ابراهيم باشا يطالب بترقية المصريين بالجيش لرتبة البكباشي

خبراء اجانب يؤكدون احاديث الرسول عن خير اجناد الأرض

قوات الجيش تجاوزت الربع مليون وانتشرت في كل المستطيل

محمد علي فرض تعليم الطب والهندسة باللغة العربية ..اين نحن الآن ؟!

-الصورة لطارق البشرى الذى أنصف محمد على-

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (46)


وصلنا إلى أن محمد علي قد توصل بصورة إجبارية إلى ضرورة الاستعانة بالفلاحين المصريين لبناء جيش قوي ومن الواضح أن ذلك لم يكن رغبة دفينة لديه وهو لم يتحول إلى وطني مصري متطرف, وان كنا نقر بمصريته وفقاً للنظرية التي نلح عليها , أن كل من أقام في مصر واستوطن فيها فهو مصري . ولكن الجيش ليس لعبة، أنه العمود الفقري للنظام وهو درع الدفاع عن الدولة , وهو عدة التوسع الإمبراطوري ! فلابد أن يكون الحاكم مطمئناً تماماً إلى أنه طيع في يده وتحت السيطرة تماماً , ولذلك فكر محمد علي في كل الحلول الأخرى وعندما فشلت لم يعد أمامه إلا طريق إجباري واحد وهو بناء الجيش من المصريين .

وهنا يذكر له شيئان 1- أنه خلص البلاد من الأخلاط والأوباش الذين كان لن يعدم وسيلة من جمعهم من هنا وهناك , ولكنه بذكائه أدرك أن هذه العناصر تسبب زعزعة لاستقرار المجتمع ومن ثم استقرار الحكم .
2- الشئ الثاني والأهم أن هذا هو السبيل لبناء جيش مصري قومي يزود عن البلاد ويحمي أمنها , خاصة أن مصر مطمع لكل غزاة العالم , فهي أحوج الأمم لجيش قوي . مرة أخرى لم يكن هذا نابعاً من وطنية مصرية متطرفة ولكنها حسابات رئيس دولة طموح ونحن نفضل أن تكون حسابات الحاكم رشيدة , بغض النظر عن النوايا ,فالنتيجة لمصلحة البلاد وهذا ما يهمنا , لذلك من المؤسف أن نجد من يكتب في التاريخ ( ولانقول مؤرخين ) يولولون على مافعله محمد علي في تجنيد المصريين وكيف لجأ إلى أساليب شديدة لتنفيذ ذلك , وكيف كان هذا هو سبب هروب الفلاحين وتدهور الزراعة ! وقد برهنا بالأرقام أن الزراعة لم تتدهور في عهد محمد علي والذي يقول ذلك يجهل ابسط المعلومات المثبوتة تاريخياً من مختلف الأطراف وقد أشرنا لذلك . أما إن المصريين جزعوا من ذلك فلا شك ان هذا حدث ولكن هذا الأمر لا نلوم عليه محمد علي , فأي شعب لم يتعود على التجنيد سيجزع منه في البداية , وبالفعل هرب بعض الفلاحين بسبب ذلك ولكنها ظاهرة لم تستمر ولم تكن واسعة وفي هذا لا يلام محمد علي في قرار بناء جيش مصر بالمصريين!!

وسنتحدث عن ابنه ابراهيم باشا, وسنوضح انه كان مختلفاً عن والده وأنه كان مصرياً صميماً يحب المصريين وينحاز لهم وهو تربى وعاش منذ الصغر في مصر ولا يعرف غيرها ( وقد كان ابراهيم باشا قائد الجيش المصري في أغلب الأحيان). كان محمد علي براجماتيا يحسبها كصاحب عزبة أما ابراهيم فقد تطورت عواطفه ليكون مصرياً بالمعنى الدقيق للكلمة. صدر أمر للعمد والمشايخ لتجنيد الشباب صحاح الجسد , ومنذ البداية كانت التوجيهات تحاول عدم التأثير على الإنتاج الزراعي , فهناك فلاحون غير مشتغلين في الزراعة لأي سبب كان يتم التركيز على تجنيدهم , ثم صدر قرار بالتجنيد الإجباري 1822 , وقد قامت تمردات شعبية ضد التجنيد كان أشهرها خلال أعوام 1821 ,1822 ,1823 في المنوفية وفي المنطقة من قنا إلى أسوان . كانت الأسر تشعر أن ابنها ينتزع منها للجيش وكأنه ذاهب إلى المجهول , وكأنهم لن يروه مرة أخرى خاصة وأن أنباء الحروب بدأت تتوالى من الحجاز إلى السودان إلى الموره (اليونان )، كما أن التجنيد الإجباري بدأ يمس العاملين في الزراعة فعلاً , وأن الأبناء أيدي عاملة للآباء ووصل الرفض والرعب معاً إلى تقليد غريب وهو إحداث عاهات في الأبناء حتى لايصلحوا للتجنيد كقطع السبابة , ووضع سم الفئران في العين لإحداث عمى مؤقت , وكانت الأمهات تساعد الأبناء في ذلك ! وقام محمد علي برد فعل مبتكر لمنع هذه الظاهرة إذ أمر بتجنيد المعوقين وتشكيل أورطة خاصة بهم ! حتى يدركوا أن إحداث العاهات لن يعفيهم من التجنيد فيتوقفوا عن ذلك , ومع ذلك فقد أمر محمد علي بأمر كتابي ابراهيم باشا بعدم اللجوء لوسائل عنيفة للإمساك بالفلاحين ونصح بالاعتدال وأن يحاول تجنيد الرجال بإقناعهم بميزة حياة الجندي ( معية تركية – وثيقة رسمية ) وأضاف { أنه لامناص من أن يكون التجنيد كريهاً بالنسبة للفلاح على الرغم من أنه ينفذ من أجل نصرة الإسلام وأنه يجب أن تكون وجهة النظر هذه هي المدخل للفلاح , من خلال علماء القرية والوعاظ } وفي ذلك كتب أحد علماء الأزهر وهو الشيخ خليل الرجبي بإيعاز من شيخ الأزهر ( العروسي) ولاشك أنه بتوجيه حكومي – كتب كتيباً من سبعة فصول تضمن مدح الجندية وحوى إقتباسات من القرآن الكريم ومن أقوال الرسول للتدليل على أن الجندي الذي يموت في المعركة يذهب إلى الجنة ( مخطوط بجامعة الدول العربية ) ونقول لكتاب التاريخ الذين يحبون فرنسا والثورة الفرنسية أن فرنسا قبل وبعد نابليون كانت تعاقب على التهرب من التجنيد بالكي والإعدام بل كانت العقوبات تشمل كل عائلة المتهرب ( الأب – الأم – الأخوة – الأصهار ) وكل الذي يأوى المتهرب في بيته , ثم امتدت العقوبة لتشمل الناحية بأكملها !! ولكن تدريجياً عندما بدأ المجندون يزورون أهاليهم وجدوا انهم يرتدون ملابس جيدة ويتحدثون عن معاملة محترمة وأكل جيد في الثكنات، بدأت المعارضة العنيفة للتجنيد تتراجع رويداً رويداً والمستشار طارق البشري المؤرخ المحترم والأبرز في التاريخ الحديث وقد جاء بعد عبد الرحمن الرافعي وقدم إضافات جوهرية وغطى مرحلة زمنية مختلفة وفي مجالات نوعية كان له تقدير عال لمحمد علي ويصفه بأنه أعظم شخصية في القرن التاسع عشر وكانت له قرارات جوهرية غيرت مجرى أحوال مصر والمنطقة , ومن ذلك بناء الجيش المصري الحديث وأن تدريبات هذا الجيش وسفر الجنود إلى مناطق الحدود وما بعدها رفع من مستوى أفراد الشعب من الناحية الثقافية , ويشير البشري إلى اهتمام محمد علي برفاهية الجنود من الناحية الغذائية , حيث أمر ( أن يأكلوا أرزاً مفلفلاً ولحماً محمراً 3 مرات في الأسبوع , في مجتمع لا يأكل اللحوم إلا في المواسم ) .

وبدأ المواطن يلحظ في الجندية ملابس نظيفة ومحترمة , حتى بدأت الجندية تصبح محبوبة , وتصبح شرفاً ووطنية ترتبط بالعلم والنشيد , ومن الأمور اللافتة للنظر أن المسيحيين كانوا يجندون في الجيش , وصدرت أوامر باحترام اولئك الذين يعملون منهم في ترسانة الإسكندرية متضمنة إعفائهم من “الفردة ” و” الجزية ” وهو قرار يؤكد أن الجزية ظلت سارية في عهد محمد علي . وقد تم الغاؤها رسمياً في عهد ابنه سعيد في مقابل تعميم تجنيدهم بالجيش , وهذا موقف لابد أن علماء شاركوا في اتخاذه , لأن الجزية من أحد أهم زوايا إقرارها أن المسلمين يدافعون عن أهل الذمة ولا يكلفونهم بالحرب , وبالتالي فإنها ترفع في حالة اشتراكهم في الحرب . وكان المسيحيون قد شاركوا في محاربة الفرنسيين والإنجليز ( في حملة فريزر ذكرنا ذلك ) , في حين يركز البعض على قصة الخائن النصراني الذي تعاون مع نابليون حتى أخذته القوات الفرنسية ونفر قليل معه اثناء إنسحابهم من مصر , كان محمد علي يتابع تدريبات الجيش المصري الجديد وعندما علم أن تصويب ( تنشين ) الرجال كان سيئاً أمر جميع المجندين بأن يقرأوا سورة الفاتحة حتى تشملهم البركة قبل أن يبدأوا تدريبات التصويب وكان على ثقة من أن ذلك سيحسن من تصويبهم ( وثيقة رسمية – معية تركية 10) ويظهر انحياز ابراهيم باشا للمصريين في سجالاته المكتوبة مع والده , فبينما لم يكن مسموحاً في البداية للمصري أن يرقى إلى مرتبة أعلى من ملازم أول , على اساس قاعدة إجادة القراءة والكتابة ولم تكن في صالح المصريين , ولكن ابراهيم اشتكى من المستوى العسكري المتدني للضباط المماليك .

وخلال حرب الشام أجبر ابراهيم والده على الموافقة على ترقية المصريين إلى رتبة اليوزباشي ( النقيب) بسبب حاجات الحرب ومقتل ضباط مماليك , وظل ابراهيم يضغط لإقناع والده بأن المصريين ليسوا جنوداً أكفاء فحسب بل يمكنهم أن يكونوا ضباطاً أفضل من الأتراك وأخذ يرسل رسائل من الشام توضح ذلك بوقائع عملية , وهذا نص كلام ابراهيم باشا قائد الجيش والذي يوضح حقيقة شخصيته , وقد كان مستقلاً في تفكيره ولكن يحترم والده وقراراته بدقة كقائد أعلى للبلاد فقال له في إحدى الرسائل إنه مندهش لرفضه ترقية المصريين إلى الرتب الأعلى في سلك الضباط وقد أظهروا{ ( فرط الشجاعة , ويزداد حبهم لنا كلما ارتفعوا في الرتب , فما الذي يمنعك إذاً ياصاحب السمو من تعيين عدد منهم في رتبة المقدم ( البكباشي )} وأضاف : {بعد عشرين سنة من الخبرة أستطيع أن أقول : إنه إذا كان هناك ثلاثمائة مخلصون من بين كل ألف من الأتراك  فإن هناك سبعمائة مخلصين من بين كل ألف عربي (هوهنا يقصد المصري) صدقني لأنني أكثر الصادقين من بين أبناء صاحب السمو وأخلصهم له , كما أنني أتحدث بصراحة لأنني تربيت منذ شبابي بطريقة عسكرية خالصة , وفي يقيني أن اسأل صراحة لماذا لا ترقى العرب (المصريين) ؟ في المقابل فإن محمد علي من حيث النشأة والحسابات عثماني الهوى (مرة أخرى هو لم يكن تركياً ولم يترب في تركيا) , لذلك عندما أسس مطبعة بولاق الجديدة كانت تركز في انتاجها على طباعة الكتب العثمانية , وليس كتب الغرب كما يدعي أعداء محمد علي ( من كتاب التاريخ) أما كتب الغرب في المرحلة الأخيرة فكانت بالأساس الكتب العلمية والدراسية، العلمية في الطب والهندسة ومختلف فروع العلوم الطبيعية , أما إبراهيم فكان يكره هويته العثمانية ولم يكن لديه اختيارسوى أن يختار هويته ” المصرية ” الجديدة وأن يلح على الإعتراف بفضائلها , ولكن محمد علي لم يستجب له في اقتراح ترقية المصريين إلى رتبة مقدم (بكباشي) وإن تحقق ذلك في عهد ابنه سعيد ولكن مع ذلك فإن المصريين سرعان ماحلوا في عهد محمد علي / إبراهيم في معظم الرتب الدنيا محل الضباط الأتراك , وتم اشراك ألفين مصري في سلاح المدفعية.

ومع بداية 1823 أصبح بالجيش المصري ست أورطات من ضباط المماليك المتخرجين من أسوان , وأصبح تدريب الجنود في معسكر جهاد أباد بالخانكة وكان يحتوي بشكل دائم من 20 إلى 25 ألف من الجنود النظاميين , وفي أبي زعبل القريبة تم انشاء المستشفى العسكري الأولى ثم مدرسة الطب ( وكانت في البداية أساساً لخدمة الجيش) ثم أنشئت المدرسة الحربية للمشاه ومدرسة أركان الحرب في الخانكة , ويؤكد عدد من المؤرخين أن موقف الشعب من التجنيد اختلف فعلاً مع الوقت , فيقول بورتج مثلاً (إن الفلاح أقلم نفسه على حياة الجيش التي كان يجد فيها مستوى افضل من الطعام والملبس ومن ثم فقد كان الهروب من الخدمة العسكرية منخفضاً ) ويقول المسيو مورييه ( ولما انتظم الفلاحون في صفوف الجيش النظامي ألفوا بسرعة حياتهم الجديدة ,وبعد أن كانوا معتادين الذل والمسكنة في قراهم استشعروا تحت راية الجيش بكرامتهم الإنسانية , وكانوا يقابلون غطرسة الترك بمثلها) .

وتعددت المدارس الحربية فبعد مدرسة اسوان وأخرى في فرشوط , تم تأسيس مدرسة في النخيلة وأخرى في جرجا, وانشئت مدرسة إعدادية للتعليم الحربي وكانت تخرج التلاميذ للمدارس الحربية والبحرية والمدارس العالية الأخرى , ونقلت لأبي زعبل وتم تحول القصر العيني لمدرسة الطب (ولاتزال حتى الآن ).

وفي عام 1834 بلغ عدد تلاميذ مدرسة القصر العيني 1200 تلميذ وكان بها مكتبة طبية يوجد بها 15 ألف مجلد ! وكانت مدرسة المشاه في الخانكة ونقلت إلى دمياط ثم عادت إلى أبي زعبل , وتم تأسيس مدرسة السلاح لفرسان ( الخيالة) في الجيزة وكان التدريس باللغتين التركية والعربية وهي تخرج الضباط وكان فيها مصريون وأتراك وفي هذا الإطار التخصصي لتأسيس جيش نظامي حديث تم انشاء مدرسة للمدفعية (الطوبجية) في طره.


