موقف إبراهيم باشا كان هو الأصح .. لماذا ؟ 
 
1- لأن الأوروبيين إذا تركوا الأحداث تتطور علي هذا الشكل ، فإن الدولة العثمانية ستظل تذبل ولكن لصالح دولة محمد علي وهي دولة عربية إسلامية قوية وفتية و مستقلة وهى ستقضي علي مطامح الأوروبيين في وراثة الرجل المريض وتقسيم أراضيه وممتلكاته.
 
2- كان علي محمد علي أن يدرك أن أوروبا خاصه إنجلترا لا تتسامح مع قيام دولة مستقلة قوية خاصة في الشرق الأوسط وأنها سواء قضت علي الدولة العثمانية أم لم تقض عليها فهي مرفوضة في حد ذاتها ، بل إن الدولة العثمانية لم تعد عدوا حقيقيا للغرب فهي أضعف من أن تضره، بل هي تستسلم رويدا رويدا لكل مطالب أوروبا الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
 
3- وبالتالي لم يكن هناك مجال للحلول الوسط ، فإما أن يقود محمد علي إعادة بناء دولة إسلامية موحدة  كبديل للدولة العثمانية أو سيتعرض لضرب الإبل من التحالف العثماني -الأوروبي، وهذا ما حدث ولعل محمد علي كان محقا في شئ واحد ، وهو أنه يمكن أن يحتفظ – كخط  دفاعي أخير –  بمصر والسودان كمقر أساسي ووحيد لدولته ، وهذا ما حدث في النهاية، ويبدو ظاهريا أنه ظفر به. ولكن ليس هذا بالنصر الحقيقي ، فمصر محاصرة منزوعة السلاح مضروبة في إمكانياتها الصناعية لا يمكن أن تعيش طويلا حتي كدولة مستقلة ، لأن مصر في حد ذاتها ليست بالموقع الذي يمكن للدولة العظمي أن تفرط فيه إلا مكرهة أو مضطرة.   
 
 
وبعد وفاة محمد علي فى عام 1849 لم تحتج بريطانيا إلا ثلاثين سنة لتحتل مصر ، وتحولها إلي مستعمرة صريحة تحت حكم أحفاد محمد علي .
 
 
لا مجال للحلول الوسط مع هؤلاء القوم المحتالين ، وإن الدخول معهم في مواجهة شاملة هو الذي كان يمكن أن يشعل الروح العربية الإسلامية الحقيقية ، للحفاظ علي الأقل علي دولة للإسلام ترفع رايته علي أراضيها ، مرفوعة الرأس موفورة الكرامة.    ليس لدينا بديل خاصة في المستطيل القرآني \الشرق الأوسط\ مركز العالم ، إما أن نكون نحن سادة أرضنا وقوة عظمي بين العالمين ، وإلا أن نكون عبيدا تحت أقدام الصليبيين واليهود ، لا يوجد خيار ثالث ، والخيار الأول هو الأشرف والأفضل لحياتنا واقتصادنا ، وهو الخيار الذي يتوافق مع الإيمان بالله ، وهذه هي رسالتنا في الحياة ،والمذكرة التي نرفعها لله جل شأنه في الآخرة كي يتقبلنا في الصالحين وأن يدخلنا جنته التي وعدنا وهو لا يخلف الميعاد.
 
لقد أصبح المسلمون حتي عصرنا الراهن ( أوائل القرن الواحد والعشرين) يتصور معظمهم أنهم سيدخلون الجنة ببعض الأعمال هنا وهناك مع النطق بالشهادتين ، ولا أدري ما معني أن تنطق بالشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ثم تركع أمام مطالب اليهود والصليبيين، أي نوع من التوحيد هذا ؟!    بل كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن أراد أن يدخل الإسلام دون أن يلتزم بالجهاد – بعد أن سحب يده من مصافحة المبايعة – ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله هي الجنة .
 
ويتصور البعض أن جائزة الجنة بسيطة وهي ليست كذلك بنصوص القرآن ، فكيف نستحقها لمجرد القيام ببعض الشعائر ، وببعض الأعمال الخفيفة التي لا تعرض للخطر ، أي الدخول للجنة مع السير بجوار الحائط ( أو داخل الحائط كما يبدعون الله في القول ) ، فهؤلاء إما يخدعون الله فهو خادعهم ، أو يخدعون أنفسهم. 
 
أقول ذلك للحاضر والمستقبل، وبعيدا عن هندسة التاريخ ، فان محمد علي بنظام حكمه ورغم كل ما كيلت له من مديح على إنجازاته ، لم يكن مؤهلا للقيام بدور تجديد الدولة الإسلامية ، بل كان يستبعد أصلا الفكرة ( دخول الأستانة) فكيف سينجح فيها إذا أضطر لها.    والأغلب أن خطة إبراهيم باشا كانت ستنجح عسكريا في الدخول للأستانة ، ولكن فرصة إعادة بناء الدولة الإسلامية ربما لم تكن متاحة ، فالأمر يحتاج لمؤسسات ودعاة  وتفجر الشعب التركي بقادة جدد وهو ما لم نر بوادره ، بل كان اعتماد محمد علي – كالدولة العثمانية في فجرها – علي الجيش والعمل العسكري بدون توازن مع الواجبات الأخري التي لا تقل أهمية إن لم تزد. ما حدث إذن قد حدث . ولكن أتحدث عن الحاضر والمستقبل ولا أتحدث عن محمد علي إلا كمجرد دروس مستفادة.
​€・

>

                                  - 27 -

معاهدة لندن (1840) كامب ديفيد الأولى !
 

الاسطول البريطانى يضرب الشام نصرة للعثمانيين
.. ويوزع 30 ألف بندقية على المتمردين  ضد الحكم المصري
الرجل الأبيض الغربى يصر على احتكار قيادة العالم

كانت ذروة الأحداث الدرامية بعد هزيمة العثمانيين الساحقة في نصيبين ، وهى الهزيمة الثالثة أو الرابعة الكبيرة على يد الجيش المصري خلال 9 سنوات ، كانت ذروة الأحداث الدرامية في تمرد الأسطول العثماني برمته على الدولة العثمانية وإبحاره للانضمام الى مصر محمد علي ، وهكذا اختل التوازن البحري بعد البري بين مصر وتركيا ، بل حتى بين مصر وأوروبا !  فكانت انجلترا في ذروة الهياج والغضب لان هذه التطورات تهدد خطتها في المنطقة وفي العالم ، وتخل بما تسميه دائما بـ “التوازن الدولي” فأعادت فتح باب المسألة الشرقية على مصراعيه و جمعت الدول الأوروبية الأساسية : روسيا والنمسا وفرنسا وبروسيا (ألمانيا) وكتبوا مذكرة مشتركة سلموها لتركيا يوم 7 يوليو 1839 أي بعد 32 يوما من معركة نصيبيين وهذا نصها :
اقرأ أيضا:  كيف قيم المؤلف معاهدة كامب ديفيد ؟
{ ان سفراء الدول الموقعين على هذه المذكرة يتشرفون بأن يبلغوا الباب العالي أنهم تلقوا من حكوماتهم هذا الصباح بأن الاتفاق على المسالة الشرقية قائم بينهما ،  ولذلك فهم يطلبون منه أن يوقف اتخاذ أي قرار نهائي دون مساعدتها لما قد يكون لها من الفوائد التي يرونها }
وكان السلطان العثماني أرسل بالفعل مندوبا (عاكف افندي ) للتفاوض مع محمد علي للتوصل الى صياغة سليمة للحل بعد تحرج موقف الآستانة بعد هزيمة نصيبين ، بل لقد تم ارسال هذا المندوب حتى قبل واقعة تمرد الأسطول العثماني وانضمامه لمحمد علي ، فأرادت انجلترا مع الدول الأربعة أن تضع تركيا تحت حمايتها ، وأن تترك لنفسها حق التصرف في الأزمة ، ورحبت تركيا بهذا التدخل حتى تتخلص من تهديدات محمد علي التي أصبحت مذلة لها ، واستنكر محمد علي هذا التدخل ولكنه كان استنكارا بلا أثر ، فقد اقترب الآن موعد الحسم العسكري .
 
كانت السياسة الإنجليزية المعادية لمصر صريحة ومعلنة ، فقد أكدت على وجوب المحافظة على كيان السلطنة العثمانية ، ولا أدري لماذا لم يسأل الإسلاميون المنحازون للدولة العثمانية ضد محمد علي أنفسهم لماذا هذا الإصرار الرهيب من انجلترا للحفاظ على “بيضة الإسلام و دولته العظمى ” من أين أتت انجلترا بهذا الالتزام الاسلامي ؟  لو سألوا أنفسهم لأدركوا كيف أن الدولة العثمانية قد أصبحت “مخوخة” من الداخل ، “شاحبة” في توجهها الاسلامي أو الاستقلالي وأنها لم تعد تخيف أحدا ، المهم أن يتم تفكيكها عبر الأيدي الأوروبية الصليبية ، لا على يد الحكم المصري الاسلامي ، لتوزيع الغنائم بينهم من ناحية ، لضمان عدم وجود دولة قوية مستقلة في الشرق الاوسط . أعلنت انجلترا أن الحفاظ على كيان الدولة العثمانية لا يكون إلا برد سوريا الى تركيا ، وإخضاع محمد علي بالقوة . وكان الهاجس الانجليزي الدائم هو تأمين طريقها الى الهند جوهرة مستعمراتها ، فهي المستعمرة العظيمة الثروات الواسعة المساحة وكأنها شبه قارة ، وكانت سيطرة محمد علي على سورية تزاحمها في السيادة على البحر المتوسط بل تتحول الى رقيب عليها الي الهند ،  فالوجود المصري في سوريا يجعلها دولة بحرية قوية من دول البحر المتوسط ويجعل لها الإشراف على طريق الهند من ناحية الفرات والعراق ، فضلا عن طريق البحر الاحمر وبرزخ السويس الذي تسيطر عليه مصر أصلا . ونحن نتذكر كيف قاتلت انجلترا بشراسة لطرد الوجود الفرنسي في مصر بين (1798- 1801 ) لنفس السبب ، ولذلك كان من أهم مطالب انجلترا رد الأسطول العثماني للآستانة لإضعاف القوة البحرية المصرية .
ويستمر عبد الرحمن الرافعي فيقول (كان استعمارها للهند يقتضي استبعاد جميع البلاد التي في طريقها وإليها ، وهذا من أغرب ما يقضي به الجشع الاستعماري ) ولكنه يضيف ( إن إضعاف مصر هدف في حد ذاته فهي تسعى لامتلاكها ووضع يدها عليها )  وظلت هكذا حتى احتلتها في 1882. وكان وزير خارجية بريطانيا الاستعماري الشهير اللورد بالمرستون وسوف يصبح رئيسا للوزراء ، وكان لباقي الدول الاوروبية حسابات أكثر ضيقا ولكن في إطار مسايرة السياسة الانجليزية . فالنمسا أهم ما يشغلها إبعاد روسيا العدو التقليدي لها عن التدخل في الشؤون التركية ، وهذا التحرك الجماعي يضمن ذلك . أما فرنسا كدولة استعمارية رقم 2 فهي تقف مع انجلترا وأوروبا في الملمات الكبرى ، ولم يكن من مصلحة فرنسا الصليبية الطامعة قيام دولة عربية إسلامية مستقلة في الشرق ، بل لقد كانت فرنسا السباقة لاحتلال الجزائر عام 1830 و كانت تخضع إسميا للدولة العثمانية ، ولم نسمع للدولة العثمانية حسا في هذا المجال ، وكانت المغرب قد استقلت منذ زمن عن الدولة العثمانية ، أما تونس فكانت علي الطريق إلى احتلال فرنسي ، وهي أيضا تابعة إسميا للدولة العثمانية .  في مثل هذه الأزمات تتفق فرنسا مع انجلترا على تقسيم النفوذ وتسكين الخلاف بينهما حتى وإن أخذت انجلترا نصيبا أكبر هو مستحق بقوتها العسكرية الأكبر ! أما بروسيا فقد كانت دولة بلا طعم ولا رائحة ، أي بلا سياسة خارجية واضحة لأنها كانت لا تزال مشغولة بتوحيد ألمانيا ، ومهتمة بالعداء القومي لفرنسا لذلك تنحاز لأي مصلحة لإنجلترا ! وكان معلوما أن إنجلترا ستفوز في النهاية بمصر. ونجحت انجلترا أيضا بتحجيم روسيا وعلاقتها مع تركيا ، ولم تكن روسيا تملك أن ترفض التوجه الجماعي الأوروبي .
وهكذا أصبحت تركيا – بموافقتها على المذكرة – تحت وصاية الدول الأوروبية ، ففقدت بذلك استقلالها الفعلي . والغريب أن هذه الموقف الاوروبي الجماعي أدى الى نزع أو إلغاء نتائج معركة نصيبين ، وأدي الى حالة من الجمود في الموقف استمرت سنة كاملة .
ولم يعد بالإمكان مفاجأة أوروبا مرة ثالثة بالزحف على الآستانة ، فعنصر المفاجأة انتهى ، ومحمد على الذي كان رافضا للفكرة دوما ، لم يعد يتصور القيام بها ، وربما فإن ما كان يأمل فيه أن يحافظ على مواقعه كما هي في سوريا ومصر والسودان والجزيرة العربية.

وأخيرا وبعد عام حفل بمفاوضات سرية مكثفة تم إبرام واعلان معاهدة لندره (لندن) في 15 يونيو 1840 بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا مع استبعاد فرنسا والمهتمة بإقامة صداقة مع محمد علي ، وهي لم تكن في الحقيقة إلا نوعا من الحبال الفرنسية مع مصر على أمل إعادة تنفيذ الحلم القديم المحبط لنابليون بونابرت بإعادة السيطرة على مصر واحتلالها.
ويمكن أن نسمى معاهدة لندن بأنها معاهدة كامب ديفيد الأولى بدون أي مبالغة ، وخلاصة ما فيها :
1- يخول محمد علي وخلفاؤه حكم مصر الوراثي . ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سورية المعروفة بولاية عكا (فلسطين) ، وبشرط أن يقبل ذلك في مهلة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغ هذا القرار، وأن يشفع قبوله بإخلاء جنوده جزيرة كريت وبلاد العرب (جزيرة العرب) واقليم أدنه وسائر بلاد العثمانية وأن يعيد إلى تركيا أسطولها .
2- إذا لم يقبل هذا القرار في مدة عشرة أيام يحرم الحكم على ولاية عكا ، ويمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وسحب جنوده من جميع البلاد العثمانية وإرجاع الأسطول العثماني فإذا انقضت هذه المدة دون قبول ذلك كان السلطان في حل من حرمانه من ولاية مصر.
3- يدفع محمد علي باشا جزية سنوية للباب العالي تتبع في نسبتها البلاد التي تعهد إليه  إدارتها .
4- تعد قوات مصر البرية والبحرية جزءا من قوات السلطنة العثمانية ومعدة لخدمتها.
5- يتكفل الحلفاء في حالة رفض محمد علي باشا لتلك الشروط أن يلجأوا إلى وسائل القوة لتنفيذها ، وتتعهد انجلترا والنمسا خلال ذلك باتخاذ كل الوسائل لقطع المواصلات بين مصر وسورية  ومنع وصول المدد من إحداهما للأخرى ، وتعضيد الرعايا العثمانيين الذين يريدون خلع طاعة الحكومة المصرية والرجوع إلى الحكم العثماني ، و إمدادهم بكل ما لديهم من المساعدات ( إعلان صريح بدعم التمرد المسلح في سورية بالمال والسلاح) .
6- إذا لم يذعن محمد علي للشروط المتقدمة وجرد قواته البرية والبحرية على الاستانة فيتعهد الحلفاء بأن يتخذوا بناء على طلب السلطان كل الوسائل لحماية عرشه وجعل الآستانة والبواغيز بمأمن من كل اعتداء.
تذكروا أن ابراهيم باشا في 1832 اقترح الإسراع بفتح الأستانة بصورة خاطفة قبل أن يفيق الأوروبيون من الصدمة ! الآن لم تعد المفاجأة ممكنة أو مطروحة .
انجلترا شرعت في تطبيق المعاهدة قبل إبرامها :

أشرنا من قبل لدور التحالف الإنجليزي – التركي في إثارة الجماهير في سورية ومد رؤساء العشائر بالمال والسلاح ، ثم تصاعدت الأمور عام 1839 قبل توقيع المعاهدة بسنة ، حيث تم إرسال المستر (ريتشارد وود ) مترجم السفارة الإنجليزية الى لبنان ، وإذا اطلعت على سيرة حياته سيذكرك بـ( لورانس العرب) الجاسوس اليهودي الإنجليزي الذي سترسله انجلترا ليقود الثورة العربية ضد الدولة العثمانية في 1916 خلال الحرب العالمية الأولى . والمستر وود يجيد العربية وتحرك في لبنان كمستشرق يريد أن يتعمق في اللغة العربية ويدرس الواقع اللبناني بينما كان جاسوسا لتنظيم وتمويل الفتن ضد الحكم المصري ، واستفاد من غضب اللبنانيين من اعتماد الحكم المصري على الأمير بشير الشهابي حاكم الجبل ، فاستجابوا لنداء التمرد ، والطريف أن وود  جعل مركزه في جبل كسروان كجبل حصين يقطنه الموارنة ، والذي سيكون من معاقل العمل المسلح الماروني ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية من 1975- 1990 . و بدأ المتمردون في هجمات مسلحة على الحاميات المصرية والحكام المصريين في مختلف أنحاء سورية ، وطبعا لم يتأخر ابراهيم باشا عن مواجهة التمرد، ولم يتأخر محمد علي عن ارسال الامدادات ، ولكن ما كان ممكنا “إصلاح ما تم كسره” فقد حدث شرخ عميق بين الحكم المصري وقطاع واسع من الأهالي ، كما أن الوجود المصري أصبح بين سندان التمرد الداخلي وضربات الأسطول الانجليزي (لاحظ انه في تلك الآونة لم يكن هناك قوات برية أو بحرية عثمانية ) . وأيضا قبل إبرام واعلان معاهدة لندن صدرت الأوامر للأسطول الانجليزي بمحاصرة سواحل مصر والشام وبعد إعلان المعاهدة بشهر أي في أغسطس 1840 صدرت التعليمات بالعمل على أسر أي سفينة مصرية حربية أو تجارية ! وبدأت عملية التنفيذ فعلا وبدأ أسر السفن المصرية أمام سواحل بيروت ، وطالب الانجليز الجيش المصري بإخلاء بيروت وعكا . وقام الانجليز بتوزيع منشورات في سورية ولبنان تدعو السكان إلى التمرد على الدولة المصرية والمطالبة بالعودة للدولة العثمانية ( بالمناسبة لن يعاني من قسوة النظام العثماني في أيامه الاخيرة أكثر من الشعب السوري !)
رفض محمد علي اتفاقية لندن

من الطبيعي أن يرفض محمد علي شروط هذه المعاهدة المذلة ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بمجابهة التحالف الاوروبي بعد أن فوت فرص أن يحشد وراءه الأمة الاسلامية – كما دعاه ابراهيم باشا منذ ثمان سنوات – محمد علي يقاوم الآن من نقطة أضعف وأقل بكثير سياسيا وعسكريا وكان من الواضح أن قدراته الأساسية الآن في مصر ، فحشد الجنود في ثغور مصر، ووزع السلاح على عمال المصانع (الفبريقات) وهذا قرار جريء في ذلك الزمان أي محاولة لتنظيم مقاومة شعبية كما تم توزيع السلاح على طلبة المدارس الحربية . أما في سورية فقد كان ابراهيم باشا أمام وضع حرج فهو مدرب وأستاذ في المعارك الحربية مع الجيوش ، وليس كذلك مع الشعوب المتمردة  وقام الإنجليز بتوزيع 30 ألف بندقية في سورية للمتمردين بالإضافة للذخائر. وبدأ الجيش المصري يعاني من قطع طرق المواصلات بين مختلف المدن ، وكانت الحالة النفسية للجنود في تردي مستمر. وبدأت قوات الحلفاء ( الإنجليز أساسا) الاستيلاء من البحر علي جبيل شمالي بيروت والبترون.

ثم احتلوا حيفا وصور وصيدا ثم بيروت في أكتوبر 1840 . وانسحب المصريون من طرابلس واللاذقية وأدنة بدون قتال ، فصارت معظم الثغور في يد الإنجليز . ثم ركز الإنجليز على احتلال عكا لأنها مفتاح فلسطين والشام وحشد أسطولها أكثر من 20 سفينة حربية ظلت تقصف عكا عدة أيام حتى أصابت مستودع ذخائر أحدث دماراً هائلاً فأخلت الحامية المصرية المدينة في 3 نوفمبر 1840 واحتلها الإنجليز والترك في اليوم التالي .  ثم سلمت يافا ونابلس . وانسحب الأسطول الفرنسي الذي كان يتابع الموقف دون أن يتدخل ! اقتربت بعض سفن الأسطول الانجليزي من الاسكندرية في مظاهرة للإرهاب ، ولكنها لم يكن لديها قوة برية كافية تستطيع إنزالها .  وكانوا يدركون حجم استعداد وقوة الجيش المصري على سواحل وأراض مصر.  فقرر قائد الاسطول البريطاني اللجوء إلى التفاوض على أساس جلاء الجيش المصري عن سوريا ورد الأسطول التركي للباب العالي مقابل تخويله ملك مصر الوراثى بضمانة الدول .  وافق محمد علي لادراكه حرج موقف الجيش المصري في سوريا ووافقت انجلترا وأجبرت ( مع النمسا وبروسيا وروسيا الباب العالي في مذكرة في 30 يناير 1841 على الرجوع عن قرار عزل محمد علي ، وتخويله في المقابل – حكم مصر الوراثي – فوافق السلطان الذي لم يكن يملك من أمره شيئا ، وأرسل محمد علي أمراً باخلاء سوريا والعودة إلى مصر وقد كان إخلاءاً مؤلماً مليئاً بالخسائر من طول الطريق البري الصحراوي وما يحملونه من أثقال بالاضافة لما تعرض له الجيش المصرى من مناوشات الأعراب .  وكذلك أمر محمد علي بإخلاء القوات المصرية – تنفيذا للمعاهدة – للجزيرة العربية بما في ذلك سواحل الخليج واليمن .  وتم الانسحاب عام 1841، وكانت مهمة لمحمد علي في مجال الهوية الإسلامية ( حماية الحرمين الشريفين ) واليمن كانت تؤمن طريق التجارة للهند . وكانت القوات المصرية في الجزيرة العربية قد بلغت 18 ألف مقاتل . وفي اليمن كانت تسيطر على عسير وميناء (مخا ) وكان الحكم المصري قد استقر في تهامة (مقاطعة جازان حاليا) وامتد الي تعز وكانت هناك حامية مصرية في ميناء الحديدة . وذلك في مواجهة امتداد النفوذ الوهابي هناك وأيضا لمواجهة التمردات الدائمة ضد العثمانيين ،كما أعلن إمام صنعاء ولاء