تعالوا نعيش حياتنا بدون امريكا والغرب – 3 – عزلة امريكا بين المحيطين الاطلسى والهادى مكنتها من بناء دولة عظمى .. ولكن روسيا على بعد 4 كيلومتر من ناحية ألاسكا – بقلم : مجدى حسين

قانون العزلة قبل الانطلاق ومن أجل الانطلاق حكم تاريخ البشرية عبر العصور . بعد تجارب الصين وروسيا واليابان والولايات المتحدة ذات نفسها ، سننتقل إلى تجربة بريطانيا العظمى وامبراطوريتها التى لا تغيب عنها الشمس . وهذا الحديث العلمى يؤكد أننى لا أنطلق فى دعوتى هذه من منطلقات عنصرية أو تعصبية أو حالة من الهوس المعادى لكل ما هو غربى ، بالعكس فقد تعلمت الكثير من تجارب الغرب من إيجابياتها قبل سلبياتها ، وأدرك أن الخير كامن فى البشر عموما ولكن أنظمة الحكم والنخب المتسلطة هى التى تفسد على الناس حياتها .

كما قلنا فإن قانون العزلة والانكفاء المؤقت على الذات ضرورى بل هو يعمل من تلقاء نفسه بدون تدبير معين ، فالقوانين الاجتماعية تعمل بنفس أسلوب قانون الجاذبية ، سواء علمت به وفهمته أم لم تفهمه فإن قانون الجاذبية يعمل بانتظام . ولكن القوانين الاجتماعية أقل صرامة وأقل وضوحا من القوانين الطبيعية لأنها ترتبط بأمور متشابكة عديدة ولكن الباحث والمحلل والناظر بدقة سيصل إلى فهمها والعمل على الاستفادة بها .

قانون العزلة والانكفاء المؤقت يشبه مسألة ضرورة عزلة الأسرة فى بيتها . من الضرورى أن تكون حياتها مغلقة على نفسها رغم أنها خلية من خلايا المجتمع بالضبط كالخلايا فى الجسم ، كل خلية تعمل بمفردها وبآليتها الخاصة ، وأن هذا لا يتعارض مع تناغمها مع باقى خلايا الجسم ، بل هذا التناغم ضرورى لحياة الجسم والانسان ، رغم أن الخلية فى العظام تختلف عن الخلية فى العضلات أو الكبد أو الكلية .

قانون العزلة يعمل بشكل صارم فى التاريخ ، وقد ختمنا حديثنا الماضى عن إعتزال الأمريكان رغم أنهم من أصل إنجليزى عن بريطانيا وأن هذا كان من أهم أسباب النهضة الامريكية التى عاشت أكثر من مائتى عام وتتجه الآن للأفول . وإذا لم تستقل أمريكا عن بريطانيا لظلت مجرد مستعمرة لتوريد بعض المواد الأولية لبريطانيا . ونحن نريد أن نواجه اليوم أمريكا أو ما تبقى من قوتها بنفس القانون الذى استخدمته هى لنهضتها ، ونحن ننتصر عليها بالـتأكيد ، لأن القانون يعمل معنا ، مع الأحرار منا وليس العبيد .

والطريف كل الطرافة أن قانون صعود أمريكا على انجلترا كان نفس قانون صعود بريطانيا على العالم بأسره بدءا من القرن 19 حتى منتصف القرن العشرين . ولكن لنكمل أولا باقى درس الصعود الامريكى بعد الاستقلال عن بريطانيا . فقانون العزلة لا يعنى مجرد الاستقلال السياسى والوطنى ، بل هو قانون يشمل مناح الحياة كافة . لقد ساعد قانون العزلة أمريكا فى صعودها كقوة عظمى لا مثيل لقوتها فى التاريخ بقدر ما كانت تتمتع به من عزلة كثيفة مثلت لها حالة الحصن المنيع الذى لا يمكن اختراقه . وهذا الحصن – العزلة ضرورى للتفرغ للبناء والتنمية وإقامة مجتمع وطيد الأركان بحجم قارة ، فالولايات المتحدة تمثل معظم قارة أمريكا الشمالية ، ومساحة كندا مساحة خادعة لأن كثيرا من أراضيها فى منطقة الثلوج شبه الدائمة بالقطب الشمالى . ولذلك فرغم أن مساحتها أكثر قليلا من الولايات المتحدة إلا أن عدد سكانها حوالى 37 مليون نسمة.

الولايات المتحدة شبه قارة ومساحتها أكثر من 9 ملايين كيلو متر مربع وتمتلك ثروات طبيعية هائلة وبتنوع شديد ، وأيضا تنوع فى مختلف درجات المناخ والطبيعة , وقد أدرك المستعمرون البريطانيون منذ البداية ضرورة التوسع من الشريط الشرقى للقارة إلى الغرب وإن استدعى ذلك إزالة وإستئصال عشرات الملايين من السكان الأصليين الذين أطلقوا عليهم اسم الهنود الحمر . كما توسعوا جنوبا واقتطعوا أجزاء واسعة من المكسيك وهى ولايات أمريكا الجنوبية الحالية . ما يهمنا الآن أن المستعمرين البريطانيين والاوروبيين أقاموا دولة بكل هذا العمق . لم يفكر أحد فى غزوها حتى قبل أن تصبح بقوتها العسكرية الراهنة ، ليس لأنها عميقة من الناحية البرية فحسب ، بل هى محمية بأعمق وأطول غلاف مائى على سطح الكرة الأرضية وهو المحيطان الأطلسى والهادى . من يريد أن يفكر فى احتلال أمريكا عليه أن يعبر أحد هذين المحيطين . ولكن الطامة الكبرى فى الشمال فروسيا تبعد عن ألاسكا الامريكية ب 4 كيلومترات فقط !! ولكن فى المقابل فهى منطقة جليدية قاسية كجزء من القطب الشمالى ، وعلى جانبى الحدود لا توجد أى كثافة تذكر للسكان . كما أن ألاسكا بعيدة تماما عن قلب الولايات المتحدة . ولم يتحدث أحد فى روسيا عن إمكانية غزو أمريكا عن طريق ألاسكا التى باعتها روسيا القيصرية لأمريكا ب 20 مليون دولار !! ولكن يجرى الحديث عن استخدام قرب المسافة فى إطلاق الصواريخ أو استخدام الطائرات . ومن الناحية الاستراتيجية ليس لهذا القرب أى أهمية كبيرة . فالصراع بين روسيا وأمريكا الآن من الناحية العسكرية صراع صواريخ . وعلى مدار 246 عام منذ استقلال أمريكا عام 1776 ، لم يفكر أحد فى غزو أمريكا مجرد تفكير . يمكن أن يضرب وجودها ومصالحها فى العالم ولكن ليس بضربها فى الداخل ، باستثناء وحيد : ضرب اليابان لميناء بيرل هاربر الامريكى بالطائرات وقد كانت خطوة حمقاء أدت إلى دخول امريكا الحرب العالمية الثانية والتى انتهت بضرب هيروشيما ونجازاكى بالقنابل النووية وكأنه انتقام لضرب بيرل هاربر . أما ما يقال عن 11 سبتمبر فقد صرت مقتنعا بأن أجهزة أمنية أمريكية هى التى قامت بضرب الأبراج كمبرر لغزو العالم الاسلامى ، وهناك دراسات كثيرة أثبتت ذلك وقد كتبت عن 11 سبتمبر فى دراسة المستطيل القرآنى ولكن هذا الجزء لم ينشر بعد .

وفى الفكر السياسى الامريكى استخدم تعبير ” عزلة أمريكا ” فى القرن الأول لتأسيسها بل وبعد القرن الأول بقليل . ولم يكن هذا الشعار يعكس الزهد فى العالم والرغبة فى العيش الهانىء المنفصل عن مشكلات العالم ، بل كان شعارا ماكرا يعبر عن ضرورات المرحلة الأولى لتأسيس الامبراطورية . وهذه المرحلة هى التى شهدت كما ذكرنا التوسع غربا وجنوبا لدرجة اقتطاع مساحات واسعة من المكسيك . ولكن امتد الأمر إلى بسط السيطرة والهيمنة على كل قارة أمريكا اللاتينية . كانت المرحلة الأولى لبناء الامبراطورية وكان لابد من تأمين نصف الكرة الغربى كله تحت السيادة الامريكية . وقد تم تتويج هذه المرحلة بما عرف بمبدأ الرئيس مونرو لعام 1832 والذى عملت به أمريكا طوال القرن ال19 والذى يؤكد رفض أى وجود أو استمرار للاستعمار الاوروبى فى نصف الكرة الغربى . وكان المقصود الأمريكتين ككل . وفى آخر القرن التاسع عشر بعد أن تمركزت الولايات المتحدة جيدا فى غرب الكرة الأرضية بدأت تثب إلى نصف الكرة الشرقى وبدأت باحتلال الفليبين عام 1898 التى انتزعتها من اسبانيا . وانتهت مرحلة عزلة أمريكا والتى لم تكن سوى عزلة داخل الامريكتين . ولايزال حتى الآن يتم استخدام هذا المصطلح فى الحياة السياسية الامريكية كأحد الخيارات أمام أمريكا . واستخدم كثيرا فى عهد ترامب ولكنه أمر لم يخرج عن المناورة من وجهة نظرى أو محاولة لتبرير الضعف الامريكى المتزايد والذى أصبح واضحا للعيان .

وعندما أدعو للعزلة عن الغرب والانكفاء على الذات مؤقتا بين العرب والمسلمين وعددهم الآن 1.8 مليار ، لا أعنى أن نقلد هذه التجربة الامريكية المقيتة ، فحضارتنا وثقافتنا وعقيدتنا مختلفة ، نحن لانسعى لغزو العالم ولا استعباد الشعوب الأخرى . بل العزلة المقصودة منها بالنسبة لنا أن نبنى نمط حياتنا وحضارتنا الخاص وأن نمتلك مقدراتنا وثرواتنا ونتمتع بها ونسعى للتنمية المستقلة والانسانية ، ولا نمنع هذه الثروات عن الآخرين ولكن وفقا لمعايير العدالة والسوق . وأن ننطلق فى معارج التقدم العلمى والتكنولوجى ولا نظل مجرد كائنات عاجزة تعيش على استهلاك منتجات الآخرين فى الشرق والغرب . وأن نحرر ما تبقى من أراضينا المحتلة بشكل صريح وعلى رأسها فلسطين وسبتة ومليلة المغربيتين وتطهير اراضينا من القواعد العسكرية الامريكية .

من العجيب أن ألكسندر ديوجين المفكر الروسى يتحدث باحترام عن التعدد الحضارى ويشير بشكل خاص للثقافة الروسية والصينية والاسلامية ،ويشير إلى أنها مختلفة عن الحضارة الغربية ، بينما نحن العرب والمسلمين لا نزال نرى أن الكتلة العربية الاسلامية لا وجود لها وأننا مجرد شظايا فى عالم دولى يقوم على المصالح وعلى كل دولة عربية أو اسلامية أن تبحث عن مصالحها . وكأن بناء هذه الكتلة العربية الاسلامية ليست على رأس مصالحنا . طبعا باستثناء محور المقاومة ولكن يضعفه أنه حتى الآن لم يحظ بدولة سنية ذات ثقل وإن كان بها فلسطين المقاومة السنية واليمن نصف السنية . بينما لاتزال افغانستان طالبان تقف على بعد مسافة مقصودة وحدها وهذا يضرها أكثر مما ينفعها .

كان لابد من التوضيح فقانون العزلة فى مرحلة الانطلاق ضرورى وحتمى ولكنه قد يكون من أجل الخير – مشروعنا العربى الاسلامى – أو من أجل الشر : المشروع الامريكى الغربى الصهيونى.

والحديث متصل

magdyhussein.id

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: