بعثات محمد علي كانت للعلوم الطبيعية ويتهمونه بالتغريب !

4% فقط من البعثات كانت في علوم القانون والادارة والسياسة!

النهضة العلمية والتعليمية اعتمدت على خريجي الأزهر

كيف حول رفاعة الطهطاوي مدرسة الألسن إلى جامعة متكاملة ؟

) الصورة لرفاعة الطهطاوى

دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (47)

كان إرسال البعثات العلمية للخارج وفق خطة مرتبة تماماَ في ذهن محمد علي , ويتضح هذا بصورة كبيرة عندما ننشر إحصاءاً دقيقاً بالتخصصات التي ذهبوا للتعلم فيها , وكما رأينا رؤيته في الصناعة حيث كان يقول طالما أن الأوروبيين يحذقون الصناعة فلماذا لايبرع المصريون فيها مثلهم , فنحن لسنا أقل منهم وهذه هي الروح التي تنهض بها الأمم , إن جوهر هزيمتنا الآن في آواخر القرن العشرين وأوائل القرن الواحد والعشرين أننا فقدنا الثقة في أنفسنا ونرى أن ” الخواجة ” يفهم في كل شئ ويبرع في كل شئ أما نحن فقد جبلنا على الذكاء المحدود وقلة الحيلة , ولامناص من الاعتماد عليهم أبداً . الفكرة من البعثات هي إدراك حجم الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين الغرب , وضرورة سدها بأسلوب يرتكز على الإعتماد على النفس فنحن الآن نسد هذه الفجوة باستيراد المنتج النهائي. أو مصنع كامل التقفيل ( تسليم مفتاح ) وبالتالي نظل تابعين , ولانصل حتى للولد ” بلية” الذي يتشرب الصنعة من الأسطى , فيتحول بعد عشر سنوات أو أقل أو أكثر إلى ” أسطى ” ويستطيع أن يفتح ورشة مستقلة , وما فعله محمد علي فعلته سائر الأمم الرشيدة فاليونان جاءوا للتعلم في جامعة عين الشمس في عهد مصر القديمة , والعلماء جاءوا يتعلموا في جامعة الإسكندرية في العهد الروماني , والأوروبيون أرسلوا البعثات وأرسل الملوك ابناءهم للتعلم في جامعات الأندلس وفي العصر الحديث أرسل اليابانيون ابنائهم للتعلم في أوروبا وأرسلوا بعثة لدراسة تجربة محمد علي !! وماليزيا اعتمدت في نهضتها الحديثة على التعلم من تجربة اليابان , والصين أرسلت طلابها للتعلم لدى أمريكا الإمبريالية , وقد يقال إننا نفعل هنا في مصر منذ عشرات السنين ( خلال الستين عاماً الماضية ) ولم يتحقق أي تقدم وهذا صحيح ولكن لماذا ؟ نحن نرسل بعض المعيدين أو المتفوقين في الدراسة للحصول على الدكتوراه من أمريكا وكندا وبعض دول أوروبا خاصة فرنسا وإنجلترا فلم يزدنا ذلك إلا تغريباً ولم يزدنا ذلك إلا تبعية وجهلاً !! وقد كان عدد متعاظم من الوزراء في عهد مبارك من اساتذة الجامعات العائدين من أوروبا وأمريكا وكندا بل والحاصلين على جنسيات هذه الدول حتى لقد قيل عن حكومة نظيف أنها كندية !! والحقيقة أن نظام البعثات كان عشوائياً وفردياً بالأساس فإما أن يحصل الطالب على منحة بوسائل خاصة أو يسافر للتعليم على حسابه , أو ترسله جامعته دون خطة محددة للحصول على دكتوراه في تخصصه ,  إذن لم تكن هناك خطة لربط هؤلاء المبعوثين بخطة تنمية لدى عودتهم بل أن هؤلاء جميعاً يعودون ليدرسوا في الجامعات كأكاديميين ولايرتبطون بأي مشروعات إنتاجية صناعية أو زراعية ولا بأي خطة بحث علمية لإفادة التنمية وحل مشكلات المجتمع المصري الخاصة وحتى الذين يبرعون في تخصصاتهم ويريدون أن يؤسسوا مشروعات طموحة علمية – انتاجية يرون أنهم يسيرون في طريق مسدود , فيرون أن الأكثر جدوى لهم أن يعودوا من حيث أتوا ويستوطنوا في بلاد الغرب , وكذلك فإن إرسال المبعوثين بصورة فردية كان في كافة التخصصات النظرية والعملية , في العلوم الإجتماعية والطبيعية على السواء , في حين سنرى أن محمد علي ركز بنسبة 90% أو أكثر على العلوم الطبيعية والتطبيقية وهكذا تحولت جامعاتنا منذ الستينيات حتى الآن إلى نسخ باهتة ومترجمة بشكل ردئ على الأغلب من مناهج الجامعات الغربية في الآداب بكل فروعها : الفلسفة – التاريخ – الجغرافيا – الإجتماع ..الخ والحقوق والتجارة والسياسة والإقتصاد وسائر الكليات النظرية (قسم أدبي ) والمعاهد , إلا بعض الأساتذه الذين قد يضعون بصمات إسلامية في التاريخ مثلاً وقليلاً ماهم , وبعض الأساتذه العائدين من المعسكر الشيوعي قد يضعون بعض البصمات , ولكن هذا كان قليلاً جداً وربما غير ملحوظ , ولكن بعض الأساتذه ذوي الإتجاه اليساري قد ينعكس ذلك على مناهج دراستهم ولكن كان ذلك قليلاً جداً , وكان الاتجاه الغالب هو المدارس الغربية الرأسمالية , وانا أتحدث عما لمسته بنفسي في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين , ولاشك ان هذا التوجه زاد , فعلاقتنا انهارت مع الاتحاد السوفيتي بل انهار الإتحاد السوفيتي وانهارت الشيوعية ذات نفسها ! أعتقد أن فترة البعوث للإتحاد السوفيتي لم تكن بأعداد كبيرة , لأن عبد الناصر كان يخشى من تغلغل الشيوعية ولم تستقر العلاقة مع الاتحاد السوفيتي إلا لفترة قصيرة من 1964 حتى 1970 عام وفاته وكان المبعوثون في المعسكر الإشتراكي كما لاحظت بشكل شخصي في المجالات العلمية والتطبيقية ولكن كانت الناصرية (كاتجاه قومي ) عاجزة عن صياغة منهج تعليمي قومي في الجامعات لضعف الاساس النظري للفكرة القومية وكان ذلك اكثر سهولة في مرحلة المدارس ( الابتدائية – الاعدادية – الثانوية ) خاصة في مناهج التاريخ وفرض مادة قومية واخيراً تم فرض الميثاق كمادة دراسية في الثانوية العامة ( الميثاق هو المنهج النظري للإتحاد الإشتراكي ) ولكن النظام لم يتمكن من ذلك في مرحلة الجامعات : الحقوق – الاقتصاد – السياسة – التجارة – الآداب… الخ فظلت مناهج غربية رأسمالية واضرب مثلاً من الكلية التي درست فيها ( الاقتصاد والعلوم السياسية) خاصة قسم العلوم السياسية الذي تخصصت فيه فخلال 4 سنوات لم ندرس شيئاً عن القضية الفلسطينية أو الشئون الإسرائيلية سواء بالسلب أو الايجاب وفي مدخل العلوم السياسية والفكر السياسي درسنا مكيافيللي كمؤسس لعلم السياسة ! وكذلك درسنا أفكار القديس أوغسطين وتوما الأكويني ( توماس أوكونياس ) وسبينوزا ولم ندرس كلمة واحدة عن ابن خلدون أو أي نوع من الفكر السياسي الاسلامي , وكان كتاب جورج سباين الغربي حول الفكر السياسي هو المرجع الأساسي , أما في الاقتصاد فلم يكن الاقتصاد سوى شرح وتفسير للإقتصاد الرأسمالي بإعتباره هو علم الاقتصاد والمهم أن هذا هو السائد حتى الآن بل إن الكلية حالياً مليئة بمراكز بحثية خاصة معظمها يتلقى تمويل غربي. وقد انفرد محمد علي في الشرق الاسلامي بسياسة ارسال البعثات المدرسية الى المعاهد الاوروبية , وحتى الدولة العثمانية لم تنتبه لذلك إلا متأخراً , ثم ركزت على ارسال بعثات عسكرية لتعلم اساليب بناء الجيوش الحديثة بعد فوات الأوان , وهؤلاء بالذات هم الذين عادوا مشبعين بالفكر الغربي , بدأت هذه الفكرة تنفذ في وقت مبكر عام 1813 في مصر وفي البداية كان التركيز على ايطاليا باعتبارها دولة ليست قوية الى حد يهدد باستعمار مصر وكان الطلبة يذهبون لتعلم الفنون العسكرية وبناء السفن والهندسة, وتم ارسال مبعوث خاص ليتعلم فن الطباعة وماتتضمن من سبك الحروف وصنع قوالبها , واستمر 4 سنوات وعاد ليتولى ادارة مطبعة بولاق 1821حتى توفي 1831  .                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                              

وهكذا كان إرسال المبعوث لمهمة محددة , ثم يعود لينفذها فوراً ويسد ثغرة في بناء المجتمع كمتخصص مصري. ثم بدأ بصورة حذرة إرسال اعداد قليلة لفرنسا وانجلترا في مجال بناء السفن والملاحة ومناسيب المياه وصرفها , والميكانيكا , وكان أهم من برع فيهم عثمان نور الدين أفندي الذي صار أميرالا للأسطول المصري , وكان المجموع من المبعوثين من 1813 حتى 1847 – 319 تلميذاً لم يكلف تعليمهم سوى ثلث مليون جنيه وهو مبلغ صغير بالنسبة لما حققوه من انجازات لدى عودتهم . وكعادة محمد علي فإن أي قرار مهم يتخذه يظل يتابعه بنفسه وكان يصله عنهم تقرير شهري , وعندما لم يسترح لمستوى التحصيل أرسل لهم عام 1829 رسالة مكتوبة فقال ( قياساً على قلة شغلكم خلال الشهور الثلاثة الماضية عرفنا عدم غيرتكم وتحصيلكم وهذا الأمر غمنا كثيراً) وأضاف ( وإن أردتم أن تكسبوا رضانا فكل واحد منكم لايفوت دقيقة واحدة من غير تحصيل العلوم والفنون ) ودعاهم إلى تقديم تقرير شهري عن ماحصلوه , وحثهم عن الابتعاد عن أي سفاهة أو تضييع للوقت وكانت البعثة تقيم في بيت واحد ليكون الأمر تحت السيطرة وكان يصرف لكل منهم 250 قرشاً ماهية شهرية ! وفي مجال الإنتقال لاستخدام البخار في السفن أي لدخول عصر البخار , تم إرسال الفرقاطة (الشرقية) 1847 إلى انجلترا وهي الرائدة في هذا المجال وكان على متنها 21 نجاراً ليتقنوا فن النجارة هناك مدة وجود الفرقاطة بإنجلترا , بينما تم تصفيح الفرقاطة وتركيب آلاتها البخارية قوة 550 حصاناً كذلك أرسل 5 مصريين لتعلم فن مد ووصل خط التلغراف وعادوا ونفذوا ذلك في السودان , معظم البعثات العلمية ( 90% ) مسجلة بالأسماء والتخصصات والبلاد التي درسوا فيها ولولا ما أثير من لغط لدى بعض كتاب التاريخ الذين قالوا إنها كانت حملة تغريب وماسونية (!)  هدفها نزع مصر من الاسلام وشريعة الاسلام , ما اهتممنا بتثبيت هذه اللائحة , ولكن المرء ينحاز ويحب الحقيقة , ويكره الإفتراء بغير حق على الواقع قبل أي شخص، فلا يمكن وصف أكبر نهضة انتشلت مصر من غيابات العصور المقيتة خلال القرون 16 , 17 , 18 بهذه الأوصاف , فهكذا نفقد البوصلة تماماً ولانعرف ماهي أو ماهو معنى النهضة أو التنمية الإقتصادية ؟!

المسألة تتعلق ب319 تلميذاً ولكنه عدد كبير بالنسبة لعدد المتعلمين في مصر وبالنسبة لاحتياجات البلاد في تلك اللحظة .

–       الإدارة الملكية أو الحقوق والمحاماه   11

–       العلوم والفنون الحربية                76

–       العلوم السياسية                         3

–       الملاحة والفنون البحرية               6

–       الهندسة البحرية                        3

–       المدفعية                                 2

–       الطب العام والجراحة                  4

–       حصلوا على دكتوراه في الطب       12

–       طب اسنان                               2

–       طب بيطري                              2

–       طب عيون                                2

–       الزراعة                                  2

–       التاريخ الطبيعي والمعادن والتعدين    5

–       هندسة الري                              4

–       الميكانيكا                                  21

–       ائمة من الأزهر للإشراف                2

–       صنع الأسلحة وصب المدافع والقنابل    4

–       الطباعة والحفر                             2

–       الكيمياء                                      6

–       هندسة ورياضيات                          4

–       طبيعيات                                    9

–       تعلم صناعة بصم الشيت  2

–       تعلم صناعة الآلات الجراحية 2

–       تعلم صناعة السماعات  2

–       تعلم صناعة الصياغة والجواهر 2

–       تعلم صناعة شمع العسل 2

–       تعلم صناعة نسج الأقمشة الحريرية 2

–       تعلم صناعة النقش والدهان    2

–       تعلم صناعة صبغ الأجواخ    2

–       تعلم صناعة ( السروجية )  2

–       تعلم صناعة صنع السيوف  2

–       تعلم صناعة الشيلان     2

–       تعلم صناعة البنادق والطبنجات 2

–       تعلم صناعة الأحذية    2

–       تعلم صناعة إنشاء السفن  3

–       تعلم صناعة شمع الأختام 2

–       تعلم صناعة الأخواخ والعباءات 6

–       تعلم صناعة آلات البوصلة وميزان الهواء والنظارات ومقاييس الأبعاد وآلات الدوائر المنعكسة وغيرها من آلات الفلكية  2

–       تعلم صناعة الآلات الهندسية  2

–       تعلم صناعة التنجيد والفراشة 2

–       تعلم صناعة الميكانيكا  2

–       تعلم صناعة الصيني والفخار  2

–       تعلم صناعة السجاجيد   1

–       تعلم النجارة  21

–       تعلم إنشاء ومد خط التلغراف 5

                               ——

         المجموع                       260

الباقي من 319 أي حوالي 59 لايوجد تصنيف للعلوم التي درسوها أو عادوا للوطن بسبب عدم الكفاءة أو المرض بالإضافة لمواطن حبشي وأمير سوداني لايوجد تصنيف لدراستهما , كما اضاف 28 تلميذاً في بعثة تمهيدية لايوجد تصنيف دقيق لهم ولكن معلوماً أن واحداً درس الطباعة في ايطاليا وارسل البعض إلى فرنسا ,وأرسل البعض منهم إلى انجلترا لتلقي فن السفن والملاحة ومناسيب المياه وصرفه والميكانيكا وكانت هذه البعثة التمهيدية عام 1813 , وهي كلها كما ورد لنا دراسة علوم طبيعية فإذا اضفنا هؤلاء الـ 28 إلى 260 يكون المجموع 288.

لن تجد في كل هؤلاء إلا 11 لدراسة الإدارة والحقوق و3 لدراسة العلوم السياسية ( مات منهم واحد اثناء الدراسة !!) يكون المجموع 13 , انا لا أجيد الرياضة احسبوها أنتم , ولقد وجدت النسبة أكثر قليلاً من 4% . أي نسبة المبعوثين لتعلم علوم نظرية .

 وهذا العدد الضئيل لاينبئ بوجود خطة لترجمة القوانين الفرنسية لتحل محل الشريعة الإسلامية والمؤكد تاريخياً أن الذي ألغى الشريعة الإسلامية رسمياً هو الإحتلال البريطاني عام 1883 ولم يحدث أي إجراء رسمي لإلغاء أو استبدال الشريعة الإسلامية في عهد محمد علي ولا أحفاده حتى توفيق . بل أشرنا من قبل أن الجزية كانت تطبق على المسيحيين حتى عهد الخديو سعيد , ولكن تطبيق الشريعة لم يكن دقيقاً وكاملاً أو حياً وكان هذا هو حال البلاد العربية في ظل الدولة العثمانية والتآكل في الالتزام بالشريعة الإسلامية بدءاً من العهد الأموي بإلغاء الشورى وتثبيت حكم الفرد المستبد – الملك الذي يورث الحكم وهذا أهم مافي الشريعة في مسألة تنظيم المجتمع المسلم وظل التآكل مستمراً في العهود التالية بصورة بطيئة مع عدد من الإرتدادات في الإتجاه الصحيح في مجال العدل والإهتمام بالعلم والعلماء والجهاد ضد الأعداء بعد أن كان قد تراجع ولكن ظل المنحنى في هبوط دائم , ثم اصبح هبوطاً حاداً في القرنين 18 , 19 وهذا ما أدى إلى سقوط العالم الاسلامي كلية في قبضة الغرب الصليبي , وحتى الآن. وهذه هي أهمية الجهاد من أجل إعادة الخلافة الراشدة وفقاً للمفهوم العصري الذي تحدثنا عنه من قبل ومن هنا تنبع أهمية كتابي الحاكم المطيري أكرمه الله ( الحرية أو الطوفان) ,  (تحرير الإنسان ) اللذين يشرحان هذا الموضوع الحاسم بمنتهى الدقة الشرعية وهو قريب جداً مما طرحته من قبل ( وأنا أقل منه في الإبحار في علوم الشريعة ) في كتابي الجهاد صناعة الأمة – عام 2000 في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , أما الحقيقة التي يجب أن يعلمها كل مسلم مصري يكتب في التاريخ أنه في النصف الثاني من عام 1883  اي بعد حوالي سنة من الاحتلال صدرت مجموعة القوانين الحديثة للعمل بها أمام المحاكم وهي مجموعة القانون المدني وقانون التجارة وقانون المرافعات وقانون العقوبات وتحقيق الجنايات والقانون التجاري البحري , وهي القوانين التي ظل معمولاً بها طوال أكثر من خمسين سنة ثم تم تعيين نائب عام إنجليزي ! وفي عام 1891صدر مرسوم الخديوي بتعيين المستر جون سكوت مستشاراً قضائياً لوزارة الحقانية بدون موافقة رياض باشا رئيس الوزراء ( موسوعة تاريخ مصر – أحمد حسين – مصدر سابق ).

ونعود لإحصاء المبعوثين في عهد محمد علي من زاوية أخرى : الدول التي درسوا فيها سنجد التالي :

202 درسوا في فرنسا

46 درسوا في إنجلترا

7  في النمسا

وهناك بعثة تمهيدية من 28 تفرقوا بين إيطاليا وفرنسا وإنجلترا بدون تحديد رقمي في أي وثيقة وهناك بعثة أخيرة من 25 تفرقت بين فرنسا وإنجلترا أيضاً بدون توثيق رقمي .

اذن الأغلبية الساحقة كانت إلى فرنسا مع قلة للنمسا او إيطاليا وأقل من الربع لإنجلترا وقد أشرنا من قبل إلى أن تقديرات محمد علي – وهي صحيحة – إن إنجلترا هي الخطر الرئيسي على مصر , وأن التهديد بالاحتلال يأتي من جانبها , وبالتالي فإن التعامل مع فرنسا مأمون أكثر لعدم قدرة فرنسا في المدى المنظور على تهديد مصر , كما أن قمع إنجلترا لطموحات فرنسا في أوروبا والعالم الجديد والهند ومصر وتثبيتها في المركز الثاني ( وكأنها نادي الزمالك في الدوري المصري ) جعل فرنسا تجد مصالحها في علاقات طيبة مع محمد علي , ولكن عندما يُحم القضاء فإن فرنسا تقف مع أوروبا ضد الصعود المصري أو الإسلامي .

وتطور الأحداث برهن على صحة تقديراته ففرنسا ظلت في المركز الثاني حتى الآن بل اصبحت في المركز الثالث بينما حلت أمريكا اولاً محل انجلترا والصين وروسيا والهند في المركز الثاني , وفرنسا وإنجلترا في المركز الثالث عسكرياً وإقتصادياً ونفوذاً , ولولا نفوذ فرنسا في بعض بلدان غرب افريقيا الفرانكوفونية استغلالاً لمسألة التبعية اللغوية لانمحت فرنسا تماماً من خريطة الدول المؤثرة عالمياً , وقد أعجبني سياسي لبناني عندما كنت اتحدث معه عن دور فرنسا مع امريكا في بداية تصاعد الأزمة السورية , فقال لي : وما فرنسا , إن هي إلا محطة اذاعة !؟ وضحكت ووافقت على هذا التقدير لقوة فرنسا في القرن الواحد والعشرين ( لعله يقصد محطة مونت كارلو , وهي بالمناسبة محطة جيدة من الناحية المهنية ) وفي المقابل فإن بريطانيا هي التي احتلت مصر وفلسطين والعراق وبسطت نفوذها على الخليج العربي وايران وعدن وقبرص وأصبحت هي القوة الأولى في المستطيل القرآني , وفي العالم بأسره من امريكا حتى الملايو ( ماليزيا) والصين وسنغافورة والهند وجنوب افريقيا والسودان وشرق افريقيا واجزاء من وسط افريقيا – واستراليا .

********************

والآن كيف استفادت البلاد من هذه البعثات ؟ من المهم أن نعرف وإلا لذهب كل شئ أدراج الرياح , فإذا نجحت الخطة فيجب أن يكون هناك إعداد لتكرارها , لأن الفجوة العلمية والتكنولوجية ماتزال موجودة بيننا وبين الغرب , بل وايضاً بيننا وبين الشرق : الصين – اليابان – ماليزيا – ومعظم جنوب شرق آسيا والهند وروسيا .

كان العائدون من البعثات واحداً من ثلاث . فئة قامت بتسلم قيادة المدارس العليا والثانوية ادارة وتعليماً , فئة ثانية قامت بعملية ترجمة واسعة لمختلف مجالات العلوم , وغالباً ماقامت بالمهمتين فئة واحدة أي نفس الأشخاص , وفئة ( أو مهمة ) ثالثة هي قيادة إدارة المصانع والمشروعات ومؤسسات الدولة التنفيذية وتقريباً معظم إن لم يكن كل العائدين برعوا ونجحوا في تخصصاتهم وفي مواقعهم ولم تكن هناك أى نسبة تذكر للتفلت . وهذا يعني ان المبعوثين التزموا الجادة ولم يغرقوا في ملذات باريس أو يهربوا كما فعل عدد من المبعوثين في عهد عبد الناصر ومابعده رغم أن الدولة هي التي انفقت على تعليمهم .

وكثيراً مايتهم رفاعة رافع الطهطاوي بأنه قائد التغريب الذي كان مسئولاً عن البعثة الأولى في فرنسا , وقد كان مسئولاً دينياً وتربوياً لضمان حسن سير التلاميذ وتربيتهم دينياً ومتابعتهم في الصلاة … الخ وكان أزهرياً ومعه ثلاثة ائمة آخرون ولم يكونوا مكلفين بأي تعليم في فرنسا . ومن المؤسف أن يوصف رائد نهضة العلم والأدب بقائد التغريب وهو كان أزهرياً حافظاً للقرآن كله من صغره وهو من نسل الأنصار عن طريق أمه .

ورفاعة ( 1801 -1873) كان قد صار من العلماء ويدرس بالأزهر واصبح له جمهور من التلامذه ثم اصبح واعظاً بالجيش في أهم ألايين ( وحدتين ) لمدة عامين 1824-  1826 وهو ما يكشف وجود تربية إسلامية منظمة في الجيش في وقت مبكر . واستمر كواعظ للبعثة 5 سنوات 1826 – 1831 ولأنه محب للعلم والمعرفة درس اللغة الفرنسية وتحول إلى مترجم بارع . والاطلاع على عناوين الكتب التي ترجمها في فرنسا تكشف ميوله المعرفية العامة لا إعجابه بفكر وثقافة الغرب , وإن كان فيها مايمكن أخذه بطبيعة الحال . 1- تاريخ الإسكندر الأكبر

2- كتاب أصول المعارف .

3- تقويم سنة 1244 هجرياً لاستعمال مصر والشام .

4- أخلاق الأمم وعوائدها

5- جزء من كتاب ملطبرون في الجغرافية

6- 3 مقالات من كتاب في علم الهندسة

7- مقدمة جغرافية طبيعية

8- نبذة في علم الهيئة

9- كتاب عسكري

10- أصول الحقوق الطبيعيىة لدى الإفرنج

11- نبذة في المثيولوجيا بمعنى جاهلية اليونان وخرافاتهم .

12- علم سياسة الصحة.

إن من يرفض قراءة مثل هذه العناوين كأنه يدعو للجهل والجهالة , فالعلم ليس تغريباً وقد ظل بعد عودته مهتماً بالترجمة في مجالي التاريخ والجغرافيا , كما ترجم موضوعات عسكرية كانت منهجاً في المدارس العسكرية المصرية , وهو الذي اقترح على محمد علي إقامة مدرسة الألسن التي اقيمت في مكان فندق شبرد الحالي .

وعلى خلاف ما يتصور البعض من إسمها ومن مهمتها الحالية في القرن الواحد والعشرين أنها مجرد كلية لغات أجنبية , ولكنها لم تقتصر على ذلك بل شملت اللغات الشرقية ( التركية – الفارسية ) مع اهتمام خاص باللغة العربية وآدابها وشعرها , وكانت تدرس علوم التاريخ والجغرافيا , والشريعة الاسلامية مع المقارنة بالشرائع الأجنبية وكانت أشبه بكليتي آداب وحقوق مندمجتين , ويدرس فيها أهم علماء الأزهر , وكما ذكرنا فإن الأزهر كان الخزان الذي يقدم مادة بشرية مثقفة وعارفة بالإسلام لهذه النهضة الثقافية العامة , فلا يجوز أن يقال أن محمد علي ضرب الأزهر أو همشه بل هو عظم الإستفادة به في هذه النهضة العلمية والثقافية , بل وتم إشراك علماء الأزهر في مختلف قطاعات الدولة , طالما إن العلماء لا يتدخلون في مسألة احتكار محمد علي للسلطة السياسية , وقضية الشورى أمر جلل , ولكن لم يكن هذا حكراً على محمد علي في زمانه ولا من قبله ولا من بعده فيجب أن نكيل في تقييم الحكام المسلمين بمكيال واحد . ولم يكن في مقدور محمد علي ولا في تصوراته تطوير العلوم الشرعية بالأزهر !! ولم يفعل معظم حكام المسلمين من قبله ولا من بعده شيئاً في هذا المجال بعد أن أصبح الحاكم غير مجتهد في شريعة الله أو متفقهاً في العلوم الشرعية.

تولى رفاعة رافع الطهطاوي إدارة مدرسة الألسن والتي تفرع عنها معهد للفقه والشريعة الإسلامية (!) ومدرسة محاسبة , ومدرسة إدارة وهكذا تحولت مدرسة الألسن إلى جامعة !    

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading