لا أريد أن أبحث هنا مجمل الوضع السياسى للبلاد فى ذلك الوقت . ولكننى كنت ولا زلت معارضا شديدا لكل ما فعله السادات من زيارة القدس المحتلة حتى كامب ديفيد . نحن لا زلنا ندفع ثمن هذه السياسة حتى الآن أى بعد 45 عاما . تصادف أن كنت على مقربة من أحداث المنصة فى بيت عائلة زوجتى بمدينة نصر وشاهدت الأحداث عن بعد من الشرفة . وأعترف أننى كنت أسعد مخلوق فى الدنيا فى ذلك اليوم رغم كراهيتى للعنف والدم ، ولكننى أكره كامب ديفيد واسرائيل وأمريكا أكثر . ولكننى الآن بعد 45 عاما بل منذ سنوات بعيدة لا أؤيد هذا العمل بمنطق وطنى وبمنطق اسلامى . فالاغتيال لم يضرب كامب ديفيد بل أدى بصورة غير مباشرة إلى تعزيز توجه التحالف الثلاثى المصرى الامريكى الاسرائيلى ، وقد ساهمت نعومة الرئيس مبارك فى تمرير نفس سياسات السادات وبصورة أكثر عمقا وأشد بأسا وتنكيلا على مدار 30 سنة . ومن الناحية الاسلامية فلم تقم دولة الاسلام بإغتيال السادات ، ولا كنا نريد إقامة دولة للاسلام على الطريقة الداعشية ، فهذه تكون أسوأ ضربة وأسوأ دعاية للاسلام .
ما يهمنا فى هذا المقام دراسة وتقييم أفكار وسلوك جماعتى الجهاد والجماعة الاسلامية اللتين كانتا متداخلتين بين التعاون وبين التوحد . نتوقف الآن عند حدث إغتيال الرئيس أنور السادات وأحداث أسيوط المصاحبة لها .
تكفير السادات وفتوى إغتياله
الحقيقة ان الجماعة الاسلامية كانت قد اتخذت موقفا وطنيا سياسيا صحيحا من وجهة نظرى بمعارضة كامب ديفيد واتفاقية السلام مع اسرائيل وقد كان هذا موقف سائر القوى الوطنية ، وهذه رؤية سياسية قد يتفق معها البعض أو يرفضها ، وقد كان النظام نفسه مختلفا حول كامب ديفيد : معظم أو كل الفريق المفاوض مع السادات فى كامب ديفيد كانوا معارضين ولكنهم رضخوا لرأى السادات فى النهاية جميعا عدا وزير الخارجية ابراهيم كامل الذى استقال . ولكن لم تكن هذه هى القضية التى دفعت الجماعة الاسلامية لتكفير ثم إقرار إغتيال السادات لأن موقفهم استند لكتاب الفريضة الغائبة لعبد السلام فرج وقد تأتى لى أن أقرأه كاملا بعد هذه الأحداث بسنوات .
ولابد من التوقف عند فكرة التكفير التى ترجع منابعها إلى كتب ودراسات عديدة قبل هذا الكتيب وبعده . ولكن لنتوقف الآن عند كتيب عبد السلام فرج ” الفريضة الغائبة ” .
أول ملاحظة منهجية فى الفقه هو القياس بين واقعتين مختلفتين . فتحريم المخدرات مثلا يستند إلى قياس مع الخمر المحرم لأن الأخير يغيب العقل وهذا ما تفعله المخدرات . ولكن الفريضة الغائبة يعقد مقارنة غريبة بين حكم السادات وحكم التتار . والخطأ الأول أنه يريد أن ينتزع الفتوى من كلام ابن تيمية وهو خطأ شائع ومستمر حتى الآن بين الجماعات الاسلامية المتشددة والمؤمنة بالعنف . فهم يرفعون إلى مستوى التقديس أى كتابات لابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وابن كثير فى إطار المذهب الحنبلى . والحقيقة فإن الفتوى فى الأمور المتغيرة لايجوز الاعتماد فيها على الأموات من العلماء ، فما بالكم بالعلماء الذين عاشوا منذ قرون فى ظروف سياسية واقتصادية وحضارية شديدة الاختلاف . فالاجتهاد يستند إلى قاعدة معروفة : إنزال النص على الواقع . وقد شرع الاجتهاد لأن الواقع متغير ولأن النصوص محدودة والوقائع المتجددة غير محدودة . وبالتالى ليس من الصحيح الاستناد إلى فتوى متكاملة من كتب أى عالم كبير فى زمن مضى . كتب الفقه هى بالتأكيد ترسانة فكرية يتعين على العلماء والمجتهدين أن يستوعبوها ويستفيدوا منها لا أن ينقلوا منها . وقد رأيت بنفسى شبابا من تنظيمات القاعدة والجهاد والجماعة الاسلامية يمسكون كتابا اسمه التوحيد ولا يناقشونه بل يبحث كل فرد منهم على عبارة فى الكتاب تؤكد رأيه وكانوا يناقشون مسألة العذر الجهل أو التكفير بين تكفير الأعيان والتكفير العام . والطريف أن صاحب كل وجهة نظر كان يجد فى عبارة ما ما يؤكد وجهة نظره . وكان الكتاب يضم موضوعات من ابن تيمية وعبد الوهاب وأولاد عبد الوهاب . ويتصور المنتمون لهذه الجماعات أن مسألة التكفير مسألة عقائدية قديمة ولا جديد فيها وبالتالى فإن ما قاله الأقدمون يكفى .
الخطأ الثانى أنهم يختارون أئمة دون أئمة وكأن الذين اختاروهم يحتكرون الصواب . ولم يكن هذا رأى الأقدمون أنفسهم ، ليس فقط للمقولة الشهيرة : رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب . ولكن لأن كثيرا من كبار الأئمة تعاصروا وتعاونوا واحترم بعضهم بعضا وتتلمذ بعضهم على يد البعض الآخر كما تتلمذ الشافعى على يد مالك مثلا . والخطأ الثالث أن العالم الواحد تختلف آراؤه من مرحلة لأخرى . وستجد فى فتاوى ابن تيمية وقد كان غزير الانتاج مواقف تختلف من وقت لآخر وهذا ليس عيبا ، فأى عالم حقيقى يمكن أن يغير رأيه من وقت لآخر ، وقد تظهر له زوايا لم يرها من قبل . والمثل الشائع أن فقه الشافعى اختلف فى مصر عن العراق ، وهذا منطقى لأن الظروف والوقائع تختلف وهذا يؤثر على الفتوى رغم ثبات النصوص العامة فنحن هنا نتحدث عن الفروع وهى كثيرة .
ولنأخذ من حديث عبد السلام فرج مثالا حيا . فهو يقول إن التتار أدعوا فى مرحلة ما فى عهد ابن تيمية أنهم دخلوا الاسلام ولم يكونوا صادقين فأمر ابن تيمية بمواصلة قتالهم لأن إدعاءهم الاسلام غير حقيقى وكانت هناك شواهد عملية ظاهرة على ذلك . وهذه الخلفية وتلك الظروف لا يمكن مقارنتها بنظام السادات . لايمكن مقارنة نظام 23 يوليو مهما كان رأيك فيه بالتتار ، فهذا موضوع وهذا موضوع آخر . والضباط الأحرار ليسوا غزاة أجانب كافرين وإذا أردت أن تناقش وضعهم على أساس الشرع فدعك من قصة التتار ، فقصة التتار ليست هى التى ستساعد على تكفيرهم .
معضلة التكفير فى العصر الحديث
ولكن لنبدأ بحديث ابن تيمية عن المرتد فى كتاب الفتاوى الكبرى فلن نجد شيئا يصلح لتكفير حكم السادات . باختصار هو يقول عن المرتد إنه المشرك بالله أو المبغض للرسول صلى الله عليه وسلم أو ترك منكرا بقلبه أو أنكر مجمعا عليه قطعيا أو جعل بينه وبين الله وسائط ومن شك فى صفة من صفات الله . وأن من حكم عليه بالردة فأنكر حكم بإسلامه ولايحتاج أن يفى بما شهد عليه به ثم تحدث عن التنجيم والسحر .
راجع نص ابن تيمية ص 442 – 443 باب حكم المرتد
الفتاوى الكبرى – المكتبة القيمة للطباعة والنشر والتوزيع – المجلد الرابع – الطبعة الأولى 1988 – الناشر دار الغد العربى – العباسية – القاهرة
أما فتواه فى قتال التتار فجاء فيها :
وأما الأصل الآخر وهو معرفة أحوالهم . فقد علم أن هؤلاء [ ص: 520 ] القوم جازوا على الشام في المرة الأولى : عام تسعة وتسعين وأعطوا الناس الأمان وقرءوه على المنبر بدمشق ومع هذا فقد سبوا من ذراري المسلمين ما يقال إنه مائة ألف أو يزيد عليه وفعلوا ببيت المقدس وبجبل الصالحية ونابلس وحمص وداريا وغير ذلك من القتل والسبي ما لا يعلمه إلا الله حتى يقال إنهم سبوا من المسلمين قريبا من مائة ألف وجعلوا يفجرون بخيار نساء المسلمين في المساجد وغيرها كالمسجد الأقصى والأموي وغيره وجعلوا الجامع الذي بالعقيبة دكا .
وقد شاهدنا عسكر القوم فرأينا جمهورهم لا يصلون ولم نر في عسكرهم مؤذنا ولا إماما وقد أخذوا من أموال المسلمين وذراريهم وخربوا من ديارهم ما لا يعلمه إلا الله .
ولم يكن معهم في دولتهم إلا من كان من شر الخلق .
وهم يقاتلون على ملك جنكسخان . فمن دخل في طاعتهم جعلوه [ ص: 521 ] وليا لهم وإن كان كافرا ومن خرج عن ذلك جعلوه عدوا لهم وإن كان من خيار المسلمين . ولا يقاتلون على الإسلام ولا يضعون الجزية والصغار .
بل غاية كثير من المسلمين منهم من أكابر أمرائهم ووزرائهم أن يكون المسلم عندهم كمن يعظمونه من المشركين من اليهود والنصارى كما قال أكبر مقدميهم الذين قدموا إلى الشام وهو يخاطب رسل المسلمين ويتقرب إليهم بأنا مسلمون . فقال هذان آيتان عظيمتان جاءا من عند الله محمد وجنكسخان . فهذا غاية ما يتقرب به أكبر مقدميهم إلى المسلمين أن يسوي بين رسول الله وأكرم الخلق عليه وسيد ولد آدم وخاتم المرسلين وبين ملك كافر مشرك من أعظم المشركين كفرا وفسادا وعدوانا من جنس بخت نصر وأمثاله .
وذلك أن اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيما فإنهم يعتقدون أنه ابن الله من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح ويقولون إن الشمس حبلت أمه وأنها كانت في خيمة فنزلت الشمس من كوة الخيمة فدخلت فيها حتى حبلت . ومعلوم عند كل ذي دين أن هذا كذب . وهذا دليل على أنه ولد زنا وأن أمه زنت فكتمت زناها وادعت هذا حتى تدفع عنها معرة الزنا وهم مع هذا يجعلونه أعظم رسول عند الله في تعظيم ما سنه لهم وشرعه بظنه وهواه حتى [ ص: 522 ] يقولوا لما عندهم من المال هذا رزق جنكسخان ويشكرونه على أكلهم وشربهم وهم يستحلون قتل من عادى ما سنه لهم هذا الكافر الملعون المعادي لله ولأنبيائه ورسوله وعباده المؤمنين .
مجموع فتاوى ابن تيمية – اسلام ويب
وبدون أى دفاع عن نظام السادات وقد كنت معارضا شديدا له وصدر أمر باعتقالى عام 1972 ولكننى أفلت منه ، فلا وجه للمقارنة بينه وبين نظام التتار الغازى المتوحش . ولا توجد مقارنة بين السادات والله أعلم بسريرته ولنا الظاهر وبين هذه المعتقدات الفاسدة المشار إليها .
لا أريد التوغل فى هذه المقارنة فالأمر يبدو فساده واضحا . ولكننى أقف عند المقولة التى سارت مثلا : الطائفة الممتنعة عن تطبيق الشريعة الاسلامية وأن مقاتلة الكافر الأقرب أولى من مقاتلة الكافر الأبعد وهو الأمر الذى يكرره حتى الآن قادة داعش ليبرروا عدم مقاتلة اسرائيل . بل يقولوا صراحة نحن نقاتل كافة الأنظمة العربية أولا وبعد ذلك نتفرغ لاسرائيل . ولكن ثبت أن قاعدة سوريا – الجولانى تعاونوا بالفعل مع اسرائيل وكل مخابرات الغرب ضد النظام السورى .
الابتعاد عن التطبيق الشامل للشريعة الاسلامية مسألة مركبة فقد
تدهورت أحوال الدولة الاسلامية الكبرى الأخيرة ، الدولة العثمانية على مدار أكثر من قرن على الأقل منذ بداية القرن 19 حتى عام 1924 يوم الاعلان الرسمى عن إلغاء دولة الخلافة الاسلامية على يد أتاتورك . والدولة العثمانية بشكل عام لم تكن على مايرام فى كل تاريخها ولكنها مرت بمرحلة صعود ثم مرحلة هبوط كأى دولة عظمى .
منذ السقوط الرسمى للدولة العثمانية حدث إنفصال وإنفصام كلى بين السياسة والدين وبين الدولة والدين .
وعبر عن هذه اللحظة التاريخية المأسوية أمير الشعراء أحمد شوقى وهو لم يكن أصوليا أو شديد التدين بالمعنى التقليدى فقال ما أبكى جموع المسلمين :
ضَجَّتْ عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنَابِرٌ
وَبَكَتْ عَلَيْكَ مَمَالِكٌ وَنَواحِ
الهِنْدُ وَالِهَةٌ وَمِصْرُ حَزِينَةٌ
تَبْكِي عَلَيْكِ بِمَدْمَعٍ سَحَّاحِ
وَالشَّامُ تَسْأَلُ وَالعِرَاقُ وَفَارِسٌ
أَمَحَا مِنَ الأَرْضِ الخِلافَةَ مَاحِ
وَأَتَتْ لَكَ الجُمَعُ الجَلائِلُ مَأتَمًا
فَقَعَدْنَ فِيهِ مَقَاعِدَ الأَنْوَاحِ
يَا لَلرِّجَالِ لَحُرَّةٍ مَوْءُودَةٍ
قُتِلَتْ بِغَيْرِ جَريرَةٍ وَجُنَاحِ
كان الدين مجدولا بالسياسة والعكس بالعكس دون أن يكون التكفير هو المسألة الأساسية الطافية على السطح إلا حركات الخوارج التى كانت على هامش الحياة السياسية الاسلامية والتى كانت تظهر وتختفى دون أن تصل إلى الحكم أو تستقر فيه إن وصلت و أحيانا حدث ذلك فى بلاد المغرب .
ما يهمنا الآن أن الحركات الاسلامية التى بدأت تظهر فى العشرينيات من القرن العشرين وحتى الآن اتسمت بالضحالة السياسية ، فقد نشأت بعيدة عن السياسة وتصورت أن عليها أن تعيد العمل بالدعوة للاسلام وكأنها تدعو إلى دين جديد أو إلى الدين من جديد . ويكفى من السذاجة أن تتصور مجموعة من الشباب أنه يمكن إدارة الصراع وحل مشكلات البلاد بالعودة إلى كتابات ابن تيمية وابن القيم وغيرهما دون أن يدرسوا أحوال البلاد والعالم من حولهم . كما قال أحد العلماء إن اثنين دخلا للسباحة فى البحر وكان أحدهما يحفظ القرآن والآخر لايحفظه وكان الأول لايجيد السباحة والثانى يجيدها فعندما قامت عاصفة نجا الذى تعلم السباحة ولم ينجو حافظ القرآن . هذا المثال البسيط يقول إن التفقه فى الدين لا يغنى عن التفقه فى الواقع . والحقيقة فإن العملية واحدة فالفقه هو إنزال النص على الواقع ، فإذا لم تكن تفهم الواقع فكيف ستستطيع الاستفادة بالنص . بل لقد وصل الأمر بتيار داخل الاخوان المسلمين وتحول إلى تيار منشق أن يدعو للتفقه فى الدين وعدم قراءة أى كتب أخرى لأنها من قبيل العلم الذى لاينفع . وتكاد بعض الجماعات تحرم قراءة الكتب العمومية غير المتخصصة فى العلوم الشرعية لأنها على الأقل مضيعة للوقت . وقد سمعت بنفسى بعض خطب جمعة فى مساجد بأحياء راقية مستواها الثقافى عاليا والخطيب يحث الناس على عدم قراءة الصحف ، وقرأت للشيخ سعيد الحوى وهو من أبرز رموز الاخوان يدعو لمقاطعة التلفزيون .
وعلى الجبهة الأخرى كان المتعلمون فى المدارس العامة الحكومية والأجنبية أكثر انفتاحا على الدنيا وما فيها وأصبحوا هم مصدر قيادات وحكام البلاد , وأصبحت الطبقة السياسية ذات ثقافة عصرية منفتحة على كل العلوم وأصبحت أقرب للثقافة الغربية . وفى المقابل أصبح التعليم الدينى والأزهرى أكثر بعدا عن العلوم الطبيعية والاجتماعية ، قبل تطوير الأزهر فى عهد عبد الناصر ، والطريف ان بعض الاسلاميين يهاجمون هذا التطوير باعتباره أخرج الأزهر عن رسالته الدينية !
أقصد أن الحياة السياسية أصبحت حكرا على المثقفين مدنيا وغربيا إن جاز التعبير بينما كان قادة الأمة عادة من الأزهر : أحمد عرابى – سعد زغلول .
بالتوازى وبغض النظر عن الأساس التعليمى فإن الحركات الاسلامية ركزت على الثقافة الاسلامية التقليدية ولم تكد تدرى الكثير عما يجرى فى عالم السياسة والاقتصاد فى البلاد أو الاقليم أو العالم . والميل إلى التكفير نشأ بسبب غياب الرؤية الكلية والشاملة للمجتمع . فالابتعاد عن التطبيق الشامل للشريعة الاسلامية يرتبط بالاستعمار الأجنبى ، فالاحتلال البريطانى هو الذى ألغى الالتزام بالقوانين الاسلامية فى نفس عام الاحتلال 1882 عدا الأحوال الشخصية . فنشأت ثقافة سياسية لا تعرف ولا تعلم إلا تطبيق القوانين الغربية رغم أن بعض هذه القوانين أصلها إسلامى ، فهى بضاعتنا ردت إلينا . فالمعروف أن كود نابليون أو قانون نابليون هو ترجمة لقوانين على المذهب المالكى ترجمت للغة الفرنسية عبر الأندلس ، ولذلك لاحظ القانونيون المصريون أن القانون المدنى المصرى قريب من التشريع الاسلامى . ولكن يظل أن النظام القانونى العام وأسس الممارسة السياسية كانت مجرد تقليد للنظم الغربية . وكان خريجو الكلية الحربية امتدادا لنفس النظام التعليمى الغربى . ولذلك فإن الثقافة العامة للطبقة السياسية فى الحكم وخارج الحكم لم تتعلم ربط الدين بالسياسة ولا تعرف كيف يتم ذلك ، لأن ذلك مرتبط بحد أدنى من الثقافة الاسلامية . والتعليم الأزهرى لايعوض ذلك لأنه يميل إلى الناحية الأخرى : العلوم الشرعية بدون متابعة للتطورات العالمية الجديدة . تطوير التعليم بالأزهر تم بشكل متواز فهو ضم ثقافة اسلامية للكليات النظرية والعملية ولكن لم يقم بعملية دمج ، وهذه مسألة تحتاج لثورة تعليمية ، كتطوير الطب استفادة بما ورد فى القرآن والسنة النبوية المؤكدة وأيضا الاستفادة من الطب الشرقى الذى تقدم على الطب الغربى ، وعدم الاكتفاء بالأخير . وأضرب مثالا واحدا ، فى البلاد الغربية توجد معاهد متخصصة فى النحل وعسل النحل .. وأعلنت منظمة الصحة العالمية عن 500 دواء وعلاج مشتقة من العسل والنحل . ولكن لم نسمع عن معهد واحد مماثل فى البلاد الاسلامية .
خلاصة الأمر أن المجتمع المصرى والعربى وفى كل بلاد المسلمين ابتعد عن الاسلام نظريا وعمليا ، وانخفض منسوب الثقافة الاسلامية الحقة . وإذا دخلنا فى مسألة التنابز بالألقاب ، أى تبادل الاتهامات فسننتهى إلى تكفير بعضنا بعضا جميعا ، وهى حماقة لن تؤد إلى شىء إلا البلاء والفوضى والكراهية المتبادلة . والأحسن أن نعود إلى مائدة الاسلام بهدوء واحترام ونتعلم جميعا ، وأن نتعلم آداب الحوار ونصبر على بعضنا بعضا .
إن الكتابات التى كفرت نظام السادات يمكن أن تستخدم بسهولة لتكفير الأمويين والعباسيين وكل العصور الاسلامية . الاتهام بالتكفير تبسيط للمشكلات وتحفيز لمجرد الصراع على السلطة ، وهو أمر لايبرىء من يتهم الآخرين بالجرم المشهود .
سنلحظ وهو أمر ملفت للنظر أن القرآن والسنة المشرفة ليس فيهما موضوع اسمه التكفير أى الاتهام بالكفر . فالكافر أو المشرك كان يعلن عن نفسه صراحة ولا يحتاج لإتهامه بالكفر أى تكفيره ، بينما علمنا القرآن الكريم و الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقبل أى إعلان بالاسلام دون أن نفتش فى النوايا . أما غير المسلم من أهل الكتاب فهو حر ومحاط بكل الضمانات كى يمارس عقائده . وفى البلاد التى تفتح فقد كان يكفى أن يدفع غير المسلم جنيها ليبقى حرا على دينه أى دينارا وحدا فى السنة مع إعفاء الأطفال والنساء والمرضى والشيوخ والعابدين فى الصوامع والفقراء ، وهى ضريبة رمزية ، بدل جندية وتسقط فى حالة المشاركة فى القتال .
لم تكن هناك تهمة سياسية أو دينية اسمها التكفير ، حتى الخوارج اعتبروا دوما مسلمين كما وضع القاعدة على بن أبى طالب رضى الله عنه ورغم أن الخوارج كانوا يكفرونه . أى أن الخوارج هم أصحاب هذه التهمة التى لم يعترف بها المجتمع ، وورثتها بعض الجماعات الاسلامية المعاصرة، وأصبحت موضة العصر داخل تيار واسع فى مقدمته الآن داعش والقاعدة .
فى الاسلام يكفى ما أشار إليه ابن تيمية فى الاقتباس السابق ، يكفى أن ينفى المسلم اتهامه بالردة لتسقط هذه التهمة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) النساء
وفى رياض الصالحين نجد الحديث المتفق عليه
عن أُسامةَ بنِ زَيْدٍ رضي اللَّه عنهما قَالَ: بعثَنَا رسولُ اللَّه ﷺ إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنا الْقَوْمَ عَلى مِياهِهمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنهُمْ، فَلَمَّا غَشيناهُ قَالَ: لا إِلهَ إلَّا اللَّه، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصارِيُّ، وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدينَةَ بلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ لِي: يَا أُسامةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّه إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، فَقَالَ: أَقَتَلْتَهُ بَعْدَمَا قَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ؟! فَما زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ. متفقٌ عَلَيهِ.
وفي روايةٍ: فَقالَ رسولُ اللَّه ﷺ: أَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاحِ، قَالَ: أَفَلا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لا؟! فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَومَئذٍ.
وهناك رواية مماثلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد بنفس الوقائع وبنفس الألفاظ لرسول الله .
وقصة تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين طوال فترة وجوده فى المدينة تؤكد نفس القاعدة حيث أنه لم ينفذ حد الردة على أى واحد منهم ، أى اعتبرهم مسلمين أو مواطنين بالدولة الاسلامية . ويمكن مراجعة ذلك فى كتب السيرة وكذلك فى دراستى حول حد الردة المنشورة على النت فى مدونتى الخاصة
magdyhussein.id
وحتى الخروج على الحاكم لعلة الكفر يرتبط بصراحته فى إعلان الكفر :
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأوزاعي عن يزيد بن يزيد بن جابر عن رزيق بن حيان عن مسلم بن قرظة عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف فقال لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة). رواه مسلم .
وحتى إذا تأكد الكفر بالإعلان المباشر وهذا نحسبه واضحا فى حالة كمال أتاتورك حاكم تركيا الذى ألغى الخلافة الاسلامية وألغى الآذان وألغى الحرف العربى الذى كانت تكتب به اللغة التركية
وحارب الاسلام علنا وصراحة إلى حد التضييق على المساجد و وعلى الصلاة والدعاة والتعليم الدينى . ولكن الخروج عليه ، والمقصود فى الفقه الخروج المسلح ، لا يجوز إلا فى حالة القدرة ، والشيخ الألبانى وصف هذه الحالة بأنها الحالة المكية ، حيث تتم الدعوة إلى الاسلام سرا ثم علنا ولكن بدون خروج مسلح على الحاكم ، وجاء ذلك فى إطار إعتراضه على الخروج المسلح على النظام السورى. وتتفق المذاهب السنية على أن الخروج على الحاكم لا يجوز إذا كان سيؤدى إلى فتنة أكبر . وهذا تعبير سياسى دقيق . أى حتى فى حالة الكفر الصريح للحاكم أو الظلم البين فإن الخروج عليه بدون قدرة أو استطاعة على حسم الأمر سريعا سيؤدى إلى استنزاف دموى للشعب بدون جدوى بل ستكون الأحوال هكذا أشد سوءا . ومن الأمثلة المعاصرة الجيدة فى هذا المجال تراجع جبهة الانقاذ الاسلامية الجزائرية عن حمل السلاح عندما تبين لها أن الصراع مع نظام الانقلاب العسكرى لايحقق سوى تفجر شلال من الدماء ، وحرمة الدم فى الاسلام فى مقدمة الحرمات . فأعلنوا حل الجناح العسكرى للجبهة بعد قرابة عام على انفجار الصراع مع الجيش الجزائرى فى أوائل التسعينيات من القرن العشرين . ونتحدث هنا عن القدرة مع افتراض صحة تكفير الحكام ، وإن كنت أرفض مصطلح التكفير فى حد ذاته كما أسلفت فى الحديث .
والمثال الآخر ، وهو عبثى ، هو إصرار بعض الاسلاميين فى سوريا والمشرق العربى على مواصلة ما يسمى الثورة السورية . فإذا افترضنا أن ما جرى فى سوريا على مدار أكثر من 10 سنوات ثورة اسلامية وأن النظام السورى نظام كافر فإن الاستمرار فى الدعوة لاستكمال هذه الثورة من إدلب بعد موت قرابة نصف مليون سورى إذا أخذنا بأكثر الاحصاءات تشاؤما وإن كانت تكفينا أقل التقديرات وهى ثلث مليون ، وهجرة نصف الشعب السورى للخارج ، فهذه رغبة سادية فى استنزاف الشعب السورى بينما لايبدو النظام السورى مهددا حتى الآن بل هو أقوى وأكثر سيطرة وانتشارا بالمقارنة مع سنوات مضت . نقول إن قاعدة القدرة أو الاستطاعة تكفى للتوقف عن هذا العبث فى إدلب وأماكن متفرقة فى درعا والبادية وواضح أن هذه البؤرة تعيش تحت الرعاية الأمريكية والتركية والقطرية والسعودية والأردنية ولايمكن أن تمثل علامات على استمرار ثورة اسلامية .
ومن ناحية أخرى فإن النظام السورى ليس اسلاميا بالتأكيد ، ولكن إذا كان المشروع الاسلامى الحق يؤمن بالاستقلال وبمحاربة النفوذ الصهيونى الأمريكى فما كان له أن يضع النظام السورى على رأس أولويات الجهاد الاسلامى على مستوى العالم بأسره . فالنظام السورى على كثرة اعتراضاتنا عليه هو الذى يقوم بحكم موقعه وتحالفاته بتوفير السلاح والمعونات المختلفة للمقاومة فى لبنان وفلسطين ومن قبل فى العراق ضد الاحتلال الأمريكى . أما القوى المعارضة له التى ترفع راية الاسلام فهى خاضعة لأمريكا والغرب وقطرو السعودية وتركيا واسرائيل .
راجع دراسة الثورة السورية المغدورة للكاتب فى نفس المدونة
magdyhussein.id
حكاية الفئة الممتنعة عن تطبيق الشريعة
ونعود لكتاب عبد السلام فرج ” الفريضة الغائبة ” ونحن لم نبتعد عنه فمسألة التكفير ظلت متوارثة ويحمل رايتها تنظيم وراء تنظيم فى مصر وغيرها من بلاد العرب والمسلمين . وهذا الكتاب بالمعايير الفقهية يعد من الوزن الخفيف ، ولكنه ساهم بشكل مباشر فى توجيه الجماعة الاسلامية إلى العنف وساهم بشكل مباشر فى إغتيال السادات بل هو شخصيا قام بدور أساسى فى الترتيب العملى للواقعة مع خالد الاسلامبولى قائد عملية الاغتيال والذى كانت تربطه به صلة شخصية وارتباط عقائدى وتنظيمى .
ذكرنا أنه صاحب مقولة أن الكافر أو العدو القريب أولى من البعيد . وبعد أن كفر حاكم مصر أصبح هو الأقرب الذى يتعين الجهاد ضده ، حتى بدون أى رؤية استرتيجية ، حتى وإن كانت خاطئة ، نحن أمام حالة من السطحية والسذاجة . ولكن هذه الفكرة لازالت قائمة عند البعض حتى الآن . بل قام المشروع الداعشى على أساسها . ولمصعب الزرقاوى مؤسس الدولة الاسلامية الأولى فى العراق كلام واضح فى هذا الشأن . فهو يقول بضرورة إسقاط كل النظم العربية بالكفاح المسلح باعتبارها هى العدو الأقرب وبعد تحرير كل المنطقة العربية خاصة فى المشرق يبدأ الجهاد ضد اسرائيل . وهكذا ترى اسرائيل ان هذه الحركات أكبر وأهم حاجز صد ، إذ تشغل العرب مع بعضهم بعضا وتترك اسرائيل تبنى قوتها وإنتشارها فى المنطقة ، ولولا وجود محور المقاومة لكانت مكاسب اسرائيل من هذه الحركات الداعشية أكبر من ذلك بكثير .
كما ذكرنا فإن إبتعاد الطبقات الحاكمة عن الالتزام التام بالشريعة الاسلامية مسألة تاريخية استمرت لأكثر من قرنين ، ولا تحل بتكييل الاتهامات بالتكفير ، ولا يسلم من يوجه هذه الاتهامات من نفس الأوزار .
جاء على الموقع الالكترونى لدار الافتاء :
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال عبر الموقع الإلكتروني، نصه: «ما حكم قول المسلم لأخيه المسلم يا كافر؟».
وأجابت الإفتاء بأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتهم أخاه المسلم بالكفر؛ لأن ذلك من أعظم الذنوب التي يرتكبها المسلم؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِر؛ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا؛ إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلا رَجَعَتْ عَلَيْهِ» رواه مسلم. ومعناه: فقد رجع عليه تكفيره؛ فليس الراجع حقيقةً الكفرُ، بل التكفير؛ لكونه جعل أخاه المؤمن كافرًا؛ فكأنه كفر نفسه؛ لأنه كفَّر مَن هو مثله، وإما لأنه كفَّر مَن لا يُكفِّره إلا كافرُ يَعتقد بطلان دين الإسلام.
وانتهت إلى أنه على من قال لأخيه: «يا كافر» أن يسارع بالتوبة والندم والاستغفار حتى يغفر الله سبحانه وتعالى له.
وأضيف لهذا المعنى العام الصحيح ، عندما يتعلق الأمر بمخاطبة الحكام ، ضرورة فهم أن معظم هؤلاء الحكام فى البلاد العربية والاسلامية هم من خريجى المدارس الحكومية أو الأجنبية وبالتالى هناك مسألة استعصاء فى استيعاب وتطبيق الشريعة الاسلامية فالاجتهاد فى الاسلام مرتبط بالعلم . ورجال السياسة لايمكن أن يحولوا أنفسهم إلى مجرد أدوات لتنفيذ ما يقوله المجتهدون من العلماء . كما أن هناك أزمة فى هذه الجبهة الأخرى أزمة فى عملية الاجتهاد والتجديد الفقهى لمتابعة الوقائع الجديدة للعصر . فمجتمعاتنا العربية والاسلامية فى أشد الاحتياج لثورة فى الفقه والاجتهاد الجماعى من خلال مجالس متخصصة تشمل العلماء فى علوم الشرع والمتخصصين فى مختلف المجالات من العلماء وأيضا رجال الدولة والسياسة . وهذه مسألة تحتاجها الأمة ولابد أن تجرى أو تجرى فعلا كضرورة حياتية تفرض نفسها بدون أطر تنظيمية واضحة وبدون مجالس متخصصة ، ولكن لابد فى النهاية أن ننتهى إلى هذا النوع من المجالس المتخصصة ومجلس أعلى جامع للاجتهاد والتجديد برؤية شمولية غير متجزئة .
الحريص على عودة الاسلام لكى يكون مظلة للوطن لابد أن يسعى أولا إلى إعادة نشر الثقافة الاسلامية فى شتى المجالات .. ولكن الحركات الاسلامية تناولت جوانب من الاسلام دون الأخرى فهناك من ركز على العبادات والشعائر ، وهناك من ركز على الرقائق والروحانيات كالصوفية ومنها من ركز على النواحى الأخلاقية ، ومنها من طالب بالعودة الفورية والشاملة للمرجعية الاسلامية وباستخدام السلاح ! وعلى عكس الشائع المغلوط فإن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يقم الدولة الاسلامية بالقوة ، وظل يدعو للاسلام فى مكة أهل مكة وكل العرب القادمين لأداء العمرة أو الحج لمدة 13 عاما وما آمن معه إلا قليل ، وعندما هاجر إلى المدينة كان قد أرسل من قبله بعام تقريبا مصعب بن عمير ولحقه فى بعض الروايات ابن أم مكتوم لنشر الدعوة الاسلامية بعد إسلام ثلاثة وسبعين من أهل المدينة فى بيعة العقبة الثانية أثناء وجودهم فى مكة . وانتشر الاسلام بالفعل حتى أن محمدا عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلى المدينة كان أغلب سكانها قد دخلوا الاسلام ولذلك استقبل استقبال الفاتحين وكان وحده مع أبى بكر ولم يأت بقوة مسلحة ولم يفرض نفسه حاكما بعد كونه نبيا بأى قوة مسلحة بل برضاء الناس واقتناعهم . وقد تكرر نفس المشهد فى فتح مكة فكان فتحا سلميا بعد الانتشار الواسع للاسلام فى مكة والجزيرة العربية عقب صلح الحديبية عدا حادثة واحدة معزولة تم تطويقها سريعا . وبين الفتحين السلميين للمدينة ومكة حدثت العديد من الغزوات والسرايا لدوافع شرحها كتاب السيرة وكتبت عنها فى كتاب سنن التغيير فى السيرة النبوية الشريفة ، منها ضرورة استرداد بعض الأموال المنهوبة للمهاجرين ، ومنها تحقيق الردع مع سلطات مكة ..
الأصل هو نشر أو إعادة تجديد نشر الدعوة الاسلامية وتطبيقها على كل مناحى الحياة وهو ما يستدعى اجتهادا جديدا خاصة فى أمور السياسة والاقتصاد . ولن تجد فى كتاب الفريضة الغائبة ولا فى أى كتاب آخر لهذه الحركة أى تصور عن تطبيق الشريعة والرؤية الاسلامية فى القرن العشرين . بل حتى المفكر سيد قطب الذى
اعتبر أن المجتمع المصرى غير مسلم لم يقدم تصورا لكيف تكون الدولة الاسلامية بل قال صراحة إن حلول مشكلات المجتمع لا يجوز الحديث فيها الآن وأن المسلمين الحقيقيين سيكونون قادرين على ذلك فى المستقبل – فى ظلال القرآن – تفسير سورة يوسف .
انتقال التصور العام الاسلامى إلى الواقع السياسى لا يتم بمجرد التركيز على أداء العبادات أو الدعوة إلى الحجاب والإلحاح على ذلك ثم النقاب ثم اللحية . والدعاة الذين اعتمد عليهم أبناء الجماعة الاسلامية لايملكون هذا التصور . فهذا الفريق من الدعاة وإن كان بعضه أزهريا إلا أنه سقط فى مسألة الفصل بين الدين والسياسة بالمقلوب ، فهم يجيدون الحديث والكتابة حول الدين بدون تطبيقه على الواقع الذى لايدرسونه بنفس العمق . وسنعود لتلك النقطة بالتفصيل فيما بعد لأن البعض يتصور أن السياسة مسألة سهلة وبسيطة ، والحقيقة أن السياسة تعنى الواقع كله ودراسة الواقع بأكمله فى مختلف المجالات وعلى المستويات الوطنية والقومية والاقليمية والدولية . وظن الناس جميعا بعد 25 يناير أنهم خبراء في السياسة فكيف لايشعر الاسلاميون بذلك . و النقطة التالية متصلة بهذه المسألة .. مسألة الوعى والادراك السياسى.
عدم ثقة تنظيم الجهاد بالشعب
من أسباب الاندفاع فى عملية إغتيال الرئيس السادات وربطها بإنتفاضة مسلحة رغم إدراك قادة الجماعة الاسلامية والذين اندمجوا فى تلك الفترة مع الجهاد – كان عبد السلام فرج من الجهاد – أن قواعدهم الجماهيرية ليست كافية ولكن تفكيرهم لا يتسع لفكرة إنضاج الجماهير والصبر عليها حتى تقتنع بمشروعهم ، ولذلك تعجلوا فى تلك المرة وكل مرة فى مصر وخارج مصر للقيام بإنتفاضة مسلحة بقواهم المحدودة بهدف الاستيلاء أو خطف السلطة فى غفلة من الزمن .
هم لا يدركون فكرة تثوير الجماهير أو توعية الجماهير ويكتفون بجذب مجموعات من المجاهدين بالعشرات أو المئات أو بضع آلاف ليفكروا فى الاستيلاء على السلطة . وهذا مرض شائع ومتكرر ويؤدى إلى العنف ويؤدى إلى الفشل المحتوم . فى أوائل الثمانينيات أجريت حوارا مع بعض قادة الجهاد أذكر منهم مجدى سالم الذين خرجوا من السجون ونشر هذا الحوار فى جريدة الشعب . ومن أهم ما أدركته فى هذا الحوار وربما لم أنشره أن محاورى قال لى صراحة عندما سألته عن سبب لجوئهم للعنف واستعجالهم فيه : إنهم لا يؤمنون بقدرة الشعب المصرى على القيام بثورة ولذلك لابد أن نقوم نحن بالثورة ونعيد بناء وتربية الشعب بعد ذلك ، ولأننا قلة فلابد من إستخدام السلاح . وقد لاحظت هذه النظرة المتعالية على الشعب المصرى لدى مختلف التنظيمات الاسلامية بدون استثناء ، وكأن الاسلاميين هؤلاء ليسوا بمصريين ، وقلت لهم مرارا إذا لم تكونوا تؤمنون بهذا الشعب ، فلابد إن كنتم جادين أن تهاجروا جميعا من هذا البلد وتسافروا إلى أفغانستان أو أى بلد آخر تؤمنون بشعبه . وفى حالة تنظيم الجهاد فقد كانت الفكرة شديدة التأصل لذلك فهم لا يؤمنون بالعمل الجماهيرى ويتحركون عندما يكون عددهم بالعشرات أو بضع مئات للاستيلاء على السلطة أو على الأقل البداية فى تحديها . ولكن الجماعة الاسلامية أكثر إيمانا بالعمل الدعوى الجماهيرى ولكنهم عندما تعترضهم المشكلات يندفعون للعمل المسلح ويتورطون فيه وأنا أتحدث عنهم حتى وقت مبادرة وقف العنف التى بدأت فى أواخر التسعينيات من القرن العشرين .
فى أحاديث قادة الجماعة عن أحداث الاغتيال وأسيوط ، يؤكدون أنهم كانوا مدركين عدم صحة عملية الاغتيال لأن الإعداد للثورة الشعبية لم يكتمل بعد ، وبالفعل كانت الأغلبية ضدهذه الخطوة ولكن حملة الاعتقالات والهجوم الذى شنه السادات فى خطابه على الاسلاميين يوم 5 سبتمبر 1981 أقنعهم بضرورة الاسراع بتنفيذ الفكرة على الأقل لحماية أنفسهم . وهى فكرة ساذجة ، فالأعمال الارهابية الفاشلة لا تحمى أحدا بل هى تساعد أى سلطة على أن تبطش بقوة والحجة معها . حقا هذا لم يحدث فى لحظة تسلم مبارك للحكم لأسباب سنأتى إليها . ولكن الصدام المسلح عاد ليتجدد فى أوائل التسعينيات من القرن العشرين . وهكذا لايمكن القول بإغتيال رئيس الدولة كعمل من عمليات الحماية أو التغيير . هذا التفكير غير وارد فى قاموس العمل السياسى عبر التاريخ . أقصد العمل السياسى الناجح وإلا فإن التاريخ مليىء بوقائع إغتيال الملوك بدون أى تغيير فى النظام ، كما حدث فى روسيا من تكرار محاولات إغتيال القياصرة وقد نجحت أحيانا دون تغيير النظام الملكى القيصرى والثورة الشعبية وحدها هى التى نجحت فى ذلك . ولاشك أن السادات شجع بتصرفاته وتصريحاته وهيأ المسرح للاغتيال ، وكأن البلد فى عقدة لن تحل إلا برحيله ، ولكن هذه مسألة يتناولها المؤرخون . ولست من أنصار هندسة التاريخ بمعنى القول لو كان هذا قد حدث يكون أفضل ، ففى التاريخ ما حدث قد حدث وانتهى والمهم أن تحلله وتفهم أبعاده والدروس المستفادة منه . وما يهمنا هنا المسألة الشرعية والمرتبطة بالعمل السياسى .. فلا شرعية لعملية الاغتيال لأنها ببساطة لم تحقق هدفا وطنيا ، ولا هدفا اسلاميا . ليس إغتيال الحاكم وسيلة شرعية للتغيير ، و عواقب ما حدث تؤكد ذلك .
الفتاوى السياسية المميتة
يقول قادة الجماعة الاسلامية فى أحاديثهم الكثيرة بعد تنفيذ مبادرة وقف العنف وأيضا بعد ثورة 25 يناير . أن الشيخ عمر عبد الرحمن هو الذى أفتى لهم بجواز الإعتداء على النصارى للاستيلاء على الذهب لتمويل النشاط الجهادى ذلك بأنهم محاريون . ولا أدرى لماذا نصارى مصر محاربون ؟ فالخلاف العقدى لا يضعهم فى خانة المحاربين . المهم لقد حدثت عدة حوادث سطو على محلات الذهب وأدت أحيانا إلى إصابة أو قتل عدد من النصارى . وهذا أمر مؤسف ، وتطبيق لشعار” العدو” الأقرب أخطر من العدو البعيد ، وقد ظهر هذا فى ممارسات عدائية أخرى ضد النصارى وأدى إلى تعميق الفتنة الطائفية . ما يهمنا أن التمويل توفر لشراء السلاح وأدوات القتال عموما والتجهيزات له . حتى قبل قرارات 3 سبتمبر عام 1981 .
وكانت خطة عبد السلام فرج تقوم على الاغتيال وفى نفس الوقت تحدث هبة فى الصعيد حيث تتركز قوة الجماعة ويصدر بيانا من التلفزيون بموت السادات وإعلان الدولة الاسلامية وتحريك مظاهرات فى القاهرة لإنجاح الثورة . ويقولون إن الخلل أصاب عملية التنفيذ ، وبطبيعة الحال فإن من يقوم بثورة لايمكن أن يصيبه الخلل فى أبسط الأمور، فيقال مثلا بحدوث خلل فى الاتصال بين بحرى وقبلى! وأن مجموعة الصعيد ظنوا ان عملية إغتيال السادات قد أجلت أو ألغيت . حتى علموا مساء 6 أكتوبر فى اعلام الحكومة أن السادات أصيب فى كتفه ، ثم فى وقت متأخر أعلنت وفاته . وهنا أدركت جماعة الصعيد ضرورة التحرك المتفق عليه ولكن لم يكن ممكنا فى نفس الليلة ولا فى اليوم التالى فتحركوا يوم 8 أكتوبر فى أسيوط . ولم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة فالمظاهرات لم تقم بالقاهرة ولا ندرى من كان المكلف بذلك . وإقتحام مبنى التلفزيون لإذاعة البيان لم يحدث . كذلك كان فى الخطة السيطرة على بعض المناطق العسكرية الحساسة فى القاهرة وقصر عابدين ولم يحدث شىء من ذلك .
يكفى أن نشير لتقييم أيمن الظواهرى الرجل الثانى فى تنظيم القاعدة والذى كان مرتبطا بتنظيم الجهاد والذى قال عن أحداث الاغتيال وأسيوط بأنها” انتفاضة عاطفية ذات نصيب متواضع من التخطيط ، فقد جاءت متأخرة بعد قتل السادات بيومين وتستند لخطة غير واقعية” .
ربما يتحدث الظواهرى عن أحداث أسيوط ، ولكن خطة الانقلاب والسيطرة على السلطة لاتبدو أنها كانت موجودة أو واضحة . يقول الاعلامى المصرى خيرى حسن أنه كانت هناك خطة لإذاعة شريط فيديو عن إغتيال السادات وإعلان الدولة الاسلامية عن طريق فنى يعمل بالتلفزيون وأنه أرتبك بعد إعلان الدولة عن إصابة السادات فى كتفه . ثم تم إكتشافه والقبض عليه . ويتحدث أبو باشا مساعد وزير الداخلية فى ذلك الوقت عن خطة لاقتحام التلفزيون ولكنها لم تحدث ولم يوضح كيف ؟ وهذه التفاصيل لا تعنينا ولسنا بصدد تأريخ دقيق لحدث لايستحق التأريخ . ولكن إذاعة بيان عن طريق فنى يعمل بالتلفزيون أمر يصل إلى حد المزاح .
نحن أمام أمر إرتجالى من الألف للياء . ولايوجد فيه أى شىء منظم إلا عملية إغتيال السادات بسبب مشاركة خالد الاسلامبولى فى العرض بطريق الصدفة . فنحن أمام عمل فردى بكل معنى الكلمة تحول إلى استعانة ب 3 أفراد آخرين مع توفير السلاح المطلوب والذخيرة وإبر ضرب النار وهذا ما قام به تنظيم الصعيد وعبد السلام فرج .
ومن علامات الارتجالية أن خالد الاسلامبولى ألتقى مع عبد السلام فرج فى إطار علاقتهما ذات الطابع الاسلامى يوم 23 سبتمبر 1981 فلما كشف له خالد نبأ مشاركته فى العرض العسكرى واستعداده لتنفيذ الإغتيال بدءا فى رسم الخطة وعرضاها على مجموعة الصعيد يوم 28 سبتمبر أى قبل العرض ب 8 أيام وكانت المجموعة مترددة ومعارضة ولكن تصرفات السادات وتصريحاته وإعتقال المغربى واقتحام بيت عبود الزمر والحصول على أسلحة به ومطاردته جعلتهم يوافقون على عملية الاغتيال وباقى الخطة . والثورات التى هى بحق وحقيقة لا تتم هكذا فى أيام . وهذه ليست ثورة ولكن عملا إرهابيا .
وهذا ينقلنا إلى أحداث أسيوط
كانت الخطة المفترضة ، التى نبحث عنها فى الأوراق عبثا ، أن يتم بالتوافق مع الاغتيال ما ذكرناه : إذاعة بيان فى التلفزيون عن مقتل السادات وإقامة الدولة الاسلامية – السيطرة على مناطق عسكرية حساسة بالقاهرة – مظاهرات فى القاهرة وكل هذا لم يحدث على الإطلاق . وكانت هناك خطة لتحرك عسكرى فى أسيوط وهذا هو الأمر الوحيد الذى حدث ، وحدث متأخرا 48 ساعة عن حادث الاغتيال وهذا وقت طويل جدا فى عرف الثورات المسلحة . وأصبح الأمر غرائبيا فقد كانت أسيوط بعيدة جدا عن القاهرة بحوالى 500 كيلومتر فحتى إذا نجح التحرك بالسيطرة على أسيوط فكيف يمكن التحرك السريع للوصول إلى القاهرة إذا كان هناك تحرك مواز بالقاهرة عسكريا كان أم جماهيريا , ولذلك بدت انتفاضة أسيوط المسلحة عملية عبثية إنتحارية لا أفق لها أدت عمليا إلى إصابة واعتقال كل قيادات الجماعة فى الصعيد حيث لم يحققوا سوى السيطرة على مديرية الأمن والمحافظة وبعض المواقع الأخرى لبضع ساعات . وقد شاركت كل القيادات فى العملية وهذا أمر لاشك يحفز الشباب الأصغر ولكن يؤدى إلى فقدان القيادة والتوجيه أثناء العملية التى تجرى فى عدة مواقع ثم فقدان القيادة عموما بعد فشل العملية . وكل هذه ممارسات تفتقر لألف باء العمل العسكرى والاستراتيجى والسياسى ، فهى مجرد عمل من أعمال الهواة التى لا تؤدى إلا لإزهاق الأرواح .. أرواح رجال الشرطة وبعض الشباب المتهور المسكين . والمثير للعجب أن بعض هؤلاء القادة تحدثوا عن أهمية موقع أسيوط كموقع متوسط فى الصعيد يمكن الانطلاق منه جنوبا إلى سوهاج أو شمالا إلى القاهرة وكأنهم يتحركون فى الفراغ ، فراغ لاتوجد فيه دولة ولا شرطة ولاجيش . وقد كان إختيار أسيوط يعود لتركز أكبر عدد من القيادات والأعضاء والمتعاطفين بسبب وجود جامعة أسيوط التى عملوا قواعدهم منها . ولذلك حشدوا أعضاء وأنصار من محافظات أخرى فى الصعيد . و لكن حتى إذا تمكنوا من السيطرة على مدينة أسيوط فهل كانت ستتركهم جحافل الشرطة والجيش فى مختلف أنحاء البلاد ؟!
المهم لقد اجتمع مجلس شورى الوجه القبلى مساء 6 أكتوبر بعد التأكد من قتل السادات بقيادة كرم زهدى . وقرروا السيطرة على أسيوط يوم 8 أكتوبر ثم الزحف بعد ذلك فى إتجاه القاهرة والوجه البحرى .
ويصف محمد ياسين الديب أحد قيادات الجماعة بعد اعتزاله العمل العام يصف التحرك المزمع من أسيوط إلى المنيا وسوهاج بانه كان خطة بسيطة أقرب للسذاجة . ويفسر منتصر الزيات الذى كان عضوا فى التنظيم بأسوان ضعف التحرك حتى فى الصعيد بأن مجلس شورى أسوان كان رافضا للانقلاب وكذلك باقى محافظات الصعيد .
المهاجمون سيطروا فى بداية الأمر على مديرية الأمن بسبب المباغتة وارتكبوا مجزرة حقيقية رغم أنهم كانوا سبعة أشخاص فى هذا الهجوم .. ثم اضطروا للانسحاب ولم يتمكنوا من السيطرة على أى موقع أمنى آخر وكانوا فى حالة اشتباك متحرك وكانوا بالعشرات حوالى المائة شخص . وقد أدت هذه المباغتة إلى مقتل 181 من رجال الشرطة على رأسهم مساعد مدير الأمن ولم يقتل كثير من المهاجمين لأن الشرطة كانت تتعمد إطلاق النار على الأجزاء السفلية من أجسادهم حتى يتم القبض عليهم أحياء ومعرفة كل ما لديهم من معلومات . وأصيب مئات المدنيين بسبب سيرهم مصادفة فى الشوارع ومات بعضهم متأثرا بجراحه .
ما يهمنى أكثر من أى شىء آخر أن الجماعة الاسلامية لم تتعظ من هذا الفشل وظلت معجبة بهذه الموقعة وتعتبرها من مفاخرها على الأقل حتى عام 1990 . جاء فى العدد 6 أكتوبر 1990 من مجلة المرابطون الناطقة باسم الجماعة الاسلامية مايلى :
أثبتت الأحداث أن الحركة الاسلامية على الرغم من ضآلة امكاناتها وقلة عددها قادرة على إحداث الفعل المؤثر بل الموجع والقادر على التغيير !! كما دفعت الأحداث إلى طرح قضايا بعينها على رجل الشارع المسلم من قبيل الخروج على الحكام المبدلين للشرع وقتال الطوائف الممتنعة عن شرائع الاسلام وأوجدت تجاوبا كبيرا مع الفهم الاسلامى الجهادى بين الشباب المسلم مما انعكس على استعدادهم النفسى والفكرى للمواجهة ، كما أدت الأحداث لخروج المعتقلين من السجن . انتهى الاقتباس
وقد أدت هذه القراءة للأحداث إلى تجدد أعمال العنف والارهاب ضد الشرطة فى أعوام التسعينيات من القرن العشرين بلا طائل حتى جاءت مبادرة وقف العنف التى دعوت إليها وأيدتها ، رغم عدم موافقتى على الكتب الأربعة التى تبرر وقف العنف ، لأنها لم تقدم التأصيل الشرعى الصحيح من وجهة نظرى وأدت إلى التفريط فى معانى أساسية للاسلام .
فى مجلة المرابطون نقرأ إيجابيات أحداث الاغتيال وأحداث أسيوط وقد تناولنا من قبل مسألة التكفير ولكن نضيف هنا أن الحركة الاسلامية فيها هذا العيب المخيف ، التعصب للتنظيم وبالتالى تحويل الأخطاء إلى جهاد مشروع وإبتلاءات تماثل ابتلاءات الأنبياء ، إنهم لا يخطئون أبدا . يقولون هذا عام 1990 بعد عشر سنوات ، فهل كان مبارك مختلفا عن السادات فى كل المسائل الرئيسية فى العلاقات مع اسرائيل وأمريكا أو تطبيق الشريعة الاسلامية ؟ . وهل اقتنع الناس بمسألة الخروج على الحاكم وأنها فكرة رائعة رغم كل هذا الفشل ؟ إن الخروج على الحاكم قضية عملية لها ضوابط شرعية فإذا مورست بصورة خاطئة تصبح كارثة ليس فقط من زاوية إراقة الدماء ولكن من زاوية إفساد المعنى الحقيقى الشرعى للخروج وأيضا إذا كان الوضع السياسى يستأهل التغيير فإن هذه المحاولات الفاشلة والعبثية تنشر اليأس من التغيير ولا تثير المفاهيم الاسلامية الصحيحة فى أذهان الجماهير كما تقول المجلة . وهل الأحداث التى أدت إلى قتل الناس من الشرطة والمدنيين ومن الجماعة نفسها بدون مسوغ وبدون نتيجة ضربت مثلا فى أسلوب التغيير!
أما أن هذه الأحداث قد أدت إلى خروج بعض الناس من السجن بعد حين فيبدو أن هذا هو الشىء الصحيح الوحيد فى هذا المقال . ولكن رغم أن هذا صحيح لأن حكم مبارك لم يستهل عهده بالبطش رغم كل هذا الإرهاب فقد كانت سياسة شديدة الذكاء من النظام وأجهزته وأدت بالفعل إلى أعوام من الاستقرار والهدوء ، لأن السادات كان مستفزا لكل الناس بتصرفاته وتصريحاته فى أيامه الأخيرة . ولكن أحسب أن ما حدث فى هذا المجال لا يجوز أن يعمم فإن العمليات الارهابية عادة ما تؤدى إلى ردود أفعال باطشة من أى نظام سياسى ، ولا تؤدى آليا للافراج عن المعتقلين السياسيين بل للمزيد من الاعتقالات .
إن هؤلاء القوم وكأنهم فى حالة خصام أزلى مع الفهم السياسى ، إن السياسة علم وفن ونظريات تدرس بالجامعات وخبرات وهؤلاء كأنهم جبلوا على عدم التعلم فى هذا المجال رغم أن السيرة النبوية مليئة بالدروس السياسية وكذلك مرحلة الدول الاسلامية الأولى .
فكرة المجموعة الصغيرة التى تسطو على السلطة
هذه الفكرة الساذجة .. أى تفكير مجموعة سياسية معارضة صغيرة فى الاستيلاء على السلطة فى غفلة من الزمن فكرة شائعة بين الحركات الاسلامية .. وتدفعهم لاستخدام العنف .. تدفعهم لمواجهة فاشلة مع النظام الحاكم ، ولكنهم لا يتعلمون ، ويصرون على تكرار الخطأ ألف مرة . وكل التجارب الداعشية التى ملأت قارتى افريقيا وآسيا وبلادنا العربية هى تكرار متنوع لمثل هذه التجربة . وقد عشت وعاصرت تجربتين مماثلتين : التجربة المشهورة باسم تنظيم الفنية العسكرية ، وتجربة جهيمان العتيبى بمكة المكرمة . الأولى وقعت فى مصر بقيادة صالح سرية الفلسطينى عام 1974 واستهدفت الاستيلاء على مخازن السلاح بالكلية الفنية العسكرية ، ثم التحرك منها لقتل السادات والاستيلاء على الحكم . ولا داعى للدخول فى التفاصيل فالبيان واضح من عنوانه : خطة ساذجة وغير واقعية . وجيهمان العتيبى قام بانتفاضة مسلحة مع عشرات ، حوالى مائتين من المناصرين له واستولى على الكعبة وتحصن بها ، مدعيا أنه المهدى المنتظر . وقد كان حادثا مزعجا لأنه فى الكعبة ولكنه انتهى كما انتهت وقائع الأمثلة السابقة . حصار واشتباكات بين قوتين غير متكافئتين ولابد لقوة الدولة أن تنتصر بغض النظر عن الخسائر البشرية بين الجانبين .
وفوق كل ذلك فدولة مصر هى أقدم دول العالم وهى نموذج يدرس للدولة المركزية وطبيعتها الجغرافية تساعد على ذلك ، فالحياة الحقيقية منحصرة فى 4 % من ترابها ربما توسعت قليلا إلى 6 أو 7 % ببعض التعمير للصحراء ومدن القناة الجديدة . . وهى محصورة فى شريط ضيق ومروحة الدلتا حتى وصفها جمال حمدان بأنها كائن صغير من رأس – الدلتا – له ذيل رفيع – الصعيد . ومع وجود النيل وخطوط السكك الحديدية حديثا فإن السيطرة على المناطق المأهولة مسألة أسهل من أى بلد آخر . كذلك فهى بلد سهلية ، الجبال فيها خالية من السكان لأنها جرداء فلاتصلح للعمل المسلح ولاتوجد بالبلاد غابات أو هضاب أو مناطق وعرة أو مستنقعات كأهوار العراق أو مستنقعات وغابات جنوب السودان .
وقد شرحت ذلك فى دراستى : فقه التغيير السياسى فى الإسلام – المركز العربى للدراسات – القاهرة – الطبعة الخامسة – 2011 .
مصر تاريخيا ليست بلدا مؤهلا للعمل المسلح فى الصراع الداخلى ، ولكن وجود محتل أجنبى يجعل العمل المسلح إجباريا و يغطى على غياب التضاريس المواتية عمق الجماهير المؤمنة بضرورة التحرير ، فالجماهير تحتضن وتخفى المقاتلين . ومع ذلك فقد كان الوجه الجماهيرى السياسى لمقاومة الاحتلال البريطانى هو الوجه الرئيسى وتم تتويجه بانقلاب عسكرى أبيض فى 23 يوليو 1952 .
ولكن معارضتى للمعارضة المسلحة تتجاوز ذلك فهناك أمور شرعية عديدة تضبط وتقيد هذه الفكرة وتمنع هذه الفكرة عموما وفى مصر خصوصا .
الطبعة الأولى لهذه الدراسة ظهرت فى عام 1993 وكانت الجماعة الاسلامية فى ذروة قوتها فى العمليات العسكرية وظن البعض أنها يمكن أن تصل للحكم . ولكننى تنبأت بأن الأسلوب الوحيد الممكن للتغيير فى مصر هو عبر ثورة شعبية سلمية وليس عبر العمل المسلح أو الانقلاب العسكرى أو الانتخابات . وهذا ما حدث فى 2011 ولكن الثورة فشلت لأسباب عديدة والمسئولية تقع على النخبة كلها وفى مقدمتها الإخوان المسلمين .
وبعد صدور هذه الطبعة الأولى كنت فى زيارة للسودان لحضور أحد المؤتمرات وأثناء وجودى فى فندق هيلتون فوجئت بصديقى عبيد – ليس هذا هو الاسم الحقيقى ولكننى حقا نسيت اسمه لأننى لم أره منذ ربع قرن – يزورنى وقد علم بوجودى بالخرطوم . وهو ماكنت أعتبره من القيادات المعتدلة بالجماعة وأجرى معه حوارات متقطعة سيأتى الحديث عنها ولكننى أتحدث الآن عن هذا الحوار لأنه متصل بهذه الدراسة وبموضوع العنف الذى نتحدث فيه . طلب منى عقد جلسة مع قيادات الجماعة المتواجدة بالخرطوم ولم أسأله عنهم ورفضت اللقاء ، لأننى كنت مدركا عدم فائدة اللقاء وهم مصرون على العمل المسلح ففى أى شىء نتعاون ، ولن يعود على اللقاء إلا بأضرار أمنية . وقلت له أنا أتحدث معك لأنك صديق قديم من ماقبل العمل المسلح ، ويكفى الحوار معك لتصل آرائى إلى زملائك . وأعطيته نسخة من دراستى فقه التغيير السياسى فى الاسلام . وعاد فى اليوم التالى وقد قرأه بدقة وعلم على بعض السطور ، وشكر فى الكتاب ولكن قال لماذا تستخدم التقية فى مسألة الكفاح المسلح ؟ قلت له أنا لا أستخدم التقية بل أقول بصراحة إن العنف المسلح لا يصلح فى حالات كثيرة ومنها مصر لأسباب شرعية وعملية من وجهة نظرى ، وقلت ان القوة المسلحة كانت صحيحة ونجحت فى أفغانستان ، أقصد وصول طالبان للحكم بقوة السلاح ، فلايمكن الوصول للحكم فى افغانستان وفى الأوضاع الحالية إلا بالسلاح . ولكن الوضع فى مصر يختلف كلية . وتحاورنا لساعات ولكننى كنت حزينا ، فقد شعرت أننى فقدت صديقا أقصد صديقا فى الهم الفكرى والجهادى ، لأن علاقتنا كانت قائمة على رفض الكفاح المسلح كوسيلة للتغيير فى مصر وهو كان من ضمن ما يسمى جماعة بنى سويف القريبة لنفس هذا التصور وإن كانت داخل الجماعة . أثناء الحديث قال لى : لقد أصبحت مدربا بصورة جيدة على استخدام بعض الأسلحة ؟ قلت له : لم تكن هذه اهتماماتك ؟ قال : لقد كنت فى افغانستان ومش معقول أضيع فرصة التدريب العسكرى هناك وضرب الرشاشات !!
لقد تغير عبيد إذا وانتهى السجال بينى وبينه لصالح العنف وخسرت صديقا .. وسأعود إليه وفق التسلسل الزمنى .
الفصل الثانى من كتاب تجربتى مع الحركة الوطنية والاسلامية – مجدى حسين