الاعلام فى صدر الاسلام وكيف قام بنفس مهمة الاعلام الحديث ولكن مع التميز بالصدق – بقلم مجدى حسين

الاعلام وحرية التعبير

من على البعد أو من خلال زيارة الولايات المتحدة سترى أن أمريكا تعيش فى غابة اعلامية حقيقية ، وأن كل الناس تتكلم بحرية وتطبع وتنشر ما تريد . ولكن قبل أن نخوض فى هذه الأسطورة دعونا نرجع 14 قرنا إلى الوراء فيما يسمى عصر الجمل . وتبدو لدى البعض المقارنة متعسفة بين مرحلة القرن الواحد والعشرين فى أمريكا والغرب وبين صدر الاسلام ، كيف يمكن أن تعقد مثل هذه المقارنة ؟ خاصة فى مجال الاعلام ؟

فى المدينة لم يكن هناك ميكروفون يدوى وفى واشنطن توجد الآن قنوات فضائية وانترنت يمكن أن تنقل الحدث مباشرة ويسمعه ويراه المليارات من البشر حتى من خلال الهواتف النقالة . مهمتى أن أزيل هذه الغشاوة التكنولوجية ، لا رفضا للتقدم التكنولوجى بل أدعو دائما للتسلح بأدواته ، ولكن للتأكيد على أن التكنولوجية لا تصنع عالما جديدا من حيث الجوهر ، ولا تخلق قيما أكثر رقيا فى حد ذاتها ، ولا أكثر حضارية ، بل وحتى أكثر من ذلك سأفاجأكم حين أقول ان التكنولوجية الاعلامية لا تحقق ما تدعيه ونصدقه جميعا أنها تنقل لنا الحقائق كما تحدث ولم يعد هناك سر فى العالم ، وكل شىء يجرى أمام الجمهور ، وقد أصبح العالم قرية صغيرة ! ولكن أحتاج منكم قليلا من الصبر !! لأكشف هذه الأكذوبة .

ولنبدأ من هنا : أليست المهمة الأولى للاعلام أن ينقل فورا الحقائق ، لاحظ الحقائق وليس الأحداث ، للعالم بأسره فور وقوعها أو بعد وقوعها بقليل ، أى وصول الرسالة الاعلامية لمستحقيها ، وهم كل الناس ، وليس على طريقة وصول الدعم لمستحقيه كوسيلة لإلغاء الدعم ! المستحقون هم كل الناس فى العالم أو إذا كان الحدث لا يهم إلا دولة أو إقليم معين نجد الرسالة تصل لمن يرغب فى هذا البلد أو ذاك الاقليم . بعبارة أخرى : وصول الرسالة الاعلامية للجمهور المستهدف .

على هذا الأساس لنبدأ بعصر الجمل ، وسنجد كيف أن الرسالة الاعلامية كانت تصل إلى الجمهور المستهدف فى التو واللحظة أو بعد مهلة يسيرة من الزمن لا تتجاوز أيام قليلة . فى العهد المكى كانت الرسالة تستهدف الجمهور المكى أولا واساسا لأن الهدف هو خلق النواة الأولى وليس من المصلحة تشتيت الجهد فى الشهور والسنوات الأولى للبعثة فيما هو أبعد من ذلك . وهكذا فإن آيات القرآن كان يتم تداولها بيسر وشفاهة أو على رقاع الجلد قليلا لقلة عدد القراء أى الذين يعرفون القراءة . إذا الاعلام هنا اعتمد على الأحبال الصوتية !! لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونفر قليل من الصحابة يعد على أصابع اليدين حتى أسلم المسلم رقم 40 وهو عمر بن الخطاب . مسألة الحنجرة والأحبال الصوتية مهمة للغاية ، فقد كانت هذه هى وسيلة البشرية الاعلامية الأولى لتوصيل رسائل الحكام أو الدعاة ومن قبلهم الأنبياء والرسل . وقد كانت قاعات الاجتماعات فى القصور والمعابد والمساجد تصمم هندسيا بحيث تسمح لرنين الصوت أن يصل للناس بسهولة ويسر – إقرأ الملحق .

وكان هناك بعض الأشخاص يتميزون بأنهم جهوريون ، فكان يتم استخدامهم فى الاجتماعات المفتوحة فى الهواء الطلق لتكرار ما يقال للصفوف الخلفية . والحنجرة كانت أقوى من الآن كما كان الإبصار والسمع أقوى ، فكل الحواس التى لم نعد نستخدم كل إمكانياتها تضعف . عندما نستخدم الميكروفون والسماعات فإن الحنجرة تضمر لأنها لم تعد تستخدم بأقصى طاقتها حتى وإن اختص بذلك جزء من الناس : الخطباء والشعراء ومرددى الخطابات . وعندما نعيش فى مبانى مغلقة معظم الوقت فإن أبصارنا تضعف وينتشر أصحاب النظارات !

هذا فيما يتعلق بأداة الاعلام أو الاذاعة ولكن هذه هى الحلقة الأولى أما الحلقة الثانية لاستكمال تداول الرسالة الاعلامية فهى الذاكرة القوية ، وقد اشتهر العرب بالذاكرة القوية حتى لقد كانوا يحفظون عشرات ومئات الأبيات من الشعر ، ويروى أن هناك أشخاصا كان بإمكانهم أن يحفظوا القصيدة فور سماعها لمرة واحدة . وأنا شخصيا لا أستوعب ذلك وأحيانا لا اصدقه باعتباره من الأساطير ، ولكن حتى وإن كان فى ذلك مبالغة ، ولكن لا خلاف إطلاقا حول الذاكرة الحديدية للعرب ، مصداقا لنفس النظرية : إذا أنت افتقدت أو ضعفت لديك بعض الحواس والخواص فإن ذلك يؤدى إلى تقوية ما تبقى من حواس وخواص تستخدم ، فكثرة الاستخدام تؤدى إلى رفع مستوى حاسة معينة .فمثلا الأعمى تزداد عنده قوة حاسة السمع ، وتكون الذاكرة أكثر حدة لكثرة الاعتماد عليها .

العرب لا يقرأون ولا يكتبون بنسبة لا تقل عن 95 % وبالتالى فإن الاعتماد على الذاكرة ضرورى لإجراء المعاملات التجارية ، ولحفظ التراث الشعرى ، ولحفظ سجل أنساب العرب بكل قبائلهم وعشائرهم ، ولحفظ وقائع التاريخ ، حفظ أرشيف الأمة فى كل المجالات ، وهذا لابد أن يقوى الذاكرة . لذلك لم نسمع عن أى صعوبة فى حفظ القرآن الكريم إلا بسبب الانشغال فى التجارة والجهاد وغير ذلك من مشغوليات الحياة . القرآن الكريم حفظ فى الصدور فورا وظل ينتقل من صدر إلى صدر أو بالأحرى من قلب إلى قلب . أما الذين لايدخلون الاسلام فقد كانوا فريقين : فريق معاند إلى حد عدم الرغبة فى الاستماع إلى القرآن حتى انهم كانوا يسدون آذانهم كلما سمعوا القرآن بأطراف العباءات ، ويقولون ” لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ” فصلت 26 وهذا فريق لايهم المؤمنون أن يوصلوا الرسالة إليه . وهناك فريق آخر متردد أو لديه حب استطلاع أو يعانى من الدهشة والاستغراب فما جاء من القرآن ليس له مثيل من شعر ولانثر ويخطف القلوب ويحير الألباب التى لم تؤمن بعد . لذلك كان الصحابة يقرأون القرآن فى المسجد الحرام مع مخاطر ما يتعرضون له . وكان أبوبكر الصديق يجهر بالقرآن فى الصلاة وغير الصلاة فى حديقته فيتجمع حول أسوار بيته أعداد من النساء والشباب وقد أخذ لبهم القرآن وقراءة أبى بكر له . وهكذا وصلت الرسالة الاعلامية للجمهور المستهدف ، لا يستطيع مكى أن يدعى أنه لم يسمع أو لم يقرأ القرآن ، حتى عمر بن الخطاب دخل الاسلام عندما قرأ رقعة من الجلد عليها سورة طه .

ونتابع الحديث فى الحلقة القادمة

الحلقة 140 من دراسة المستطيل القرآنى – الجزء الثانى

magdyhussein.id

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: