الإسـلام والحـكم




مقاومة الطغيان ممكنة, وإحراز نقاط لصالح الشعب أمر واقعى, والتغيير حلم ليس بعيد المنال إذا أرادت الأمة أن تتحرر من الاستبداد. القضية الكبرى هى قضية رأس السلطة فى عام انتهاء الدورة الحالية للرئاسة فلقد انتهى عهد الإصلاحات التدريجية البطيئة, وتكلست السلطة التنفيذية إلى حد الموات, والأحوال فى البلاد لا تتحمل المعالجات البطيئة.

والأمة لن تتحرر من الأغلال إلا إذا علمت علم اليقين أن شئون الحكم والسياسة هى من صميم العقيدة الإسلامية, وأن إصلاح أحوال البلاد والعباد مسألة إيمانية بل ذروة التعبير عن الإيمان بالله.
)الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ( (الحج: 41).
الموقف الشرعى الإسلامى من الحاكم ونظام الحكم مسألة متجددة, تناولها الفقه والعديد من الفقهاء عبر التاريخ الإسلامى استنادا إلى الأسس الدستورية الواردة فى القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة ومرحلة الخلفاء الراشدين. ورغم أن الاتفاق هو السمة الواضحة لهذه المرجعيات فى القضايا الأساسية إلا أن البعض لا يزال يتحدث عن أمور مرجوحة, وهو ما يثير جدلا من المفترض أن الأمة تجاوزته, كما يجرى الخلط بين مستويات المرجعية فيشار أحيانا إلى فتوى ما دون تحديد الزمان والمكان, مع إغفال نص قرآنى صريح فى ذات الموضوع مع أنه لا اجتهاد مع النص.

مسألة الحكم فى الإسلام مسألة إيمانية عقدية, لا تدخل فى دروب السياسة وفقا للتعريف التقليدى العلمانى للسياسة. فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بعبادته: )وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ( (الذاريات: 56).. كمهمة وحيدة, أى على وجه الحصر, وهو ما يعنى أن العبادة (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه) ابن تيمية. وأن العبادة (قضية إتباع لا مجرد شعائر) سيد قطب.
وقد نص القرآن الكريم على هذا المعنى الجوهرى بصور شتى فى آيات شتى كالقول: )قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الأنعام:162).
وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإقامة الدين, وفصل ذلك وفسر فى آيات التمكين وآيات الأحكام التى لا يمكن أن تتحقق إلا فى ظل دولة إسلامية (الأحكام التى تضبط وتنظم حالات الحرب والسلام والزكاة والعقود والحدود وشتى التشريعات).
وبالتالى فإن كل مسلم فى كل عصر وأوان مطالب بالسعى والجهاد من أجل إقامة الدولة الإسلامية. والجهاد – بالكلمة على الأقل – ضد الدولة التى لا تحكم بما أنزل الله, وأن يكون ذلك على نحو صريح لا التفاف فيه اللهم إلا فى حالات الاستضعاف الاستثنائية, والتى لا نراها متحققة فى عالمنا اليوم فى معظم المجتمعات الإسلامية.
والمقصود بحالات الاستضعاف الاستثنائية, العدد الضئيل للمؤمنين والمتناهى فى الضآلة, كحالة أهل الكهف, أو كحالة المؤمنين فى السنوات الثلاث الأولى للدعوة الإسلامية والتى كانت سرية, والتى بلغ عدد المؤمنين فى نهايتها قرابة الأربعين (وفى رواية أخرى ستين), أو كحالة المؤمنين فى الدول الشيوعية إبان ذروة جبروتها وفى ظل ضآلة عددهم فى الاتحاد السوفيتى أو بلغاريا أو يوغسلافيا.
وليس المقصود بالاستضعاف هو نقص العدة والعتاد والإمكانيات المادية, فكل أصحاب دعوة أو رسالة خارج مواقع السلطة لابد أن يكونوا ناقصى العدة والعتاد, وأن قوتهم الرئيسية تكمن فى انتشارهم العددى النسبى, أى تجاوز الندرة المرشحة أو المهددة بالإبادة الكلية, مع الصلابة العقدية التى تجعل قوتهم مضاعفة عشرات المرات عن قوة الخصوم. أى أن الانتشار العددى النسبى لا يعنى بالضرورة تجاوز الفئة المؤمنة الصلبة نسبة الـ 50% من عدد السكان, ذلك أن لحظة فتح مكة وهى أشبه بعاصمة جزيرة العرب تم قبل الحصول على هذه الأغلبية البسيطة, ثم تحققت أغلبية ساحقة تشبه الإجماع بعد هذا الفتح (سورة النصر).
إذن فإن إقامة الدين هى الهدف الأسمى والأعلى فى الدنيا وهو هدف معلن لا يتم الوصول إليه بالتآمر السرى أو بالمؤامرات الصغرى, ولكن من خلال الدعوة الصريحة التى تحاصر الطاغوت وتنتزع شرعيته, ولأنها قضية إيمانية فلا يجوز لجيل أن يتركها لجيل تال, بل عليه أن يعمل عليها (أى إقامة الدين أى التمكين) بالأخذ بالأسباب سائلا الله التوفيق, دون أن يقع فى شرك الساسة العلمانيين الذين يقيسون الأمور وموازين القوى بصورة تعتمد على المؤشرات المادية الظاهرة فحسب, وبالتالى يجب ألا نفترض استحالة النصر فى كل جيل.
ونرى أنه يجب توخى النصر والسعى إليه دون خجل أو مواربة, ودون الادعاء أن الهزيمة والنصر بالنسبة إلينا سواء, لأن ذلك يخالف الفطرة التى خلقنا الله عليها, ويخالف نصوص القرآن بطبيعة الحال: )إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ( (محمد: 7), )أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ( (البقرة: 214), )وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ( (الأنفال: 7), )إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ( (غافر: 51), )وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ( (الروم: 47) )وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ( (الصف: 13), ولم يرتبط النصر فى القرآن بالكثرة أبدا: )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر: 45), )وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ( (الأنفال: 19), )وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ( (التوبة: 25).
ويستند البعض أحيانا إلى قصة سيدنا نوح عليه السلام لتبيان أن النصر ليس سهلا بالضرورة وقد يستغرق ألف عام: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ( (العنكبوت: 14), والحقيقة أن قصة سيدنا نوح تسير فى نفس إطار السنن العــامة فى القرآن الكريم. إن رسالة كل نبى ورسول أن تسود دعوته, فهو لا يدعو ولا يبشر بهزيمة نفسه أو رسالته: )إنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ( (هود: 88).
المهم أن قصة سيدنا نوح هى قصة نصر لا قصة هزيمة, وإن أخذ ذلك شكل معجزة التدخل الإلهى بالطوفان الشامل الذى نجا منه المؤمنون, ثم بدأوا حياة جديدة بعد الطوفان ليبنوا مجتمعا إيمانيا محكوما بشرع الله. أما استطالة الزمن فى الدعوة, فهو يشير إلى أنه سنة الله فى خلقه, وأن الطريق ليس سهلا أو مفروشا بالورود لأصحاب الرسالات, حتى وإن كانوا مرسلين من الله, وأن المعاندين والمستكبرين من بنى البشر سيتصدون لهذه الدعوات وسيستغشون ثيابهم, فهذه سنة دائمة حيث يقول الرسول أى رسول: )وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ( (البقرة: 214), وقرب النصر لا معنى له إلا أن يكون فى نفس الجيل. لأن “القرب” مفهوم زمنى دنيوى وهو ظرف زمان مستخدم إلى مخاطبين محددين وليس على طريقة أن اليوم عند الله بألف سنة مما تعدون فهذه أمور غيبية.
أما إذا كان المقصود كما يميل المفسرون أن سيدنا نوح عاش بالفعل 950 عاما, بل إن هذه كانت سنوات الدعوة فقط, فإن ذلك لا يغير من المعنى شيئا, فإذا كانت الأعمار فى سالف العصر والأوان بهذا الطول (فلم ينبئنا الله أن طول العمر كان معجزة لنوح) إذن فإن الأمور نسبية, ولقد تم النصر فى نفس الجيل!! نفس القائد (الرسول) ونفس جماعة المؤمنين هى التى نصرها الله فى النهاية وأقامت دولتها ومجتمعها بعد الطوفان.
إن السعى للتمكين لدين الله فريضة دائمة فى كل الأجيال, وما النصر إلا من عند الله, بمعنى أننا إذا أخذنا بالحسابات المادية المحسوسة لأصابنا اليأس من التغيير, فمن كان يتصور أن بضع مظاهرات سلمية ستؤدى فى النهاية إلى خلع عرش شاه إيران الذى تحميه دولة بيروقراطية عريضة ومليون جندى على الأقل وأغلب الدول العظمى والإقليمية!!
لا يصح للدعاة أن يقولوا إننا نعمل وليس يهمنا النجاح أو الفشل, النصر أو الهزيمة, فهذه فى حد ذاتها روح انهزامية لا تبشر ولا تساعد على النصر الذى وعدنا الله. وإنما الأصح أن نقول إننا نعمل من أجل النصر, وهذا لن يتم إلا بتوفيق الله, وإذا نحن فشلنا لأى سبب من الأسباب فحسبنا أن نيتنا كانت خالصة لله.
إن الهزائم كانت فى الأغلب الأعم من صنع البشر وليست إجبارية: )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ( (الشورى: 30).
وإذا كانت السيرة النبوية هى النموذج الذى نحاكيه ونأخذ منه العبر والقوانين بعد القرآن الكريم.. سنرى أن هزيمة أحد لها أسباب موضوعية ظاهرة وواضحة ويتحمل المسئولية فريق من معسكر المؤمنين. وكذلك هزيمة حنين التى تم تداركها.
وفى حياتنا المعاصرة نجد احتلال فلسطين وهزيمة 1967, حتى احتلال لبنان والعراق على سبيل المثال يرتبط بالأساس بتقصير المؤمنين. وعلى الحركات الإسلامية أن تقيم عملها بنفس الأسلوب ولا تنسب هزائمها لأمور غيبية, أو لمعانى مجردة كالابتلاءات.. فالمحن والابتلاءات شىء, والهزيمة فى مرحلة تاريخية كاملة شىء آخر.

قضية الحكم فى القرأن الكريم

قبل أن نخوض فى تراثنا الفقهى حول قضية الحكم والسياسة فى الإسلام من الأصوب دائما أن نبدأ بالقرآن الكريم, ونحن نقف أساسا عند الآيات المتعلقة بشرعية الحكم ومواصفاته وبالأخص حول قضية البيعة, والعلاقة بين الحاكم والمحكوم وعدالة الحكم كقضية إيمانية: )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( (البقرة: 124).
أى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن امتحن إبراهيم (ابتلاه) فاجتاز الامتحان, اختاره بعد ذلك ليكون قدوة يقتدى بها الناس, وعندما دعا إبراهيم شأنه شأن أى والد يبتغى الخير لأولاده أفهمه الله سبحانه وتعالى أنه سيكون من نسله الصالح والطالح والخير والشرير وأن الله لا يشمل برحمته وبركاته (الظالمين) واتخذ العلماء من هذه الآية الأساس والقاعدة فى أن الإمام (الحاكم) يجب أن يكون عادلا وأن الظلم يسقط عن أى حاكم شرعية وجوده.(1)
وإماما أى يتخذونه قدوة ويقودهم إلى الله ويقدمهم إلى الخير ويكونون له تبعا وتكون له فيهم قيادة. والإمامة لمن يستحقها بالعمل والشعور, وبالصلاح والإيمان, ليست وشيجة لحم ودم وإنما هى وشيجة دين وعقيدة. أما الظلم فهو أنواع وألوان: ظلم النفس بالشرك, وظلم الناس بالبغى, والإمامة الممنوعة على الظالمين تشمل كل معانى الإمامة: إمامة الرسالة, وإمامة الخلافة, وإمامة الصلاة, وكل معنى من معانى الإمامة والقيادة, فالعدل بكل معانيه هو أساس استحقاق هذه الإمامة فى أية صورة من صـورها. ومـن ظلم – أى لون من الظلم – فقد جرد نفسه من حق الإمامة وأسقط حقه فيها, بكل معنى من معانيها.
)لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( إذن تعنى تنحية من يسمون أنفسهم المسلمين اليوم بما ظلموا وبما فسقوا وبما بعدوا عن طريق الله وبما نبذوا من شريعته وراء ظهورهم ودعواهم الإسلام, وهم ينحون شريعة الله ومنهجه عن الحياة, دعوى كاذبة لا تقوم على أساس من عهد الله.(2)
ان المانع من منصب الإمامة مطلقا هو الظلم, وذكر الله ذلك لتنفير سائر الناس من الظالمين وترغيبهم عن الإقتداء بهم, فإن الناس قد اعتادوا الإقتداء بالرؤساء والملوك الظالمين لأنفسهم ولغيرهم بالخروج عن الشريعة إلا ما يوافق أهواءهم, ويحرفون أو يؤولون الأحكام لتطابق شهواتهم. لذا أخذ الفقهاء من هذه الآية حكما أصوليا وهو أن الظالم لا يجوز أن يولى منصب الإمامة العظمى, واشترطوا لصحة الخلافة فيما اشترطوا العلم والعدل.
إن الحكام الذين ظلموا الأئمة الأربعة (أبو حنيفة – مالك – الشافعى – ابن حنبل) كانوا أقل توغلا وإسرافا فى الظلم من أكثر الملوك والأمراء المتأخرين. ان المتأخرين من الحكام لا يعرفون من الشريعة أكثر مما يعرفه السوقة, ويعملون بخلاف ما يعلمون بل يشرعون للناس أحكاما جديدة يأخذونها من قوانين لأمم تخالف الشريعة ولا توافق مصلحة الأمة ويلزمون عمالهم وقضاتهم الحكم بها باسمهم لا باسم الله تعالى.(3)
وقال آخرون معنى العهد عهد الإمامة, ومعناه ألا يكون الإمام ظالما.(4)
وفى قول آخر: انى جاعلك إماما للناس تؤمهم فى دينهم وتفصل بينهم فى دنياهم, ولا ينال عهدى بالإمامة الظالمين الذين ظلموا أنفسهم, لأن الإمام مفروض أن يقوم بحراسة الدين وأهله والقيام على شئون الرعية ومنع الظلم, فإذا كان ظالما لنفسه فكيف يدفع الظلم عن غيره وهذا هو حكم القرآن فى الإمام وما شرطه فيه.(5)
وقد تكلم بعض المفسرين فى ضوء هذه الآية الكريمة عن الولاية وإمامة الناس فقال بعضهم: إن هذه الآية تدل على أنه لا يجوز ولاية ظالم, ولا يصح أن يكون إماما, وأنه إذا ولى ظالم لا تجوز طاعته, أو على الأقل فى ظلمه, وقال آخرون: تجب طاعته فى الطاعة وتجب مخالفته فى المعصية, لأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق, ويستمر فى ولايته, ويسعى فى تغييره. وأن الاتفاق على أنه لا يجوز تولية الجائر.(6)
وجاء فى التفسير أيضا: لا يكون لى إمام ظالم – لا أجعل إماما ظالما يقتضى به – ليس للظالمين عهد وإن عاهدت ظالما أنقضه – لا طاعة إلا فى المعروف – الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا.(7)
واستدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإمام يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك, وهو الذى أمر النبى صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله على ما تقدم من القول فيه. فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليس له بأهل.(8)

ونخلص من كل ما سبق أن النص القرآنى يتسم بالعمومية والإحكام كنص دستورى لتنظيم حياة البشر عبر الأزمنة والأمكنة. فالإمامة هنا تعنى القدوة والقيادة الشاملة, نعم هى تعنى النبوة ولكن القرآن ليس كتابا لمرحلة النبوة, بل هو الكتاب الذى اكتملت آياته قبل أيام قليلة من رحيل آخر المرسلين عن عالمنا محمد صلى الله عليه وسلم, وأتباع النبوة وعلى رأسهم العلماء هم ورثة الأنبياء وتصدق عليهم القوانين العامة للقيادة, كما تصدق على الأنبياء باعتبارهم القادة القدوة والمثل الأعلى, ولا يختلفون عنهم إلا بانتفاء العصمة وتلقى الوحى, وبالتالى كل القوانين الاجتماعية التى حكمت علاقة الأنبياء والمرسلين بمجتمعاتهم هى التى تظل سارية حتى يوم الدين, والقرآن ككتاب هداية يعلمنا أسس العمران البشرى وفقا للمشيئة الإلهية, أى حسن إعمار الأرض, وجعل إعمار الأرض تعبدا لله سبحانه وتعالى. بل إن الآيات التالية فى سورة البقرة والتى تتحدث عن بناء الكعبة وتطهيرها للعاكفين والركع السجود ودعوة إبراهيم ربه: )رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ( (البقرة: 126), وكأنه صار المتصرف فى هذه البقعة من الأرض بعد هجر أرض الملوك فى العراق والشام ومصر, وكأن سيدنا إبراهيم قد أسس مجتمعا إيمانيا فى جزيرة العرب هو إمامه, وإن لم يذكر القرآن ذلك صراحة, وجاء فى البخارى أن إبراهيم عندما ذهب إلى مكة مع هاجر وابنه إسماعيل لم يكن بها أحد وليس بها ماء (قبل تفجر ماء زمزم) وهذا ما أكده القرآن الكريم: )رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ( (إبراهيم: 37).
وأن الناس تحلقت حول مكة بعد ذلك: )فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ( (إبراهيم: 37), )وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( (الحج: 27).
ثم ثبت بعد ذلك بشكل لا يحتمل أى تأويل أن الذرية الصالحة لسيدنا إبراهيم قد تولت الإمامة بمعناها الشامل, وليس بمجرد تقديم القدوة والموعظة الحسنة, بل بتصريف شئون الدنيا بالعدل كما فى قصة سيدنا يوسف: )وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ( (يوسف: 21), وهو ابن يعقوب: )وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ( (العنكبوت: 27), وأيضا داود وسليمان. إن الله سبحانه وتعالى منذ الأزل لم ينزل الدين إلا ليحكم حياة البشر فى كل شىء, وعلى رأس ذلك القوانين التى تسير وتنظم المجتمعات والتى يتولاها أولو الأمر من الحكام.
ونحسب أن الإسلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان متمما ومكملا ومهيمنا على ما سبقه من شرائع, ولم يقدم جديدا من حيث المبدأ فى علاقة الإيمان بالدولة أو الإمامة أو القيادة.
فالأصل فى العقيدة أن الإمامة وإن استند أصلها إلى عقيدة التوحيد, إلا أنها مأمورة ومطالبة بتنظيم شئون المجتمع بأسره, وفق هذه العقيدة وما يترتب عليها من عبادات وأخلاقيات ومعاملات, ومراجعة القصص القرآنى توضح هذه الأبعاد كلها, حيث تندمج مسألة التوحيد مع إصلاح شئون المجتمعات فى حزمة واحدة مترابطة على سبيل التزامن لا التتابع.
وبالتالى فإن القول بصدق العبودية لله بينما ينصرف المؤمنون عن أهم شئون تنظيم الحياة الدنيا, وتركها فى يد من لا يقيم لشرع الله وزنا, هى معادلة غير مقبولة على أى وجه من الوجوه. إذ أن الفصل بين شئون الدنيا والدين, يعنى أن العبودية لله ليست حقيقية أو ليست خالصة وذلك لتغليب الخوف من الظالمين على الخوف من الله, وفى نفس الوقت فإن هذا الموقف يؤدى إلى الإهدار العملى لكل أوامر الله وتشريعاته, وكأنها زينة فى الكتب دون الواقع, لذلك وصف الله حاملى كتابه دون الالتزام به عمليا بمنتهى القسوة: )كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً(!
إن الدين الحق لا يعمر المساجد والمعابد بينما الحياة أشبه بالقفر, جرداء من قيم العدالة والشورى والحب والأخوة والتكافل والتسامح. إن المعاملات الشخصية بين الأفراد مهما حسنت النوايا فلن تكون فى أفضل أحوالها فى مجتمع تحكمه قيم الجور والظلم والاستعباد والقهر السياسى والاجتماعى.
إن موالاة حكام المسلمين لأعداء الله هى أكثر الصور المعاصرة فجاجة لانتهاك حقوق الله, ولتدمير أصل ومعنى وجود مجتمع مسلم, عندما يلتحق حكامه بأعداء الدين ويتلقون منهم المال والسلاح والدعم المادى والمعنوى, ويشاركون فى مخططاتهم ضد المسلمين تحت شعار محاربة الإرهاب, ونزع أسلحة الدمار الشامل للمسلمين, والتطبيع مع العدو الصهيونى, والترويج لقيم السلام فى وقت يشن الأعداء أعتى الحروب على المسلمين, بل ويقومون بتدريب قوات الشرطة العميلة فى العراق لمساندة الاحتلال الأمريكى, ويجعلون من بلادنا مستقرا وممرا لقوات الأعداء. إن هذا يجعل الادعاء بالإيمان بالله والإسلام أقرب إلى النفاق منه إلى الحقيقة.
والحاكم الظالم ليس هو الحاكم المستبد الذى يقمع الرأى المعارض فحسب, فهذا نوع من الظلم قد يقع فيه الحاكم المسلم, وهذا ما يدور حوله كلام الفقهاء فيما يتعلق بالشروط الصعبة التى يضعونها للخروج عليه. ولكن الحاكم الظالم قد يكون هو الذى يشرك بالله: )إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(, والشرك ليس بعبادة الوثن والصنم فحسب, إنما قد يكون بموالاة الكفار والمشركين المحاربين كما هو حال معظم حكام العرب والمسلمين.
إذن فإن الإمامة العادلة هى جزء لا يتجزأ من العقيدة, بل هى جزء حاكم وأساسى, وتقع فى أولوية جهاد المجاهدين, كما كان فتح مكة هو الهدف الأساسى لجهاد الرسول عليه الصلاة والسلام للتمكين لدين الله فى الأرض. نعم إن الهدف الأول والأخير وإن شئت الوحيد: نشر دعوة الإيمان بالله والتوحيد ولكن كيف؟! وفقا للسنن التى وضعها الله والتى تحكم حياة المجتمعات, وعلى رأسها حيازة المؤمنين لسلطة الدولة.(9) إذن لا يمكن إقامة الدين بصورة صحيحة إلا بإمامة عادلة, وعلى المؤمنين فى كل جيل السعى والجهاد للتمكين لهذه الإمامة, ومبايعتها وإن كانت فى المعارضة كما بويع الرسول عليه الصلاة والسلام قبل إقامة دولة المدينة, لأن من شأن هذه المبايعة تمهيد الطريق للتمكين, ولكن هذه الإمامة العادلة بدورها – وهى ليس بالضرورة أن تكون فردا فذا فقد تكون جماعة أو تنظيم – لا تستحق هذا الاسم إذا لم تكن تجاهد الظالمين وتسعى لإزاحتهم عن سدة الحكم, وتمارس فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر دون أن تخاف فى الحق لومة لائم.

)كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ( (البقرة: 213).
يبين الله سبحانه وتعالى أنه بعث النبيين ومعهم الكتاب ليكون المرجعيـة الحـق فـى مجمـل حيـاتهم وحيـاة البشـر، والكتاب فى الأصل هو كتاب واحد تعدلت بعض شرائعه دون جوهره حتى القرآن الكريم الطبعة النهائية الصالحة للبشر حتى نهاية الدنيا.. وسيكون من قبيل السفه أن نتصور أو تنصرف عقولنا عن هذه المرجعية إلى قانون الأحوال الشخصية أو بعض الأخلاقيات الفردية أو بعض الشعائر دون التشريعات الكلية التى تحكم تنظيم المجتمع ككل. وقد برهن التاريخ أن شئون الحكم تكون العامل الحاكم فى صلاح المجتمعات أو فسادها، فأهل الحكم هم الذين يقرون التشريعات المنظمة لحياة المجتمع، ويشـفعـون ذلك بالإجراءات التنفيذيـة، والقضائية، فكيف يمكن الاحتكام لكتاب الله، وهو وراء ظهور هؤلاء الحكام ثم يعد المجتمع إسلاميا؟!
ونحن فى مصر على سبيل المثال أسقطنا هذه المرجعية الإسلامية رسميا منذ الاحتلال البريطانى 1882 أى منذ 122 عاما, ولا يمكن أن نقيم الدين حقا وصدقا إلا بالعودة إلى هذه المرجعية, وهذا لن يتم إلا بحاكم مسلم وحكام مسلمين بهذا المعنى, أى حكام يفصلون فى الخـلافـات بين البشر على أسـاس الكتاب، والحاكم الذى لا يلتزم بذلك يتعين إسقاط المشروعية عنه, والسعى إلى تغييره. وأن يكون ذلك هو الشغل الشاغل للمـؤمنيـن، وأن تكـون هــذه عبـادتهم المسـتمرة لله سـبحانه وتعالى. فلا توجد فى الدين مرحلة للصلاة والصوم وغيرها من الشعائر، ومـرحلة لإقامـة الدين بصورة شاملة فى المجتمع، وليس معنى ذلك الثورة الدائمة أو الخروج المستمر على الحاكم دون تهيئة عملية، ولكن الإعلان الدائم عن هذا الهدف والسعى له بالتدبير والإعداد، وجزء أساسى من هذا الإعداد هو الإعلان عن هذا الهدف لحشد جموع المؤمنين حوله وتعبئة قواهم وحركتهم، وهذا ما حدث فى المرحلة المكية من سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام عقب فترة الدعوة السرية التى لم تتجاوز السنوات الثلاث، ولم تكن هذه المرحلة السرية ضرورية إلا بسبب منطقى بسيط للغاية، هو تأسيس نواة مجتمع المؤمنين، وهى نواة صغرى لم تصل عند الجهر بالدعوة حتى إلى 1% من عدد سكان مكة، وهو أمر متوفر الآن بأكثر من ذلك بكثير فى مصر وكثير من البلاد العربية والإسلامية.
وهناك سبب منطقى آخر, أن القرآن الذى ينزل على الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينزل منجما أى متقطعا وعلى دفعات, فكان لابد من نزول جزء مقدر منه, وأن تستوعبه وتتمثله هذه النواة المؤمنة وتتربى عليه, قبل الجهر بالدعوة بعد 3 سنوات, وهو الجهر الذى بدأ رغم عدم اكتمال نزول القرآن الكريم.
أحيانا يخلط الناس بين ثلاث مراحل أو مواقف فيضعون علامة التساوى بين أمور غير متساوية أو متطابقة.
(1) الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر.
(2) الموقف من شرعية الحاكم.
(3) الخروج أو الثورة عليه للإطاحة به.
أما الأمــر بالمعـروف والنهى عن المنـكر فهو فريضة دائمة, ومكون رئيسى للمجتمع المسلم, وهى كما شبهتها من قبل بالشـهيق والزفيـر، هى فريضــة تمارس 24 سـاعة فـى اليـوم, وطول العمــر فى سن التكليف, وفى كل زمان ومكان، وهى تصل إلى أقرب صور كمالها فى المجتمع المسلم ذاته عندما يحكم المرجعية الإسلامية فى كل شئونه.
أما الموقف من شرعية الحاكم، وهل يستحق الخلع أم لا فهنا دار الفقه الإسلامى عموما حول مسألة الفسـق أو الظلـم، وكثيرا ما يضرب مثل بقيام الحاكم بشرب الخمر! ذلك أن الفقهاء فى زمن سيادة المرجعية الإسلامية لم يناقشوا أصلا مسألة أن يكون الحاكم كافرا فهذا أمر لم يكـن واردا على الإطلاق، أو أن يعلن عدم التزامه بالمشروعية الإسلامية، أو يعلن مرجعية أخرى غير الإسلام، أو يتحالف مع الدولة البيزنطية أو يحصل منها على معونات أو سلاح أو يجعل أرضه ممرا أو مستقرا لقواتها، أو يقوم بمناورات مشتركة معها أو يقيم منطقة للتجارة الحرة أو الشراكة معها دون المؤمنين.
الملفت للانتباه أن البعض ينقل فتاوى من عصر إلى عصر, وهو أمر غير مقبول شرعا فالفتوى تقدر بقدرها وفى زمانها ومكانها.. فالقول باحتمال الحاكم الظالم أو الفاسق أو الفاجر كان لأنه يقوم بمهمات عليا أو بتعبيرات العصر: يلتزم بالمصالح العليا للأمة، أو ما نسميه الآن “الأمن القومى”! كان يقوم بمعظم الواجبات التى حددها مثلا الماوردى فى الأحكام السلطانية: حفظ الدين – تنفيذ الأحكام – حماية البيضة – إقامة الحدود – تحصين الثغور – جهاد من عاند الإسلام – جباية الفىء والصدقات.. إلخ.
لم يقل فقيه من الثقاة عبر التاريخ بمشروعية حاكم يحالف الإمبراطوريات المحاربة للمسلمين!! بل لقد كان من أهم أسباب سقوط الدول والدويلات الإسلامية هى مسألة موالاة الأعداء، وكانت القيادة تعقد دائما محليا وعلى مستوى العالم الإسلامى للأكثر تصديا لأعداء الإسلام المحاربين.
لم يقل فقيه من الثقاة عبر التاريخ بطاعة حاكم ألغى مرجعية الشريعة الإسلامية!! وليس المقصود هو الفهم الشائع الخاطئ للشريعة باعتبارها قوانين الحدود فحسب, فهذه ليست إلا القانون الجنائى الإسلامى، إن الشريعة الإسلامية هى التى تضع أسس الدولة الإسلامية واستقلالها, وتتضمن مبادئ الحكم والحرب والسلم والاقتصاد وإقامة العدل فى كل ذلك.
والقول بعدم مشروعية حاكم أو نظام لا يعنى الثورة الفورية عليه، فالثورة (أو الخروج) هى مجرد مسألة قدرة وحسابات سياسية وعسكرية. فى الأغلب الأعم تكون هناك مسافة زمنية تطول أو تقصر بين الإعلان عن عدم مشروعية الحكم وبين لحظة الخروج عليه. بل إن الخروج لن يتم أصلا بدون هذا التمهيد الشرعى. ولذلك تعلمنا من الطغاة – الذين يعرفون جيدا مصالحهم الدنيوية وكيف يحافظون عليها – حساسيتهم الشديدة من الرأى والفكر. ورأينا عبر التاريخ كيف قتل الطغاة الملايين من أصحاب الفكر والعقائد الذين لم يحملوا سلاحا ولم ينظموا انتفاضات مسلحة. وكان انزعاج أئمة الكفر فى قريش من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يقوض مشروعيتهم، لأنه لم يدع فى البـداية للخـروج (الثـورة) عليهم، فقد فهموا جيدا أن تقويض مشروعيتهم هو بداية الطريق للخروج عليهم وتقويض سلطتهم الفعلية. لم تكن ثورة غضبهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بسب شعائر مختلفة، ولكن لأنه (سفه أحلامنا وسب آلهتنا) ولو توقف عن ذلك لأعطــوه الملك والجـاه والمـال و(لعبـدوا إلهـه يومـا وآلهتهم يوما), كانت كل الحلول الوسط مطروحة, المهم هو التوقف عن تقويض المشروعيــة لأن هذه هى بدايــة النهايـة. وعندما رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم كان التهديد بالمنازلة حتى يهلك أحد الفريقين.
إذن هناك مسافة ضروريـة بين الإعلان عن عدم المشروعية، وبين التقويض الفعلى للنظام غير المشروع. وأصحاب الدعوة من الأنبياء والمرسلين وورثتهم وأتباعهم يعلنون ذلك ولا يخفون، لأنهم يستهدفون بذلك عبادة الله، وهداية أبناء المجتمع.
لقد أعلنت الحركة الإسلامية فى إيران عدم مشروعية نظام الشاه فى الأربعينيات من القرن العشرين، ثم خرجت عليه فى 1965 وفشلت ثم خرجت عليه فى 78 – 1979 وأطاحت به، ولولا تدمير الأسس الشرعية للنظام على مدار عدة عقود ما تمكنت الثورة من النجاح.
وهذه سنن فى شتى المجتمعات البشرية لا تقتصر على المجتمعات الإسلامية, ولا على إقامة الدولة الإسلامية. فالإعلان عن عدم مشروعية النظام الاقطاعى فى أوروبا كان مرحلة ضرورية للإطاحة به، والإعلان عن عدم مشروعية النظام الشيوعى كانت بداية تقويضه.. إلخ, وكل حركات المعارضة التى تملك مشروعا بديلا لنظام شائخ لابد أن تمر بهذه المراحل. ولكن عندما يفعل ذلك المؤمنون بهدف إعـلاء كلمة الله، فان عملهم يكون عبادة. ولكن ما المقصود بالإعلان؟ المقصود إصـدار فتـوى شرعية من العلماء والفقهاء وأهل الحل والعقد عموما، ثم يتابعون ذلك بالشرح والتفصيل والتحريض لعامة المؤمنين.
وسنأتى لما ورد فــى الفقه الإسلامى تفصيلا بإذن الله، ولكننا نضع القاعدة من البداية، أن النص القرآنى ينفى أى احتياج للاجتهاد، كذلك فإن الاحتكام لكتاب الله هو جوهر العقيدة، فإذا منع الحاكم هذا الاحتكام، فهل يجوز أن ينشغل المؤمنون بقضية أخرى أهم من ذلك؟! أم ينكمشون ويطالب العلماء جمهور المؤمنين بالاكتفاء بالشعائر حتى يهلك الله الظالمين بالظالمين ونخرج من بينهم سالمين. إن الجهاد من أجل إقامة الدين على طريق بلال وسمية جزء لا يتجزأ من العقيدة بل هو ذروة الإيمان فكيف يمكن لجيل أن يتخلى عن ذلك بدعوى عدم القدرة!! وإغفال مسألة التوكل على الله، وأن القدرة الإلهيـة توفر أسبـاب النصـر مهما اختلت الموازين المادية، متى أخذ المؤمنون بأسباب النصر.
فى كثير من الأحيان يكون من الصعب أن تدرك المغزى الأعمق لآية من القرآن الكريم دون أن تربطها بما قبلها أو بعدها مباشرة من الآيات. فقد يتصور البعض أن حديثنا قد جاء مبالغا فيه وأنه حمل الآية أكثر مما تحتمل بأمور سياسية: )لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ(. ولنفى ذلك أنظر إلى الآية التالية مباشرة: )أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ( (البقرة: 214).
إذن ها نحن فـى قلب السياسـة دون أى لبس، إنه الابتلاء والصراع المرير من أجل النصر.. الذى يدفع حتى الرسل أنفسهم والمؤمنين للتساؤل واستعجال النصر.. فيكون جواب الله سبحانه وتعالى: )أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ(، وهذه المعانى جاءت عامة تشمل الصراعات ذات الطابع السلمى السياسى أو العسكرى.
المهم أن هذه الآية تشير بوضوح إلى أن دخول الجنة (وهو علامة صحة العقيدة) مرتبـط بالاندفاع فـى هـذه المنازلة الصعبة، وأن ابتغاء النصر هدف مشروع بل وضرورى للمؤمنـين، وأنهم لا يستعذبون الآلام فى سبيل الله دون تمنى النصر، بل إن الفطرة تجعلهم يحبون النصر ويرجونه، وحب النصر للمؤمن أكثر إلحاحا وأعلى رفعة من طالب النصر الدنيوى، لأن سعادة المـؤمن بالنصـر أنه كان أداة إعلاء كلمة الله، وأنه شاهد بعينه انتصار الرسـالة، وهذا يثبت إيمانـه وإيمان إخوانه، وأن: )وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ( (يونس: 55)، يفرح بأن رسـالة السماء وجـدت صـداها وانعكاسها على الأرض, وأنه كان وسيلة تحقيق ذلك، لذلك فإن النصـر عند المـؤمـن هو لحظـة ذل وخضوع لله وتواضع للناس، وليست لحظة تجبر وتكبر وانتقام وثأر وخيلاء. لذلك ترى هذه المفارقة (بالمعنى الدنيوى) فى سورة النصر.. أى أن لحظة النصر الكاسح والفتح ودخول الناس فى دين الله أفواجا هى اللحظة المناسبة لـ: )فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً(.. النصر عبادة، لأنه انتصار لدين الله، ولا يجوز لمسلم أن يفتخر بأنه لا يسعى إليه.
إذن جاءت الآية تأصيلا للجهاد فى أعقاب آية تشير إلى مرجعية الكتاب. فكيف “يفتى” أحد بالصمت على عدم مشروعية نظام لا يحتكم إلى الكتاب؟


النهى عن الفرار من الموت

)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ( (البقرة: 243)
وتشــير هــذه الآيـة إلى أن إقامـة الـدين والمجتمع المسـلم والدفاع عنه ليست نزهة، وليست رياضة روحية لطيفة بلا أعباء أو تكاليف أو تضحيات جسام, وعلى رأسها المصيبة الكبرى والأولى للإنسان: الموت. حتى لقد وصف الشيخ محمد أبو زهرة الجهاد بأنه (فى أدق معناه هـو تعـرض النفس للتلـف ليبقـى المجمـوع فهــو إيثــار بالنفــس وبذل للمهـج والأرواح).(10)
وعليه فإن التصدى للدعوة الإسلامية دون الاستعداد لهذا البذل وتلك التضحية يكون معوجا ومخرجا لصحيح الدين عن سياقه. ولا يوجد على المسلمين أوجب من الجهاد لإعادة تجديد وإحياء الدولة الإسلامية، وهذه الدولة الإسلامية لن تكون بـدون بذل النفس والنفيس، العرق والدم، والحياة نفسها.
إن الذين يفرون من واجب الجهاد من أجل إقامة الدولة الإسلامية بكثـرة الحديث عن عواقـب القمع والاضطهاد والسجون من أعداء الله هم أشبه بهؤلاء القوم (الذين لم يحددهم القرآن الكريم لتأكيد وإبراز جوهر الناموس الاجتماعى الحاكم) الذين فروا من ديارهم رغم كثرتهم (ألوف) هربا من الموت، فكانت النتيجة أن لقوا الذى يفرون منه بالتحديد، وهو الموت، ولكنه موت الخزى والعار لا موت العز والفخار. ورغم أن المفسرين القدامى والمعاصرين اختلفوا حـول معنى “الموت” و”الإحياء” هل كان حسيا كمعجزة، أم فــى صـورة معنوية بمعنى سنة موت وحياة الأمم، ولكن يبقى فى الحالين أن العبرة واحدة: “أنه لن يغنى حذر من قدر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه, فإن هؤلاء خرجوا فرارا من الموت طلبا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعا فى آن واحد”.(11)
لقد ابتلانا الله فى هذه الحياة الدنيا، وأمرنا بالجهاد لإعلاء كلمته، وأن الفرار من الجهاد خوفا من الموت أو ما هو أدنى منه: تعذيب – تضييق – سجون، هو مخالفة لسنن الله وأوامره للمؤمنين.
لماذا إذن لا نجاهد حكاما رفضوا الاحتكام لكتاب الله وسنة نبيه؟ حتى الموت فى بلادنا فى الظروف الراهنة ليس هو الخطر الوشيك الذى يتهددنا, فبعد إعدام الشهيد سيد قطب، أى منذ حوالى 40 عاما لم يعدم إنسان لأنه عارض الحكام بالكلمة وبوسائل سلمية، أما الإعدامات وعمليات القتل غير الشرعية الموجهة للجماعات الإسلامية فكانت فى إطار حرب معلنة استخدمت فيها الوسائل المسلحة من الطرفين (وليس الآن مجال تقييمها).
المهم ان الدعـوة لإقامة دولة إسـلامية ورفض الحكم الحالى والسعى إلى تغييره بالوسائل السلمية لا يؤدى إلى الموت وفقا للحسابات العقلية، ومع ذلك نجد أكثر الناس، وحتى العاملين فـى الحقل العـام، يخشـون من هذه المواجهة الشرعية، فما بالنا وأن الموت يجب ألا يثنينا عن هذا الهدف الربانى، حيث العمل من أجله هو مبرر وجود جماعة المؤمنين. بل ان سيد قطب رحمة الله عليه هو أكثرنا حياة رغم إعدامه، وما قدمه من تثقيف لأجيال متواصلة من بعده أكثر مما قدمه كثير ممن يظنون أنهم أحياء. وأى شهيد وإن لم يمتلك قدرات سيد قطب الفقهية والعقلية وإمكانيات البيان، هو أكثر حياة من أموات يسيرون على الأرض، بما قدمه من نموذج ومثال، وبما عبده من طريق التحرير، وبما برهن به على صدق الإيمان لينير الطريق لمن بعده وهم فوق كل ذلك: )أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ( (آل عمران: 169)، فإذا نحن لم نكن على استعداد دوما للموت فى سبيل الله فبئس إيماننا الذى نزعم. ونحن الآن لسنا ألوفا بل ملايين, ولكننا ندعى عدم القدرة على الانتصار لكلمة الله، مع أن الله هو المتكفل بالنصر، إذا نحن أخذنا بالأسباب، وأهم الأسباب المهدرة الآن هو عدم الصدع بالحق والجهر به على رؤوس الأشهاد لأننا لسنا فى زمن الدعوة السرية.
والإيمان بالقضاء والقدر ركن ركين من العقيدة (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره),(12) وإن كنا فى أمس الاحتياج إليه فى حياتنا وابتلاءاتنا الشخصية فنحن أحوج إليه فى جهادنا فى سبيل الله. ولنتذكر بالإضافة لذلك قول الله عز وجل: )الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( (آل عمران: 168).
)وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً{77} أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ( (النساء: 77 – 78).
أما الآن فإننا نسمع عن دعاة يقولون لا نخوض فى السياسة حتى لا نحرم من المنبر أو الحلقة أو الدرس فى المسجد، أو حتى لا نحـرم مــن برنامج تلفـزيونى، أو مقال فى صحيفة. ونسمع من يخشى مواجهة الطواغيت بجرائمهم، ويخشى السعى لتعبئة الناس ضد سياستهم غير الشرعية، بل يسعون إلـى المصالحة مع الحـكام لإعطـاء مزيد من الفسحة لـ “الدعوة” وخشية على التنظيم أو الحزب.
ولكن عدم الخوض فى السياسة يعنى نشر دعوة منقوصة، يعنى عدم بسط الإسلام كما هو، كما جاء فى القرآن والسنة، ويعنى التخلى عن فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وهى أهم خاصية من خصائص الأمة الإسلامية.
والقرآن الكريم هنا صريح يتحدث عن الخوف من الموت، حتى وإن كان هذا الخطر حقيقيا، ويدعوننا لعدم إقامة حساباتنا على أساس هـذا الخـوف, فمـا بالنا بالاعتقـالات والتضييق وابتلاءات أقل من الموت.


)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ( (البقرة: 247).
وتشير قصـــة طالوت إلى دروس ونواميس شتى فى قضــية الحكم فى الإسلام, وكل ما نستنبطه من القرآن الكريم يصبح ملزما بصورة مطلقة, ويجب أن يكون مرشـدا فى حياتنا، وما القصـص القرآنـى إلا إحدى وسـائل عرض المبـادئ والقواعـد والقوانين ووصفه الله سبحانه وتعالى بأنه: ) َتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ( (يوسف: 111).
ولا تقتصر عبر قصة طالوت على الصراع الحربى بل إن كل القوانين المستنبطة منها تنطبق على شتى أنواع الجهاد, بالإضافة إلى أن قصـة طالـوت مرتبطـة بقضـية السـلطـة السياسـية، واستعادة المؤمنين للسلطة التى نزعت منهم مع تشريدهم من ديارهم من قبل طواغيت ذلك العصر.
وحول قضية السلطة السياسية يمكن أن نشير إلى النقاط التالية:
(1) أن الدين هو أساس العزة لمن غلبت عليهم الشقوة. فبعد فترة من ضياع بنى إسرائيل بعد موسى نتيجة بعدهم عن الدين عاودتهم الصحوة وأدركوا أن العزة تكون بالعودة إلى الدين: )إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ( (البقرة: 246).
(2) إنه من السنن أنه لا سلطان بغير إمرة يعمل تحت سلطانها الجميع.
(3) أن الأمير يجب أن يكون له من قوة العقل وقوة الجسم وسعة العلم وكمال التجربة ما يقود به الشعب إلى صالح الأمور.(13)
الملكية والنظام الملكى:
والأصل فى النظام الملكى أنه لكى يكون الملك ملكا وتنصاع له بقية الجماعة وتطيع أوامره أن يكون أكفأ وأقدر من فى الجماعة كلها على الحرب والقتال, بحيث لا يقوى أحد على منازلته فضلا عن التغلب عليه, وإلا فإن هذا الغالب يصبح هو الملك، أى أن فكرة الوراثة “التى أصبحت من سمات الملكية ” بـدعة علـى النظـام الملـكى وهـذا ما توضحه هذه الآية الكريمة.(14)
هذه زاوية بالغة الأهمية أبرزها تفسير أحمد حسين، وهى رؤية أكدها التاريخ فى مختلف العهود والعصور والأمصار, فمن السنن الاجتماعية أن يحكم الأصلح أو واحد على الأقل من أفضل الصالحين، فإذا تصورت أسرة أن تظل تحكم بالوراثة بغض النظر عن فكرة الأهلية فإن القوة كانت هى الوسيلة الشائعة لإزاحة الحكام وإزاحة الأسر الحاكمة. أى أن ما لا يتحقق بالتراضى والقبول العام أو البيعة أو ما نسميه الآن الانتخاب، يتحقق بالثورات والتصفيات الجسدية والتمردات العسكرية والاغتيالات، لذلك نجد فى كثير من صفحات التاريخ حكاما حكموا لأيام أو أسابيع أو شهور أو سنين قليلة.
أما استطالة حكم الملوك والحكام الفاسدين والفاشلين فهى عادة ما تكون من مـراحل التحلل الحضـارى الشـامل فى المجتمع، ومن أبرز مظاهرها عدم بروز قوى بديلة تصارع من أجل الإصلاح والتغيير، وهى مرحلة من التعفن الاجتماعى بسبب تراجع فكرة التدافع: )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (البقرة: 251).


شروط الحكم

ويشير القرطبى إلـى أن هذه الآية تضمنت بيان صفة الإمام وأحوال الإمامة, وأنها مستحقة بالعلم والدين والقوة لا بالنسب، فلاحظ للنسب فيها مع العلم وفضائل النفس وأنها متقدمة عليـه لأن الله تعالى أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منتسبا.(15)
وفى تفسير البيضاوى (بأن الشروط فيه ونور العلم ليتمكن من معرفة الأمور السياسية. وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا فى القلــوب، وأقــوى على مقاومة العدو ومكابدة الحروب).(16)
إذن نجد فى هذه الآية تأكيدا على المعنى المشار إليه فى الآية السابقة: )لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( برفض فكرة النسب وصلة الدم لتوارث الحكم، وأن الأساس هو العدالة. ثم نجد هنا شرطين إضافيين:

(1) شرط العلم: وهذا الشرط جاء عاما بحيث يشمل العلم الشرعى: العقيدة والدين، والإدراك السياسى وفهم الواقع، وبالتالى فإن الحاكم إذا لم يكن أحكم الناس وأكثرهم رجاحة فى العقل, وهذا ما يصعب الاتفاق عليه بعد انقطاع النبوة (وفـى هذه القصة فإن النبى هو الذى حدد لهم الملك على أساس الوحـى, وهــذا لم يعد قائمـــا الآن، بل الشــورى والبيعة)، نقول وإن كان من الصعب أن يجمع الناس على أن شخصا معينا هو الأفضل والأصلح لتولى الحكم، فإن الأساس أن يتم الاختيار بين أكثـر الناس علمـا وثـقافـة ودرايـة بالـدين والسياسة معا، مع تحرى الأفضل قدر الإمكان. وبالتالى فإن تولى الجاهل أو التافه أو الرويبضة (أى الرجل التافه الحقير) لمقاليد حكم مجتمع، خرق لتعاليم القرآن الكريم، وهو فى ذات الوقت وعلى نحو متطابق، خرق للسنن الاجتماعية، التى وضعها الله سبحانه وتعالى لإعمار الأرض، وهى أشبه بالقوانين الطبيعية يمكن أن تصل إليها إذا استخدمت عقلك استـخداما سليما، وحيث لا يوجــد أى تعـارض بين العقــل والنقل، بل نجـد تطابقا بينهمــا. ولذلك فإن الأمـم الغربية والشرقية سبقتنا لأنها كانت الأقرب للأخذ بهذه السنن مننا نحن المسلمين، فلم تترك على سدة الحكم أكثر أفرادها جهالة أو حماقة أو تفاهة. والمسألة لا تتوقف على تقييم شخص الحاكم رغم أهميته القصوى كما أكدت وقائع التاريخ والسياسة المعاصرة، وإنما المستوى الفكرى والثقافى العام للطبقة الحاكمة. وبالتأكيد فإن الحاكم الجاهل سيحرص أن يحيط نفسه بالجاهلين أو الأكثر جهلا منه، والحاكم اللبيب سيستعين بأكثر الناس نجابة إدراكا منه لضرورة ذلك لرفع مستوى الأداء، كما أن تمتع الحاكم بقدر معقول من العلم لا يجعله مصابا بعقدة نقص من العلم والعلماء، بل يدرك أن أحـدا لا يحتكر العلـم: )وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ( وأن العلمـاء والمفكرين يكمل بعضهم بعضا.
وقد أصبح من معايير الرئاسة الأمريكية على سبيل المثال أن تكون من خريجى جامعات رفيعة المستوى الأكاديمى مثل (هارفارد أو ييل) وأن تكون ذى عقلية فذة وأفق متسع من شروط القيادة فى الصين، وقد رأينا كيف تقدمت ماليزيا الإسلامية لأنه حكمتها طبقة سياسـية من أمثـال محاضير محمـد، ونرى المسـتوى الثقافى الرفيع لحكام بلاد مثل إيران والسودان، أما فى بلدان التبعية والانهيار والإمعان فى البعد عن كتـاب الله نجد حكاما أميين بالمعنـى الحرفى والمجازى، وإذا خرجوا عن النص المكتوب لهم قالوا كلاما فارغا لا يقال حتى على المقاهى. وهؤلاء جهلاء فى الثقافة الإسلامية، ضعفاء فى الثقافة العامة والسياسية، يحفظون جملا قصيرة يرددونها فى المؤتمرات الصحفية، وإذا دخلوا فى حوار طويل نسبيا انكشفت عوراتهم. ولولا وجود بعض المؤسسات المعاونة الأكثر رشدا منهم لانهار حكمهم فى ثوان.
يبقى أن اختيار الأقل كفاءة لإدارة البلاد، معناه الانحطاط بالأداء العام للمجتمع، على مستوى الدين والدنيا معا، وأن إشارة القرآن الكريم إلى “العلم” دون تحديد جعل اللفظ – كما ذكرنا – ينطبق على العلم الشرعى والدنيوى, وهو ما ذكره الماوردى عندما حدد مهمة الحاكم (حراسة الدين وسياسة الدنيا). فإن حراسـة الـدين لا تتأتى دون حـد أدنى من الورع والتقوى ودون حد أدنى من العلم الشرعى، وسياسة الدنيا لا تتأتى دون معرفة وخبرة وثقافة فى عالم السياسة والاقتصاد والثقافة العامة. وهكذا نجد كيف استند فقهنا العظيم لأصول العقيدة وأحكامها فى القرآن والسنة.
كذلك فـإن المتابعة المتأنيـة لشئون الحكم والاقتصــاد والاجتماع، توضح لنا أن المسئول الأول عن الموقع التنفيذى أو الاقتصادى (شركة) أو الحكم المحلى.. إلخ, يكون له أكبر الأثر فى صلاح أو فساد المؤسسة التى يرأسها ويشرف عليها. فالمسئول الأول بما له من سلطات وصلاحيات، وبما يمثله من قدوة يصلح أو يخرب الموقع الذى يترأسه. بل إن هذه السنة تتواصل حتى الخلية الأولى للمجتمع (الأسرة) فعلى الأغلب الأعم تصلح الأسرة إذا صلح ربها وتفسد إذا فسد، واحتمالات صلاح الأسـرة أكبر إذا صلحــت القيـادة المشــتركة للأب والأم وهكذا. إذا كان الأمر بديهيا بهذا الشكل فكيف يمكن على مستوى المجتمع بأسره، أن يترك المسلمون رأس الدولة لشخص متواضع الإيمان والعقل والثقافة. وهو الأمر الذى نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام كما سنوضح فيما بعد.
(2) شرط سلامة الجسد: وتشير الآية الكريمة ليس إلى ما زاده الله من بسطة فى العلم بل أيضا فى الجسم، وهذا يشير إلى ركنين مهمين:
(أ) سلامة الحالة الصحية والجسدية للحاكم.
(ب) أهمية صلابة البنيان الجسدى بشكل خاص للحاكم الذى سيتولى القيادة الحربية، للأسباب التى أشار إليها المفسرون, أى ليقوى على أداء مهمته, وليكون قــدوة لجنوده، ورهبة فى عيون الأعداء.
وقد أجمع الفقهاء فيما بعد على ضرورة سلامة حواس الحاكم وبالأخص البصر والسمع. واختلفوا حول ضرورة سلامة سائر الأعضاء. وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام قوى البنيان ومحاربا، وكذلك كان حال الحكام المسلمين الأوائل, وفى كل فترات الازدهار الإسلامى والفتوحات الإسلامية. بل لقد انطبقت هذه الشروط: (قوة العلم والجسم) على حكام الولايات.
والأمة الإسلامية أمة مجاهدة, وهى مهددة باستمرار من الأعداء, ولابد أن تكون على أهبة الاستعداد للغزو ردا على مكائد الأعداء، وكذلك حماية الثغور وتطهير البلاد الإسلامية من أى قوة احتلال. ولذلك فإنه فى الأغلب الأعم سيكون الأكثر تأهيلا ومناسبة للحكم هو الذى زاده الله بسطة فـى العلـم والجسـم, وهـذا هــو المزيج المثـالى المفضل إن وجد. ويجب عدم التقليل من بعد سلامة الصحة بسبب أساليب الحـرب الحـديثة، فستظل الحـروب تعتـمد على قوة الإرادة ومواصلة الليل بالنهار، والحفاظ على القدرة على التركيز، بالإضافة للجهد البدنى الذى لن يتوقف أبدا فى العصور الحديثة. وهذا الذى دعا إليه القرآن الكريم هو سنة من سنن المجتمعات البشرية جمعاء. فسلامة صحة الحاكم وقوة بنيانه من أهم علامات شرعية حكمه بعد (العلم)، فبعد العلم تكون القدرة على العمل والتنفيذ وحالة الانتباه واليقظة التى لا تتأتى إلا لصاحب الجسم السليم. وكثيرا ما حاول الحكام إثبات قوة صحتهم عند تعرضهم لأزمات سياسية فكان ماوتسى تونج الزعيم الصينى يسبح فى النهر لمسافات طويلة وتصوره وسائل الإعلام، وبعده فعلها صدام حسين. واليوم فإن خصوم المرشح الديمقراطى للرئاسة الأمريكية يهاجمونه من زاوية اعتلال صحته وأنه أجريت له عملية استئصال سرطانية منذ عام. وفى المقابل فإن الحكام الذين يرغبون فى إطالة أمد حكمهم يخفون – قدر الإمكان – التقارير الحقيقية عن اعتلال صحتهم، فقد أخفى الرئيس الفرنسى ميتران أصابته بالسرطان حتى نهاية مدة رئاسته، وأخفى كثير من زعماء الشيوعية التقارير عن حالتهم الصحية، ويخفى حاكم مصر الحالى الأوضاع الحقيقية لصحته. كما أخفى من قبل الملك الحسن (المغرب) إصابته بالسرطان. وهكذا فإن الحالة الصحية الدقيقـة للحاكم تعد من الأسرار الخطيرة للدولـة، وتزداد المسألة شراسة فى النظم الاستبدادية، وهذا ما يؤدى إلى حالة غير شرعية، باستمرار حاكم غير مؤهل صحيا لأداء واجباته، وهذا يقود إلى قيام أشخاص غير معروفين بإدارة الدولة، قد تكـون الزوجة أو الأولاد, أو حتى السكرتير الشخصى، أو الأجهزة الأمنية, أو خليط من كل ذلك، وهكذا لا تستقيم الأمور، ولا يمكن محاسبة الحاكم بصورة دستورية سليمـة على تصرفاتـه وقراراتـه التى لم يعـد متحكما فيها، ويؤدى تدهـــور الحالة الصـــحية للحاكم إلى تــدهور حالتـه النفسية والعقلية، وتنكمش علاقاته المباشرة بالمجتمع، وتنحصر صلته بالعالم الخارجى فى تقارير محدودة، أى تؤدى حالته الصحية المتدهورة إلى خلق غلاف كثيف بينه وبين العالم الخارجى، ويصبح غير مؤهل لاتخاذ القرارات السليمة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى سن الأربعين باعتباره يمثل ذروة وكمال القوة النفسية والعقلية والبدنية فى حياة الإنسان: )حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً( (الأحقاف: 15).
وقد كان هذا هو عمر الرسول عليه الصلاة والسلام حين بُعث رسولا. ومن المثير للسخرية أن متوسط عمر الحاكم فى البلاد غير الإسلامية فى الشرق والغرب أقرب إلى هذه السنة الإلهية (من 40 حتى 60 عاما)، أما فى بلادنا فالحكام يتجاوزون الخامسـة والسـبعين, وأحيانـا يتجاوزون الثمـانين ويبقون فى مناصبهم حتى الموت!! وكذلك كان الحال فى معظم النظم الشيوعية التى سقطت.
علاقة الصحة والقوة البدنية بصلاحية الحاكم موضوع مليىء بالدروس التاريخية، ولكننا نكتفى بهذه الإشارة العامة، لنؤكد أن حاكما طاعنا فى السن، معتل الصحة، يكون قد فقد أحد أركان أهليته وصلاحيته للحكم، والتقدم فى السن (إلا من رحم ربى) يعنى الإصابة بأمراض الشيخوخة وأهمها ضعف الذاكـرة، وتناقص القــدرة علـى العطاء، وضعف التركيز، والتوقف عن التجديد والإبداع حيث يبدأ العد العكسى، لأن الإنسان يتجه فى هذه الحالة إلى مرحلة الطفولة من جديد: )لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً( (النحل: 70)، وبالتالى من هبط من الذروة فى طريق العودة إلى الطفولة لا يمكن أن يصبح مسئولا عن بلاد وشعب ومجتمع!!
وهناك استثناءات لذلك تؤكد القاعدة، ومن أبرز الأمثلة المعاصرة عليها حالة الخمينى قائد الثورة الإيرانية الذى حافظ على توهجه الفكرى والثورى وقدرته على قيادة الدولة بعد السبعين وحتى وفاته وهو فى قرابة الثمانين، ولم يعان من الإنهيار الصحى إلا فى الشهور القليلة السابقة على وفاته. مع ملاحظة أنه لم يتول الإدارة التنفيذية اليومية للدولة أبدا, حيث ظل فى موقع المرشد العام, وترك الإدارة لرئيس الجمهورية ومجلس الوزراء وباقى الأجهزة التنفيذية.
نقول هذا من الاستثناءات القليلة التى لا يقاس عليها. أما فى بلاد العرب والمسلمين فقد وصل الأمر إلى أن الحاكم يفقد القدرة على الكلام والسمع وحتى الفهم، أى يتعطل عقله نهائيا، بينما يستمر ملكا، لأن الصراع على السلطة اقتضى ذلك الوضع المريب وغير الشرعى.
ومن الحكام من لا يتمكن إلا من العمل لساعات محدودة ينفقهـا فـى الظهـور التلفـزيـونى ليؤكـد أنه فـى تمام الصحـة والعافية. وهكذا تنقلب الأمور ويتحول إخفاء الحالة الصحية للحاكم إلى هدف رئيسى للدولة، بدلا من إنفاق الجهد والوقت فيما ينفع الناس.

على الأمة الإسلامية المستيقظة إلى قرآنها، أن تعود إليه بقوة, وأن تأخذه بقوة كما أمرنا الله سبحانه وتعالى: )يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ( (مريم: 12), )خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ( (البقرة: 63). والأخذ بالقوة، تعبير محكم جامع، يشير إلى أخـذه كله وليس جـزءا دون جزء، وبجـد وجدية واجتهاد وإخلاص وتفانى فى الالتزام والتنفيذ.
لقد تعودت الأمة على التدقيق فى الشعائر, ولكنها لم تعد بعد إلى التدقيق فى كل هذه الآيات التى تضع لنا علامات الحكم الصالح، وكيف يجب أن ندعو إليها، وكيف يجب أن نجاهد الحاكم الذى لا يأخذ بهذه العلامات أو يكون بالأساس غير مؤهل وغير صالح لها. فإذا لم تكن شروط الحاكم تنطبق عليه بالحد الأدنى فيتعين خلعه أو السعى والجهاد من أجل ذلك، والشروط التى خلصنا بها من هذه الآيات:


(1) العدالة.
(2) العلم.
(3) السلامة الصحية والجسدية.


)فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(
(البقرة:251).
تصور لنا هــذه الآية نهاية قصـة الصراع بين معسكر الحق ومعسكر الباطل والتى انتهت بفوز أهل الحق، والفوز الحقيقى يرتبط بإقامة الملك الصالح، أى الحكم الصالح، أى ما نسميه الآن “الدولة الإسلامية” إذن فالهدف من التدافع هو إصلاح الدنيا وإقامة الحكم العادل الذى يتحول الجهاد من أجله إلى جزء لا يتجزأ من العقيدة، من الإيمان بالله.
وقصة طالوت وجالوت تحتوى على أهم سنن التغيير الاجتماعى, ويهمنا أن نشير بالإضافة لما ذكرناه من قبل:
1- أن الابتلاء هو سنة التغيير, وأنه لا يمكن تحقيق النصر بدون تضحيات واختبارات وعطاء، وأن هذا الابتلاء يتكرر فى مختلف مراحل الجهاد, وليس فى مرحلة معينة فحسب. وأن القائد الحكيم يتعين عليه أن يختبر جنوده باختبارات عدة قبل ساعة المنازلة الكبرى ليفرز مستوياتهم واسـتعدادهم للتضحية. (موضوع عدم الشرب من ماء النهر إلا من اغترف غرفة بيده).
2- أن أهم هـذه الابتلاءات هو عـدم التوازن فى العدد والعدة بين أهل الحق، وأهل الباطل، وهذه مشكلة أزلية، إذ كثيرا ما تتخلى الحركات الإسلامية عن المواقف الشجاعة أو المواجهة بحجة عدم توازن القوى مع الحكومة, وهو أمر كما نرى يتعارض بصراحة ووضوح مع النص القرآنى, بل إن الآيات تشير إلى أن هذه هى السنة بشكل عام: )كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( (البقرة: 249)، وما ينطبق على العمل الحربى ينطبق على العمل السياسى السلمى كما ورد فى القرآن الكريم فى قصص الأنبياء, وكما رأينا فى مسيرة التاريخ البشرية.
إن الأخذ بالأسباب لا يعنى امتلاك وسائل قوة مكافئة للعدو بالضرورة، لأن الباطل عندما يكون مسيطرا فإنه لا يسمح لأهل الحق أن يكونوا قواهم بصورة كافية، كما أن سطوة الباطل قامت فى الأصل على أساس سحق أهل الحق وتهميشهم وطردهم من ديارهم.
إن الأخـذ بالأسباب فى هذه القصة يمكن أن ينحصر فى الآتى:
• العقيـدة الصحيحـة والاستعـداد المخلص للموت فى سبيل الله، وهذه أهم عدة للنصر.
• الجهاد بالمال )مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً( (البقرة: 245), إذن لابد من تمويل المجاهدين وتجهيز الجيوش.
• توفير القيادة الصالحة, وقد أشرنا إلى شروطها, وهو ما يعنى أنها ستقوم بأقصى استعداد ممكن, ولكن ليس بالضرورة إلى درجة التساوى فى القوة المادية مع العدو.
• تدريب جيش المجاهدين ووضعه فى اختبارات عدة.
• الصبر والثبات عند المواجهة مع مواصلة الدعاء إلى الله.
إن تركيز بعض الحركات الإسلامية على عدم التساوى فى القوة المادية مع العدو كتكئة لعدم الإقدام على المواجهة فيه مخالفة صريحة للنص القرآنى، وهو يصيب الحركات الإسلامية بمرض بعض الأحزاب العلمانية أو المادية, التى تحصر موازين القوى فى مسألة العدد والعدة، وتغفل السبب الجوهرى للنصر وهو توفيق الله: )وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(، ودعاء المجاهدين لله بالنصر: )رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ( (البقرة: 250), )فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ( (البقرة: 251).
3- ان مهمة فريق المؤمنين فى كل جيل وعصر وأوان, أن يجاهـدوا فى سـبيل إعـلاء كلمة الله وإقامة الحكم العادل. وأن هذا السعى جزء لا يتجزأ من العقيدة الإيمانية بل الهدف الأسمى لها على الأرض باعتباره تكليفا إلهيا.
وفى قصتنا نجد أن داود هو الذى قتل جالوت, وهو الذى أتاه الله الملك، ولم يذكر لنا القرآن سبب هذا الاستبدال ولماذا انتهى دور طالوت بانتهاء المعارك الحربية، المهم أن معسكر المؤمنين قد انتصر، بل إننا نرى الحكمة الإلهية واضحة فى أن النبى المرسل أصبح هو الحاكم السياسى، وليس طالوت الذى لم يكن نبيا، وهو تأكيد على الدمج بين الدين والسياسة، بين النبى وقيادة الدولة.


)وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ( (البقرة: 251).
هنا نجد الربط المحكم بين المُلك والنبوة، بين العلم الشرعى (الحكمة) والعلم الدنيوى: )وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ( فالحكمة فسرت على أنها النبـوة أو الزبـور: )وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً( (النساء: 163)، والعلم الدنيوى هو ما نسميه الآن العلوم الطبيعية: )وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ( (الأنبياء: 80),(17) أى صنعة الدروع وهذا على سبيل المثال.
وإذا كنا الآن وحتى يوم الدين نعيش فى عهد انقطاع النبوة, إلا أن هذه القوانين لا تزال سارية، أى عدم جواز الفصل بين الـدين والسياسة، بين العلوم الشرعية والعلوم الطبيعية. إن العلماء ورثة الأنبياء, وهم الأحق برئاسة المجتمعات, ولكن وفقا لهذه الشروط القرآنية، فالمسألة ليست مجرد شهادات من معاهد أو زى معين، وإنما التبحر فى علوم الله اللدنية والدنيوية والتجرد لله سبحانه وتعالى فى الأخذ بهذا العلم والالتزام به وبتطبيقه، وأن “الحكمة” تعنى – أول ما تعنى – هذا الإيمان العميق الصادق بالله، وبيع النفس لله، فالمسألة ليست مجرد معلومات، أو محفوظات, كما نرى أمثلة أمامنا من وعاظ السلاطين أو دارسين للعلوم الشرعية لا يفقهون حديثا فى أحوال الدنيـا وعلومها, ولا يعلمـون عنها إلا اليسـير، ولكنهم يفتون بكل جرأة إذا طلب منهم السلطان أو طلب منهم العامة, ولا يعرفون كلمة (لا أدرى).
وسنجد فى العصر الراهن أن الحركات الإسلامية التى حققت نجاحات أكبر من غيرها هى التى التزمت بهذه القوانين القرآنية. ولا نقصد بالنجاح مجرد الكثرة والانتشار، بل التقدم على طريق التمكين لدين الله, أى إقامة الحكم العادل الصالح. أما الأنظمة الحاكمة الفاسدة فى أغلب الدول الإسلامية فهى بعيدة عن هذه القوانين بعد الثرى عن الثريا.
4- التخلص من رأس الفتنة: وتشير الآية إلى سنة اجتماعية بالغة الأهمية، وهى ارتباط هزيمة معسكر الباطل بالتخلص من قائده. ذلك أن استهداف رأس السلطة بالقتل أو العزل (أى التخلص منه) مسألة ضرورية لحسم الصراع, ولكن فى إطار تقويض النظام ككل حتى لا تتلخص القضية فى شخص الحاكم، وهذا طبيعى لأن الحاكم تتحلق حوله فئات وطبقات مستفيدة، والصراع معه ليس مسألة شخصية، ولكن فى نفس الوقت فإن الحاكم ليس مجرد شخص ضمن النظام الحاكم، فهو رمز له وقائد ومحور لتجمع ذرات الباطل، فالتخلص منه أمر جوهرى, ولكن دون أن يقتصر التغيير على ذلك. ولذا نجد الآية الكريمة تضع فى المقدمة: )فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ( أى دحـر وكسر الهيكل الأساسى للنظام ثم: )وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ(.
وفى ذلك يقول الشيخ محمد أبو زهرة: “إن هذا التعبير السامى، بيان لسبب من أسباب الانتصار الدنيـوى بعد أن وهبهم الانتصار اللدنى ذلك أن طاغيتهم قد قتل، وهو الذى يفرض أهواءه وشهواته عليهم فيجعل منهم جندا طائعين له يسيرون مـع رغبتـه فـــى الســلطان والقـهر والغلب بالحق وبالباطل، وكذلك الشأن دائما فى أهل الباطل يجتمعون على رجل ويسيرون وراءه، فليست لهم إرادة غير إرادته، ولا روح جماعية تجعل لهم كيانا قائما بذاته، بل يكون الطاغية هو المسلط عليهم، يملى إرادته على أحدهم, ولا إرادة لأحد وراء إرادته، فإذا قتل ذلك الطاغية أو قضى على سلطانه تفرق الجمع”.(18)
ونخلص من ذلك أن التخلص من رأس النظام الفاسد جزء لا يتجزأ, بل وجزء أساسى وحاكم فى خطة الإصلاح.
ونرى أن كل هذه السنن لا تنطبق على أشكال الصراع الحربى فحسب, بل هى نواميس تحكم عملية التغيير بكل أشكالها كما سيتضح فى آيات القرآن الكريم القادمة بإذن الله. بل أن هذه الآية نفسها تنتهى بهذا التعميم الشامل الجامع المانع: )وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ( (البقرة: 251) فهذه البلاغة القرآنية فى استخدام كلمة “دفع” من “التدافع” جاءت بحيث لا يقتصر الأمر على الحرب دون أشكال الصراع السلمى. ولا يقتصر الأمر على مجرد الصراع بين معسكرى الحق والباطل، بل هو يتضمن كل أشكال التدافع بين الخير والشر داخل كل المجتمعات، بما فى ذلك المجتمعات الإسلامية.(19)
وفيما يتعلق بموضوعنا نفهم من هذا الشق من الآيـة الكريمة، أن الله سبحانه وتعالى يكلف المؤمنين بالجهاد من أجل إقامــة النظام الصالح ودفع المتكبرين الأشرار عن سدة إدارة المجتمعات وإلا فسدت الأرض، أى تعفنت وأسنت الحياة عليها. وقد جاءت الصياغة القرآنية فى شكل قانون اجتماعى, فى إشارة إلى حتمية عمل هذا القانون فى شتى المجتمعات.
إذن ليس من حق المؤمنين أن يتعايشوا مع أنظمـة الفســاد والاستبداد وموالاة أعداء الله والحكم بغير ما أنزل الله، بل عليهم أن يدفعوا هذا الشر حتى لا تفسـد الأرض، وبهذا أمرهم الله سبحانه وتعالى اختبرهم به.
إن عقيدة التوحيد لا تمارس داخل القلوب، أنها حقا تستقر فى القلوب, ولكن لابد أن يصدقها العمل، وإذا نحن لم نعلن راية التوحيد فما هــى بالضبط الأمانة التى نحملها كمؤمنين. والله سبحانه وتعالى يأمرنا بإقامة دولة العدل والإيمان فلا معقب لحكمه: )وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( (القصص: 68).


النظام الإسلامى وحرية الفكر

)لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{256} اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ((البقرة: 256 – 257).
وتكثف هاتان الآيتان الكريمتان مغـــزى وجـود الإنســان وحياته على الأرض, وهو المعنى الذى ما فتئت آيات القرآن تلح عليه وتدور حول محوره، وهو الخيار بين الإيمان بالله وحده أو الإيمان بالطاغوت، وأن الإنسان لديه الحرية والإرادة فى اتخاذ قراره وتحمل عواقبه.
وحول العلاقة المباشرة لهاتين الآيتين بموضوعنا: النظام السياسى نقول:
النظام السياسى لا يفرض بالقوة:
الدولة الإسلامية لا تقام ولا تدار بالحديد والنار، فالإسلام دين، والعقيـدة لا تفرض وإنما يقتنع الناس بها، واستخدام وسائل عنيفة لتغيير معتقدات الناس، وإكراههم على ذلك ينشئ أسوأ أنواع الأنظمة الاستبدادية، والله سبحانه وتعالى لم يطلب من المؤمنين ذلك، وهو فى غنى عن إدخال الناس فى عبادته قســرا: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ{55} وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ{56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ{57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ( (الذاريات:55 – 58).
ونرى بيان هذا الحال مبسوطا فى حديث قدسى بليغ: )يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى، لن تبلغوا نفعى فتنفعــونى. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنســكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسألونى فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المخيط (الإبرة) إذا أدخل البحر. يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم بها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه( (صحيح مسلم).
نحن إذن نعمل لصالحنا فى الدنيا والآخرة, عندما نأتمر بأوامر الله وننتهى عن نواهيه. ولم يأمر الله المؤمنين بفرض رسالة الإسلام على العالمين بالسيف أو الكرباج أو بأى شكل من أشكال الإكراه المادى أو المعنوى, وهذا بطبيعة الحال لا يتعارض مع فريضة الجهاد والتى شرعها الله لثلاثة مقاصد:
(1) الدفاع عن حق العقيدة.
(2) تقرير حق الدعوة.
(3) إقامة النظام السياسى الخاص بالمسلمين والدفاع عنه ضد المعتدين.
وما يخصنا الآن هو النقطة الأخيرة أى حق المسلمين فى إقامــة نظامهم السياسى الاجتماعى الحضارى الخاص بهم. والنظام الإسلامى لا يفرض فرضا بوسائل التعذيب والقمع التى زاولتها الدولة المسيحية الرومانية – مثلا – بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين فى المسيحية، بنفس الوحشية والقسوة التى زاولتها الدولة الرومانية من قبل ضد المسيحيين القلائل من رعاياها الذين اعتنقوا المسيحية اقتناعا وحبا! بل لم تقتصر وسائل القمع والقهر على الذين لم يدخلوا فى المسيحية, بل ظلت تتناول فى ضراوة المسيحيين أنفســهم الذين لم يدخـلوا فى مذهب الدولـة وخالفوها فى بعض الاعتقاد بطبيعة المســـيح.(20)
النظام الإسلامى لا يفرض بالقوة، هذه إذن قاعدتنا الذهبية، ولكن كيف نطبقها فى عصرنا الحالى.. فى ظل أنظمة تحالفت مع شياطين الجن والإنس (الحلف الصهيونى – الأمريكى) ضد الإسلام والمسلمين.
بطبيعة الحال لسنا فى حالة مماثلة لبداية الدعوة الإسلامية فى مجتمع جاهلى، فمجتمعنا مسلم، ولكن نحن بصدد حالة تقتضى تصحيح العقيدة, والعودة إلى المرجعية الإسلامية فى شتى مجالات حياتنا الخاصة والعامة، وهذا يتطلب دعوة سلمية لإقناع أوسع جمهور بهذه العودة، وهذه تمثل 90% من المهمة, أما تغيير النظام الحالى نحو دولة إسلامية رغم أهميته فإنه يتم فى لحظة مواتية اعتمادا على تعاظم الوعى الجماهيرى الذى يمكن أن يحاصـر – عبر تحرك نشيط وعملى – أجهزة الدولة التى ترفض الحل الإسلامى، وأن يتم ذلك بوسائل سلمية خبرتها الحركات والانتفاضات الجماهيرية المعاصرة، وبالتالى فإن إقامة دولة إسـلامية لا يتطلب بالضرورة أعمال عنف. (نموذج الثورة الإيرانية).
والخيار الثانى إمكانية نجاح الحركة الإسلامية والحركة الجماهيرية بشكل عام فى فرض الخيار الانتخابى الحر (النموذج الماليزى، والنموذج التركى, وإن كان الحزب الإسلامى الحاكم لم يتمكن حتى الآن من تنفيذ برنامج إسلامى صريح فى ظل المؤسسة العسكرية العلمانية, ولكنه بالتأكيد يضمر هذه النوايا ويحاول تحقيقها بشكل تدريجى بطيىء من أعلى).
والخيار الانتخابى الحر هو أكثر الخيارات انطباقا مع الرؤية الإسلامية، التى تعتمد على الحوار والإقناع والاقتناع وليس عبر الإكراه، والاحتكام لصندوق انتخابى حر من أى تزوير هـو بالضبط ما نعنيه بإطلاق حرية الإنسان فى الاختيار وتحمل نتائج اختياره. وعلى خلاف ادعاءات القوى الطاغوتية المعادية للإسـلام، فإنها هى التى تخشى الانتخابات الحرة. والأمريكيون وأتباعهم من العلمانيين فى بلادنا هم الذين يروجـون مصطلح (one man -(one vote – one time أى أن الإسلاميين يسعون لانتخابات لمرة واحدة حتى يصلوا إلى الحكم ثم يستولون عليه للأبد ويلغون الانتخابات. والمثير للسخرية أن هذا الادعاء لم يحدث فى عصرنا ولا مرة واحدة، بل العكس هو الصحيح، إذ ألغيت الانتخابات فى الجزائر لفوز الإسلاميين، وتستخدم كل وسائل الإكراه والقمع ضد الأحزاب والحركات الإسلامية حتى لا تدخل فى مباراة سلمية عبر الانتخابات، بل أن إشراك إسلاميين معتدلين فى الحكم تجربة تم التراجع عنها فى الأردن واليمن، والأحزاب الإسلامية محظورة فى كثير من البلاد العربية والإسلامية. بل أن شعار الانتخاب والبقاء للأبد فى الحكم هو أسلوب الأحزاب الحاكمة عبر الانتخابات المزورة. ولحاكم مصر تصريح شهير بأن “الانتخابات الحرة ستأتى بالإسلاميين للحكم كما حدث فى الجزائر”.
والإسلاميون وفقا لهذا النهج القرآنى: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( يتعين عليهــم أن يلتزموا بمبدأ الصندوق الانتخابى الحر، فإذا وصلوا للحكم سعوا لكســب الناس بالإنجازات والإصلاحات والإقناع, وليس بوسائل الهيمنة والاستبداد، وإذا كان ضمان حرية الانتخابات مكفولا، فلا مانع من خروج الحزب الإسلامى من الحكم إذا أخفق فى الانتخابات, وأن يسعى لإقناع الناس ببرنامجه فى دورة قادمة.
الصـندوق الانتخابى هـو الشكل المعاصر للشورى والبيعة، وهو التجسيد العملى لما نقوله: التخلية بين الناس وبين حرية الاختيار، وتحييد الإكراه. ولو سلم الطواغيت بهذا الحل لكان الطريق أمام الدعوة الإسلامية مفروشا بالورود, وهذا ليس من سنن الله فى خلقه، بل السنة هى التدافع كما ذكرنا آنفا، السنة أن المستكبرين والقوم الظالمين لا يقبلون هذه المباراة السلمية لأنهم يعلمون أنهم فيها خاسرون. إن الرسل والأنبياء لم يطرحوا إلا هذه المبادرة السلمية: أى مجرد السماح بالمناظرة وتصارع الأفكـار والدخـول مع الطواغيت فى صراع على عقول وأفئدة الناس، ولكن الطواغيت رفضـوا دائما هذا الخيار، وإلا لماذا يرهبون المناظرات بمجرد الكلام ومقارعة الحجة بالحجة عبر أجهزة التلفاز أو المذياع، ولماذا يغلقون الصحف الإسلامية والأحزاب الإسلامية التى لا تحمل سلاحا ولا تشكل ميلشيات: )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ( (الفرقان: 31).
لذلك ذكرت أن هذا الخيار (الوصول للسلطة عبر الانتخابات) يجب أن يتم فرضه بضغوط الحركة الجماهيرية، وأن المستبدين لن تصيبهم أريحية مفاجئة حتى يوافقوا على انتخابات حرة ستخرجهم فى أغلب الأحيان من سدة الحكم حيث تنعموا بمفاتن الحياة الدنيا بالحد الأقصى.
وهنا يطرح سؤال تقليدى.. هل يسمح الإسلاميون إن كانوا فى الحكم بآراء وأحـــزاب معادية للحل الإســلامى والإسلام (أحزاب علمانية مثلا)؟ وهو سؤال لا محل له إذا كان الإسلاميون وهم فى المعارضة يفوزون بالأغلبية فى أى انتخابات حرة سياسية أو نقابية، فما معنى أن يخشى الإسلاميون عندما يصلون إلى السلطة من هذه الأحزاب، إلا إذا كانوا ينوون الركون إلى أساليب الهيمنة والبيروقراطية والقمع بدلا من الإصلاح والحكم بالعدل.. إن الخلاف فى الدين أشد من الخلاف فى السياسة، والنظام الإسلامى يلتزم بأهل الكتــاب فى دولته, فلماذا لا يسمح بأحزاب سياسية مختلفة معه؟ بل أن كل القوى الوطنية الشريفة تشارك مع الحزب الإسلامى فى وضع الدستور الأساسى(من خلال جمعية تأسيسية منتخبة بصورة حرة) ومختلف القوانين.
وتفاصيل النظام السياسى تتولاها القوى الشعبية المنتخبة من الشعب، ولكن بشكل عام فإن النظام الإسلامى أو الحزب الإسلامى الحاكم لا يفرضان الرأى والفكر بالقوة، ولا يمنعان الاختلاف معهما، وبالتالى ليس من المفترض منع الأحزاب السياسية المختلفة. إن السبب الجوهرى لمنع أى أحزاب معارضة أو نشاط معارض: التعاون مع الجهات الخارجية المعادية للنظام الإسلامى أو استخدام وسائل عنيفة غير قانونية لتقويض النظام، فطالما أن الحزب الإسلامى وصل إلى السلطة عبر الانتخابات، فيجب على القوى الأخرى أن تلتزم نفس الخيار السلمى. ولنا فى وثيقة “الصحيفة” وهى أول دستور إسلامى لحكم البلاد أسوة حسنة، وهى دليل حى على أن النظام الإسلامى يقبل الخلاف التنظيمى الفكرى والسياسى فى إطار الأمة الواحدة, وهو ما سنفصله عندما نصل إلى السيرة النبوية الشريفة بعد الانتهاء من القرآن الكريم والأحاديث النبوية بإذن الله.
ومن المهم هنا أن نشير إلى أن هذه الآية: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( هى آية مدنية أى نزلت بعد الهجرة، أى بعد إقامة الدولة الإسلامية, وهو الأمر الذى يضاعف من أهمية هذا المبدأ (حرية الاختيار) فهو ليس مبدأ المسلمين عندما يكونوا ضعفاء أو فى المعارضة, فإذا تمكنوا من الحكم فرضوا الدين على الناس بالقوة. فعقب غزوة بنى النضير التى هزم فيها المسلمون اليهود الذين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم مرتين, أراد المسلمون الذين لهم أبناء متهودون أن يجبروهم على البقاء معهم، فنزلت هذه الآية لتمنع ذلك ولتأمر المسلمين بأن يخيروا هؤلاء الأبناء بيـن استمـرارهم علــى يهوديتهم أو دخولهم الإسلام. ومناسبة نزول الآية توضح مغزى الحكم الذى يـبح دائما ومستقرا وعاما ومجردا فى كل الحوادث المقبلة بل نرى الآية الكريمة لا تشير إلى كل هذه التفاصيل لتأكيد الحكم العــام. وما يهمنا الآن أن الآيـة الكريمة نزلت والمسلمون فى قوة ولهم دولة وأن عنوان هذه الدولة يجب أن يكون: )لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( وما ينطبق على الدين ينطبق على ما هو أدنى من تنـوع البرامج السياسية والاقتصـادية والاجتماعية.
أما الأمور التى تقتضى تقييد المعارضين ومعاقبتهم فهى لا تخرج كما ذكرنا عن احتمالين:
(1) القيام بأعمال مادية لتقويض الدولة الإسلامية بالمخالفة لدستورها الذى ينص على المرجعية الإسلامية.
(2) التعاون مع الدول المعادية لتقويض الدولة الإسلامية أو التجسس لحساب الأعداء.
وهذا ما حدث مع بنى النضير إذ استخدمت معهم القوة المسلحة. القوة المسلحة لم تستخدم معهم لاختلاف فى العقيدة أو فى السياســة, ولكن لخرق بنى النضير لأحكام “الصــحيفة” وتدبير مؤامرات مادية لتقويض دولة الإسلام التى قامت برضاء الأغلبية الساحقة لأهل يثرب, حيث لم يفرض الإسلام بقوة الســلاح على أهل المدينة، بل هــم الذين استقبلــوا المـؤمنـين ورحبوا بهم وانضموا إلى دينهم، وعندما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام دخل المدينة وأقام الدولة الإسلامية باختيار أهلها الذين آمنوا برسالته دون أن تراق نقطة دماء واحدة.
الكفر بالطاغوت:
بعد أن أوضح الله سبحانه وتعالى أن الخيار مفتوح أمام البشر بلا إكراه بين الرشد والغى فإنه يحدد لنا مآلات هذا الاختيار المصيرى. إما خيار الإيمان الذى يخرج المؤمنين من الظلمات إلى النور, وإما خيار إتباع الطاغوت الذى يخرجهم من النور إلى الظلمات. والطاغوت صيغة من الطغيان، تفيد كل ما يطغى على الوعى، ويجور على الحق، ويتجاوز الحدود التى رسمها الله للعباد, ولا يكون له ضابط من العقيدة فى الله، ومن الشريعة التـى يسنها الله، ومنـه كل منهج غير مستمد من الله.(21)
والطاغوت باختصـار كما أجمع المفسـرون هـو كل ما يعبد ويتبع من دون الله, وهو يشمل من أهم ما يشمل سلطة المستكبرين التى تصد عن سبيل الله.
والكفر بالطاغوت لا يعنى مجرد الانعزال عنه, فهذا غير ممكن عمليا, بل لابد من عصيانه، وتحمل مغبة ذلك من مشاق ومتاعب وآلام, وهذا هو جوهر الجهاد، فلا يمكن لمجتمع المسلمين أن يحكمه وينظمه ويقوده ويشرع له من لا يحتكم إلى كتاب الله، لأن سلطاته ستفسد الدين على الناس وتعرضهم للفتنة وعصيان الله وأوامـره، فالسـلطة الطاغوتية – فى أحوالنا – تتحالف مع معسكر الكفار والمشركين: )وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ( (المائدة:51)، وتشرع وفقا لتوجيهات العولمة، وتراجع المناهج الدراسية وفقا لها، وتعطل الشورى، وتحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله. وتخضع الاقتصاد للمنهج الربوى، وتخضـع مجمــل الحياة للمنهج الدنيـــوى المادى. وبالتالى لا يمكن إقامة الدين على نحو صحيح كما أمر الله فى ظل الخضوع لهذه السلطة الطاغوتية.
وهذا المعنى هو الذى يركز عليه جل المفسرين، أما الاكتفاء بالقول أن الطاغوت هو الشيطان، وإن لم يكن خطأ لأن الشيطان رمز ومحرك كل الشرور, وهو القطب الآخر (حزب الشيطان) لحزب الله، إلا أن أفئدة الناس عادة ما تتجه إلى وسوسة الشيطان فى الانحرافات الشخصية للمؤمنين مغفلة الشياطين الكبار، شياطين الإنس، أى كبار المجرمين والمستكبرين الذين أستذلهم الشيطان وأستولى على قلوبهم، ذلك أن وعاظ السلاطين يوجهون أفئدة الناس دائما إلى خطاياهم الشخصية بعيدا عن خطايا المستكبرين، ويقولون للناس أنهم هم المشكلة لا كبار المجرمين, فى تحريف ظاهر لمعنى الآية الكريمة: )إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم( ذلك أن تقويم النفس لا ينفصل عن الكفر بالطاغوت ومقاومة الظلم.
ويقول الشيخ أبو زهرة إن الطاغوت هو كل طغيان يطغى على النفس أو العقل أو الجماعة فيتسلط عليها ويمنعها من إتباع الحق, من زعماء يقودونها إلى الضلال, أو ملوك يسوقونها إلى الباطل سوقا, ولعل أظهر معانى الطاغوت أن يفسر بالملوك المتحكمين والكبراء المتجبرين الذين يفتنون الناس عن دين الحق، ويكرهونهم على اعتناق الباطل. وقد سوغ لنا استظهار ذلك ما جاء من نفى الإكراه فى الدين سابقا وما سيق بعد ذلك من قصة ملك متجبر (حوار سيدنا إبراهيم مع الملك) يريد أن يتحكم فى عقائد الناس وأهوائهم، فإن ذلك يومئ لنا أن نفهم من كلمة الطاغوت بأنه الحاكم المتجبر أو الكبير المتسلط أو الملك القاهر بالباطل. وأنه لا يحجب النفوس عن الإيمان بالله إلا طغيان المتجبرين عليها وسيطرة أوهام الكبراء، فمن تحرر من ربقة الطاغــوت تتكشف له الحقيقة العالية فيؤمن بها، ويدركها، ويعتصم بالله سبحانه وتعالى. كذلك فإن بالآية إرشــاد ضعفاء النفـوس, ومن أصـــاب الخــور عزائمهم, وأماتت الأوهام ثقتهم بأنفسهم, أنهم إن رفضوا سلطان الطغاة فقد أمنوا ولن يصيبهـم ضير إن آمنوا، لأنهم آووا إلى ركن شـديد، وإلى معتصم حصـين، فلن تضيرهم مخالفة الملـوك وغيرهم لأن سلطانهم وهمى، وسلطان الله حقيقى، وقوتهم فانية، وقوة الله أزلية باقية، فمن آمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصــام لها. وهـؤلاء ينصرهم رب العالمين ويهديهم بنوره.(22)
وتأكيدا لكل هذه المعانى نجد الآيات التالية مباشرة تضرب مثلا عمليا عن المقصود بالطاغوت حتى لا تتجه الأفئدة إلى معانى مجردة، نجد الآية التالية مباشرة تتحدث عن محاورة سيدنا إبراهيم مع الحاكم السياسى (الملك).


مواجهة الطاغية ضرورة إيمانية

)أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ( (البقرة: 258).
إذن فإن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن الحكام المستكبرين هم أبرز وجه للطاغوت، فهم أصحاب السلطة والصولجان التى يحاربون بها المؤمنين، ويفتنونهم عن دينهم، ولذلك فإن قضية السلطة يجب أن تكون مركزية لدى معسكر المؤمنين، فلابد من إصلاحها أو تغييرها لإقامة شرع الله.
فإذا كان التشاور وتطبيق الشريعة على الحاكم والمحكومين هما الأصل فى الحكم، ولما كانت سمة الطغاة فى كل العصور أن يتمردوا على هذين الأصلين، فينفردون بالرأى من ناحية, ولا يعترفون بخضوعهم للشريعة من ناحية أخرى، فقد لعنهم القرآن الكريم كلما ذكرهم ووصمهم بالكفر, وجعل فرعون نموذجا للطاغية الذى يدفعه طغيانه إلى إنكار أن يكون هناك إله غيره، والتأله بمعنى تصور الألوهية فى النفس هو طابع كل حاكم ينفرد بالسلطة ولا يتقيد بقانون، إذ يتصور أنه هو الذى يعز ويذل ويحيــى ويميــت، وســرعان ما يطبــــــق الصفة الأساسية للألوهية وهى أنه: )لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( (الأنبياء: 23).(23)
يتوهم الطاغية أنه بما يملك من سلطان الأجهزة الأمنية يستطيع أن يقتل من يشــاء ويترك من يشاء، يعـذب من يشاء ويعفو عمن يشاء، يحبس من يشاء ويطلق من يشاء، يستطيع أن يصفى المعارضين تصفية جسدية، أو يقطع أرزاقهم. وهو نفس الشعور الذى يتملك المجرم فى جرائمه الشخصية، فهو يقرر أن يقتل فلانا أو يسرق علانا، ويتصور أنه هو الذى يحدد القضاء والقدر. ولكن الحاكم بماله من أجهزة جبروتية ملك يمينه يتملكه شعور عميق بأنه قادر على كل شىء، حتى وإن ترك بعض المعارضين لدواعى سياسية فإنه يتصور أنها إرادته، ويركز المفسرون على أن الملك الذى حاوره سيدنا إبراهيم أخطأ لأنه غاب عنه أن حقيقة الحياة والموت فى كل الكائنات هى من خلق الله، وليس مجــرد قتل فلان أو علان. وهذا صحيح، ولكن حتى القرارات الفردية فإن الحاكم لا يضمن أن ينفذ قراره الذى اتخذه ضد شخص محدد. فالحاكم قد يموت قبل تنفيذ القرار, وقد حدث هذا كثيرا فـى التاريخ، وقد يهرب الشخص المطلوب قتله أو اعتقاله، أو ينجو من محاولة الاغتيال، وقد تقوم ثورة قبل تنفيذ أحكام بالسجن أو القتل، ورأينا كيف وضع السادات الآلاف فى السجن ثم رحل هو نفسه عن العالم بعد شهر واحد من أحداث سبتمبر 1981، وهذه مجرد أمثلة لاحتمالات لا حصر لها. وأحيانا تنصحه الأجهزة المعاونة – لصالحه ولصالح النظام – فيأخذ الحاكم برأيها فيؤجل السجن أو الإعدام أو التصفية، وتكون هذه إرادة الله.
ولكن الحاكم المستبد يأمر بأشياء كثيرة وتنفذ (لأن هذه إرادة الله) فيصيبه جنون العظمة, ويتصور أنه قادر على كل شىء. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فهى لم تصفه بالملك بل بأنه: )آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ(، أى أن الله سبحانه وتعالى قدر له أن يكون حاكما, وهذه نعمة كبرى لو كان يفقه لحرص على إقامة العدل وعدم الاغترار بما لديه من سلطان. بل تحولت السلطات التى يستحوذ عليها إلى فتنة أدارت رأسه, فظن أنه ارتفع إلى مصاف الآلهة.
وحالة الحاكم الطاغية قد تكون مفهومة، فبدون إيمان عميق بالله فإنه يغتر بمظاهر الحياة الدنيا وينقلب إلى وحش كاسر على عباد الله المؤمنين. ولكن الطامة الكبرى فى المحكومين الذين تتلبسهم هذه الفكرة، فيتصورون أن الحاكم قادر بالفعل على كل شىء ولذلك فإنه من الحصافة وحسن الفطن أن يطيعوه وأن يتبعوه ولا يعصون له أمرا.
ونلاحظ أن هذه المعانى العامة سارية فى كل العصور حتى عصرنا الراهن, وإلى ما شاء الله، فأنت إذا دعوت فى بلادنا إلى مقاومة الطغيان سمعت تنويعات شتى عن عدم المقدرة على مواجهة السلطان كلى الجبروت، وأنه قادر على أن يرسلنا وراء الشمس، أو يعاقبنا كالذبائح أو يقتلنا أو يسجننا مدى الحياة. ورغم أن كل هذه المخاطر الآنية حقيقية، إلا أنها تعكس التخلى عن العروة الوثقى، عن الإيمان بالله، الذى وعدنا بالنصر فى الدنيا – وإن كان عبر الابتلاءات – وفى الآخرة حيث النعيم المقيم الذى يستحق كل هذه التضحيات المفترضة، والتى لا يعلمها إلا الله. فقد يكون مصير المؤمنين المجاهدين كبلال (سجن وتعذيب) أو سمية وحمزة (شهادة) وقد لا تتعرض لهذا ولا لذاك، حسب ما هو مكتوب لك، فإذا تعرضت للآلام فهى فى ميزان الحسنات، وإن عافاك الله منها فحسبك أنك أقدمت على مقاومة طاغية واضعا فى الحسبان كل الاحتمالات فى سبيل الله: )وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ( (آل عمران: 145).
إن الخوف من الطاغية إلى حد التخلى عن أوامر الله لن يوردنا إلا مورد البوار والهلاك، فنحن ننسى أن هذا هو الابتلاء والاختبار الأساسى لنا فى الدنيا، وبدون هذا الامتحان ما كان هناك مغزى لحساب الآخرة فإما شقى وإما سعيد.
كذلك نتعلم من هذا الحوار أن صاحب الدعوة لا يخفى عقيدتـه أو مبادئه, وأنه يـواجه أعلى السلطات بكل الحقيقة، ويفند ضلالها معتمدا على الله سبحانه وتعالى، لا يخاف فى الله لومة لائم، حتى وإن لم تكن موازين القوى المادية فى صالحه، حتى وإن كان غير محتمى بتنظيم كبير أو قبيلة كبيرة. الآية الكريمة تعلمنا أن نقول الحق فى مواجهة السلطان, وفى عقر داره, وأن نترك العواقب لله، وسنعود مرارا إلى قصة سيدنا إبراهيم لنجد فيها كثيرا من نواميس وقواعد التعامل مع الطغاة. ورغم أن المواجهة واجبة، إلا أن الآية تعلمنا أن هناك صنفا من الحكام لا فائدة من مواصلة الحوار معهم, فحتى إذا تمكن الداعية من إفحامه فإنه سيحتار ويبهت ولكنه لن يؤمن لأنه لا يبحث عن الهداية بل هو سادر فى ضلالته معجب بسلطانه الدنيوى، مصر على الكفر، )فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ(.


الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
عصب النظام السياسى الإسلامى

)وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (آل عمران: 104).
)كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ( (آل عمران: 110).
كتبت دراسة مطولة على ضوء هاتين الآيتين: “الجهاد صناعة الأمة: بحث فى فريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر”, فهل يمكن أن نزيد عليها الآن. نعم ولكن من زاوية كشف طبيعة النظام السياسى الإسلامى، فقد كان بحثى السابق ينصب على فريضة المعارضة السياسية فى الإسلام، ووجوب وحتمية مواجهة الظلم والظالمين, الاستكبار والمستكبرين، وأن ذلك ليس جزءا متمما للعقدية فحسب بل هو فى جوهرها.
أما الزاوية التى نركز عليها فى هذه الدراسة، فهى اكتشاف ملامح النظام السياسى الإسلامى من خلال هذه الفريضة الجوهرية، التى اعتبرها الله سبحانه وتعالى دليل وقرينة وشرط أن تكون أمتنا هى خير أمة أخرجت للناس، بحيث أن التخلى عن هذه الفريضة يفقدنا صفة الخيرية. ويفقدنا بالتالى عبوديتنا لله عز وجل.
إن تدبر المعانى العميقة لـ “الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر” يصل بنا إلى الجهاز العصبى الذى يحكم جسد المجتمع المسلم، وأنه نظام اجتماعى شامل على جوهره ومحوره يقوم نظام الشورى، ومن الملفت للانتباه أن آية الشورى سترد بعد قليل فى سورة آل عمران, وكأننا أمام عملية تركيبية متصاعدة لهيكل النظام الإسلامى:
1 – العدل أساس الحكم.
2 – شروط ومواصفات الحاكم بعد العدل:(العلم – الكفاءة – السلامة الجسدية والصحية).
3 – لا إكراه فى الدين.
4 – سنة التدافع.
5 – الأمر والنهى.
6 – الشورى.
ويتفق العلماء والمفسرون والفقهاء بلا خلاف حول المعانى الأساسية لفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويمكن أن نجملها فى التالى:
أولا: أن دائرة الأمر والنهى أوسع من دائرة الحلال والحرام:
فإذا كان من الطبيعى أن يشمل المعروف الحلال، والمنكر الحرام، والحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور متشابهات يحسمها العلماء. إلا أن المنكر قد يشمل أمورا مباحة فى حد ذاتها، ولكنها فى زمان ومكان محددين تكون ضارة بالمجتمع. مثلا لا شـك أن تعمير الصحراء حلال ومطلوب، إلا أن دراسة جدوى لمشروع محدد (كمشروع توشكى مثلا) يمكن أن تثبت أنه إهدار للمال العام دون جدوى اقتصادية من أجل صناعة مجد شخصى زائف للحاكم، ومن هنا يكون انتقاد المشروع والنهى عنه أمر واجب شرعا.
إذن فإن دائرة المعروف والمنكر تمتد لتشمل كل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومن بينها أمور قاطعة تمس دائرة الحلال والحرام ولا تحتاج لأى اجتهاد، وهناك أمور تحتمل وجهات النظر وتحتاج للعلماء والمتخصصين كى يحسموها، وهى الأمور المتعلقة بالمصلحة، ولكننا سنجدها فى النهاية تنضبط بقواعد الشرع، ولا شك أن كثيرا من هذه الأمور سيرد تفصيلها عند الحديث عن نظام الشورى.
وهناك إعجاز بلاغى فى تحديد هذين المصطلحين “المعروف” و”المنكر”، فالمعروف هو الشىء الذى يعرفه الناس, والمنكر هو الشىء الذى يجهلونه، كما نقول ببساطة فى حديثنا اليومى: هذا شخص معروف وهذا شخص نكرة. وهذا المعنى يشير إلى أن فطرة الإنسان تدله على الخير وتعزفه عن الشر، ولذلك جبل الإنسان على إنكار الأعمال الشريرة التى يرتكبها، ولا يوجد إنسان عاقل ومتزن يجاهر بأعماله الشريرة، بل هو ينكرها أمام الناس وليس فقط عندما يقع فى يد العدالة.
إذن دائرة الأمر والنهى تشمل شتى أمور المجتمع, وتتطابق مع ما نسـميه الآن العمل السياسى, ولكن بالتسلح بالمنهج الربانى، وعموده الفقرى: الحلال والحرام, ولكنه يشمل أيضا الأمور والقضايا والمشكلات المستجدة التى تحتمل وجهات نظر لكن لابد أن تحسم باستبيان الأمر الشرعى من العلماء والمتخصصين واستقرار المجتمع بوسائل الشورى على تصنيف المسألة المستجدة بين المعروف والمنكر، لأنها كما ذكرنا قد تكون أمورا ليست محرمة فى حد ذاتها. لذا نرى الآية الكريمة: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ( جاءت لتشمل كافة مناحى الحياة، وليست كما اختزلها البعض فى عدد من النقاط التى تمس العبادات والأخلاقيات فحسب (كالخمور واللهو الحرام وارتداء الحجاب وإيقاف العمل أثناء مواعيد الصلاة، ومعاقبة المفطر علنا فى شهر رمضان).
ثانيا: إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب على كل مسلم ومسلمة وليس مجرد حق:
وهذا ما يرفع مستواه إلى أعلى من مستوى الحقوق فى المفهوم الديمقراطى الغربى، فالحق يمكنك أن تستخدمه أو لا تستخدمه، أما الواجب فيتعين عليك القيام به كى يصح اعتقادك الدينى، وبالتالى فإن ممارسة “الأمر والنهى” قربى لله سبحانه وتعالى الذى يحض عليها، ويعتبرها من جوهر عبادته، واعتبار أن هذا واجب: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ( يرفع من مستوى الأداء الإصلاحى للمجتمع، لأنه لا يحتمل التقصير فيه، ولا يجعله اختيارا، فتزداد عناصــر مقاومة الجسـد للأمراض الاجتماعية، فيصبح “الأمر والنهى” هو كرات الدم البيضاء التى تطرد الخبث من الجسم وتحاصره، تصبح جهاز المناعة الطبيعى عندما يعمل فى أقصى درجات فاعليته.
فى التجربة الديمقراطية الغربية، أنت غير مطالب بمواجهة الاعوجاج فى المجتمع، فأنت حر طالما تتصور أن الاعوجاج لا يمسك فى عدم الالتفات إليه وإصلاحه. مثلا عندما تنشر الصحف الأمريكية عن فساد تشينى ورامسفيلد (استغلال علاقتهما بشركة هاليبورتون) وفساد بوش نفسه (فضيحة إنرون)، فمن السهل أن تطوى هــذه الصفحة وكأن شيئا لم يكن، ولا يشعر أى مواطن أمريكى بأنه مطالب بمتابعة القضية إلى النهاية، ولا يوجد فى المعتقد الدينى أو السياسى ما يحض على ذلك.
أثناء زيارتى للولايات المتحدة دار حوار ذا مغزى بينى وبين مرافقتى، فقد لاحظت استيائى الشديد من السائق الذى لا يخفى شذوذه الجنسى، وأنه يريد أن ينتهى من توصيلنا حتى لا يفوته موعده مع صديقه. وأخذت أسألها هل يمكن للشاذ جنسيا أن يكون عضوا فى الكونجرس؟ قالت نعم يمكن خاصة فى مناطق تمركزهم مثل هنا فى سان فرانسيسكو.
وسألتها هل يمكن للوزراء والرئيس أن يكونوا من الشواذ، قالت: ليس بعد. ولكنها عادت لتسألنى: لماذا أنت مهتم ومنزعج من الأمر لهذا الحد. فقلت لها: ما رأيك أنت هل ترين أن الشذوذ الجنسى أمر طيب وطبيعى؟ قالت لا، ولكن لا أهتم بهذا الأمر فسألتها ما هو شعورك إذا كان شقيقك مثلا شاذا جنسيا، قالت: إن الأمر لا يعنينى فى شىء ولا يهمنى إن كان شاذا أم لا.
فهكذا رغم أنها لا تقر الشذوذ الجنسى فى حد ذاته، إلا أنها محايدة إزاء المنكر، الذى تحول فى عرفها – وعرف كثيرين فى الغرب – إلى مجرد اختيار وحرية شخصية، لا يستأهل حتى تغيير المنكر بالقلب. أما فى عقيدتنا فإننا مأمـورون بتغيير المنكر ومقاومته سواء ارتكبه القريب أو البعيد، الصغير أو الكبير، الذى نعرفه أو الذى لا نعرفه. فأى المجتمعات أكثر صلاحا ورقيا وحصانة وأخلاقية.
ثالثا: وهذا ينقلنا إلى النقطة الأكثر جوهرية، وهو عموم الالتزام بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكل المواطنين:
لاحظ تعبير: )كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ( أى أنه يشمل الأمة بأسرها. فنحن أمة “يسعى بذمتهم أدناهم” يحكمنا الحديث الشريف: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..) بدءا من الحاكم حتى الخادم. و(الدين النصيحة). يفتخر النموذج الفكرى الغربى بأنه يعلى أكثر من شأن الفرد والفردية، ونحن ندعى أن النموذج الإسلامى يعلى أكثر من شأن الفرد, ولكن بصورة تخدم الفرد والجماعة معا وتعلى من شأنهما، فكما رأينا فإن التقويم واجب (وليس مجرد حق) لكل فرد فى المجتمع، وأن كل فرد لديه حصانة وهو يقوم بذلك، حصانة مباشرة من الله ورسوله، ولا توجد فرقة بعينها أو كهنوت بعينه، يختص بهذا الأمر، كما أن المقامات رغم أنها محفوظة إلا أنها لا تعيق أى فرد من ممارسة الدعوة والنقد تجاه أى فرد، حتى وإن كان الأخير حاكما أو كبير المقام. وعلى خلاف وصف أحد مفكرى الغرب بأن المجتمع الرأسمالى الغربى هو حرب الجميع ضد الجميع، فإن المجتمع الإسلامى هو إصلاح الجميع للجميع: )وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( كما جاء فى سورة العصر التى قال عنها الإمام الشافعى: (لو تدبر الناس سورة العصر لكفتهم) وتواصوا بالحق أى أوصى بعضهم بعضا. وهو نفس المعنى الذى ورد فى نقد بنى إسرائيل: )كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ( أى لم ينه بعضهم بعضا.
ولا شك أن النموذج الديمقراطى الغربى – من هذه الزاوية – أقرب إلى الإسلام من النموذج الاستبدادى, ولكنه لا يرقى إلى المستوى الإسلامى الذى هو أكثر “ديمقراطية” إن جاز التعبير، إذا كان الفهم الشائع لـ “الديمقراطية” هو الحريات الأكبر للناس، للمساهمة فى إدارة المجتمع، والمشاركة السياسية. فالنموذج الإسلامى يكرس ما يسمونه الآن “المجتمع المدنى” أى “الأهلى”، يكرس مسئولية الجميع فى المشاركة السياسـية، وأنها واجبة كأمر مقدس من الله عز وجل، وليست مجرد حق قانونى يمكن استخدامه بصورة اختيارية.
ويكشف تاريخ حضارتنا الإسلامية أن الأمة (بمعنى المجتمع الأهلى) كانت تتولى إدارة المؤسسات الدينية والتعليمية والصحية والخدمية بصورة لا مركزية, وأن الدولة لم تحتكر هذه المهام كما هو الحال الآن فى زمن الردة عن أصولنا الحضارية. وعندما نقول أن كل الناس يشاركون فى الإصلاح (الأمر والنهى) فإننا نعنى ذلك بصورة حرفية: كل مسلم ومسلمة. وأشار عديد من الفقهاء إلى أن مرتكب المنكر مطالب أيضا بممارسة الأمر والنهى، ليس على سبيل النفاق، ولكن باعتبار أن مرتكب المنكر ليس فى حالة دائمة من الانحراف، وفى مختلف المجالات وفى كل الأوقات، وباعتبار أنه يشجع نفســه علـى الإقلاع عن المنكر حين يدعو قرناءه للكف عن المنكر، كما قد يكون ارتكب منكرا مرة ثم اقلع عنه (كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون).
وفى هذا يقول عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: “لو أن كل امرىء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يلزم بذلك نفسه، لما كان هناك أمر بالمعروف ولا نهى عن المنكر ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة”.
إن “الأمر والنهى” أشبه بالماكينة الهائلة، لها أذرع فى كل مكان، لإدارة المجتمع وتصحيح مسـاره يشارك فيها كل الناس، وهى مهمة مقدسة، إذ هى قضية دين قبل أن تكون قضية دنيا، فهى تستهدف إصلاح الدنيا إرضاء لله سبحانه وتعالى، وهى أيضا طريق لأن تصبح الحياة أكثر تراحما وتكافلا وإنسانية.
وهذه الماكينة تعمل بشكل رأسى وأفقى ودائرى على مختلف المحاور والمستويات، بشكل رأسـى أى بين الحكام والمحكومين، بين الرؤساء والمرؤوسين وبصورة متبادلة، وبشكل أفقى أى بين الناس بعضهم بعضا من مستويات اجتماعية وسياسية واحدة أو متقاربة، وبشكل دائرى أى بين أى مجموعة من الناس (أسرة – مجموعة أصدقاء – ركاب حافلة أو طائرة – رواد أى مكان عام أو خاص.. إلخ) نجد جميع الثغرات فى المجتمع وقد تم سدها، فى عملية إصلاح أو تقويم تجرى بصورة هادئة على مدار الساعة، كالشهيق والزفير. ولعل الحديث الشريف هو أفضل وصف لهذه الحالة: (الدين النصيحة, قالوا: لمن؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وبطبيعة الحال فإن الشق الأول أى “لله ولرسوله” تعنى إتباع تعاليمهما وكذلك الحديث: (جاهدوا الناس فى الله تبارك وتعالى القريب والبعيد ولا تبالوا فى الله لومة لائم وأقيموا حدود لله فى الحضر والسفر). والحديث: (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا عليه فيه مقالا ثم لا يقوله فيقول الله ما منعك أن تقول فيه فيقول رب خشيت الناس فيقول وأنا أحق أن يخشى). والحديث: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قالوا: بلى, قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هى الحالقة).
إذن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أشبه بأجهزة الجسم التى تنظم عمله وصحته وتنقى الســموم منه وتفرزها، ولكــن “الأمر والنهى” لا يعمل بصورة آلية كهذه الأجهزة، ولكن بالوعى والمعرفة والإدراك كل فى حدود علمه، فإذا أدرك الناس مسئولياتهم أمام الله، لأصبح “الأمر والنهى” أشبه بهذه الأجهزة التى تعمل وكأنها تعمل بصورة آلية تلقائية, بدون طقوس خاصة أو استعداد خاص أو تحديد لفئة خاصة تتولى ذلك دون غيرها.
وتثار هنا مسألة الخشية من سوء أداء هذا الواجب، كممارسة الأمر والنهى بفظاظة، أو بدون علم، أو باستعلاء وغرور، وكل هذه المخاوف وإن كانت حقيقية ويجب التوصية بالحذر منها, ولكن لا محل لها إذا كان المقصود هو نزع هذا الواجب (ليس مجرد الحق) من أى مسلم. فسوء الأداء يمكن تقويمه، ولا يؤدى إلى حظر أو تقييد هذه الفريضة بشكل تحكمى، فالإنسان الفظ ينفض الناس من حوله، والذى يتحدث بغير علم يزور الناس عنه فورا أو بعد حين ويتجهون لمن هو أكثر علما.. وهكذا فإن المجتمع ينظم نفسه بنفسه فى هذا المجال.
أما فى مجال السياسة والدعوة العامة، فإن الإسلامى الأكثر ورعا والأكثر علما هو الذى تكون كلمته مسموعة أكثر، وآراؤه أكثر تأثيرا، ونحن فى هذا المجال أمام حالة من الانتخاب الطبيعى. فأبو حنيفة بمجرد أن استقل بدائرة خاصة بالمسجد حتى التف الناس حوله وتركوا أستاذه, لأن أبى حنيفة لديه علم أغزر, والإمام الشافعى ألتف حوله فى بغداد ستة أفراد فى البداية, ولكن مع دخوله المسجد الكبير تلاشت قرابة خمسين حلقة, ولم تعد هناك إلا حلقة واحدة حول الإمام الشافعى.
وفى حياتنا المعاصرة نشهد نماذج قريبة من ذلك، فالناس تتجه فى كل حى وقرية إلى المسجد الذى فيه الخطيب الأغزر علما، وتنفض عن الخطباء قليلى البضاعة، وفى إطار الأحزاب السياسية الإسلامية فإن الناس تلتف بصورة أكبر حول الأكثر إخلاصا وعلما والتزاما بالإسلام، خاصة فى الأحوال التى تكون فيها أنشطة هذه الأحزاب والجماعات غير مقموعة، ويمكن للجمهور التعرف عليها بسهولة والمفاضلة بينها.
رابعا: المسئولية الخاصة للأئمة:
إذا كان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فريضة عامة شائعة لكل أبناء الأمة، فمن باب أولى أن تكون مهمة الخاصة من العلماء والأئمة وأولى الأمر من أهل العقد والحل. وهذا ما تشير إليه الآيـة الأولى: )وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ( أى جماعة. وكما جاء فى الآية الكريمة: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ(
والمسئولية أمام الله أعظم، والمسئولية أمام الناس والمجتمع أكبر للائمة والقادة بقدر علمهم ومعرفتهم، وبحكم مسئوليتهم وتأثيرهم فى المجتمع، وباعتبار أنهم النخبة القدوة للناس. فإذا لم يكونوا أمناء تحق عليهم أوصاف أحبار بنى إسرائيل، (صنفان من أمتى: إن صلحتا صلحت الأمة وإن فسدتا فسدت الأمة: الأمراء والعلماء).
فهناك أمور لا يصح الأمر والنهى فيها بدون علم وتفقه خاص فى أمـور الدين، وتحتاج لاجتهاد خاص فردى أو جماعى، كذلك يجب على العلماء عدم استخدام علمهم فى لى الحقائق والثوابت (المعلوم من الديـن بالضرورة) لإرضاء الحاكم، أو لدنيا يصيبونها، ويجب عليهم ألا يستشكلوا ويُجهلوا الأمور الثابتة على عامة الناس. كالقول بأن اتفاقية الكويز (مع أمريكا وإسرائيل المحاربتين) حلال، أو القول بالسماح بالخمور لتشجيع السياحة.
ولأن الإسلام لا يعرف الكهنوت، فإن أهل العقد والحل، من أهل قادة الجماعات والأحزاب، والمفكرين الإسلاميين والمتخصصين من الأتقياء المؤمنين فى شتى مناحى العلوم الطبيعية والاجتماعية، عليهم واجب التصـدى بالرأى والمشورة، والأمر والنهى، وعدم ترك الأمور فى يد مجموعة من “العلماء” خاصة بعد أن أصبح العلماء تابعين للسلطان ويعينون من قبله، وترفع درجاتهم وتخفض وفقا لأوامره، مع جهله بأصول الشرع والشريعة.
لذلك فإن مهمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى القضايا الكلية التى تمس المجتمع ككل (التشريعات – السياسات الاقتصادية – والسياسات الداخلية والخارجية) تتوزع على كل هؤلاء: (البرلمان – الأحزاب – الصحف – وسائل الإعلام – والجماعات السياسية – والجمعيات العلمية فى شتى التخصصات) مثلا عنــدما يسعى وزير لردم أجزاء من نهر النيل، فإن القول فى ذلك يكون لعلماء البيئة، الذين يقولون إن ردم جـزء من النهر يؤثر سلبا على مجمل حياة الكائنات به، ويؤثر سلبا على مساراته الطبيعية بما يضر بالبيئة العامة للوادى. إن النظم الاستبدادية التى تضرب المؤسسات الشعبية والأهلية والعلمية, أو لا تحترم آراءها تضرب واحدة من ابرز آليات “الأمر والنهى”، أى آليات إصلاح المجتمع.
كذلك فإن العلم الشرعى فى حد ذاته ليس حكرا على طائفة محددة من العلماء, فإن المفكرين الإسلاميين الذين تفقهوا فى الدين بصـورة عصامية خاصة فى زمن ازدهار المطبعة والمطبوعات، بإمكانهم أن يفتوا فى الدين، فى حدود علمهم، خاصة بعد أن أصبحت مؤسسات إعداد العلماء تحت قبضة الحكام غير الملتزمين بشرع الله. وبالتالى فإن جوهرية (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) تحتم أن يكون النظام السياسى الإسلامى، ملتزما بحرية الرأى والتعبير، وملتزما برعاية وازدهار شتى مؤسسات العمل الشعبى والأهلي والنقابى والعلمى، وعلى رأسها البرلمان الذى له دور رقابى ولا يقتصر على التشريع، ثم الأحزاب والجماعات والهيئات الشعبية كالنقابات، والجمعيات (جمعيات المهندسـين – علماء الطبيعة – الآثار.. إلخ)، وأيضا هيئات الحكم المحلى الشعبى التى تجمع بين الإدارة والرقابة. وأن تكون كل هذه الهيئات بالانتخاب, ومن نافلة القول التأكيد على إعادة الاستقلال للمؤسسات الدينية كالأزهر والإفتاء، بحيث ينتخب العلماء شيوخهم، وتحــرير الأوقاف من سيطرة الدولـة، لأن الأوقاف فى الأصل مؤسسات شعبية.
باختصار فإن ما يسميه الفقه السياسى الغربى (توازن السلطات) هو اختراع إسلامى فى الأصل وأن هيمنة الحاكم (أو السلطة التنفيذية) على مقدرات البلاد والعباد هى بالتحديد ضد أبسط قواعد النظام الإسلامى، واحتكار السلطة أو ادعاء العصمة محرمتين فى الإسلام باتفاق العلماء.
وبالتالى فإن المصلحة والسنن الاجتماعية تقتضى أن تكون هناك جماعات قوية ومستقلة عن السلطات, حتى يمكن “للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر” أن يزدهر وأن تكون هذه الفريضة مشمولة بالضمانات.
وإطـلاق هـذه الحريات لن يؤدى إلى فوضى كما يخشى البعض، لأن الشورى – كما سنفصل فيما بعد – تأتى لتنتهى إلى قرارات بالإجماع أو الأغلبية أو التوافق والتراضى, فتصبح القرارات ملزمة للجميع. وبالتالى فإن إطلاق “الأمر والنهى” يؤدى إلى تفجير طاقات الأمة فى إبداء الرأى والفكر, ثم توحيد هذه الطاقة فى اتجاه التنفيذ بعد اكتساب القناعة الداخلية، التى تعطى للتنفيذ ضمانات الإخلاص والاندفاع الواثق، وليس عن طريق الإكراه، الذى هو طريق وعنوان الفشل فى تطبيق أى سياسة أو قرار.
خامسا: ممارسة الأمر والنهى مع الحكام هو الأهم:
يقصر فقهاء السلطان، وبعض العاملين فى الحقل الإسلامى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الأفراد وفى أمور شخصية، بينما أهم ما فى هذه الفريضة هو ممارستها مع الحكام، لأن الحكام هم الذين يصلحون أو يفسدون المجتمع ككل، ذلك أن انحراف المواطن الفرد يعود بالوبال عليه وعلى دائرة محدودة من المتعاملين معه، فى حين أن انحراف الحاكم يؤدى إلى انحراف المجتمع بأسره، بما يملكه من سلطات وهيمنة عامة على شئون المجتمع.
وقد ذكرنا أن تواصى الناس بعضهم ببعض أمر أساسى لحماية قاعدة المجتمع، ولا خلاف حول ذلك، ولكن الخلاف حول إسقاط هذا “التواصى” مع الحكام والمتنفذين وأصحاب السطوة والصولة والصولجان، خشية العواقب الوخيمة: )يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ( (لقمان: 17), أى ما أصابك من الأمر والنهى. وقد توجه الأنبياء والرسل أول ما توجهوا إلى الحكام وأولياء الأمر لإصلاحهم وإدخالهم فى دين الله، فمنهم من استجاب وأصلح ومنهم من عاند واستكبر وهو الأكثر، ولكن فى كل الأحـوال لم يتخل الرسل عن مجاهدة الحكام طوال مسيرتهم، والمقصود هنا إصلاح الحكم، وحتى يكون الحكم لله.
جاء فى الحديث الشريف: (إذا رأيت أمتي لا يقولون للظالم منهم أنت ظالم فقد تودع منهم)، (أفضل جهاد قولة حق عند سلطان جائر)، (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى أمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، نحن إذن أمام صورة من أرفع صور الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام.
ولن نستزيد فى هذه النقطة رغم جوهريتها، لأنها كانت أساس موضوع دراسة (الجهاد صناعة الأمة) وفيها تفصيل شديد لكل هذه المعانى، استنادا لمئات من الأدلة الشرعية من القرآن والسنة.
سادسا: الأمر والنهى ليس مجرد إبداء النصحية:
ومن خصائص فريضة “الأمر والنهى” أنها ليست مجرد إبداء النصيحة، بل هى تستهدف تغيير المنكر بعمل فعال، وتستهدف الوصول إلى نتيجة، وهى الإصلاح: (من رأى منكم منكر فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان).
نحن هنا أمام حديث جامع يوضح أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يتطابق مع ما نسميه الآن “العمل السياسى”، حتى وإن كان يتضمن المفهوم الأشمل المشار إليه الذى يتضمن شتى مناحى الحياة الاجتماعية والشخصية بين كل الناس بعضهم البعض فى مسلكياتهم الشخصية الظاهرة (لاحظ تعبير “من رأى”) أى أن المسلم لا يتتبع عورات أخيه المسلم، ولكن له الظاهر من سلوكه، وقد قتل الفقهاء هذا الجانب بحثا من حيث آدابه وشروطه، ولكننا نركز – فى هذه الدراسة – على ملامح النظام السياسى الإسلامى. وتغيير المنكر فى هذا الحديث يضع الأساس لمفهوم العمل السياسى, وبالأخص فى مجال تغيير المنكر باليد، وقد ركز العلماء الرسميون فى ردهم على بعض ممارسات بعض الجماعات الإسلامية، على انتفاء حق المواطن فى تغيير المنكر باليد، باعتبار أن ذلك من اختصاص السلطات الرسمية، وخوفا من شيوع الفوضى. والواقع أن هذه حقيقة منقوصة, وربما تنطبق على مسألة إقامة الحدود، أى تطبيق القانون, وهو بالفعل من تخصصات: الشرطة – النيابة – المحاكم. ولكن العمل السياسى أوسع من ذلك، فهناك سياسات للحكومة قد تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وهناك قوانين تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وممارسات حكومية أيضا تقع فى نفس الخانة. وبالتالى فإن عقد المؤتمرات, وتنظيم المواكب والمسيرات, وتدبيج العرائض, والاعتصامات, والإضرابات, والحملات الصحفية, وإسقاط النواب السيئين خلال الانتخابات (إن وجدت انتخابات حرة!), وشن حملات صحيفة وسياسية لإقصاء مسئول تنفيذى أو المطالبة بمحاكمته، كل هــــذه الوسائل من وسائل تغيير المنكر باليد – وقد اختبرناها ومارسناها فى حزب العمل – فى مجال المنكر الذى ترتكبه الحكومة، وهو الأمر الأكثر أهمية فى الإصلاح العام للمجتمع.
وكذلك فيما يتعلق بتغيير التشريعات المنافية للشريعة الإسلامية، من خلال نضال سياسى قانونى من أجل تغييرها، عبر البرلمان (إذا كان منتخبا بشكل حر) أو عبر تنظيم حملة تعبئة للرأى العام من أجل إحداث التغيير المطلوب.
وتغيير المنكر باللسان هو أحد مكونات العمل السياسى (الصحافة – الإعلام – الخطب) ولكنه لا يتوقف على اللسان (الكلام) ولكن باستخدام شتى آليات الضغط المعروفة فى العمل السياسى المعاصر, والتى أشرنا إلى أمثلتها, وبذلك يندمج تغيير المنكر باللسان مع اليد. وحتى تغيير المنكر بالقلب, فهو ليس بعيدا عن العمـل السياسى، لأن تغيير المنكر بالقلب يعنى – فيما يعنى – مقاطعة الظالم وعدم التعاون معه أو التودد له، فهو نوع من المقاطعة الايجابية التى تشعر الظالم بظلمه، وأن ظلمه يؤدى إلى وجود جفوة بينه وبين الناس. وقد مارس العلماء الأتقياء عبر التاريخ نماذج من ذلك، حتى سعى الحكام إليهم من أجل مجرد أن يلتقوا بهم، أو يرضوا بأى منصب من المناصب.
إذن فإن “الأمر والنهى” فى المفهوم الإسلامى ليست كلمة عابرة تقال أحدثت أثرا أم لم تحدث، فإذا جاز ذلك فى المعاملات الشخصية بين الناس، فإنه لا يجوز مع الحاكم، فإذا أصر على منكره، فلابد للأمة أن تواصل ضغوطها عليه من أجل تغييره، أو خلع الحاكم ذاته، إذا تحولت منكراته إلى خط رئيسى فى مجمل السياسات العامة، وإلا فإن المجتمع الإسلامى ذاته سيصبح فى مهب الريح. وقد عزا الأستاذ/ محمد قطب فى كتابه “واقعنا المعاصر” تراجع النموذج الإسلامى فى عهود الأمويين ثم العباسيين ثم العثمانيين إلى تراجع ممارسة فريضة الأمر والنهى, وهو الأمر الذى أدى إلى الانهيار الشامل للنظام الإسلامى فى نهاية المطاف.
سابعا: هل يجب تأسيس جماعات خاصة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
حفل التاريخ الإسلامى بتجارب تأسيس منظمات خاصة تتخصص فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وهو أمر لا غبار عليه من حيث المبدأ، شريطة ألا تحتكر هذه المنظمات هذه الفريضة التى هى سمة خيرية هذه الأمة، والتى هى فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى وإن لم يكن منتميا لأى تنظيم أو هيئة، وهو ما نسميه فى العمل السياسى المعاصر(المستقلين).
وتجربة “الحسبة” فى التاريخ الإسلامى, ودور المحتسب الذى تخصص فى هذا الأمر، عابها أنها كانت منظمة حكومية تتبع الوالى أو الحاكم, لذلك فقد كانت تراقب المحكومين دون الحاكم! وفى التجارب المعاصرة (كالسعودية) عرفت جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, ولكنها تخصصت كما حدث فى التاريخ فى مراقبة المحكومين.
وفى المؤسسات المعاصرة فى مصر “الجهاز المركزى للمحاسبات” و”جهاز الرقابة الإدارية” لمراقبة الهيئات العامة وصغار ومتوسطى الحكام، ولكنهما لا يتعرضا لكبار الحكام، وأيضا يمكن الإشارة بنفس الأوصاف لجهاز الكسب غير المشروع, ورغم هذا القصور فلا بأس من وجود هذه الهيئات فى النظام الإسلامى، ولكن دون أن تحتكرها، فلابد من قيام هيئات شعبية مستقلة عن إرادة الحاكم حتى تستطيع أن تراقبه بحق. وليس بالضرورة أن تسمى هذه الهيئات باسم “الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر”, المهم أن تقوم بجوهر الوظيفة، ويجب ألا تحتكر هذه المهمة منظمة أهلية واحدة.
والحقيقة أن شــمول مفهوم “الأمـر والنهى” – فى اعتقادى – يجعل من الخطأ أن يتخصص فيه أحد أو هيئة، بل هو داخل فى تخصصات وعمل شتى الهيئات الحكومية والشعبية, ولذلك فإن هذه المهمة كما ذكرنا من قبل تتوزع على: البرلمان – الأحزاب والجماعات السياسية – وسائل الإعلام – النقابات – الجمعيات العلمية، كل فى مجال تخصصه, مع ملاحظة أن الأحزاب السياسية الإسلامية والتى تمثل فى البرلمان هى التى تنشط فى إطار التصورات العامة لتنظيم المجتمع، وبالتالى فهى الأكثر أهلية فى التصدى لمهمة الأمر والنهى فى القضايا الكلية، ولكن دون أى احتكار, فالأمر والنهى فريضة عامة على كل المسلمين, لا يحتكرها أحد أو جهة أو تنظيم أو حكومة, وهذا يضعنا على بداية الطريق للحديث فى النظام الشورى فى الإسلام (ذلك أن هناك تداخلا حتميا, وعلاقة عضوية بين مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, والشورى هى الطريق الوحيد لتنظيم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) توفيق الشاوى: فقه الشورى صـ 59.
وهذا ما سنأتى إليه فى الآية التالية مباشرة حول الشورى، التى وردت بعد ذلك، وفقا لترتيب الآيات فى القرآن الكريم, وفى سورة آل عمران بصورة تعكس الترتيب المتراكم للتصور السياسى الإسلامى، وهو إحدى الحكم التى نكتشفها فى ترتيب القرآن على النحو الحالى، رغم أنه ليس ترتيب نزول الآيات. فبعد توضيح أن “الأمر والنهى” هو الجهاز العصبى والعظمى للنظام، يأتى نظام الشورى وكأنه الشحم واللحم والأعضاء وسائر ملامح الجسد )فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً(.
ولكن قبل الانتقال لمفهوم نظام الشورى فى الإسلام لابد من توضيح هذه النقطة:
ثامنا: رفض الحزبية المقيتة:
نهج الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يكرس الأسلوب الرشيد فى ممارسة العمل السياسى, ويرفض الحزبية الممجوجة والمقيتة، والمقصود بها ذلك التحزب لحزب محدد أو جماعة أو قبيلة بالحق والباطل ومعاداة الآخرين, سواء أكانوا فى الحكم أو المعارضة بالحق والباطل، وهذا أسوا ما يصيب الحياة السياسية الحزبية المتعددة بالفساد والعفن. وكذلك أن تكون المواقف متغيرة حسب المصالح والأهواء وليس على أساس معايير مبدئية.
أما نهج الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيلزم المسلم بجادة الصواب, فلا يؤيد إلا معروفا, ولا يعارض إلا منكرا, ويزن موقفه من كل حدث أو واقعة أو قرار أو سياسة بمعايير وضوابط الشـرع، وليس بالأهواء أو بالرغبة فى إحراج الحاكم, أو الرغبة فى تملقه, ولا الرغبة فى التميز عن المعارضين الآخرين أو التقرب منهم.. إلخ, وهى الحكمة الشائعة: “نقول للمحسن أحسنت وللمسيىء أسأت”.
مع ملاحظة أنه فى السياسات العامة, وبالأخص فى مجال الموقف العام من نظام سياسى معين، فلا يجوز تحديد المواقف بالقطعة أو بشكل انتقائى، فى كل واقعة بمعزل تام عن باقى الوقائع الأخرى. فإذا كان السياق العام لنظام الحكم فى إطار التبعية وموالاة أعداء الأمة, فيجب عدم المبالغة إذا اخذ موقفا جزئيا على خلاف ذلك هنا أو هناك. وإذا كان السياق العام لنظام الحكم فى إطار استبدادى فيجب عدم التهليل لأى خطوة جزئية هنا أو هناك, ولنضرب مثلا توضيحيا فى مصر فإن النظام فى ظل حالة الطوارئ لمدة ربع قرن اعتقل قرابة ربع مليون مواطن منهم 25 ألف فى المعتقل بدون تهمة منذ أكثر من 15 عاما, ويتعرضون للتعذيب بما فى ذلك الكهرباء والتحرش الجنسى (وفقا لتقرير المجلس الحكومى لحقوق الإنسان برئاسة بطرس غالى!) فى هذا السياق لا يمكن أن نعير انتباها لخبر يظهر أحيانا بالصحف تحت عنوان (موقف إنسانى لوزير الداخلية!) ويتضح أنه سمح لمعتقل بزيارة أمه التى تحتضر لمدة ساعتين والعودة مرة أخرى للمعتقل!!
إذن فى مجال السياسة العامة لا يصح أن نعمم شعار “نقول للمحسن أحسنت وللمسيىء أسأت” إلا إذا ربطنا الواقعة الجزئية بالحالة العامة حتى لا نسقط فى موقع النفاق.
أى لابــد من تحديد الموقف من النظام الحاكم وعلاقته بالصلاح والفساد بشكل عام قبل تحديد الموقف من واقعة محددة أو تشريع محدد، أو سياسة معينة.
* * * * *

الهوامش

1 – تفسير القرآن الكريم – الفاتحة والبقرة – أحمد حسين – الطبعة الثانية – المركز العربى الإسلامى للدراسات – القاهرة 1992 ص 162
2 – فى ظلال القرآن – سيد قطب – الطبعة الشرعية السابعة عشرة – دار الشروق – القاهرة 1990 – المجلد الأول – ص 112, 113
3 – تفسير المنار – الشيخ محمد عبده – السيد محمد رشيد رضا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1990 – الجزء الأول ص375, 376, 377
4 – تفسير الطبرى – المجلد الأول – الجزء الأول (9) مجلة كتاب الشعب – دار الشعب – القاهرة 1987 ص 565
5 – التفسير الواضح – الجزء الأول – محمد محمود حجازى – مطبعة دار الكتاب العربى – 1951 – القاهرة ص 55
6 – زهرة التفاسير – محمد أبو زهرة – دار الفكر العربى – القاهرة – الجزء الخامس – ص396
7 – تفسير ابن كثير – الجزء الأول – دار إحياء الكتب العربية – عيسى البابى الحلبى وشركاه – القاهرة ص 167, 168
8 – تفسير القرطبى – المجلد الأول – الطبعة الثانية – دار الغد العربى – القاهرة – 1989 ص 602
9 – راجع فى دراستى (الجهاد صناعة الأمة) مئات الآيات المتعلقة بالسلطة السياسية: الجهاد صناعة الأمة – بحث فى فريضــة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر – القاهرة – الطبعة الثانية 2003
10- محمد أبو زهرة – مرجع سابق ص 868
11- تفسير ابن كثير – مرجع سابق ص 298
12- من الحديث النبوى الشريف الثانى فى الأربعين النووية – شرح الأربعين النووية – يحيى بن شرف الدين النووى. المكتبة التوفيقية – القاهرة – ص 13
13- محمد أبو زهرة – مرجع سابق ص 883
14- أحمد حسين – مرجع سابق ص 348
15- القرطبى – مرجع سابق ص 1157
16- ورد فى تفسير المنار – مرجع سابق ص 381
17- المنار – مرجع سابق ص 389
18- محمد أبو زهرة – مرجع سابق ص 907 – 908
19- مزيد من التفصيل حول آيتى التدافع فى دراسة الجهاد صناعة الأمة – مرجع سابق ص 167 إلى ص 174
20- سيد قطب – مرجع سابق – ص291
21- سيد قطب – مرجع سابق – ص 292
22- أبو زهرة – مرجع سابق – ص 946 – 952
23- أحمد حسين – مرجع سابق – ص 371

الشورى هى النظام السياسى فى الإسلام

نرتفع صعودا مع كتاب الله فى الآيات المتعلقة مباشرة بطبيعة وخصائص نظام الحكم فى الإسلام, وقد وصلنا الآن – وفقا لترتيب المصحف فى صورته التى بين أيدينا وليس وفقا لترتيب النزول – إلى سورة آل عمران وإلى الآية رقم 159. ونرى الترتيب تصاعديا بصورة ملفتة للانتباه: أولا العدل أساس الحكم ، ثم باقى شروط الحاكم بعد العدل, ثم ضمان حرية المجتمع وعدم الإكراه, ثم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وهو عصب الحياة السياسية والاجتماعية ثم نصل إلى المركب النهائى, وهو نظام الشورى الذى يجمع كل ما سبق ويقوم عليه ويضع الدستور العام للأمة.

)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( (آل عمران: 159).
ونبدأ بالتفسير المباشر للآية ومناسبة نزولها. جاءت هذه الآية فى سياق عدد من الآيات حول غزوة أحد والدروس المستفادة منها. وتشير هذه الآية لأحداث غزوة أحد وما حدث فيها من محنة للمؤمنين. فى البداية كان رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عدم الخروج لملاقاة المشركين وانتظارهم فى المدينة حيث يكون المسلمون فى وضع أكثر تحصينا، ولكنه نزل على رأى الأغلبية وخرج لملاقاة الأعداء خارج المدينة، كذلك وقعت أثناء المعركة أخطاء قاتلة أدت إلى موقف بالغ الصعوبة لجيش المسلمين. وهنا يدعو الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يعفو عن أخطاء المسلمين, وأن يستغفر لهم الله, وأنه رغم خطأ رأيهم وسوء تصرف البعض الذى أدى إلى نتيجة سلبية فى المعركة, فعلى الرسول أن يواصل سنة التشاور. وأنه بعد التشاور فلابد من العزيمة الماضية فى التنفيذ, لا فرق بين أغلبية وأقلية، ولابد من التوكل على الله, لأنه مهما أخذ المرء من أسباب فإن الظروف المعاكسة أكبر وأكثر من أى توقعات، فلابد من الاعتماد الكلى على الله سبحانه وتعالى, لأنه بيده الأمر كله من قبل ومن بعد.
توجيه سياسى:
أولا: نلاحظ أن هذه الآية جاءت فى سياق آيات متوالية حول أحكام القتال والجهاد وأمور السياسة, بدءا من الآية 139 )وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ( حتى الآية رقم 175 )إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(. إذا فإن أمر الشورى هنا ينصرف بشكل مباشر وبلا لبس حول أمور الحكم، والحرب والسلام أهم أمور الحكم. وهذه مناسبة لنقول للذين يرفضون المرجعية الدينية فى الأمور السياسية, ويجرون تعديل الدستور على أساس ذلك بأنه يخالفون صريح نصوص القرآن.
ثانيا: تبدأ الآية بإضافة صفات جديدة للحاكم أو القائد, فبعد العدالة والكفاءة والعلم والسلامة البدنية, نجد هنا الصفات الأعمق التى يصعب تصنيفها بشكل مادى, ولكنها محسوسة وملموسة, خاصة فى لحظة الأزمات والمصاعب الكبرى, وهى سعة الصدر والحلم والعفو، أن يتسع صدر القائد للجميع, وأن يلين قلبه لهم بما أودعه الله فى قلبه من رحمة، ولأن اللوم على الماضى ييئس النفس من غير جدوى وهو رجعة إلى الوراء، والقائد الحكيم يتجه إلى الأمام، ولا يلتفت إلى ورائه إلا بمقدار ما ينير له السبيل أمامه. إذن اللين فى موطنه مطلوب من القائد, خاصة فى ساعة العسرة واللين عكس الفظاظة وهى خشونة المظهر والعشرة السيئة وسوء القول وتجهم الوجه والغلظة فى الباطن وقسوة القلب. وقد استفاضت التفاسير فى الحديث عن أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولكن هذه الآيات ومثيلاتها وإن كانت تتحدث إلى الرسول وعنه إلا أنها – كما يرى كبار المفسرين – تقدم لنا المعايير والمبادىء والقيم والمثل الأعلى الذى يتوجب على المؤمنين أن يتجهوا صوبه قدر الإمكان. وفى موضوعنا هذا نحن نشتق المبادىء الحاكمة للنظام السياسى فى الإسلام من مثل هذه الآيات, ولا نتعامل معها وكأنها رصد تاريخى للسيرة النبوية )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً(. وإذا كان النبى مختارا من الله, وهو اصطفاء ربانى فكيف بالنسبة لحكام غير مختارين من الله وغير معصومين, هؤلاء يجب أن ينتخبهم الشعب بناء على معرفة وممارسة على مدار سنوات. والفظ الغليظ القلب من الصعب أن يصل للحكم عن طريق الانتخاب كقاعدة عامة.
)وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ( وصفة الاستغفار لا يفهمها منظروا العلوم السياسية المعاصرة, الذين ينقلون النظريات من الغرب. والاستغفار ليس احتكارا للنبى, وإن كان استغفاره هو الأعظم والأكثر نفاذا عند الله, ولكن المؤمنين جميعا يستغفرون لبعضهم البعض, ويدعون لبعضهم البعض, وهذا ما يخلق جماعة متحابة فى الله, لا يعرفها ولا يشعر بها غير المؤمنين. القائد لا يتصيد الأخطاء, ولكن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يغفر له وللمؤمنين. وهى رابطة روحية ترتقى بالجماعة, وتجعلها أكثر تلاحما, وأكثر قدرة على مواجهة الصعاب, وأكثر قدرة على الانجاز.
ثالثا: الشورى مُلزمة: شغل فقهاء السلاطين الأمة على مدار سنوات بل وقرون عديدة بقضية الشورى, وهل هى مُلزمة للحاكم أم مُعلمة, أى مجرد رأى استشارى لديه مطلق الحرية أن يأخذ به أم لا؟
والحقيقة أن طرح هذا الموضوع للنقاش أو للاجتهاد مرفوض من حيث المبدأ، لأنه لا اجتهاد مع النص. إن هؤلاء “الفقهاء” لا يتساهلون إلا فى الشورى، ولكنك تجدهم سيوفا قاطعة إذا كان الحديث عن اللحية أو الملبس, بل إنهم يمارسون أقصى التشدد فى أمور تدخل فى مجال المباح تحت شعار أنها بدعة، ويكونون فى منتهى الشدة والغلظة مع المواطنين الضعفاء. بينما لا تسمع لأحد منهم حسا أو همسا تجاه الحاكم حتى على طريقة الشورى غير الملزمة. فهو فى هذه الحالة سيقول لك إن الشورى يجب أن تكون سرية فى لقاءات مغلقة مع الحاكم. ولكن ماذا إذا لم يستجب عبر سنوات وعشرات السنين، فسيعود ويقول لك أن الشورى غير ملزمة.
والواقع أن المسلمين تدهورت أحوالهم حينما تركوا كتاب الله وسنة نبيه, وأخذوا يتحدثون عن الشيخ فلان أو الفقيه فلان. ونسوا أن الحكم إذا كان قاطعا وواضحا فى كتاب الله وسنة نبيه فلا مجال للاجتهاد.
لماذا فى هذه الآية اللين مطلوب وواجب, ولماذا الفظاظة وغلظة القلب مرفوضة, ولماذا العفو ضرورى, وكذلك الاستغفار, أما الشورى فهى غير ملزمة. لماذا كل أوامر الله فى الكتاب ملزمة, ولماذا اخترتم الشورى من دون أحكام الله جميعا لتحولوها إلى ألعوبة فى يد الحاكم. لماذا اللحية واجبة وفرض, والشورى نافلة وغير ملزمة, بينما التزم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كافة الأمور التى لم يتعرض لها الوحى.
لا نعتقد أن هذا إشكال فكرى أو فقهى بقدر ما هو خضوع صريح وواضح للسلطان, وما يعنى ذلك من مكاسب دنيوية, ومن ثم لتبرير هذه الأوضاع المؤسسية المكتسبة فى ظل هيلمان السلطة.
وقد أشاع وعاظ السلاطين هؤلاء أن رأيهم بأن الشورى غير ملزمة هو الرأى الراجح، وهذا غير صحيح والعكس هو الصحيح.
القرطبى:
يقول القرطبى فى تفسيره: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وأضاف: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وأشار إلى أن هذه الشورى تكون فيما لم يأته فيه الوحى (أى الرسول عليه الصلاة والسلام). وروى عن الحسن البصرى والضحاك أنهما قالا أن الهدف من هذه المشاورة أن تقتدى بها الأمة من بعد الرسول لأنه ما كان ليحتاجها وهو معتمد على الوحى. أى أننا أمام تشريع ثابت ودائم. وأورد القرطبى عددا من الأحاديث التى تؤكد هذا المعنى: (ما ندم من استشار ولا خاب من استخار), (ما شقى قط عبد بمشورة وما سعد باستغناء رأى). وأشار بعد ذلك إلى التزام الخلفاء الراشدين بالشورى وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم لأفضل ما يحضر بهم.(1)
محمد عبده:
وفى تفسير المنار نقرأ: أن رسوخ السلطة الشخصية فى مراحل تدهور المسلمين, جعل البعيد عن المسلمين وكذا القريب منهم يظن أن السلطة فى الإسلام استبدادية شخصية، وأن الشورى محمدة اختيارية فيا لله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك أمرا ثابتا مقررا, ويأمر نبيه المعصوم بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم فى الشورى يوم أحد، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها, وهم المخاطبون فى القرآن بالأمور العامة. هذا وقد بلغ ملوكهم من الظلم والاستبداد مبلغا صاروا فيه عارا على الإسلام بل على البشر كله، إلا من يتبرأ منهم ويبذل جهده فى راحة العالم من شره.(2)
سيد قطب:
ويقول الشهيد سيد قطب: وبهذا النص الجازم: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( يقرر الإسلام هذا المبدأ فى نظام الحكم – حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم – هو الذى يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا فى أن الشورى مبدأ أساسى، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه. أما شكل الشورى والوسيلة التى تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى – لا مظهرها – فهى من الإسلام.
ويشير بعد ذلك إلى مغزى نزول هذه الآية بعد محنة أحد ورغم أن الشورى توصلت لقرار خاطىء ليؤكد الأهمية القصوى للشورى (لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ).(3)
أحمد حسين:
ويقول أحمد حسين فى تفسيره: إن الشورى هى أساس نظام الحكم فى الإسلام, وحسبنا أن نقدر الظروف التى نزل فيها هذا الأمر ليظهر لنا كم هى أساسية وحيوية “قاعدة الشورى” فقد نزل هذا الأمر الربانى عقب عصيان بعض الصحابة لأوامر النبى، بل إن المتاعب التى حدثت فى موقعة أحد قد جاءت نتيجة مشاورة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأصحابه وإتباعه لمشورتهم, فقد كان من رأيه أن لا يبارح المدينة، ولكن أغلبية المحاربين أشاروا بالخروج لملاقاة المشركين, فكان هذا الذى كان. ومع ذلك فقد أمره الله أن يعفو عنهم وأن يستغفر لهم، وأن يشاورهم فى الأمر.(4)
ابن كثير:
ويروى ابن كثير فى تفسيره: عن الشورى فى حياة رسول الله بالتشاور حول غزوة بدر من حيث المبدأ, ثم التشاور حول مكان التمركز من الزاوية العسكرية, والتشاور فى أحد, والخندق, وفى الحديبية, وحتى فى حادث الإفك, أى فى كل ما لم ينزل فيه وحى أو حتى ينزل الوحى. وينقل عن على بن أبى طالب قال: سئل الرسول عليه الصلاة والسلام عن العزم؟ قال “مشاورة أهل الرأى ثم اتباعهم”.(5)
البغوى:
ويقول البغوى فى تفسيره: وشاورهم فيما ليس عندك فيه من الله تعالى عهد. وينقل رواية عن عائشة رضى الله عنها (ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم).(6)
محمد أبو زهرة:
ويقول محمد أبو زهرة فى تفسيره: رغم كل ما حدث فى واقعة أحد فقد أمر الله رسوله (بمشاورتهم لأن المشاورة إن أخطأت فيها النتيجة مرة فصوابها كثير. والشورى أصل من أصول الحكم فى الإسلام) وفى مجال إلزام الشورى يقول: إن الأكثرين على أنه أمر إلزام بدليل التزام النبى صلى الله عليه وسلم للمشاورة فى كل أمر يمس مصلحة المسلمين فى السلم والحرب, ولم يكن تبليغ لرسالة ربه، وأن أفعال النبى صلى الله عليه وسلم تعليم لنا. ومن المتفق عليه أن الشورى لازمة بالنسبة لغير النبى صلى الله عليه وسلم, ولذلك قال تعالى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( (الشورى: 38) أى الأمر الجامع للمسلمين يكون بالشورى وتبادل الآراء، والتعاون والإخلاص فى القول، ولذا يقول النبى صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”. والنصيحة لعامة المؤمنين هى بالشورى التى تبدى فيها الآراء لله وحده، لا لشىء سواه، ولا لطلب الجاه عند الناس. ولقد قال البخارى:”وكان الأئمة بعد النبى صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم فى الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها”.(7)
ونرى هنا أن الشيخ أبو زهرة يؤكد أن الرأى الراجح والمتفق عليه أن الشورى لازمة.
خالد الفهداوى:
ومن الكتاب والمفكرين الإسلاميين المعاصرين نجد “د.خالد الفهداوى” يقول: “الشورى فى القرآن هى النهج اللازم لأمير المؤمنين, وقد تعطلت ظاهرة أهل الشورى التى كانت فى قيادة سلطان المسلمين الرشيد، ولذلك أصبحت كلمة الشورى كأنها ندب أخلاقى فى قرارات السلطان، أو فى علاقات المجتمع. بينما الشورى بالشريعة إجراء واجب، وإتباع ما تجمع عليه الآراء طاعة واجبة”. وهو ينتهى إلى القاعدة التالية: (أهل الشورى هم المؤتمنون على مصالح الأمة، وينبغى للسلطة التنفيذية أن تلتزم بقرارهم، فما خاب من استشارهم، وأصل الحكم فى الإسلام, وطريقة التداول ينبغى أن تتم عن طريق الشورى، ولا مانع من أن يتأطر على هيئة مجلس، وأن مصيبة المسلمين كانت بالتولى عن الشورى إلى الوراثة).(8)
سميح عاطف الزين:
ويقول سميح عاطف الزين: إن الشورى حق لجميع المسلمين على الخليفة، فلهم عليه أن يرجع إليهم فى أمورهم التى تجب فيها المشورة. قال تعالى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(. ورجوع الخليفة لرأى المسلمين واجب فيما لا نص عليه, أو فيما لا يعرف حكم الله فيه. قال تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ(. فالأمر فى الآية يقتضى الوجوب. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع للناس يستشيرهم.(9)
عبد الرحمن عزام:
ويقول الأستاذ عبد الرحمن عزام: “كره الإسلام أن تقوم الدولة على السيطرة والجبروت من شخص أو جماعة، وأرادها أن تقوم على الرضا والتعاون، فأمر بالشورى: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( فجعل الشورى مبدأ عاما لا مفر من إقراره, واعتباره فى كل دولة أو جماعة إسلامية فى أى مكان وأى زمان وأى قوم, وقد دلت تجارب البشر على اضطراد هذا المبدأ ونفعه”.(10)
توفيق الشاوى:
ويقول د.توفيق الشاوى فى كتابه العمدة “فقه الشورى والاستشارة”, وهو من أهم وأشمل ما كتب حديثا حول مسألة الشورى وبخصوص هذه الآية التى نتوقف أمامها الآن: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( يقول: ومعنى ذلك أن الشورى واجبة وملزمة حتى لو كان هناك احتمال فى أن يكون رأى الأغلبية خاطئا أو ضارا، لأن الضرر الناتج عن خطأ الأغلبية أخف من الضرر الناتج عن ترك الشورى, واستبداد الحكام بالرأى دون الالتزام برأى عامة الناس وجمهورهم، تأكيدا لهذا المبدأ أمر الله رسولنا صلى الله عليه وسلم بها رغم أنه كان يتلقى الوحى من الله سبحانه وتعالى، وأراد الله بذلك أن يكون الالتزام بالشورى أمرا صريحا ونصا خالدا فى القرآن الكريم”.(11)
محمد الغزالى:
الشيخ محمد الغزالى حباه الله بمواهب المحامى المدافع عن دين الإسلام, والغيور عليه من أى طين يعلق به من الآراء والأفكار الخاطئة, التى تشوه صورته المنيرة, وحول مسألة الشورى يقول: “إن الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهى بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء”.
ويضيف: “ليس لمخلوق أن يفرض على أمة رأيه، وأن يصدر فى أحكامه واتجاهاته عن فكرته الخاصة غير آبه لمن وراءه من أولى الفهم وذوى البصيرة والحزم. ومهما أوتى رجل من زيادة فى مواهبه، وسعة فى تجاربه، وسداد فى نظره، فلا يجوز أن يتجهم للآراء المقابلة، ولا أن يلجأ لغير المناقشة الحرة والإقناع المجرد، فى ترجيح حكم على حكم، وتغليب رأى على رأى”.
وحول الآية الكريمة التى تتضمن: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( يقول: القصد شاورهم فيما ليس عندك من الله فيه عهد، من شئون الدنيا وسياسة الحرب والسلم، لتستظهر برأيهم وتستعين بخبرتهم، فيتمخض لك الحق الخالص، ثم إن هذا تطييبا لقلوبهم وتدعيما لأشخاصهم مما يجعلهم عليه أعطف وأحب.. ولتستن به من بعده الحكام فلا يهملوا الرعية وينفردوا بالنظر فى تدبيرها. واتفق العلماء على أن كل ما نزل فيه من الله وحى لم تقع فيه مشورة، فهو حكم لا معقب له”.
ويقول فى موضع آخر: “الأمة وحدها هى مصدر السلطة، والنزول على إرادتها فريضة، والخروج على رأيها تمرد.. ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك”, “وأخطأ من المفسرين من وهم أن الشورى غير ملزمة، فما جدواها إذن؟ وما غناؤها فى تقويم عوج الفرد إذا كان من حقه ألا يتقيد بها؟ وأين فى حياة الرسول وسيرة خلفائه ما يدل على أن الحاكم خرج على رأى مستشاريه ومضى فى طريقه وحده؟”.(12)
عبد القادر عودة:
والشهيد عبد القادر عودة لا يقل وضوحا, فعنده “الشورى دعامة من دعائم الإيمان، وصفة من الصفات المميزة للمسلمين، سوى الله بينها وبين الصلاة والإنفاق فى قوله: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( (الشورى: 38). فجعل للاستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها وأظهرها، وهى إقامة الصلاة والشورى والإنفاق.
ويضيف: الشورى إذن فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين. وروى عن الرسول أنه لما نزلت: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( قال: “أما إن الله ورسوله لغنيان عنها – أى عن المشورة – ولكن جعلها الله رحمة لأمتى فمن استشار منهم لم يعدم رشدا, ومن تركها لم يعدم غيا”. وفى هذا الحديث حض شديد على الشورى. وقد تنبه الفقهاء لهذا كله ولم يفتهم ما تحمل هذه النصوص جميعا من المعانى, فقرروا أن الشورى من أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها، ومن عزائم الأحكام التى لابد من نفاذها، ورتبوا على ذلك أن من ترك الشورى من الحكام فعزله واجب دون خلاف”.(13)
أحمد على الإمام:
ومن أهم الكتب الحديثة عن الشورى كتاب د. أحمد على الإمام من السودان, وهو يستعير هذا التعريف الجامع للشورى من د.محمد سعيد رمضان البوطى (رجوع الإمام أو القاضى أو آحاد المكلفين فى أمر لم يستبن حكمه بنص قرآنى أو سنة أو ثبوت إجماع إلى من يرجى منهم معرفته بالدلائل الاجتهادية من العلماء المجتهدين, ومن قد ينضم إليهم فى ذلك من أولى الدراية والاختصاص). ود. الإمام يؤكد إلزامية الشورى, ومن أدلته فى ذلك ما ورد عند ابن تيمية فى كتابه “السياسة الشرعية”, من أن الشورى لازمة من لوازم الحكم الصالح وقوله بأنه (لا غنى لولى الأمر عن المشاورة) استنادا لذات الآية التى نتوقف أمامها الآن ومنها: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ(.
ويضيف د. الإمام: “وهكذا يأمر الله تعالى فى هذه الآية رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وهو أمر للوجوب كما يدل السياق، ولا صارف للوجوب، وعلى الوجوب مذهب المالكية مع عموم ما يتشاور فيه”.
ويقول الإمام النووى:”واختلف أصحابنا هل كانت الشورى واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كانت سنة فى حقه كما فى حقنا؟ والصحيح عندهم وجوبها، وهو المختار الذى عليه جمهور الفقهاء ومحققو الأصول أن الأمر للوجوب” الإمام النووى فى شرح صحيح مسلم.
كما قرر الإمام ابن حجر العسقلانى أن الصحيح المختار هو وجوب الشورى (فتح البارى).
وعلى ذلك أيضا مذهب الأحناف حيث يقول الإمام الجصاص فى تفسير قوله تعالى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( إن هذا يدل على جلالة موقع الشورى لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدل على أننا مأمورون بها. (الجصاص: أحكام القرآن).
وهذا ما ذهب إليه الإمام الرازى حيث يقول: “ظاهر الأمر الوجوب فى قوله تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ( ” وهو يقتضى الوجوب”. (الرازى: التفسير الكبير).(14)
محمد الطرطوشى:
ويرى محمد بن الوليد الطرطوشى, وهو من أبرز فقهاء السياسة فى تاريخ الفقه, أن المشاورة والنصيحة من أساس المملكة وقواعد السلطنة. ويرى أن من أقبح ما يوصف به الرجال ملوكا كانوا أو سوقة، الاستبداد بالرأى وترك المشورة. المشاورة من القواعد الدستورية التى أوجبتها الشريعة. فهى للسلطة ضرورية, لكى تكشف عن عيوبها وسلبياتها فتتجنب الوقوع فى أخطاء فاحشة قد تؤدى إلى التلف والهلاك، عند الاستنكاف عن استماع أقوال المستشارين الذين ينظرون إلى الأمور بمنظار مختلف عن نظر السلطة, فيرون من النقائص ما لا تراه السلطة فى نفسها.
ويؤيد الطرطوشى ما قيل من أن أصل سوء الخلق مطالبة غيرك أن يوافقك دون أن تطالب نفسك بموافقة رأى غيرك. وسبب اختلاف الآراء هو اختلاف التجارب بين الناس، وبسبب تفاوت مستوى الألباب حتى بين أهل الفكر. وهذا القول الرشيد فى عدم توافق الآراء يستوجب احترام حرية رأى الآخرين, ومن ضمنها حرية المعارضة التى تأتى عن طريق المشورة والنصيحة من جهة وحق الشكوى ورفع المظالم من تصرفات الولاة والعمال من جهة أخرى, باعتبارهم حزبا حاكما بالمفهوم المعاصر.(15)
ويؤكد الطرطوشى وهو من أهم العلماء الذين سبقوا ابن خلدون فى وضع علم السياسة والاجتماع فى كتابه “سراج الملوك” يؤكد أهمية تشاور الحاكم مع العلماء: “إن العلم عصمة الملوك والأمراء، ومعقل السلاطين والوزراء، لأنه يمنعهم من الظلم، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية، فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويكرموا حملته، ويستبطنوا أهله”.(16)
وجاء عند أبى عبد الله ابن الأزرق فى كتابه بدائع السلك قول الطرطوشى: “أن المشورة هى مما تعده الحكماء من أساس المملكة، وقواعد السلطنة، ويفتقر إليها الرئيس والمرؤوس”. وأيضا قول ابن العربى:”المشاورة أصل الدين، وسنة الله فى العالمين، وهى حق على عامة الخليقة، من الرسول إلى أقل خلق بعده فى درجاتهم، وهى اجتماع على أمر، يشير كل واحد برأيه، مأخوذ من الإشارة”.
ومن حكمة مشروعية الشورى أمور:
1- الأمن من ندم الاستبداد بالرأى الظاهر خطؤه، ففى الشهاب: ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار.
2- إحراز الصواب غالبا.
3- ازدياد العقل بها وإحكامه، قال الطرطوشى: المستشير، وإن كان أفضل رأيا من المستشار، فانه يزداد برأيه رأيا كما تزداد النار بالسليط ضوءا.
4- الفوز بالمدح عند الصواب، وقبول العذر عند الخطأ.
5- استعانة التدبير بها عند التقصير عنه.
6- التجرد بها عند الهوى الساترة حجبه، لوجود الصواب، وإن كان هناك عقل ورشاد.
7- بناء التدبير بها على أرسخ أساس، والعكس بالعكس.
8- استمناح الرحمة والبركة.
9- دلالة العمل بها على الهداية والسداد.
10- وجد أن الصواب بها عند إشكاله.
ابن حزم:
وقال ابن حزم: “وإذا نزلت بالسلطان معضلة ليس عنده فيها يقين، شاور من أصحابه وولاة جنده، من يرجو عنده فرجا من ذلك، ويشاور فى الحروب أهل الحرب، وسياستها، ويسأل عن كل علم أربابه، ولا يتكل على رأى أحد، فإذا انقضى ما عندهم، أنفذ مما سمع منهم”.(17)
الجوينى:
ويقول الإمام الجوينى بـ “وجوب مراجعة العلماء فيما يأتى ويذر, فإنهم قدوة الأحكام وأعلام الإسلام وورثة النبوة وقادة الأمة، وسادة الملة، ومفاتيح الهدى ومصابيح الدجى، وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا، ذو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أوامرهم، والانكفاف عن مزاجرهم”.(18)
عبد الله النفيس:
ويقول د.عبد الله فهد النفيس: سنلاحظ أن الفقهاء اختلفوا فى هذا الأمر فبعضهم يرى الشورى ملزمة وآخرون يرونها معلمة على سبيل الندب, غير أن الرأى الراجح بين العلماء – حسب د. عبد الحميد متولى كمثال – هو القائل بأن الشورى ملزمة وواجبة على الإمام, استنادا إلى آيات الشورى وكثرة لجوء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاستشارة، وفى مقدمة علماء هذا العصر الذين يرون وجوب الشورى وفرضيتها الأستاذ الإمام محمد عبده والأستاذ العلامة المحقق الشيخ عبد الوهاب خلاف”.(19)
على بن حاج:
ويقول الشيخ على بن حاج: الشورى فريضة سياسية, ولذلك ذكرت بين فريضتين, فريضة تعبدية وفريضة اجتماعية. قال تعالى:)َالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(.(20)
عبد السلام ياسين:
ويقول الشيخ عبد السلام ياسين: “إن البلاء بدأ بالملوك شر بداية, وجثم على صدر الأمة الحكم الوراثى الذى لا نزال نعانيه. والوراثة مناط البلاء لأنها تعنى غياب اختيار الأمة، وعزلها عن أمرها الذى فرض الله أن يكون شورى”.(21)
أحمد محمد جمال:
ويقول أحمد محمد جمال أستاذ الثقافة الإسلامية فى جامعة الملك عبد العزيز: إن الشورى من أركان الحكم الإسلامى.. وليس أدل على ضرورة التزام ولاة الأمر فى الدولة الإسلامية بمبدأ الشورى من توجيه القرآن الكريم لنبى الإسلام نفسه، وهو من هو صوابا وحكمة وعصمة، إلى مشاورة أصحابه، وتبادل الآراء ووجهات النظر معهم، فيما جل أو يدق من شئون المسلمين. وذلك فى قوله تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( وجعل سبحانه من سجايا المسلمين وصفاتهم البارزة أن: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(.(22)
أبو بكر القادرى:
ويقول أبو بكر القادرى: “إن الإسلام يفرض الشورى ويحتمها على المسلمين، فالقرآن الكريم يطلبها بصيغة الأمر الواجب، فتقول الآية الكريمة الواردة فى سورة آل عمران مخاطبة الرسول الأمين عليه السلام: )فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ( ويمدح الله المؤمنين الصادقين فى إيمانهم فتقول الآية الكريمة الواردة فى سورة الشورى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(. الاستبداد والإسلام لا يلتقيان ولا ينسجمان أبدا، فتسيير الأمور فى هذه الحياة حسب المنطق الإسلامى، لابد أن ينهج المنهج الشورى, وأن أقوال العلماء والأمراء والحكام قابلة للخطأ والصواب، والمرجع فى كل ما يقولون، وما يصدر عنهم، هو كتاب الله، وسنة رسوله، وما أجمعت عليه الأمة الإسلامية. والمستجدات التى تستجد فى حياة الأمة الإسلامية، لابد أن يرجع فيها إلى أولى العلم الصالحين، الثابتة عدالتهم وعلمهم وصدقهم مع الله أولا وأخيرا”.( 23)
ابن عربى:
وجاء فى أحكام القرآن لابن عربى: “الشورى ألفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا. وقد قال حكيم: إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن برأى لبيب أو مشورة حازم, ولا تجعل الشورى عليك غضاضة, فإن الخوافى نافع للقوادم، كذلك مدح الله المشاور فى الأمور، ومدح القوم الذين يمتثلون ذلك، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه فى الأمور المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك فى الآثار كثير، ولم يشاورهم فى الأحكام, لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام: من الفرض، والندب، والمكروه، والمباح، والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله به علينا فكانوا يتشاورون فى الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة, وإن أول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبى بكر والأنصار. وقال عمر: نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. وتشاوروا فى أمر الردة، فاستقر رأى أبى بكر على القتال. وتشاوروا فى الجد وميراثه، وفى حد الخمر وعدده على الوجوه المذكورة فى كتب الفقه. وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحروب، حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما فى المغازى، فقال له الهرمزان: إن مثلها ومثل من فيها من عدو المسلمين مثل طائر له رأس وله جناحان ورجلان، فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس، وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس، وإن شدخ الرأس ذهبت الرجلان والجناحان، والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر، والآخر فارس. فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى, وذكر الحديث إلى آخره وقال بعض العقلاء: ما أخطأت قط, إذا حزبنى أمر شاورت قومى، ففعلت الذى يرون، فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون، وهذا أبين من إطناب فيه”.(24)
الموسوعة الفقهية:
وجاء فى الموسوعة الفقهية أن العلماء الذين يرون وجوب الشورى: النووى، وابن عطية، وابن خويز منداد، والرازى. واستدلوا بقوله تعالى:)وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(, وظاهر الأمر فى قوله تعالى:)وَشَاوِرْهُمْ( يقتضى الوجوب. والأمر للنبى صلى الله عليه وسلم بالمشاورة، أمر لأمته لتقتدى به ولا تراها منقصة، كما مدحهم سبحانه وتعالى فى قوله: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(. قال ابن خويز منداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والوزراء والعمال، فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. قال ابن عطية: “والشورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب, وهذا مما لا اختلاف فيه”. ولا يصح اعتبار الأمر بالشورى لمجرد تطييب نفوس الصحابة، ولرفع أقدارهم, لأنه لو كان معلوما عندهم أن مشورتهم غير مقبولة وغير معمول عليها مع استفراغهم للجهد فى استنباط ما شوروا فيه، لم يكن فى ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بعدم قبول مشورتهم”.(25)
محمد مكى الأزرق:
ويقول محمد مكى: “الآلية السياسية التى فرضت على المسلمين لتكوين الدولة والسير بها متفادية للصراع الداخلى ومنتصرة فى صراعها الخارجى، تكمن فى آية الشورى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم(, لأن )أَمْرُهُمْ( تعنى كل شئون إمارتهم وسياستها و)بَيْنَهُم( تشير لكلهم. عليه فالدولة فى الإسلام واجب مدنى بتكليف دينى ظاهر الضرورة أوجب على كل مسلم المشاركة من خلال الشورى فى قيام ومسار هذه الدولة لتكون على قدر ما أوجبت له”.(26)
عون الشريف قاسم:
ويقول د. عون الشريف قاسم: “إن الشورى جماع أمر حكم الإسلام، وركنه الراكز الذى يرسى القاعدة المتينة لاستقرار حياة المسلمين وضمان نجاحهم فى دينهم ودنياهم. إذ غاية الدين الهداية المؤدية إلى خلق الشخصية الإنسانية المتوازنة السوية، ولكن هذه الشخصية لا تعمل فى فراغ، ولابد لها من بيئة اجتماعية صالحة تهتدى مثل الشخصية الفردية بقيم الدين وأحكامه. ولا يتم هذا الصلاح على المستوى الفردى أو الجماعى إلا إذا تحولت هذه القيم والأحكام من مجرد نظريات وشعارات، إلى ممارسات وأفعال لأن الدين – كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – المعاملة. ولا سبيل إلى تحويل الدين إلى معاملة، ونقل هذه المعاملة من مستوى الفرد إلى مستوى الجماعة إلا بوسيلة تضمن اشتراك الجماعة, أو قدر كبير منها فى تفعيل هذه المعاملة بحيث يعم خيرها كل الناس. والشورى هى وسيلة الإسلام لتفعيل هذه المعاملة لخلق المجتمع الإسلامى السوى، القائم على المساواة والعدل وكرامة الإنسان التى جاء الدين أصلا لترسيخها فى حياة البشرية.
والحديث عن أن الإسلام لم يهتم بأمر الدولة أو النظام السياسى عامة، حديث يخطىء فهم الإسلام الذى هو نظام متكامل, لا ينفصل فيه الفرد عن الجماعة, ولا الدنيا عن الدين، وغايته خلق الفرد الجماعة أو المواطن الدولة.. فهو ينقل قيم الجماعة إلى داخل النفس الإنسانية ليصوغ ضمير الإنسان صياغة جماعية اجتماعية يصبح بها الفرد جماعة فى فرد ودولة داخل الدولة”.(27)
ويضيف الأستاذ محمد مكى عثمان الأزرق: “فى حكمة بالغة وإعجاز واضح فرض الإسلام نظرية سياسية سهلة الاستيعاب والتطبيق، رغم عمقها الفكرى ومكاسبها الكبيرة غير المتناهية. ففى ائتمان كامل للأمة والجماعة أطلق الله سبحانه وتعالى كل شئون ولاية الأمر فى الدولة الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، لشورى المسلمين كشرط لازم وفريضة دينية مؤكدة بنص آية الشورى قال تعالى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(، حيث إن أمرهم تعنى كل شئون إمارتهم وسياستها، وبينهم تعنى كلهم, أى أن الناس فى الإسلام شركاء فى سلطة الأمر والفتوى عبر الشورى, وليس عبر الاجتهاد المباشر فى دلالات النصوص. علما بأن المشاركة فى مسار وفعاليات فريضة الشورى واجب إسلامى لا يمكن تجاوزه لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “من مات وليس فى عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية”. وكذلك أوجب الإسلام هذه المشاركة لأنها أمانة بنص الحديث: “المستشار مؤتمن” وهذا يقطع الطريق أمام كل من يقول بأن الشورى معلمة وليست ملزمة، فشورى المسلمين فى السلطة والحكم فى الإسلام فريضة مؤكدة بنص القرآن الكريم، ومشاركة المسلمين فى مسارها واجب وأمانة لازمة الأداء بنص الحديث.
وبهذا التفويض للجمهور – المنفعل بقيم الدين وهديه – لاختيار منهج ونظام ولاية الأمر الإسلامية من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم فرض المشاركة السياسية على كل مسلم ومسلمة فى هذا الاختيار، يكون الإسلام فى خطوة إدارية متقدمة قد أطلق سلطة القرار والحكم فى الدولة الإسلامية لكل المسلمين – كمؤسسة تشريع عليا – يبايعون من يتولى أمرهم تحت شروطهم مما يضبط سلطة التشريع فى الإسلام ويحصرها فى إطار مؤسسى”.(28)
عبد الرحمن عبد الخالق:
ويقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: “إن موضوع الشورى فى الإسلام من أخطر الموضوعات وأجلها لأنه أهم الأمور فى تسيير شئون المسلمين، ورسم سياستهم ولقد كان أيضا هو أول الأركان هديا وإقصاء من نظام الحكم الإسلامى كما قال الحسن البصرى رحمه الله‏:‏‏”‏أفسد أمر هذه الأمة اثنان‏:‏ عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد، ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة‏”‏ ‏(‏تاريخ الخلفاء للسيوطى ص79‏)‏، ولذلك بقى هذا الحكم معطلا فى ظل الأنظمة الإسلامية التى تلت ذلك اللهم إلا لمحات قليلة كانت الشورى تطبق تطبيقا جزئيا تافها.‏ ولذلك فقد فسدت أنظمة الحكم، وسارت وفق الهوى والاستبداد أزمانا طويلة حتى ألف المسلمون هذا الفساد والاستبداد، وظنوا مع مرور الزمن أن هذا جزءا من النظام الإسلامى نفسه، ومن تشريع رب العالمين‏”.
ويضيف: “قال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( ‏(‏آل عمران‏: ‏159‏)‏‏.‏
نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد التى استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين فى الخروج إلى عدوهم أو البقاء فى المدينة، فأشير عليه من جمهورهم وغالبيتهم بالخروج، وذلك من الذين لم يشهدوا بدرا وكان فيهم تحرق إلى لقاء العدو‏.‏ ولقد كان ما كان من مخالفة الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقاء فوق الجبل وهزيمة المسلمين واستشهاد سبعين منهم، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عقب هذه الغزوة بالعفو عمن صدر منهم خطأ كالرماة والذين فروا، والذين تعجلوا الخروج ولم يأخذوا بالرأى الأحكم وهو البقاء فى المدينة، وأمر أيضا أن يستغفر لهم، وأن يستمر على مشاورته إياهم فى مثل هذه الأمور، التى هى سياسة الحرب، ومكايد العدو‏.‏‏.‏ ونزول الأمر بالشورى فى مثل هذه الظروف يؤكد حتميتها ولزومها‏.‏ واعلم أيضا أن عامة السلف والفقهاء قالوا بأن أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالشورى كان للوجوب وليس للندب أو الاستحباب، وخالف فى ذلك الإمام الشافعى رحمه الله وقاس الأمر هنا على قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏”‏البكر تستأذن‏”‏ أى عند الزواج، قال الشافعى‏:‏ لو أجبرها أبوها على الزواج جاز‏!‏‏!‏ وقد رد هذا القول الفخر الرازى فى تفسيره ‏(‏5/83‏)‏ بقوله‏:‏ القياس فى مواجهة النص باطل‏.‏
واعلم أخى أن المقيس عليه عند الشافعى فى هذه المسألة باطل أيضا لأن الصحيح أنه لا يجوز للأب أن يجبر ابنته على الزواج لأن هذا مخالف لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الآنف‏.‏
ولكن بعض السلف – مع قولهم بالوجوب فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم – نفوا أن يكون هذا الوجوب عن حاجة عند الرسول للمشاورة، بل قالوا‏:‏ لقد أغناه الله عن المشورة بما أوحى له وهداه ووفقه, ولكن أمره بذلك ليقتدى به من بعده الأئمة والخلفاء، وليكون هذا سياسة دائمة فى الأمة إذا رأى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من هو كان مأمورا بذلك ومطبقا له‏.‏
ولكن الفخر الرازى نفى هذا القول بقوله‏:‏ ‏”‏والتحقيق فى القول أنه تعالى أمر أولى الأبصار بالاعتبار فقال‏:‏ )فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ(, وكان عليه السلام سيد أولى الأبصار، ومدح المستنبطين فقال سبحانه‏:‏ )لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ (وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عقلا وذكاء, وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحى، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة‏”‏ (‏المرجع السابق‏)‏‏.‏ وخلاصة هذا الكلام أن الشورى لازمة للاجتهاد, ولا تقدح فى شخص المستشير, بل هى دلالة على رجاحة العقل، وأضيف هنا إلى كلام الفخر الرازى رحمه الله أن الشورى تكون أحيانا فى أمور دنيوية صرفة، كالخبرة بشئون القتال، ومنازل الحرب ومكايد العدو، وأصلح الناس للإمارة، ولا يقول أحد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلم الناس بشئون الدنيا, ولذلك فهو مستغن عن المشورة فيها, وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏”‏أنتم أعلم بشؤون دنياكم‏”‏ فليس نقصا فى حق الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ولا طعنا فى منزلته أن يكون أمر الله فى الآية السالفة الوجوب، وذلك لتتجمع له الخبرة التامة، والعلم الشامل لتصريف شئون الأمة الإسلامية الناشئة وليكون هذا سنة للخلفاء بعده ليلتزموا هذا المنهج الكريم‏.‏
قال تعالى فى مدح المؤمنين الذين ادخر لهم الخير‏: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( ‏(‏الشورى‏: ‏38‏)‏‏.‏
قال ابن كثير رحمه الله فى تفسير الآية‏:‏ )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ (أى لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم فى مثل الحروب وما جرى مجراها‏.‏
وإذا أردت أن تعلم لزوم الأمر هنا فاعلم أنه جاء بالجملة الاسمية التى تفيد الاستمرار والثبوت, وأنه جاء بعد الاستجابة لأمر الله, وهى الإسلام ثم الصلاة وهى عماد الإسلام, وجاء خلف الشورى الزكاة وإنفاق المال, فوضع الشورى بين إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من أكبر الأدلة على لزومها‏”.
ويضيف: “وحتى لا أترك فى نفس القارىء شيئا من أن مبدأ الشورى مبدأ مقرر ثابت وليس شيئا طارئا جائزا فإننى سأزيده بيانا واستدلالا.‏
محمود بابللى:
كتب الدكتور محمود بابللى كتابا جيدا بعنوان – الشورى فى الإسلام – وهذه فقرات منه: ‏”‏إن مبدأ الشورى لم يسبق أن اتخذته أمة إلزاما لولى أمرها والتزاما للجماعة كما اتخذته الأمة الإسلامية بنص القرآن‏”‏‏.‏‏‏
وأما الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة فقد كتب فى هذا الموضوع يقول: “‏يجب على ولاة الأمر أن يشجعوا القول المخالف، كما يريدون القول الموافق, إذا لم يكن عماد الأمر الهوى المتبع, فإنه لا يقتل الشورى والآراء القويمة إلا الرغبة فى الموافقة والتململ من المخالفة, فإن المخالف يأتى الحاكم بجديد من الفكر ويكون مرشدا، والموافق يأتيه بما عنده, وما ليس بجديد عليه فهو يسمع منه صوتا ويرجع إليه صداه‏”‏‏.‏
هذا كلام عظيم فى الشورى, إذ يوجب الأستاذ هنا على الحاكم تشجيع الرأى المخالف, فكيف بإخراج الرأى الجديد والفكرة السديدة الغائبة التى هى غاية من غايات الشورى‏.‏ لا شك أنها تكون أشد وجوبا ولزوما ويقول أيضا:‏ “‏عندما تكون الشورى مبدأ للأمة‏.‏ حكامها وأفرادها فإن هذه الأمة تكون متوجهة للخير فى جميع أمورها وتنعكس هذه النتيجة على أوضاعها تقدما ورقيا”‏‏.‏‏‏
ومن الكلام الجيد فى هذا الصدد أيضا قول محمود بابللى أن عرض كل أمور الأمة على الشورى من واجبات الحاكم وليست حقا له لقوله تعالى‏:‏ )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( فالنص يوجب على الحاكم أن يستشير فى كل أمر للأمة صغر هذا الأمر أو كبر‏.‏‏‏
ومعنى أنه واجب على الحاكم أن للأمة أن تطالبه بتنفيذه إذا قصر فيه، أما إذا كانت الشورى حقا له فعند ذلك يجوز أن يتنازل عن هذا الحق, ولا يكون للأمة المطالبة به لأنه من حقه هو، وهذا كلام جيد موفق فى هذا الصدد‏.‏‏‏
محمد عزة دروزة:
وقد وقفت أيضا على كلام حسن ما يشبه ما نقلته لك سابقا من قول عند الأستاذ محمد عزة دروزة فى كتابه التفسير الحديث للقرآن الكريم يقول‏:‏ “‏وروح الآية ومضمونها يوجبان على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة فى كل أمر وعزيمة‏”‏ ‏(‏ص173 ج8‏)‏، وقال أيضا:‏ ‏”‏أكد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب والتنفيذ‏”‏ ‏(‏المصدر السابق‏)‏‏.‏
عبد الله العقيل:
وقد وقفت على عبارة جليلة للأخ عبد الله العقيل – وهو رجل له مكانته وعلمه – يقول فيها‏:‏ “‏الشورى حق للرعية، واجبة على ولى الأمر وهذا لا يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان‏”.‏ (المجتمع العدد 43) ولكن ها نحن نجد من يخالف فى الأمور الثابتة المقررة‏!‏‏!‏‏.‏(29)
ويقول صاحب بحوث ودراسات (الشورى): “حجية الشورى فى القرآن الكريم: يعتبر القرآن الكريم حجة يجب العمل بما ورد فيه من أحكام وتتفق آراء المسلمين على انه قانون واجب الإتباع, والدليل على ذلك أنه نزل من عند الله تعالى وأنه قد نقل إليهم من عند ربهم بطريق قطعى لا شك فى صحته. فإذا نحن بحثنا عن أدلة حجية الشورى فى القرآن، أى عن الآيات التى نصت على الشورى فإننا نجد مثل ذلك النص فى موضعين وآيتين شهيرتين, وإن كان القرآن قد أشار إلى الشورى فى بعض آيات أخرى.
أولا: النص على الشورى فى القرآن: ورد النص على الشورى فى آيتين بسورتين من القرآن الكريم: الأولى: سورة آل عمران, والثانية: سورة الشورى.
1- فى سورة آل عمران: نجد النص على الشورى فى هذه السورة فى قوله تعالى: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( ففى هذه الآية نجد النص على الشورى قد جاء بصيغة الأمر الذى يتمثل فى قوله تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( فقد أمر الله تعالى رسوله عليه السلام أن يشاور قومه فى الأمر وفى المشاورة فائدتان:
الأولى: تأليف قلوبهم وإشاعة المودة بينهم نتيجة للمشاورة.
الثانية: تعويد المسلمين على هذا النهج فى معالجة الأمور لأن الرسول عليه السلام الأسوة الحسنة لهم, فإذا كان يلجأ إلى المشاورة فهم أولى أن يأخذوا بها.
2- فى سورة الشورى: نجد فى هذه السورة دليلا ثانيا على حجية الشورى والسورة نفسها حملت اسم “سورة الشورى” حيث ورد ذكر الشورى فى هذه الآية منها وهى قوله تعالى: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( وفى هذه الآية يبين الله تعالى أن الشورى هى إحدى الدعائم الهامة التى يقوم عليها المجتمع الإسلامى وما حملت السورة هذا الاسم إلا لبيان العناية بالشورى والتنبيه إلى عظيم أهميتها .
وكذلك نجد من يقول أن سورة الشورى إنما سميت بهذا الاسم لأنها السورة الوحيدة فى القرآن الكريم التى قررت الشورى عنصرا من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة.
وإذا كان النص على الشورى قد جاء بصيغة الأمر فى سورة آل عمران فى قوله تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( فإن النص عليها بالصيغة الخبرية أو الوصفية فى سورة الشورى لا يمنع من ثبوت الدليل عليها, وإنما جاء اختلاف صيغة النص عليها تبعا للخصائص التى تميز السور الملكية فى القرآن الكريم عن سوره المدنية .
فسورة الشورى مكية النزول فيما عدا أربع آيات منها نزلت بالمدينة ليس من بينها هذه الآية التى تنص على الشورى, ويلاحظ أن ما نزل من آيات القرآن بمكة لم يتميز بطابع الأسلوب التشريعى ووضع الأحكام المحددة, فذلك هو طابع الآيات المدنية, أما الآيات المكية فليس فيها شىء من التشريع التفصيلى, بل معظم ما جاء فيها يرجع إلى المقصد الأول من الدين, وهو توحيد الله سبحانه وتعالى, وإقامة البراهين على وجوده, وذلك يؤدى إلى تربية القلب والوجدان, ذلك أن الإيمان يسبق العمل ويؤدى إليه, ولهذا لا نعجب إذا جاء النص على الشورى فى هذا الآية كإحدى الصفات المميزة للمؤمنين, ومذكورة بين صفات أخرى يمتازون بها وواجبة فيهم, ثم أن ذكر الشورى جاء تاليا مباشرة لذكر الصلاة، فإن المؤمنين من صفاتهم أنهم ذوو شورى لا ينفردون برأى حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه, وكانوا قبل الهجرة وبعدها إذا حزبهم أمر اجتمعوا وتشاوروا. وأما قوله تعالى: )وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( فالمقصود به الإنفاق فى سبيل الخير ولعل فصل الإنفاق عن قرينه “الصلاة” بذكر المشاورة بينهما إنما كان لوقوعها عند اجتماع المؤمنين للصلوات, فكان المؤمنون الأولون لا ينفردون برأى حتى يتشاوروا عليه وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم وصدق تآخيهم فى إيمانهم وتحابهم فى الله تعالى.
ويذكر فى ذلك الصدد أيضا أن المؤمنين كانوا لانقيادهم إلى الرأى فى أمورهم متفقون ولا يختلفون فمدحوا باتفاق كلمتهم.. وأنه ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم, فإن الشورى كما قال ابن العربى: “ألفة للجماعة ومسبار للعقول وسبب إلى الصواب” فمدح الله المشاورة فى الأمور بمدح القوم الذين يتمثلون ذلك ويطبقون الشورى فى سلوكهم.
ثانيا: آيات عن الشورى فى الرسالات السابقة: رأينا ما يثبت حجية الشورى فى القران الكريم فى آيتين نصتا على الشورى فى سورتى آل عمران والشورى, وسنرى ذكر الشورى قد ورد فى سورتين أخرتين بالنسبة للشرائع السابقة على الإسلام, فيما ذكره الله تعالى فى سورة طه وفى سورة النمل ونورد فيما يلى بيان ذلك:
1- فى سورة طه: نجد إشارة إلى الشورى فى سورة طه فى قوله تعالى عما يذكره موسى عليه السلام: )وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي{29} هَارُونَ أَخِي{30} اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي{31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي( وقد استشهد بهذا النص القرآنى كدليل على أهمية المشاورة أقضى القضاة أبو الحسن البغدادى, ذكر أن الله تعالى إذ حكى عن نبيه موسى عليه السلام هذا القول بهذه الآيات، فأننا نفهم منه أنه إذا جاز ذلك فى النبوة كان فى الإمامة أجوز.
وقد ورد فى كتاب النسائى عن القاسم بن محمد: سمعت عمتى تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ولى منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا أن نسى ذكره وإن ذكر أعانه” ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام أيضا: “ما بعث الله من نبى ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه, وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصمه الله” وقد سأل موسى ربه عز وجل أن يجعل له وزيرا يشاركه فى الأمر وفى النبوة أيضا.
2- فى سورة النمل: أورد القرآن الكريم فى سورة النمل إشارة إلى صورة من صور الشورى فى قصة ملكة سبأ فى قوله تعالى: )قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ(.
وقد ذهب العلماء فى تفسير هذا الآية إلى أن الملكة “بلقيس” ملكة سبأ طلبت من قومها أن يشيروا عليها فى الأمر الذى نزل بما عندهم من الرأى, فما كان لها أن تمضى حكما حتى يحضروا ويكونوا شاهدين”.(30)
ونعود مرة أخرى للشيخ عبد السلام ياسين حيث يقول بشكل قاطع: “الشورى واجبة فى الشأن العام وهو نصب الإمام. هذا إجماع فقهاء السنة والجماعة إلا الشواذ. هذا ضرورة كل عصر وسنة الخلفاء الراشدين عليم السلام. والشورى ملزمة وإلا كانت عبثا”.(31)
عبد الفتاح شحاتة:
ويقول د. عبد الفتاح شحاتة: “إن الدين الحق لا يدع إلا إلى العدل والإحسان، وإلى الشورى الملزمة للحكام، فما جرى على ذلك فهو من الدين، وما خلفه فهو انحراف عن الدين”.(32)
محمد عبده:
هناك من الدعاة من وفقهم الله سبحانه وتعالى لإجادة الدفاع عن وجه الإسلام, وهناك من تخصص فى الإساءة إلى الإسلام, وجعل نظامه صنوا للاستبداد وحكم الفرد, وهذا ما لا أساس له من قرآن أو صحيح سنة, ومن أبرز الصنف الأول من العلماء الشيخ محمد عبده الذى يقول: “هدم الإسلام بناء تلك السلطة (الدينية) ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم. لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه, على أن الرسول عليه السلام كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، قال تعالى: )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ{21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ( ولم يجعل لأحد من أهله أن يحل ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء. بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفع عنه كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم – مهما علا كعبه فى الإسلام – على آخر – مهما انحطت منزلته فيه – إلا حق النصيحة والإرشاد.. قال تعالى فى وصف المفلحين: )وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(وقال: )وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( وقال: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ( فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير – وهم المراقبون عليها – يردونها إلى السبيل السوى إذا انحرفت عنه. وتلك الأمة ليس لها عليها إلا الدعوة والتذكير والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتتبع عورة أحد. لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودا ورسم حقوقا. وقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة فيغمط الحق ويتعدى المعتدى الحد. لا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضى بالحق. وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى فى عدد كثير فلابد أن تكون فى واحد وهو السلطان أو الخليفة.
الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم. ولا هو مهبط الوحى ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة. وحتى إذا كان مجتهدا فهو وسائر طلاب الفهم سواء.
“والشورى نقيض الاستبداد، ويقصد بالاستبداد الحجر على حرية الرأى بخصوص مصالح الأمة, والتفرد برأى واحد بصددها, وهذا ترفضه الشريعة والكتب السماوية, ويخالف إجماع السلف الصالح, الذين كانوا يبايعون الخليفة على أن يستشيرهم فى الأمر”. وأكد ضرورة تقديم النصيحة للحاكم, وأن من واجب العلماء أن “يعاونوا الحاكم على ما يقوم به وتنبيهه عند الغفلة وإرشاده عند الهفوة” وأكد أن الشرع قد أقر “رصد أعمال الولاة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وردهم إلى الشريعة الحقة عند الإعوجاج”، وقال بأن “الشرع والعقل يقرانها, ومن ثم يعتبر خروج الحاكم عليها هدم لقواعد الشرع ومنافاة له”(33)
نكتفى الآن بهذا القدر من الشيخ محمد عبده لأننا لا نزال فى المرحلة الأولى من بحثنا وهى معنية بحسم مسألة إلزام الشورى. وبعد ذلك سنلج إلى مسألة كيفية تشكيل السلطة التنفيذية وكيفية ممارسة الشورى فى شكل مؤسسى, وضرورة تجاوز تلخيص السلطة التنفيذية فى شخص الخليفة. لقد وضع الشيخ محمد عبده الأساس الأعمق للشورى فى الإسلام, وهو غياب طبقة رجال الدين ككهنوت أو واسطة بين العبد وربه. وعندما يلغى الإسلام هذه الطبقة المخصوصة, ويتحدث عن العلماء, فباب العلم مفتوح للجميع من ناحية, وليس لأى عالم حصانة معينة أو مكانة, إلا بقدر علمه وتواضعه وورعه, وأن يقرن القول بالعمل حتى يكتسب مصداقيته عند الناس.
أحمد عبد المجيد:
ويقول الأستاذ أحمد عبد المجيد: “إن مشاركة الأمة فى الحكم من خلال عمل أهل الحل والعقد وهم من لهم صفة التمثيل – العدالة – الكفاءة ودورهم هو: الشورى وشوراهم ملزمة, والشورى فى السياسات العامة، وليست فى الأمور التنفيذية التفصيلية، وليست فى موضع النصوص ولا فى الأمور الشخصية. والاستشارة حق للإمام كحق أى مسلم غيره من المسلمين, وله أن يأخذ بها أو لا يأخذ، والشورى حق للأمة على الإمام، يلتزم بها ولا يحيد عنه”.(34)
لعلك عزيزى القارىء بدأت تفطن لما أقوم به, اننى حقيقة أنظم أكبر تظاهرة ممكنة للقضاء على فكرة شاذة, ولكنها خبيثة من صنع السلاطين ووعاظهم, والملوك إذا دخلوا قرية أفسدوا فيها، أنظم مظاهرة كبرى من كبار العلماء والفقهاء والباحثين والدارسين المشهورين وغير المشهورين, الشيوخ والشباب من محبى ودارسى العلم, ومن كل البلدان العربية والإسلامية, ومن كل العصور, عسى أن نقطع دابر هذه الفكرة المتسلطة الاستبدادية الخبيثة التى قتلت الروح فى أمتنا وحضارتها التليدة. والمسألة محورية وتستحق هذا العناء, فإدعاء أن الشورى غير ملزمة يفتح الباب واسعا لكل أشكال الاستبداد المتحصنة بالدين والعقيدة!! والقضاء نهائيا على هذا الافتراء وتطهير ديننا العظيم من هذه الفرية أمر جوهرى للنهوض، لقد لخص المفكر الإسلامى الكبير رائد النهضة الماليزية: محاضير محمد مشكلة العالم الإسلامى حين قال: “إن الحكام غير مشغولين إلا بمشروع واحد هو البقاء فى السلطة مدى الحياة عوضا عن انشغالهم بنهضة بلادهم, وعندما يفسد الحاكم يفسد المجتمع بالضرورة”. وبالفعل ضرب محاضير محمد المثل بصورة واقعية حيث ترك السلطة وهو فى قمة المجد, وأيضا بلاده فى قمة المجد. وبقيت الرويبضة من حكامنا فى دست الحكم رغم أنهم ضيعوا البلاد والعباد.
الموضوع جد خطير, لذلك أطلب منك أيها القارىء العزيز أن تصبر معى حتى نحسم الأمر نهائيا. وربما سيظل الجدل عند البعض فلا بأس, شرط أن نحاصر هذا البعض فى أقل نفر ممكن لا يستطيع أن يعوق مسيرة النهضة. ولابد من ملاحظة أننا نريد أن نستقر بشكل نهائى على التوجيه الإلهى الصريح، وأن نقر جميعا أن الالتزام بالشورى عبادة.
سعيد النورسى:
والآن نصل إلى أحد معالم الحركة الإسلامية التركية “سعيد النورسى” الذى يقول: “إن الدرس الذى تعلمته من الشورى الشرعية هو: أن سيئة امرىء واحد فى هذا الزمان، لا تبقى على حالها سيئة واحدة، وإنما قد تكبر وتسرى وتصبح مائة سيئة. كما أن الحسنة الواحدة أيضا لا تبقى على حالها حسنة واحدة، بل قد تتضاعف إلى الآلاف، وحكمة هذا وسره هو: أن الحرية الشرعية والشورى المشروعة قد أظهرتا سيادة أمتنا الحقيقية. إذ أن حجر الأساس فى بناء أمتنا وقوام روحها إنما هو الإسلام.
إن مفتاح سعادة المسلمين فى حياتهم إنما هو الشورى, فالقرآن يأمرنا باتخاذ الشورى فى جميع أمورنا، إذ يقول سبحانه: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(, )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(.
فالشورى الحق تولد الإخلاص والتساند. إذ أن ثلاث ألفات هكذا (ااا) تصبح مائة وإحدى عشرة. فإنه بالإخلاص والتساند الحقيقى يستطيع ثلاثة أشخاص أن يفيدوا أمتهم فائدة مائة شخص”.(35)
محمد حسين النائينى:
ومن اللطيف أن الأمور الخلافية الشهيرة فى أوساط السنة تجدها بصورة مماثلة فى أوساط الشيعة. ففى وقت واحد تقريبا فى تركيا وإيران وقعت أحداث متماثلة فى شكل ثورة دستورية. وإذا كان الفقه السنى المتمثل آنذاك وبشكل أساسى فى كتابات رشيد رضا فى المنار قد جهد فى إيجاد السند الشرعى للحياة السياسية الدستورية فى مواجهة تيار آخر اعتبر الدستور انتهاكا للشريعة، فإن فقه الإمامية قد شهد أيضا وفى خط المبادرة التى اتخذها آية الله الخراسانى فى دعم الثورة الدستورية فى إيران، من حاول أن يوجد السند الشرعى للأطروحة الدستورية فى مبدأ البحث عن السياسة العادلة فى زمن غيبة الإمام. وانقسم الفقهاء الشيعة آنذاك (1906-1908) بين أهل المشروطة أى الدستور وبين أهل المستبدة أى الملكية المطلقة. ويقدم السيد النائينى دفاعا إسلاميا عن مبدأ الدستور الذى هو فى الإسلام مشاركة لأفراد الأمة فى القرار والولاية ومساواتهم كما يقول مع شخص السلطان فى جميع نوعيات المملكة من المالية وغير المالية، كما أنه حق للأمة فى المحاسبة والمراقبة وتحديد مسئولية الموظفين.
ويستشهد النائينى بموقف الأمة حيال الخليفة عمر بن الخطاب عندما رقى المنبر يستنفر الناس للجهاد. فأجابوه “لا سمعا ولا طاعة لأنه كان عليه ثوب يمانى يستر جميع بدنه مع أن حصة كل واحد من المسلمين من تلك البرود اليمانية لم تكن كافية لستر جميع بدنه” ويتابع أنه “ما استطاع عمر أن يدفع اعتراضهم إلا بعد أن أثبت لهم أن عبد الله ابنه هو الذى وهبه حصته من تلك البرود”. كما يستشهد بموقف الأمة فى جواب الكلمة الامتحانية الصادرة عنه (عن عمر رضى الله عنه): “فلنقومنك بالسيف”. وما كان أشد فرحه عند رؤيته هذه الدرجة من استقامة الأمة.
ويرى النائينى فى تحرر الملل الأجنبية من الملكية المطلقة (إتباعا للمبادىء الطبيعية وإحاطة بالقوانين الإسلامية. بينما سير طواغيت الأمة المسلمة القهقرى أدى إلى الحالة الراهنة).
ويرى أن مساواة الأمة مع شخص السلطان مساواة فى الحقوق، وهى مساواة فى الأحكام، وهى مساواة فى القصاص والمجازاة.(36)
عبد الله حسين:
ويقول د. عبد الله حسين: “إن الإسلام الحنيف لا يعرف الحكم الاستبدادى، وليس من شيمه تكميم الأفواه، وأن الله سبحانه وتعالى جعل أمر المسلمين شورى بينهم. كما أوجب على المسلمين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعله سببا لخيرية الأمة المسلمة”.(37)
عباس محمود العقاد:
من أفضل كتب عباس محمود العقاد – من وجهة نظرى – دفاعا عن الإسلام كتابه الشهير “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه” وهو يسد فراغات مهمة فى مجال الجدال المعاصر مع خصوم الإسلام, وفى هذا الموضوع يقول: “آمن المسلمون بالحق الإلهى فجعلوا الأمة مصدرا لجميع السلطات ومرجعا لجميع المسئوليات. وهذا هو الحق الإلهى إذا فهم على سوائه ولم تنحرف به الأهواء إلى غير معناه، خدمة للمطامع وتزجية للمآرب عند ذوى السلطان. لا مصدر للسلطة العامة فى الإسلام غير الأمة. ولا مرجع فيه للمسئولية العامة غير الأمة. ولا تعارض بين هذا وبين نصوص الكتاب وسنة الرسول. فإن النصوص والسنن لا تقوم بذاتها، بل تقوم بمن يفهمها ويعلمها ويعمل بها ويؤديها على وجوهها، وكل أولئك تشمله الأمة بما انطوت عليه من خاصتها وعامتها، وجملة ذوى الحل والعقد والعاملين من عليتها وسوادها. فهى التى تأتمر بنصوص الكتاب والسنة، وهى المسئولة عن صوابها وخطئها حيث ائتمرت به واتفقت عليه أو اختلفت فيه. وأول ما تكرر من ذلك الحق كان فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم. فإنه كان مأمورا بمشاورة أمته، وكان الأمر بينهم شورى فى كل شأن من الشئون غير التبليغ الذى خصه الله به ولولاه لم تكن الدعوة إلى هذا الدين. )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(, )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(.(38)
أبو الحسن الماوردى:
ويقول الإمام أبو الحسن الماوردى أحد أبرز فقهاء الأمة فى مجال الحكم والسياسة, وبعد أن يربط العقل الذى هو مناط التكليف بالمشورة فى فصل واحد بعنوان “العقل والمشورة” وبعد أن يتحدث فى تفاوت حظوظ العقول فى المعرفة والموهبة, يقول تحت عنوان “وجوب المشاورة: “لابد من الاستعانة على كل ما تشأ فعله من المشاورة بعد الاستخارة، قال عليه الصلاة والسلام:”ما خاب من استخار ولا ندم من استشار”. وقد خص الله سبحانه وتعالى سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم بكمال الخلق والخُلق، وتمام العقل والقلب حتى أنه سبحانه وتعالى أعجب به فقال عز من قائل: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ومع ذلك قال له سبحانه وتعالى: )وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(, وهذا وهو صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق عقلا ونقلا. فبهذا الاعتبار لابد منها فى كل أمر تريده، ولو استشرت أكبر منك أو أصغر منك. فإياك وترك المشورة، اقتداء بالنبى الكريم وعملا بالكتاب العزيز, ألا ترى أن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قد استشار ولده إسماعيل وهو صغير لما أمر بذبحه؟ فقال كما جلى الله عنه فى الكتاب العزيز: )قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى( فكان هذا مشاورة من سيدنا إبراهيم، وهو أبو الأنبياء صلوات الله عليهم لولده إسماعيل، وهو حين ذلك صغير.
فباعتبار ما روينا من الآيات الشريفة والأحاديث تجب المشاورة من كل صغير وكبير، وخصوصا فى الأمور المهمة. ولابد من التأنى والتربص فإن العجلة ندامة. ومما جاء فى المشورة: أعلم أيها الحليم أن من شرف المشورة وعموم نفعها ما به أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى فى حق أصحابه رضوان الله عليهم: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(.(39)
محمد عمارة:
ويقول د. محمد عمارة – ونحن ننتقل من القدماء إلى المعاصرين وبالعكس بلا حرج, لأن النغمة واحدة والموجة هى ذاتها, ولكن كل مفكر أو فقيه يضيف زاوية جديدة, ولكن الكل يؤكد على إلزام الشورى, وأنها من أركان النظام السياسى والاجتماعى فى الإسلام – يقول: كانت الشورى التى هى استخراج الرأى والمشاركة فى تدبير شئون الاجتماع واحدة من الفرائض الاجتماعية فى الإسلام, بدونها لن يأمن الإنسان على حياة وحيوية علاقته بالجماعة التى ينتسب إليها، ولا على استقامة السياسة والتدبير للاجتماع الذى هو عضو فيه.
وفى شئون الدولة، يوجب الإسلام أن تكون الشورى هى الفلسفة التى تدار وفقا لها أمور الناس: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(. فالعزم، أى اتخاذ القرار، هو ثمرة الشورى، أى اشتراك الناس فى إنضاج الرأى الذى يتأسس عليه العزم – القرار – وهنا يكون الأمن العام والاطمئنان التام لكل من “الرأى” و”العزم” جميعا.
والشورى ليست مجرد “حكم” وإنما هى من “عزائم الأحكام” بل إنها من قواعد الشريعة ومبادىء الإسلام. وحتى لا نكرر ما قاله وورد من قبل على لسان آخرين يشير عمارة إلى آية الشورى بسورة الشورى باعتبارها تأكيد على أن من صفات المؤمنين: الشورى، ثم يعرج إلى السيرة وما ورد فيها من تشاور الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فى كل ما ليس فيه وحى, ويؤكد عمارة أن هذه السنة العملية تؤكد إلزام الشورى، وضرورة التزام الأقلية برأى وشورى الأكثرية والجمهور, هذا بالإضافة للسنة القولية المتمثلة فى العديد من الأحاديث المشار إليها.(40)
محمد متولى الشعراوى:
ويقول الشيخ محمد متولى الشعراوى فى حديثه عن هذه الآية: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( أن أمور الوحى والسماء غير معروضة لأى استفتاء أما فيما عدا ذلك فباب الاجتهاد مفتوح, وفى هذه الحالة يجب أن تحترم الآراء المختلفة, وهو هنا يركز على مشروعية التعددية فى الإسلام, ويحذر من تقديس أى رأى فقهى مختلف عليه.(41)
زكريا بشير إمام:
ويقول د. زكريا بشير إمام:إن السلطة تؤدى إلى المجد، والمجد يؤدى إلى الجاه، والجاه يؤدى إلى تحصيل المال والغنى, ولقد فطن الإسلام لكل ذلك فقضى أن يكون الحكم شراكة بين المسلمين, وأن تكون السلطة شورى بينهم. فلا احتكار أو استلاب, ولذلك جاء فى القرآن الكريم: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ( فكما أن الاستجابة لدعوة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فرائض تعبدية، فإقامة الشورى سياسة فى النظام السياسى الإسلامى. وكما حرم الإسلام أن يكون المال دولة بين الأغنياء فحسب, وكذلك حرم أن تكون السلطة دولة بين نفر قليل من المؤمنين دون إشراك كافة المؤمنين ومن غير مشورتهم, بل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشبه الإلزام أن يشاور المسلمين فى أمورهم: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(.
ويضيف: الشورى من الإشارة, وهى عملية تبادل للآراء بين أكثر من شخص واحد كل يشير برأيه فى بساط البحث عن الحل الأفضل أو التصور الأفضل لمسألة ما.. والشورى بهذا الفهم هى اشتراك فى الرأى, وهى نقيض الطغيان حين يستأثر فرد بالرأى وبالحكم ويستبد به، ويمنع الآخرين من المشاركة أو حتى التعبير عن الرأى الآخر. وهذا يتضمن الإيمان بعدد من القيم :
1- أن الناس سواسية.
2- أن كل فرد له الحق فى تكوين رأى والتعبير عنه.
3- ليس لأحد أن يدعى أن رأيه دائما هو الأفضل.
4- الشورى تحتكم إلى القرآن والسنة.
5- أن يقبل الجميع بمبدأ المحاسبة”.(42)
أحمد شوقى الفنجرى:
ويقول د. أحمد شوقى الفنجرى: “الشورى فى الإسلام جاءت مرتبطة بالعبادة وقرنت بالصلاة: )وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(. والشورى جاءت فى القرآن بمعنيين الأول مشاورة الرئيس لمرؤوسيه أو ممثلى الشعب، والثانى تشاور المؤمنين معا بشكل عام وعلى كل المستويات”. ويستشهد بعدد من الأحاديث النبوية: “استعينوا على أموركم بالمشاورة. اثنان خير من واحد. وثلاثة خير من اثنين. وأربعة خير من ثلاثة. وعليكم بالجماعة فإن الله لن يجمع أمة إلا على هدى” (الترمذى). ويقول صلى الله عليه وسلم:”ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله رشد أمرهم”. وهكذا نرى أن “الشورى واجبة على كل حاكم مسلم, ومن لا يطبق هذا المبدأ يصبح حكمه غير شرعى ويتحتم إسقاطه”.(43)
عبد العظيم محمود الديب:
ويقول د. عبد العظيم محمود الديب: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ( وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا فى أن الشورى مبدأ أساسى، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه”(44)
موسى بن عبد الله الموسى:
ويقول موسى بن عبد الله الموسى: إن هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خير هدى, وطريقته خير الطرق وأقومها, فهو القدوة الأسوة: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( (الأحزاب: 21) من امتثل نهجه تسهلت له السبل, وتيسرت له الأمور, وإن من أعظم أفعاله التى ربى عليها صحابته قبل قيام دولة الإسلام وبعدها, والتى أثنى الله عليهم بها وقرنها بأعظم العبادات ألا وهى أمر الشورى، فقد قال: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( (الشورى: 38).
وقال الشوكانى رحمه الله: “يتشاورون فيما بينهم, ولا يعجلون, ولا ينفردون بالرأى” أ.هـ
ثم إن أمر الشورى أمر يحتاج إليه فى كل حين, ومن عظم أمره سمى الله سورة بالشورى، وقد أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه, وجعل العزم بعد المشاورة: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( (آل عمران: 159).
ومع أنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحى من السماء كان كثير المشاورة لأصحابه.
يقول أبو هريرة رضى الله عنه: “ما رأيت أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
ومن تأمل فى القرآن الكريم أدرك أن الله – جل وعلا – جعل الشورى شرطا لتحقيق أمر صغير جدا يختص بطفل رضيع عند فطامه، وجعل الشورى بين الزوجين سبب لنفى الجناح: )فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا( (البقرة: 233)، وعند عدم اتفاق الزوجين المتفارقين على أجرة إرضاع طفلهما, فإن على الأب أن يستأجر مرضعة لابنه: )فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى( (الطلاق: 6).
ومع أن الزوجين مفترقين لم يهمل الله أمر الشورى والاتفاق بينهما, حتى لا يضيع الطفل بسبب الخلاف بينهما وتفرقهما.
ولو كان أمر الشورى أمرا هينا لما جعله الله بهذه المنزلة, فأمر به فى أعظم الأمور وفى أيسرها.
وإن المتأمل فى هدى النبى صلى الله عليه وسلم يلحظ استشارته للرجال والنساء فى كل ما لم ينزل به نص قرآني، وهو مكان للشورى, فقد استشار أول ما بعث أم المؤمنين خديجة بنت خويلد.
وفى أسرى بدر استشار أبا بكر وعمر, ويوم أحد استشار أصحابه فى الخروج للقتال من المدينة أو المكث فيها, واستشار يوم الخندق السعدين فى ثمار المدينة, واستشار أم سلمة فى ذى الحديبية, وفى غير هذه المواضع كثير, كما كان يقول لأصحابه كما عند البخارى: “أشيروا على أيها الناس”.
وقد تقرر هذا عند الصحابة رضوان الله عليهم, فكانوا يشيرون عليه, فأشار عليه الحباب بن المنذر فى موقع غزوة بدر, وأشار عليه سلمان الفارسى فى حفر الخندق.(45)
ابن تيمية:
لو استغنى أحد عن الاستشارة والمشورة لاستغنى عنها رسول الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قيل: إن الله أمر بالمشاورة نبيه، فغيره أولى بالمشورة, وقال الطبرى: وقال آخرون: “إنما أمر الله بمشاورة أصحابه فيما أمره بمشاورتهم فيه، مع أغنائه بتقويمه إياه، وتدبيره أسبابه عن آرائهم، ليتبعه المؤمنون من بعده، فيما حزبهم من أمر دينهم، ويستنوا بسنته فى ذلك، ويحتذوا المثال الذى رأوه يفعله فى حياته من مشاورته فى أموره – مع المنزلة التى هو بها من الله – أصحابه وأتباعه فى الأمر، ينزل بهم فيتشاوروا بينهم، ثم يصدروا عما اجتمع عليه ملؤهم، لأن المؤمنين إذا تشاوروا فى أمور دينهم متبعين الحق فى ذلك، لم يخلهم الله تعالى من لطفه، وتوفيقه للصواب من الرأى، والقول فيه.
الطبرى:
ثم قال الطبرى: “وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمر نبيه، بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه، ومكايد حربه، تألفا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التى تحزبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به فى ذلك عند النوازل التى تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه فى حياته يفعله”.
فأما النبى، فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صواب ذلك.
وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله فى ذلك على تصادق وتآخ للحق، وإرادة جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حيد عن هدى، فالله مسددهم وموفقهم.(46)
ابن عاشور:
ويقول ابن عاشور فى تفسيره: “وظاهر الأمر أن المراد المشاورة الحقيقية التى يقصد منها الاستعانة برأى المستشارين، بدليل قوله تعالى عقبة: )فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ(. (آل عمران: 159). فضمير الجمع فى قوله: )وَشَاوِرْهُمْ(. عائد على المسلمين خاصة، أى: شاور الذين أسلموا من بين من لنت لهم، أى لا يصدك خطل رأيهم فيما بدا منهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم فى مواقع أخرى.
ثم قال: “وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول فيما عبر عنه بالأمر، وهو من مهمات الأمة ومصالحها فى الحرب وغيره، وذلك فى غير أمر التشريع”.(47) وقال القاسمى: )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(. (الشورى: 38). أى لا ينفردون برأى حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه، وذلك من فرط تدبيرهم وتيقظهم، وصدق تآخيهم فى إيمانهم، وتحابهم فى الله تعالى.
قال تعالى فى سورة النور: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ(. (النور: 62).
قال ابن كثير: إذا كانوا فى أمر جامع مع الرسول، من صلاة جمعة، أو عيد جماعة، أو اجتماع فى مشورة ونحو ذلك، أمرهم الله تعالى ألا يتفرقوا عنه, والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته.
وقال الطبرى: )عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ (يقول: على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور فى أمر نزل )لَمْ يَذْهَبُوا( يقول: لم ينصرفوا عما اجتمعوا له من الأمر، حتى يستأذنوا رسول الله.
وقال سيد قطب: والأمر الجامع: الأمر المهم الذى يقتضى اشتراك الجماعة فيه، لرأى أو حرب أو عمل من الأعمال العامة، فلا يذهب المؤمنون حتى يستأذنوا إمامهم، كى لا يصبح الأمر فوضى بلا وقار ولا نظام.
ابن الجوزى:
قال ابن الجوزى بعد تفسيره لقوله تعالى: )وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ(. (آل عمران: 159), قال على رضى الله عنه: “الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه”.
وقال بعض الحكماء: “ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر”.
قال ابن الجوزى: “ومن فوائد المشاورة أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب فى قول غيره”.
وقال قتادة: “وإن القوم إذا شاور بعضهم بعضا وأرادوا بذلك وجه الله عزم لهم على أرشده”.
وقال الحسن: “ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمروهم”.(48)


القول الفصل: الشورى مُلزمة:
بعد كل هذه السياحة فى القرآن والسنة, وآراء أكبر وأشهر الفقهاء فى العصور القديمة والحديثة, نخلص إلى أن هناك ما يشبه الإجماع حول إلزام الشورى. بل إن كثيرا من العلماء الذين أشيع عنهم أنهم قالوا بغير ذلك عندما دققنا فى أقوالهم من مصادرهم الأصلية, وجدنا أنهم مظلومون, ولم يقولوا بذلك (الإمام الجوينى كمثال). ولا يمكن أن يكون الأمر غير ذلك, فالأمر الإلهى فى القرآن الكريم واضح وقاطع, ولم نسمع عن فقيه أو مفسر أشار إلى أى توجيه فى القرآن على أنه اختيارى, فلماذا الشورى بالذات هى التى تقع تحت هذا الطائل, إلا أن يكون الأمر من هوى الحكام المستبدين والمبتعدين عن أسس المرجعية الإسلامية. وقد رأينا السنة القولية والفعلية غنية بالسوابق التى لا تحتمل التأويل فى إلزام والتزام الرسول عليه الصلاة والسلام بالشورى فى كافة الأمور التى لم يقطع الوحى فيها بحكم قاطع.
وبالعودة إلى المراجع الأصلية وأمهات الكتب, اكتشفنا معا أننا أمام مشكلة ضبابية مفتعلة أكثر من كوننا أمام مسألة فقهية خلافية. وأن الفقه الإعلامى والسلطانى هو المسئول عن نشر هذه الشائعة. أما من زاوية حسنى النية فإن الأمر قد يتعلق بالخلط بين الشورى والاستشارة, وهو الأمر الذى أطنب فى شرحه الدكتور توفيق الشاوى من ناحية, أو قد يتعلق بفهم ضيق لنظام الحكم فى الإسلام فيربط فكرة نظام الخلافة بحكم الفرد الخليفة العالم المجتهد من ناحية أخرى, وسنعود إلى هاتين المسألتين فى مرحلة لاحقة من بحثنا.
إن هوى الحكام وأتباعهم هو المسئول عن هذا اللغط غير الموجود حقيقة فى كتب العلم الشرعى الحقيقية, وليس هذا بالأمر العجيب, فالقرآن الكريم طالما ركز على دور الطواغيت من الملوك والحكام والملأ فى محاربة الدين الحق، وأن أكابر المجرمين والمستكبرين هم القطب المقابل للأنبياء والمصلحين. ويعنى هذا أن حب الدنيا والشهوات تتركز فى أعلى صورة فى قمة السلطة السياسية. إن النظم الإسلامية لا يمكن أن تكون خارج هذه السنن الإلهية وهى معرضة للانحراف كأى نظم أخرى, بل إن الشورى هى واحدة من أبرز ضمانات عدم الانحراف, ولذلك فإن الحكام المتكالبين على السلطة (التى هى ذروة حب الدنيا) يضربون أول ما يضربون مبدأ الشورى. إن القابضين على أعنة السلطة هم أكثر من ينطبق عليهم قول الآية الكريمة: )زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(.
والحقيقة فإن آفة واقعنا الإسلامى أن كثيرا من الإسلاميين والمتدينين انشغلوا بالأمور التعبدية بالمعنى الضيق والأمور المتصلة بالشعائر، كذلك فإن فريقا من الإسلاميين ربط بين العمل السياسى الجهادى وبين العمل المسلح بصورة متطابقة, ودخل فى طريق مسدود فى مواجهة الأنظمة القائمة فى البلاد الإسلامية, بينما كان الكفاح المسلح ناجحا وموفقا إلى حد بعيد فى البلاد المحتلة بشكل مباشر (وهذا خارج نطاق بحثنا هذا) وهناك فريق ثالث يعمل بالسياسة, ولكنه ينحو إلى الاعتدال الزائد فى الخطاب وفى الأساليب النضالية على حساب إبراز الموقف الشرعى من نظم غير شرعية, بل وصل الأمر إلى حد الاشتراك فى حكومات ائتلافية مع أسوأ الأنظمة والحكومات.
إن أخطر ما يعانى منه العمل الإسلامى بشكل عام هو عدم تبلور الموقف السياسى الإسلامى من ناحية الموقف الشرعى من الأنظمة الحاكمة كما فعل الرسل والأنبياء حتى الرسالة الخاتمة، وأيضا من ناحية عدم إبراز الموقف النظرى للإسلام من مبادىء النظام السياسى, وأن موقف الإسلاميين من حرية الانتخابات وآليات “الديمقراطية” المعاصرة موقف مبدئى وأصيل وثابت ودائم, وليس موقفا تكتيكيا كما يزعم الغربيون وبعض العلمانيين فى بلادنا.
إن موقع السياسة والحكم فى العقيدة الإسلامية أكبر وأعظم مما يظن بعض الإسلاميين والمتدينين, وهذا ما حاولت البرهنة عليه فى دراسات سابقة، وأسعى هنا لإضافة الجديد, ولكى ندرك أهمية الشورى فى النظام السياسى الإسلامى يجب أن نوضح وزن السياسة أو السلطة السياسية أو النظام السياسى فى العقيدة الإسلامية. فالنموذج النظرى الإسلامى للإصلاح يعتمد على توازن دقيق وشامل بين الإصلاح الفردى والإصلاح الجماعى. والخلل يصيب الحركة الإسلامية عندما لا تعمل وفقا لهذا التوازن الذى يمكن اشتقاقه ببساطة ويسر من القرآن الكريم والسيرة النبوية المشرفة. فالبعض لا يزال يركز على استمرار منهج بناء الفرد بدعوى أن هذا سيؤدى تلقائيا إلى بناء المجتمع الإسلامى ثم الدولة الإسلامية, أو يطيل إلى حد كبير من مرحلة البناء والإعداد والانتظار. والرؤية الإسلامية الحقيقية تربط بين الإصلاح الفردى كمجرد نواة وبداية لأقلية مؤمنة, وبين الإصلاح الجماعى الذى لا يمكن أن يتحقق إلا من موقع السلطة.
ولقد قمت بجهد أولى فى الإعداد لمعجم مفهرس موضوعيا للقرآن الكريم بالذات فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه نتائجه الأولية المذهلة:
على عكس ما يتصور كثيرون فإن أكثر من نصف القرآن الكريم يصنف فى آيات متصلة بتنظيم المجتمع سياسيا واقتصاديا وعسكريا ودوليا واجتماعيا وتشريعيا. وأن مسألة السلطة أو النظام السياسى هى مسألة محورية فى كل هذا المحيط القرآنى العظيم. وقد أفضت فى ذلك فى دراسة “الجهاد صناعة الأمة”, أما الآن وحتى لا نخرج عن موضوعنا “الشورى” سنضع بعض الإحصاءات والمؤشرات للفت الانتباه لمحورية وأهمية الشورى والنظام السياسى فى الإسلام, للخروج من كبوتنا الحالية المستطيلة. إن إدراك المسلمين لاتصال ذلك بالعبادة والعبودية لله سبحانه وتعالى أمر محورى, كى يتحرك الناس بجدية وإخلاص واستشهاد لإصلاح أحوال الأمة وإسقاط الطاغوت. بل إن ذلك هو محور الإيمان بالله, وأننا لسنا أمام مسألة فرعية أو أمور سياسة نتركها للسياسيين!
المصحف العثمانى الذى بين أيدينا يتكون من 6236 آية نجد حوالى 3124 آية متصلة بالأمر السياسى العام, وذلك مع التفسير الضيق والمباشر, وباستبعاد كثير من الآيات المتصلة بعهد الرسول مع أنها يجوز أن تضم لآيات القصص القرآنى, والذى يدور محوره حول الصراع بين الأنبياء وأئمة الكفر (الحكام الطواغيت) لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان فى نفس الموقف طوال سيرته. على أى حال وفى إطار من التضييق يمكن أن نقول إن الـ 3124 آية تنقسم إلى التالى:
1652 آية من القصص القرآنى الذى يدور كله حول محور الأنبياء من ناحية والمستكبرين من ناحية أخرى.
380 آية فى أحكام القتال.
316 آية حول الظلم.
248 آية حول السياسة والأمر والنهى والحدود والسنن الاجتماعية.
160 آية حول المال والإنفاق والربا وغيرها من السياسات المالية غير الزكاة.
61 آية حول الاستكبار.
57 آية حول المجرمين.
48 آية حول الفساد والمفسدين.
33 آية حول الزكاة.
33 آية حول الجهاد (لاحظ التساوى بين الزكاة والجهاد).
28 آية حول الطغيان.
28 آية حول الملأ (الطبقة العليا فى المجتمع) لاحظ مرة أخرى التساوى بين الطغيان والملأ!
24 آية ورد فيها لفظ الملك.
24 آية عن الهجرة (هنا نجد التساوى بين متقابلين).
13 آية حول التمكين.
9 آيات حول الخلافة فى الأرض.
8 آيات حول الطاغوت.
2 آيتان عن أولى الأمر.
مع ملاحظة احتمال بعض التكرار الطفيف, حيث أن آيات القرآن متداخلة, والآية الواحدة تعالج أكثر من قضية ومن أكثر من منظور. ولكن هذه صورة إجمالية قريبة جدا من الحقيقة لحين تقديم ذلك فى معجم مفهرس بإذن الله تعالى.
ورغم أهمية الكم إلا أن جوهر القضية فى كلمة واحدة من أول القرآن إلى آخره (التوحيد) وبالتالى فإن العبودية للإنسان هى شرك بالله, وقد لخص صحابى عقيدة الإسلام بهذه الكلمة (إخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الرحمن). وعبودية المسلمين المعاصرين لحكامهم الذين لا يحكمون بما أنزل الله هى أبرز وأخطر أشكال الشرك فى الوقت الحالى. وهذا ينعكس على عدم اهتمام معظم المسلمين بقضية الشورى وعدم إدراكهم أنها قضية توحيد وقضية عبادة. فهى أمر من أوامر الله الصريحة من خلال القرآن والسنة، كما أنها أهم ضمانة ضد أخطر تهديد للعقيدة وهو الحكام المستبدين المستكبرين الذين يفضلون أن يتبعهم الناس من دون الله. وإذا لم تضع العقيدة قيدا غليظا على الحكام المسلمين الصالحين فإنهم سيتحولون حتما إلى حالة الاستبداد، فالقاعدة الإسلامية تقول: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. أى أن حكم القانون (حكم السلطان هنا يعنى حكم القانون لا حكم الحاكم الفرد) هو الضمانة الأكيدة للعدالة, وأن الإسلام لا يحمى العدالة ويضمنها استنادا إلى أخلاقيات ونوايا الحاكم المسلم، رغم أهمية الاعتماد على الضمير والتقوى والخوف من الله، ذلك أن الإنسان خطاء وغير كامل, ولابد من ضمانات عليا ودائمة تحمى المجتمع من جور السلطان أو هواه أو خطأه أو انفراده بالرأى والتقدير. والمحزن أن المجتمعات الغربية توصلت إلى هذه الحكمة بدون الإيمان بالله وأوامره, بإرساء قواعد دستورية لضمان عدم إنفراد الحاكم الفرد برأيه، وهناك العديد من العلاقات المؤسسية المركبة التى تضمن ذلك، وبالتالى فإن المجتمعات الغربية أقرب لسنة الله فى التشاور من المجتمعات الإسلامية التى لا تحكم شرع الله بصورة متكاملة، وهذا من أحد أسباب تقدمهم وسيطرتهم علينا. والشورى فى الإسلام لها أهمية خاصة، فرغم أن سنة التشاور سنة رشيدة فى حياة البشرية, ويتشارك فيها المؤمنون والكافرون، إلا أن الإسلام يعلن أنه الدين الخاتم، يعلن انقطاع الوحى ومنذ أكثر من 14 قرنا بالآية الكريمة: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً(، أى أن السماء تركت رسالتها النهائية التى استوعبت وهيمنت على الرسالات السابقة, وتركت للبشرية وحتى يوم الدين البوصلة النهائية (القرآن والسنة) ومن هنا أصبح للشورى مكانا عليا, لأنها تأتى مباشرة بعد هذين الأصلين العظيمين، وما أكثر القضايا التى طرأت على المسلمين فى عهد النبوة, وتعمد الله أن يتأخر وحى السماء فى بعض الموضوعات, أو يمتنع الوحى فى مواقف أخرى, ليتشاور الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه, ويأخذ برأى الأغلبية, ولكى يضع لنا المنهاج من بعده. ومن باب أولى ما أكثر القضايا التى طرأت على المسلمين بمجرد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وحتى الآن وإلى يوم الدين. سنجد أن الأغلبية الساحقة من القرارات تشمل أوضاع ومواقف جديدة وتحتاج إلى اجتهاد جديد. ولذلك ولضمان حسن سير أحوال المجتمعات الإسلامية شرع الله وفرض هذه الشعيرة (الشورى). والمجال الأول لممارستها هى الأمور الفقهية التى تحتاج لرأى الخاصة من العلماء حتى لا يتصور أحد أننا نتصور أن كل الأمور ستطرح على استفتاءات أو انتخابات عامة، فالشورى مستويات وسنصل لهذه النقطة فيما بعد. ولكن أردنا فى هذه المرحلة من البحث أن نؤكد أن الشورى بين العلماء هى الوسيلة الوحيدة بعد انقطاع الوحى للحفاظ على الدين, ولترشيد قيادة المجتمعات الإسلامية.
النظام السياسى الذى ينتهج الشورى وبقدر ما ينتهجها يكون هو الأقرب للرشد. والشورى لها شقان: عملية التشاور وكيفية اتخاذ القرار بشكل جماعى واستنادا لرأى الأغلبية من ناحية, وشق آخر هو انضباط هذه الشورى بالمرجعية الإسلامية. وهذا هو الفارق البسيط والخطير فى ذات الوقت بين الشورى والديمقراطية كما أوضح ذلك كثير من الكتاب والفقهاء المعاصرين. لذلك فإن اتخاذ قرار بشكل جماعى يكون فى الأغلب الأعم أفضل من القرار الفردى, من حيث الشمول ومراعاة مختلف الجوانب والاحتمالات والخبرات, وبذلك يكون أكثر صوابا. ولا شك أن قيام جماعة المؤمنين بذلك سيكون أكثر توفيقا لاعتماده على الله والالتزام بأوامره فى مبدأ الشورى, ثم فى مضمون القرار المتخذ الذى يجب أن يراعى أحكام القرآن والسنة. وقد لاحظنا فى صراعنا مع العدو الصهيونى كثيرا من الأمثلة فى كيفية اتخاذه للقرارات وكيفية اتخاذ حكامنا للقرارات وعلاقة ذلك بالهزائم التى تعرضنا لها.
وبعيدا عن الحروب أذكر مثالا واحدا, منذ عدة سنوات دب خلاف فى القيادة الإسرائيلية حول مشروع إنتاج طائرة حربية من طراز “لافى” على أسس مالية وحول جدوى هذا المشروع المكلف. وقد حسم الخلاف بعد مناقشات طويلة وعسيرة بالتصويت فى اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلى, وكانت النتيجة رفض المشروع بفارق صوت واحد. وفى المقابل لا نذكر أبدا منذ سنين طويلة أن مجلس الوزراء المصرى قد صوت أصلا على أى قرار. بل إن الحاكم إذا قال للشىء كن فيكون. بل إن مشروع كمشروع توشكى الذى كلف البلاد ما لا يقل عن 8 مليارات حتى الآن أتخذ ضد رغبة كل المختصين والعلماء فى مصر الذين كتبوا ضد المشروع فى الصحف، والآن لا خلاف حول فشل المشروع. ومع ذلك لا يجرؤ أحد على محاسبة الحاكم الملهم!
نظام الشورى هو النظام الرشيد لأنه نقيض نظام الحاكم الفرد, بل يجتث من الجذور كل الشروط المؤدية إليه. نظام الشورى لا يعرف حكاية الحاكم الملهم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولا يعرف شطحات القرارات الفردية لحاكم يتصور فعلا أن الأوصاف التى تخلع عليه حقيقية. ولعل من أبرز أسباب فشل الأنظمة الشمولية من شيوعية وقومية هو تخلفها فى أساليب اتخاذ القرارات وارتباطها بحكم الفرد. ومهما تكن عبقرية الفرد فإنه فيه قصور البشر, ولذلك فإن القرارات الجماعية تكون أكثر تحصينا ضد الخطأ وبعيدة عن الانفعالات والأمزجة الشخصية. وأن الشورى فى معناها الأعمق تعنى الاستعانة بالمختصين فى شتى المجالات المرتبطة باتخاذ القرار, وهذا ما يضمن للقرار رشده. فما بالك وأن حكم الفرد يمكن أن يكون لحاكم بليد وغير مشهود له بعبقرية أو ذكاء فكيف يكون حال المجتمع فى تلك الحالة.
لاحظ أن شعوب الغرب تخلصت من أكذوبة الزعيم الملهم, وهى متفوقة علينا, ونحن لدينا أكثر الحكام حكمة حسب ادعاء الإعلام العربى الرسمى. ولا نقلل هنا من دور الفرد فى التاريخ. بالعكس فإن القادة الحقيقيين للأمم لعبوا أدوارا حاسمة فى الانتقال بمجتمعاتهم إلى الأمام. ولكن هؤلاء القادة كانوا الأكثر إنصاتا للعلماء والمفكرين والشعب بأسره, وحصلوا على تأييد أغلبية شعوبهم بالإقناع وليس بأساليب الجبروت والتجبر، كما يحصلون على الأغلبية فى هيئاتهم أو فى الهيئات العامة بقوتهم فى الإقناع قبل إصدار المراسيم وعدم استخدام أسلوب الأمر الواقع. والزعيم الحقيقى هو الذى لا يعبد ذاته وهو الأكثر حرصا على إقناع النخبة والشعب بصحة موقفه عن طريق الجدال. وهو الذى يملك الشجاعة الحقيقية للنزول على رغبة الأغلبية.
ويمكن أن نقول إن نظام حكم الفرد يقتل المبادرة فى المجتمع بأسره, ويعود على الحاكم الفرد والطبقة المحيطة به بالوبال فى نهاية الأمر. فى حين أن نظام الشورى لا يمنع من ظهور القادة والزعماء المؤثرين فى شعوبهم بقوة الإقناع, وبتقديم المثل فى التضحية ويضع لهم السياج الدستورى حتى لا ينحرفوا, ويفتح الطريق فى نفس الوقت لتفجير طاقات الأمة بأسرها فى مقاعد الحكام أو المحكومين للمشاركة فى اتخاذ القرارات وإدارة المجتمع.
والشورى أيضا لازمة أساسية من لوازم العقيدة الإسلامية. فدين يؤكد أنه ضد الكهنوت ولا يعترف بطبقة رجال الدين, ولا أى نوع من الطبقات المخصوصة، دين كهذا لا يمكن أن يزدهر وأن يمارس حقا وصدقا إلا بالشورى.
ولقد رأينا فى تاريخ العصور الوسطى وحتى الآن كيف دمرت الطبقة الدينية الدين المسيحى فى أوروبا. فعندما طابق الناس بين الدين وبين أقوال وأفعال الباباوات وأتباعهم من الكهنة رأوا أن الإلحاد موقف إنسانى أكثر تحضرا وتقدما. ولا تزال أوربا حتى الآن أكثر القارات إلحادا حيث لا يذهب إلى الكنائس إلا نسبة تتراوح بين 8 و10% حتى أن كثيرا من الكنائس تحولت إلى مسارح ومطاعم وبارات وأماكن للعروض الجنسية وأيضا إلى مساجد!! حيث تحولت الكنائس إلى مجرد عقارات مهملة, ولكن لها قيمة فى السوق إذا استخدمت فى أى أغراض أخرى إلا العبادة على الطريقة المسيحية، وقد انشغلت مجلة نيوزويك الأمريكية بهذا الموضوع فى أحد أعدادها لعام 2007. أما فى الإسلام فمهما تدهورت أحوال رجال الدين الرسميين كشيخ الأزهر الحالى فى مصر, فإن هؤلاء يخسرون احترام المسلمين. ولكن أحدا لا يترك دينه بسببهم, لأنهم يعرفون أنه لا يوجد كهنوت فى الإسلام, وأن هؤلاء الأشخاص ليسوا لازمين للاتصال بالله أو حتى للتفقه فى الدين. وفى هذه الحالة يبحث المسلمون عن عالم ثقة سواء أكان معمما أم لا لمعرفة الدين الصحيح حتى وإن كان فى بلد آخر. وأحيانا يكون ذلك عن طريق الحصول على كتبه, والآن أصبح الاعتماد على الفضائيات أو السى دى أو الفيديو أو الكاسيت أو الانترنت. ويمكن لأى مسلم أن يقرر فى أى وقت أن يتفقه فى الدين ويمكن أن يحصل على مكانته بقدر علمه. ولم يخش الإسلام أبدا من الأدعياء أو الجهلة أو وعاظ السلاطين لأنه دين مفتوح للجميع. وحتى لا يتعجب أحد من المقصود بدين مفتوح، نقول إن الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية كانت تحظر على المسيحيين قراءة الإنجيل حيث كان ذلك سر من أسرار الكنيسة لا يعلمها إلا رجال الدين. وكان كبار القوم من الإقطاعيين يحصلون أحيانا على نسخ من الإنجيل على سبيل المحاباة, وكانت هناك عقوبات قاسية على المواطنين المسيحيين إن وجدت لديهم نسخة من الإنجيل. وكانت هذه الممارسات من أهم الأسباب وراء ظهور التيار البروتستانتى وهو يعنى لغويا الاحتجاج من كلمة protest وكان من أعمال “مارتين لوثر” زعيم هذا المذهب الجديد هو طباعة وترجمة الإنجيل إلى اللغات المختلفة وجعله فى متناول الجميع!
إن تاريخ الفقه الإسلامى ما هو إلا أروع صورة من صور الشورى الفكرية والتفاعل الحضارى المفتوح, بحيث لم تنتصر إلا المذاهب التى ألتف حولها جمهور التلاميذ والمواطنين, وبالتالى كان انتشار المذهب أو كتاب الحديث يرجع لاختيار الجمهور له, والجمهور لفظ فقهى يعنى غالبية العلماء, ولكن الحقيقة فإن جمهور الناس أيضا كان ينحاز إلى جمهور الفقهاء. ولم يشتهر مذهب أو كتاب حديث لأن الحاكم أقره أو فرضه, بل لأن جمهور الأمة من العلماء والناس انحازوا له. تاريخ الفقه الإسلامى تاريخ نموذجى لحالة الانتخاب الطبيعى, بمعنى البقاء للأصلح والأكثر إقناعا والأكثر علما. أما علماء السلطان الذين يأكلون على كل الموائد فلم يبق لهم ذكر أو أثر.
هنا نحن أمام أكبر عملية شورى تمس معظم أو كل أحكام الدين. وهذه الشورى العلمية هى شورى للخاصة من العلماء, وكانت تجرى بشكل غير رسمى أى بعيدة عن السلطات التنفيذية على مدار رقعة العالم الإسلامى كله. واستخدم كما ذكرنا لفظ الجمهور للإشارة إلى رأى الأغلبية. وهذا لا يمنع فى الحاضر والمستقبل أن تتحول هذه العملية إلى شكل مؤسسى أكثر إحكاما شريطة ألا يكون خاضعا لسلطان الحكومات. ولعل غياب المؤسسية الرسمية عن تفاعل الإنتاج الفقهى كان صحيا وأفضل للأمة حتى لا يتدخل الحكام فيما لا يعنيهم أو فيما لا يفهمونه! وبالتالى فإن المجامع البحثية لشورى الأمة المجمعة على مستوى قطرى أو على مستوى العالم الإسلامى يمكن أن تكون وبالا إذا كانت تحت سيطرة الحكام عموما, والفاسدين منهم خصوصا. فهذه يجب أن تكون مؤسسات أهلية يحكمها المستوى العلمى والتجرد والاستقلال المالى والإدارى عن الحكام كما كان الأزهر فى تاريخه.
وهذا المستوى الأعلى للشورى له مستويان: مستوى تطبيق الأحكام القاطعة, وهذا يرتبط بتفسير النصوص القرآنية وقوة الأحاديث النبوية والظروف المحيطة التى تساعد على تفسير النص. أو كيفية تنفيذ حكم واضح وقاطع كأحكام الحدود. وهناك مستوى الاجتهاد فى واقعة جديدة تماما, استنادا لسوابق ونصوص القرآن والسنة أو إعمالا لمبدأ المصلحة المرسلة, وكل هذا لا يخلو من الرجوع للمبادىء العامة للدين. والحقيقة لقد قرأت رأى لكاتب يرفض الشورى كإلزام على أساس أن الرأى الصواب قد يكون رأى الأقلية أو رأى شخص واحد. وهذه الرؤية تفتح الطريق عريضا لكافة أنواع الاستبداد, فمن الذى سيقرر أن هذا الرأى المفرد هو الصواب. نعم لقد حدث هذا فى التاريخ، أن كان رأى الأقلية هو الصواب, ولكن الحل هو فى أخذ الفرصة لإقناع الأغلبية, وليس باستخدام القوة لتنفيذ رأى الأقلية. وإذا كانت الأقلية على صواب فإن أغلبية العلماء والشعب سينحازون لهم ولو بعد حين. ولكن إذا تم تحويل الشورى إلى مؤسسة من العلماء فلابد من الأخذ برأى الأغلبية إلى أن يثبت العكس, وإلا تحولت الأمور إلى فوضى, أو إلى حاكم متأله يتحدث باسم السماء, ولا يمكن مراجعته بناء على ذلك.
وهذه المؤسسة من العلماء التى توازى المحكمة الدستورية العليا فى النظم الديمقراطية الوضعية لابد أن تكون قائمة على أساس استقلالى من الناحية المادية والإدارية والمالية عن السلطات الحاكمة, وقد كان الأمر كذلك فى فترات غير قليلة من تاريخنا الإسلامى, وما تعرض له العلماء والأئمة من متاعب مع السلطات هو دليل صحة ما نقول, فالمسألة لم تخلو من صراع ومن انتزاع حق الأمة فى الشورى بقيادة هؤلاء العلماء.
وباب العلم مفتوح للجميع بالتتلمذ على يد العلماء, وكان هذا هو النظام الذى فرض نفسه فى العالم الإسلامى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام, فكان التتلمذ على يد الصحابة وآل البيت, ثم أصبح التتلمذ على يد التابعين وتابعى التابعين وهكذا. ثم أخذت الأمور بعد ذلك أشكالا نظامية مدرسية كالحوزات والجامعات والمعاهد الملحقة بالمساجد: جامع عمرو بن العاص والجامع الأزهر وهكذا. وعندما تسقط مؤسسة فى يد السلطان كانت تفقد مصداقيتها العلمية والفقهية. ويعود العلماء الثقات إلى منازلهم أو حتى المقاهى (جمال الدين الأفغانى كمثال) إذا منعوا من المؤسسات الرسمية. ونحن نعود الآن لشىء من هذا, فمعظم قيادات الجماعات الإسلامية ليست من خريجى الأزهر أو المعاهد المماثلة. ولا يوجد كتاب أثر فى الحركات الإسلامية المعاصرة أكثر من كتاب سيد قطب رحمه الله “فى ظلال القرآن” وهو ليس من علماء الأزهر.
مرة أخرى فإن دينا يؤكد أن الوحى قد انقطع إلى يوم الدين ما كان ليعطى فردا من غير الأنبياء المعصومين سلطة اتخاذ قرار أو اجتهاد ضد إرادة أغلبية العلماء والقادة الثقاة. وبالتالى فإن القول بأن الدين الإسلامى لا يعرف الكهنوت وهو قول صحيح لا يستقيم مع القول بعدم إلزامية الشورى، لأن عدم إلزام الشورى هو أقصر الطرق لخلق الكهنوت فى صورة أمير أو أمير وأقلية من حوله.
الكفاءة فى الإدارة:
لا شك أن العمل الجماعى المنظم أرقى من العمل الفردى, وبالأخص فى مجال إدارة المجتمعات. والعمل فى مصنع كبير أفضل وأكثر إنتاجا وربحا وأكثر جودة من العمل فى ورشة. والشورى أشبه بالعمل فى مصنع كبير بوسائل الإدارة الحديثة, والاستبداد الفردى أشبه بالعمل الحرفى فى ورشة صغيرة. الشورى نظام حياة يعلم الناس جميعا التواضع, وأن كل إنسان يحتاج إلى الآخر على مستوى الفكر والعمل. والشورى تعنى أن القرار سيستفيد من الخبرات المتنوعة والثقافات المختلفة وزوايا الرؤية المختلفة, وأنه لا يوجد إنسان مهما بلغ ذكاؤه يمكن أن يستغنى عن ذكاء وأفكار الآخرين، وبالتالى فإن الشورى تؤدى إلى تكامل خبرات الناس مع بعضها البعض, وسد الثغرات بشكل دائرى ومتبادل عند كل فرد على حدة. نحن هنا نتحدث عن مستوى آخر للشورى وهو مستوى اتخاذ قرارات ذات طابع سياسى أو اقتصادى أو إدارى, وهى تبدو بشكل عام فى منطقة المباح, ولكننا نبحث عن المصلحة فى اتخاذ القرار. نرجع مثلا لقرار توشكى كمثال للتطبيق، علماء الدين سيكون لهم رأى عام فى البداية غير مؤثر: سيقولون إن إعمار الصحراء أمر مشروع وجيد, وتوسيع الرقعة الزراعية أمر شرعى ومطلوب, والانتشار خارج الوادى الضيق والقضاء على البطالة إلخ, كل هذه أمور يؤيدها النظر الشرعى. هنا يأتى دور العلماء المتخصصين فى الجيولوجيا والصحراء والمياه والتربة والبيئة: سيقولون – وهذا ما قد حدث بالفعل – إن هذا المشروع فاشل لأنه بعيد عن العمران – درجة الحرارة تصل إلى 50 درجة فى الصيف – التربة غير ملائمة – كثبان الرمل المتحركة ستقضى على الزراعات – نسبة البخر عالية مما سيضيع كثير من المياه – ليس لدينا أصلا مياه فائضة لهذا المشروع إلخ, هنا من الممكن أن يعود الحوار إلى العلماء فى الفقه الشرعى ليقولوا بحرمة هذا المشروع, لأنه يؤدى إلى إنفاق أموال طائلة لمجرد التفاخر بأن الرئيس صنع دلتا جديدة, وهذه سفاهة, ولابد من إيقاف المشروع. ويمكن أن نأخذ هذا المثال إلى منتهاه لنوضح مستويات الشورى, فهناك المستوى الثالث والأخير وهو إشراك الناس فى الحوار طالما أن المشروع متعلق بهم, فربما يثير أهل أسوان وهم أقرب الناس لمكان المشروع رؤية جديدة للمشروع, قد تعدل فيه أو تؤكد مزاياه أو عيوبه أو يقترحون مشروعا بديلا من واقع معرفتهم بالبيئة المحيطة بهم. وهذا لم يحدث بطبيعة الحال. إذا مشروع كتوشكى يمكن أن يناقش على كل هذه المستويات قبل إقراره, ومن الصعب اتخاذ قرار خاطىء بعد كل هذه الدورة, ولكن المثال التطبيقى كان عكسيا فقد اتخذ القرار ضد رغبة ورأى الجميع ثم ثبت فشله فيما بعد, ولكن بعد ضياع المليارات.
الشورى هى الأسلوب الأمثل فى الإدارة لأنها تشرك كل الطاقات وتفعلها, وتستفيد من تنوع خبرات البشر, وتستفيد من تقسيم العمل ووظائفه المختلفة, فعند اتخاذ قرار الحرب لا يجوز للقائد العسكرى أن يحسم تقدير الأوضاع الاقتصادية, ولا يجوز للاقتصادى أن يحسم تقدير التوازن التسليحى مع العدو, ولكن التقاء الخبرات المتنوعة يؤدى إلى ترشيد عملية اتخاذ القرار, والقرار السياسى يكون معقدا ومركبا وليس حاصل جمع بسيط لعناصر تقدير الموقف. وهذا المستوى لاتخاذ القرار يكون أعلى من قرار الفنيين المتخصصين فى أمور قطاعية, وهنا يأتى دور القيادة السياسية الشاملة لمجلس الوزراء مثلا, وهو فى الأصل يجب أن يتكون من عناصر سياسية لها رؤية شاملة للأمور وليس كوزراء مصر الآن الأشبه بموظفى الدرجة الخامسة.
اعتماد الشورى فى اتخاذ القرار يؤدى بلا شك إلى ترشيد اتخاذ القرار وتقليل هامش الأخطاء إلى الحد الأدنى. لاشك أن قرار العبور فى حرب 1973 كان يحظى بأوسع مشاركة ممكنة فى اتخاذ القرار والإعداد له, وكان لذلك دور كبير فى النجاح. ولعب الأسلوب الفردى فى اتخاذ القرار أسوأ الأدوار لتضييع مكاسب هذا النصر بكامب ديفيد وما سبقها ولحقها من مفاوضات واتفاقات جزئية.
وحتى على مستوى الشركات فإن الشركات العالمية تتنافس على الارتقاء بمستوى الشورى فى اتخاذ القرارات, بعد أن ثبت جدوى ذلك فى الارتقاء بعمل الشركة وسط المنافسة الضارية. بل لقد وصل الأمر إلى حد إشراك الجمهور. فالشركات تتصل بالمستهلكين لتعرف تقديراتهم وآرائهم فى منتجات الشركة للاستفادة بهذه الآراء لرفع مستوى الأداء. وأيضا يستفيد السياسيون فى الغرب بنتائج استفتاءات الرأى العام فى تحديد خططهم السياسية ودعايتهم وبرامجهم الانتخابية. ووسائل الإعلام الناجحة تهتم ببريد القراء وبآراء الجمهور فى إنتاجها.
أما الذى يعيش فى برج عاجى ويتصور أنه يعرف الحقيقة وحده وغاية ما هنالك يمكن أن يقرأ بعض التقارير فهذا هو القائد الفاشل بلا منازع.
مرة أخرى الشورى هى الوسيلة الوحيدة للاستفادة من تنوع خبرات البشر وتنوع مزاياهم, وهى الوسيلة المثلى لتجنب أكثر العيوب الشخصية فى كل مشارك من المشاركين فى اتخاذ القرار. وهى الوسيلة المثلى لاحترام التخصص وتقسيم العمل والاستفادة بهما.
ركز بعض المفسرين فى الآية التى فتحت لنا كل هذا الحوار عن الشورى, ركزوا على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يستشير زعماء المدينة حتى يطيب خاطرهم ويرفع من معنوياتهم ويشعرهم بأهميتهم, وأن هذا ما يحبه زعماء قبائل العرب، وكل هذه المعانى ايجابية, ولكن ليس على طريقة التعامل مع الأطفال, بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ألتزم بالشورى فى كل مرة عرض الأمور فيها للرأى. وهذه ليست صفة العرب وحدهم، بل كل الناس تحب أن تشعر أنها مشاركة فى اتخاذ القرار, فهذا يزيد من حماسها ساعة التنفيذ, أى يزيد مما نسميه الآن النجاح فى الحشد والتعبئة. فكل من شارك فى اتخاذ القرار يشعر أن القرار قراره وأنه مسئول عن إنجاح تنفيذه, حتى وإن كان فى صف المعارضين له ساعة التصويت. فبهذا يشعر الجميع بحالة عالية من الانتماء, وأن هذا البلد بلده, وأن هذه القضية قضيته, وبذلك يكون المجتمع فى أعلى درجات الحشد واليقظة والاستعداد. وهذه الوسيلة فى اتخاذ القرار ستجعل الجميع يتضامن فى حالة الهزيمة أو الخسارة, أو فشل القرار, فيعمل الجميع بكل طاقته لإصلاح هذا الفشل, ولا يرمون بالعبء على الزعيم الملهم الذى تركوا له اتخاذ القرار.
النظام الإسلامى لابد أن ينحو لطابع المؤسسات, والاستفادة من الآليات التى ابتدعتها الحضارة الغربية, ولا لوم فى ذلك ولا تثريب, فهذه بضاعتنا ردت إلينا, فما البيعة إلا انتخابات وعقد اجتماعى بين الحاكم والمحكومين. ويؤكد “د. زكريا بشير إمام” أن “جون لوك” المفكر الانجليزى الشهير اقتبس نظرية العقد الاجتماعى من نظام البيعة فى الإسلام. وكان جون لوك يعرف اللغة العربية قراءة وكتابة.
لاحظنا فى الاقتباسات العديدة السابقة خاصة من الفقهاء القدماء التركيز على الشورى وكأنها قرار فردى يتخذه الحاكم بصورة غير مؤسسية, فيستشير هذا فى ذاك الموضوع ويستشير آخر فى موضوع ثان وهكذا. وكلنا نذكر ما يردده الطغاة أنهم يسمعون لكذا وكذا ومن فلان وعلان ثم يتخذون قرارهم.
ونحن لا نطرح أن الحاكم مجرد فرد له صوت واحد فى مجلس الوزراء فلا شك أن النظام السياسى فى الإسلام أقرب إلى النظام الرئاسى منه إلى النظام البرلمانى, وأن رأس الدولة له صلاحيات مهمة, وإن لم يكن مجتهدا فلابد أن يكون على قدر من العلم يستطيع به أن يتابع عملية الشورى واتخاذ القرار بفهم ووعى, وأن يشارك فيها بفاعلية، وهذه الصلاحيات يجب أن تحدد فى القوانين والدستور بدقة, حتى لا تتحول إلى ثغرة جديدة للاستبداد. ولنأخذ مثلا من النظام الأمريكى الحالى حيث تحولت صلاحيات الرئيس إلى طغيان على الكونجرس فى اتخاذ أخطر القرارات المتعلقة بالحرب والسلم، حتى أن الكونجرس الحالى فى حيرة من أمره فى كيفية منع الرئيس من خوض حرب مباغتة على إيران!
إذن الحاكم فى الإسلام ليس مجرد صوت أو فرد, إنه قائد شامل للأمة فى حراسة الدين وسياسة الدنيا, ولكن يجب أن تحدد صلاحياته, وما هى أنواع القرارات التى يمكن أن يتخذها بنفسه بعد التشاور الاختيارى (الاستشارة) وبين القرارات التى تحتاج لموافقة مجلس الوزراء أو مجلس الأمن القومى أو مجلس الشورى (البرلمان) أو استفتاء شعبى. ولكن تبقى أهمية الحاكم وفاعليته مرتبطة بشخصيته وثقافته وتاريخه وقدرته على الإقناع. ولابد فى الأصل أن يكون منتخبا من الشعب.
نعود مرة أخرى لمسألة اختيار الحاكم لمستشاريه، فهذه تنطبق على السكرتارية أو المجموعة المعاونة المحيطة, والتى يلجأ إليها فى استشارات اختيارية, ولكنها لا تتعلق بقرارات السياسة المهمة أو العليا التى تحتاج إلى الشورى الملزمة.(من الأشياء الجيدة فى النظام الأمريكى أن السفراء يعرضون على الكونجرس للموافقة عليهم).
فلا يمكن حصر الشورى – كما كتب البعض – فى الأشخاص الذين يختارهم الحاكم بنفسه، كما هو حال مجلس الشورى فى السعودية حاليا. فهذا نوع من التلاعب وإلغاء للشورى عمليا. فالأمة هى التى تختار مجلس الشورى, أو أكثر من مجلس, والعلماء الثقات لابد من الرجوع إليهم على نحو مؤسسى إلزامى, وهؤلاء لا يختارهم الحاكم, ولكن تفرضهم مكانتهم العلمية, وأيضا ينتخبون من الشعب, أو من مجموع العلماء, لمنع أى احتمال للمحاباة, فالمسألة لا تتعلق بالمستوى العلمى فحسب, بل بالتقوى أيضا التى يكشفها تاريخ وسيرة كل عالم.
ونعود فى النهاية لنؤكد من جديد أن مجال الشورى فيما لا نص فيه من القرآن والسنة, أو فى تفسير أحد هذه النصوص. وأن للشورى 3 مستويات فى إطار النظام السياسى:
1- الأمور الدستورية المتعلقة بالعلم الشرعى, وهذه يتولاها مجلس من العلماء (مجلس صيانة الدستور أو المحكمة الدستورية). والتشريعات الصادرة عن البرلمان لابد أن تعرض على هذا المجلس للتصديق النهائى عليها قبل إصدارها, حتى لا يصدر أى تشريع منافى للشريعة الإسلامية.
2- القرارات السياسية تصدر بالشورى الملزمة فى مجلس الوزراء, والأمور التشريعية فى البرلمان, مع مراعاة النقطة السابقة بدستورية القوانين, وهو نظام معمول به فى شتى الأنظمة الغربية. ويقوم البرلمان (المجلس التشريعى) بمراقبة الأعمال التنفيذية للحكومة ومختلف قرارتها. ورئيس الجمهورية ينتخب من الشعب ويرأس السلطة التنفيذية.
3- كل المجالس السابقة بالإضافة لمجالس الحكم المحلى تنتخب من الشعب, وتدير المجالس المحلية أعمالها بالشورى الملزمة.
فى المستوى الثانى والثالث من الشورى يكون الالتزام مطلقا بقرار الأغلبية فى شتى القرارات, عدا أى تشريع فى المستوى الثانى, فلابد من أقراره من مجلس العلماء (المستوى الأول) وهو منتخب أيضا.
وفى إطار المجتمع تكون الشورى منهجا عاما بالقانون والتربية. فكل الهيئات الأهلية والنقابات والإدارات الحكومية تدار بروح الشورى, حتى الأسرة, وهذه الأخيرة تعتمد على التربية والوعظ والإرشاد ولا ينظمها قانون. أما بالنسبة للقضاء فالمعمول به حاليا هو مبدأ الشورى حيث يصدر الحكم برأى أغلبية الهيئة القضائية بعد المداولة.
ويجب ألا نستنكف عن الاستفادة من خبرات الغرب فى مجال آلية الشورى, فهذه بضاعتنا – كما قلنا – ردت إلينا. والحكمة ضالة المؤمن أنَّ وجدها فهو أحق بها.
فلا شك أن تحديد الشورى فى مؤسسة محددة هو الأفضل من تركها هكذا بصورة عفوية. بل إن ما جرى فى صدر الإسلام كان أقرب لذلك, وكانت قاعة المجلس هى المسجد. فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يشاور قادة المجتمع وهم أشبه بالمنتخبين, ذلك الانتخاب الطبيعى المتفق عليه, وكانوا جديرين بموقع القيادة هذا, سواء من قادة المهاجرين أو الأنصار. بل إن الأمر كان يصل إلى حد انتخاب مجلس محدد بالاسم. روى أن الرسول عليه الصلاة والسلام فى بيعة العقبة الثانية، قال للمسلمين بعد أن بايعوه البيعة المعروفة “أخرجوا لى منكم اثنى عشر نقيبا” فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرجع فى الشورى إلى من كانوا نقباء على قومهم: كان يرجع إليهم فى أمور الحكم والإدارة، وفى تعيين الولاة والكتاب. وقد خصص أربعة عشر رجلا كان يرجع إليهم فى الأمور العامة، واختارهم من النقباء على قومهم بغض النظر عن مقدرتهم. وأخذهم سبعة عن الأنصار وسبعة عن المهاجرين. وكل واحد منهم كان نقيب قومه وجماعته: أى أنه ضمن إسلام قومه وجماعته ودخلوا فى الإسلام على يديه وكان هو نقيبهم. وكان هؤلاء النقباء هم أهل الشورى الذين يرجع إليهم فى الرأى.(49)
وهذا هو المجلس المختار على أساس الزعامة السياسية, والقدرة على تمثيل القوم, وليس على أساس العلم الشرعى بالضرورة. وهى ممارسة قريبة جدا من فكرة البرلمان المعاصر.
وهنا تجدر الإشارة إلى مسألتين فى غاية الأهمية:
1- الإسلام يقوم على تقدير واحترام الأمة والناس, وعلى الثقة فى العلم المتوارث بالدين عبر الأجيال شفويا وتحريريا, وأن حفظ القرآن كان يعنى حفظ هذه الأمة من الضلال: )إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(. نعم قد تزيغ الأمة, وقد تنحرف بقيادة حكام السوء, ولكن يكون هناك دائما من يحمل المشعل, ويذكر بآيات الله مهما كان الثمن, حتى وإن دفع حياته رخيصة فى سبيل الله. (الأمثلة فى هذا المجال أكثر من أن تحصى ولكن اقرأ إن شئت سيرة المجاهد النورسى خلال عهد تركيا أتاتورك كمثال مضىء لما نقول).(50)
وبالتالى فإن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن أمتى لا تجتمع على ضلالة) حديث بالغ الأهمية ويؤكد المعنى العظيم للثقة فى المؤمنين، فحتى وإن انحرفت الأغلبية فإن الأمة لا تجتمع على هذا الانحراف. وتظل الأقلية تجاهد حتى تصحيح المسار. إن هذه الأمة محفوظة بالقرآن: )وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ( وبالتالى هذه الأمة يسعى بذمتهم أدناهم. ويمكن لشاب حامل للقرآن ومعانيه أن يتصدى لشيخ الأزهر حين ينحرف. ونذكر مرة أخرى بأن الذى وضع الأهمية للأئمة والفقهاء وقادة المذاهب هو جمهور التلاميذ وجمهور المسلمين. وأن معظم المذاهب اندثرت أو اضمحلت لأنها لم تجد من يحملها ويرعاها ويصنفها وينسخها. وهذا الأمر لم يكن عشوائيا, فأصحاب العلم الأكبر والأعمق والأكثر ورعا هم الذين بقت أثارهم وتوسعت دائرة أتباعهم، عبر العصور وليس فى حياتهم فحسب. ولأن دين الإسلام لا يعرف الباطنية ولا الأسرار الكهنوتية, فإن التواصل يكون سهلا ممتنعا بين القادة والجمهور، والتفاعل حى بين نخبة العلماء وفطرة المؤمنين. وعندما نقول علماء فإننا نعنى العلماء الثقات وليس موظفى السلطان من المعممين. إن جمهور المسلمين يعرف بالسليقة من هو الأكثر إخلاصا وتقوى وعلما من العلماء. بل إن أى جمهور عموما يمكن أن يكتشف الأصلح فى الرأى والقيادة شريطة أن يعطى بعض الوقت وألا يتعرض لأى إكراه.
2- وهذا ينقلنا إلى المسألة الثانية وهى مرتبطة بالأولى, وهى الخشية من الشورى الملزمة فى حدوث انحراف فى أحكام أساسية فى الدين، أو انحراف فى الإدارة الرشيدة للمجتمع فى حالة انتخاب أغلبية سيئة ولكنها نجحت فى خداع الجماهير. بالنسبة للدين فلا خوف عليه كما ذكرنا, فهو محفوظ بالقرآن والسنة المؤكدة, وبكل ترسانة الفقه للسلف الصالح عبر العصور. لا يستطيع أى فرد أو جماعة أو نظام التلاعب بثوابت الدين دون أن يكون مكشوفا للجميع. ومع ذلك فدعنا نذهب مع القلقين من حسنى النية من الشورى الملزمة حتى لا تخطىء الأغلبية فى الاجتهاد فيتحرف الدين. الحقيقة فإن الجماعة هى الضامن فى غياب الفرد المعصوم. فلو أخذنا ما جرى فى السودان كمثال. إذا أخذ النظام بمفهوم حكم الخليفة الفرد المجتهد كما ورد عند بعض الإخوة, فإن د. الترابى كان بالتأكيد سيكون هذا الخليفة. فماذا لو كان فى هذا المنصب وأصدر فتاويه الحالية: كزواج المسلمة من كتابى, وأن تؤم الصلاة, وترفع الآذان, وأن استقبال السودان لقوات أجنبية فى دارفور يجوز شرعا, وأن حمل السلاح ضد الحكومة بسبب مشاكل محلية يجوز شرعا! وبالتالى كيف يمكن أن نحصن منصب الخليفة من الوقوع فى مثل هذه المواقف؟ هل سيظهر شخص واحد آخر ويقوم بعملية انقلابية, ويقول أنا الممثل الصحيح للإسلام. سندخل عندئذ فى حلقة مفرغة, وسنكرر تجارب الاقتتال المسيحى الأوروبى. بينما الجماعة هى الضمانة للتقليل من هذه الاحتمالات إلى الحد الأدنى. واحتمال انحراف أغلبية الجماعة أقل من احتمال انحراف الفرد ذى السلطان. وفى الحالتين فإن المجتمع المسلم قادر على تصحيح الانحرافات, بمعنى أن تجاهد الأقلية التى تحمل الموقف الصواب, ومن خلال وسائل الدعوة السلمية, وبالتحلى بالصبر لتصبح هى الأغلبية. ولنأخذ هنا مثلا بارزا. لا يوجد انحراف استطال أكثر من الانحراف الذى نتحدث فيه الآن. وهو الانحراف عن الشورى واتخاذ سبيل التوريث فى نظام الحكم, ولقد استمر هكذا منذ عهد معاوية والأمويين حتى الآن, ومع ذلك لا يختلف اثنان على أن نظام التوريث باطل وليس من الإسلام فى شىء. أى أننا أمام حالة إذعان واستسلام للأمر الواقع, ولسنا أمام حالة اختلاف فقهى أو اجتهاد فقهى جديد أو مختلف. ومع ملاحظة أن كل المراجع التى استندنا إليها فى هذا البحث لم ننتقيها بصورة معينة كى تخدم وجهة نظر محددة, بل رجعنا لكل المراجع الممكنة خلال فترة زمنية لا تقل عن العام, وهى بالمئات ولم نسجل فى قائمة المراجع إلا الكتب التى اقتبسنا منها نصا محددا. ولقد وجدنا حالة من الإجماع على إلزامية الشورى كما رأينا معا (ماعدا كاتبين معاصرين).(51)
أما الخشية من سوء اختيار القادة على صعيد رشد القيادة السياسية والإدارية, فهذه مشكلة أبسط بكثير لأن الجمهور يمكن أن يغير خياره بعد 4 أو 5 سنوات فى انتخابات جديدة. كما توجد وسائل لسحب الثقة وعدم الانتظار لدورة قادمة فى حالة حدوث خلل غير طبيعى فى أحوال المجتمع. وهو ما يسمى أحيانا انتخابات مبكرة أو انتخابات جديدة بمناسبة عزل رئيس الجمهورية وتحويله لمحكمة جنائية, بل هناك بعض الدساتير المعاصرة تنظم إجراء عملية سحب الثقة من رئيس الجمهورية, رغم عدم ارتكابه لجرائم جنائية, ولمجرد إحساس الجمهور بفشله فى الأداء. والحقيقة أن الجماهير عموما, ولا نقول جماهير المسلمين فحسب, لديها عادة حس سليم فى الاختيار فى أغلب الأحوال. لاحظ فى تركيا مثلا والتى يمكن قياس الرأى العام فيها بسهولة لغياب عمليات التزوير. ستجد شعبية حزب العدالة الإسلامى فى تصاعد مستمر, وذلك لحسن أدائه خلال توليه المجالس البلدية, ثم خلال توليه الحكومة لأول مرة منفردا, حيث حقق الاقتصاد التركى طفرة ملحوظة, وأسقط الشعب التركى معظم الطبقة السياسية التقليدية (حزبا الوطن الأم والطريق القويم) وهى طبقة غارقة فى الفساد والفشل الإدارى والاقتصادى. الشعوب عظيمة ولكنها مبتلاة ببعض المثقفين الإسلاميين وغير الإسلاميين, الذين يشنعون عليها ويحملونها المسئولية عن التخلف ليعفوا أنفسهم كقادة من المسئولية.
وليس على الغيورين على دينهم أن يخافوا من الشورى, لأن الشورى حامية للعقيدة أحسن ألف مرة من حماية المستبدين. وأن أى انحراف عن الدين لا يعالج بالأساس إلا بالمزيد من الدعوة إلى الله, وليعلم الدعاة أن أفضل وسيلة للدعوة هى إبداء المثل الأعلى للناس فى حسن الخلق, والاستعداد الدائم للتضحية فى سبيل الله, وهو غالبا ما يكون تضحية بالنفس لصالح جماعة المؤمنين, ولذلك فإن الشعوب والجماعات عرفت وتعرف دائما على المدى الطويل الفرق بين الغث والسمين وبين الصالح والطالح، وبالتالى فإن المهمة الرئيسية للأنبياء والمصلحين هى التخلية بين الناس وبين خياراتها الحرة بعيدا عن إكراه الطواغيت.
والحاكم فى الإسلام كما ذكر الشيخ شلتوت من قبل ما هو إلا وكيل عن الأمة, ويمكن للموكل أن يسحب توكيله من الوكيل فى أى وقت.
انتخاب الحاكم:
كثيرة هى الأمور التى تركها لنا الله دون تحديد تفصيلى, لنعمل فكرنا واجتهادنا فيها, ولكى نهتدى بالمبادىء العامة فحسب, وهى لذلك صالحة لكل زمان ومكان, ومن ذلك الأشكال التفصيلية للشورى. فالمهم هو الحفاظ على المبدأ العام, ومن ذلك طريقة اختيار الحاكم. فقد يكون انتخابه على درجة واحدة أو على درجتين. كذلك لا يوجد نص قطعى بطبيعة الحال عن المدة. ومبدأ الانتخاب مؤكد فى الإسلام من خلال نظم البيعة, بل إن مبايعة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت ذات شقين, مبايعة له كنبى مرسل واعتناق دينه، ومبايعة له كحاكم لدولة المدينة ثم لجزيرة العرب. أما عن المدة فلا يوجد بطبيعة الحال نص فى هذا الأمر التفصيلى. واستنادا لفقه الواقع ونظرا لأن الأمة الإسلامية لم تعان بقدر ما عانت من استبداد الحكام وإلغاء الشورى, فإن تحديد حد أقصى للحاكم بدورتين أصبح واجبا, لإنهاء هذه العلاقة العضوية بين الحاكم ومقعد الحكم فى البلاد العربية والإسلامية. وإذا كان الحاكم المسلم عبقريا أو فذا فيمكن الاستفادة به كمستشار أو خبير أو مرشد, ولكن لا يبقى فى موقع الحكم أكثر من مدتين. ولنا أسوة حسنة فى محاضير محمد قائد النهضة الماليزية الذى ترك الحكم طواعية بعد كل الانجازات المذهلة التى حدثت فى عهده.
إن خبرة أكثر من 14 قرنا أثبتت أن حب الدنيا يتجسد أكثر ما يتجسد فى تولى الحكم, ولقد تخلفت أمتنا لأسباب عديدة, ولكن من الواضح أن هذا هو سبب الأسباب، إن مشكلة العالم الإسلامى أن مشروع حكامه الوحيد هو مجرد البقاء فى السلطة, وبأى ثمن وبأى أسلوب، أما النهوض بالبلاد فليس على جدول الأعمال إطلاقا. ولاشك أننا إذا أردنا أن نلخص مشكلة مصر الحالية فلن نجد أكثر من هذا القول. إن شعبا عريقا كالشعب المصرى يدفع غاليا ثمن رغبة زمرة الحكام فى البقاء أبديا فى الحكم وتوريث الحكم للأبناء.
إن لنا ملاحظات جوهرية على النظام الديمقراطى الغربى, ولسنا مفتونين أو منبهرين بكل ما فيه. ولا نعنى بذلك أن النظام الديمقراطى يشرع لأى شىء بالأغلبية, دون مراعاة لثوابت دينية فحسب, بل حتى فى مجال ما يسمى حكم الشعب لنفسه من خلال الانتخابات فإن الأمر لا يتحقق بهذه السلاسة، لأن الآلة الإعلامية تلعب دورا موجها لعقول الناخبين والجمهور فى اتجاهات محددة, وإن الطبقات المسيطرة تحافظ على مكانتها بهذا الأسلوب الإعلامى, بالإضافة لضخ كميات هائلة من المال فى العملية الانتخابية لا يقو عليها إلا نخبة النخبة. ومع كل هذه الملاحظات, فإن النظام الغربى بصورته الراهنة هو نظام أكثر رشدا من أغلب نظمنا فى البلاد العربية والإسلامية, ومن بين مظاهر هذا الرشد: تداول السلطة بين أكثر من حزب وأكثر من رئيس. حتى وإن كانت الفروق طفيفة بين الفريقين المتصارعين, إلا أن مجرد تغيير الوجوه والأشخاص يضخ دماءا جديدة فى النظام, ويعطيه مزيدا من الحيوية والأفكار الجديدة, وكل حاكم جديد يريد أن يحقق شيئا خاصا, وكل حزب يأتى للسلطة يريد أن ينجز شيئا حتى يبقى فى السلطة. ومن خلال هذا التدافع يستفيد المواطن والوطن، فهى مباراة لإثبات من الأحق بالقيادة والإدارة. وفى نفس الوقت فإن الثوابت الإستراتيجية للدولة لا تتغير بغض النظر عن التغيير الحزبى. خلافنا مع هذه النظم فى توجهاتها الإيديولوجية العامة وليس فى إتباعهم لهذه السنن التى تفوقوا بها علينا.
إن تحول الحاكم إلى إله فى بلاد تقوم عقيدتها على أن “لا إله إلا الله” هو مفارقة محزنة, فى حين الذين لا يقيمون للغيب وزنا أصبح الحاكم عندهم خادما للشعب يمشى فى الأسواق. روى لى صديق كان يدرس فى بلاد التشيك بعد تحولها إلى الديمقراطية, أنه كان جالسا فى مقهى, وأن رئيس الجمهورية “هافل” دخل بالصدفة أثناء وجوده بالمقهى مع أحد أصدقائه, وجلسا لبعض الوقت وانصرفا. وأن المقهى ظل فى حالة طبيعية, ولم يشاهد مظاهر للحراسات والأمن والسارينات كما يحدث عندما يتحرك وزير أو محافظ فى بلادنا. وكذلك نسمع عن رؤساء وزارات فى بلاد أوروبية يشترون من الأسواق ويركبون الدراجات. وكنا من قبل نباهى الأمم بأن خليفة المسلمين الثانى كان ينام تحت شجرة بدون حراسة. ومرت الأيام وأصبح من العسير أن يلتقى مسلم بحاكمه أو حتى يراه عن قرب. ولذلك فإنه يتحول إلى نصف إله لأن الناس عادة لا ترى الآلهة.
والآن فإن العمل السياسى الفاشل فى البلاد العربية قائم على السماح بكل شىء إلا أن يشرك بالحاكم رئيسا كان أم ملكا، وبعض المعارضة المصرية هى التى تحاول كسر هذه القاعدة العربية. إن الحاكم الأول فى يده 99% من صلاحيات الحكم, ومن غير المسموح أن تقترب منه أو تتحدث عنه إلا بالثناء. العمل السياسى وفقا لهذا الشرط نوع من العبث وخداع النفس والجماهير.
فى أوضاع كهذه لا يمكن للأمة أن تنهض, فرأس النظام هو العلة الكبرى فى الجسد. وهذا يعود بنا إلى نقطة البدء, وهى التوازن بين الإصلاح الفردى والإصلاح الجماعى, وأرى أن الحركات الإسلامية قد استنفدت كل الإمكانيات فى مجال الإصلاح الفردى, ولابد من الانتقال للإصلاح الجماعى بتغيير الأنظمة، وهذه كانت رسالة الأنبياء, وهذا ما يعود بنا مرة أخرى للإحصاء القرآنى, فإذا كانت نصف آيات القرآن على الأقل متصلة بأمور السياسة وتنظيم المجتمع. فكيف بعد 14 قرنا من الإسلام نترك نظما علمانية تنهش فى لحم المجتمع الإسلامى, بل نظم علمانية تابعة للاجنبى الأشد عداء للإسلام.
لا يتبين الناس أحيانا البعد السياسى فى القرآن الكريم لأنهم لا يجدون كلمة دولة أو حكومة أو سلطة, وهنا نجد البلاغة القرآنية, فهذه الألفاظ حديثة جدا ومرتبطة بالقرنين التاسع عشر والعشرين. وقد أخذت الدولة أسماء عديدة عبر التاريخ: أميرية – خديوية – إمبراطورية إلخ, وبعد قرن يمكن أن تستخدم مصطلحات أخرى, فالمهم إذن المضمون, وسنجد أن أعداء سيدنا نوح كانوا من الحكام, وكذلك الأمر مع إبراهيم وشعيب وصالح ولوط وعيسى وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام, وكذلك حارب المؤمنين أصحاب الأخدود وأهل الكهف كانوا هاربين من حكام وهكذا.
باختصار لقد نسينا أصل القصة وأصبحنا نتكلم فى الفروع، فأصل القصة أن الله خلقنا واستعمرنا فى الأرض واستخلفنا فيها لينظر كيف نعمل؟ إذن التكليف متصل بإعمار الأرض وفقا للشريعة السماوية, وليس مجرد أداء الطقوس والعبادات, فقد كان مشركوا مكة يحلفون بالله ويدعونه بالنصر, ويقيمون شعائر الحج بصورة أو بأخرى، ولكنهم أشركوا مع الله آلهة أو حتى مجرد وسائط، هذا من حيث الشكل, ولكن الجوهر أنهم كانوا منحازين لسلطانهم الدنيوى, ويريدون المحافظة عليه: )وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(. بل تمعن فى هذا القول الربانى العام الذى جاء فى ختام سورة يوسف, وبعد انتهاء القصة تماما فى صورة أحكام عامة: )وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ( ثم: )وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ( وبالتالى فإنى – بعد خشيتى الدائمة على نفسى – أخشى على هؤلاء المطمئنين بأنهم لديهم بطاقة لدخول الجنة لأنهم ينطقون الشهادتين, أو حتى يؤدون الشعائر وينسون قول الله الصريح: )أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (وعندما سأل المؤمنون الله الجنة يوم القيامة وقالوا له: )إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ( فماذا قال لهم: )فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ( وحدد على سبيل الحصر طرق الحصول على المغفرة ودخول الجنة على النحو التالى:
1- )فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ(
2- )وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ(
3- )وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي(
4- )وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ(
)لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ( (آل عمران: 195).
هل تستطيع أيها المسلم أن تضع نفسك فى إحدى هذه الخانات؟ لو كانت أغلبيتنا موجودة فى هذه الخانات لتحررنا حتما من الطاغوت.
كان لابد من هذه الخاتمة, لتأكيد أن نظام الشورى لن يتحقق فى بلاد المسلمين إلا بخوض جهاد مدنى طويل النفس, حتى نغسل مجتمعاتنا الإسلامية من هذه الأوضار, ونعيد بناءها من جديد.
كانت الخطة الأصلية أن اكتفى فى هذا الفصل بحسم مسألة أن الشورى ملزمة, ولكن تطرقت برؤوس أقلام إلى موضوعات نظام الحكم الشورى فى الإسلام, كمستويات الشورى وبعض آلياتها, حتى يكون الموضوع شبه متكامل, حتى يأذن الله باستكماله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الهوامش

1- تفسير القرطبى الجامع لأحكام القرآن – للإمام شمس الدين أبى عبد الله محمد بن أحمد ابن أبى بكر بن فرح الأنصارى القرطبى المتوفى سنة 671 هجرية – المجلد الثانى – دار الغد العربى – القاهرة – الطبعة الأولى – 1989م 1409 هجرية – ص 1592 – 1598
2- تفسير المنار – الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده – الجزء الثالث (11) – تأليف السيد محمد رشيد رضا – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1973 – القاهرة – ص162-175
3- فى ظلال القرآن – سيد قطب – المجلد الأول (1-4) دار الشروق – الطبعة الشرعية السابعة عشرة – 1410 هجرية – 1990م – القاهرة – بيروت – ص500 – 504
4- تفسير سورة آل عمران – أحمد حسين – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – وزارة الأوقاف – جمهورية مصر العربية – القاهرة – 1403هجرية – 1982م – ص168-171
5- الجزء الثانى من تفسير الحافظ ابن كثير, وهو الإمام الجليل الحافظ عماد الدين أبو الفداء إسماعيل ابن كثير القرشى الدمشقى المتوفى سنة 774 هجرية – ويليه فى أدنى الصحائف معالم التنزيل – تفسير الإمام البغوى المتوفى سنة 516 هجرية – مطبعة المنار بمصر سنة 1343هجرية – ص275-287
6- المرجع السابق – نفس الصفحات.
7- زهرة التفاسير – الإمام محمد أبو زهرة – الجزء 19 – دار الفكر العربى – القاهرة – ص1473-1482
8- الفقه السياسى الإسلامى – د.خالد الفهداوى – دار الأوائل – دمشق – الطبعة الأولى 2003م – ص399 – 405
9- نظام الإسلام – سميح عاطف الزين – دار الكتاب اللبنانى – دار الكتاب المصرى – الطبعة الأولى – 1409هجرية 1989م – بيروت – القاهرة – ص47-70. ولكنه فى مواضع أخرى فى ذات الصفحات يتبنى نظرية الحاكم الفرد الذى له وحده حق التشريع باعتباره مجتهدا. ويرجع هذا التناقض لعدم إدراك الارتباط العضوى بين ما هو سياسى وما هو دينى. فيقول البعض بالشورى فى الأمور السياسية دون الدينية.
10- الرسالة الخالدة – عبد الرحمن عزام – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – الجمهورية العربية المتحدة – لجنة التعريف بالإسلام – الكتاب السادس عشر – 1384هجرية 1964 م – الطبعة الثانية – ص213-217
11- فقه الشورى والإستشارة – د. توفيق الشاوى – دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع – المنصورة – مصر – الطبعة الثانية – 1413هجرية – 1992م – ص49-53
12- الإسلام والاستبداد السياسى – محمد الغزالى – نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع – الطبعة الخامسة – يناير 2005- القاهرة – ص57-65
13- الإسلام وأوضاعنا السياسية – الشهيد عبد القادر عودة – كتاب المختار – 1977- القاهرة – ص206-227
14- الشورى – مراجعات فى الفقه والسياسة والثقافة – د. أحمد على الإمام – دار السداد للطباعة – الخرطوم – ص14-16
15- مفهوم الدولة عند الطرطوشى وابن خلدون – جعفر البياتى – دار المعارف للطباعة والنشر – سوسة – تونس – 1999 – الطبعة الأولى – ص57-62
16- أبو بكر الطرطوشى – د.جمال الدين الشيال – وزارة الثقافة – دار الكاتب العربى للطباعة والنشر – فبراير 1968 – سلسلة أعلام العرب – 74 – القاهرة – ص89
17- بدائع السلك فى طبائع الملك – لأبى عبد الله بن الأزرق – السياسة والإدارة – تصنيف وتبويب د. محمد جاسم الحديثى – مراجعة وتقديم د.صباح الشيخلى – 1420هجرية 2000م – بيت الحكمة – سلسلة تصنيف وتبويب المراجع الفكرية (6) – بغداد.
18- غياث الأمم فى التياث الظلم – إمام الحرمين أبى المعالى الجوينى المتوفى سنة 478 هجرية – تحقيق ودراسة د. فؤاد عبد المنعم – د. مصطفى حلمى – دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع – الإسكندرية – مصر 1979 – الطبعة الأولى ص275
19- ندوة الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجوينى من 6-8 أبريل 1999 – جامعة قطر – كلية الشريعة والقانون والدراسات الإسلامية – الدوحة – 2000 – ص703
20- رسالة من الشيخ على بلحاج – دار العقاب – الجزائر ص30-31
21- الخلافة والملك – عبد السلام ياسين – دار الآفاق – الطبعة الأولى – 1421 هجرية – 2000م – المغرب – ص69-70
22- محاضرات فى الثقافة الإسلامية – أحمد محمد جمال – أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز – الطبعة الثالثة – دار الشعب – القاهرة – 1975- ص170-174
23- المجتمع الإسلامى فى مواجهة التحديات الحضارية الحديثة – أبو بكر القادرى – عضو أكاديمية المملكة المغربية – 1998 – الطبعة الأولى – مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء – 91-98
24- أحكام القرآن لابن العربى، سورة الشورى، قوله تعالى: )وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(، منشور على موقع “الشبكة الإسلامية” الإلكترونى: http://www.islamweb.net
25- الموسوعة الفقهية، الجزء السادس، منشورة على موقع أوقاف.نت الإلكترونى، التابع لوزارة الأوقاف الكويتية: http://www.awkaf.net
26- الشورى فريضة وضرورة حتمية وحق للمسلمين، لمحمد مكى عثمان أزرق، نشر على موقع: http://www.islamshoora.com الإلكترونى على شبة الإنترنت.
27- الشورى فى إدارة المجتمع المسلم وسياسته.. رؤية فى الإبداع السياسى، لمحمد مكى عثمان أزرق، نشر على موقع: http://www.islamshoora.com الإلكترونى على شبكة الإنترنت، ص4
28- المصدر السابق نفسه، ص12
29- الشورى فى ظل نظام الحكم الإسلامى، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، نشر على موقع نداء الإيمان الإلكترونى: http://www.al-eman.com
30- الشورى، مقال بمجلة المختار الصادرة عن حركة مجتمع السلم، العدد 7 بتاريخ 1- 10- 2006
31- الإحسان – 2 – عبد السلام ياسين – الطبعة الأولى 1998 – مطبوعات الأفق – الدار البيضاء – المغرب – ص164
32- حول الحكم والسياسة فى بلاد المسلمين- الطبعة الأولى – أكتوبر 1995 – القاهرة – توزيع: الدار العربية للطباعة والنشر والتوزيع – ص16-17
33- الإسلام دين العلم والمدنية – الإمام محمد عبده – عرض وتحقيق وتعليق طاهر الطناحى – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية – الجمهورية العربية المتحدة – لجنة التعريف بالإسلام – الكتاب التاسع – 1384 هجرية 1964م – القاهرة – ص101-105. وأيضا الفكر السياسى للإمام محمد عبده – عبد العاطى محمد أحمد – المجلس الأعلى للثقافة 2005 – الطبعة الثانية – القاهرة – ص183-186
34- فى ظلال العقيدة – أحمد عبد المجيد – كتاب المختار – 2005- القاهرة – ص115-116
35- دور كليات رسائل النور فى يقظة الأمة – خديجة النبراوى – سوزلر للنشر – الطبعة الأولى – 1998- ص283-284
36- الفقيه والسلطان – د.وجيه كوثرانى – المركز العربى الدولى للنشر والترجمة – 1990 – ص185-190
37- الإسلام وحقوق الإنسان الفردية – د. عبد الله حسين المحامى – الطبعة الثانية – 1999- الإسكندرية – مصر- ص661
38- حقائق الإسلام وأباطيل خصومه – عباس محمود العقاد – دار نهضة مصر للطبع والنشر – القاهرة – 1957 – ص141
39- التحفة الملوكية فى الآداب السياسية المنسوبة للإمام أبى الحسن الماوردى المتوفى عام 450 هجرية – تحقيق ودراسة د. فؤاد عبد المنعم – الناشر مؤسسة شباب الجامعة – الإسكندرية – 1977- ص51-57
40- الإسلام والأمن الاجتماعى – د. محمد عمارة – دار الشروق – الطبعة الأولى 1418 هجرية – 1998م – القاهرة – ص97-100
41- ردا على الملاحدة والعلمانيين – محمد متولى الشعراوى – إعداد عطية الدسوقى عمر ومحمد عبد الله بدر – إصدار الشركة العربية للطباعة والنشر والتوزيع – يناير 1995- ص 123-142
42- أصول الفكر الاجتماعى فى القرآن الكريم – د. زكريا بشير إمام – أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامى بجامعة الخرطوم – مدير جامعة جوبا – روائع مجدلاوى – عمان – الطبعة الأولى 1420هجرية 2000م – ص235-237
43- كيف نحكم بالإسلام فى دولة عصرية – د. أحمد شوقى الفنجرى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1999- الطبعة الثانية – ص187- 223
44- الحوار والتعددية فى الفكر الإسلامى – د. عبد العظيم محمود الديب – دار الوفاء للطباعة والنشر – الطبعة الأولى – 1417 هجرية – 1996م – المنصورة – مصر – ص18-32
45- أهمية الشورى، لموسى بن عبد الله الموسى، نشر على موقع المسلم الإلكترونى القسم العلمى بتاريخ 19 – 1 – 1427: http://www.almoslim.net
46- أهداف الاستشارة وآثارها، موقع: http://www.almoslim.net
47- نفس المصدر السابق.
48- نفس المصدر السابق.
49- نظام الإسلام – ص55 – مرجع سابق.
50- النورسى متكلم العصر الحديث – د. محسن عبد الحميد أستاذ التفسير والفكر الإسلامى فى جامعة بغداد – سوزلر للنشر – القاهرة – 1995
51- أعنى كتاب الديمقراطية وحكم الإسلام فيها – حافظ صالح، ماجستير فى اللغة العربية والدراسات الإسلامية من الجامعة السلفية – لاهور- باكستان – دار النهضة الإسلامية – الحمرا – بيروت – الطبعة الثالثة – 1413 هجرية – 1992م. وكتاب الدولــة الإســـلامية – دراسة تحليلية – د. محمد أحمد مفتى ود. سامى صالح الوكيل – لنفس دار النشر- الطبعة الأولى – 1413 هجرية – 1992م. والكتابان من نفس الاتجاه وهما يركزان أساسا على فكرة الحاكم الفرد المجتهد, وأنه إذا اجتهد فإن الأمة جمعاء لابد أن تلتزم باجتهاده وقراره. وفى تقديرى أن فى هذا تضييق شديد من مفاهيم الإسلام حول إدارة المجتمعات, ويتعارض مع كثير من نصوص القرآن والسنة التى أشرنا لكثير منها فى هذه الدراسة. ويستند هذا الرأى لقصص مختزلة عن قرارات الخلفاء الراشدين. فقد وصلتنا روايات مبتورة, ولا يفهم منها مع ذلك أن الحوارات كانت قصيرة, أو أن قرار الخليفة كان منبت الصلة عن المناقشات السابقة على اتخاذ القرار.


الملاحق

(1) القضاء على الفرعونية.. مهمتنا المقدسة خلال عام 2004
(2) إنهاء حكم الطغاة فريضة دينية.
(3) شرطان ضروريان لإسقاط الطغاة.. فهل من مستجيب؟!
(4) شرعية الخروج على الحاكم فى الإسلام.

ملحق (1)

القضاء على الفرعونية..
مهمتنا المقدسة خلال عام 2004 ( )

الحملة الصهيونية الأمريكية متعثرة ومغروسة فى أوحال العراق وأفغانستان, وعاجزة أمام الصمود الأسطورى للشعب الفلســطينى، ورغــم خيانة الأغلبيـة الساحقة لحكام العرب والمسلمين، إلا أن حركات المقاومة الجهادية توقف تقدم الغزاة, وتفشل خططهم وتربكهم، إن طلائع الجهاد تعطلهم لتتيح لنا الفرصة كى نلتحق بهم فى مختلف البلدان والجبهات لنوقع بالأعداء الضربة القاصمة، ولكننا لا نتقدم بالمعدل الواجب.
ولا شك أن الموقف الرسمى المصرى هو الذى يعطل التعديل الحاسم لموازين القوى، ولقد استنفدت القوى الوطنية المطالبات والمناشدات لأهل الحكم، ولم يعد هناك أى معنى لمواصلتها إلا الخنوع والذلة والمسكنة.. فالزمن هـــو زمــن المجاهــدة والمغالبة، وإن كانت بالوسائل المدنية والسلمية، وأكدنا مرارا وسنظل نؤكد أنها أكثر الوسائل نجاعة وشرعية فى آن معا، ولو سارت معنا القوى الإسلامية المتشددة هذا السبيل منذ سنوات مضت فلربما تغير وجه المسرح السياسى. والوقت لم ينتـه والفرصة لم تضع نهائيا، فالمهم أن تتحول “المبادرة” لوقف العنف إلى زخم فى العمل الجهادى السلمى (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) لا إلى محطة للحيرة والبلبلة التى أزكتها هـــذه الكتــب الأربعة لشرح ما يسمى “المبادرة”. والتى وصلت إلى حد تعطيل هذه الفريضة (الأمر والنهى) بصورة شبه كاملة (انظر مثلا باب العجز يسقط التكليف فى كتاب النصح والتبيين فى تصحيح مفاهيم المحتسبين).
حياتنا السياسية مجهضة، مصادرة، مستلبة، أشبه بصحراء بلقع. وهناك من ينظر إلى أن مصر بلد الخنوع الشعبى للحاكم منذ بناء هرم خوفو حتى الآن. ومن العسير أن ننكر هـــذا الطابع المصرى كلية, خاصة وقــد خلده القرآن الكريم, بل وجعل من حكم فرعون أمثولة ومضرب الأمثال فى الاستبداد، ولكن علينا أن نكمل الدرس القرآنى إلى آخره، إن استشراء الاستكبار والاستبداد لا يلغى مقاومته ولا يلغى إعلاء كلمة الحق، ولا يلغى إقبال الناس على الدخول فى معسكر الحق (سحرة فرعون وبنى إسرائيل) مهما كانت العواقب، كما يجب أن نصــل إلى آخر القصــة، فقــد هــزم فرعون وجنده وانتصر حزب الله: )فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ( (يونس: 92).
وإن انتهى عهد المعجزات والرسل والأنبياء، فإن النواميس لا تزال تعمل, وستظل تعمل إلى يوم الدين: )فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً( (فاطر: 43). فالحق ينتصر فى النهاية ويزهق الباطل: )إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً( (الإسراء: 81). والقول بأننا لا نملك أن نغير طابع حكمنا الفرعونى، هو شرك بالله، والتسليم بالعبودية لغير الله.
بل والحق يقال أننا نعيش فى ردة مخيفة, فلم يذكر لنا التاريخ أن أسرة محمد على قد ألصقت بها الأوصاف التى تلصق الآن بحاكم فشل على كل الأصعدة، وأورد بلادنا دار البوار. إننا فى العهد الراهن عدنا بصورة مخيفة لتأليه الحاكم (دون إنجازات العصر الفرعونى المادية). والغريب أن النخبة السياسية والمثقفة تتدهور حتى بالمقارنة لعهد السادات، فمعظم الذين واجهوا السادات واستبداده وفتحه لعلاقات الصداقة مع أمريكا وإسرائيل، وتعرضوا لاعتقالات سبتمبر، يتحلون الآن بالصمت أو باللياقة.
والأغرب أن هذه النخبة تدهورت عن مواقفها من ذات الحكم الحالى التى اتخذتها فى استفتاء عام 1993، حيث قالت جميع القوى السياسية (بالإجماع): لا لمبارك.
أما الآن فيعتبر انتقاد مبارك أو المطالبة برحيله.. نوع من التهور غير المحمود وإن كان صحيحا!!
والمسألة أبعد ما تكون عن الصراع الشخصى، وإلا لكان موقف موسى من فرعون مجرد مماحكة شخصية، وكذلك موقـف الشعب الإيرانى من الشاه، أو موقف أى أمة من حاكمها!!
إن الحاكم هـــو رمز النظــــــام، وصاحب القرار النهائى والأعلى. فإذا تم تحصينه بأوصاف إلهية كأن يقال: لا بديل له، لا ينطق إلا الحق.. إلخ, تصبح مواجهته أكثــر إلحاحـا وأهمية.
لذلك أرى أن المشاورات المكثفة التى تجرى الآن لتأسيس عمل جبهوى مشترك ضد الحلف الصهيونى الأمريكى، ستصبح بلا معنى أو ستتحول إلى نوع من النادى الثقافى، إذا لم تربط مقاومتها لهذا الغزو، بمن فتح الباب ويصر على استمرار فتحه لجحافل المعتدين، وأعنى فى مصر قبل فلسطين والعراق وأفغانستان، فالأمريكان والصهاينة متواجدون بكثافة على أرض مصر، كما ونوعا، وهم شركاء أساسيون فى اتخاذ القرارات الداخلية، وتحديد السياسات، وقد نقلوا مركز إدارتهم الاستخبارى والسياسى لمنطقة الشرق الأوسط من طهران عقب سقوط الشاه إلى قاهرة كامب ديفيد.
وقبل الحديث عن ضرورة إبراز الأساس الشرعى الإسلامى للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، أريد أن أستعرض الوصية النهائية للمفكر الراحل د. جمال حمدان.. رغم أنها ليست آخر ما كتبه, إلا أنها أكثر ما يستحق أن يوصف بالوصية, وهو الجزء الرابع للكتاب العمدة (شخصية مصر) فقد رأى عن حق أن مفتاح خروج مصر من أزمتها هو ضرب الأساس البيروقراطى الفرعونى. فهو يهتم بأساس تكوين المجتمع المصرى الذى تمحور حول النيل ونظم الرى التى ترعاها الحكومة, حتى أضحت البيروقراطية المركزية عنصرا أصيلا فى موكب الحضارة المصرية، أصبحت مصر مجتمعا حكوميا، الحكومة وحدها هى التى تملك زمام المبادرة وإمكانيات العمل، العمل الكبير على أية حال. حتى قال المؤرخون عن مصر: (إن قليلا من البلاد التى يلعب بها الجهاز الإدارى مثل الدور الذى يلعبه فى مصر أو يأخذ الحجم المتورم والثقل الضاغط الذى يأخذ فيها). أو (لا نعرف بلدا يتأثر أهله بالحكم صالحا أو فاسدا كما يتأثر أهل مصر، ولا نعرف بلدا يسرع إليه الخراب إذا ساءت إدارته كمصر).. (يكاد المجتمع المصرى أن يتحول إلى مجتمع حكومى، فمعظم من فى مصر أصبح يعمل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة موظفا عند الحكومة).
يقول حمدان فى وصيته: (قضية إعادة بناء الإنسان المصرى هــى ببساطة قضية هـدم الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول، ودك صرحها الإجرامى العاتى المتهرىء، وتصفية الطغيان الفرعـــونى المخضــرم المتقيح البغيض جسديا وأبديا، وهد قلعة الاستبداد المصرى الشوهاء المشئومة).
ويضيف إن مصر عرفت العصابة الحاكمة – ولا نقول أحيانا الحثالة الحاكمة – بمعنى عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية.
لقد كانت مصر هى حاكمها، وحاكمها هو عادة أكبر أعدائها، وأحيانا شر أبنائها, وهو على أى حال يتصرف على أنه “صاحب مصر”، “ولى النعم” أو الوصى على الشعب القاصر الذى هو “عبيد إحساناته” وظيفته أن يحكم, ووظيفة الشعب أن يُحكم. وحاكم مصر ينظر إليها كضيعته الخاصة, وإلى الشعب كقطيع، وعلى أحسـن تقدير يتبنــى فكـرة الراعــى الصالــح والرعية التوابع، أى فكرة الأبوية الطيبة أو القاسية بحسب الأحــوال. والدولـة الفردية أقرب فى الواقع إلى الدولة الشخصية.
ويضيف: كانت دولة الطغيان كقاعدة عامة استسلامية أمام الغزاة بوليسية على الشعب. وهــو يتحدث عن المعارضة فى عهد السادات ومبارك فيقول: المعارضة ديكور للديكتاتور, أو ملفقة كتمثيلية مرتبة جيدة الإخراج, أو داجنة مستأنسة شكلية مجرد حلية تابعة كما هى عاجزة، فهى على الأغلب “زائدة دودية” لا مبرر لها ولا وظيفة.
وهو يكتب عام 1984 (فماذا لو عاش حتى 2004 ليرى الأحوال أسوأ بما لا يقاس): (إن مصر تبدو اليوم فى أسوأ حالاتها، أسوأ مما كانت فعلا فى أى يــوم مضـى, إنها مازالت تبدو حتى الآن عتيقة, شاخت ولا تتجدد أبدا. مريضة ولكنها لا تموت أبدا. ذلك أنها قد تعايشت مع المرض وتعودت عليه).
(إن مصر المأزومة والمهزومة المحرومة الجريحة الكسيرة الأسيرة لابـد أن تنفجـــر، لأن التغييـر أصبح شـــرط البقــاء, والاختيار صار بين التغير والموت. فإن تلك المرحلة هى بلا ريب مرحلة الخلاص).



ان بيروقراطية الدولة المصرية لها أساسها التاريخى المفهوم والمبرر، كما أن تدميرها بصورة كلية أو تفكيكها ليس من المصلحة الوطنية، بل ان الحديث الأمريكى عن الديمقراطية غالبا ما يقصد هذا المعنى.. تفكيك الدولة المصرية، ومن ثم تفكيك أساس الاستقلال. وبالتالى فإن الموقف الوطنى الأصيل هو التقليل التدريجى من تغول الدولة، وإفساح المجال بصورة أكبر للعمل الأهلى والمشاركة الشعبية، ومشروعية المطالبة بتغيير الحاكم أو الخروج عليه إذا والى أعداء الأمة, أو أفسد فى الأرض بغير حق، دون تفكيك مؤسسات الدولة.
مع ملاحظة أن وظائف الدولة التى تضخمت على أرضية شبكة الرى للزراعة التى كانت تمثل 100% من النشاط الاقتصادى، يجب ألا تستمر بنفس السطوة والتشعب والسرطانية فى وقت تنوعت فيه الأنشطة الاقتصادية. وهناك ضرورة لإحداث مزيد من التوازن بين “الدولة” و”الشعب”.
وإليك هذا المثال الرمزى لتوضيح رؤية أصحاب الحكم عن طبيعة الدولة المصرية، بعد أزمة تجميد حزب العمل وإغلاق جريدة الشعب بمناسبة أحداث مطبوعات وزارة الثقافة المعروفة رمزا بمعركة “وليمة أعشاب البحر”، جرى حوار بينى وبين أحد ممثلى الدولة، وكان يطلب منى الاعتذار عما بدر منا فى هذه الأزمة من تحريض أدى إلى إشعال المظاهرات. قلت له بعد نقاش طويل، المسألة ليست المكابرة، أو الادعاء بأننا كبشر معارضين لا نخطئ, من الممكن أن نبحث فى أخطائنا علنا وأمام الشعب، ولكن لابد للدولة أن تعترف بخطاياها وتصلحها، فما معنى أن يستمر هذا المسمى فاروق حسنى وزيرا للثقافة, وما معنى نشره لكل هذه البذاءات التى نشرها ضد الأديان، وضد الله سبحانه وتعالى، ثم لماذا تستجيب الدولة لجوهر ما طرحناه, وتظل تعاقبنا وتترك الوزير فى موقعه؟!
فعبر محدثى عن جوهر أزمة البلاد والنظام حين قال: “هذه دولة ولا يحاسبها أحد على أخطائها، وأنتم مجرد مجموعة معارضين، فكيف تساوى بين الموقفين”. وأقول فعلا هـــذه هى المشكلة: تجبر وتأله الدولة, وليس رئيسها فحسب، إن فكرة أن تتساوى الرؤوس عندهم فكرة عبثية.. إنهم يرددون نفس ما قاله فرعون لموسى منذ آلاف السنين.
قال فرعون الذى يحتقر هذا الرسول الكريم لأنه لا يملك مالا ولا قوة مادية ولا جحافل الجنود فكيف يتسنى له أن يتحداه: )أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ( (الزخرف: 52).
إن الحاكم الفرعونى يفقد عقله مـن كثرة الصلاحيات والسلطات والقوات، وينسى طابعه البشرى، وأنه إذا جرد من هذه السلطات المادية لن يصبح شيئا مذكورا لا ماديا ولا معنويا، لأنه لا يملك رسالة، بل رسالته أن يبقى فى الحكم. وإذا بقى فى الحكم حتى الموت فإنه عندما يدركه الموت يقول: )آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ{90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ( (يونس: 90 – 91).
ومن علامات وخصائص النظام الفرعونى أن شخصية الحاكم وكفاءته لا تؤثران على استمراره فى الحكم، فمهما كان فاشـلا، أو غير صالح، يظل فى الحكم متمتعا بكل الصلاحيات, وتعمل أجهزة الدولة على خدمته واستمراره فى الحكم.
وهنا أعود مرة أخرى إلى د. جمال حمدان: (ان مصر تسمح للرجل العادى المتوسط بل “للرجل الصغير” بأكثر مما ينبغى وتفسح له مكانا أكبر مما يستحقه الأمر الذى يؤدى – خاصة على مستوى النظام الحاكم حيث تحكم التفاهة حينئذ وتســود – يؤدى إلى الركود والتخلف وأحيانا العجز والفشل والإحباط . وهــكذا يتكاثـر الأقــزام على رأس مصر, ويقفزون على كتفها، تتعثر أقدامها فى العمالقة وقد تطأهم وطئا).
حقا ما معنى أن تجمع الأمة على فشل حاكم, وتعجز حتى عن مجرد أن تنتقده، بل تقدم له أجهزة الدولة كل أسباب البقاء، بالإضافة إلى تسخير وسائل الإعلام له، ونسبة كل خير إليه, وكل مصيبة إلينا. والمسألة ليست مسألة انخفاض الكفاءة يمكن أن تعوضها أجهزة الحكم، نحن أمام اختيار غير وطنى، تبعية للأجنبى، حتى لقد فرض علينا قاتل فى وزارة الزراعة.. نحن أمام إصرار على سلام استراتيجى مع أعداء الله. وإصرار على إفقار الشعب لصالح قلة من المفسدين.

نحن لدينا حالة من التناقض الصارخ التى تثير البكاء حتى الضحـك أو العكـس. نحن أمــام تجبر وتغـول على الشعب، وركوع ونعومة مع الأعداء، نحن أمام تجبر واستكبار وتأله بدون إنجازات، بل تخريب واسع لكل مقدرات وإمكانيات البلاد. ونحن نريد أن نصل إلى نقطة توازن بين “الـدولة المصـرية” وبين “القوى الشعبية”.
نعم سيظل للدولة فى مصر وزنها الأكبر بالمقارنة مع بلاد مثل لبنان واليمن والسودان، ولكن دون أن تسحق الوجود الأهلى أو الشعبى المستقل، الذى هو أساس حيوية المجتمع.
ونحن هنا نميز بين الدولة – التى لا نسعى لتفكيكها وهو هدف عدوانى صهيونى أمريكى – وبين الفرعون، الذى يجب أن يكف عن أن يكون فرعونا. وأن تكون له مدد تنتهى، أو يمكن عزله بإرادة شعبية.
وبهذا المعنى فإن شعار “إنهاء حكم مبارك” هو الحد الأدنى الذى يمكن أن يخلق حركة شعبية جادة ووطنية.
إن مصر ليست ضيعة لحاكم أتى بالصدفة أو غيرها، بل لقد تصرف فى مصر كضيعة بالفعل لمدة 23 عاما وكفى تخريبا أكثر من ذلك.
ومن المهم فى هذه الآونة أن نثير قضية الحكم فى الإسلام، ومعايير الحاكم وضوابط ممارسة السلطة والعلاقة بين الحاكم والمحكومين، فهذه المسألة جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، فإذا نحن قبلنا خراب الدنيا، على أساس أنها أيام سنمضيها وتنتهى، فليس بامكاننا أن نقبل بخراب آخرتنا. وهذا ما يتهددنا حقيقة بإصرار وعاظ السلاطين على استبعاد أمور السياسة والمجتمع من العقيدة، إذا نحن قبلنا بهذا التزوير الفظ للدين.
إن الصبغة الإسلامية والطابع الإيمانى للدولة ليست مجرد خيـار واختيار محقق للتــوازن ومن ثم للمنفعـة والسعادة، وإنما هى تكاليف وفرائض وواجبات دينية لا يصح الإيمان الدينى بإنكارها وجحودها, ولا يكتمل بتعطيلها.. إنها جزء لا يتجزأ من العبادة.
وشروط بيعة الحاكم مبسوطة فى القرآن الكريم، ولعل أبرزها تلك الآيات التى وصفها شيخ الإسلام ابن تيمية بأنها “جماع السياسة العادلة والولاية الصالحة”. وهى الآيات من 58 – 65 فى سورة النساء التى تبدأ بـ: )إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ(, أما ما يردده وعاظ السلاطين عن طاعة أولى الأمر بصورة مطلقة ومجردة ودائمة فهذا عبث يرفضه القرآن الكريم، إذ اشترط أداء الأمانات إلى أهلها والحكم بالعدل أولا قبل أن يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(, فالطاعة لله أولا وللرسول ثانيا، وأولى الأمر بما لا يتعارض مع الأصلين: القرآن والسنة، وكان أوضح فقال: )أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ( أى من المؤمنين الصادقين, لا أتباع وأصدقاء بوش وشارون, كما جاءت بصيغــــة الجمـع لتشير لمختلف سـلطات الدولـة والعلماء (التنفيذية – التشريعية – القضائية) وليس لفرد واحد “ولى الأمر”. كما تشـــير الآيـة مباشرة إلى حق المعارضة والاختلاف والتنــازع, فجعل مرجعية حل هذا التنازع القرآن والسنة، واعتبر ذلك إجباريا على المؤمنين.. وهو ما يعنى عــدم تسليم المحكومين بمواقف الحكام إذا خرجت عن القرآن والسنة. وهذا يعنى أن إصرار الحاكم على تنكب الصراط المستقيم على مدار 23 عاما، يجعله واجب الخلع. وأن الحد الأدنى هو الاستعداد لنقل السلطة من الآن إلى قوى سياسية يرتضيها الشعب، وأن يتم التحضير لذلك حتى يمكن إنجازه بحد أقصى أكتوبر 2005 موعد انتهاء الفترة الرئاسية الحالية.
وهذه هى المهمة العظمى التى يتعين على القوى الوطنية الشـريفة بكل تياراتها أن تضطلع بها خلال العام الحالى بإذن الله.


ملحق (2)

إنهاء حكم الطغاة فريضة دينية ( )

صدرت لى أخيرا دراسة “الإسلام والحكم” وهى دراسة أجهدت فيها نفسى لأبرهن من القرآن الكريم أن الحاكم يجب أن يكون عادلا وصالحا ومنتخبا من الشعب, وأن هذا الأمر أصــل فى العقيـدة, وليس أحـــد فروعها أو نـوافل العبادات، وأخيرا اطلعت على كتاب قيم للإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر الراحل, فرأيته يقرر بحزم وجزم وصرامة وسلاسة كل الذى شقيت من أجل البرهنة عليه, معتمدا على التفاسير المعتمدة، فحمدت الله على صدق ما توصلت إليه، ولكن رأيت فى الوقت نفسه أن كل مسلم يجب أن يقرأ النصوص التى كتبها هذا العالم الكبير حول الموضوع فى أواسط القرن العشرين.

ولكن أولا دعونا نركز على النقاط الأساسية:
(1) أن الحكم بما أنزل الله هو الركن الركين للعقيدة، وأن ترك مجموعة من أهل الحكم الذين اغتصبوا السلطة تحكم بصورة مفتوحة, دون أى التزام بالمرجعية الإسلامية، أثم كبير يتحمله المسلمون إذا لم يسعوا بكل ما يملكون لتغيير هذا الواقع المنكر.
(2) أن إعلان عدم مشروعية الحكم لا يعنى القدرة الفورية على إزالته، ولكنه المقــدمة الطبيعية والضرورية لهذه الإزالة، وهذا موقف كل الأنبياء والرسل فهم عندما أعلنوا جهادهم ضد الطـواغيت لم يكونوا قد كونوا جيش التغيير، وإنما جيش التغيير تكون من خلال موقفهم الرائد البطولى الجسـور المفعم بالإيمان بقدرة الله العليا واستنادا لهذا الإيمان. وكان هذا هو القانون الذى حكم عمل المصلحين من بعد الرسل والأنبياء.
(3) أن حكم مبارك لم يرع لله وقارا, وخالف نصوص القرآن وصحــيح السنـة فى مجمل السياسات الخارجية والداخلية. وبالتالى فإن إيماننا بالله سبحانه وتعالى لا يكتمل بدون الجهاد ضد الطاغوت, والخروج عن طاعته, والدخول فى طاعة الله بلا قيد أو شرط: )فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( (البقرة: 256).
وإذا أدرك المسلمون ذلك إدراكا عقائديا صحيحا فإن التغيير يصبح قاب قوسين أو أدنى..
ولكن الدين المعلب الذى يروجه وعاظ السلاطين وبرامج الإعلام، يرضى نزعة التدين لدى المصريين, حين يحصر الدين فى أمور شعائرية أو أخلاقية (مسلكية فردية) فطالما أن ذلك يكفى لصحة الإيمان ودخول الجنة فلماذا إذن التخلى عن هذا التدين السهل إلى تدين صعب ملؤه الطرق الوعرة والأعباء الجسام، لمــاذا إذن نسـعى للجهاد وكجزء لا يتجزأ من العقيدة؟ وكأن الجهـاد قد شرع لشعوب غيرنا، فى فلسطين والعراق مثلا. فى حين أن العبادة مسألة إتباع لكل ما يحبه الله ورسوله، دون أن يكون لنا حق الاختيار فى أجزاء وترك أجزاء، فنختار الأجزاء السهلة ونترك الجوهر والأجزاء الصعبة. إن حق لا اله إلا الله، هو ألا نعبد غيره, ولا نتبع سواه, وأن نجاهد فى الله حق جهاده. وحكم مبارك – كما ذكرت فى عدة مقالات – لا يأبه بأحكام موالاة أعداء الأمة فيصادقهم، ولا يأبه بالشورى، ولا يعير انتباها لكل أوامر الله ونواهيه. وهو يوظف إمكانيات الأمة المصرية المسلمة لمصلحة أمريكا وإسرائيل، ويرتب أوضاع المجتمع المصرى على أساس توجيهات الحلف الصهيونى – الأمريكى، وهو فى كل ذلك يغتصـب السلطة والثــروة، ولا يحاسبه أحد، ويتصور المسلمون أن هذه أمور سياسية لا علاقة ضرورية لهم بها, على خلاف قول الله عز وجل: )يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ( (النساء: 60). ولا شك أننا نشهد صحوة فى حياتنا السياسية, حيث تجمع الحركة السياسية بكل تلاوينها علـى رفـض إعــادة انتخــاب مبارك. ولكننى أركز اليوم على البعد العقائدى الذى أدرك أنه هــو المحـرك الرئيسى لجموع الشعب، كما أن من واجبنا – أمام الله – أن نبين الحق الذى شرح الله به صدورنا، لكل المسلمين. فإذا تحولت الصحوة الإيمانية من مجرد الإقبال على الصلاة والصيام والقيـام والحج والعمرة, تحولت إلى إقامة دين الله فى الأرض, أى التمكين لدينه، فلن تقف أى قوة فى وجه الشعب إذا أراد ذلك وتحرك من أجله، مرضاة لله سبحانه وتعالى, وهو ما سينعكس على تحسين أحوالنا فى الدنيا كجائـزة عاجلة, وإن ظلت أعيننا بالأساس على الآجلة، ونحن مأمورون بإصلاح الدنيا، أى أننا لا نملك ترف الاستغناء عن تحسين أحوالنا فى الدنيا انتظارا للآخرة. وهى مسألة لا تقتصر على مستوى المعيشة الذى تهتم به الإحصاءات الدولية، وإنما مسألة عبادة بإعمار الأرض علــى النحـو الصالح العادل الذى أمرنا الله به، وهو الأمر الذى سينعكس ضمن ما ينعكس على أحوالنا المادية, وإن لم تكن هى الهدف الأول، أو الرغبة القصوى: )وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً( (الجن: 16).
إذن نحن لسنا فى صراع سياسى تقليدى مع حكم مبارك، نحن فى صراع ننتصر فيه لديننا، حيث نرى أطفال المسلمين يتمزقون إربا فى غزة والفلوجة، ونجد حاكمنا يلتقى الجنرال أبى زيد, وينسق معه الأمور العسكرية, ونرى الشعب المصرى يتمزق بأزمة اقتصادية, بينما الحاكم وأسرته يستثمرون الأزمة الاقتصادية لصالحهم ولصالح الطغمة الحاكمة معهـم, وهكذا فالأمثلة لا تعد ولا تحصى.
يقول الشيخ محمود شلتوت: (وحينما ترك المسلمون جانب العمل، ولم يعرفوا قرآنهم إلا تبركا أو تلاوة تداعيت بهم أركان الحياة وخر عليهم السقف من فوقهم).
ولكن ماذا يقول على الإسلام والحكم؟
(كل ما يتعلق بالحكم وتدبير مصالح المسلمين فى دنياهم دين، ويمكن أن يسمى نظام الإسلام فى الحكم وإدارة الدولة. وهكذا يرتبط الدين بالدولة ارتباطا كبيرا فى الإسلام، ارتباط القاعدة بالبناء، فالدين أساس الدولة وموجهها، ولا يمكن تصور دولة إسلامية بلا دين، كما لا يمكن تصور الدين الإسلامى فارغا من توجيه المجتمع وسياسة الدولة لأنه حينئذ لا يكون إسلاما).
وحول ضرورة أن تختار الأمة من ينوب عنها فى الحكم يقول:
(من حق هذه الأمة المكلفة – من الله – أن تختار من يباشر سلطتها نيابة عنها – فردا أو جماعة – ما دامت لا تستطيع مجتمعة مباشرة تكاليفها، اختيارا يقوم على الرضا وتوخى المصلحة العامة دون قهر ولا خديعة، ومن تختاره الأمة لقيادتها يخضع لرقابتها، وليس له عليها سيادة، لأنه وكيل يخضع لما يخضع له الوكيل فى سائر العقود، من رقابة الأصل الذى يحدد له كل تصرفاته، فهناك تعاقد بين الأمة وحاكمها (الخليفة) يتمثل فى البيعة على كتاب الله وسنة رسوله وصالح المؤمنين، وتعهده هو التزام ذلك، فإذا أخل بالعقد انخلع من الحكم أو خلعته الأمة ولو بالقوة).
وفى موضع آخر يقول: (فإن منعت الدولة الفرد المسلم من حقوقه وحــرمته حريته بلا مبرر شرعى فلا طاعة لها عليه) وفى موضع آخر يقول: (من حق الأمة أن تختار حكامها، تعينهم وتعــزلهم، وتراقبهم فى كل تصرفاتهم الشخصــية والعامة، فالحاكم يجب أن يكون حميد السيرة، فإذا ساءت سيرته فللأمة عزله، ويجب أن يكون عادلا، فإذا ظلم فللأمة عزله، ويتفق الفقهاء على أن (خليفة المسلمين) هو مجرد وكيل عن الأمة يخضع لسلطات موكله فى جميع الأمور، وهو مثل أى وكيل لفرد من الأمة فى البيع والشراء يخضع لما يخضع له الوكيل الشخصى).
(كما أجمع الفقهاء على أن خليفة المسلمين ورئيس دولتهم ليس إلا فردا عاديا من الأفراد، لا يمتاز على واحد منهم إلا بثقل مسئوليته كوكيل عنهم، فيؤخذ بالقصاص إذا قتل عمدا، ويحتمل المغارم التى يلحقها بالناس، ويلزم برد ما يغتصبه من الأفراد ويجلد بحد الزنى إذا زنى، وتقطع يده إذا سرق، والأمــة صاحبة الولاية عليه فى كل ذلك، تقيم عليه الحدود وتنفذ عليه الأحكام).
ويضيف الشيخ شلتوت: (لا تملك الدولة حق تقييد الحريات إلا فى حالة الطعن فى الدين أو إفشاء أسرار الدولة، أو التجسس عليها لحساب الأعداء، وعدا ذلك فإذا قيدت حرية شخص فلا طاعة للدولة عليه).
ثم ينتهى فضيلته إلى عدد من المبادئ الإسلامية فى الحكم, منها:
الحاكم: وكيل للأمة وليس له عليها سيادة, بل هى سيدته وهو خادمها الأمين.
الشورى: أساس الحكم وكل حكم لا يقوم على الشـــــورى لا يكون شرعيا.
الرقابة الشعبية: حق للأمـة أن تراقب حكامهـا وتحاسبهم وترسـم لهم خطوط تدبير مصالحها، وتشرف على التنـفيذ، وتعدله حسب مصلحتها.
عزل الخليفة: للأمة عزله إذا جار وظلم وظهر غشمه, ولم يرع لناصح أو زاجر,فإن رفض العزل عزلته بالقوة، ولو أدى ذلك إلى نصب الحرب وشهر السلاح فى وجهه إذا رأت الأمة فى ذلك مصلحتها.
أهل الحل والعقدة: هم أهل العلم والرأى والخبرة فى كل نواحـى النشاط الحيوى بالأمـة, وهم لسانها المعبر عن رضاها وسخطها, ومن حقهم ترشيح أصلحهم للخلافة، وتقديمه للأمة لترى رأيها فيه عن رضا واختيار، دون ضغط أو قهر، ومن حق كل مسلم أن يكون له رأى فى اختيار الخليفة، وأن يمكن من إعلان رأيــه بحرية تامة، دون أن يضار بسبب رأيه, ولو خالف الأغلبية, وعليه مع هذا أن يلزم الجماعة.
هذا أهم ما ورد فى كتاب الإمام محمود شلتوت (من توجيهات الإسلام – دار الشروق).


وعادة عنـدما نطرح هـذه الآراء يبتسم بعض الإسلاميين ويقولون: وهل مبارك خليفة؟! إذا كان مبارك لا يصلح أن يكون خليفة أى حاكم مسلم أو رئيس لدولة إسلامية، (لا يوجد معنى خاص لمصطلح خليفة أكثر من ذلك) فهذه هى الطامة الكبرى؟ لأننا كمسلمين مسئولون عن طبيعة من يحكمنا, ونحن مأمورون أن نجاهد لتغيير الحاكم الطالح بكل السبل الشرعية الممكنة، ونرجح فى ظروف بلادنا أن تكون سلمية.
وبعد هذا الكلام الشرعى المحكم لعالمنا الجليل، يمكن أن ندرك الآن أن المطالبة بتغيير الدستور ليكون انتخاب رئيس الجمهورية انتخابا حرا مباشرا بين أكثر من مرشح، وإلغاء حالة الطوارىء, مطالب دينية إسلامية قبل أن تكون سياسية أو ديمقراطية.
وبالتالى فإن على كل مسلم يؤمن بالله ورسوله أن يشارك فى حملتنا من أجل مليون توقيع بتعديل الدستور، وأيضا فى المسيرات التى سندعو لها قريبا.
ولاشك أن الخــراب الذى عم مصـــر يشمل كل المصـــريين, وبالتالى فمن دواعى الوطنية أن يشارك أقباط مصر فى هذه الحملة, من منطلق التكاتف الوطنى الشامل لإصلاح الوطن كما حدث فى ثورة 1919, وفى مختلف الحركات الشعبية التى سبقت وتلت ذلك.


إن استمرار حكم مبارك رغم أنف 99% من المصريين هو العبودية بذاتها، وبما أننا نؤمن أنه لا عبودية ولا ركوع لغير الله، فيجب أن نعلن كفرنا بالطاغوت, وإيماننا بالله.. إنها قضية إيمـان ووطن، وليست مســألة من قبيل الخلافات والمماحكات السياسية السقيمة، إنها قضية حياة أو موت، بالمعنى المادى والمعنوى، وبالمعنى الدنيوى والأخروى.
ولا أريد أن أقول أن أمتنا العربية والإسلامية طال انتظارها لتصحيح الأوضاع فى مصر، لأننا نريد أن نحرر أنفسنا كهدف فى حد ذاته، ونريد أن نكسب أنفسنا، بعد أن خسرناها على مدار عدة عقود من الذل والهوان وسحق الآدمية.
)وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{87} وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( (القصص: 87 – 88).


ملحق (3)

شرطان ضروريان لإسقاط الطغاة..
فهل من مستجيب؟!( )

مصر هى همنا الأكبر.. والأول. نحن مسئولون عنها أمام الله ثم أمام أنفسنا, وإما أن نهاجر منها أو نصلحها. والأحوال العامة لا تشير إلى جواز الهجرة بل تشير إلى إمكانية التغيير، وتشير على الأقل إلى إمكانية المقاومة بأقل الخسائر الممكنة، وإن كانت مقاومتنا فى سبيل الله، ونحن نسأل الله العافية ولكن لابد أن نكون جاهزين لكل التضحيات لوقف هذا المشهد الخرافى.
شخص واحد متهاوى الصحة حوله أسرته ومجموعة ضيقة من المنتفعين والآفاقين يذلون أمة من 70 مليون، لا يوجد ما يمكن هذه المجموعة من إذلال عشرات الملايين إلا لأنهم مستسلمون، وكأن حكم أسرة مبارك قدر لا فكاك منه، وتحولنا وكأننا أمة من الأنعام تساق إلى الذبح “وهم ينظرون”. حتى أن معظم مكونات أجهزة القمع فقدت حماسها فى الدفاع عن النظام، ولكنها لا تزال تنفذ التعليمات، خاصة إزاء المظاهرات الهزيلة العدد على الأغلب، وربما إذا زاد حجمها، لما تعرضت للقمع ولتشجعت القوات الأمنية على عصيان الأوامر.
لا نجد متحمسا واحدا لحكم العائلة إلا مجموعة ضيقة من المنتفعين المباشرين ومجموعة أوسع من الفاسدين الذين يحصلون على مليارات من الصناديق الخاصة، أو من النهب الخاص.
هذا وضع مثير للحنق.. يمكن تلخيصه فى معادلة بسيطة ومفزعة وحقيرة فى آن معا.. إن شخصا واحدا يستهزئ بـ70 مليون شخص ويقال أنهم أصبحوا الآن 72 مليون!! وتتذكر الآية الكريمة: )فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ(.. )أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(.. )مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى(.
نحن أمام نظام خائن بحكم نصوص الدستور.. ومرتد وفقا لأحكام الشريعة. وقد لخص الأستاذ طارق البشرى الموقف فى مقاله الأخير بجملة واحدة (نظام يعلن أنه حليف استراتيجى لعدو الأمة الاستراتيجى). نحن أمام نظام حصل على شهادة الوطنية من بلد آخر أو من مجلس نيابى لشعب آخر، لكن أبدا ليس من مصر. ربما حصل على شهادة الوطنية من الكيان الصهيونى لأن 80% من البترول الذى يستورده يأتى من مصر من حقول بترول سيناء، وكذلك الغاز المصرى فى الطريق وبأقل من سعره فى السوق العالمى. ولأن مصر بدلا من السوق المشتركة مع العرب والمسلمين، أقامت سوقا مشتركة مع الكيان الصهيونى فى النسيج (اتفاقية الكويز) والزراعة والسياحة، بل إن الصادرات الإسرائيلية لمصر ارتفعت بنسبة 148.5% فى الربع الأول من العام الحالى بسبب الكويز (اتفاقية الكويز تبيح للمنسوجات المصرية أن تدخل السوق الأمريكى بدون جمارك إذا كان بها مكون إسرائيلى لا يقل عن نسبة 11.7%)، وبلغ عدد المصدرين الإسرائيليين – عموما – إلى مصر 257 مصدرا معظمهم فى مجال المنسوجات والمواد الكيماوية وصناعات تكرير البترول. (الأهرام 27/9/2006 نقلا عن صحيفة يديعوت احرونوت الإسرائيلية).
ربما يحصل النظام المباركى على شهادة وطنية من الجهاز المركزى للمحاسبات (الأمريكى)، الذى أكد فى تقريره للكونجرس أحقية النظام المصرى فى الحصول على المعونات الأمريكية لأنه سمح بعبور 36 ألف طلعة جوية أمريكية عسكرية, والمرور من الأجواء المصرية لضرب أفغانستان والعراق. وأنها قدمت معلومات استخبارية بسخاء، وأنها تقدمت بمستشفى ميدانى للقوات الغربية فى أفغانستان (فى بجرام تحديدا).
هل نواصل الحديث عن الانهيار الداخلى الشامل فى شتى مناحى الحياة المصرية؟ هل الأمر يستحق مزيدا من الجدل والبرهنة؟!
توقفت مليا عند مقال للأستاذ/ فهمى هويدى فى أهرام (19/9/2006) فهو ما يزال يتعجب من حصول مسئول كبير باتحاد الإذاعة والتلفزيون على دخل شهرى رسمى تجاوز 60 ألف جنيه فى بلد يقول القانون أن مرتب رئيس الجمهورية السنوى (لا الشهرى) 12 ألف جنيه. ما يزال يتعجب من وجود 5600 موظف يحصلون على 54 ألف جنيه سنويا. وأن سكرتير المحافظة أصبح يحصل على 400 ألف جنيه سنويا، ويتعجب لماذا؟ ومنذ سنوات علمنا أن يوسف عبد الرحمن الساعد الأيمن ليوسف والى يحصل على مرتب شهرى يتجاوز نصف مليون جنيه. وإلى متى ستبقى مهمتنا أن نتعجب من أوجه الفساد الأسطورى المعلن فى البلاد. فالأخطر أن الفعل الفاضح يرتكب على قارعة الطريق، وهذا لا يحدث فى أكثر البلاد فسادا، ولكنه فى مصر أصبح مقننا ومعلنا، ومقننا لا تعنى أنه أصبح منظما بالقانون، بل هو مجرد قانون الأمر الواقع، كقيام ابن رئيس الجمهورية بالمتاجرة فى ديون مصر، وأن يصبح اللاعب الأول فى بورصة الأوراق المالية بصورة معلنة ورسمية. هذا فعل فاضح يرتكب فى ميدان عام دون خجل ودون تغطية من قانون أو عرف. بل أحيانا يكون خرقا صريحا للدستور بتشغيل وكلاء وشركات أجنبية وزراء بالحكومة!! (المغربى – رشيد.. إلخ)، وهى كلها من علامات الساعة.. ساعة هذا النظام بإذن الله.
وأهم ما فى مقال الأستاذ/ فهمى هويدى أنه أشار إلى واحدة من مكامن استقرار نظام الفساد، فمن بين 17 مليار جنيه يتم جمعها فيما يسمى الصناديق الخاصة فإن 10 مليارات منها يدخل جيوب كبار الموظفين (الصناديق الخاصة بوزارة الداخلية هى الأكثر شهرة ولكنها لا تحتكرها) وهذه هى طبقة الفساد التى تحمى نظام مبارك.
د.أحمد الغندور رئيس الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والتشريع والعميد السابق لكليتنا (الاقتصاد والعلوم السياسية) كانت له كلامات موحية ومعبرة عن جوهر الأزمة المستطيلة فى البلاد فعندما سأله صحفى عن تجاوزات هيئات حكومية بـ 11 مليار جنيه.. قال له:”أنت تتكلم فى تفاصيل صغيرة”!! وهذا صحيح تماما، ان 11 مليار جنيه أصبحت “فكة” فى عالم فساد مبارك.
ويقول د.أحمد الغندور – الذى لم يعرف عنه يوما الحدة أو الثورية أو المعارضة الراديكالية – فهو رجل أكاديمى وخبير اقتصادى ومستشار للنظام.. وهو من أنصار الاقتصاد الحر.. يقول: “أنا أتكلم عن ظاهرة القطائع وما أدت إليه من ظهور أمراء الإقطاع. فقبل أن تتكلم عن التجاوزات أسال بدورى كيف ذهبت المليارات من الجنيهات المخصخصة فى قطاع البترول أو الواردة من ميزانية البترول أو فى ميزانية قناة السويس أو فى الموازنة العامة للدولة. والسؤال هنا: كيف أنفقت الأموال التى يتصرف فيها قطاع الأعمال العام؟! فلو نظرنا إلى قطاع المدن الجديدة مثلا سنجد أن أراضيها تخصص بأثمان رمزية لأسماء كبيرة ترتبط بالنظام ثم يعيدون بيعها بأثمان خيالية والفرق يوضع فى طبقة لا تجيد سوى فنون الفساد”.
وعندما سأله الصحفى: هل تقصد أن الخصخصة كانت فرصة للنظام ورجاله؟ رد قائلا: “بل قل فرصة ذهبية يضاف من خلالها إلى ما أخذ من قبل، وهو يقدر بمئات المليارات مما يؤكد عدم انتماء هذا النظام ورجاله لأى انتماء سياسى أو فكرة يدافع عنها! النظام يعيش فى الحرام ولا حدود لجشعه, وهو جشع نتيجة لطبيعة هذا النظام الذى يتحكم ولا يحكم”. إن وصف د. الغندور للنظام باللصوصية لا يجعل لنا شيئا لنضيفه لنبرهن على ذلك أو لنحث الناس على العمل لإسقاطه!


وكما يقول الأستاذ/ طارق البشرى ما فحواه لقد تكلمنا كثيرا.. ولم يعد لدينا ما نضيفه، وليس أمامنا سوى العمل حتى نحصل علما جديدا. وطرح علينا كما طرح أول مرة فى مقال (أدعوكم إلى العصيان) طرح علينا سؤال: ما العمل؟ أو بالأحرى جواب هو: إلى العمل!
ولابد أن نصارح أنفسنا، ونصارح القوى الوطنية والإسلامية، وكافة قوى وعناصر الأمة الشريفة المخلصة بخلاصة المعاناة فى العمل الجبهوى على مدار العامين الماضيين حتى نستطيع أن نطرح حوارا جادا حول الخطة المقبلة.
وحتى لا ندخل فى قصص وروايات لا طائل من ورائها دعونا نركز على المبادئ.. إن نجاح أى عمل جبهوى ضد نظام مبارك يشمل شرطين أساسيين متكاملين إذا لم يتوفرا لن ينجح عملنا وسيظل نظام مبارك يحكمنا إلى أبد الآبدين (من خلال التوريث العائلى أو السياسى) أو يستبدل الله قوما غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا.

الشرط الأول:
أن تعلن الجبهة الوطنية (أى جبهة وبأى اسم) هدفها النهائى، وأن هدفها النهائى فى هذه المرحلة هو إسقاط مبارك، وتعلن عدم مشروعية هذا النظام، وتعلن التعبئة الشعبية من أجل محاصرة ومقاطعة ثم إسقاط هذا النظام. وأحيانا كثيرة كان يدور الخلاف حول شعار “إسقاط مبارك” أو “حكم مبارك” باعتباره من قبيل التطرف أو الغلو أو التشدد غير المفيد، الذى قد يعرض الحركة الإسلامية والوطنية لضربات بلا طائل. وبطبيعة الحال نحن لا نتحدث عن شروط الجبهة بشكل نظرى لكل زمان ومكان. نحن نتحدث عن شروط الجبهة فى مصر فى هذا الزمان، حيث يجمع العقلاء والوطنيون على أن النظام الحالى قد أنهى عمره الافتراضى وأن استمراره يضر الوطن أكثر مما ينفع إن كان قد بقى له أى نفع ما. فإذا كان هذا النظام قد فقد مشروعيته الوطنية والقومية والإسلامية، فمن واجب هذه التيارات أن تتكاتف معا من أجل إسقاطه. ومن أهم عناصر النجاح فى تقويض النظام الإعلان عن عدم مشروعيته وإعلان الكفاح الوطنى والإسلامى من أجل إسقاطه. هذا جزء لا يتجزأ من العملية الكيميائية، حتى تنجح، فلم يعرف التاريخ نظاما سقط من تلقاء ذاته، ولكن بقوى مضادة له أسقطته، وأن الإعلان عن ضرورة إسقاطه شرط ضرورى لحدوث التفاعلات الكيميائية الموصلة إلى هذه النقطة، وليس من المهم متى يتم هذا؟ بمعنى أن الإعلان بعدم مشروعية نظام لا تؤدى فورا إلى إسقاطه، هذا مؤكد، ولكن المؤكد أيضا أنه لن يسقط أبدا طالما لم يتصد أحد لهذه المهمة، وبالتالى فإن هذا الإعلان يقرب من لحظة السقوط. وعندما يكون النظام متهاويا، وينخره السوس بتقدير مختلف الفرقاء، فإن الإعلان عن عدم مشروعيته، وإعلان الكفاح من أجل إسقاطه لا شك أنه يقرب جدا من هذه اللحظة. وفى كل الأحوال نحن نكسب الدنيا والآخرة، ففى هذه المواجهة سنحترم أنفسنا وكرامتنا فى الدنيا، ونضمن حسن ثواب الآخرة إذا حسنت النوايا، هذا فى حالة عدم التوفيق لا قدر الله. وهى حالة أشار إليها القرآن فى أكثر من موضع مثل: )فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ( (الأعراف: 165). وأيضا: )فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ( (هود: 116).
ولكن الأصل أن يسعى المؤمنون للنصر، والآيات التى تبشر بالنصر هى الأساس, وهى الغالبة فى آيات القرآن، وآيات الواقع، والصنفان من سنن الله ولا تعارض بينهما.. إن هذا الشرط الذى نتحدث فيه: وهو إعلان البراءة من النظام الفاسد هو قانون يحكم حركة الأنبياء والرسل بدءا من نوح عليه السلام حتى محمد عليه الصلاة والسلام. (يمكن الرجوع لعشرات بل ومئات الآيات بالقرآن الكريم حول هذا المعنى).
ولم يكن إعلان عدم مشروعية النظام له علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالقوة الفعلية المادية للنبى أو الرسول فهو يقول الحق، وإن كان وحده، (قصة تحطيم سيدنا إبراهيم للأصنام) ويعلن ضرورة إسقاط النظام الطاغوتى دون أن يملك تنظيمات قوية أو جماهيرية منظمة أو غير منظمة، ولكن هذا ضرورى، ويأتى بعد ذلك، وفى سياق المواجهة والتعبئة.
وإذا قمت بالتوازى بدراسة مختلف أنواع الثورات التى غيرت مجرى التاريخ فى الأوطان أو على مستوى العالم فسنجد أنها التزمت بهذا الشرط: إعلان عدم مشروعية النظام، وإعلان الكفاح من أجل إسقاطه.. لأن هذه سنة من سنن الله فى خلقه.
إن إعلان الهدف النهائى لمرحلة ما، مهم للغاية، من أجل تعبئة قوى الأمة تجاه النظام الفاسد، وعزله وحصاره فى أضيق مربع ممكن، وأهم شىء فى عزله هو البرهنة على عدم مشروعيته وهدم الأساس الفكرى له أو المرجعية التى يتشبث بها. مثلا عندما أكتشف أئمة قريش أن محمد يصلى مع أصحابه بهيئة أخرى غير هيئة صلاتهم لم ينزعجوا، ولكنهم كانوا ينزعجون من ارتفاع صوتهم بالقرآن الذى يزلزل أركان النظام: (كانت قريش تحاصر النبى صلى الله عليه و سلم من أن يعلن بالقرآن، فكان صلى الله عليه وسلم وهو مختف بمكة إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به) (دراسات فى السيرة – الجامعة الإسلامية – غزة). ثم بعد الجهر بالدعوة كانت مشكلة نظام قريش مع الدعوة الجديدة بالأساس أنها تقوض مشروعيتهم بالقول أن محمدا (سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا).
ومرة أخرى فى شكوى إلى أبى طالب (إن ابن أخيك يؤذينا فى نادينا وفى مسجدنا فانهه عن أذانا). وفى شكوى ثالثة (أن ابن أخيك يشتم آلهتنا فأرسل إليه فانهه).
وعندما واجههم النبى لم يتراجع وقال أمامهم إنما أريدهم على كلمة واحدة.. لا إله إلا الله. فقاموا وهم ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشىء عجاب (مسند أحمد).
لم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام نحن جميعا مسلمين وأنتم تحجون بيت الله ونحن نحج، وأنتم تدعون الله.. ونحن ندعو الله.. وأن هناك قواسم مشتركة، )وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(. إن المفاصلة هنا هى الشىء الحاسم، وهو البداية الحقيقية لتقويض النظام. ونظام قريش أدرك خطورة ذلك، رغم النفر القليل الذى كان حول محمد صلى الله عليه وسلم, والذى لم يتجاوز العشرات.
والخلاصة، إذا كان رأيك أن النظام الحاكم فاسد ولا يمكن إصلاحه بعمليات ترقيعية, فلا بديل سوى الإعلان عن هذا الهدف إذا كنت تريد أن تحققه بالفعل. لأن المستكبرين عادة يملكون قوى مادية وهم يسيطرون على مراكز إدارة المجتمع وحتى على ثقافته، ولا يمكن ازاحتهم إذا كانت لك رسالة إصلاحية شاملة (ولا تهدف لمجرد عمل انقلابى للوصول إلى الحكم) إلا بالاستناد لجموع الشعب، وبالتالى فإن حشد الأمة لا يتأتى حقا بدون هدف مقدس كبير جامع مانع يحفز الأمة على ضم الصفوف والتقدم للأمام واحتمال المشاق والأذية والابتلاءات فى سبيل الهدف الكبير.
إذا كان هذا هو الشرط الأول فما هو الشرط الثانى؟!
الشرط الثانى:
المكون الثانى الرئيسى للمعادلة الكيمائية التى لا يفلح التفاعل المؤدى للتغيير بدونها: البديل.
فإذا كان التغيير يستهدف إصلاح أحوال الأمة بصورة شاملة فإنه يعتمد على القوى الأساسية للأمة نفسها، وإذا رأينا فى الشرط الأول أن حشد الشعب لا يتأتى بدون هدف كبير ومقدس. فمن باب أولى فإن حشد قوى الشعب لا يتأتى دون أن يكون البديل واضحا أمامه، وملموسا فى قوة حية تطرح نفسها كبديل عملى برؤية فكرية متكاملة.
إن الجماهير لا تدرس النظريات فى الأكاديميات، ولكنها بحسها التاريخى وثقافتها المركوزة فى أعماقها، وحضارتها المختزنة عبر الأجيال، تنحاز لمشروع ضد مشروع ولبرنامج ضد برنامج.. إلخ.
ونحن لسنا فى بلد محتل بصورة تقليدية بحيث يكون الهدف المرحلى طرد المحتل الأجنبى. إن إسقاط النظام المصرى لابد أن يعنى إحلال نظام بديل له نسق فكرى – اجتماعى – سياسى مختلف, ولابد أن يقتنع به الجمهور الأعظم من الأمة.
إن الأشكال الجبهوية لم تقدم نفسها كبديل عملى للنظام القائم من خلال تقديم قيادات بصورة متوازنة تعبر عن القوى والموازين الحقيقية، وإن كانت قد قدمت برنامجا انتقاليا يستهدف الإصلاح السياسى. وهو برنامج الحد الأدنى الذى توافقت عليه قوى المعارضة.
وقد يصلح هذا البرنامج كأساس لمناطحة النظام (حتى وإن كان برنامجا انتقاليا لا يفصح بعد عن الأبعاد الإيديولوجية والاجتماعية المقبلة)، على أساس أنه برنامج إصلاحى سياسى يستهدف تحكيم (الصندوق الانتخابى) بدون تزوير لاختيار الحكام والنواب والجمعية التأسيسية لصياغة دستور جديد. وعلى أساس أن التمايز الفكرى سيأتى فى مرحلة قادمة.
أقول قد يصلح هذا البرنامج الانتقالى لخوض معركة شرسة لإسقاط النظام ولكن شريطة أن تحمله جبهة مقاتلة وتعلن أن تشكيلها القيادى المحدد من هذا التنظيم أو ذاك، ومن هذا الشخص أو ذاك، هو الهيئة التى ستشكل الحكومة الجديدة.
ولكن الأشكال الجبهوية الثلاث (كفاية – التحالف – الجبهة) لم يعمل أى منها بهذه الروح كبديل تنظيمى سياسى محدد يطرح نفسه لاستلام السلطة بعد إسقاط النظام الحالى.. كما أن الشكلين الأخيرين لم يطرحا أصلا فكرة إسقاط النظام.
وبعد ذلك نلوم على الشعب أنه لم يلتف حول هذه الأعمال الجبهوية.
إن الشعب لا يلتف حول قوى تنتقد النظام، إنما حول قوى تطرح إسقاط النظام وتطرح نفسها كبديل.
وإذا عدنا للشرط الثانى نحدد إذن أنه البديل الفكرى والتنظيمى معا، أى البرنامج وأداة تنفيذه أو مشروع الحكومة المقبلة.
إن البديل الديمقراطى وحده، أى برنامج الإصلاح السياسى كبرنامج إجماع لكافة القوى الوطنية قد لا يكون كافيا لحشد وتعبئة الشعب.
إن الطابع الإسلامى للمشروع البديل من أهم المحفزات لتحريك الملايين فى مصر، مصر التى اشتهرت بالتدين كأبرز ملامح شخصيتها، كيف تتخلف عن محيطها فى السودان والصومال وغزة وكل فلسطين وتركيا ولبنان وإيران والعراق وأفغانستان وباكستان حيث الرايات المرفوعة التى حركت الملايين هى رايات إسلامية.
ولا نقول ذلك على سبيل الإكراه والفرض للقوى الأخرى فى المعارضة ولكن من أجل الحوار الصريح والمناقشة.
إنه لا يضير الحركة الإسلامية أن تسير فى التغيير على مرحلتين:
(1) مرحلة الوصول إلى نزاهة صندوق الانتخاب.
(2) مرحلة الحصول على الأغلبية.
ولكن هذا الأسلوب لا يفيد إلا فى تأجيل التغيير أو تعطيله، فالكل يدرك أن التيار الإسلامى سيحصل على الأغلبية على الأقل فى هذه الآونة من حياة الأمة، فلماذا نستبعد الشعار الإسلامى من العمل الجبهوى رغم أنه هو الشعار الذى يحرك شغاف قلب الأمة؟ وليس بالضرورة أن تكون صياغته (الإسلام هو الحل)، إن الهدف العاجل هو الخلاص من كابوس حكم مبارك. والمهم هو وضع الآلية الديمقراطية لما بعد الإطاحة بحكم مبارك حتى نضمن تكريس تداول السلطة من خلال الانتخابات الحرة.
ولكن حكم مبارك لن يزاح أبدا بأى آلية ديمقراطية لأنه لن يسمح بها باستخدام الحديد والنار. ولن يفل طغيانه إلا العصيان المدنى أو الثورة الشعبية السلمية سمها ما شئت.
إن استبعاد الإسلام واستبعاد المشاركة المسيحية من منطلق دينى للإصلاح الوطنى، أمر عجيب، وكأنك تستبعد عنصر النجاح الأساسى ثم تعود لتبكى على مشاهد الفشل!
نتذكر ثورة 1919 وكيف خرجت من المساجد والكنائس، أعرف أن القيادات الكنسية الراهنة محورت اهتمام جمهورها حول المطالب الطائفية، ولكننا يجب ألا نيأس ونواصل مطالبة الإخوة المسيحيين مشاركتنا فى إصلاح الوطن.
إن اندفاع الشعب المصرى إلى الدين وهذا الإقبال الهائل على العبادات فى المساجد يؤكد أن الدين والإيمان هما القوة المحركة الأساسية لهذا الشعب. وأن هذا الشعب ثار من أجل فلسطين والعراق ولبنان فى السنوات الأخيرة بأكثر مما ثار من أجل الخبز. واعتقد أن الدافع الدينى كان هو الدافع الأول. أى دافع التضامن الإسلامى: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ(. والتبرعات الشعبية السخية للبنان والعراق وفلسطين، ومقاطعة البضائع الأمريكية هى فروع من ذلك الموقف الإيمانى.
لا يفل الحديد إلا الحديد، ولا يقضى على نظام دموى كنظام مبارك إلا انتفاضة شعبية مليونية تحمل راية “لا إله إلا الله”، وجربوا ذلك بعد أن جربتم شعارات سياسية مفرغة من أى مضمون ديني.
هذه طبيعة شعبكم فكيف تريدون أن تغيروا به وتقودونه من أجل التغيير.
قد يكون للحديث بقية ولكن يجب أن نقر فى البداية أن معظم القوى أو لنقل كل القوى – عدا حزب العمل وأنصاره ومن يفكر بمنهجه – لم تلتزم بالشرطين معا أو بأحدهما. بل والمثير للانتباه أن الإخوان المسلمين لم يلتزموا بالشرطين معا فى العمل الجبهوى، وبالتالى لم يقترحوا فى العمل الجبهوى أى شعار إسلامى ورفضوا شعار إسقاط مبارك، ولأن تنظيم الإخوان هو التنظيم الجماهيرى الأكبر. فقد وصلت الأشكال الجبهوية الثلاثة إلى طريق مسدود.
ونحن ندعو الإخوان المسلمين – الذين نقدر جهادهم وتضحياتهم – وكافة الفرقاء إلى إعادة تقييم الموقف على ضوء هذه المعادلة ذات الشرطين.
ونحن على استعداد لسماع كافة الآراء المخالفة والحوار معها, وحتى ذلك الحين سنسير فى طريقنا حاملين راية واحدة على أحد وجهيها: لا إله إلا الله، وعلى الوجه الآخر يسقط مبارك.
وسنحمل لافتة واحدة تقول: نحتكم ونوافق على أى نتيجة لصندوق الاقتراع النزيه غير المزور، كوسيلة دائمة لاختيار الحكام والنواب.
)وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (


ملحق (4)

شرعية الخروج على الحاكم فى الإسلام( )

أسعدنى كثيرا أن مقالى المنشور فى المجموعة (قلوب فى قلب واحد) بعنوان:شرطان ضروريان لإسقاط مبارك قد أثار كل هذا الجدل من الناحية الشرعية والسياسية, وهو دليل على حيوية هذه المجموعة التى هى عينة ممثلة لحالة النخبة الجديدة الواعية المتحرقة شوقا للحقيقة والباحثة عن الخلاص، من هذا الوهن الذى أصاب أمتنا.
وأسعدنى أكثر أن معظم المتدخلين كانوا إلى جانب الرؤية التى حاولت أن أمثلها وأخص بالذكر – وفى حدود ما وصلنى – مصراوى المصرى، محمد الريس، عزت هلال، رضا الزهيرى، آدم آدم، عصام سليمان، الأمين، ممدوح.
وحتى الذين اختلفوا، فهم فى حقيقة الأمر لم يختلفوا على تشخيص أوضاعنا الراهنة, ولكنهم أصابهم القلق من عدم توفر الأدلة الشرعية على وجوب الخروج على الحاكم، وظروف هذا الخروج، فى ضوء بعض الفتاوى, بل والأحاديث النبوية الشريفة، وفى مقدمة هؤلاء – وفى حدود ما وصلنى – محمد مرزوق ونهى وأبو محمود.
والحقيقة أن النقاش قد استطال وفتح أبوابا مفيدة لبحث الموضوع، ولكنه كان يمكن أن يغلق منذ الوهلة الأولى، إذا عاد الإخوة إلى فتاوى الشيخ الألبانى التى أشار إليها الأخ مرزوق ووضع لنا رابطها.. فهذه الفتاوى كانت ردا على أسئلة، متعلقة بالخروج المسلح أو بالأعمال العنيفة “الإرهابية” ضد نظم الحكم، فى أحداث قديمة متعلقة بسوريا ومصر والجزائر عندما كانت بعض الجماعات الإسلامية منخرطة فى عمليات مسلحة ضد نظم الحكم فى هذه البلدان. وبالتالى فإن كل ما ورد فى تصريحات الشيخ الألبانى لا علاقة له بما جاء فى مقالى (شرطان ضروريان لإسقاط مبارك) لأن الحديث يدور عن خروج سلمى على الحاكم باستخدام وسائل العصيان المدنى بينما كل حديث الشيخ الألبانى، وقد عدت إليه وقرأته كله، يتحدث فيه عن المعارضة المسلحة وهذا ما فطن إليه الأخ/ مصراوى المصرى فى لحظة ما من الحوار الممتد.
واصطلاح “الخروج” فى الفقه، يشير بشكل خاص إلى الثورة المسلحة، بينما تطورت وسائل الكفاح السياسى فى عصرنا, وشهدنا تجارب عديدة لثورات سلمية مدنية أدت إلى إسقاط نظم سياسية بوسائل العصيان المدنى، وهى أكثر الوسائل تواؤما مع الإسلام الذى يعلى من شأن حقن دماء المسلمين، ودماء البشر عموما.
ومن ناحية أخرى ليس لدى أى اختلاف مع رأى الشيخ الألبانى فى الرابط المذكور، وأنا من أنصار الأسلوب السلمى فى تغيير حكام المسلمين سواءا أكانوا ظالمين أو فسقة أو مرتدين، باعتباره الأسلوب الأكثر نجاعة من الناحية العملية، والأكثر توافقا مع الشرعية، والذى لا يعلمه البعض أنه لا تعارض بين الناحية العملية والسياسية، والناحية الشرعية، ففى كل دراساتى الإسلامية فى مختلف القضايا توصلت دائما إلى أن الحل الإسلامى هو الحال الأكثر واقعية وعملية الذى يخدم مصالح الأمة، بل ومصالح البشرية.
كان يمكن أن أكتفى بهذه الملاحظة، ولكن إصرار الأخ محمد مرزوق على سوق الحجج والأحاديث النبوية التى تحذر من الخروج على الحاكم، بعد أن وحد بين الطريقين للخروج على الحاكم أعنى الطريق السلمى والطريق الحربى، يعطى لنا فرصة لمناقشة هذا الرأى وهو أمر مهم، لأن انتشار هذا الرأى بين الشباب المسلم يؤدى إلى تعطيل قوى أساسية من قوى الأمة، ويزيد من عمر الطاغية والطغيان.
تفصيل وجهة نظرى يمكن الاطلاع عليها فى كتاب (الإسلام والحكم) من إصدار المركز العربى للدراسات.. ولكن يمكن الآن فى عجالة وتفاعلا مع الآراء الغنية التى طرحت أن أطرح وبالله التوفيق عددا من النقاط:

أولا: النقطة السابقة وهى أن تطورات العمران البشرى طرحت علينا أشكالا مختلفة للخروج على الحاكم، لا تقتصر على الخروج المسلح وحده. وكما قلت فإن المصطلح الفقهى كان مقصورا على الخروج المسلح. وحتى حديث الرسول عليه الصلاة والسلام المشار إليه يتعلق بالقتال: “أنقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا”.
والحقيقة إننا إذا أمعنا النظر فى التاريخ الإسلامى وغير الإسلامى سنجد تجارب مختلفة لتغيير الحكام دون إراقة دماء ودون أعمال عنيفة. ونجد فى حياتنا المعاصرة نماذج عديدة على تغيير نظام الحكم بدون استخدام السلاح (كما حدث فى الثورة الإيرانية التى أسقطت الشاه، والثورات التى أسقطت النظم الشيوعية، والانتفاضات التى أسقطت نظام نميرى فى السودان.. إلخ).
ثانيا: إن تغيير الحكم والأنظمة ليس مشروطا بتكفير الحاكم، أو إعلان الحاكم نفسه عن كفره، فالظلم والفسق يكفيان، مع القدرة، فالقدرة هنا أساسية. وقد انشغلت بعض الجماعات فى السابق بوثائق لتكفير الحاكم وكأنها هى الوسيلة الشرعية الوحيدة للخروج عليه سلما أو حربا. بينما دعانا الله عز وجل لرفض الحاكم الظالم: )لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ( (البقرة: 124). حيث يقول أبو بكر الجصاص مفسرا لهذه الآية: “فلا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة لبنى ولا قاضيا ولا من يلزم الناس قبول قوله فى أمور الدين، فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه فى هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس إتباعه ولا طاعته”.
ثالثا: الشىء المحزن حقا أن بعض العاملين فى الحقل الدعوى يروجون لبعض الأحاديث دون شرح أو تفصيل، ودون توضيح مناسبتها، ودون ربطها بباقى الأحاديث والآيات القرآنية المتعلقة بذات الموضوع. وهذا ما يجعل المفهوم الدينى لذات المسألة عدة مفاهيم، وهذا غير صحيح فى الأمور الأصولية، فالأمور الأصولية الاعتقادية لا خلاف حولها، وإنما الخلاف فى الفروع.
إن الموقف الفقهى السليم لابد أن يستند إلى الأصلين العظيمين: القرآن والسنة. وكل العلماء الثقاة يؤكدون أن القرآن هو المصدر الأول, يليه السنة كمفسرة للأول ومفصلة ومطبقة له. وبالتالى فإن أى موضوع لابد أن يبدأ بحثه بالقرآن ثم السنة ثم الإجماع وكافة أشكال الاجتهاد بعد ذلك.
والطريقة التى تدخل بها الأخ/ محمد مرزوق نموذجية فى هذا الصدد, فقد جمع مجموعة لا بأس بها من الأحاديث التى يبدو من ظاهرها أنها تنهى عن الخروج عن الحاكم بشكل مطلق، ولم يجد آية قرآنية واحدة يضمها إلى هذه السلسلة من الأدلة الشرعية، مع التسليم بصحة هذه الأحاديث فالمهم كيف تفهمها وتفسرها، ولماذا لم تجد فى موضوع أساسى كهذا انشغل به القرآن الكريم أيما انشغال, لماذا لم تجد آية واحدة تسند هذه الرؤية؟ وأنا هنا لا أجادل الأخ/ محمد مرزوق فحسب, فهناك تيار عريض إسلامى يتحدث هكذا فى هذا الموضوع الأساسى والمحورى (الموقف من الحاكم).
لقد جاءت رسالة الإسلام – كطبعة نهائية للرسالات – لتضع المنهج الذى يحكم حياة المسلمين إلى يوم الدين، جاءت رسالة الإسلام لتعتق البشرية من كافة أشكال وصنوف العبودية. (جاءت لتحرر الناس من جور الناس والأديان إلى عدل الإسلام). جاءت لتعيد صياغة رواد البشرية، أى المؤمنين المتحررين من كافة الطواغيت. ولم تأت لتعلمهم الجبن والخنوع والذل والمهانة، بل جاءت لتخلق إنسانا كسلمان الفارسى يحاسب عمر بن الخطاب على ثوبه الطويل أمام الجمهور، ولتخلق امرأة تخالف عمر بن الخطاب فى الفقه ويعترف بصحة موقفها.
جاءت بقمم سامقة وقدوة للبشرية فى هؤلاء الصحابة! ولم تأت الرسالة لتعلمنا أن نعود مرة أخرى للخنوع والذل باسم أن الحاكم قد صار مسلما!!
رابعا: أن كثيرا من الأحاديث الشريفة والآراء الفقهية تتحدث عن حالة مختلفة تماما عن الحالة التى عليها حكامنا الآن. تتحدث عن حكام مسلمين يقعون فى أخطاء وهنات، بينما هم لا يزالون يجمعون الزكاة وينظمون الجهاد. بينما حكامنا انخلعوا عمليا وواقعيا من الدين، ويحاربون مع الأعداء ضد إخوتهم المسلمين، ولا توجد لديهم أى مرجعية إسلامية حتى ولو من الناحية الشكلية فى اتخاذ أى قرار أو رسم أى سياسة. وهم يقولون إننا فى علاقة إستراتيجية (أى مبدئية طويلة الأمد) مع أعداء الله. فهؤلاء حكام يفتقدون الشرعية من الأساس.
ومن ذلك مثلا الحديث: “ستكون أثرة وأمور تنكرونها. قالوا يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذى عليكم وتسألون الله الذى لكم”.
فجاء فى فتح البارى بشرح صحيح البخارى: “تؤدون الحق الذى عليكم أى بذل المال الواجب فى الزكاة والنفس فى الخروج إلى الجهاد عند التعيين ونحو ذلك”. أى أننا إزاء حكام مسلمين يرتكبون بعض الأمور المنكرة ولا يزالون ملتزمين بالمرجعية الإسلامية عموما، فهل سمعتم أن حكم مبارك نظم جمع الزكاة، أو رتب أى عمل جهادى على مدار ربع قرن. وما ينطبق على هذا الحديث ينطبق على باقى الأحاديث المشابهة.
خامسا: تعالوا لنعرض رؤية الإسلام الأصلية وهى تحرير الإنسان من استعباد أخيه الإنسان، لأن الأوثان والأحجار والشمس والقمر والحيوانات ليست هى التى تستعبد الإنسان، بل الإنسان هو الذى يستخدم هذه الوسائل لاستعباد الناس. ولهذا ورد فى القرآن عشرات الآيات التى تتحدث عن البشر الذين عبدوا من دون الله والحوار الذى يدور بينهم وبين عابديهم فى النار كتلك الآيات.
)وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ{91} وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ{92} مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ{93} فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ{94} وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ{95} قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ{96} تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ{97} إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ{98} وَمَا أَضَلَّنَا إِلا الْمُجْرِمُونَ{99} فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ{100} وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ(. (الشعراء).
إذن الذين كبكبوا فى النار 3 أصناف:
(1) البشر الذين نصبوا أنفسهم آلهة.
(2) الغاون الذين اتبعوهم.
(3) إبليس وجنوده.
وقد رصدت فى دراستى (الجهاد صناعة الأمة) أكثر من ألف آية تتناول الخروج على الحاكم أو مقاومته أو معارضته أو تقويمه بالموعظة الحسنة وبالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن رسالات الأنبياء وإن كان جوهرها الأساسى هو التوحيد فإن وجه العملة الآخر لها كان الخروج على الحاكم (بالمعنى السلمى غالبا) بدءا من سيدنا نوح حتى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وسنجد القرآن الكريم يغص بأنباء المواجهات بين الأنبياء والرسل من ناحية والحكام من ناحية أخرى.
وبالتالى فما موقف المسلمين الآن فى القرن 21 عندما يعلن حكامهم فعليا أن مرجعيتهم هى الشرعية الدولية وقرارات الجمعية العمومية ومجلس الأمن، وتوجهات المجتمع الدولى برئاسة الولايات المتحدة والصهيونية خارج حتى هذه المنظمات الدولية وأننا لا نملك أن نعص لهم أمرا، هل لابد أن يخرج الحاكم ويقول فى التلفزيون: أنه يرفض القرآن والسنة، وأنه يدعو الناس لعدم الصلاة وأنه شخصيا لن يصلى! ألا يكفى أن يقولها عمليا عبر سنوات وعقود من حكمه. نحن أمام حكام لا يصلون الصلاة المفروضة فى المساجد وهو دليل على أنهم لا يصلون. ولدينا حكام يفطرون فى رمضان علنا ويقولون ذلك فى أحاديث صحفية.
والحقيقة فإن محالفة الصهيونية وأمريكا أخطر من شرب الخمر أو ترك الصلاة، لأنها موالاة للأعداء والمشركين. وهنا نص قرآنى واضح: )وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ(. فكيف نسوى بين هكذا حكام وحكام آخرين فى الماضى كانت لهم أخطاؤهم وانحرافاتهم، ولكنهم نظموا الفتوحات ونشروا الاستلام والتزموا بآراء العلماء عندما وجد العلماء الأقوياء.
بماذا نصف حكاما يصادقون الطاغوت (أمريكا) وقد أمروا أن يكفروا به: )يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ( وأين نذهب بهذه الآيات؟
)اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء(. (الأعراف: 3)
)وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ( (الرعد: 37)
هكذا خاطب الله سبحانه وتعالى نبيه المصطفى المعصوم، فكيف نخاطب نحن حاكمنا الجهول فى إتباعه لأمريكا واليهود.
)ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( (الجاثية: 18)
)وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( )الظَّالِمُونَ( )الْفَاسِقُونَ( (المائدة: 44- 45- 47)
فعليك أن تضع حكامنا فى إحدى هذه الخانات الثلاث.
كذلك فإن حكامنا لا يطيعون الرسول عليه الصلاة والسلام ولا يتحرون سنته الشريفة حين يتخذون أى قرار. فهم يخالفون الركن أو المصدر الثانى للعقيدة:
)وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ( (النساء: 64)
)مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ( (النساء: 80)
)وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( (الحشر: 7)
ثم تأتى الآية الحاسمة وبالقسم الإلهى:
)فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً( (النساء: 65)
من يستطع أن يحصى عدد الأحكام الواردة فى السنة النبوية الشريفة التى يتجاهلها حكامنا, بل ويعملون بعكسها، حكام يمارسون الميسر رسميا عن طريق وزارة المالية والسياحة، ويحللون الخمر، ويحرمون الحجاب، ويفتحون الأجواء لـ 36 ألف طلعة جوية أمريكية لضرب العراق وأفغانستان، ويديرون قنوات الفيديو كليب، ويفتنون الناس فى دينهم، ويتعاملون بالربا، ويتعاونون مع الأعداء اليهود فى زمن الحرب رغم احتلالهم للقدس والمسجد الأقصى وكل فلسطين.
)أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً( (التوبة: 16). (وليجة أى بطانة).
وعندما يأمرنا الله عز وجل: )وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً( (الكهف: 28)، كيف نتبع حاكما فاسدا لأنه لم يستخدم بعد الأمن المركزى لمنعنا من الصلاة!!
الأوامر متوالية فى القرآن الكريم: )وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ{151} الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ( (الشعراء: 151 – 152). إذا اتبعنا نصائح البعض بالعبودية للظالمين ألا يعنى ذلك إلغاء كل هذه الآيات، وإلغاء رسالة الإسلام كمحرر للبشر من الطغيان وإقامة دين جديد من تأويلات فى غير موضعها. لماذا لم يلحظ هؤلاء العلماء أو الأخوة كم الآيات التى يوقفون مفعولها ولنستمر ببعض النماذج:
)وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً( (النساء: 5)
أما أوامر الله فتذهب سدى.
)فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ( (المائدة: 48)
وعندما قرر الله سبحانه وتعالى صفات المؤمنين وخصائصهم فجعل الشورى من أهم هذه الصفات, بل ووضعها بين الصلاة والزكاة.
)وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( (الشورى: 38) وأتبعها مباشرة حض المؤمن على العزة والكرامة: )وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ( (الشورى: 39)
ثم: )وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ( (الشورى: 41)
ثم: )إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ( (الشورى: 42)
)وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ( (النساء: 58)
وهذه الرؤية القرآنية التى تقرن الحكم بالمرجعية الإسلامية وبالعدل والكفاءة والشورى والرقابة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، هى نفسها الرؤية النبوية الشريفة ولا أدرى كيف تسقط أحاديث لصالح أحاديث فى ذات الموضوع وإذا وضعت معا جميعا أمكننا أن نفهم الموقف الإسلامى بصورة متكاملة ونضع كل حديث فى مكانه الصحيح بين العام والخاص أو بين هذا المستوى أو ذاك.. إلخ.
الذين يروجون لأكذوبة الطاعة العمياء للحاكم الظالم تحت بند عدم الخروج خوف من إحداث فتنة لماذا يخفون عشرات الأحاديث:
• (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) (البخارى – مسلم – أبو داود – النسائى – ابن ماجة).
• (لا طاعة فى معصية إنما الطاعة فى المعروف) (مسلم – أبو داود – النسائى).
• (لا طاعة لمن عصى الله).
• (لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق).
• (لا طاعة لمن لم يطع الله).
• (من أمركم من الولاة بمعصية الخالق فلا تطيعوه) (كنز العمال).
• (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. إلى آخر الحديث) (مسلم – الترمذى – أبو داود – ابن ماجة).
• (ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون, فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك حبة خردل من الإيمان) (مسلم).
• (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (أبو داود – الترمذى – النسائى – ابن ماجة).
• (ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) (أبو داود – الترمذى).
• (انه سيكون بعدى أمراء من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منى ولست منه) (النسائى).
• (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدثونكم فيكذبونكم ويعملون فيسيئون العمل لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم وتصدقوا كذبهم فأعطوهم الحق ما رضوا فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد) (كنز العمال عن الطبرانى ومسند أحمد).
• (من أرضى سلطانا بما يسخط ربه خرج عن دين الله).
• (خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله).
وهكذا نجد هذه السلسلة من الأحاديث (وهناك كثير غيرها يسير فى نفس الاتجاه).. تتساوق وتتناغم مع الآيات القرآنية لترسم لوحة جميلة موحدة.. أن الإسلام يضع ضوابط عامة للحكم والمجتمع قائمة على الحرية والشورى والعدل وحرية التعبير وحرية النقد والانتقاد (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تحدد كفريضة لكل مسلم ومسلمة)، وتجعل الحاكم يتم اختياره بالشورى واستمراره بالشورى وخلعه بالشورى.
بل إن بعض العلماء الثقاة استخدموا تعبير (أجمع العلماء) على أن الحاكم وكيل للأمة هى التى تعينه وتخلعه وهذا دليل على إسقاط الآراء المرجوحة الأخرى. وهذا يعنى أن هذه الآراء المرجوحة إذا أخذ بها لأصبحنا أمام دين جديد تماما غير الدين الذى أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فيكون المسلمون مجرد مجموعة من الأذلاء والنعاج يسوقهم الحاكم كما يريد ولا يملكون له شيئا. حتى قال أحدهم وكأنه يقول بديهية: “أن رسولنا الكريم كان بعيد النظر عندما رأى عدم الخروج على الحاكم الظالم”!!
والحقيقة أن فقهاء القرون الماضية كانوا مشغولين بشىء مهم، وهو عدم استسهال الخروج المسلح, ويجب وضع عدة خطوط تحت المسلح، لأن ذلك من شأنه, إذا لم يكن مؤسسا على رؤية شرعية ثاقبة وقدرة فعلية على التنفيذ أو ما أسماه الأخ محمد مرزوق – عن حق – السلاحين: المادى والمعنوى، من شأن استسهال الخروج المسلح أن يحول حياة المسلمين إلى فتن دموية دائمة. ولذلك وضعوا المعادلة وهى صائبة بالتأكيد: إذا كان الخروج على الحاكم الظالم يؤدى إلى فتنة أكبر من ظلمه فلا داعى لها. وفى ذلك يقول فتح البارى فى شرح صحيح البخارى: “وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما فى ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته فى ذلك بل تجب مجاهدته لمن يقدر عليها”. وجاء هذا الكلام فى معرض تفسير الحديث: “من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية”.
وكانت هذه إشارات لحالة بعض الحكام المسلمين فى الدويلات والدول العديدة التى نشأت بعد خلافة على بن أبى طالب رضى الله عنه, كانوا هؤلاء الحكام يقومون بالغزوات دفاعا عن الإسلام ونشرا له ولم يكن حكمهم ببيعة شرعية صحيحة، بل عبر (التغلب) أى استخدام القوة العسكرية، فلاحظ التعبير (طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه) أين هو الجهاد الذى يخوضه حسنى مبارك حتى نجاهد معه.
وهكذا كما أن الفتوى تقدر بزمانها ومكانها وبواقعتها، فلا يجوز تعميمها دون دراسة الواقع الجديد. فمن باب أولى لا يجوز استخدام أحاديث تدور حول حاكم مسلم يقع فى بعض الأخطاء لتحديد موقف حاكم خرج من ربقة الإسلام كلية فهو لا يقيم سياسة ولا يتخذ قرارا بناء على أدلة شرعية من قرآن أو سنة أو آراء للعلماء. وأصبحت سياسته العليا قائمة على مصادقة الأعداء مهما فعلوا.. بحجة الحكمة. إن الصمت على هذا الحاكم يخرج المسلمين من ملتهم. لذلك عجبت لقول أحدهم فى الحوار: (وأنا أظن إن ما حدش أرغمك انك تسيب دينك). يا أخى الدين ليس مجرد أداء الصلاة، لأن نابليون بونابرت المستعمر لبلادنا لم يحرم الصلاة ولا الانجليز، ولا الصهاينة فى فلسطين. وبالتالى فإن سماح الحكام لنا بأداء الصلاة لا يعنى أن حكم الإسلام قائما وإلا لقبلنا حكم هؤلاء الغزاة، خاصة نابليون بونابرت الذى أعلن إسلامه كذبا!! نحن نترك ديننا عندما نرضى أن نحكم بقوانين وشرائع مخالفة للشريعة الإسلامية، ونترك ديننا عندما نتحالف مع الكفار ونواليهم من دون المؤمنين فتكون علاقاتنا الأساسية مع أمريكا وإسرائيل، لا فلسطين ولبنان والعراق وإيران.
نحن نجبر على ترك ديننا أو الابتعاد عن جوهره، إذا تركنا حاكمنا يستخدم كل امكانيات بلادنا لخدمة أمريكا واليهود، ومحاصرة غزة حتى التجويع، وأهلها مسلمون بنسبة 99%، مع أن ديننا يحرم تجويع أى إنسان بل أى كائن حى.
نحن نجبر على ترك ديننا عندما نقيم علاقات تعاون مع إسرائيل وهى تستولى على فلسطين والمسجد الأقصى. (وقد حرم المفتى السابق د. نصر فريد واصل التعاون مع إسرائيل وأمريكا، وقال إن التطبيع مع إسرائيل حرام).
ويتصور أحد الإخوة المتحاورين أننا يجب أن نقيم الدين من أسفل أولا، والحقيقة أن الناس تعود إلى دينها منذ أكثر من 3 عقود (من أواخر السبعينيات) ولكن أحوال المسلمين العامة لم تتغير بل تزداد سوءا, وهذا يؤكد ضرورة الإصلاح من أعلى (أى من خلال تغيير السلطة) كما فعل الرسول عليه الصلاة والسلام بإقامة دولة فى المدينة ثم فتح مكة وإقامة دولة إسلامية على كامل تراب الجزيرة العربية كمقدمة لنشر الدعوة خارجها.
وبالتالى فإننا كمسلمين خارج الحكم غير مسئولين عن كثير مما ذكرت:
(1) فوائد البنوك: هذه سياسة عليا وتشريعات مجلس الشعب، وهو ما يؤكد علاقة الدين بالسياسة وأن إقامة الدين لا تكتمل إلا فى إطار دولة إسلامية.
(2) التدخين: لا شك أن هذه مسئولية المدخنين، ولكن امتناعنا عن التدخين لن يقيم الدين فى السلطة (لاحظ أن الأمريكيين والأوروبيين أكثر الشعوب إقلاعا عن التدخين لأسباب مادية، أى للاستمتاع بالحياة وطول العمر!) لا أدافع عن التدخين، ولكن أقول مهما أصلحنا أنفسنا فلابد من صلاح الحكام ومهمتهم (حراسة الدين وسياسة الدنيا) كما قال الماوردى.
(3) الكباريهات: وهذه واضحة فهى مسئولية الحكومة التى جعلت منها مؤسسات شرعية، بينما الأحزاب والتنظيمات الإسلامية محظورة.
(4) التبرج: من الذى يقود التبرج، أليست هذه المؤسسات الإعلامية والفنية التى ترعاها الدولة، بينما تمتنع حتى عن تنفيذ حكم القضاء بظهور مذيعات محجبات فى التلفاز.
أعلم أنك تضرب بعض الأمثال وتقصد أننا يجب أن نصلح أنفسنا أولا، والحقيقة لقد فعلنا كل ما يمكن فعله تقريبا من موقع المعارضة، ولكن الدولة بما تملكه من وسائل جبارة تقود عملية فتنة الناس عن دينها. (تعليم – إعلام – وسائل ترفيه..)
إن سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام وهو خير المصلحين وخير المربين تقول لنا، لابد من الإصلاح من أعلى، ولابد من بناء الدولة الصالحة ولا يكفى الاستمرار فى إعداد النشىء من أسفل.


نختصر الموقف فى النقاط التالية:
إن الخروج على الحاكم الظالم فى الإسلام مشروع, بل وواجب بالاشتراطات والظروف السابق الإشارة إليها. وأن ذلك ثابت بنصوص القرآن والسنة وإجماع الفقهاء الثقاة.
إن الخروج لا يعنى الانتفاضة المسلحة بالضرورة بل الأغلب فى عصرنا الراهن، وفى غيبة السلاح الشخصى (الذى كان هو الأصل فى المجتمعات السابقة) أن يكون الخروج مدنيا وسلميا، خاصة وأن الدولة أصبحت تملك أسلحة متطورة ليست فى متناول الأفراد, وبالتالى فإن الصدام المسلح لن يكون متكافئا فى أغلب الأحيان.
أن الخروج على الحاكم قد يكون للظلم البين الذى لم يعد محتملا، أو عدم الالتزام بأساسيات الدين، وهو ما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام (بالكفر البواح) وإذا لم يكن التحالف مع اليهود والصهاينة والأمريكان كفرا بواحا فماذا يكون؟!
إن الكفر بحكم مبارك ومقاومته بالوسائل السلمية مسألة عقائدية ودينية قبل أن تكون مسألة سياسية بالمعنى التقليدى للسياسة.
إنها قضية التوحيد, وقضية التوحيد تتلون فى كل عصر بتحدياته، فلكل عصر طواغيته وأصنامه، وكل ما يتبع من دون الله فهو شرك. فإذا كان نظام مبارك يطرح مواقف وآراء وسياسات متعارضة مع القرآن والسنة، فإن إتباع مبارك وإن كان بالصمت والخوف فهو إشراك بالله سبحانه وتعالى، لأنه تسليم بحكمة مبارك واستبعاد لحكمة الله سبحانه وتعالى، على أرض الواقع عمليا. فالمشركون كانوا يؤمنون بوجود الله ويقسمون بالله: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ(.
ولكن أشركوا مع الله آلهة أخرى, وكانوا فى الحقيقة يتبعون سادة قريش لا تلك الأحجار الصماء: )وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا(. صدق الله العظيم.


الفهرس
الموضوع الصفحة
قضية الحكم فى الإسلام إيمانية………………………………..
قضية الحكم فى القرآن الكريم………………………………….
النهى عن الفرار من الموت……………………………………..
الملكية والنظام الملكى………………………………………….
شروط الحكم…………………………………………………
النظام الإسلامى وحرية الفكر………………………………….
النظام السياسى لا يفرض بالقوة………………………………..
الكفر بالطاغوت………………………………………………
مواجهة الطاغية ضرورة إيمانية………………………………..
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عصب النظام السياسى الإسلامى….
الشورى هى النظام السياسى فى الإسلام…………………………
القول الفصل: الشورى ملزمة…………………………………..
انتخاب الحاكم……………………………………………….
الملاحق:
(1): القضاء على الفـــرعونية مهمتنا المقدسة خلال عام 2004
(2): إنهاء حكم الطغاة فريضة دينية……………………..
(3): شرطان ضروريان لإسقاط الطغاة.. فهل من مستجيب؟!…
(4): شرعية الخروج على الحاكم فى الإسلام……………… 7
13
27
31
33
47
47
53
57
61
81
124
148

163
173
180
193

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading