كنت فى الجزائر عندما وقع الانقلاب العسكرى على الشاذلى بن جديد ورأيت سعادة صحفيى الغرب بإلغاء نتيجة الانتخابات .. خطة بريطانيا وأمريكا لاحتواء الاسلاميين – بقلم : مجدى حسين

الصورة لعبد القادر حشانى رحمة الله عليه

عندما احتلت بريطانيا الهند عام 1857 كان المسلمون هم القوة القائدة والحاكمة للبلاد ، وكان استيعاب المسلمين ضرورة لاستقرار احتلال الهند . ساعد الانجليز فى تأسيس مدرسة أو جامعة عليكره ذات التوجه الاسلامى الممالىء للانجليز باعتبارهم هم ولى الأمر المطاع ! واحتضن الانجليز الميرزا غلام أحمد القاديانى لترويج هذا الخط . وهو ما أصبح يعرف بعد ذلك بالقاديانية وهم يسمون أنفسهم الأحمدية ولهم قناة فضائية حتى الآن للترويج لمذهبهم المخرب . وقد تم تأسيس جامعة عليكرة فى أوائل القرن العشرين حوالى عام 1921 . وهذا أسلوب ضرورى لأن القوات البريطانية لم تزد عن 50 ألف ، فكيف تحكم قارة بها عشرات الملايين ، حوالى 50 مليون فى ذلك الوقت . الاستقطاب والتجنيد الفكرى أساسى وضرورى لضمان السيطرة واستمرارها .

ولذلك نجح الاستعمار البريطانى واستمر لأكثر من قرن ولا يزال مؤثرا من خلال الولايات المتحدة حتى الآن . وفى المقابل فشلت الدول الأوروربية الاستعمارية الأخرى لأنها لم تقم بهذا الدور الثقافى والاستقطابى واعتمدت فحسب على القوة : هولنده – بلجيكا – .أسبانيا – البرتغال . فى حين حققت فرنسا المركز الثانى الاستعمارى لأنها كانت مدركة لهذه الأبعاد الثقافية بنشر اللغة الفرنسية واستعمار العقول وفرض المفاهيم الحضارية الغربية وأسلوب حياتها . ولكنها لم تنجح كالانجليز فى خلق تيار اسلامى صريح ممالىء للاستعمار فى البلاد الاسلامية .

القوى الاستعمارية الناجحة هى التى تدرك أصول الشغل فقد وجدت ان الاسلام هو المكون الأساسى لهذه الأمة من طنجة إلى جاكرتا ، وبالتالى فإن محاربة الاسلام بصورة صريحة لن تجدى ، بل ستسرع بإفشال مشروع الهيمنة. لذلك أنشأت فى بلادها مراكز دراسات وبحوث تابعة للسلطة وبالتعاون مع الكنائس التبشيرية لإختراق مجتمعات المسلمين والأفارقة والآسيويين ، وقد أدركوا أن تغيير انتماء المسلم شديد الصعوبة ، كما قال خبراء الاستشراق والتنصير ، فرأوا أن الحل هو تمييع الاسلام ، أى تخفيفه بالماء !! حتى لايصبح صلبا غليظا ، من خلال تغيير العادات والتقاليد والأخلاق ، تغيير نمط الأكل والشرب واللبس ونمط الحياة ، وإسقاط بعض أركان الدين وعلى رأسها الجهاد والزكاة وكل ما يتصل بتنظيم المجتمع .

بعد انتصار الثورة الايرانية عام 1979 وإسقاط الشاه بصورة لم تكن متوقعة ، عاد الاهتمام الأمريكى بمسألة الاسلام السياسى واحتوائه واستبعاد فكرة الاستئصال . ونرجو من حكام العرب أن يصلوا لهذا التقدير !! . ولكننا لسنا فرحين بهذا الموقف ، فهو موقف ثعبانى أشد خطورة من المواجهة الصدامية ، لأن المواجهة الصدامية تستنفر مشاعر وأوصال الأمة ، وتسنفر كل اشكال الانحياز العقائدى .

فى التسعينيات من القرن العشرين كان الموقف متبلورا وصدرت فيه العديد من الدراسات والكتب بعضها من عاملين سابقين بالمخابرات المركزية الأمريكية ، وهم ليسوا سابقين كما يقولون ، وبعضهم يجيد العربية . منهم مثلا الضابط الذى كان مكلفا بمراقبة بن لادن وأصدر كتابا بعنوان : لماذا نخسر معركتنا مع الارهاب ؟ . ويبرهن فى الكتاب على أن الاسلام لا يمكن محوه ويجب عدم الدخول فى حرب حياة أو موت مع المسلمين بل البحث عن وسائل التفافية للتعاون . ونحن لا نرفض التعاون إذا تم إغماد السيوف ، ولكننا لا نقبل هذه الدعوة والقنابل تتساقط علينا فى فلسطين إلى العراق إلى افغانستان والصومال وسوريا . يمكن إقامة علاقات ندية ، وليس تسليم البلاد للتبعية سلما بدلا من الحرب . فهذه مسألة كرامة واستقلال وعزة ووجود . نحن لا نخشى الحرب ولكننا نمقت ونرفض العبودية .

ألتقيت بالأستاذ الجامعة جون سبوزيتو فى مكتبه بجامعة جورج تاون بواشنطن وهو من الرموز والمنظرين لهذا التوجه : الترويج للتعاون الأمريكى الغربى الاسلامى ، ولكن فى إطار وعلى قاعدة الهيمنة ، وعلى قاعدة تمييع مبادىء الاسلام . فى لقائنا كان فخورا بأنه كان يعطى ابنة الرئيس كلينتون دروسا حول الاسلام ، وأرانى خطاب شكر من كلينتون له لاهتمامه بابنته . جون سبوزيتو يروج إلى أن الاسلام ليس مناهضا للديموقراطية ، بالعكس فإن التيار العام المعتدل فى الحركة الاسلامية يؤمن بالديموقراطية . وكان يبحث عن أرضية مشتركة بين الغرب والاسلام ، على خلاف صموئيل هنتنجتون فى كتابه صراع الحضارات . من حيث المبدأ لابد أن نقبل هذه الروح ، ولكن ثبت لى أن أمثال سبوزيتو وهو من أصل أيطالى يستخدمون بعلم أو بدون علم – بضم الياء – لمد نفوذ أمريكا فى صفوف الاسلاميين ، لأن هذه الأحاديث الطيبة لا تقترن بأى تغيير فى السياسات العدوانية الأمريكية ، وقد تأكدت من ذلك عندما قرأت له فيما بعد دراسة بالغة السخف يشيد فيها بالاسلاميين المعتدلين وذكر أسماء بعضهم من المشاهير وأردف قائلا أنهم تطوروا ولم يعودوا يأخذون مواقف متشددة مثلا من الشذوذ الجنسى ، بل يمكن أن يتسامحوا معه رغم أننى لم أقرأ لأى اسلامى معتدل هذا الرأى . ولذلك لن أكتب أسماء من ذكرهم حتى لا أسيىء إليهم .

اشتبكت فى أحد برامج الجزيرة مع ممثل آخر للمخابرات المركزية الامريكية ، جرهام فوللر ، وهو يتحدث بالعربية ويقول إنه متقاعد ، وقلت له : أنت تروج للوئام والمحبة بيننا بينما أمريكا لاتغير سياستها العدوانية ، وهى لا تفهم سوى لغة القوة كى تغير مواقفها ، أقصد مقاومة الاحتلال فى العراق وأفغانستان . وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك إذ انسحبت أمريكا صاغرة من أفغانستان ومن قبل من العراق إلا قليلا !

عندما حدث الانقلاب العسكرى على جبهة الانقاذ الاسلامية فى الجزائر حاولت أمريكا أن تلعب دور المتعاطف مع الاسلاميين ، على خلاف فرنسا . وفى إحدى زياراتى لأمريكا وجدت أحد قادة الانقاذ الجزائرية يعيش لاجئا هناك والتقيت معه لقاء مطولا فى بيته وكان العشاء الكسكسى الجزائرى . ولكن حسب قوله لم يجد مجالا لحوار

جدى مع الإدارة الأمريكية ولكنهم سمحوا له باللجوء أو المعيشة فى أمريكا ، بينما كان قياديا آخر ، رابح كبير ، يعيش مطمئنا فى ألمانيا ، ويتحدث علنا عن الأوضاع فى الجزائر . وكان لجرجيجيان مساعد وزير الخارجية الأمريكية تصريحات رسمية حول الجزائر مسك فيها العصا من المنتصف فقال : إنه مع احترام نتيجة الانتخابات ولكن أمريكا تخشى من الاسلاميين عندما يصلون إلى الحكم أن يسيطروا عليه ولا يتيحوا الفرصة لاستمرار تداول السلطة على طريقة

one man one vote one time

يقصد أن يفوز الشخص أو الزعيم أو الحزب مرة واحدة فى عملية انتخابية واحدة ولكن لمرة واحدة ، ويسيطر على السلطة ويلغى الانتخابات بعد ذلك . والحقيقة ان ذلك لم يحدث من الاسلاميين لا من قبل ولا من بعد ولا توجد أى تجربة على ذلك . بالعكس فالذين انقلبوا فى الجزائر بدون انتخابات هم الذين يحكمونها حتى الآن !

وبعيدا عن التصريحات فإن أمريكا تعاملت بمنتهى الود والجدية مع الانقلاب العسكرى وتعمقت العلاقات الجزائرية الأمريكية وفاقت العلاقات الجزائرية الفرنسية ، بما فى ذلك التعاون العسكرى والبترولى . هذه السطور كتبت منذ أعوام ، والوضع مختلف الآن حيث تتجه الجزائر لتعزيز علاقاتها مع روسيا والصين .

كنت فى الجزائر فى لحظة وقوع الانقلاب العسكرى الذى أطاح بالرئيس الشاذلى بن جديد عام 1992 ، حيث تم وقف الانتخابات البرلمانية فى مرحلتها الثانية ، وكانت جبهة الانقاذ قد فازت ب 80 % من المقاعد فى الجولة الأولى . عشت هناك أكذوبة الديموقراطية الغربية ، فقد كنت مقيما فى نفس الفندق مع عدد كبير من الصحفيين الغربيين ، وكانوا يعيشون فى حالة من البؤس والحزن والكدر والضجر ، كل هذه المشاعر كانت ظاهرة عليهم وفى أحاديثهم معى . فى المؤتمر الصحفى لعبد القادر حشانى قائد جبهة الانقاذ ، كان متحدثا لبقا جيدا ومعتدلا ولم يقل أى شىء متطرف ، وقد تحاورت معه بعد ذلك فى مكتبه فى لقاء ثنائى ، وكان لديه قلق شديد من إمكانية مرور المرحلة الثانية للانتخابات بسلام ، ولكنه كان يركز على حشد جزائريين من فرنسا للتأثير على نتائج الانتخابات أو ربما لأهداف أخرى . وقد تعرض بعد ذلك للاعتقال ثم للاغتيال . المهم فى يوم المؤتمر الصحفى كان الصحفيين الغربيين حزانى . ولكن بعد يومين حدث الانقلاب العسكرى فتحولت حالة الصحفيين الغربيين وانقلبت 180 درجة ، تحولوا إلى حالة من السعادة والحبور والانتشاء وأصابتهم حالة من إرتخاء الأعصاب عقب أيام من الشد العصبى ، وكأن الحركة الاسلامية ضرتهم !! وأتذكر جيدا حالة مراسل مجلة بارى ماتش الفرنسية المصورة الشهيرة وكنت أتحاور معه أحيانا بالفندق ، فهو لم يخف سعادته وهو يحدثنى عن هذه الأنباء الانقلابية !!

أنا لا أبالغ عندما أقول إن الديموقراطية الأمريكية والغربية : خدعة كبرى ومسرحية متقنة . الديموقراطى الحقيقى هو الذى يقبل أى نتيجة للانتخابات وليست النتيجة التى تعجبه .

ومع ذلك فإن السياسة الأمريكية ظلت مع توثيق العلاقات مع مختلف أجنحة الحركة الاسلامية ، بل إلى حد إقامة علاقات علنية مع ما يسمونه الاسلام المعتدل خاصة حركة الاخوان المسلمين . وتوثقت العلاقات الأمريكية مع الاخوان المسلمين فى المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر واليمن وغيرها . وكانت العلاقات الأمريكية والأوروبية وثيقة للغاية مع تركيا فى عهد حزب العدالة والتنمية مع بعض الاضطرابات والمشكلات بين حين وآخر . ولا تزال هكذا حتى الآن فى 2023 .

يتبع

الحلقة 33 من دراسة المشروع العربى الاسلامى – وكتبت منهج المقارنة بين النموذجين الغربى والاسلامى .. وأيضا العلاقات بين الاسلام والغرب

magdyhussein,id

الايميل

magdyahmedhussein@gmail.com

اترك رد

%d