وكانت تدرس باللغتين العربية والتركية والحساب والجبر والهندسة والميكانيكا والرسم والاستحكامات ودقة التصويب بالمدافع ( وقد ظهر اثر ذلك في الحروب) وكان بها مستشفى خاص والأهم في كل ذلك إن هذه المدارس بدأت بالاستعانة بمدربين أوروبيين خاصة من فرنسا ولكن قامت الخطة على ارسال بعثات من الشباب المصري لأوروبا لتعلم هذه العلوم والعودة لتولي الدراسة في هذه المدارس الحربية والاستغناء عن الأجانب , وكانت معظم البعثات التي أوفدها محمد علي إلى أوروبا كانت في مجال الفنون الحربية وما يتصل بها من الهندسة والرياضيات , ويصر كارهوا محمد علي على أن يعتبروا هذه البعثات علامة دامغة على التغريب والعلمنة !!
– شهادات عن الجندي المصري والجيش المصري :
خلال فترة قصيرة , بل في أقل من عقد من الزمان أصبح الجيش المصري يضارع أرقى الجيوش الأوروبية في الدربة والكفاية والشجاعة وهو مابرهنت عليه المعارك التي خاضها في ميادين القتال , ويقول سليمان الفرنساوي الذي اشرنا اليه كأهم مدرب للجيش المصري : ( إن المصريين هم خير من رأيتهم من الجنود فهم يجمعون بين النشاط والقناعة والجلد على المتاعب مع انشراح النفس وتوطينها على احتمال صنوف الحرمان , وهم بقليل من الخبز يسيرون طول النهار يحدوهم الشدو والغناء ولقد رأيتهم في معركة قونية (بالأناضول ) يبقون سبع ساعات متوالية في خط النار محتفظين بشجاعة ورباطة الجأش تدعوان إلى الإعجاب دون أن تختل صفوفهم أو يسري إليهم الملل أو يبدو منهم تقصير في واجباتهم وحركاتهم الحربية ) , ويقول كلوت بك في كتابه ( مرجع سابق ): ( ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خيرة الجنود ) ( هل قرأ كلوت بك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن مصر  بها خير أجناد الأرض ؟ غالباً لم يقرأها ولكنها ملاحظة متكررة للخبراء الدوليين وهو مايؤكد إعجاز أحاديث الرسول ) لأنهم على الجملة يمتازون بقوة الأجسام وتناسب الأعضاء والقدرة على العمل , واحتمال المشاق , ومن أخص مزاياهم العسكرية وصفاتهم الحربية الإمتثال للأوامر والشجاعة والثبات عند الخطر , والتذرع بالصبر في مقابلة الخطوب والمحن , والإقدام على المخاطر والاتجاه إلى خط النار بلا وجل أو تردد ) وذكر كلوت بك العديد من قصص بطولات فردية وجماعية للجنود المصريين بالأخص في القتال مع الجيش العثماني في الأناضول والشام , ويؤكد المارشال مارمون في كتابه أنه مع عام 1834 انفتح الطريق بصورة أكبر امام ترقي المصريين في المناصب العسكرية , وتحدث بإعجاب عن أداء الجيش المصري في مختلف التخصصات , رغم أن بعض الوحدات لم تشكل إلا منذ عشرة شهور ( كالفرسان) وتحدث بشكل خاص عن دقة تصويب سلاح المدفعية وقال إنه يضارع الجيوش الأوروبية .
– القلاع والاستحكامات :
قام محمد علي بجهد ضخم في إقامة منظومة كبيرة من القلاع والاستحكامات للدفاع عن ثغور البلاد والعاصمة وبدأ باصلاح قلعة صلاح الدين بالقاهرة وبني على مقربة منها على ذروة المقطم قلعة جديدة ( محمد علي )، وفي نهاية عهده توجد وثيقة رسمية تشرح العدد الاجمالي لهذه الحصون التي تم تطويرها أو بناؤها .
25 حصن بالإسكندرية بعضها لايزال موجوداً حتى الآن  -7 حصون في ابي قير -9 حصون في رشيد – قلعة البرلس – 3 حصون في دمياط , والمجموع 45 حصن وقلعة وطابية وكل واحدة مجهزة بالمدافع والهاونات والجبخانات , تصل إلى 117 مدفعاً في قلعة قايتباي وإلى أعداد أقل من ذلك في باقي الحصون والقلاع حسب الأهمية الجغرافية .
– في اوائل حكم محمد علي كان تعداد الجيش 20 ألف جميعهم من الجنود غير النظاميين (باشبوزق ) ووصلت القوات البرية وحدها إلى 169 ألف جندي ومع البحارة وعمال الترسانات البحرية يصل إلى 194 ألف جندي وذلك عام 1833 . وارتفع عدد القوات البرية إلى قرابة 236 ألف جندي عام 1839 , وهذا يشمل القوات النظامية وغير النظامية , وهذا عدد مهول في بلد لايصل عدد سكانه إلى 5  ملايين إلا بالكاد , وقد وصل انتشار الجيش المصري إلى مصر والشام والسودان والحجاز واليمن والأناضول ( أي معظم تركيا) وباقي الجزيرة العربية ( نجد) حتى الدرعية – جزيرة كريت – والشام كانت تشمل سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومنها القدس وكان يتمركز بها الآلاي الخامس والعشرون ويضم 1755 جندياً من المشاه , وكانت المدينة المنورة تضم قوة عسكرية غير نظامية مجموعها أكثر من 8 آلاف جندي وضابط .

ولا يدخل في هذا الحساب القوات الرديفة ( الاحتياطي ) الجاهزة في أي وقت عند الضرورة من قبائل العربان في مصر كقبائل أولاد علي والزوفة والهوارة والعبايدة…إلخ
وكنا قد تحدثنا عن الأسطول المصري عند حديثنا عن الصناعة .
*************
– التعليم والبعثات العلمية :
مهما قلبت في المراجع أظل أعود لعبد الرحمن الرافعي ليس لما لديه من معلومات فحسب بل لأرائه السديدة التي أتفق معه فيها , وعن التعليم يقول : (عني محمد علي بنشر التعليم على اختلاف درجاته من عال وثانوي وابتدائي , وقد عني أولاً بتأسيس المدارس العليا وإيفاد البعثات ثم وجه نظره إلى التعليم الابتدائي ونعم مافعل لأن الأمم تنهض أولاً بالتعليم العالي الذي هو أساس النهضة العلمية , وقد أراد بادئ الأمر أن يُكون طبقة من المتعلمين تعليماً عالياً يستعين بهم في القيام بأعمال الحكومة والعمران في البلاد , ثم في نشر التعليم بين طبقات الشعب , وقد ساعد على تكوين طبقة تعلمت تعليماً عالياً قبل انشاء المدارس الابتدائية والثانوية أن الأزهر كفل إمداد المدارس العالية والبعثات بالشبان المتعلمين الذين حازوا من الثقافة قسطاً يؤهلهم لتفهم دروس المدارس العليا في مصر واوروبا , فكان الأزهر خير عضد للتعليم العالي ).

وقد أشرنا من قبل إلى أنه بدأ بمدرسة الهندسة عندما كنا نتكلم عن الصناعة , وكان ذلك عام 1816 وقد سجل الجبرتي هذه الإنطلاقة. بل من فرط اهتمام محمد علي فقد انشأ هذه المدرسة في عقر داره بحوش السراية ( القلعة ) واستعان بمعلم مصري وآخر تركي واحضر لهم آلات الهندسة من انتاج الانجليز ورتب لهم شهريات وكساوي في السنة ( ويابخت من تعلم في عهد محمد علي حيث كان التلميذ يحصل على اكل وكساوي ومصروف جيب وهذا في كل مستويات التعليم ) وكان التعليم مجانياً , وكان الفقير من التلاميذ يحصل على الكسوة مبكراً حتى يتجمل بها بين اقرانه , وكان باب الاعانات مفتوحاً لمن يحتاج , وكانت توفر لهم الحمير لتساعدهم في طلوع ونزول القلعة وكانت الحكومة تشتري لهم الحمير , أي مواصلات مجانية. وفي عام 1834 تم تأسيس مدرسة أخرى للمهندسخانة في بولاق وترأس هذه المدرسة العائدون من البعثات من الخارج أي كانوا مصريين , وقد خرجت هذه المدرسة أهم المهندسين المصريين .

وأشرنا من قبل لتأسيس مدرسة الطب بأبي زعبل لوجود المستشفى العسكري بها وكان الغرض في البداية تخريج اطباء مصريين للجيش ثم امتدت الاستفادة من الاطباء لعموم البلاد وكان تلاميذ المدرسة من طلبة الأزهر وتولاها كلوت بك ودرست فيها علوم التشريح والجراحة والأمراض الباطنية وعلم الصحة والصيدلة والطب الشرعي والطبيعة والكيمياء والنبات , وكان من المقرر جعل التعليم باللغة العربية ولكن الأساتذة الفرنسيون كانوا يجهلون تلك اللغة , فاختير لهم مترجمون يجيدون اللغتين الفرنسية والعربية لمساعدتهم في ترجمة محاضراتهم للتلاميذ إلى العربية .

وهنا لابد من وقفة فقد تميز التعليم في عهد محمد علي بأنه بالعربية في كافة التخصصات العلمية ( هندسة – طب – صيدلة…الخ ) بينما الآن بعد عشرات السنين من الاستقلال فإن التعليم في العلوم الطبيعية : هندسة – طب – صيدلة…الخ باللغة الانجليزية،  بل اصبحت هناك كليات نظرية باللغة الانجليزية أو الفرنسية في جامعات الدولة .
– الدولة العربية التي أعرف أنها تدرس باللغة العربية حتى الآن هي سوريا في عهود البعث – حافظ –  بشار الأسد ( اعني العلوم الطبيعية ).

وألحق بالمستشفى حديقة للنبات التي تستخرج منها العقاقير وكانت نواة لكلية الصيدلة , وتم اتباع اسلوب تعيين المعيدين من المتفوقين في كلية الطب وتم ارسال بعضهم الي باريس لاتقان علومهم وإتمامها , وعادوا ليعينوا اساتذة في المدرسة .
وفي عام 1837 تم نقل الكلية والمستشفى الى القصر العيني ولا تزال موجودة حتى الآن .
وكما لاحظنا انبثقت كلية الصيدلة من الطب ثم مدرسة للقابلات والولادة ثم اختيار سودانيات وحبشيات للتعليم فيها.
وقد تمت الاستعانة بكلوت بك ليس في مدرسة الطب فحسب بل كانت له العديد من المؤلفات الطبية تمت ترجمتها للعربية, وأسس مجلساً للصحة على مستوى البلاد وعني بتنظيم المستشفيات وانشأ مجلس صحي بالاسكندرية . وهو الذي  اشار بإستعمال تطعيم الجدري لهذا المرض الذي كان يودي بحياة نحو 60 الف طفل سنوياً ولعب دوراً مهماً في مقاومة وباء الكوليرا عام 1830 وهذا سبب حصوله على البكوية , وكذلك مقاومة الطاعون عام 1835 .
وعلى مدار الثلاثينات من القرن التاسع عشر تم تأسيس مدرسة المعادن بمصر القديمة, والمحاسبة في السيدة زينب , والفنون والصنائع , ومدرسة أخرى للصيدلة في القلعة ومدرسة الزراعة بنبروه ( الدقهلية حالياً ) ثم نقلت إلى شبرا – ومدرسة الطب البيطري في رشيد ثم انتقلت لشبرا – المدرسة الثانوية بأبي زعبل ثم نقلت للأزبكية , والمدرسة الثانوية بالاسكندرية.
ومع اتساع المدارس تم تأسيس ديوان المدارس ( وزارة المعارف العمومية )
وكانت قيادتها من العائدين من البعثات للخارج . وقرر الديوان تأسيس خمسين مدرسة ابتدائية تغطي مختلف المديريات منهم 4 فقط بالقاهرة وواحدة بالاسكندرية , أي لم يحدث تحيز للعاصمة في مقابل أقاليم الأرياف وانشئت هذه المدارس الإبتدائية لأول مرة في مصر عام 1837 .

كان كل التعليم مجانياً والحكومة – كما ذكرنا – تنفق على التلاميذ من مسكن وغذاء وملبس وكانت هناك أقسام داخلية لمبيت ومعيشة التلاميذ ) وتجري على كثير منهم الأرزاق والمرتبات . وكان الأهالي ايضاً نافرين من التعليم الذي سيأخذ أولادهم للأقسام الداخلية , غالباً بسبب بعد المدرسة عن مكان الإقامة . كما كانوا نافرين من التجنيد !!
حتى لقد لجأت الحكومة في البداية إلى استخدام القوة لإدخال التلاميذ للمدارس !!
ولكن مالبث الأهلون أن رأوا ثمرات التعليم فكفوا عن المعارضة في تعليم ابنائهم في المدارس واقبلوا عليها , بأكثر من الأماكن المتوفرة فلم يكن من الممكن قبول كل الراغبين , وقد كتبت تفاصيل مسلية عن أنواع الأكل المطبوخ الذي كان يأكله التلاميذ ومقادير مصروف الجيب لكل مرحلة , حيث قررت الحكومة عدم اشغال التلاميذ بالطبخ حتى يتفرغوا للدراسة والمذاكرة وتم تعيين طباخين للقيام بذلك . ( مدونات ثورية من تاريخ مصر – مرجع سابق أو رسائل التاريخ على الانترنت )
*******************
ولكن كيف تم تنظيم البعثات العلمية للخارج ؟, وهل عاد التلاميذ منها متفرنسين متفرنجين متعلمنين كما يقول البعض, الذين لايدركون أهمية هذه البعثات ولا يقترحون علينا أسلوباً آخر للحصول على المعرفة العلمية والتكنولوجية التي امتلكها الغرب دون الأمة الاسلامية , وماذا كانت تفعل الدولة العثمانية والمماليك في سد هذه الفجوة واللحاق بالغرب ؟ وهذا مايهمني , ولهذا أرفض إهالة التراب على هذه المبادرة وعلى رفاعة رافع الطهطاوي الذي تم تحميله كل تبعات التغريب الذي حدث في عهود اخرى تالية !!
– دعاء :
اللهم إني لا ابتغي إلا وجه مرضاتك والسعي لرفعة هذه الأمة المكلومة والمستنزفة , اللهم إنا نسألك نصراً عزيزاً مؤزراً .. نسألك أن تلهم أمتنا الصواب وأن توحد شملها المبعثر وأنت سبحانك الذي قلت (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وعلمنا ماينفعنا وانفعنا بما علمتنا واخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم , ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading