العصيان المدنى – رؤية اسلامية

مقدمة

فى أواخر عام 2004، حينما تصاعدت حالة الاحتقان السياسى والفكرى فى أوساط الأحزاب السياسية والطلاب والمجتمع المدنى عموما، مع اقتراب انتهاء فترة حكم الرئيس مبارك الرابعة (نهاية 2005)، واقتراب انتخابات البرلمان، ورفض الحزب الوطنى الحاكم لأى إصلاحات ديمقراطية جوهرية أو تغيير الدستور، ظهرت لأول مرة دعوات وتهديدات جدية من جانب عدد من المفكرين والحزبيين للعصيان المدنى بهدف الضغط على الحكومة لتنفيذ إصلاحات.

وكان أبرز ما ظهر فى ذلك الحين هو دعوة المستشار طارق البشرى – نائب رئيس مجلس الدولة المصرى – المصريين للعصيان المدنى، حيث كتب ثلاث مقالات فى صحيفة “العربى” الناصرية بدءا من 10 أكتوبر 2004 تحت عنوان “أدعوكم إلى العصيان” يؤصل فيه فكريا ونظريا لفكرة العصيان المدنى السلمى، ويشير إلى أن مصر قد وصلت إلى حالة لم يعد يجدى لإصلاحها سوى العصيان المدنى السلمى بحيث يتخلى المصريون عن دور “المحكوم”، وأن يفرضوا إرادتهم على السلطة!.

ولقد بادر المركز العربى للدراسات فى ذلك الحين وجمع هذه المقالات الثلاث فى كتيب تحت نفس العنوان “أدعوكم إلى العصيان”.

وفى هذه الفترة كان للأستاذ مجدى أحمد حسين أمين عام حزب العمل فضل السبق إلى إعلان نفس الفكرة من خلال نشر مقالات ورسائل إلى الأمة, فى موقع الحزب على الإنترنت, وكان منها ما نشره فى 23 أكتوبر 2004 يدعو لنفس الفكرة قائلا: “لابد أن نتخلى عن دور المحكوم، وأن نفرض إرادتنا، وإلا فسنبقى نرسف فى الأغلال مدى الدهر”.

هذه الدعوات للعصيان المدنى أثمرت حراكا سياسيا, لتبدأ بعدها بوادر استجابة حكومية انتهت بتعديل البرلمان للمادة 76 من الدستور فى 10 مايو 2005 وإجراء انتخابات رئاسية تعددية لأول مرة.

غير أن هذا التعديل العقيم لم يكن هو المرتجى من التحرك الجماهيرى الذى أعقب ذلك, فتوالى مجدى أحمد حسين فى إرسال الرسائل إلى الجماهير, والتحرك بينهم داعيا إلى مواصلة النضال حتى سقوط آخر قلاع الظلم والطغيان.

ولم يكن هذا النضال والجهاد منه على المستوى الجماهيرى فحسب, بل تخطاه – كعادته – إلى الجهاد بالكلمة, فخرج علينا بهذه السلسلة من الدراسات النافعة التى تشرح للأمة معنى العصيان المدنى وشرعيته من الكتاب والسنة, حتى لا يكون لأى متخاذل نصيب من البراءة أمام الله يوم القيامة لأنه لم يعلم الحكم الشرعى من العصيان المدنى.

والمركز العربى للدراسات إذ يقدم هذا الكتاب – بعلمه النافع – يسأل الله أن يكون فاتحا لحوار ممتد بين أبناء الأمة من أجل وحدة الصف وجمع الكلمة حتى تسترد مصر عافيتها, ومكانتها بين الأمم.

المركز العربى للدراسات

العصيان المدنى.. رؤية إسلامية

العصيان المدنى شعار رائع، وهو مفتاح التغيير فى مصر وعدد كبير من الدول العربية والإسلامية. وهو شعار إسلامى، دون أن نرفض أن يكون شعارا للجميع من الراغبين فى التغيير فى مصر، فالشعار الإسلامى لا يعنى أنه يخص المسلمين، وإنما يعنى أنه يعبر عن ضوابط الشريعة الإسلامية، وقواعد العدالة فى الإسلام هى للبشرية جمعاء وليست للمسلمين فحسب، ولكنها بالنسبة للمسلمين التزام عقائدى وليست مجرد التزام سياسى قابل للتقلب.

الأنبياء والرسل عبر التاريخ هم قادة ما نسميه الآن عصيانا مدنيا، فهم أصحاب رسالة، وأصحاب الرسالات وأتباعهم يهتمون – فى المقام الأول – بنشر رسالتهم، وهى عملية فكرية وعقلية ووجدانية لا تعرف العنف، هى ما نسميه الآن المعركة حول العقول والأفئدة. وقد كان الطغاة ينزعجون ويعادون الأنبياء لأنهم يكسبون القلوب والعقول، فكان لابد من عزلهم عن الناس بكل الوسائل التى تراوحت بين قتل الأنبياء أنفسهم أو تعذيبهم أو تعذيب كل من يقترب منهم بكل وسائل الإكراه البدنى والمعنوى. وكانت عدة الأنبياء وأتباعهم الصبر والمثابرة والاعتصام بحبل الله والقبض على معتقداتهم وإن كان كالقبض على الجمر. واستعذبوا العذاب والاستشهاد فى سبيل ذلك؛ لأنهم بذلك يتسامون على متطلبات الحياة الحيوانية الغرائزية وينطلقون فى عالم السمو الأخلاقى، وهو ذاته عالم الإصلاح الدنيوى الذى أمر به الله سبحانه وتعالى. فإذا كان هدف المؤمنين الأساس بل الوحيد هو رضاء الله والجنة، فإن ذلك يمر عبر معبر إجبارى هو إصلاح الدنيا والسعى فى هذا الإصلاح والموت دونه.

سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام لم يصطدم مع علية قومه بأية وسيلة من وسائل العنف، بل أصر على ارتباطه بأراذل (تسمية الطغاة للمستضعفين المؤمنين) الناس المؤمنين. وقام بتصنيع سفينته التى فصلت فى النهاية بين المعسكرين. ورغم أن معجزة الطوفان انتهت وغيرها من المعجزات إلا أن مبدأ سفينة نوح ما يزال قائما: مبدأ الفرز والمفاصلة والهجر الجميل.

وسيدنا هود أرسله ربه إلى عاد فما ذكر القرآن الكريم أية مظاهر للكفاح المسلح، بل هى نفس قصة نوح: مفاصلة وصراع فكرى عقائدى وجدانى، انتهى بريح صرصر عاتية أبادت قوم عاد إلا هودا وصحبه من المؤمنين.

وتكرر نفس السيناريو فى قصة صالح وثمود.

أما سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فهل نسميه القائد الأكبر للعصيان المدنى، لا نستطيع أن نسميه إلا بما سماه الله عز وجل به فى محكم كتابه: صديق ونبى وأواه حليم وأمة. ولكن أقصد أن القرآن الكريم فصل هنا تفصيلا أكبر ورأينا تطورا فى وسائل الدعوة للحق. وسنجد مصطلحات ما نسميه الآن العصيان المدنى متواترة فى قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مثلا: )قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبراهيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ( (الممتحنة: 4).

وأيضا نرى فكرة الاعتزال: )وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا( (مريم: 49).

ولكننا نرى تطورا مهما فى قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام فالعصيان السلمى أخذ شكلا أعلى وهو تحطيم الأصنام مع سبق الإصرار والترصد، والمجاهرة بذلك، وليس من خلال عملية فدائية سرية. وبالنسبة للمؤمنين فإن هذه العملية لا تمت إلى منهج العنف؛ لأنها حطمت شيئا لا قيمة له فى الحقيقة، بل إن تحطيمه أكثر نفعا من إبقائه. ومع ذلك فلم يكن المقصود سوى القيام بعملية رمزية عملية تعليمية. كما يقوم المعلم فى حصة دراسية بكسر بيضة فى طبق ليشرح للتلاميذ أشياء حول البياض والصفار وطريقة تكوين الكتكوت!

سيدنا إبراهيم عليه السلام قال لهم: سأحطم آلهتكم بعد خروجكم، ولكنهم لم يصدقوه، كيف يجرؤ على ذلك؟! بل هل ستسمح له الآلهة بذلك؟!: )وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ {57} فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ {58} قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ {59} قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم {60} قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ {61} قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبراهيم {62} قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ {63} فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ {65} قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ {66} أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {67} قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ {68} قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبراهيم {69} وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ( (الأنبياء).

حاولت مرارا، فى عديد من الندوات، أن أذكر الحضور بمغزى هذه الآيات الكريمة، ولكننى لم أفلح كثيرا، لا لأن أحدا اعترض على الدروس التى استخلصتها منها، ولكن لأن قليلا من الناس عملوا بها حتى بعد تذكيرهم بها!

والدرس الأول: أن تحطيم الأصنام لم يكن خروجا على الخط العام للعصيان السلمى، حيث إنه لم يتكرر فى قصة سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى القرآن الكريم.

ثانيا: لم يكن المقصود هو استخدام العنف، ولكن إعطاء درس عملى للعبرة والتذكرة ولتجسيد الحالة البائسة التى يعيشها القوم، حتى أنهم تبلبلوا لوهلة، واعتبروا أنهم هم الظالمون وأن إبراهيم عليه السلام على حق، ولكن سرعان ما أخذتهم العزة بالإثم وتراجعوا. أى أن المقصود كان إثارة هذا الحوار على ضوء هذا الدرس العملى. ولم يكن بداية لتشكيل فرق لتدمير الأصنام!!

ثالثا: والدليل على ذلك أن هذا التحطيم تم بصورة علنية مقصودة، وكان من السهل أن يتخفى إبراهيم عليه السلام ويدمرها سرا، لكن هذا لن يفيد ولن يؤدى إلى هذا الحوار الذى ما زلنا نهتدى به حتى الآن وحتى يوم القيامة. والعلنية واضحة؛ فهو هدد بذلك ثم نفذ تهديده، وعندما استدعته “نيابة أمن الدولة” فى محاكمة علنية لإرهاب الناس لم ينكر التهمة، وهذه من أهم خصائص العصيان السلمى: أن تعترف بالتهمة المشرفة التى توجه إليك إذا كانت صحيحة. ليس هذا بسبب الرغبة المجردة فى الاستشهاد، ولكن بهدف نشر الفكرة بين الجمهور، وهذا هو الهدف النهائى لأى داعية وصاحب رسالة. أما قوله فى البداية: )بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ( (الأنبياء: 63) فكان بداية الدرس والمناقشة والجدل، وليس على سبيل التهرب؛ بدليل سرعة انتقاله لجوهر الموضوع ومجاهرته بالكفر بهذه الآلهة المزعومة, والاعتراف سيد الأدلة.

رابعا: إن معجزة إنقاذ الله سبحانه وتعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام لا تلغى مغزى القصة، التى لم توضع فى القرآن إلا للتأسى بها: )قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ( (الممتحنة: 4). ولأن التدخل الإلهى لم ينته فى التاريخ ولا فى أى شىء ولن ينتهى، ولكنه يأخذ صورة التوفيق الإلهى والنصر الإلهى لمن يستحقه ويأخذ بالأسباب. وحتى على مستوى النجاة الشخصية فقد حدث كثيرا فى التاريخ بأقدار الله، وقد تحدثت عن ذلك فى كتابى “الجهاد صناعة الأمة” (ص 138-140، ط 2 القاهرة – 2003).

ولكن ما أريد أن أضيفه فيما لم أقله فى الندوات ما يلى: أن هذه القصة تشير لأمر بالغ الأهمية، وهى قضية تحطيم الرمز الطاغوتى، والمقصود هو التحطيم المعنوى؛ لأن الطاغوت إذا كان مجسدا فى شخص الحاكم فإن إبراهيم عليه السلام لم يقتله، وبالفعل فقد حاور الملك بصراحة ولكنه لم يسع لقتله. فهذا لن يفيد.. المهم هو تغيير العقائد الفاسدة وما ينجم عنها من ظلم وطغيان واستكبار فى الأرض. ونلاحظ هنا التصاعد فى الدعوة؛ حيث لم يشر القرآن إلى ممارسات مماثلة للأنبياء السابقين على إبراهيم عليه السلام وأنا ملزم بالترتيب الزمنى لابن كثير الذى يعتمد، بطبيعة الحال، على القرآن الكريم فى هذا الترتيب.

عندما بادرت لأول مرة، فى 12 أبريل 2002، بطرح فكرة تنحية مبارك عن الحكم باعتباره الطاغوت الذى يعبد من دون الله، والله أحق أن يتبع لا حسنى مبارك الذى يجاهر بعدائه لكل قيم الوطنية والدين والإسلام (كان ذلك بمناسبة موقفه المخزى من اجتياح الضفة الغربية ومجزرة جنين)، منذ ذلك التاريخ وأنا أعانى من حوارات مضنية مع النخبة المثقفة المصرية وأحيانا العربية، فكثيرون قالوا لى ومازالوا حتى الآن يقولون لى: نحن نقدر شجاعتك ولكن ليس من الفطنة توجيه السهام بهذه الصورة المباشرة للحاكم المستبد، فهذا يضر بك ويضر بحزبك ويضر بالحركة الإسلامية والوطنية؛ لأنك ستتعرض للبطش بدون طائل وبدون فائدة، فى حين يمكن أن تقول كل ما تريد بعبارات ملفوفة وبدون ذكر أسماء، وتعلم من فلان وعلان من الكتاب, إنهم يقولون كل شىء دون أن يضعوا أنفسهم تحت طائلة القانون. وكان ردى دائما ولا يزال ما يلى:

قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام هى إحدى أدلتى الشرعية فى موقفى، فهذه القصة تقول لنا إن إبراهيم عليه السلام لم يلف ولم يدُر؛ بل وجه سهامه إلى كبد الحقيقة ورأس الأفعى، وكان يمكن أن يحطم الصنم سرا بدون مجاهرة، أو الدعوة إلى الله بشكل متواز دون التعرض بسوء للآلهة، ولكن لأنه بضدها تتميز الأشياء فما كان لإبراهيم عليه السلام أن يجلى معنى التوحيد الصافى بالتوازى مع عفن الوثنية أو بتجنب الحديث عنها، بل بتحطيمها بصورة رمزية؛ لأنه بعد نجاته لم يسع لتحطيمها مرة أخرى، والقوم لابد أنشأوا آلهة جديدة!! أقصد تماثيل جديدة, أو أصلحوا المحطمة. فالمقصود كما ذكرنا التحطيم المعنوى والاستهزاء بالوثنية.

يفهم من القصة ضرورة تحطيم قداسة رموز الباطل والاستهزاء بها والسخرية منها، وتذكروا قول سيدنا نوح رغم أنه لم يحطم الأصنام، ولكنه حطمها معنويا بالكلام والسخرية: )وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ( (هود: 38).

إن من يضع نفسه بالتوازى مع الله أو فوق الله لا يجوز الحديث عنه بالحسنى، أو الصمت عليه، أو تجنب إدانته والاكتفاء بإدانة مرؤسيه. ليس على سبيل التحدى والشجاعة كمعان مجردة، ولكن لسببين رئيسين لا غنى عنهما: تصفية العقيدة من أية شوائب وعرضها بصورة حقيقية؛ لأن الحاكم الذى يحكم بمرجعية غير إسلامية ينطبق عليه قول الله عز وجل: )يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ( (النساء: 60)، وبالتالى فإن معنى العبودية لله لن يتجلى إلا على جثة هذه الأفكار الحقيرة: الرئيس الملهم الذى لا يخطىء أبدا، كل ما يفعله صحيح، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.. إلخ، فماذا يتبقى من صفات الله لم تنسب إليه؟! ولو ألقيت ألف خطبة ومحاضرة عن التوحيد فى بلد كمصر عام 2008 ولم تشر إلى الحاكم الذى يتبع أمريكا وإسرائيل من دون الله والذى يدير مقدرات بلد بحجم مصر ويتحكم فى حياة 80 مليون مصرى، والمصريون يصمتون عنه مكتفين بالذهاب إلى المساجد وصيام رمضان وحج البيت والعمرة، رغم أنه يحكم فيهم شرائع ومصالح الأعداء، وهم ينفذونها، أليس المصريون هم الذين يضخون البترول والغاز لإسرائيل، ويعملون فى مشروعات “الكويز”، ويستقبلون السياح الإسرائيليين أحسن استقبال، ويتركون حاكمهم يضرب المسلمين فى كل مكان؟؟ إذا لم يقل الخطيب أو المحاضر عن التوحيد إن الصمت على هذا الحاكم وتركه فى الحكم نوع من الشرك الصريح بالله يكون لم يعرض مفهوم التوحيد بشكل صحيح.

ولنا مثال طيب فى الفتاوى الأخيرة لجبهة علماء الأزهر التى تنفذ ما نقصده بالضبط، وأية فتاوى لا تتعرض لهذه الأوضاع الظالمة والمنحرفة هى فتاوى منافقة سيسأل عنها صاحبها يوم القيامة كما يسأل أحبار بنى إسرائيل.

هذا هو السبب الأول: عرض القضية بصورة متكاملة وصحيحة، وتنزيلها على الواقع المعاش فى لحظة محددة. أما السبب الثانى: فهو يرتبط بإمكانية التنفيذ العملى للرسالة، فبدون الهدم لا يكون البناء، وبدون تحطيم قداسة الباطل فلن يتجرأ الناس عليه، بل سيظلون يعملون له ألف حساب. وأى سلطان مستبد يعتمد فى المقام الأول على الهيبة وعلى الإقناع بصحة ما يمثله وقوته وقدرته على تنفيذه. والهيبة هى الأساس، فلابد من “مرمطة” هيبة الطاغية فى الوحل، بالحق والحقائق وليس بالادعاء أو الشتائم العامة، ومصائب الطاغية كافية لفضحه شريطة أن تجد من يقولها. ومن الطريف أن البعض يقول إن الجميع يعرف أن مبارك خائن ومستبد وعميل وسارق للمال العام، وبالتالى فإن القول بذلك لن يضيف شيئا إلا تعريض قائله للخطر وهروب الناس منه فرار السليم من الأجرب! وهذا الكلام غير صحيح من عدة أوجه:

فأولا: ليس صحيحا أن الناس تعرف كل شىء عن المتكبرين، فهناك البعض من غير المتابعين أو غير المتخصصين فى التحليل أو ناقصى المعلومات.

وثانيا: وهو الأهم، هو ضرورة فضح المجرم والتشهير به على رؤوس الأشهاد، حتى يتحرك الناس لمقاومته، وإلقاء القبض عليه، والقبض على الحاكم يعنى الثورة عليه، وتحطيم هيبته مهم للغاية حتى يتجرأ الناس عليه ويعرفوا أن مهاجمته ليست نهاية العالم، وأن من هاجمه ما يزال حرا على قيد الحياة أو سجن ولم يرتدع أو استشهد وسار آخرون على دربه. وكما أن تحطيم التمثال الذى يعبده قوم إبراهيم عليه السلام لم يضف نظريا لمعلوماتهم شيئا فهم حقا الذين صنعوا التمثال وهم يعرفون أن التمثال لا ينطق! ولكن مجرد تحطيم الإله وسؤالهم أن يسألوا الآلهة أصاب القوم بالاضطراب، وشعروا بحرج موقفهم وطأطئوا رؤوسهم، وليس من المهم أن يعاند الكبراء.. المهم أن يؤمن الناس ويزدادوا إيمانا ولو بعد حين. لاحظوا مثلا أن أتباع الرسل ازدادوا أكثر بعد رحيلهم عن العالم، وليس فى حياتهم! والقوانين التى حكمت عمل الأنبياء هى ذاتها التى تحكم عمل المصلحين من بعدهم، ولذلك أمرنا الله أن نتبعهم ليس فى الغايات وحسب بل فى الوسائل والطرائق التى اتبعوها عدا انتظار المعجزات. ويظل تحطيم الهيبة والمكانة هو الأمر الجوهرى. لابد من إسقاط هالة التقديس، ولابد أن يرى الجميع رأى العين أن الحاكم بشر، ويمكن أن ننال منه إذا أخطأ أو انحرف أو اتبع سبيل الضلال. وأن مقاومته حق وواجب وممكنة وأنه إذا كان عصيا على الإصلاح فإن إسقاطه حق وواجب وممكن.

ويقولون أيضا لا بأس من كل ذلك، ولكن لابد ألا تجاهر بالعداء للحاكم إلا عندما تكون جاهزا للانقضاض عليه والخلاص منه. وإلا فلا داعى لاستفزاز النمر فى وقت غير مناسب! وربما ينطبق ذلك على المؤامرات السرية والانقلابات العسكرية، ولكنه لا ينطبق على أصحاب الرسالات، فالأمر لا يتعلق بالوثوب المفاجىء على السلطة بصورة ماكرة أريبة، بل يتعلق بإصلاح الناس ودعوتهم إلى الحق ودعوتهم للمشاركة بأنفسهم فى التغيير بالوسائل السلمية، والمباراة تكون هكذا على المكشوف، فعندما يلتف معظم الناس حول المصلحين ينفتح الطريق للتغيير، ولن يتمكن الطاغية من وقف ذلك مهما أوتى من قوة؛ لأن قوته تعتمد على الناس حتى فى أجهزته القمعية والشرطة والجيش، فإذا انضم جزء من هؤلاء إلى الشعب الثائر فإن حسم الأمر مع الحاكم يكون ممكنا. والغرض من الجهر المبكر بالإعلان عن عدم شرعية الحاكم لنفس السببين المشار إليهما: تجلية الموقف العقائدى الصحيح، وتعبئة الناس من أجل التغيير؛ فتعبئة الشعوب ليست أمرا سهلا ولا ترتبط بمؤامرات سرية، بل تحتاج إلى زمن من المران على الشجاعة والإقدام وتحمل المشاق والسجون والعذابات، فالطريق لإصلاح الدنيا ليس مفروشا بالورود، وصمود القادة وتقديمهم للمثل وتقدمهم للصفوف وقت الشدة وساعة العسر يثبت الناس ويدفعهم للأمام. ولم تنتصر أية حركة شعبية جادة بدون تضحيات.. بدون شهداء ومساجين ومعذبين.

ويقول البعض أيضا: لا بأس.. هاجِم مبارك بدون ألفاظ حادة أو جارحة حتى تأمن الضربات المضادة من أجهزته. والمسألة لا تتعلق بالشدة أو الخفة فى استخدام الألفاظ.. المهم أن تعبر الألفاظ المستخدمة عن الحقيقة بدون تهوين أو تهويل، فإذا كان خائنا ومتعاونا مع العدو أكثر من تعاونه مع أمته فلابد أن نقول ذلك إذا كان لدينا مستندات وأدلة. والحقيقة أن الأعمال الصريحة لحسنى مبارك كافية للحكم عليه، وإن وجدت أيضا مستندات، ولكننا لسنا أمام نضال قانونى، ولم يتم فى أى بلد فى العالم فى أى وقت من تاريخ البشرية القضاء على طاغية فى المحاكم. ولم ينج مناضل من السجن أو الإعدام بسبب اعتماده على محام شاطر! فالصراع سياسى يعتمد على موازين القوى, وقوة المعارض فى كسب المزيد من قطاعات الشعب إليه. وقد كان غاندى نفسه محاميا كبيرا وناجحا وأكثر الناس دخولا للسجن!! وكذلك أحمد حسين وغيرهما كثير.

انحياز المجاهد يكون للحق والحقيقة، ولابد أن يصف الطاغية بأوصافه الحقيقية. وإذا عدنا لألفاظ سيدنا إبراهيم عليه السلام فى الآيات السابقة وغيرها سنجده لا يجامل ولا يعرف للدبلوماسية مكانا، فـ”الحق أحق أن يتبع”. وهناك علاقة بين المضمون والشكل.. بين المعنى واللفظ. فالحاكم الذى تختلف معه فى سياسة خاطئة غير الحاكم المتواطىء مع العدو؛ فالأول مجتهد له أجر واحد، والثانى مجرم ليس له إلا المقصلة!!

الألفاظ الحادة فى القرآن الكريم:

يصور البعض الإسلام بأنه لطيف وخفيف وظريف ورقيق كالنسمة لا يجرح مشاعر أحد والكل لديه سواء، وعندما يأتى هذا من فقهاء السلطان فى نفيهم للجهاد فلا بأس، ولكن عندما يأتى هذا من بعض المعارضين الإسلاميين فهو غير مقبول وخطير وضار بالحركة الإسلامية والبلاد، وهو قبل كل ذلك تشويه لدين الله. فالإسلام يدور مع الحق، وهو رقيق على المؤمنين والمستضعفين والمظلومين وشديد القسوة على الطغاة والمجرمين، وهذا فى الدنيا والآخرة. وأذكر أننى حاورت أحد المتدينين المستقلين وكان معجبا بما أكتب، ولكنه قال لى: “بس لو تبطل شتائم”، فقلت له: ولكن القرآن ملىء بالشتائم!! فانتفض الرجل وقال: ماذا تقول؟ قلت له: ألم يقل الله عز وجل فى محكم كتابه عن الكافر: )فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ( (الأعراف: 176)!! فسكت الرجل وتحول مجرى الحديث!! وقد استخدمت كلمة شتائم على سبيل الجدل؛ لأنه قال عن اتهامى مبارك بالخيانة إنها “شتيمة”، وهى ليست كذلك.. إنه وصف للحال لم يعد يحتاج لمستندات (بيع الغاز بأسعار رمزية لأعداء الله والوطن ليس إلا آخر مثال)! ولكنه ذم بكل تأكيد.

ولكننى لم أكتف بهذا الحوار العابر، فعكفت على القرآن الكريم، وقمت بالإحصاء التالى الذى كان مذهلا.

فى دراسة (الإسلام والحكم) قمت بإحصاء لآيات القرآن الكريم التى تختص بتنظيم المجتمع؛ أى السياسة، ووجدت أنها نصف القرآن تقريبا، وعندما قمت خلال هذه الدراسة بإحصاء ألفاظ القرآن التى يمكن جمعها تحت لافتة القدح والذم، وجدتها أيضا فى قرابة نصف آيات القرآن الكريم: 2763 متضمنة فى هذا العدد تقريبا من الآيات 6236 آية هى كل آيات القرآن. وقد التزمت بالضوابط التالية: عدم إحصاء الذم الذى يأتى على لسان المشركين والمعاندين، بل يأتى منسوبا إلى الله عز وجل، عدم إحصاء المعانى المركبة بل الألفاظ الصريحة. مع وضع نسبة فى الخطأ لا تؤثر على النتيجة؛ لأن الرقم أكبر من النصف! والخطأ ربما يعود إلى السرعة النسبية فى العمل؛ لأننى لا أسعى لإحصاء دقيق نهائى، وإنما أريد الصورة التقريبية. كما لا أريد أن أخرج كثيرا عن سياق موضوعنا عن العصيان المدنى، وإن كان العصيان بالكلام هو الأساس وهو الموجه للحركة.

وفيما يلى تفصيل إحصاء الألفاظ الحادة أو ألفاظ القدح والذم بمشتقاتها:

الكفر 519 مرة – الظلم 289 – الكذب 284 – الضلال 191 – الشرك 159 – السوء 110 – الخسر 64 – الاستكبار 60 – الافتراء 59 – الإجرام 58 – الفسق 53 – الفساد 50 – الإثم 48 – اللعن 40 – الذنب 39 – النفاق 37 – الاستهزاء 34 – الصد 34 – العمى 33 – الهوى 31 – المعصية 29 – الغرور 26 – الجهل 24 – الفاحشة 24 – الوزر 23 – الإسراف 23 – الإغواء 22 – الكيد 20 – الخزى 20 – الاعتداء 20 – الخطأ والخطايا 17 – الخبث 16 – اللهو 16 – الإهانة 15 – المنكر 15 – الصم 12 – الريبة 12 – الجحود 12 – البخل 12 – الإفك 11 – الشقوة 11 – الخوض 10 – الخيانة 10 – الرجس 10 – السخرية 9 – جبار 8 – السفاهة 8 – اللغو 8 – القسوة 7 – الغابرين 7 – العتو 7 – الخسف 7 – الزيغ 7 – الصغار 6 – العدوان 6 – البكم 5 – الفخور 5 – السافلين 5 – الشح 5 – الحسد 5 – الخداع 5 – تخرصون 5 – الخيبة 5 – المبطلون 5 – التحريف 4 – مدحور 4 – الزلل 4 – خاسئين 3 – أف 3 – باغ 3 – مختال 3 – مذموما 3 – الردة 3 – المرح 3 – قردة 3 – تشبيه إنسان بالحمار 2 – الحنث 2 – أشر 2 – تب 2 – جائر 1 – ختار 1 – تشبيه اليهود بالخنازير 1 – استخف 1 – الأبتر 1 – المبذرين 1 – حب المال 1 – مذؤما 1 – زنيم 1 – التنابز 1 – هماز 1 – الوسوسة 1 – الاغتياب 1 – تشبيه الكافر بالكلب 1 – الأذلين 1 – عتل 1.

وهذا الإحصاء البسيط يثير عديدا من الأفكار قد تكون خارج موضوعنا، ولكن لا نملك إلا الوقوف عندها سريعا.

من الواضح أن الكفر هو الخطر الرئيس يتلوه الظلم، ويتساوق معه ويتلوه مباشرة الكذب، وهو الأمر الذى لا نهتم به عادة فى حياتنا الخاصة والسياسية: الكذب هو الخطر الثالث بعد الكفر والظلم، ويكاد يتساوى مع الظلم. ومن الملفت للانتباه أن الجهل متساو مع الفاحشة. والاستهزاء متساو مع الصد عن سبيل الله. وأن الوزر والإسراف متساويان. وأن الكيد والخزى والاعتداء متساوية. وأن الخبث واللهو متساويان. وأن الإهانة والمنكر متساويان. وأن الصمم وريبة القلب متساويان. وأن الجحود والبخل متساويان. وأن الإفك والشقوة متساويان. وأن الخوض فى آيات الله والخيانة والرجس متساوية. وأن التجبر متساو مع السفاهة واللغو.. إلخ.

وبالعودة لموضوعنا نجد أن النتيجة منطقية، فالقرآن يدعو إلى الخير ويحذر من الشر. يصف المؤمنين ويوجههم ويصف المارقين ويزجرهم، ولذلك من الطبيعى أن ينقسم القرآن الكريم إلى قسمين بالتساوى تقريبا. وبالتالى فإن القرآن ككتاب هداية لم يكن خطابه من لون واحد، ولكنه تشكل حسب الموضوع وحسب المخاطبين، ففيه النسيم وفيه الأعاصير، فيه الجنة وفيه النار، فيه الحنو والرقة حتى على المشركين: )وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ( (التوبة: 6)، ما داموا غير معتدين، وفيه القوة والشدة ضد المعاندين المحاربين: )فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ( (الأنفال: 12).. فيه المديح وفيه الذم وفيه الألفاظ الشديدة التى تتناسب مع المقام، ولا يمكن أن تجد أكثر منها شدة. وبالتالى فإن المسلم المتماوت الذى لا يتحدث إلا عن العذوبة والرحمة, ولا يستخدم إلا أرق الألفاظ مع الحاكم المستبد الخائن, لا يفهم المعنى الحقيقى للإسلام، ولم يتتلمذ بما يكفى على القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذى كان بدوره رحيما فى موضع الرحمة وشديدا فى موضع الشدة. وتصل الغفلة ببعض الدعاة إلى إغفال مواقف الحزم والشدة فى سيرة الرسول الكريم، حتى أننى عندما أشرت إليها مرة فى برنامج تلفزيونى تعجب كثيرون وقالوا إنهم سمعوا هذه الوقائع لأول مرة، رغم أنها ثابتة فى كتب السيرة ولم يفندها أحد من المسلمين، وبعضها مسجل فى القرآن الكريم. وسنصل فى نهاية هذه الدراسة بإذن الله إلى رسولنا الخاتم صلى الله عليه وسلم.

ولكن قبل أن نترك هذه النقطة، وهى كلها متفرعة عن التأمل فى دروس وقفة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع الأصنام. نقول إن رد البعض سيكون: نعم، إن القرآن الكريم تحدث عن المعانى العامة لكل أشكال الانحراف وحذر منها، وهذا طبيعى فى كتاب لهداية البشر، ولكنه لم يوجه الحديث لحاكم معين، ولم يوجه إهانة مباشرة لأى شخص!! وبالتالى فإن هذا الاقتباس المطول وهذه الإحصاءات لا يقاس عليها!

القرآن الكريم يذم الطغاة بالاسم!

لم يكتف القرآن الكريم بقدح وذم الظالمين والطغاة بصورة عامة بل حددهم بالاسم, وفى ذلك تعليم مباشر لنا على مواجهتهم فى كل العصور والعهود بالاسم، وحيثما يكون الطاغية محورا للصراع وطارحا لنفسه كبديل للمرجعية الإلهية فإن مقاومته بالاسم وبالتحديد الشخصى تصبح فريضة، باعتباره العدو الأول للمؤمنين، ولا يمكن مقاومة العدو الأول الذى يفتن الناس فى دينهم بالتورية والهمز واللمز واللف والدوران؛ لأن فى ذلك تمييعا للقضية، وفقدانا للاتجاه والهدف الأساس: الكفر بالطاغوت. وإن الحديث بشكل عام عن النظام السياسى فحسب فيه هروب من المواجهة وهروب من تحديد الداء الرئيس، فالطاغية رغم أنه يحكم فى إطار نظام سياسى (فرعون وهامان وجنودهما) إلا أن 99% من القرارات الأساسية بيد الحاكم الفرد المستبد، وتوجيه السهام لرأس الأفعى هو الكفيل بالقضاء على الأفعى كلها. ولأن النظام السياسى الظالم يتستر عادة خلف قدسية الحاكم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه لا بديل له إلا ضياع الأمة، فلابد من كشف هذا الزيف، وتحطيم القدسية المزعومة لهذا الحاكم. وهذه هى الآلية التى حكمت بها النظم الفرعونية والنازية (هتلر) والفاشية (موسولينى) والعسكرية (قادة الانقلابات العسكرية) والملكية والإمبراطورية (إمبراطور اليابان مثلا كان إلها ولايزال من الناحية الفلكورية!). ولأن محورية شخص الحاكم أساسية فى النظم الاستبدادية فإن هذا يفتح الباب للتوريث. وإذا كان هذا قانون النظم الملكية، وباعتبار ولى العهد من نفس الطينة الإلهية للملك، فإن هذا المرض يمتد إلى النظم الجمهورية الآن. حيث يتم إعداد الابن لدور الديكتاتور المقبل.

ليس صحيحا أن القرآن الكريم قدح وذم الطغيان والظلم بشكل نظرى فحسب، بل ضرب لنا الأمثلة من طغاة محددين، وحددهم بالاسم. بل ونزلت آيات فى بعضهم وهم أحياء، ونزلت آيات فى القرآن الكريم فى بعضهم بعد موتهم، ولكنها تنقل لنا الحوارات التى تمت بين الأنبياء والطغاة ساعة وقوعها على طريقة شرائط الفيديو أو الأقراص المدمجة؛ لنرى ونسمع الوقائع التى حدثت فى الزمن الغابر، وكيف كان يتحدث الأنبياء الموحى إليهم إلى الطغاة فى وقت وقوع الأحداث، وهو ما قد يشير إلى تناول الكتب السماوية السابقة لهذه الوقائع وقت حدوثها. ولنواصل رحلتنا فى القرآن الكريم حول هذا الموضوع.

أبو لهب:

أبو لهب هو عم الرسول محمد بن عبد الله واسمه عبد العزى بن عبد المطلب وكنيته أبو عتبة (توفى 624م).

ورد اسمه فى القرآن الكريم فى سورة المسد (وهي سورة مكية وآياتها خمس): )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ( (المسد).

كان أول من جهر بعداوة الإسلام لما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته ولم يكتف بالمعارضة الصريحة، بل عضدها بالعمل والكيد، فقد مارس صورا وأنواعا شتى من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم وصد الناس عنه. بل إن أبا لهب لم يدخل مع قومه شعب أبى طالب لما حاصرتهم قريش فيه، ولما لم يستطع الخروج مع قريش لقتال الرسول يوم بدر استأجر بدلا منه العاص بن هشام بن المغيرة بأربعة آلاف درهم.

كان وزوجته المكناة بأم جميل، وهى من سادات نساء قريش واسمها أروى بنت حرب بن أمية، وهى أخت أبى سفيان، وكانت عونا لزوجها على محاربة وإيذاء النبى محمد صلى الله عليه وسلم حيث كانا من أكثر من عذب وتجاوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقد كانت زوجته أم جميل تجلب الأشواك لتضعها في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدف إدماء قدميه الشريفتين.

لأبي لهب ثلاثة أبناء هم: “عُتبة” و”معتب” و”عُتيبة”، وقد أسلم الأولان يوم الفتح، وشهدا حنينا والطائف، وأما “عُتيبة” فلم يسلم، وكانت “أم كلثوم” بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، وأختها “رُقية” عند أخيه عُتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إِن لم تطلقا ابنتي محمد، فطلقاهما وتزوجهما فيما بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه, ولما أراد “عُتيبة” – بالتصغير – الخروج إلى الشام مع أبيه قال: لآتينَّ محمدا وأوذينَّه فأتاه فقال: يا محمد إِني كافر بالنجم إِذا هوى، وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل أمام النبي صلى الله عليه وسلم وطلَّق ابنته “أم كلثوم”، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ودعا عليه فقال: “اللهم سلط عليه كلبا من كلابك”، فافترسه الأسد.

سورة المسد معجزة بحد ذاتها؛ إذ إنها توعدت أبا لهب وزوجته بعذاب نار جهنم خالدَين فيها أبدا. فلو أسلم أبو لهب أو ادعى الإسلام لكان نسف مصداقية القرآن من أساسها. فقد نزلت هذه السورة قبل وفاة أبي لهب بعشر سنوات.

وهلك أبو لهب بعد وقعة بدر بسبع ليالٍ بمرضٍ معدٍ كالطاعون يسمى “العدسة”، وبقي ثلاثة أيام حتى أنتن، فلما خافوا العار حفروا له حفرة ودفعوه إِليها بعود، حتى وقع فيها، ثم قذفوه بالحجارة حتى واروه.

اشتهر أبو لهب بإيذاء النبى صلى الله عليه وسلم وتكذيب دعوته بين قومه، فصد الناس عن الإيمان بما جاء به عليه الصلاة والسلام, يقول النبى صلى الله عليه وسلم: “كنت بين شر جارين؛ عقبة بن أبى معيط وأبى لهب، كانا يرميان بما يخرج من الناس على بابى”. أى أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحمل أذاهما مع أنه كان أشجع خلق الله على الإطلاق. وقف المكابر أبو لهب موقفا عدائيا من النبى صلى الله عليه وسلم ودعوته فى أول الدعوة الإسلامية عندما أمر الله تعالى نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم بتبليغ دعوته، فكان أبو لهب يضع كل همته فى صد النبى صلى الله عليه وسلم عن دعوته وتكذيبه بين قومه فيما جاء به من عند الله عز وجل. فقد روى الإمام أحمد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتبع القبائل ووراءه رجل، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول: “يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا”، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه، وهو أبو لهب: “يا بنى فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه”.

وعندما نزل الوحى على النبى صلى الله عليه وسلم وأمره الله عز وجل بتبليغ دعوة الإسلام قومه وعشيرته الأقربين كما قال سبحانه وتعالى: )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ {214} وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {215} فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ( (الشعراء) قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذ ما أمره الله عز وجل به من تبليغ دعوته بهمة عالية فصعد عليه الصلاة والسلام على جبل الصفا وجعل ينادى: يا بنى فهر، يا بنى عدى، حتى اجتمعوا، فجعل الذى لا يستطيع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: “أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقى”؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: “فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد”، وجعل النبى صلى الله عليه وسلم يكرر هذا النداء لباقى القبائل وهو يقول: “إنى لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا فى الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله”، وهنا صاح أبو لهب بعد أن قام بنفض يديه، وكان رجلا بذيئا سريع الغضب, فقال للنبى: تبا لك سائر هذا اليوم ألهذا جمعتنا؟ وصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم والأسى والحزن يملأ قلبه، قال الله تعالى: )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ {1} مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ {2} سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ {3} وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ( (المسد).

معنى قوله تعالى: )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ(؛ أى خسرت يدا أبى لهب.

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أقرباءه إلى الله عز وجل، فقال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخى حقا فإنى أفتدى بمالى وولدى, فقال الله عز وجل: )مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(، والمعنى ما أغنى ماله وما كسبه؛ أى ولده يوم القيامة.

ما يهمنا الآن أن القرآن الكريم – كلام الله – قدح وذم فى الطاغية أبى لهب فى حياته، وهو فى قمة صولجانه كأحد أركان النظام الطاغوتى، بل إنه رد عليه سبابه: “تبا لك يا محمد” بنفس الكلمة: )تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ(؛ أى هلكت وخسرت، وامتدت الإدانة لزوجته التى تمارس العمل العام، وتحارب الدعوة، بل اختصها الله بلون من العذاب هو ما يكون حول عنقها من حبل تجذب به إلى النار زيادة فى التنكيل بها؛ لما كانت عليه من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والإساءة إلى دعوته.

وأريد من كل المتخصصين فى تفسير القرآن وأولى الألباب أن يجيبوا على السؤال التالى: لماذا خلد الله اسم هذا المكابر المعاند الذى لم يكن صاحب فكر ولم يترك لنا أية مؤلفات أو آثار يمكن أن تطعن فى الإسلام؟ لماذا عندما نصلى إلى الله عز وجل نردد اسمه. هل هذا نوع من التكريم؟! بالطبع لا. هل هو نوع من التأريخ؟! بالطبع لا، فالقرآن ليس كتاب تاريخ، ولم يهتم بحصر أسماء الطغاة ولا حتى الأنبياء!! ومغزى الإعجاز فى عدم إسلام أبى لهب وامرأته حتى موتهما ولو على سبيل النفاق لا ينفى هذا المغزى الآخر، وهو وضع سابقة: نقد وقدح رموز الطغيان بالاسم. ونحن أمام واقعة بذلك غير منكورة. إذن فليس خروجا على آداب الإسلام والدعوة أن تقدح وبالاسم فى الطغاة الذين يحاربون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأن تصفهم بما يستحقونه. وما لذلك من أهمية فى المفاصلة بين الحق والباطل الذى يستتبع المفاصلة بين رموز الحق ورموز الباطل، وما لذلك من أهمية فى نزع القداسة المزعومة أو الهيبة أو الاحترام لرموز الباطل.

فرعون موسى.. الشخص الثانى فى القرآن!!

من الأمور المذهلة التى لا ينتبه إليها كثيرون، ولا ترد على لسان فقهاء السلطان بطبيعة الحال، هذا الحجم الكبير الذى تمثله قصة موسى عليه السلام وفرعون فى كتاب الله. قصة سيدنا موسى عليه السلام تمثل قرابة 1-14 من كل القرآن الكريم (460 آية من 6236 آية)؛ أى إذا قسمنا القرآن إلى 14 جزءا فإن قصة موسى عليه السلام تشغل جزءا كاملا من الـ14! وقصة موسى عليه السلام مع فرعون والطغاة تشمل معظم هذه القصة. والقصة مبثوثة فى 34 سورة من 114 سورة هى كل سور القرآن الكريم، أى أينما تولى وجهك وعيونك فى القرآن ستجد قصة موسى عليه السلام وفرعون. وهذا يؤكد محورية الجهاد ضد السلطة الغاشمة فى العقيدة الإسلامية. أما الإحصاء القديم الذى نشرته فى دراسة (الجهاد صناعة الأمة) فيشير إلى أن فرعون موسى، وهو شخص محدد لا أى فرعون، هو الشخص الثانى فى القرآن الكريم من حيث عدد مرات ورود اسمه، والشخص الأول هو سيدنا موسى عليه السلام 136 مرة، أما فرعون فهو الثانى بلا منازع: 74 مرة، ويأتى سيدنا إبراهيم عليه السلام فى المرتبة الثالثة: 69 مرة!

مرة أخرى هل هذا تكريم لفرعون موسى؟! بالطبع لا. هل ترك هذا الفرعون مؤلفات وكتابات يمكن أن تؤثر على أفكار المؤمنين فأراد الله سبحانه وتعالى أن يفند أفكاره؟! بالطبع لا. بل إن عقائد المصريين القدماء اندثرت بأسرها، ولم تعد ذات بال إلا على سبيل التاريخ والآثار. وما يهمنا فى هذه النقطة – بشكل خاص – ما قد يقال عن أن تعرض القرآن الكريم لفرعون موسى تم بعد وفاته بقرون, ولا ينطبق عليه قاعدة القدح فى الطاغية وهو على قيد الحياة. وهذا غير صحيح؛ لأن القرآن الكريم نقل لنا الأجزاء الأكثر جوهرية فى الحوار بين موسى عليه السلام وفرعون، والمفترض أننا أمام شريط فيديو دقيق لهذا الحوار الذى تم فى ذلك الزمان. وواضح أن سيدنا موسى عليه السلام واجه فرعون بهذه الألفاظ المذكورة فى القرآن، ليس فى حياة الفرعون فحسب، بل فى مواجهته شخصيا وأمام بطانته من كبار رجال الدولة ومثقفيها (السحرة)! والعجيب أننى قرأت كثيرا لكتاب إسلاميين يتحدثون عن ضرورة أن تكون النصيحة للحاكم سرا، وبينك وبينه، ولا مانع من ذلك إذا وافق الحاكم على ذلك. فما بالك وحكامنا يعيشون فى برج عاج, وهم إذا التقوا بالمثقفين فإنهم يسمحون لهم بإرسال أسئلة مكتوبة فحسب (حضرت شخصيا كرئيس تحرير الشعب لقاء بهذا الشكل مع حاكم مصر: مبارك، فى معرض الكتاب. ولم يجب على سؤالى المكتوب الذى كان يدور حول الحريات السياسية! فقد كان له بالطبع أو أسامة الباز حق التنقية والاختيار حتى فى الأسئلة المكتوبة!).

وإذا جاز أن تكون النصيحة الأولى سرية – إذا سمح بها الحاكم – فما هو الواجب فى حال رفضه لهذه النصيحة السرية؟ هل نصمت ونتواطأ على أخطائه أو جرائمه؟

وعلى طريقة اجتزاء القصص القرآنى لإعفاء النفس من مسئولية الكلمة والجهاد بها روج البعض الآية الكريمة: )اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {43} فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى( (طه)، ولم يوضح هؤلاء معنى الكلام اللين، وخلطوا بينه وبين النفاق والكذب، فى حين أن هذا الكلام اللين منشور فى القرآن فى سورة أخرى: )اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17} فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى( (النازعات).

فقولوا لنا مَن مِن علماء المسلمين قال لمبارك: )فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(، أو حول هذا المعنى بألفاظ أخرى. ولكن الأمر لم يقتصر على ذلك فقد تطور الحوار بين موسى وفرعون وخرج عن اللين، عندما رفض الدعوة: )فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً( (الإسراء: 101)، فرد عليه موسى عليه السلام: )وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً( (الإسراء: 102)؛ أى هالكا.

وليس هذا هو الموضع الوحيد الذى يؤكد أن لين موسى عليه السلام تحول إلى الشدة مع فرعون، عندما رفض رسالته رفضا مبرما حتى بعد أن جاءته البينات والآيات واعتبرها سحرا: )وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ( (غافر).

وحتى المؤمن الذى كان يخفى إيمانه، فقد أظهره فى هذا الموقف، وقال من بين ما قال: )إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ( (غافر: 28)، )وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ( (غافر: 33)، وقد كان هذا الكلام فى حضرة فرعون؛ لأنه قاطعه وقال: )مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ( (غافر: 29).

ويواصل مؤمن آل فرعون فى نفس السورة حديثه الصريح حتى لا يتصور أحد أن الصراحة واجبة على الأنبياء فحسب، فبعد الموقف الأسطورى المهيب للسحرة الذين آمنوا بالله فى حضرة فرعون, ولم يتراجعوا رغم تهديدهم بالتصفية الجسدية (تطرقت لذلك بالتفصيل فى دراستى: الجهاد صناعة الأمة)، نرى أيضا موقف هذا المؤمن الذى يتحدث بحسم ووضوح, فيقول: )وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ( (غافر: 43), )فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ( (غافر: 45).

أى أن توفيق الله وحمايته تمتد للمؤمنين ولا تقتصر على الأنبياء المعصومين، ولا تقتصر على المعجزات، وتوفيق الله وقدرته مستمرة فى الحياة الدنيا حتى بعد انقطاع النبوة. ولا يعنى ذلك أن المجاهدين لا يتعرضون للأذى أو الاستشهاد، فذلك من ضمن الفوز العظيم، ولكن الحركة ككل لابد أن تنتصر بإذن الله إذا أخذت بالأسباب، وما يهم فى الأساس هو النصر وتوفيق الله للمجاهدين فى تحقيقه، وليس الحصانة المطلقة من كل سوء فى الدنيا. ولذلك أتبع ذلك: )إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ( (غافر: 51). ثم: )فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ( (غافر: 55).

نزول الآيات ردا على أشخاص محددين:

وبغض النظر عن ذكر الاسم صراحة فى القرآن الكريم، فإن الروايات المتعلقة بأسباب ومناسبة نزول بعض الآيات تكشف أنها كانت موجهة للرد على تصرفات وأقوال أشخاص محددين، وإن كان هذا لا ينفى – بطبيعة الحال – المعنى الدستورى العام للآية فى كل زمان ومكان، ولكن نزول الآية فى وقتها كان يعنى للجميع أنها رد على فلان من المنافقين والكفار، والباب فى ذلك واسع وكبير ونكتفى ببعض الأمثلة:

المنافق عبد الله بن أبى: نزلت الآية الكريمة: )وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ( (البقرة: 14).. نزلت هذه الآية فى عبد الله بن أبى وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبى: انظروا كيف أرد عنكم هؤلاء السفهاء، فذهب فأخذ بيد أبى بكر رضى الله عنه فقال: مرحبا بالصديق سيد بنى تميم وشيخ الإسلام وثانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار، ثم أخذ بيد عمر رضى الله عنه فقال: مرحبا بسيد بنى عدى.. إلخ، ثم افترقوا، فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتمونى فعلت؟ فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فرجع المسلمون إلى النبى صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت هذه الآية.

رافع بن حريملة ووهب بن زيد: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، أو فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك، فأنزل الله فى ذلك: )أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ( (البقرة: 108). وقال رافع بن حريملة أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله فى ذلك: )وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( (البقرة: 118). ولرافع بن حريملة آية ثالثة، ومعه هذه المرة مالك بن عوف، فقالا للرسول عليه الصلاة والسلام: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فهم كانوا أعلم وخيرا منا، فأنزل الله فى ذلك: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ( (البقرة: 170).

ابن صوريا: وقال ابن صوريا اليهودى للنبى صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد, فأنزل الله: )وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ( (البقرة: 135).

الأخنس بن شريق الثقفى: أقبل الأخنس بن شريق الثقفى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأظهر له الإسلام، فأعجب النبى صلى الله عليه وسلم ذلك منه، ثم خرج من عند النبى صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وعقر الحمر فأنزل الله: )وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ( (البقرة: 204).

مجموعة من اليهود: ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد أبى كعب وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم من يهود قالوا: يا رسول الله يوم السبت يوم نعظمه فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم به بالليل فنزلت: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( (البقرة: 208).

فنحاص اليهودى: قال فنحاص اليهودى يوم بدر: لا يغرن محمدا أن قتل قريشا وغلبها، إن قريشا لا تحسن القتال، فنزلت الآية: )قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ( (آل عمران: 12). وقد نزل فى فنحاص أيضا هذه الآية عندما قال لأبى بكر رضى الله عنه: إن ربكم فقير يستقرض منكم، فلطمه أبو بكر على وجهه، فذهب يشكوه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروى أبو بكر رضى الله عنه ما قاله فنحاص، ونزلت الآية: )لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( (آل عمران: 181).

مجموعة من اليهود: قال عبد الله بن الصيف، وعدى بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون ما نصنع فيرجعون عن دينهم، فنزلت الآية الكريمة: )وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (آل عمران: 72).

حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف: نزلت الآية: )إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ( (آل عمران: 77)، فى حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود، الذين كتموا ما أنزل الله فى التوراة. ونزلت فى كعب بن الأشرف أيضا: )لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ( (آل عمران: 186).

شاس بن قيس:مر شاس بن قيس، وكان يهوديا، على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما رأى من تآلفهم بعد العداوة، فأمر شابا يهوديا أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى اشتعل الخلاف بينهما، ونزلت الآية: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ( (آل عمران: 100).

ونكتفى بهذا القدر من سورتى البقرة وآل عمران حتى لا يستطيل البحث، وفى تلك الوقائع وغيرها كثير ما يستفاد منه أن الله يعلمنا الاشتباك والجدل مع الأعداء أولا بأول، وعدم الالتفات عن أقوالهم أو أعمالهم المحاربة للدعوة، وكذلك عدم التعالى عليها، بل التعامل معها بكل الندية والقوة والصراحة.

وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أنزل الكتاب منجما؛ أى متقطعا بالتوالى مع الأحداث، فإن أحد أوجه حكمة ذلك أن نتعلم كيف نخوض الصراع مع الأعداء. فإذا كان الله جل شأنه وهو الخالق يرد ويعقب على أقوال المعاندين، ويعلم المستمعون جميعا أن الكلام موجه لشخص معين، وإن كان يضع قاعدة عامة مجردة فى ذات الآن، فمن باب أولى أن نفعل ذلك نحن المؤمنين، بلا خجل أو خوف أو وجل. لأن الدعوة للرسالة لا تكون بالكلام المجرد على طول الخط، فلابد من تطبيق هذا الكلام العام المجرد على أقوال معينة لأشخاص محددين، وعلى أفعال معينة قام بها أشخاص محددون، حتى تتضح المعانى المجردة لكافة الأفهام. لسنا أمام اجتراء على أشخاص ولا تحويل النزاع إلى نزاع شخصى، ولكن إذا تجسدت المعانى الكريهة فى أشخاص محددين فلابد من إبداء الرأى علنا فى أقوال وأفعال هؤلاء الأشخاص الذين اجترؤوا هم أصلا على الله ورسوله والمؤمنين.

جاءنى صديق ذات يوم وقال لى: ما كان لك أن تستخدم هذا اللفظ القاسى فى حق سوزان مبارك رغم الخلاف معها. فقلت له: لماذا لم تأت يوما غاضبا على انتهاك أعراض النساء فى طول البلاد وعرضها، بينما تعتصم السيدة الفاضلة سوزان مبارك بالصمت وكأن الأمر لا يعنيها، رغم أنها أنشأت دولة داخل الدولة للمرأة، وأسست مجلسا للمرأة فوق الوزارة وفوق كل الهيئات، ويتبع رئاسة الجمهورية مباشرة، وكأن الاهتمام بالمرأة هو مجرد الاهتمام بنفسها فحسب. ولماذا لم تأت يوما غاضبا بسبب التشريعات التى تصدرها سوزان مبارك ضد الشريعة الإسلامية التى تلغى آيات قرآنية وأحاديث شريفة؟!

جالوت:

ونعود مرة أخرى إلى ذكر القرآن لأسماء الطغاة صراحة حتى لا يظن البعض أن ذلك مقصورا على أبى لهب أو فرعون موسى. فقد تم تخليد اسم جالوت فى القرآن الكريم، كتجسيد لقصة من قصص حرب الحق ضد الباطل. وكما نقول دوما: فإن القرآن ليس كتاب تاريخ، وكل كلمة وحرف فيه لهما دلالة وموضع فى عملية الإرشاد للمؤمنين حتى يوم الدين. ويفهم ضمنا أن ذكر اسم جالوت فى القرآن الكريم يعنى ورود اسمه وقت حدوث الأحداث فى التوراة التى أنزلها الله على موسى عليه الصلاة والسلام: )وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ( (البقرة).

وقد ورد اسم جالوت فى التوراة باسم جليات.

آزر:

)وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ( (الأنعام: 74).

وهنا نجد حوارا مباشرا ومواجهة سافرة بين سيدنا إبراهيم عليه السلام وأبيه، الذى يذكره القرآن بالاسم مع نعته بأشد الأوصاف، وتختلف التفاسير القديمة والمعاصرة حول كلمة آزر إلا أن الأغلبية ترى أن هذا اسم والد إبراهيم عليه السلام كما هو واضح ببساطة من القراءة السلسة للقرآن الكريم.

وآزر ليس شخصية عابرة بالقرآن الكريم لمرة واحدة، بل عاد إليه القرآن عدة مرات: )وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ( (التوبة: 114).

ونقرأ أيضا: )وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً {41} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً {42} يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً {43} يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً {44} يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً {45} قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً {46} قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً {47} وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً( (مريم).

ويلاحظ هنا أن والد إبراهيم عليه السلام هدده بالرجم، وهى عقوبة معروفة فى المجتمعات القديمة تنفذها السلطات، وقد وردت على لسان علية القوم من الحكام فى القرآن الكريم فى 5 مواضع أخرى. والروايات الإسرائيلية تشير إلى أن آزر كان من أمراء الملك، وفى رواية أخرى أنه كان صانع التماثيل والأصنام، وهو أمر يجعله أيضا فى مصاف الطبقة الحاكمة. ولكننا لا نعتمد على هذه الروايات، بل نعتمد بالأساس على معنى وسياق الرجم فى القرآن الكريم، وأنه عقوبة تنفذها السلطات الحاكمة، وليس أى مواطن على مواطن آخر، فضلا عن الوالد مع ابنه، وكذلك نعتمد على هذا التوقف القرآنى عند آزر؛ فهو لم يكن شخصا عاديا أو مجرد أب عادى؛ بل سماه القرآن: عدو الله، فهو لم يكن مجرد كافر، بل ناشطا فى محاربة الإيمان. أما حديث إبراهيم عليه السلام إليه فقد خلده القرآن وهو يقول لأبيه: )يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ(.

فهب أن كاتبا كتب مقالا فى عصرنا بعنوان: يا مبارك لا تعبد الشيطان، ألا يعد هذا سبا وقذفا وإساءة لمقام الرئاسة، وعقوبة الاثنين السجن عامين!! هل إذا كتب كاتب مقالا بهذا العنوان يأتى إليه مسلم ورع ليقول له: ما هكذا يخاطب الحكام مهما فعلوا ومهما قالوا!! حتى إن اتبعوا بوش وكونداليزا وأولمرت من دون الله. حتى وإن فرضوا شرائع الأمم المتحدة المناهضة لشرع الله!

ولم يتوقف اهتمام القرآن الكريم بوالد إبراهيم عليه السلام آزر عند هذا الحد, فاقرأ: )وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ {51} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ( (الأنبياء)، واستمر الحوار حتى الآية (70).

وأيضا: )وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ {69} إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ( (الشعراء)، واستمرت القصة حتى الآية (104). ومن بينها: )وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ( (الشعراء: 86).

وفى سورة أخرى: )إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ( (الصافات: 85).

وأيضا: )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ( (الزخرف: 26).

وأيضا: )إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ( (الممتحنة: 4).

هامان:

وورد اسم هامان 6 مرات فى القرآن الكريم، وهو الرجل الثانى فى سلطة فرعون، ويمكن اعتباره رئيس الوزراء ووزير الداخلية، وكل مستبد له مساعد يتولى إدارة البلاد ويمسكها بيد من حديد، حتى يتفرغ المستبد لأبهة السلطة ومشاغلها الفارغة، وهى سنة من سنن الله الاجتماعية، وسنجد عبر التاريخ أهمية قصوى للرجل الثانى فى أى نظام مستبد، وسنجده معروفا بالاسم فى كل هذا النوع من الأنظمة التى تعتمد على الحكم الفردى: قد يكون رئيس الوزراء أو وزير الداخلية أو رئيس البلاط الملكى أو الجمهورى.

قارون:

وردت قصة قارون فى سورة القصص، وفيها نستمع إلى حوار مباشر لنتعلم منه كيف نحاور الطغاة ونواجههم: )إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76} وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ( (القصص).

فهل إذا خاطبنا جمال مبارك وأحمد عز بهذا الخطاب سيعد بعض المؤمنين الورعين ذلك إساءة للأدب وسبا وقذفا وأمورا لا فائدة منها، فالناس تعرف كل شىء ولا داعى للتجريح الشخصى!!

وقارون يرمز للطغيان المالى قرين الطغيان السياسى، وليس بالضرورة أن يكون شخصا واحدا، بل كل طبقة المترفين. ولكن القرآن الكريم يعلمنا مواجهة الطغاة على نحو مشخص ومعين، وإلا فإن الكلام العام يصبح لا معنى له، وكأنه سهم طائش فى الهواء الطلق. فما بالكم وقد تجسد الطغيان السياسى والمالى فى شخص واحد هو حسنى مبارك. تصوروا فرعون وقارون تجسدا فى شخص واحد، هل يمكن السكوت عنه، والتحدث عن الفساد والمفسدين بشكل عام. والحديث عن الصبية من العاملين عنده؛ كابنه جمال وأصدقائه: عز ورشيد والمغربى ومنصور! بل إن سكرتيره زكريا عزمى قد يكون هو هامان هذا العصر، فهو الذى يدير ويبلغ الأجهزة الأمنية والوزراء برغبات الإله مبارك. لأن الإله لا يتحدث للبشر مباشرة بل من وراء حجاب أو من خلال رسول. خاصة بعد بلوغه أرذل العمر، وعدم قدرته على إدارة العمل اليومى بنفس الوتيرة السابقة. بل يمكن القول إن مبارك قد تقسم إلى ثلاثة أجزاء (الأب والزوجة والابن)، وأى واحد من الثلاثة، بالإضافة لزكريا عزمى هم من يدير الدولة، اليقظان بدلا من النائم، والمتنبه يحل محل “المدروخ”، والمقيم بدلا من المسافر، والصحيح بدلا من المريض. وهذا يؤدى إلى حالة من الفوضى والارتباك وتضارب القرارات التى إذا تزاوجت مع حالة الفساد والاستبداد والتبعية تكون البلاد فى أسوأ الأوضاع على الإطلاق.

بلقيس:

وتحدث القرآن الكريم عن الملكة بلقيس التى كانت هى وقومها يعبدون الشمس من دون الله، فلما أرسلت لسليمان عليه السلام هدية لتضمن السلم معه وتشترى سكوته عن مملكتها قال سيدنا سليمان عليه السلام لمبعوث بلقيس: )أَتُمِدُّونَن بِمَالٍ فَمَا آتَانِي اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ {36} ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ( (النمل).

وهكذا نجد الحديث صريحا مباشرا لا يعرف ما نسميه الآن دبلوماسية، فأصحاب الرسالات لا يتحدثون الدبلوماسية فى غير موضعها، والدعوة إلى الله لا تحتمل المداهنة والكلام المعسول ولا أنصاف الحلول، بل يستخدم سيدنا سليمان عليه السلام تعبيرات: )بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ(، وهى سخرية من أناس لا يدركون إلا المعانى الدنيوية، ثم يستخدم عبارات التهديد ثم يستخدم عبارات: أذلة، صاغرون. إذن ليس من إساءة الأدب عندما يبعث مبارك لداعية كى يشتريه بالمنصب أو المال أو الهدايا أن يتوعده بأنه سينظم حملة شعبية لإطاحته ذليلا من الحكم، لإقامة شرع الله. لماذا يسقط الدعاة والعارفون بالله والعاملون فى الحقل الإسلامى كل هذه الدروس والمصطلحات من القاموس القرآنى. هل يقول أحد إن سليمان عليه السلام كان قويا ومدعوما بالجن، ولكن هل كان سيدنا إبراهيم عليه السلام قويا قوة سليمان عليه السلام وهل كان محمد عليه الصلاة والسلام بقوة سليمان عليه السلام وهو فى مكة أو حتى فى المدينة، خطاب الرسل والأنبياء واحد فى القوة والضعف، لأنه إذا كان صاحب الرسالة لا يقول ما يعتقده إلا عندما يكون قويا، فما الفرق إذن بينه وبين أى سياسى براجماتى له منهج مكيافيلى: (الغاية تبرر الوسيلة) أو أى سياسى انتهازى يرفع شعار: (اتمسكن لما تتمكن). إن قوة صاحب الرسالة أنه يدعو لها فى السراء والضراء وحين البأس فى القوة والضعف، وحتى عندما يكون وحيدا، واذكروا قول سيدنا موسى لله عز وجل: )قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ( (المائدة: 25).

والذين وصفهم القرآن بأنهم: )الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً( (الأحزاب: 39).

والمصلحون وأصحاب الرسالات يسيرون على نفس درب ومنهج الأنبياء، بل لأنها من سنن الله فى خلقه وجدنا عبر التاريخ من أصحاب المذاهب غير الدينية يجهرون بمبادئهم حتى فى مراحل ضعفهم؛ لأن صاحب الرسالة يجب أن يشرحها كاملة للناس، ويوضح – بشكل قاطع – المآل النهائى الذى يسعى إليه، وإلا لما التف أحد حوله، أما الذين يسعون إلى السلطة كهدف فى حد ذاته، أو يعتمدون على عصبية قبلية أو مادية أو ارتباط بقوى عالمية لمساندتهم، فهؤلاء يمكن أن يخفوا أهدافهم الحقيقية حتى تقوى شوكتهم، وليس هذا هو المنهج الذى يحكم عمل الحركات الإسلامية.

امرأة لوط وامرأة نوح:

وقد تحدث القرآن الكريم عن امرأة لوط، وهذا توجيه للخطاب لشخص محدد ومعروف فى زمانها، وذمها ليوضح لماذا هى فى الهالكين: )لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ( (العنكبوت: 32).

وقد جاء هذا الكلام على لسان الملائكة الذين أرسلهم الله إلى إبراهيم عليه السلام, أى أن وصف الظالمين والكافرين بالاسم فى غيابهم ليس اغتيابا كما يردد البعض!! ثم كرروا نفس الخطاب عندما أتوا إلى لوط نفسه: )إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ( (العنكبوت: 33).

وعن امرأة نوح قال القرآن الكريم: )ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ( (التحريم: 10).

وفى هذا إشارة لدور نشط لكلتيهما فى دعم الطبقة الفاسدة الحاكمة (الملأ) فى قومهما، وليس مجرد استعصاء قلبيهما على الإيمان، فاستخدام تعبير خانتاهما يشير إلى ذلك. وتعبير ضرب الله مثلا يشير إلى ذلك، فالمثل لابد أن يكون من شخص موغل فى العداء والصد عن سبيل الله. فى مقابل مثلين آخرين: امرأة فرعون ومريم ابنة عمران.

الانحرافات الجنسية للحكام:

انزعج البعض لإشارتى فى بعض المقالات لانحرافات جنسية للحكام، على أساس أن هذا ليس من شيم وأخلاق الإسلام. وكنت أرى أن الانحرافات الجنسية من مظاهر حياة المترفين من الحكام، ومن علامات إقبالهم على الدنيا، ومن علامات فسقهم، بحيث لا يمكن أن يطاعوا، فالانحراف الأخلاقى للحاكم ليس مسألة شخصية؛ لأن له ولاية على المجتمع بأسره، فإن كان مستهترا من الناحية الأخلاقية فكيف نأمنه فى الولاية على المجتمع، وكيف نضمن نزاهته وتجرده، وكيف يكون مسئولا عن حماية القيم والأخلاق والدين فى المجتمع، وهو من أوجب واجبات الحاكم فى الإسلام (حراسة الدين وسياسة الدنيا، كما قال الماوردى)؟؟ وقد رأيت فى اهتمام القرآن الكريم بجريمة الشذوذ الجنسى مثلا دعوة لنا للاهتمام بمثل هذه الأمور. وإذا كان بعض الملحدين والعلمانيين لا يرون فى الحرية الجنسية أى مأخذ أصلا, أو يعتبرونها من قبيل الحرية الشخصية التى لا تهمنا, حيث يجب لعامة الناس والسياسيين أن يهتموا بصواب أو خطأ السياسات، وليس فى المكان الذى أمضى فيه الحاكم ليلته ومع من وماذا فعل؟!!

فى حين يتعين على الإسلاميين ألا يقعوا فى هذا الشرك، شرك الفصل بين السياسة والأخلاق، فهذا هو المفهوم الميكيافيلى الغربى، بينما يرى الإسلام أن الارتباط بينهما عضوى لا يعرف الانفصال إذا كنا نتحدث عن السياسة القويمة التى تفيد وتخدم المجتمع. بل لقد علمتنا السنون أن التكوين الأخلاقى للشخص أهم من آرائه السياسية، فإذا كانت آراؤه خاطئة يمكن أن تصوب، أما إصلاح الأخلاق وتصويبها فهو أصعب بكثير، وهناك من الناس من لا يهتدون حتى نهاية العمر.

المهم نحن نفرق هنا بين ارتكاب جرائم الانحراف الأخلاقى والجنسى بين المواطن العادى وبين الشخص الحاكم أو المسئول. فالقاعدة مع الأول هى التستر عليه عسى أن يهديه الله، أما الشخص المسئول فإن انحرافه الخلقى يعم على المجتمع بقدر ما ترتفع إليه مكانته ومرتبته. ومع ذلك فليس من خلق الإسلام تتبع العورات حتى بالنسبة للشخص المسئول، ولكن ماذا لو كان من المجاهرين بالمعصية: كشرب الخمر علنا، ومصاحبة النساء بصورة علنية، أو من المجاهرين بأفضلية الشذوذ الجنسى، أو يصادقون من يجاهر بانحرافه الجنسى، أو يكون وزيرا للثقافة ويطبع كتبا تحض على الشذوذ الجنسى.

وهنا فإن التعامل مع مثل هذه القضايا لا يرتبط بالشروط الشرعية لتطبيق الحد، فليس المطروح فى هذه الحالة إقامة الحد، ولكن تكفى الشبهات لإزاحة المسئول أو الحاكم من منصبه؛ لأنه لم يعد جديرا به. فنحن أمام مسألة سمعة وأقرب لعلم الجرح والتعديل الذى يطبق على رواة الحديث، وليس فى مجال الإحالة للمحاكمة وفق الشروط الشرعية لإقامة الحدود، مع افتراض أن الشريعة تطبق أصلا!!

ولنا فى سورة يوسف مثالا مشرقا من القرآن الكريم فى إمكانية تناول هذه الأمور فى العلن، خاصة عندما يتعلق الأمر بأشخاص مهمة ومسئولة، وفى ظل قرائن عملية نقلت الموضوع أصلا إلى العلن: )وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ( (يوسف: 25)، وحدث الحوار حول قميص سيدنا يوسف عليه السلام هل تمزق من الخلف أم من الأمام، ولما كان ممزقا من الخلف فكان هذا دليل براءته وصدقه. ثم واصلت امرأة العزيز تحديها عندما جمعت نسوة المدينة ليكففن عن الخوض فى سيرتها، فبعد أن ذهلن من حسنه قالت لهن: )وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ( (يوسف: 32)، ونعلم أن سيدنا يوسف عليه السلام قد اختار السجن. وبعد سنين عندما جاءه قرار الإفراج لم يفرح به، بل طلب تبرئته من تهمة الزنا قبل أن يخرج من السجن، فاعترفت امرأة العزيز علنا وسط اجتماع عام بخطئها، وأنه من الصادقين. سنجد أن كل تفاصيل الواقعة كانت تناقش فى العلن كما اكتشفت فى العلن (العزيز رآه على باب البيت وملابسه ممزقة وامرأته معه). وسورة يوسف من أروع القصص القرآنى فى مجال الأخلاق، وهى القصة الوحيدة لنبى فى سورة واحدة متكاملة. إذن الانحراف الأخلاقى والجنسى يناقش فى العلن بقدر ما توجد قرائن عملية دامغة عليه، وهو بالنسبة للحكام والمسئولين وأسرهم ليس من قبيل الأمور الشخصية. وليس من قبيل الصدفة أن كانت هذه القصة الفريدة فى القرآن بكل هذا التفصيل عن واقعة جنسية تتعلق بالطبقة الحاكمة، أو كما نقول الآن الشخصيات العامة.

*****

خلاصة البحث أن القرآن الكريم علمنا مواجهة الطغاة والحكام الفاسدين بشكل مباشر، فى وجوههم إذا كان ذلك متاحا، وفى غيابهم فى أى اجتماعات عامة؛ لأن الاغتياب لا ينطبق على الحكام والمسئولين، ولا حتى على المجاهرين بالمعصية فلا غيبة لفاسق، وهذا ما أكده الفقهاء الثقاة مرارا، وأن عدم تسمية الجانى بالاسم يميع القضية، ويسمح للجانى بالهروب المعنوى، مع انتشار بعض الآراء الفاسدة التى تدعى أن الحاكم صالح ولكن بطانته بطانة سوء. وهذا أمر مستحيل؛ فالبطانة من اختيار الحاكم، وهو المسئول الأول عن بقائها، وكلنا يعلم السلطات المطلقة التى يملكها الحاكم المستبد فى اختيار مساعديه ووزرائه. كذلك – كما قلنا – لابد من التحطيم المعنوى لرمز الفساد فى مقابل حملة النظام لتقديسه وتنزيهه عن الهوى والخطأ، كما يحدث فى بلادنا وبلاد عربية أخرى كثيرة. ولابد لحملة رسالة التغيير أن يدفعوا ثمن صراحتهم فى مواجهة الباطل، وإلا لما استحقوا أن يكونوا قادة ومصلحين، بل عليهم أن يتبعوا سنة الأنبياء جميعا، وألا يخافوا فى الله لومة لائم. وهذا قانون عام للتغيير، بمعنى أن الطامحين للتغيير حتى وإن كانوا غير مسلمين لا ينجحون فى مسعاهم إلا بالتحطيم المعنوى لرموز النظام الفاسد القائم. إن النواميس التى نستخلصها من القرآن الكريم سنكتشف أنها هى هى التى تحكم حركة التغيير فى التاريخ، وأن هذه القوانين تعمل لصالح المؤمنين كما تعمل لصالح غيرهم إذا توصلوا لها بالعقل والمنطق. كما هى الحال بالنسبة لقوانين الطبيعة. ولكن فى أمور العمران والاجتماع البشرى فإن العاملين بالقوانين الصحيحة من غير المسلمين يسبقون المسلمين فى التقدم الاجتماعى بشكل عام، ولكنهم لا يحققون النموذج الحضارى الإسلامى الذى لابد أن يجمع بين الإيمان بالله والأخذ بالأسباب، أو ما نسميه القوانين الاجتماعية، ومختلف النواميس التى تحكم حياة البشر والتى وضعها الله كى نكتشفها بأنفسنا بالبحث والدراسة والتجربة والخطأ، ولكنه هدانا إليها بموجهات وبوصلة مساعدة وهادية: القرآن والسنة.

وللبحث بقية إن شاء الله إن كان فى العمر بقية.

المراجع

  • موسوعة ويكيبديا.
  • كتب السيرة النبوية.
  • قصص الأنبياء للإمام أبى الفداء إسماعيل بن كثير – تحقيق محمد أحمد عبد العزيز – دار الحديث – القاهرة.
  • لباب النقول فى أسباب النزول – للإمام السيوطى – حققه وعلق عليه د. محمد محمد تامر – كلية دار العلوم – قسم الشريعة – دار العنان – القاهرة – الطبعة الأولى.
  • عدد من التفاسير القديمة والمعاصرة على رأسها: ابن كثير – القرطبى – الزمخشرى – الطبرى – سيد قطب – المنتخب.
  • إبراهيم أبو الأنبياء – عباس محمود العقاد – نهضة مصر – القاهرة – 2001.
  • الجهاد صناعة الأمة – مجدى أحمد حسين – الطبعة الثانية – 2003 – القاهرة.

تعالوا نعبد الله كما أمرنا!

بسم الله الرحمن الرحيم

)رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَاراً {6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فى آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً {7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً {8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً {9} فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً {10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً {12} مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً {13}( (نوح).

تلح علىَّ هذه الآيات كلما حزب الأمر وتعقد، وكلما أحاطت بى وبإخوانى نغمات اليأس الواقعية, فى ظل نظام قادر دوما على البطش بقوات كان مثل عددها قد تم حشده لمواجهة الاحتلال الإسرائيلى لسيناء وفى إطار محاولة تحريرها أو أجزاء منها، وفى ظل نخبة معارضة – إلا من رحم ربى – غير مشغولة إلا بحساباتها الخاصة دون حسابات الوطن, بل وبالأساس دون حسابات الإيمان بالله. فقد قتلت نفسى بحثا فى آيات القرآن الكريم والسنة المؤكدة فلم أجد آية واحدة تقول إن رايات النصر معقودة بالكثرة الغالبة، بل وجدت العكس تماما: )وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ( على سبيل المثال. ويعلمنا القرآن الكريم والسيرة النبوية أن نقول الحق لا نخاف فى الله لومة لائم، وأن قول الحق والحقيقة كاملة غير منقوصة لا صلة له البتة بالكثرة أو القوة العددية أو المنعة المؤكدة, وأن الأنبياء بنوا جسرا مع المستضعفين والأراذل من الناس بهذه الجرأة فى الحق والاستعداد لتقبل أية مصاعب وعذابات فى سبيل إعلاء كلمة الله. ويقول المفسرون إن ابتلاءات الأنبياء كانت علامة صدقهم أمام الناس. تلح على القلب هذه الحرقة فى الدعاء التى لا يماثلها إلا دعاء موسى عليه السلام على آل فرعون ودعاء محمد صلى الله عليه وسلم قبيل اندلاع الاشتباكات الفاصلة فى غزوة بدر. ولكن لنواصل أولا مع سيدنا نوح: )رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً {21} وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً {22} وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً {23} وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً {24} مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً {25} وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً {26} إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً {27} رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَاراً {28}( (نوح).

*****

)وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً(.. إن القرآن يعيش معنا وكأنه يتحدث عن مأساتنا فى القرن الواحد والعشرين فى مصر.. إنه يؤكد ثوابت انحرافات البشرية كما يؤكد ثوابت النجاة والإنقاذ فى كل العهود. إنها نفس القصة تعاد ولكن بخلفيات مختلفة وتكنولوجيات أرقى وملابسات متنوعة. إن الطغمة الحاكمة هناك استحوذت على الثروة وتهيىء لأولادها حياة مترفة ناعمة، والتى لابد أن تنتهى بتوريث الحكم لهم؛ لأن السلطة هى الأساس الذى يجلب كل مغانم الدنيا التى تأتى راكعة تحت أقدام المستبدين. ويساير الضعفاء هذه الأوضاع لعلهم يحصلون على فتات الموائد ولضمان السلامة من أى إيذاء أو تعذيب. والآن القصة تعاد, الجموع الغفيرة صامتة وتسير فى القافلة متصورة أنها بدخولها المساجد وصيام رمضان وبالتهجد والقيام قد أنجزت وعد الله، أما شئون السياسة والتشريع والحرب والسلام فهى ليست من شئون الدين. وهذا بالضبط ما يريده الطغاة. عندما جاء نابليون بونابرت إلى مصر ادعى الإسلام وشجع المصريين على أداء العبادات، ولكن عندما تحول الأزهر إلى مركز لمقاومة الاحتلال اقتحم بونابرت الأزهر بالخيول ودنسه. والحكام المفروضون علينا باعتبارهم مسلمين هم أسوأ من بونابرت لأنهم جعلوا العبادة بالبطاقة الشخصية، وهو ما لم يخطر على بال هذا الشرير الفرنسى!

وعندما سمعنا أن حكام تونس بلغ بهم الهوس أن ينظموا الدخول فى المساجد بالأسماء وإعطاء المسجلين تذاكر ممغنطة ليدخل كل زبون مسجدا واحدا بعد وضع أبواب عليه كتلك الموضوعة على محطات المترو. ضحكنا حتى كاد بعضنا يستلقون على أقفيتهم.

وقلنا “شوفوا التخلف وصل لفين فى تونس”! فإذا بنا نطبق حكاية تسجيل الأسماء فى المساجد والحصول على إذن من الأوقاف للاعتكاف (فى الواقع هو من أمن الدولة) فى مصر أم الدنيا، التى يوجد على أرضها أقدم معابد البشرية. أنتم تريدون الصوم والصلاة وتتركون لهم السياسة. هم يوافقون كما وافق بونابرت فى البداية. ولكنهم يضحكون عليكم ويتدخلون فى شئون عبادتكم وطقوسكم الدينية.

أنتم تصورتم أنكم خدعتم الحكام.. أخذتم الدين وتركتم لهم الدنيا. هم رحبوا بهذه القسمة فأخذوا الدنيا كلها إلى حد تجفيف منابع الخير, وتركوكم فى أزمات مستعصية وهذا عقاب دنيوى أولى لهذه القسمة الضيزى التى ارتضاها المؤمنون. ومع ذلك فقد رأى الحكام مع أسيادهم فى الغرب (الطاغوت الأكبر) أن استمرار تمسك الشعب المصرى وأمثاله ببعض المفاهيم الدينية حتى وإن كانت لا تتعرض للسياسة ولا تتصل – والحمد لله – بمعانى الجهاد، لا تزال تمثل خطرا شديدا على مصالح الاستكبار العالمى, فبدأوا يتدخلون فى أخص شئوننا حتى وصلوا إلى غرف النوم، وحكامنا وشيوخهم يدخلون وراءهم فى كل جحر حتى لو دخلوا جحور الضب دخلوا وراءهم!

التمسك بالزى الإسلامى والختان للرجال والنساء وتقاليد وعادات الزواج المتخلفة ومنع بنات المدارس من ممارسة الجنس قبل الزواج. كل هذه أمور مزعجة هى وغيرها تشكل نوعا من المقاومة السلبية والحفاظ على الشخصية الحضارية انتظارا لساعة الفرج. فهم لن يتركوا لنا ولا حتى قوانين الأحوال الشخصية والميراث. وقد كانت لهم نجاحات غير قليلة مع الهندوس واليابان, فما لهؤلاء المسلمين يستعصون على إعادة التشكيل؟! وهذا لن يكون إلا من أعلى سلطات الدولة, ونشرنا من قبل تقريرا أمريكيا يروى قصة نجاح فى موضوع ختان الإناث فى مصر, لأن البداية كانت بإقناع زوجة الحاكم التى كرست كل أجهزة الدولة لتحقيق النصر فى هذا المجال. وهكذا كانت الخديعة.. حصلتم على الدين وتركتم الدنيا للحاكم فرحب بهذا الكرم الحاتمى، فأخذ الدنيا كلها إلى حد أن فتات الموائد لم يعد يكفى البطون الجوعى، فركب المصريون “الفلايك” ورحلوا إلى أثينا وروما فابتلعهم باطن البحر المتوسط، وبلغت الخسائر البشرية على هذا الخط البحرى وحده أكثر عدة مرات من خسائر حزب الله فى حرب لبنان الأخيرة التى أذلت إسرائيل.

ثم جاءت المرحلة الثانية، وهى التدخل فى شئون العبادات إلى حد تأميم المساجد، وهى ظاهرة لم تعرفها مصر منذ الفتح الإسلامى.

ولكن الخديعة الكبرى كانت فى هذه المساومة الشركية، أى مساومة توقع الطرفين فى الشرك؛ لأنه لا يمكن فصل الدين عن الحياة. وإذا كان الحكام يفرطون فى عقيدتهم فهذا لا يحتاج إلى إثبات ولا نقصد مجرد أداء الشعائر؛ لأن فى مصر وحدها نسمع أن الحاكم أناب عنه رئيس الوزراء لأداء صلاة الجمعة!! ليست أول مرة تنشر هذه الفكاهة، ولكن الطريف أن هذه هى صلاة الجمعة الوحيدة التى يصليها طوال العام (الجمعة الأخيرة من رمضان). وهذا هو الحاكم الوحيد (ربما بعد بورقيبة) الذى يجاهر بأنه لا يصوم رمضان، وكرر ذلك فى أكثر من حديث صحفى. ولقد اضطررت للخوض فى تلك النقطة التى تبدو حساسة رغم أن عالما جليلا فرض على أحد الملوك أن يصلى فى المسجد مع الشعب، وأن عدم صلاته فى جماعة على طول الخط تعنى أنه لا يصلى أصلا والتزم الملك. أقول اضطررت للإشارة لذلك لأن هناك تيارا إسلاميا يستند إلى حديث واحد وبتفسير ضيق له حتى لا يجاهد الحاكم ولو بكلمة صدق: (إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا) مسلم.

رغم أن الحديث هنا ينكر قتالهم ولكنه لم ينكر مجاهدتهم باللسان وبالعمل الشعبى السلمى. كما أن الحديث هنا لا يعنى الصلاة كحركة دون مضمون, أى أنه يشير إلى الإيمان والإسلام، وهذا ما لا ينطبق على حكام استبعدوا الشريعة أصلا كمرجعية.

إن مشكلتنا مع الحكام لا تتلخص فى عدم مواظبتهم على الشعائر, وهى أمور قد تصيب المواطن المسلم وينصلح حاله بعدها, ولكننا نرى حكاما باعوا أنفسهم للشيطان علنا، فلم نعد فى حاجة إلى تتبع عوراتهم أو التجسس عليهم أو البحث عن جهاز جديد لقياس درجة الإيمان والتقوى, نحن أمام فجار يفجرون فى الطريق العام، فما هو وجه التردد فى إعلان التيار الإسلامى فى مصر أن هذا نظام غير شرعى، ويتوجب العمل على خلعه، وأن هذا من صميم العبادة وأصل العقيدة. لأن الله سبحانه وتعالى استعمرنا فى الأرض واستخلفنا فيها لتنظيم حياتنا وفقا لشريعته وليس لتعليمات صندوق النقد الدولى والبنك الدولى ومن أعداء الإسلام عموما. لقد وصل الإجرام بحكامنا إلى حد مد الأعداء بكل احتياجاتهم من البترول والغاز بأرخص الأسعار، وتكريس كل إمكانيات مصر وما فى جوف أراضيها وما فوق أرضها وفى مياهها الإقليمية وأجوائها للقوات الصليبية التى تضرب العراق وأفغانستان وغدا إيران.

إن حكامنا انقطعت كل صلة لهم بالوطن والدين، وأصبحوا خدما لأعداء الله ورسوله وأمة محمد رسول الله وأعداء الوطن والعروبة. ومبارك هو قائد هذه الزمرة المارقة.

ولا أدعى أننى أقدم اجتهادا جديدا، بل أزعم أن هذا هو ألف باء الدين. فمعركة الأنبياء مع الطواغيت لم تكن حول الشعائر وعدد الركعات، ولا حتى حول فكرة وجود خالق ورب لهذا الكون، بل كانت حول التوحيد النقى والصافى لهذا الرب وعدم الإشراك به. وقد كان طغاة الحكام هم أعداء هذا الدين؛ لأنه – ببساطة – يسوى بين البشر ويجعل المال كله لله، وبالتالى لا تكون لهم سلطة خاصة ولا مال يفعلون به ما يريدون، وينزع منهم كل الامتيازات، ويصبح النبى أو الرسول أهم منهم حتى وإن لم يتقلد السلطة رسميا؛ لأنه سيكون المرجعية الأساسية لقيم وقواعد المجتمع. ولهذا فإن الاصطدام بمثل هؤلاء الحكام مسألة حتمية لإقامة الدين. بل إن إزاحتهم عن السلطة أمر واجب ومن صميم الدين.

يقول د. محمود توفيق محمد سعد – جامعة الأزهر – فى كتابه “فقه تغيير المنكر”: (فالإسلام يدعو إلى الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية خلف ولى أمرها، إلا أن يأمر بمعصية أو ينهى عن طاعة عن علم، أو يأتى من الأفعال أو الأقوال ما هو كفر صراح فيه من الله برهان، كترك إقامة الصلاة، وامتناع عن الحكم بما أنزل الله تعالى، أو مناصرة غير المسلمين وتنفيذ مخططاتهم فى إذلال الأمة، أو الإرجاف فى قومه بأن أمور العالم من حولها وتصريفها إنما هى فى يد دولة ما – لاحظوا من المقصود! م.ح – غير مسلمة، لبث روح اليأس فى قومه فيركعوا لأعدائها.. إلخ, تلك الأفاعيل الماحقة لوجود الأمة المسلمة، وجود عزة ومنعة، فمثل ذلك لا يسع الأمة قط الصبر عليه، بل يجب عليها فريضة عين أن تنزع يد الطاعة منه، وأن تخلع بيعته – إذا كانت قد بايعته أصلا م. ح – وأن تولى على المسلمين غيره منهم، يقودهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) بل ويضيف: (وإن لم يكن لها سبيل إلى تحقيق هذا إلا السيف، فإن السيف أهون من الحياة تحت ولاية مثل هذا السلطان، وإن السيف حينذاك هو العدل، الذى لا تقوم الحياة المسلمة إلا به.

وإذا ما كان هدى الإسلام فيما دون كفر الإمام، هو الصبر والسمع فيما لا معصية لله تعالى فيه، فإن هديه أيضا السعى بالحسنى إلى تغييره واستبدال إمام صالح به، إذا كان إلى ذلك سبيل حسن، لا يراق فيه دماء. وعلى علماء الأمة بيان ذلك السبيل الحسن، والدعوة إليه ومناصرته بالحكمة والموعظة الحسنة).

وقد أوضحت – فى غير هذا المكان، وأكثر من مرة – أننا نرى التغيير السلمى هو الطريق الأسلم والأوضح والأكثر نجاعة بناء على معطيات فقه الواقع عموما والواقع المصرى خصوصا، بغض النظر عن توصيف حالة الحاكم المرفوض.

وقد استخدم العصيان المدنى عديدا من المرات فى تاريخ مصر، ونجح فى تحقيق أهدافه بما فيها الإطاحة بالحاكم “ذات نفسه”.

الكلام لا ينتهى ولكن سأظل أقرع مسامعكم عسى أن أنجح فى إصابتكم بتأنيب الضمير والشعور بالتقصير فى أداء الأمانة التى حملها الإنسان دون السموات والأرض والجبال. إن الله يأمرنا بإصلاح الأرض ولا نملك إذا كنا مؤمنين حقا إلا أن نقول سمعنا وأطعنا، وأن نكون على خلاف نموذج بنى إسرائيل الذى طالما خوفنا منه القرآن الكريم، وهم الذين قالوا: )سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ(.

الرسالة رقم 26 إلى الشعب المصرى.

مقاومة الظلم عبادة وقرينة التوحيد

)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {42} هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً {43} تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً {44} يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً {45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً {46} وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً {47} وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً( (الأحزاب).

إن حياة المؤمن كلها لله، وهو يسير فى طريق الحياة الدنيا والله سبحانه وتعالى نصب عينه، ويملك عليه كل ذرة من كيانه.. هو يسبح باللسان ونبضات القلب، وبالأعمال الصالحات.. هو فى اتصال دائم ولحظى بالله عز وجل, وإذا اندفعت مشاعره أو اهتماماته أو مجرد حديثه وألفاظه بعيدا عن المرجعية الربانية جاء موعد الصلاة ليذكره بهدفه من الوجود ومقصده النهائى، فيراجع نفسه ويستغفر الله، ويعيد ضبط نفسه وزوايا اتزانه، كما تفعل الأجهزة مع عجلات المركبات. ومن أجل هذا شرع لنا الله الصلاة فكانت نعمته الكبرى علينا. ولذلك شبه الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة بالاغتسال خمس مرات فى اليوم. فهل يبقى دنس فى جسد يغتسل بهذا المعدل. إنه يتطهر خمس مرات يوميا، والوضوء صنو هذه الطهارة الروحية، فلا توجد طهارة روحية بدون طهارة مادية، بل هناك صلة تفاعلية بين الاثنتين: )وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ( (الأنفال: 11).

إذن نحن وكل ما نملك لله جل وعلا, وهذه العبادة هى ذروة المتعة فى الحياة الدنيا، وفى نفس الوقت فإن الله غايتنا، ومبتغانا أن نلقى وجهه الكريم يوم القيامة؛ لأن الذى يغضب عليه الله لا ينظر إليه ولا يكلمه فى هذا اليوم العظيم. وفى مقابل هذا الإقبال على الله سبحانه وتعالى، فهو يحبنا كما نحبه، وهو أسلوب بلاغى يعكس التودد والمحبة والرحمة من الخالق العظيم كما ورد: )رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ( (المائدة: 119، التوبة: 100، المجادلة: 22، البينة: 8)، وبالتأكيد فإن اللفظ واحد، ولكن الفعل مختلف تماما؛ فصلاة الله على المؤمنين هى الرحمة والرعاية والتوفيق وصلاة ملائكته بالاستغفار. وكما أن رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام هى أن يكون شاهدا على من أرسل إليهم ومبشرا من صدقه واتبعه بالجنة، محذرا الكافرين ومنذرا لهم بالعذاب إذا لم يتوبوا. وداعيا إلى الله، وهذه هى رسالة المؤمنين من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام إلى يوم الدين. والرسول يبشرنا بفضل كبير من الله فى الدنيا ثم أساسا بالآخرة: )جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( (آل عمران: 33). ولماذا إذن كل هذا الإغداق من رب العالمين ومقابل ماذا؟ وهى كأنها صفقة بيع وشراء كما وصفها القرآن مرارا ليقرب المسألة إلى أذهاننا. الطرف الآخر من المعادلة أو الصفقة التجارية إن شئت: هى عدم إطاعة الكافرين والمنافقين وعدم الالتفات لأذاهم، ليس لأنه غير مهم أو غير مؤثر عليه وعلى أتباعه، ولكن المقصود هو عدم الجزع من هذه الأذية من زاوية أنها لن توقف الرسالة عن تحقيق أهدافها ومراميها: )وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ( (يوسف: 21). إذن عدم إطاعة الكفار والمنافقين هى أبرز علامات صدق الإيمان. فالإيمان كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هو: “ما وقر فى القلب وصدقه العمل”. وطاعة الكافرين والمنافقين لها أشكال وصور مختلفة؛ فمنها التأييد الصريح والعمل الناشط والفاعل فى تنفيذ ما يأمرون به من أوامر وتعليمات وسياسات تخالف شرع الله. وعلى رأس هؤلاء جند فرعون الذين يمثلون القوة الباطشة له فى تركيع جموع الشعب وحتى لا يفكر أحد فى الخروج على أوامره. ونحن لدينا من هؤلاء قرابة المليون هم قوام الجهاز القمعى، وهذا عدد كبير للغاية ونسبة كبيرة من الشعب إذا استبعدنا قرابة 20 مليونا تحت سن التكليف أو فى مرحلة الشيخوخة والمرض الشديد. وهناك الجهاز الإدارى الذى يبلغ نحو 6 ملايين، ولاحظ أن هذا الجهاز يستدعى منه جيش لتزوير الانتخابات، بل ويستخدم فى الاعتداءات البوليسية العنيفة، كما استخدم الحزب الوطنى موظفى الحكومة والقطاع العام لضربنا فى الجامع الأزهر بالشوم والعصى أيام ما يسمى انتخابات الرئاسة. وهناك العاملون فى جهاز الإعلام القومى المكتوب والمسموع والمرئى وهناك مرسلو برقيات التهنئة والتأييد بمناسبة وبغير مناسبة, فى مختلف النقابات والهيئات. وبمناسبة هذه البرقيات يحضرنى حديث للرسول عليه الصلاة والسلام عن بريدة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل” (رواه أبو داود والنسائى بإسناد صحيح، والحاكم، ولفظه قال: “إذا قال الرجل للمنافق يا سيد فقد أغضب ربه”، وقال: “صحيح الإسناد”) (الترغيب والترهيب).

إذن هناك أشكال عدة من التأييد القولى والفعلى للمنافقين والطواغيت. وهناك جيوش من المشرعين على مستوى التفصيل القانونى ثم الإقرار التشريعى تستخرج أى تشريع يأمر به الباشا الحاكم. وهناك فقهاء للسلطان وأتباعهم كثر يحللون كل ما يراه السلطان: الربا – الخمر للسياحة – منع الختان – تأييد منع الحجاب فى أوروبا بناء على توصية من الحاكم المحلى – إدانة العمليات الاستشهادية – تعطيل فريضة الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. كم لدينا من جيوش الأزهريين: كم واحد منهم أدان التطبيع مع العدو الصهيونى والأمريكى؟! إنهم ربما يعدون على أصابع اليد الواحدة أو الاثنتين. إن الساكت عن الحق شيطان أخرس. لماذا لم يخرج منهم إلا نفر قليل يصدعون بالحق ولاذت الأغلبية العظمى بالصمت المبين. هناك جيوش من الموظفين ينفذون أوامر الحاكم فى كل مجال بغض النظر عن اتفاق ذلك مع ثوابت الدين من عدمه، وهى أمور معظمها فى علم الكافة، ولا تحتاج لمجتهدين؛ كالاستيلاء على ثروات المزارعين الذين عمروا الأرض الميتة، وهى ملكهم بلا نزاع وفقا للشريعة الإسلامية، كما يحدث الآن فى جزر النيل، والأمثلة قبل ذلك كثيرة. بينما المبدأ الإسلامى الفقهى معروف: “من أحيا أرضا ميتة فهى له وليس لمحتجر حق بعد 3 سنوات”. بينما يقول الله عز وجل فى محكم كتابه، بل ويقسم بذاته العلية: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً( (النساء: 65).

واسمحوا لى أن أسأل سؤالا ساذجا وبسيطا، وأتحدى أن يعارضنى عاقل أو مخلص واحد فى مصر كلها: هل يوجد من يعتقد أن نظام مبارك قبل أن يصدر قرارا كبيرا أو صغيرا يعرضه على القرآن والسنة، أم أنه يعرضه على خبراء لا ثقافة دينية لديهم من قريب أو بعيد، بل مشهود لهم بعكس ذلك؟ والأخطر من ذلك أنه يعرضه على البيت الأبيض وحكام إسرائيل، أو بالأحرى هم الذين يفرضون عليه أهم القرارات، والنظام يرى ضمان استمراره فى مواصلة الارتماء فى أحضان الحلف الصهيونى الأمريكى. وعندما يصمت الشعب فهذه واحدة من أهم مظاهر الطاعة؛ لأن المتصلين بتنفيذ القرار ينفذون والباقى يصمتون. مثلا كم عدد العاملين فى قطاع البترول والتعدين؟ إنهم بعشرات الآلاف. وكم عدد العاملين فى حقل السياحة أيضا؟ ربما عشرات الآلاف. هل سمعنا عن أى تمرد أو حادث واحد ضد أفواج السياحة الإسرائيلية؟ ربما حدثت بعض الأحداث النادرة والمتباعدة، ومن خارج قطاع العاملين فى قطاع السياحة. ولكننا لم نسمع عن حادث واحد فى مجال البترول، وقال مؤخرا رئيس شركة الطاقة الإسرائيلية: “إن مصر لم تتأخر لحظة واحدة فى مواعيد تسليم البترول لإسرائيل ولا مرة واحدة، حتى أثناء وقوع حروب فى فلسطين ولبنان، بل ظل التسليم منتظما منذ توقيع معاهدة السلام 1981”. إذن كل الجهاز الإدارى للدولة – بعد الجهاز القمعى والأغلبية الساحقة من القطاع الخاص – ملتزمة بتنفيذ سياسات الدولة، ليس فى مجال التطبيع فحسب، بل فى كل المجالات التى تتعارض مع مبادىء وقيم ديننا الحنيف. وأخيرا أجريت تعديلات دستورية أدت إلى تجريم العمل الإسلامى فى السياسة وأضفت الشرعية على العلمانية والإلحاد.

وهذا اعتداء صريح بلا أية مواربة على دين الله، ومحاربة صريحة لله ورسوله. ولكننا لم نسمع دقات طبول الحرب فى الشارع الإسلامى (أقصد بطبيعة الحال المقاومة السلمية). ورأت الحركة الإسلامية أن الصمت هو الحل، وأقسمت بالله جهد أيمانها ألا تستفز، وألا تقع تحت طائلة التحريض، وألا ترد حتى بالكلمات. وكأنها مسألة شخصية أو تنظيمية. إن الغضب فى الله لا علاقة له بأوضاع سياسية وتنظيمية، وإنه عندما يعتدى على الدين فلا مجال إلا المقاومة. ولابد من تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية حفاظا على الأقل على المفهوم الصحيح للعقيدة، أما المواجهات الكلامية البراجماتية فهى تميع المعنى العقائدى للصراع وتربى أجيالنا الشابة على رخاوة لم نعرفها فى كتاب الله والسنة الصحيحة. وهناك منحى آخر هو موضة المراجعات التى تتم فى أقبية السجون ووفقا لمرجعية الشيخ “لاظ أوغلى”، الذى لا نعترف به فقيها (لاظ أوغلى هو مكان أقبية أمن الدولة والداخلية). لقد كنا دائما ضد منهج العنف من أجل التغيير خاصة فى مصر، واختلفنا مع الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد. ونؤيد وقف العنف بل ونقبل الاعتذار عنه. ولكن ما نشاهده الآن هو تشويه شامل للدين على طريقة الشيخ “طنطاوى” و”ساراكوزى” ومن لف لفهما، فى مجال تفصيل دين جديد وفقا لرغبات الحكام فى مصر وفرنسا وأى بلد آخر لا يحكم بما أنزل الله. وهى سخافات شبعنا منها على مدار عقود حيث سمعنا من لا يفقه فى الدين يعطينا دروسا فى الدين؛ كرفعت السعيد، ثم يتناغم معهم ثلة من الضالين المضلين الذين يزعمون أنهم رجال دين فى حين أنهم بمعرفة الجميع رجال دنيا. والحقيقة نحن فى هذه المراجعات أمام مأساة إنسانية وأناس يريدون الخروج من السجن بأى ثمن. وبالتالى نحن لا نأخذ هذه المراجعات مأخذ الجد. ونعول على صحوة الشباب بعد فترة من استراحة المحارب. والأمر لا يسلم بدون توجيه تحية للصامدين من تنظيم الجهاد الذين لا يوافقون على الخروج من السجن بأى ثمن، وعلى رأسهم عبود الزمر وطارق الزمر ومحمد الظواهرى. ونقول لهم وللجميع: إن الأمم تعيش بمثل هذه المواقف، وحتى إن اختلفنا معهم فى هذه النقطة أو تلك فليس هذا هو المهم، فالأمة تحتاج لرجال صامدين لا يغيرون مواقفهم تحت سوط الجلاد. لست مطلعا على التفاصيل ولكننى بالتأكيد مطلع على سفاهات الداخلية.

وهناك موقف إسلامى ثالث يظن أن الوقت لم يحن بعد للعمل السياسى!! عليك الصلاة والسلام يا سيدنا إبراهيم، وكأنى أريد لك ومنك أن ترد عليهم يا أبا الأنبياء، ولكن أين منى مكانة أنت فيها. ولكن هل نحتاج فعلا لمعجزة استحضار سيدنا إبراهيم عليه السلام لكى يشرح لهؤلاء كيف بدأ العمل السياسى منذ هذا الزمن السحيق، وقبل أن ينشىء تنظيما قويا وأجهزة خاصة وجناح مسلح. ألم يصلنا جميعا شرائط فيديو مصورة وناطقة عن هذه التجربة العريضة من القرآن الكريم المحفوظ عبر السنين والأحقاب: )وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ( (الأنبياء: 57). ولماذا وضع لنا القرآن هذه القصة بقدر غير قليل من التفصيل. وأيضا قصة سيدنا نوح وأصحاب الأخدود. إن الله سبحانه وتعالى احتفظ لنا بهذه القصص فى الكتاب الخاتم على سبيل الإرشاد والتوجيه وليس على سبيل التأريخ. وقد تم نسخ ما لا يلزمنا وبقى ما هو مطلوب الاقتداء به عدا المعجزات التى لا تغير من أصل الرواية شيئا. فالمعجزات حل محلها توفيق الله فى إطار السنن الاجتماعية. كما كانت المعجزات فى السابق لا تعطل العمل العام لهذه السنن من حيث متاعب الدعوة ومصاعبها وما يواجهه الأنبياء من عنت وابتلاءات إلخ إلخ، وهكذا فإن موقف الحركة الإسلامية حائر بين هذه المواقف الثلاثة والمستفيد هو نظام الطاغوت.

إننى العبد الفقير إلى الله عز وجل أدعو جماهير هذه التيارات الثلاثة إلى إعادة تقييم وتقدير الموقف. فواجبنا كإسلاميين فى كل عصر وكل أوان وكل جيل أن نعلى كلمة الله ولا نحمل ولا ننقل هذه المهمة لأجيال قادمة، فلا يوجد نص قرآنى أو من السنة الصحيحة يأمرنا بذلك، وهذا طبيعى لأن تأجيل المهمة الإسلامية الكاملة لجيل قادم يعنى تجميد معظم أحكام وشرائع الإسلام خلال عهد كامل أو جيل كامل وهذا ما لا يجوز تصوره. وتصبح العقيدة مجتزأة ويأخذ كل فرد أو جماعة جزءا ويترك أو تترك الأجزاء الباقية، وبكل حرية، وهكذا يختلط الحابل بالنابل ولا نعرف ماذا نأخذ وماذا نترك؟ ستقولون هناك المجتهدون العلماء وهذا هو دورهم. وفى هذا خلط فادح، فدور العلماء الاجتهاد فيما لا نص فيه، وليس دور العلماء تعطيل القسم الأعظم من الدين أو أى جزء جوهرى من الدين بل ولا أى جزء على الإطلاق له نص لا يحتمل التأويل. إن عدم مواجهة الطواغيت وبشكل دائم فيه خروج صريح على النصوص الصريحة للقرآن والسنة. وفيه خروج صريح وتنكب للسير فى طريق السيرة المحمدية المشرفة.

نحن الآن أمام نظام سلم مفاتيح البلاد لأعداء الله تحت دعوى الحكمة وتجنيب البلاد مخاطر غير محسوبة، فى تطبيق يكاد يكون حرفيا للآيات الكريمة: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ( (المائدة).

باعتبارى من دارسى العلوم الاجتماعية والسياسية وممارسا للعمل السياسى فأرى أننا أمام لون من الإعجاز القرآنى لم يتوقف عنده كثيرون. إن هذه الآيات تكاد تقول بنفس الألفاظ ما يقوله حكامنا وأتباعهم من الأبواق الإعلامية والأقلام الضالة طوال حقبة كامب ديفيد، التى أورثتنا العار والخسة، بحيث نترك أشقاءنا فى أتون المعارك ونأكل نحن فى نفس الوقت من فتات موائد قتلة أشقاء الدم والعقيدة. وانتهى بنا الأمر إلى الهوان على كل الأصعدة، ولم يعد لنا كرامة لا بالمعنى المادى ولا المعنوى، وأصبحنا فى ذيل الأمم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

وحتى نلتقى فى رسالة قادمة لنردد معا سرا وجهرا: )وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً( (الأحزاب: 48).

الرسالة رقم 27 للشعب المصرى.

أيها المصريون: أخطر ما يتهددنا أن نصبح أقل من الحيوانات!

يمر كثيرون مرورا عابرا، ولا أقول مرور الكرام، على تحذيرات القرآن الكريم لبنى آدم من أن يكونوا أسوأ مرتبة من الحيوانات (الدواب والأنعام)، ولقد تعلمت وهكذا يجب على المؤمنين أن يأخذوا كلام الله مأخذ الجد، وأن يدركوا حرفية معانيه وجوهرها إذا كنا نؤمن حقا بأنه دستور سماوى من لدن عزيز حكيم. طبعا فى اللغة بما فى ذلك لغة القرآن ذاتها الاستعارات والكنايات والتشبيهات، ولكن يجب التفرقة بين ذلك وبين المعانى المقصودة بشكل حرفى لا على سبيل المبالغة البلاغية المعروفة فى اللغة العربية، فمثلا عندما يقول القرآن الكريم عن اغتياب المؤمن لأخيه المؤمن: )أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ((الحجرات: 12).

فنحن أمام تشبيه بلاغى لتوضيح جسامة الاغتياب. أما إشارة القرآن لاحتمال أن يكون الإنسان أكثر ضلالا من الحيوان فليست من هذا القبيل، بل على سبيل تقرير حقيقة علمية لا تحتمل التأويل.

يقول الله جل شأنه فى محكم كتابه:

)إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ( (الأنفال: 22).

)إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ( (الأنفال: 55).

)أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ((الأعراف: 179).

)إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ((الفرقان: 44).

)وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ ((محمد: 12).

والمعانى هنا واضحة قاطعة باترة، أن أسوأ من يدب على الأرض عند الله هم الكافرون به والغافلون عن ذكره، والمشغولون بشهواتهم الدنيوية، عن القيم الروحية التى أمر بها الله، إن شر الدواب هم الصم الذين لا يستمعون إلى الحق وإذا عرفوه لا ينطقون به خوفا من العواقب (البكم).

ويشيع البعض من فقهاء السلطان أن النطق بالشهادتين كاف لضمان الآخرة، وهو حض للمؤمنين على التسيب فى الالتزام بكل قيم ومبادىء الدين، ويقول الشيخ محمد الغزالى إن النطق بالشهادتين أشبه بملء استمارة دخول الحزب والحصول على بطاقة العضوية، فهل يعقل أن يدخل مواطن حزبا سياسيا ولا يلتزم بمبادئه إلا إذا كان شخصا منافقا وكان حزبه فاسدا متسيبا. فكيف نحول دين الله إلى مثل هذا الحزب الفاسد المتسيب الذى لا تكون لعضويته أية التزامات حقيقية وفعلية.

بل لنلحظ – بشكل واضح – أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المعانى أحيانا وهو يخاطب المؤمنين، مثلا فى سورة الأنفال المختصة بالجهاد: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ{20} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ{21} إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ{22}(.

فالحيوان الذى لا يدرك ولا يعقل ولا يفهم ولا يتكلم ولا يسمع هو بالتأكيد أقل مرتبة من الإنسان، بل هو بالأساس مسخر لخدمة الإنسان وتيسير أمور حياته، وهو نوع من الخيرات له، ولذلك فإن اسم “الأنعام” مشتق من النعمة. وبالتالى فإن الحيوان غير مكلف من الله سبحانه وتعالى، ولا توجد عليه أية مسئولية، ولا يتعرض لحساب فى الدنيا ولا الآخرة. وهذه هى النقيصة الجوهرية لدى هذه المرتبة من المخلوقات، ولكن هذا لا ينزع عنها كل ميزة أو فضل أو إيجابية أو سلوك حميد: )وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً( (النحل: 66)، وهذا ما سوف نعود إليه.

ولكننا نبدأ بالمعنى الجوهرى الذى نريد أن نجليه.. أن الإنسان إذا لم يصدق فى أداء الأمانة يصبح أقل مرتبة من الحيوان؛ لأنه كان لديه القدرة على الاختيار بين احتمالين، بما أنعم عليه الله من نعمة العقل والفؤاد وما يرتبط بهما من السمع والبصر والنطق: )إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ((الإسراء: 36).

وقد أوضح القرآن ذلك أكثر بالقول: )إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَان ((الأحزاب: 72)، وبقوله: )وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ( (البلد: 10)؛ أى الاختيار بين الخير والشر. وهذا هو سبب أمر الله للملائكة بالسجود لآدم، رغم أن الملائكة خير محض ولكنها مبرمجة لتكون كذلك ولا تملك إلا أن تكون كذلك.

وخلاصة الأمر: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ((الإسراء: 70).

وهذا التكريم مشروط بأداء الأمانة على النحو الذى أمر به الله، وإلا فإن الإنسان يتحول إلى أحط مخلوقات الأرض: )لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{4} ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ{5} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ{6}((التين). )وَالْعَصْرِ{1} إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ{2} إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ( (العصر)، والأعمال الصالحة هى التى حددها الله ككل متكامل، وليس من قبيل أن ينتقى الإنسان منها ما يحب ويترك ما قد يراه صعبا، بل هو فى التزامه الكلى بتعاليم الله يجب أن يلتزم بها وفق الأولويات، والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على أعلى سلم وهرم التركيب العقائدى الإسلامى، فمن يتصور أن الصلاة والصوم تكفيه لأداء الأمانة ودخول الجنة، فليقل لنا ما علاقة هذا التصور بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قام بحوالى 43 سرية وغزوة بمعدل واحدة كل 3 شهور منذ الهجرة حتى وفاته. وما علاقة ذلك بسيرته فى مكة حين جهر بالدعوة لمدة 10 سنوات متصلة رغم المخاطر الجمة المحيطة بالمؤمنين. وما علاقة هذا التصور بآيات القرآن الكريم التى وضعت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر باعتباره أبرز خاصية لخيرية أمة محمد عليه الصلاة والسلام: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ( (آل عمران: 110). وبالتالى فإن خضوع الشعب المصرى لحكم فاسد وسفيه لا يرعى لله حكما ولا وقارا ولا يخفض جناحه للمؤمنين، بل يخفض رقبته لكل معتد أثيم على الأمة ويصادقه ويواليه ضد أمته، إن هذا الخضوع خوفا من عقاب الحاكم هو أبرز مظاهر الشرك المعاصر، لأنه خوف من الحاكم عوضا عن الخوف من الله: )أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْه ((التوبة: 13).

المهم أنه لا يوجد إنسان عاقل يستطيع أن يقول إن لحكم مبارك أية إيجابية، ولكنها مسألة خوف من القمع والعقاب. ترى لماذا أرسل الله لنا الرسل؟ هل حتى نستدير لما أبلغونا به ونتبع الحاكم خوفا من استبداده وبطشه؟! إن ما تدعون هو عين وبيت القصيد، فهذا بالفعل هو الاختبار، وهذه هى الأمانة، وهذا هو الاختيار بين الحق والباطل، بين الخير والشر. وهو قانون لا علاقة له بمبارك بالذات: )أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ{2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{3}((العنكبوت). أى أن ما تحاجوننا به أيها الإخوة فى الوطن ليس إلا نفس الحوار الأزلى. وهو نفس ما قاله بعض أنصار موسى وعيسى والنبيين جميعا. أن خوفكم من السجون والمعتقلات وقطع الأرزاق والتعذيب، هو جوهر الموضوع وجوهر الاختبار والاختيار.

فإذا أنتم اخترتم خيار الفرج والبطن، واخترتم حياة بهيمة الأنعام، أن تأكل وتفرز وتشرب وتتناسل، فتكون هى أفضل منكم، لأنها ليست مكلفة وليس بإمكانها أن تفعل غير ذلك. بل ستكون أفضل منكم لأنها تسبح الله بطريقتها الخاصة ولكننا لا نفقه تسبيحها.

)وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم( (الأنعام: 38).

) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ( (الحج: 18).

)تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ((الإسراء: 44).

أى كما ذكرنا، فإن كل الكائنات بما فى ذلك الجماد والحيوانات لا تخلو من فضل، حتى لا يبالغ الإنسان ويصيبه الغرور. ورأينا كيف علم الغراب ابن آدم كيف يوارى سوءة أخيه.

ونجد الهدهد من أبطال القرآن الكريم المذكورين بالخير، ونجد حديث النمل مع بعضه البعض، ومساكن النمل، ووحى الله للنحل. وهذا ينقلنا إلى نقطة مهمة فى بحثنا.

ضرورة تواضع الإنسان وتعلمه من الحيوان:

من أكثر العبارات الشائعة التى تستفزنى عند مهاجمة المعارضين للحكام المستبدين قولهم: إننا تحكمنا شريعة الغاب. وقد دعوت فى أكثر من ندوة إلى إعادة الاعتبار للحيوان ولشرائعه والاعتذار له، فالطواغيت أكثر وحشية من الحيوان بما لا يقاس. أعلم أن المقصود أن الحيوانات الأقوى تتغذى على الحيوانات الأضعف فى الغابة. ولكن ليس فى ذلك أية وحشية؛ لأن الله سخر الكائنات لبعضها البعض، مع ملاحظة أن كثيرا من حيوانات الغابة تتغذى على الأعشاب والنباتات, كما أن الإنسان نفسه يصطاد الحيوانات ليأكلها دون أن يرتكب إثما. ولكن وجه المقارنة يكون: هل يبيد نوع من الحيوان نفس النوع. هل تأكل الأسود الأسود، وهل تحارب الأفيال بعضها، أو الغزلان بعضها البعض، وتبيد بعضها البعض؟! هنا المقارنة تستقيم. وهنا نكتشف أن ما يفعله الإنسان بأخيه الإنسان لا مثيل له فى الطبيعة، وندرك عظمة القرآن الكريم وأنه كتاب الله (لأن محمدا ليس من علماء الطبيعة أو الحيوان!). وبالتالى فإن الإنسان عندما ينحرف يكون أسوأ من الحيوان. والانحراف قد يكون بالطغيان، وقد يكون بالاستسلام له (المستكبرون والمستضعفون الذين لم يقاوموهم فى النار بنص القرآن).

ولقد دعانا الله إلى التفكر فى آياته والتعلم منها، ومخلوقات الله من هذه الآيات، فتعالوا نتواضع ونتعلم من الحيوانات بعض القيم التى أصبحنا نفتقدها فى مصر مبارك والمجتمعات العربية المماثلة لها.

التكافل الاجتماعى والتعاون عند الحيوان:

عندما نجد الصراعات المادية على أشدها بين الناس والاقتتال على رغيف الخبز بدلا من توجيه الغضب لمن يستحقه، وسبب المشكلة الرئيس هو الحاكم، وعندما نرى الفئة الطاغية تستأثر بالخيرات وتترك الشعب نهبا للجوع والمجاعة.. يسكن فى “عشش” مهددة بالدمار، كما حدث فى الدويقة مؤخرا.. تعالوا نرى صورا من التكافل الاجتماعى فى عالم الدواب!

اللبؤة فى عالم الأسود عندما يكون لديها شبل واحد تقوم بمنح لبنها الفائض لأشبال آخرين عن طيب خاطر. فهى أكثر رحمة من حكومتنا التى لا توفر لبن الأطفال الآن.

وأحيانا يمتد التكافل إلى نوعين مختلفين من الحشرات، فقد ثبت أن النمل يشارك حشرة جندب الشجر فى الأمومة، فيتغذى صغار النمل من أنثى حشرة جندب الشجر فى المرحلة الأولى من العمر. وفى المقابل يقوم النمل بالدفاع عن بعض النباتات.

كذلك نجد علاقات صداقة خاصة وتعاون بين النمل والخنافس إلى حد السكن المشترك. وأيضا هناك تعاون بين النمل وحشرة المن التى يتغذى النمل من عسلها، وفى المقابل يبسط النمل عليها حمايته من أى معتد.

ومن الشائع بين نمل الخشب أن النملة الشبعانة تعطى من داخل بطنها بعض الغذاء للنملة الجائعة!

وكذلك بين النمل الأبيض نجد ظاهرة عجيبة؛ فالغذاء يتم تبادله وهضمه بشكل جماعى؛ أى أن نفس الغذاء يتم تداوله بين أمعاء الجميع فى الجماعة الواحدة!

وعلى غرار النحل يتم تقسيم عمل دقيق فى مجتمع النمل، فبينما يتخصص البعض فى بناء العش تقوم مجموعات أخرى بجمع الغذاء وتخزينه.

وعند النمل كيس يسمى المعدة الاشتراكية؛ لأنه كثيرا ما يشاركه غيره من النمل فى محتويات هذا الكيس من الغذاء، بل تصل الحساسية إلى حد أن النملة الجائعة لا تطلب، ولكن النملة الممتلئة تتحسس الأخرى فتكتشف احتياجها للغذاء فتعطيها دون أن تطلب, على طريقة: )لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً( (البقرة: 273)، وأثبتت التجارب العلمية أن النملة المعطاءة تكون فى أفضل حالاتها من السعادة وهى تعطى الغذاء للآخرين!. وهذه الظاهرة أوضح عند النحل؛ فبعض الشغالات تتحول إلى براميل حية لخزن الرحيق وعصارة بعض الأشجار والنباتات، وهى تمتلئ بهذا السائل الحلو حتى تنتفخ معدتها وتصبح كالبالون الصغير، وتتعلق فى سقف العش عاما بعد عام، وتملؤها الشغالة الأخرى بالرحيق الذى يعودون لتذوقه بعد حين، وربما لا نجد مثل هذه التضحية بالنفس فى أى مجتمع آخر.

وعلى خلاف الشائع عن قوة الأسد؛ فإن أفراد الجماعة مع بعضها البعض تتعاون فى اصطياد الفرائس؛ لكن الذكر يأكل أولا وتليه الأنثى ثم الأشبال فى النهاية.

وفى حين أن الشائع بيننا الآن أن كل إنسان ينجو بنفسه عند الخطر، ويحل مشكلاته وحده، أو إذا تعرض جزء من الشعب لمشكلة لا يتداعى الجميع لنصرته، أو إذا تعرض أهل غزة للحصار نفكر فى أنفسنا ومشكلاتنا أولا. إلا أن ذلك ليس حال الحيوان أبدا حتى الثيران الهمجية فى المجال الجنسى؛ فهى تكون دائرة دفاعية عندما تتعرض لهجوم قطيع من الذئاب حتى تصبح أقل عرضة للأذى. وكذلك تفعل كلاب البرارى.

أما العصافير فعندما تضع صغيرا غريبا مع أم وأب تجدهما يطعمانه كما يطعمان صغارهما وكأنه فرد منهم.

كذلك فإن العصافير من أكثر الكائنات تضامنا، فإذا تعرضت عصفورة صغيرة لهجوم من حية فإن الأم تصيح وترفرف بجناحيها فتتجمع كل العصافير فى المحيط ويشترك الجميع فى الصراخ، ربما لإرباك الحية. وإذا أفلت الفرخ الصغير بصورة أو أخرى من الحية تتجمع العصافير حوله لتشد من أزره وترفع من معنوياته.

ولا يعلم البعض لماذا تطير الطيور كالبط على شكل رقم 8؟ هذا الوضع يساعد كل فرد منها على رؤية القائد وتجنب تيار الهواء الذى يحدثه الطائر الذى أمامه، وحتى لا يتوهوا من بعضهم البعض، كما يتم وضع الضعفاء فى المنتصف حتى لا يضيعوا أو يتخلفوا.

وهناك طائر اسمه ناقر الثيران، وهو يعيش فوق ظهر الخرتيت يلتقط منه القراد، وعندما يرى خطرا على الخرتيت يصفر له ليحذره.

والطائر الكشاف للعسل يتعاون مع الحيوانات الأرضية للحصول على الطعام، وحينما يعثر على خلية نحل فى الغابة فإنه يشق الفضاء مرسلا صوتا مميزا خشنا يردد مقاطع (نييته.. نييته)، وبعد هذا الإعلان يقود الحيوانات المتيقظة إلى خلية النحل، حيث تأكل العسل ويكتفى هو بطعامه المفضل وهو الشمع.

وقطيع الغزلان تتقدمه غزال للتأكد من أمان الطريق، وكلما تأكدت الغزال الطليعية من أن الطريق آمنة رفعت ذيلها وطوله 30 سنتيمترا كراية بيضاء وكعلامة على التقدم بلا خوف، فيتبعها القطيع (نعنى الغزال الفرجينى الملقب بذى الذيل الأبيض).

وثبت أن الأفيال لا تنام كلها فى وقت واحد داخل المجموعة الواحدة، فيبقى قسم متيقظا لحماية النائمين من أى خطر، ويتم تبادل نوبات الحراسة بنفس طريقة الجيش (برنجى – كنجى – شينجى).

التضحية بالحياة دفاعا عن الصغار:

تقوم أمهات البق الشبكى (نوع من البق) بحماية صغارها، وتقف فى مواجهة أعدائها ولو كلفها ذلك حياتها. يعنى هذا النوع من البق أفضل من حكم مبارك الذى يضحى بأبنائه من رجال الشرطة الذين تقتلهم إسرائيل على الحدود بالعشرات رغم اتفاقية السلام! وهذا البق أفضل من حكم مبارك ومحافظ القاهرة الذين تركوا أهل الدويقة يموتون مع سبق الإصرار والترصد؛ لاهتمامهم بمنتجعات السادة الكبار وملاعب الجولف!

لابد للذكر أن يحمى الصغار:

وهناك نوع من البق ترفض فيه الأنثى التزاوج مع الذكور التى لا تضطلع بمهمة حراسة البيض. بينما تقبل الإناث أحيانا فى عالم البشر الزواج من رجال لا يهتمون بحماية أبنائهم من الاعتداءات الخارجية!

الوطنية:

كثيرا ما نشكو من نقص الانتماء ونقص الوطنية، ولكن عالم الطير والحيوانات والحشرات لا يعانى هذه المشكلة؛ فالوطنية متأصلة فيه، ولم تعرف بينها ظاهرة الخيانة والعمالة والتجسس لحساب أعداء الوطن! بل على العكس الحنين والارتباط بالموطن الأصلى شديد.

والنمل يدافع عن أرض موطنه، ويندفع بعض النمل ليصد العدو والبعض الآخر ينقل البيض إلى موقع أكثر أمنا، وآخرون يصلحون التلف الذى أحدثه العدو.

وكل خلية من خلايا النحل تعيش مستقلة بنفسها، يعرف كل فرد فيها بقية الأفراد، ومهما سرحت النحلة فى الخارج (بحد أقصى 11 كيلومترا) فإنها تعود إلى خليتها.

وعندما يتراوح عمر سمك السلمون ما بين 4 و 7 سنوات يتجه نحو منطقة شمال المحيط الأطلنطى، وتتجه كل جماعة إلى النهر الذى سبق وولدت فيه لتضع بيضها فى نفس مكان مولدها. وهى تفعل ذلك بالسباحة عكس التيار دون توقف ودون غذاء!

وثعبان السمك – الذى يتكاثر بشدة فى النيل والبحيرات المصرية – عندما يبلغ من العمر 7 إلى 10 سنوات يتجه عبر البحار فى رحلة طويلة حتى الولايات المتحدة (قبل كولومبس بكثير)، ويتزاوج فى الأنهار الأمريكية، ثم يعود الأبناء إلى موطنهم الأصلى فى النيل فى رحلة تستغرق 3 سنوات!!

بلدة كراكاتوا، وهى تقع جنوب المحيط الهادى تعرضت لبركان، فهاجرت منها كل الكائنات، ولكن بعد 45 سنة وبعد هدوء البركان عادت إليها أعداد ضخمة من الحيوانات التى كانت قد هجرتها؛ مثل القواقع البحرية والطيور والخنافس والفئران والزواحف والثعابين والتماسيح والحشرات المختلفة، جاءت إليها من كل حدب وصوب، إما طائرة فى الهواء أو سابحة فى الماء أو متعلقة بالأجسام الطافية على سطح الماء.

ويصف الجاحظ الحمام بأنه يتسم بالألف والأنس والشوق إلى الموطن، فهو يعود إليه حتى وإن كان الموضع الثانى أنفع له وأنعم لباله. وربما باعه صاحبه فإذا وجد مهربا عاد إليه.

إكرام الميت دفنه:

هذه القاعدة الإسلامية، كما ذكرنا، علمها الغراب لابن آدم، ولكن الغراب لا يحتكرها، فالنمل يقوم بإعداد الموتى منه للدفن، ويقوم بأعمال أشبه بالغسل، ويتم تنظيم جنازة من عدد من النمل، ويتم نقل الجثمان للمدافن خلال يوم أو يومين على الأكثر! بل وتم رصد بعض النمل الذى يعمل كحانوتية متخصصين فى دفن الموتى!

أما الخنافس فهى تتولى دفن جثث الموتى حتى من غيرها من الحشرات والحيوانات!

ولدى الأفيال تقاليد غريبة فى التعامل مع الموت، فإذا أحس الفيل الهرم بدنو أجله يودع رفاق صباه. ويتجه إلى مقبرة الأفيال فى طرف من أطراف الغابة، ويظل الفيل المريض أو المصاب أو الهرم ينتظر الموت وحده عدة أيام حتى لحظة الموت فينام مستقرا فى مرقده الأخير دون أن يحمل رفاقه مشقة حمله ودفنه.

الشرف:

الاعتداء على الشرف مسألة من المفترض أن تؤرق الإنسان بحكم الفطرة، ولكننا تعودنا أن نسمع ببلادة عن اغتصاب النساء فى أقسام الشرطة باعتبارها أمورا عادية، أو اغتصاب النساء فى الشارع على أيدى الأمن وعملائه، أو باعتبارها أمورا سيئة ولكن عادية، وأذكر أن شابا متدينا أبدى استغرابه من اهتمامى بهذه الظاهرة، وقال لى: يا أخى هذه تحدث من أيام الفراعنة! وقلت له: هب أن ما تقوله صحيح فهل معنى ذلك أن نقبل بهذه الظاهرة؟! وهل إذا اعتدى أحد على زوجتك سترد بهذا القول: إنها تحدث من عهد الفراعنة!!

انظروا مثلا ماذا تفعل أنثى الفئران إذا وضعت فى قفص بعد التلقيح مع ذكر غريب آخر؟ تقوم بأمر غير مصدق، توقف الحمل وتبتلع الأجنة، فهذا أهون عليها من قبول الأب الغريب!

بل الموضوع أكثر خطورة وأعم من ذلك، فكقاعدة عامة فإن عالم الحشرات والطيور والحيوانات لا يعرف فى قاموسه التحرش الجنسى أو الاغتصاب، باستثناء الحمار والثور والإنسان!! فالتزاوج بين الطيور والحيوانات يتم باختيار ورغبة الطرفين. والذكر لا يقترب من الأنثى حتى تعطيه إشارة معينة بالقبول. بل هناك كائنات تعتمد فترة للخطوبة كالأفيال والبطريق! وذكور الحيوانات جاهزة كذكور الإنسان ومستعدة وقادرة على التلقيح طوال العام، إلا أن الذى يحدد وقت الجماع من عدمه، هى الأنثى عدا الحمار والثور فلا يهمهما رغبة الأنثى! (القرآن الكريم ذم الحمار فى موضعين على الأقل).

وتختلف إشارة الأنثى بالموافقة من جنس لآخر ومن نوع لآخر؛ ففى كائن البطريق يعطى الذكر الأنثى حصاة بدلا من الدبلة فإذا التقطتها فهذه علامة القبول.

وعموما يسبق التزاوج منبهات مناسبة فى تتابع منظم ويجب أن تتلقى ردا مناسبا قبل أن يقع التزاوج، ويصل الأمر إلى رقصات غزل معقدة لبعض الحيوانات الرخوة وأبى دقيق أو إيقاع نوعى لذبذبة الجناح. وفى كائنات أخرى عن طريق إفراز رائحة معينة. وأنثى الفيل تحفر حفرة تتسع لها وللذكر وتفرش أرضها بالأغصان، عندئذ يتجرأ الذكر فيقترب منها!!

أين رجال شرطة مبارك من هذه الممارسات الراقية؟ إذا التزموا بها فلن تغتصب مصرية واحدة فى أقسام الشرطة وسلخانات التعذيب، بل ولا حتى فى الطريق العام.

ومن الحيوانات ما يقتصر على زيجة واحدة فى الحياة، ومنها من يؤمن بالتعدد كالأسود وكلاب البحر، ولكن التعدد لا يعنى الفوضى، فمثلا كل كلب بحر ذكر يقتصر على زوجات محددة، ويكون الأمر معروفا للكافة بحيث ترعى الحرمات، ولكن الحذر واجب، ففى موسم التزاوج لا يهتم كلب البحر برحلات الصيد للغذاء، ويصوم مدة قد تصل إلى 3 شهور حتى لا يبتعد عن أنثاه خوفا من دخول أحد الجيران الذكور فيغتصب منزله وينتهك عرضه. ويظل يعتمد فى موسم التزاوج على الغذاء الذى خزنه فى جسده طوال العام.

ومقابل هذا الإخلاص لكلب أو سبع البحر لزوجاته فإنه لا يسمح بالخيانة أو الهروب من بيت الزوجية، فإذا هربت من بيت الزوجية يلاحقها فإذا رفضت العودة قتلها!

والقرد يغير على أنثاه ويفتك بها لو نظرت لغيره، ويقاتل الذكور الأخرى التى تعاكسها.

وللطيور الذكور أصوات تحذيرية مميزة إلى كل من تسول له نفسه الاقتراب من عش السعادة الزوجية. وعموما مسألة الغيرة معروفة ومستقرة وعامة بين مختلف أنواع الطيور.

التنمية الاقتصادية والشورى:

يتباهى نظام مبارك بأنه أمضى كل وقته فى بناء البنية التحتية؛ مما أدى إلى إهمال الأنشطة الإنتاجية، والواجب أن يخجلوا من هذا الكلام الفارغ بعد أن رأينا الانهيارات حتى فى البنية التحتية بعد 27 عاما: انقطاع الكهرباء، ونقص المياه، وحوادث الطرق والسكك الحديدية، والواجب أن يخجلوا حين يعلمون أن النمل جمع بين البنية التحتية والتنمية! النمل يبنى المدن ويشق الطرق ويحفر الأنفاق ويخزن الطعام فى شون خاصة به، وبعض أنواعه تزرع الحدائق والنباتات أيضا، ومن النمل نوع يحتفظ بماشية خاصة به ويرعاها! فالنمل يحتفظ بحشرات صغيرة كثيرة استأنسها، ولقد وجد نحو ألفى نوع من هذه الحشرات المختلفة داخل مساكن النمل، الذى نجح فى استئناس العدد الكبير من الحيوانات المختلفة أكثر مما استأنسه الإنسان!

والعنكبوت هى أول من صنع النسيج، وقامت بعملية نسج، ومنها اقتبس الإنسان هذه الصناعة، ولكننا فى هذا العهد المبارك لم ندمر شيئا كصناعة النسيج التى برعنا فيها كمصريين.

وفى مجتمع النحل لا يعرفون مشكلة البطالة، ولكل نحلة دورها المحدد وعملها وفق تقسيم عمل مذهل، فإذا تكاسل أحد الأفراد وصار عبئا على بقية أفراد الخلية كان مصيره الطرد والتشريد. مجتمع النحل من أنشط المجتمعات إن لم يكن أنشطها على الإطلاق. يعمل أفراده فى هدوء وإخلاص، كل فرد فيه يعلم واجبه تماما، فهذا للحراسة وهذا للنظافة وهذا للاستطلاع وهذا لجمع الرحيق واللقاح وهذا لإفراز الشمع وهذا لتخزينه، وهذا لتربية الصغار ورعايتهم وتغذيتهم، ويتم تبادل الأدوار بين النحل فى كل هذه المهمات مع تقدم العمر دون أية طبقية!! وكل يؤدى دوره خير أداء بلا خوف من الملكة، فليس فى مجتمع النحل جهاز للتنظيم والرقابة، ولا جدال ولا مشاحنات ولا صراعات، كل يعمل لمصلحة الجماعة؛ ولذلك ظهرت خلية النحل وكأنها جسد واحد فى تماسكه وترابطه. وكل فرد فى الخلية يعمل ما يشبه المستحيل لإنقاذ الخلية مما قد يقضى على حياتها أو يهدد أمنها.

كذلك أثبتت التجارب العلمية أن الصغار عند الحاجة يمكن أن يتطور أداؤهم سريعا فى حالة غياب أو تقصير الكبار؛ لضمان عدم حدوث أى قصور فى عمل الجماعة (تجديد الأجيال فى القيادة).

ونحن من دون العالمين نفتخر بأننا بناة الأهرام، ولكن أحد العلماء اكتشف مدينة هائلة للنمل فى بنسلفانيا بالولايات المتحدة، وبمقارنة حجمها بمقاييس النمل اتضح أن حجم هذه المدينة يبلغ ضعف حجم الهرم الأكبر 84 مرة تقريبا.

والبناء العمرانى للنمل لا يقل عن ناطحات السحاب، فبعض الأعشاش تكون من 40 طابقا، ويخصص كل طابق لوظيفة محددة بناء على درجات الحرارة بين طابق لتربية الأطفال وطابق للتخزين وطابق لصالات الاجتماعات العامة! أما النمل السويسرى والإفريقى فهو يجهز الجيوش ويتحاور ويتجادل إلى حد قريب جدا من التصويت فى الانتخابات! أين نحن فى مصر من النمل الإفريقى والسويسرى؟!

وعندما ترى افتقاد الرشد فى عالم التخطيط والاقتصاد المصرى تعجب من دقة النمل فى تخزين الحبوب (لدينا فى مصر فاقد كبير من الحبوب بسبب سوء التخزين)، والنمل كالنحل يدخر الغذاء لفصل الشتاء، وهو يرعى الحبوب المخزنة ويحسن نظام التهوية بما فى ذلك إخراج الحبوب لتعريضها للهواء والشمس لفترات، وإعادتها للمخازن حتى لا تتعفن أو تسوس. وحتى فى زمن الجاحظ فقد كان معروفا أن النمل تقسم الحبة إلى قسمين حتى لا تنبت وأنها تقسم حب الكزبرة إلى 4 أقسام؛ لأن حب الكزبرة يمكن لنصفها أن ينبت!

والنحل يعرف الشورى والحوار والنقاش؛ فمثلا عند عملية الانتقال لتأسيس خلية جديدة وهى تسمى عملية الطرد، تقوم طلائع باكتشاف المكان الملائم ثم تعود لتقنع عددا آخر، وخلال عمليات الذهاب والإياب يتوصل المجموع إلى اقتناع بملائمة هذا المكان، وعندئذ يحزمون أمرهم جميعا ويتوجهون لبناء الخلية الجديدة!

والشورى تكون واضحة لدى الحيوانات والطيور فى لحظات الهجرة، حيث يحدث نوع من التحاور والتناغم والاستعداد الجماعى، وسرعان ما تنتظم الحيوانات فى قطعان أو أسراب، بعد إعداد كل شىء للرحلة الطويلة، وفى وقت محدد ومتفق عليه يشرع كل القطيع معا فى الهجرة والرحيل.

وفى عالم النمل لا يمكن أن تحدث مشكلة كمشكلة توشكى، أى إهدار المال العام والمجهود فى مشروع فاشل أو غير مربح؛ لأن الحاكم يريد أن يتفاخر بمشروع وهمى لا جدوى اقتصادية منه، ففى تجربة علمية تم وضع فنجانين على مسافتين متساويتين من عش النمل، وضعت فى الفنجان الأول 50 يرقة وفى الثانى 3 يرقات. وبعد قليل من التشاور الذى أعقب زيارة من قوة استطلاعية للفنجانين، اتجه معظم النمل إلى الفنجان الممتلىء، واتجه عدد ضئيل إلى الفنجان الثانى الذى يوجد به عدد ضئيل من اليرقات للقيام بعملية النقل إلى العش. ولكننا فى عالم الإنسان المصرى اتجهنا للفنجان شبه الفارغ، وأنفقنا 8 مليارات جنيه على مشروع توشكى ولم ندرك ضرورة التحول للفنجان الأفضل: الأراضى الصالحة للزراعة القريبة من الوادى!! وأخذنا 5 مليارات متر مكعب من المياه وألقيناها فى الصحراء، بينما الدلتا والوادى متعطشان للمياه!

فى بلادنا مصر يعجز النظام عن توفير غذاء متوازن لأغلب الجماهير، التوازن بين البروتين والسكريات (النشويات)، ولكن لو كان المواطن المصرى الفقير نحلة فى أى خلية من الخلايا لما تعرض قط لهذه المشكلة، لأن نظام التغذية يقوم على التوازن بين المواد السكرية: الرحيق، والمواد البروتينية: حبوب اللقاح، وكلاهما يوجد فى الزهور. وتحرص الشغالات على جمع كميات زائدة من الصنفين للتخزين لفصل الشتاء. وما يفيض عن حاجة الخلية هو العسل الذى يأكله الإنسان (العسل هو نتاج تصنيع النحل من خلط وطبخ العنصرين معا: الرحيق + حبوب اللقاح)، بعد توفير احتياجات الخلية وتحقيق الاكتفاء الذاتى طوال العام، والفائض يصدر للإنسان بدون مقابل!!

وعندما نعيش فى مجتمع تتدهور فيه القطاعات الإنتاجية فإننا نخجل حين نعلم أن النحل لكى ينتج ملء كستبان من العسل يحتاج إلى زيارة من 500 إلى ألف زهرة!!

كذلك فإن النحل يقوم بدور جوهرى فى تخصيب الزهور والنباتات بنقل حبوب اللقاح من نبات إلى آخر، ذلك أن الزهرة لا تستطيع أن تلقح نفسها بنفسها، وكذلك تقوم حشرات أخرى بدور مكمل لدور النحل فى عملية التخصيب هذه. قارن ذلك بممارستنا كبشر الآن فى تدمير الزراعة المصرية بوسائل عديدة شرحناها خلال حملتنا على وزارة الزراعة. بل إن وزارة الزراعة لعبت دورا خطيرا من خلال التطبيع فى تدمير قطاع النحل، من خلال نقل مرض وبائى من إسرائيل أدى إلى خفض خطير فى إنتاجية النحل المصرى.

وفى مجال البناء يعيش أكثر من 17 مليون مصرى فى العشوائيات، حيث تكون المساكن غير صحية من حيث نظم التهوية والتعرض للشمس والرطوبة، ولكن هذا لا يمكن أن يحدث فى عالم النمل، فالنمل يبنى عشه بشكل مقبب حتى يمكنه أن يحصل على أشعة الشمس ويستفيد منها!

وبينما تعيش كثير من أحيائنا البشرية بين قاذورات القمامة، فإن مستعمرة واحدة للنمل تنظف البيئة من بضعة آلاف من الفراشات والخنافس الميتة، وتدفنها فى مساكنها فى اليوم الواحد! أى أنها تقوم بما لا تقوم به الإدارات المحلية فى أحياء الفقراء المهملة بمصر.

والحيوانات والطيور تعرف التخطيط والتدبير، فعند استعدادها للسفر أو الهجرة تقبل على الغذاء بشهية قوية، فيكتنز لحمها وشحمها ويتجمع فى أنسجتها الداخلية الكثير من المواد الكربوهيدراتية والدهنية اللازمة لإمدادها بقدر كبير من الطاقة يساعدها على تدفئة جسمها أو على حركة طيرانها وانتقالها من مكان إلى آخر.

وتبنى كلاب البحر سدودا وتشيد فيها بيوتها كتحفة من روائع الهندسة المعمارية، ولقد تبين للمهندسين الذين يقومون بمسح المناطق الجبلية لاختيار أحسن المواقع الملائمة لإقامة السدود، بعد دراسة الخرائط الطبوغرافية وكل البيانات اللازمة، تبين لهم أن أفضل المواقع هى تلك التى تكون كلاب البحر قد أقامت فيها سدا لها.

وتقوم الذئاب بالصيد الجماعى المنظم للإيقاع بالفريسة.

معارك الحيوانات مع بعضها أقل دموية بكثير من حرب الإنسان لأخيه الإنسان:

السلوك العدوانى للإنسان يهدف إلى الهدم والتحطيم، القضاء التام على الآخر، حتى إلى مستوى التطهير العرقى وإفناء شعب لشعب آخر. أما الحروب والعدوان بين الحيوانات فلا تستخدم فيها عادة ما تمتلكه من أسلحة قاتلة كالأنياب أو المخالب أو القرون أو السموم أو الهرمونات، ونادرا ما تؤدى العدوانية فى نطاق النوع الواحد من الحيوانات إلى إلحاق الضرر أو الموت بأفراد هذا النوع، لأن الحيوانات تقوم باستعراضات عدوانية رمزية تحمل معانى مفهومة فيما بينها، فالصراع على رفقاء الجنس وعلى الطعام وعلى الموطن إنما هو بالأحرى نزال شكلى وليس معارك دموية حامية الوطيس.

فمثلا الثعابين.. الذكور المتنافسة منها تنهمك فى مباريات حادة ولكنها رمزية، ويطول التنافس بالتفاف بعضها على البعض الآخر، ولكن لا يعض أحدها الآخر أثناء هذه المنافسة، ولكن يجب أن يشعر أحدهما بالهزيمة حتى ينسحب وينهى النزاع. كما يكون النزاع بين الديوك دون خسائر أو إصابات.

قصة اغتيال سوزان تميم غير موجودة فى تاريخ الحيوانات (حتى قتل كلب البحر لأنثاه عندما تخونه أمر نادر وفريد فى عالم الحيوان، ولكننا أمام قتل لخيانة زوجية بينما قتل سوزان تميم تم خارج مؤسسة الزواج!)، هذا على مستوى جرائم الجنس الفردية. والتعذيب غير موجود فى قاموس الحيوان، والحروب المفنية للطرف الآخر أو التطهير العرقى غير موجودة ولا يعرفها الحيوان. حرب كالعدوان على العراق أو قنابل هيروشيما مفردات غير موجودة فى القاموس الحيوانى، رغم امتلاكه من الأساليب الفتاكة كالسموم لدى الثعبان والتى يمكن استخدامها، ولكنها لا تستخدم بين أطراف النوع الواحد.

كذلك الزراف يتصارع الذكور بالتفاف أعناقها حول الآخر ويطول ذلك، ولكن لا يستخدم أى من الذكرين حوافره الحادة الفتاكة ضد الآخر، وبذلك لا يصاب أى منهما بأذى.

والقتال بين الكباش المتنافسة ذات القرون الكبيرة يكون مظهريا. وأغلب صراعات الأفيال تنتهى بأن يعلن الخاسر الهزيمة بكل بساطة بالانسحاب!

ولا يعرف عالم الحيوان ممارسة التعذيب ضد بعضه البعض، ولا وجود سلخانات شبيهة بسلخانة الداخلية التابعة لحبيب العادلى وأمن الدولة.

الثقافة واللغة:

لكل الكائنات لغاتها الخاصة التى لا نفهمها إلا لماما، ولكن هناك كائن وهو الببغاء الإفريقى الرمادى يحفظ 1000 كلمة وينطقها ببراعة، وأنا أعرف حاكما لن أذكر اسمه حصيلته اللغوية أقل من ذلك، حتى أن كل أحاديثه وتصريحاته على مدار 27 عاما لا تصل حصيلتها اللغوية إلى هذا الكم، فهى عبارة عن جمل قصيرة ومكررة وقليلة للغاية، وهو ليس فريدا بين الحكام العرب!

العدالة:

فى عالم الغربان قصة عجيبة للغاية، وكأننا أمام مدينة فاضلة محكومة بالشريعة الإسلامية، بالعدالة التى لا تناهزها عدالة البشر خاصة فى مصر، ونجد قضاء مستقلا لم يتمكن قضاتنا الأماجد فى نادى القضاة من فرضه على وزير العدل والحاكم الذى عينه.

فى عالم الغربان المحاكمات عادلة والعقوبة مكافئة للجريمة، ففى حالة اغتصاب غراب لعش غراب آخر تكتفى المحكمة بهدم العش المغتصب وتصرخ مؤنبة السارق وتلزمه ببناء عش جديد للضحية! أما فى حالة اغتصاب أنثى غراب آخر فإن العقوبة هى الإعدام (حد الحرابة!)، وهذا يدخل فى باب الحفاظ على الشرف الذى أشرنا إليه من قبل. أما فى حال اغتصاب طعام الصغار، تقوم الجماعة بنتف ريش المعتدى حتى يصبح مثل الصغار بغير ريش: )وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ(.

أين هذا من محاكم العبارة، وقطار الصعيد، وأكياس الدم، وحوادث اغتصاب النساء، التى تحفظ دائما عند النائب العام الذى أصبح رئيسا للمحكمة الدستورية العليا بينما لا يصلح أن يكون رئيس محكمة جزئية فى عالم الغربان!

حب الحرية:

لا نحتاج لكثير برهنة على ذلك؛ فأى حيوان أو طائر إذا فتحت له القفص لن يتردد فى الهروب منه حتى وإن كان يأكل فيه أحسن الأكل ويتزاوج فيه، ولكن الأبحاث العلمية أثبتت ما هو أخطر من ذلك، فبعض أنواع البعوض ترفض التزاوج فى الأسر!: )إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ((البقرة: 26)، كذلك فإن بعض أنواع الطيور ترفض التزاوج رفضا باتا فى الأسر.

الأخلاق الحميدة:

قصص وفاء الكلاب مشتهرة، ولا داعى للإفاضة فيها، ويعلق الجاحظ على إحدى قصص فداء الكلب لإنقاذ صاحبه من الموت قائلا: “وهذا العمل يدل على وفاء طبيعى وألف غريزى، ومحاماة شديدة، وعلى معرفة وصبر، وعلى كرم وشكر، وعلى غناء عجيب (بفتح الغين)، ومنفعة تفوق المنافع، لأن ذلك كله من غير تكلف ولا تصنع”.

ومن أعجب الظواهر البشرية خيانة الإنسان لأسرته وأصدقائه ناهيك عن وطنه وشعبه، وفى عالم السياسة تعجب من خيانة الفرد لجماعته وحزبه وتقلبه بين الأحزاب، ليس لخلافات مبدئية، ولكن طمعا فى مكسب دنيوى رخيص، وتتعجب كيف يمكن لهؤلاء الأشخاص أن يحترموا أنفسهم، وتتساءل ما هو رأيهم الحقيقى فى أنفسهم؟! بينما اشتهر الكلب بالارتباط بصاحبه – كما يقول الجاحظ – وكما نرى بأنفسنا: “يعرف الكلب وجه صاحبه وأمته – جاريته – ووجه الزائر. حتى ربما غاب صاحب الدار حولا مجرما، فإذا أبصره قادما اعتراه من الفرح والبصبصة – تحريك الذنب – والالتواء الذى يدل على السرور، وعلى شدة الحنين، بما لا شىء فوقه”.

وحب الحيوان لتحقيق الإنجاز وكراهيته للفشل قيمة أثبتتها التجارب العلمية، فبعض القردة الشمبانزى تعمد إلى حك جميع أجزاء جسمها إذا ما غلبت على أمرها فى أى اختبار، بل تتلوى وتكتئب وتنشج بالبكاء، بل إن بعض القردة التى يصيبها الفشل فى اختبارات الذكاء فى المعمل تغضب إلى حد تدمير أجهزة الاختبار. بل حتى الفئران، فعندما ضل أحد الفئران طريقه فى تجربة المتاهة، جلس فى أحد الممرات وأخذ يقرض أظافره فى يأس وقنوط. وفى المقابل لوحظ أن الشمبانزى حينما يرى قردا آخر على وشك الحصول على جائزة فإنه يضاعف جهوده ويبدى مزيدا من الجلبة والنشاط.

قارن ذلك بمن يحكمون مصر الآن.. إنهم لا يرتقون إلى المستوى الأخلاقى لهذا الفأر أو تلك الشمبانزى الحريصين على النجاح ويكرهان الفشل. إن فشل هؤلاء الحكام فى شتى المجالات لا يحرك لهم أية مشاعر، وإذا قلت لهم إن الأمم الأسيوية سبقتنا تصنعوا الصمم، جلدهم سميك حتى لقد افتقدوا مشاعر الفئران والقرود. إنهم صناع الفشل ويفتخرون بذلك، ويحيلون كل خطأ للقدر (قال وزير الثقافة عن حريق المسرح القومى إنه سوء قدر!) أو إلى الشعب (قال وكيل وزارة الثقافة إن سبب الحريق أن بعض الباعة الجائلين يخزنون بضاعتهم على سطح المسرح!).

وفيما يتعلق بقيمة الأمانة، فقد أصبحت نادرة فى بلادنا، حتى أصبح الذى لا يسرق بطريقة أو بأخرى إنسانا ساذجا وأبله. وكلما أصبح “الحرامى” كبيرا كلما أصبح محصنا أكثر من أية مساءلة، بل أصبح سارقو أموال البنوك يسمون رجال أعمال! أما فى عالم طائر البطريق حيث الأحجار بالغة الأهمية لبناء العش تعتبر سرقة الأحجار أشنع جريمة يمكن أن تقع فى دولة البطارقة، والطائر الذى يضبط متلبسا بارتكاب هذه الجريمة يتعرض لاستنكار الجماعة كلها.

ورغم أن بنى آدم يسبون بعضهم باسم البغل إلا أن البغل حيوان قنوع، وهو متزن فكريا بالمقارنة مع حيوانات أخرى، ولا يأكل مثلا إلا بقدر احتياجاته، وهو ما لا يفعله كثير من البشر الشرهين.

وتهتم القردة بعيادة المرضى من بنى جنسها، فحين يعترى المرض أحد القردة فإن أصدقاءه يعودونه ويقومون على خدمته بمزيد من الإشفاق والقلق والحنان. وهم قد يضحون بالنفيس العزيز لديهم يقدمونه لزميلهم المريض.

ورغم ما هو شائع عن الغوريللا كذبا فهى لا تعمد إلى الإضرار بأى شخص عامدة متعمدة إلا إذا تمادى فى إثارتها. ولا تهاجم إلا إذا هوجمت هى وأسرتها.

الصراع على السلطة بين البقر والإنسان:

طالما أفنى بنو البشر أنفسهم فى مطامع السلطة والصراع حولها، ودمروا مجتمعاتهم من أجل هذه الحماقة، والعجيب أن هذا الصراع يمكن أن يفضى إلى تولى أغبى خلق الله وأكثرهم حماقة للسلطة، وهذا لا يحدث فى عالم الحيوان، نعم يحدث صراع على السلطة وتحدث منازعات لا تصل عادة إلى الدموية، ولكن بمجرد التوصل إلى قائد يتمتع بالقوة والكفاءة فإن الصراع على السلطة يتوقف حتى تدار الحياة فى المجتمع الحيوانى بشكل جيد ومفيد للجميع، يحدث هذا فى عالم الدجاج وكذلك فى عالم البقر! (البقر شتم مقذع بين البشر وهذه مفارقة!)، فبعد تناطح غير دموى يتم التوافق على ملكة للقطيع على أساس القوة والمقدرة القيادية وليس على أساس الجمال أو السن، وعندما يتم التوافق أو الانتخاب تنعدم المؤامرات والدسائس والصراعات لخلع سلطانة البقر.

*****

بعد هذه السياحة فى عالم الحيوان من واقع كتب علمية كتبها علماء مصريون ومسلمون وغربيون، أقترح إعادة قراءة مقدمة المقال، لتتأكد أكثر وتستوثق من معانيه الرئيسة.

وفيما يتعلق بأحوالنا فى مصر فإن ما يهمنا جانب تخلى المصريين عن تعاليم دينهم التى تأمرهم بالعدل والإحسان وإعمار الأرض والتكافل الاجتماعى وعدم موالاة أعداء الأمة، وأن مجرد صمت المصريين وعدم مقاومة الحكام الحاليين يحيلهم إلى مذنبين بصورة أصيلة؛ لأنهم خافوا الحكام ولم يخافوا الله، ولم يهتموا بتطبيق شرعه، ولم يعزلوا من استهزأ بشرع الله وحكم فيهم شرائع الصهاينة والأمريكان وشذاذ الآفاق.

أحاول أن أهددكم بسوء المصير حتى تتحركوا وتغضبوا لله، وأكرر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنى نذير لكم بين يدى عذاب أليم”. ولا أقول – حاشا لله – شيئا من عندى، بل القرآن الكريم قدم لنا شرائط فيديو رهيبة من عالم الغيب المستقبلى حتى لا يكون للناس على الله حجة، والحقيقة أننى أرتعد عندما أقرأ حوار المستكبرين والمستضعفين فى النار، فمالكم يا قراء القرآن وحفظته فى مصر لا ترتعد فرائصكم؟! وهذه هى الآيات:

)وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ{165} إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ{166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ{167}( (البقرة).

ثم نرى باقى الحوار فى سورة سبأ: )وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ{31} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ{32} وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ(.

ويتواصل الحوار فى سورة إبراهيم: )وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ((إبراهيم: 21).

ويستمر الحوار فى سورة غافر: )وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ{47} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ{48}(.

ستقولون نحن ننطق الشهادتين ونصلى ونصوم وأكثر الشعوب توجها للعمرة وبعضنا من الأغنياء يزكى وكلنا حجاج. بل وأكثر من ذلك لا نعاقر الخمر ولا نمارس الميسر وبعضنا لا يسرق ولا يزنى ولا يرتكب الموبقات، ولا شك أن كل ذلك من الظروف المخففة، ولكن الله سبحانه وتعالى أمرنا بإصلاح الأرض وإقامة شريعته، ولم يقدم لنا خيارات متعددة: )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ((القصص: 68). لدينا حزمة واحدة متكاملة؛ إما أن نأخذها كلها أو نتركها كلها. ونحن نكرر نفس أخطاء بنى إسرائيل التى حذرنا منها القرآن مرارا وتكرارا: )أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ((البقرة: 85).

فلا ينفع أن تكون مسلما وقد أسقطت الجهاد من حياتك؛ لأنه سيعرضك لمحن ومشكلات، وللجهاد فروع عدة مطلوبة كلها: جهاد بالمال واللسان واليد بما فى ذلك القتال. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى أعلى سلم أولويات الجهاد، وأن تقول الحق لا تخاف فى الله لومة لائم. كما يجب أن يكون المؤمن قويا عزيزا لا منكسرا ذليلا أمام أى إنسان مهما بلغ جبروته. بل إن جوهر الإيمان بأن لا إله إلا الله هو التحرر من كل الطواغيت، أما القول بأن لدى عيالا وأسرة وأنه لا فائدة من قول الحق، هو عمليا تكذيب لتعاليم الله وكأنه أمرنا بالمستحيل وبما لا نطيق.

ويمكن أن نحدد معالم الرسالة القادمة فى النقاط التالية:

  • فكرة اختيار ما نراه سهلا فى الدين وترك ما نراه صعبا.
  • الخوف من عواقب الجهاد على النفس والمال والولد.
  • اختيار العبادات والشعائر ورفض إصلاح المجتمع وإقرار العدالة ومحاربة الظلم، والتمكين لدين الله فى الأرض، والتطبيق الحقيقى للشريعة الإسلامية كمرجعية.
  • خطر تعرض الإنسان للاستبدال.

ولكننا نكتفى فى هذه الرسالة بالتركيز على أن الاكتفاء بتمضية الحياة بين الأكل والشرب والتناسل والإفراز، دون الاضطلاع بجوهر الأمانة التى حملنا الله إياها فإننا بذلك نكون كالأنعام بل أضل سبيلا، لأن الأنعام غير مكلفة، ولكننا اكتشفنا بنص الآيات القرآنية والواقع العلمى أن عالم الحيوان والحشرات سيكون فى هذه الحال أفضل؛ لأنه يسبح الله بطريقته، ويعمل وفقا لإلهام إلهى أعمالا رائعة ومفيدة وأكثر إتقانا من الإنسان ولا يخرق السنن الإلهية فى محيط حياته كما يخرقها الإنسان المتخلى عن الإيمان الحق. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم وحدهم الذين يفضلون الحيوان وكثيرا من مخلوقات الله.

وحتى نلتقى فى الرسالة القادمة إن شاء الله: نكرر أن الخطر الذى يتهددنا هو أن نكون أقل من الحيوانات، وهذا ليس سبا أو شتما، بل هو تحذير من أننا فى طريقنا إلى النار إذا لم نصلح أحوالنا كأمة، وهذا أيضا بنص القرآن الكريم: )إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً ((النساء: 97).

وهذه الآية موجهة للمسلمين، وهى ليست الآية الوحيدة التى حذرت المسلمين من دخول جهنم.

اللهم اهد أمتنا إلى الصواب، وجنبها الزلل، وافتح لها طريق النجاة، وحبب إليها الإيمان والجهاد.

الرسالة رقم 28 للشعب المصرى.

المراجع

– تفاسير القرآن القديمة والمعاصرة.

– دارون بين إنسانية الحيوان وحيوانية الإنسان، د. أميمة خفاجى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2005، وهو أفضل مرجع فى هذا الموضوع.

– القرآن وعالم الحيوان، د. محمد محمود عبد الله، دار الشواف، السعودية، الطبعة الأولى، 1995.

– أنواع الحيوان وتطورها، ا.ج. كين، الناشر مطبعة المعرفة، 1961، القاهرة، سلسلة الألف كتاب.

– تهذيب الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999.

– رحلات الحيوان والطيور، د. مريد ينى حنا، دار القلم، القاهرة، 15 أبريل 1965، سلسلة المكتبة الثقافية بإشراف وزارة الثقافة.

– أفلا تبصرون، د. أحمد محمد عوف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001، سلسلة العلم والحياة.

– طبائع النحل، د. محمد رشاد الطوبى، دار القلم، القاهرة، فبراير 1964، سلسلة المكتبة الثقافية بإشراف وزارة الثقافة.

– الجانب الإنسانى عند الحيوان، فانس باكار، دار الفكر العربى، القاهرة، سلسلة الألف كتاب.

– عالم الحيوان بين العلم والقرآن، عبد الرزاق نوفل، كتاب اليوم، أخبار اليوم، القاهرة، 1985.

– مراجع علمية عديدة عن عالم الحيوان والطيور، ولكن لم نقتبس منها.

رسالة إلى الإخوان المسلمين:

الأمة تناديكم فلماذا لا تلبون النداء؟

كل باحث ومحلل ودارس أو مراقب موضوعى يرى الآن – بلا لبس – أن مصر تمر بأزمة طاحنة، وأن نظام الحكم يحتضر وهو ما يؤدى إلى حالة من التحلل والتعفن فى المجتمع ككل عملا بقول الله عز وجل: )وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ( (البقرة: 251)، أى لولا مقاومة الفساد والظلم لاستشرت الأوبئة بالمعنى الطبيعى والاجتماعى فى المجتمع.

واحتضار النظام لا يعنى موته الفورى بالضرورة كما هو الأمر فى حالة الإنسان الفرد، فالنظم الاستبدادية تملك من بعض أسباب الحياة دائما، وخاصة فى فترات النهاية، أهمها التوسع فى استخدام كافة وسائل العنف المتاحة لديها، ولكن السبب الأهم فى إطالة عمر النظام المحتضر غياب البديل الذى يخوض معه المعركة بشكل صائب، ويجمع حوله كل قوى المقاومة للتخلص من الرأس الفاسد الذى يعم فساده الأرض، والطريف أو المثير للانتباه أن هذا ما تفعله خلية النحل بشكل جماعى عندما تفسد النحلة الملكة أو تضعف، فيتم استبدالها بملكة أخرى “عفية” صالحة لقيادة الخلية!

والمقصود باحتضار النظام السياسى هو انتهاء فترة صلاحيته, فهذا النظام باتفاق الآراء وإجماع الأمة لم يعد قادرا على إدارة البلاد بالحد الأدنى من الرشاد، بل هو يعمل فى أوصال البلاد تدميرا وتقطيعا، وأداؤه بالسلب وليس بالإيجاب مهما كانت نسبة الإيجاب بسيطة. ومن نافلة القول أن نقول إن هذا النظام يخالف فى سياساته الداخلية والخارجية جوهر الشريعة الإسلامية: فهو يوالى أعداء الأمة دون أبناء الأمة فى الداخل والخارج، وهو يخاصم كل القيم التى أمر بها الله سبحانه وتعالى فى مختلف تنزيلاته وعبر كل أنبيائه: العدالة والرحمة والمساواة أمام القانون وإعمار الأرض لصالح المجموع وليس لصالح فئة من المترفين، احترام كرامة الإنسان.. إلخ.

فهذا النظام فاقد الشرعية من الناحية الشرعية الإسلامية، ومن الناحية الشرعية الدستورية الوضعية حتى بإعمال الدستور الحالى وحتى بعد تعديله. فالدستور لا ينص مثلا على أن زوجة الرئيس هى الرجل الثانى فى النظام، ولم ينص على أن ابن الرئيس هو الرجل الثانى أو الثالث فى النظام، والدستور لم ينص على لجنة السياسات ولا على الحزب الوطنى أصلا!! ومن ناحية السياسة الخارجية فإن الدستور ينص فى البند الأول على أن مصر جزء لا يتجزأ من الأمة العربية؛ فهل ما يفعله النظام مع غزة وفلسطين وسوريا، ومن قبل مع العراق ولبنان وليبيا والسودان، يتفق مع الدستور؟! خاصة مع تحويل العلاقات مع الكيان الصهيونى والولايات المتحدة إلى نوع من العلاقات المقدسة التى لا تمس مهما فعلوا بالأمة العربية ومهما فعلوا بمصر ذاتها!!

كما أن النظام غير شرعى من وجه ثالث هو الوجه العملى (أو ما يسميه الفقه الإسلامى: المصلحة)؛ فإن هذا النظام عاجز عن توفير الغذاء والكساء والمسكن لكل مواطن، بمعنى أن فساد سياساته وفساد كباره أدى إلى حالة غير مبررة من الجدب والفقر والإفقار والمرض والجهل (انهيار التعليم)، فنحن لسنا فى حالة حرب، بل إن هذا النظام (من 1975 وحتى الآن) قامت شرعيته العملية على أساس أنه سيدخل البلاد فى حالة من الرخاء بعيدا عن الحروب التى عشنا فيها لسنوات، وكانت النتيجة التى لا تحتاج لبرهان وكثير تحليلات: عدم ضمان لقمة خبز “حاف” – شربة ماء نظيفة – فرصة عمل للشباب – فرصة زواج للفتاة (13 مليون عانس) – مسكن للشباب – غياب الإحساس بالأمن نتيجة تعديات الشرطة على المواطنين قبل السياسيين.

باختصار أصابتنا كل المصائب الممكنة: الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات. وقد أجمع الفقهاء أن مقاصد الشريعة الأساسية: حماية الدين والعقل والمال والنسل والنفس. فليقل لى أحد إن مقصدا واحدا من هذه المقاصد يتحقق فى بلادنا. وأنا لا أتحدث هنا عن رغبة جارفة فى إقامة نظام إسلامى فى مصر، وهى رغبة لا أنفيها وتهمة تشرفنى، ذلك أننى أعتقد أن النظام الإسلامى يجب أن يقام عندما تنضج الظروف له وعندما تختاره الأمة بمحض إرادتها، ولكن بالتأكيد لدينا رغبة جارفة فى إنقاذ البلاد من المستنقع الذى هوت إليه وأصبحنا نعانى منه جميعا حتى على المستوى الفردى، فمن يأمن على نفسه من طعام يأكله أو مشرب يشربه على سبيل المثال. وذلك عملا بقول الله عز وجل: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( (الأنفال: 25)، أو فى قوله تعالى: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( (الروم: 41).

إن إسقاط هذا النظام أصبح ضرورة شرعية بأبسط المعانى: هو ضرورة لحفظ النفس والعرض والمال والنسل والعقل والدين.

إن إسقاط النظام دخل فى أضيق خانة يتحدث عنها القانونيون (دفاع مشروع عن النفس)، ولم يعد يحتاج الأمر لعميق تحليلات، فقد أصبح ضرورة فطرية وإعمالا لقانون بافلوف: قانون المنعكس الشرطى، بل مجرد رد الفعل المادى البسيط، فأنت عندما تلسع بالنار تسحب يدك من النار فورا بلا تفكير.

هذا على مستوى المشروعية، وهذا ينقلنا إلى النقطة الثانية: مسألة القدرة. أول شروط التغيير الإعلان عن عدم مشروعية النظام ودعوة الشعب للعمل على تغييره. فالتغيير السلمى يعتمد على جموع الشعب، وبالتالى فإن شرح ذلك للشعب وتحريضه على المشاركة فى التغيير السلمى ضرورة لإحداث هذا التغيير. يجب عدم وضع احتمال الفشل كعقبة فى سبيل التغيير، فما دمنا اتفقنا على التشخيص السابق للنظام فإن السكوت على بقائه إثم صريح، وبالتالى فإن رفضه والمطالبة بتغييره هى أفضل ما يمكن للإنسان أن يتعبد به ويتقرب إلى الله عز وجل: )كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ( (آل عمران: 110).

وجاء فى الحديث الشريف ما يعد وصفا دقيقا وتفصيليا لحالتنا الراهنة: (والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن يبعث الله عليكم عقابا من عنده ثم لتدعُونّه فلا يستجيب لكم).

(لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتحضن على الخير أو ليسحتنكم “ليستأصلنكم” الله جميعا بعذاب، أو ليأمرن عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم) الحديثان من مسند أحمد، والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة فى البخارى ومسلم وباقى الكتب التسعة.

إذن إذا تحركنا لتغيير النظام (بالأوصاف التى ذكرناها فى البداية) فنحن نمارس واجبنا الدينى، وفى صميم العبادة لله سبحانه وتعالى، فنحن فى حالة من الأمان النفسى الكامل ولا نخشى فى الله لومة لائم، كذلك فإننا نعول عليه سبحانه وتعالى، فهو الصاحب الأصلى للقضية وما نحن إلا وكلاءه وجنده، فهو رئيس الحزب الحقيقى الذى ننتمى له، ونحن الأعضاء على أساس السمع والطاعة (حزب الله)، وهنا تأتى قضية الاعتماد على الله بعد الأخذ بالأسباب، وهنا يأتى دور الدعاء الذى كثيرا ما يستخدم فى غير موضعه؛ فنظن أن الدعاء يكفى بديلا للجهاد أو حلا للمشكلة الاجتماعية. ولنسمع قول الله عز وجل: )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( (البقرة: 186), إذن الاستجابة للدعاء مشروطة بالاستجابة لتعاليم الله وعلى رأسها الجهاد (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) – (خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).

وهذا الشق الغيبى: (الاعتماد على الله والدعاء له وتوفيق الله) هو ما لا يحسب له الطغاة حسابا، ويأتى مقتلهم من خلاله لأنهم لا ينظرون إلا للحسابات المادية، والشعوب عندما تنفجر فإنها تتفجر بطاقات من عند الله ومن روح الله التى نفخها فى الإنسان لدى خلقه فيسقط عادة فى يد الطغاة.

إذن هذه هى الخطوة الأولى: الإعلان عن عدم مشروعية النظام وضرورة تغييره بالوسائل السلمية، بغض النظر عن موازين القوى المادية، فهذا الإعلان يدخل تحت بند قول الحق الذى لا يجوز طرح نصفه أو ربعه أو أى جزء منه. وهذا ما فعله نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام, فعندما طرحوا فساد مرجعية النظم الحاكمة لم يكن لديهم تنظيمات كبرى أو صغرى، ونشأت هذه التنظيمات بعد ذلك، وغالبا بعد رحيل هؤلاء الأنبياء عن عالمنا.

وأدعو إلى إعادة قراءة كتابات الشهيد حسن البنا بروح مختلفة، فالإمام كان مفعما بالتفاؤل (وهى صفة المؤمن بطبيعة الحال)، ولكن أعنى التفاؤل بالمعنى الاستراتيجى، بمعنى الإيمان بالنصر فى هذا الجيل. لم يقل حسن البنا أبدا إن النصر مؤجل لأجيال قادمة بل بشر به دائما. وقد يفاجأ كثيرون عندما يعلمون أن حسن البنا استشهد وهو فى العام 42 من العمر، وهو وإن دل على عبقرية حباه بها الله إلا أنه يشير أيضا إلى أن الرجل كان يستعد لدخول المرحلة الرابعة: إقامة الحكومة الإسلامية. ولكن استشهاده أدخل فى روع البعض أن رسالة البنا قد اكتملت (وهذا ما لا ينطبق إلا على الرسالة الأصلية لمحمد عليه الصلاة والسلام)، ولذلك برعت حركة الإخوان المسلمين فى المـراحل الأولـى: بناء الفرد – بناء الأسرة – بناء المجتمع. وتوقفت ليس فى مصر وحدها بل فى كل العالم عن المرحلة الرابعة (الحكومة الإسلامية)، التى بشر بها حسن البنا، ولم يقل أبدا إنها مؤجلة لأجيال قادمة، بل إن حسن البنا عندما بشر بالنصر ضرب أمثلة من حركات نجحت فى نفس الجيل: (دعوة محمد عليه الصلاة والسلام – ثم انتصار أبى بكر الصديق على المرتدين – إسقاط الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية – صلاح الدين الأيوبى وانتصاره على الصليبيين – حركة عبد العزيز آل سعود) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا – دار الدعوة – الطبعة الأولى 2002 الإسكندرية – ص 58.

كما يروى حسن البنا قصة موسى وفرعون وأنها مرت بـ 5 مراحل:

1- ضعف الأمة.

2- زعامة (دعوة موسى).

3- صراع.

4- إيمان (الجمهور).

5- انتصار.

أى يطرح القصة كسنة من سنن الله فى خلقه، وهى قصة الانتصار فى جيل واحد وليس كحدوتة غير قابلة للتكرار. (اقرأ نفس المرجع ص 60-61).

ويقول: (وإن الذين فتحوا أقطار الدنيا ومكن الله لهم فى الأرض من أسلافنا لم يكونوا أكثر عددا ولا أعظم عدة، ولكنهم مؤمنون مجاهدون، ونحن سنعتد اليوم بم اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.. سنعتد أيها الناس اليوم بهذه العدة وسننتصر كما انتصر أسلافنا بالأمس القريب، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) (ص 113)، (وانتظروا ساعة الفوز وترقبوا وقت الانتصار) (ص 308).

ومن الملفت للانتباه أن الشهيد حسن البنا كان شديد الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولم يكن أبدا داعية من النوع التقليدى، بل كان يتابع أمور الواقع والإحصاءات والغلاء والفساد الاجتماعى، وهو يدعو صراحة لتحطيم حكومة الفساد ولنقرأ: (أما المسئول عن ذلك – الفساد الاجتماعى – فالحاكم والمحكوم على السواء: الحاكم الذى لانت قناته للغامزين، وسلس قياده للغاصبين، وعنى بنفسه أكثر مما عنى بقومه، حتى فشت فى الإدارة المصرية أدواء عطلت فائدتها وجرت على الناس بلاءها. فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة فى الإدارة المصرية، والمحكوم الذى رضى بالذلة وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين). وهنا نصل إلى بيت القصيد: (أما كيف نتخلص من ذلك فبالجهاد والكفاح، ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة، فنخلص من ذلك كله بتحطيم هذا الوضع الفاسد وأن نستبدل به نظاما اجتماعيا خيرا منه، تقوم عليه وتحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وتعمل جاهدة لإنقاذ شعبها، يؤيدها شعب متحد الكلمة..) (ص 321).

إذن لابد من استبعاد فكرة استبعاد النصر، وكأننا أمة غير جديرة به. ولنعد لمسألة الأخذ بالأسباب. كما ذكرنا أن الشرط الأول للتغيير هو الإعلان عنه والمطالبة به ودعوة الشعب للتأهب والعمل من أجل الخلاص، وهذا يعنى أن تكون شعارات الحركة عامة ومتصلة بكل احتياجات ومطالب الشعب، لا لمطالب فئوية أو تنظيمية أو بمجرد مناسبة انتخابات.

الشرط الثانى أن يتوفر البديل المقنع للشعب حتى ينخرط فى الحركة، والبديل يعنى هيئة أو هيئات متآلفة + ميثاق أو إعلان مبادىء يشكل برنامجا جبهويا وحدا أدنى للقوى المؤتلفة، حتى يعرف الشعب الهيئة التى يسير خلفها وما هو برنامجها؟ إذ لا تكفى الثقة فى بعض الأشخاص. وليكن الميثاق أو إعلان المبادىء عقدا اجتماعيا واضحا بين هذه الهيئة والشعب.

وأقول للإخوة والأساتذة فى مكتب الإرشاد إن كافة القوى الحية حريصة على مشاركة الإخوان المسلمين فى هذا الائتلاف، وتدرك وزن وفضل وسابقة جهاد الإخوان وما يتحملونه من مشاق وقمع. وبالتالى نحن ندعو لاتخاذ قرار بالمشاركة الفعالة فى هذه الاجتماعات للتوصل إلى هذا البرنامج، ويمكن الوصول إليه بسهولة؛ لأن المعارضة بكل فصائلها تعرف جيدا فيما تتفق وفيما تختلف. فتعالوا نتفق على إنقاذ مصر من هذا الوضع الرهيب فى ترديه. كما أن هذا الائتلاف الذى لم يعلن عن نفسه بشكل رسمى بعد لإنضاج المشاورات قد اتفق على الاستجابة لدعوة عمال المحلة لإضراب عام فى البلاد يوم 6 أبريل، كبداية لعصيان مدنى حقيقى ينهى أزمة البلاد وينقذها من عصابة استولت عليه بليل!!

ونحن نعلم مصاعب تنظيم مثل هذا الإضراب فى بلد تم تحطيم معظم مؤسساته الأهلية على مدار 30 سنة. ولكننا ندرك أن قدرا ملحوظا من النجاح ممكن جدا فى حال مشاركة الإخوان المسلمين. لا نريد أن نورطكم فى شىء، ونعلم أن تاريخ الإضراب تم تحديده بدون الرجوع إليكم، ونحن أيضا لم نحدد الموعد، وإنما حدده عمال المحلة. المهم قبل حسم موضوع مشاركة الإخوان فى 6 أبريل أن يحددوا موقفا عاما من كل ما ذكرنا. الأمة تطالبكم بالفعل أن تقودوا التغيير؛ فلماذا ترفضون هذا التكليف؟ أعتقد أن المشاركة فى انتخابات المجالس المحلية قد حققت غرضها الأساس وكشفت ما تبقى من عورات النظام، ولكن بعد كل هذه الفضائح التى تورط فيها النظام فلا أرى أن ننشغل بهذه الملهاة أكثر من ذلك. أهم ما حدث أن النظام أصدر بيانا رسميا قاطعا لا لبس فيه أعلن فيه انتهاء أكذوبة الانتخابات فى مصر، وأنه لن يسمح بها ولا حتى على سبيل الفكاهة أو التمثيل. فإذا كنا رافضين التورط فى أية أعمال عنف عن اقتناع ودراية بضوابط الشرع، فهل يمكن أن نجد طريقا للتغيير إلا العصيان المدنى.

ومن الأمور الشائعة غير الصحيحة تصور أن العصيان المدنى هوجة تتم فى يوم واحد فى شكل عملية جراحية واحدة وسريعة. ولا شك أن هذا أحد أشكال العصيان المدنى الناجح شريطة وجود البديل المعارض الذى يطرح نفسه مبكرا (النموذج السودانى فى 1964 و1985 هو الأشهر)، ولكنه ليس هو الشكل الوحيد أو الغالب: فالعصيان المدنى قد يستمر سنة كما حدث فى الثورة الإيرانية، وقد يستمر عدة شهور وقد يستمر سنوات (العصيان المدنى ضد الاحتلال البريطانى فى الهند).

والموضوع فى مصر قد يطول أو يقصر، ولكن الدعوة له شرعية وواجبة، والظروف مهيأة وناضجة، وإذا تأخرت النتائج فإننا واثقون من أننا على الصراط المستقيم. وتقديرى المتواضع أن الدعوة الجادة للعصيان المدنى – خاصة مع وجود الإخوان المسلمين فى قلبها – يمكن أن تأتى أكلها قريبا، ولكن الشعب لا يثور بدون قيادة واضحة المعالم له. لقد فعل الشعب كل ما يمكن عمله من مقاومة للفقر والغلاء بدون قيادة، ولا يمكن أن نطالب الشعب بأكثر من ذلك إلا عندما تعلن المعارضة رسميا عن هيئتها البديلة للنظام القائم المنهار!!

مرة أخرى أكرر صرخة المستشار والمفكر الإسلامى والفقيه القانونى طارق البشرى، التى قالها منذ عامين، ولا نقول أبدا إنها ذهبت أدراج الرياح: أدعوكم إلى العصيان.

الفهرس

الموضوع الصفحة

مقدمة العصيان المدنى.. رؤية إسلامية القرآن الكريم يذم الطغاة بالاسم! تعالوا نعبد الله كما أمرنا! مقاومة الظلم عبادة وقرينة التوحيد أيها المصريون: أخطر ما يتهددنا أن نصبح أقل من الحيوانات! رسالة إلى الإخوان المسلمين:الأمة تناديكم فلماذا لا تلبون النداء؟3 7 27 62 73
85

126

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading