قنبلة التاريخ: الأسطول العثماني يتمرد وينضم بكامله لمصر

) الصورة لابراهيم باشا بونابرت الشرق-

هزيمة ساحقة جديدة للعثمانيين أمام ابراهيم باشا في نصيبين

أخطاء محمد علي في حكم سوريا عجلت بهزيمته

معاهدة عثمانية- بريطانية-فرنسية لتقويض الصناعة في مصر

(دراسة: المستطيل القرآني (الشرق الأوسط)- حلقة (55

كما ذكرنا في أواخر سنة 1833 وأوائل 1834 أصدر محمد علي باشا الأوامر التالية:

(1)احتكار الحرير في سوريا (2)أخذ ضريبة الرؤوس من الرجال كافة على اختلاف مذاهبهم. (3)تجنيد الأهالي. (4)نزع السلاح من أيديهم

وقد أدت هذه الأوامر إلى تذمرالأهالي فانتاج وتجارة الحرير مجال أساسي لنشاطهم، وكذلك ضريبة الرؤوس تعتبر جديدة بالنسبة للمسلمين، بالإضافة لظهور سياسة تسخير الحكومة للأهالي في الاعمال العامة ، اما التجنيد الاجباري ونزع السلاح فكان أهم الأسباب المباشرة التي أفضت الى الثورة ،  وعلى خلاف الوضع في مصر فإن معظم الأهالي في سوريا يحملون السلاح وأعتادوا ذلك لدفع سطوات البدو الرحل .

كذلك لم تكن الثورات التي اندلعت وهي ثورات مسلحة بعيده عن الدسائس التركية والانجليزية ، فقد تشكل تحالف صريح بين الدولة العثمانية والانجليز بهدف السعي لطرد الوجود المصري من سوريا و انهاء مشروع محمد علي لاقامة دولة عظمى اقليمية ،  ووصل الأمر الى حد تعاون الدولتين لتوصيل الأسلحة والمال لرؤساء العشائر والعصبيات الإقطاعية التي اضيرت أساسا من الحكم المصرى الذي افقدها نفوذها السياسي والاقتصادي . وهذا ما اكده المؤرخ السوري د.مشتاقه والذي كان معاصرا للأحداث  ( كتاب مشهد العيان)

وبدأت الثورة في فلسطين ، ومن المثير للعجب ان د. راغب السرجاني في إطار سلسلة محاضرات عن الجهاد الفلسطيني يعتبر أن المقاومة المسلحة للنظام المصري من ضمن صفحات الجهاد الفلسطيني في إطار ما يتناقله بعض الكتاب الإسلاميين – كما ذكرنا- عن ان محمد علي كان ماسونيا و عميلا للانجليز وقائدا لعملية التغريب رغم ان ما ذكرناه وسنذكره ينفي هذه الاتهامات وهي حقائق لا خلاف حولها ، كما ان هؤلاء الاسلاميين لا يتعرضون اطلاقا للحالة المتدهورة للدولة العثمانية داخليا ولا لتحالفها الرسمي والصريح مع الروس تارة والإنجليز تارة اخرى، بل ويتهم السرجاني محمد علي انه هو الذي فتح الطريق للعلاقات مع الغرب لأنه وافق على فتح قنصليات أوروبية في فلسطين وهي بهدف تنشيط التجارة بين سوريا و أوروبا ،  ويتغافلون عن التحالف العسكري مع روسيا الذي وصل الى حد إنزال قوات روسيا على أرض تركيا ، والتحالف العسكري العثماني الانجليزي المباشر ضد الحكم المصري في سوريا كما سنورد تفاصيله.

ورغم اننا سجلنا اعتراضنا على قرارات محمد علي التي أثارت السوريين فذلك لعدم ملاءمتها للواقع السوري (التجنيد – نزع السلاح ) على الاقل تحتاج لتمهيد طويل ولكن ليس لانها خطأ من حيث المبدأ ، فالتجنيد الاجباري سياسة سليمة ولو استمرت في فلسطين ما احتلها اليهود بكل هذه السهولة التي حدثت ، فالاصل هو تدريب الشباب وإعداده للقتال في الدولة الإسلامية .  كذلك فإن نزع السلاح ليس خطأ من حيث المبدأ طالما أن الدولة تنظم الجهاد والحفاظ على الأمن ، ولكنها مسألة ملائمه وتوقيت وتمهيد ، وهذا أمر غير عاجل خاصة وان الظروف ساعتها كانت مستقرة .  كذلك لم يدرك محمد علي ان قرار احتكار الحرير ليس سهلا في بلاد مثل سوريا  ، وان ما اتخذه من قرارات احتكار في مصر لا يسهل قبوله في سوريا.  بل ان الشعب المصري قاوم بأساليب سلبية وأحيانا في انتفاضات بالمنوفية  وأقصى الصعيد سياسة التجنيد ولكن تم السيطرة على ذلك وتجاوزه في مصر،  و لكن الأمر ليس بهذه السهولة في سوريا ، بين شعب يتحالف مع الجبل ويحمل السلاح .  اما بالنسبة لضريبة الرءوس فهي أمر سخيف تماما ولعل ذلك يرجع الى ما أشرنا اليه آنفا من ان ميزانية سورية كانت بالعجز وان الحكومة المصرية كانت تسدد هذا العجز في وقت كان يأمل محمد علي ان تكون سوريا موردا اقتصاديا يدعم الدولة المصرية ،  ولكن ذلك لا يبرر حل المشكلة بصورة حمقاء وغير عادلة .

ابتدأت الثورة حول نهر الأردن بالقرب من بيت المقدس في ابريل 1834 ،  وأعلنت  القبائل عدم التزامها بتلك الاوامر . وعندما توجه إبراهيم باشا من يافا – حيث كان- إل بيت المقدس بقوات جيشه أجرى مباحثات مع كبار القوم الذين أكدوا أن معارضتهم تنصب على نزع السلاح والتجنيد ،  وتركهم ابراهيم باشا للتفكير والتشاور دون أي تراجع من جانبه ، ولكن العصيان تزايد بعد أن ذاع بين الأهالي أن تركيا تستعد للهجوم العسكري لاسترجاع الشام من محمد علي وامتدت الثورة الى بدو البحر الميت ثم نابلس .  وكان زعيم العصيان هو حاكم نابلس وهو من رؤساء العشائر ذوى العصبيات القوية وهو قاسم الأحمد ، وكذلك أبوغوش صاحب قرية العنب الواقعة بين بيت المقدس ويافا ، وهما من الاقطاعيين الذين أضيرا من الحكم المصري الذي بدأ بفرض القانون على الجميع والغي سلطاتهم السياسية ،, وبدأ العصاة يهاجمون مخافر الجيش المصري بالسلاح و يقتلون الجنود المصريين الذين لم يبدأوا أصلا بأي أعمال عدائية . وقام العصاة ، بنهب حوانيت مدينة القدس!  ولكن تمكن إبراهيم باشا من إخماد التمرد المسلح في عموم فلسطين في يوليو 1834 ولكن بخسائر كبيرة للجيش المصري حيث انه كان يواجه حرب عصابات.

ولكن الثورة امتدت بعد ذلك الى دمشق ولكن في شكل تذمر وهروب للجبال ثم وقعت اضطرابات مسلحة ضد الحامية المصرية في طرابلس وكذلك الأمر بدرجة اقل في حلب وأنطاكيه وبعلبك وبيروت .  ولكن أهم ثورة بعد فلسطين كانت ثوره النصيرية في اكتوبر 1834 حول اللاذقية وهم العلويون ولكن نجح ابراهيم باشا في اخمادها . وأصر ابراهيم باشا – وفقا لتعليمات محمد علي – على الاستمرار في تنفيذ أوامر التجنيد ونزع السلاح مما أدى الى زيادة حركة الفرار للبادية مما اضر بالحالة الاقتصادية ضررا بليغا

ثم كانت ثورة الدروز (لاحظ ان كل طائفة تثور وحدها في تتابع) في حوران في نوفمبر 1837 وكانت أقوى من كل الثورات السابقة واستمرت 9 شهور ، وتمكن الجيش المصري من اخمادها بعد خسائر كبيرة في صفوفه ، فقد خسر الجيش المصري في هذه التمردات أكثر بكثير من ما خسر في الحرب على تركيا !! 

رأي عبد الرحمن الرافعي

ويؤكد عبد الرحمن الرافعي ما سبق وقلناه فيقول:( كان في إمكان مصر ان تتفادى هذه التضحيات الاليمة ،  والخسائر الفادحة لو لم يتشدد محمد علي باشا في تجنيد السوريين ونزع اسلحتهم ، اذ لم يكن من الحكمة ولا من حسن السياسة أن تبادر دولة فاتحة الى تجنيد الأهالي في بلاد حديثة عهد بفتحها ولما يستقر بعد حكمها فيها ،  وخاصة اذا كان أهلها قد اعتادوا من قديم الزمن حمل اسلحتهم ولم يألفوا نظام التجنيد الاجباري ،  ولو ان محمد علي جرى علي الهوينا في كلا الأمرين ،  وترك للزمن تحقيقهما تدريجيا لما استهدف الجيش المصري لهذه الثورات التي أودت بحياة عشرة آلاف مقاتل ونيف هذا فضلا عن أن اخماد الثورات بالقوة قد أوغر صدور السوريين على الحكم المصري ، فبعد ان استقبلوه في بدء الفتح بقبول حسن وفضلوه على الحكم التركي جنحوا بعد ذلك الى قديمهم ولقيت الدعاية التركية بينهم مرعى ومأوى ) .

بعد ذلك منعت الحكومة المصرية – تحرزا من تدفق الأسلحة – دخول السفن التركية الى الثغور السورية ،  ومنعت أيضا دخول القوافل التجارية من جهات الأناضول،  فأضر ذلك بالتجارة ضررا كبيرا

تركيا تستعد للحرب السورية الثانية

كما ذكرنا لم يكن صلح كوتاهية إلا نوعا من وقف إطلاق النار الاجباري من جانب تركيا لأن جيشها قد تم تبديد شمله ،  وقلنا انها أضمرت الاعداد والاستعداد لحرب جديدة لطرد الجيش المصري من سوريا وتقويض حكم محمد علي كله إن أمكن . ولذلك قلنا ان إبراهيم باشا كان  أبعد نظرا من والده حين رأى ضرورة ” طرق الحديد وهو ساخن” وحسم الأمر في الأستانة بدخولها والاطاحة بمحمود الثاني وتعيين ابنه عبد المجيد سلطانا جديدا ، فقد رأى ان الأستانة لن تترك مصر بعد كل ما قامت به ، وانها ستحارب من جديد أو تستعين بقوات أجنبية ،  وكذلك عندما رأى ضرورة أخذ الاوروبيين على حين غرة وحسم الصراع .  والا فإنهم لن يكفوا أبدا وفي كل الاحوال عن الائتمار بالأمة الإسلامية. 

وبالفعل ومنذ 1834 أخذت تركيا في إعداد جيش جديد للزحف على سورية في الوقت المناسب ، وعهدت بقيادته الى رشيد باشا قائد الجيش العثماني الذي أسر في موقعة قونية (وهذا امر غريب وقرار غير صائب فالقائد المأسور لا يصلح عادة  لقيادة الجيش من جديد ) ولكنه توفي في 1836 وخلفه محمد حافظ باشا أحد أشهر قواد تركيا ، ولكن غزو سوريا تأخر لأن تركيا كانت تدرك تفوق الجيش المصري واحتياجها للمزيد من الأعداد ، ولكنها لم تضع الوقت حيث لم تتوقف عن دسائسها بالاتصال بالقيادات الإقطاعية وتحريضهم للتمرد على الحكم المصري و امدادهم بالمال والسلاح.

محاولات محمد علي لاعلان الاستقلال

أدى تفاقم الأوضاع في الشام وتآمر الدولة العثمانية الذي أصبح علنيا وواضحا،  أدى إلى توجه محمد علي إلى محاولة لاعلان الاستقلال الصريح والتام لحكمه عن الدولة العثمانية ،  فاستدعى في عام 1838 قناصل الدول . واعلن عزمه على الاستقلال اسوة ببلاد اليونان ، ولكن الدول الأوروبية كلها وعلى رأسها فرنسا نفسها (التي طالما لعبت دور الصديق لمحمد على . ولكنها عند احتدام الأزمات كانت تقف دائما مع الأوروبيين )،   وكل الدول الاوروبية وقفت في وجه محمد علي وحذرته من مغبة الاقدام على هذا العمل . وكانت انجلترا صاحبة المشروع التوسعي في الشرق الاوسط أكثر هذه الدول تحذيرا لمحمد علي ، وكانت قد بدأت تترجم مشروعها التوسعي الى أفعال فأقدمت على احتلال عدن في ذلك العام ، وعدن هي مفتاح باب المندب (أي مفتاح البحر الأحمر) وهي كجزء من اليمن تقع ضمن ولايه محمد علي،  كما قامت انجلترا بإجبار أمير البحرين على إلغاء التحالف مع محمد علي و منع المصريين من دخولها.

كان الموقف الأوروبي وعلى رأسه الموقف الانجليزي واضحا ، الدفاع المستميت عن الوضع الرسمي للدولة العثمانية (في البلاد الاسلامية طبعا وليس في اليونان مثلا !!) مع استبقائها في غرفة الانعاش حتى يتم تقسيم تركة ممتلكاتها بعد موت “الرجل المريض” وهو الأمر الذي سينتهي في آخر الأمر بحصول انجلترا على نصيب الأسد ،  و حصول فرنسا على النصيب الثاني ثم ترك بعض الفتات لايطاليا ( ليبيا) واسبانيا ( أجزاء من المغرب) مع خروج روسيا الاضعف (بلا حمص) وقد ظلت دائما خارج التحالف الاوروبي الاساسي.  أما بروسيا فظلت خارج القسمة لضعفها وهي لم تتمكن من توحيد ألمانيا الا في 1870 على يد بسمارك.  اما إمبراطورية النمسا والمجر فقد تلاشت كما تلاحظون واختفت من الخريطة وتحولت الى مجرد دولتين صغيرتين بلا حول كثير او طول (النمسا والمجر الحاليتان). 

وسيظل هذا القانون يحكم العلاقة بين أوروبا و محمد علي والدولة العثمانية :

1-أى الحفاظ على الدولة العثمانية بحالتها السيئة ( بعبلها كما نقول في اللغة الدارجة )

2-عدم السماح بتجديد دمها او قيام دولة فتية (دولة مصر)  بوراثتها ووراثة دورها حتى يتم القضاء عليها نهائيا وهو ما حدث في مطلع القرن العشرين ومع نهاية الحرب العالمية الأولى

3-  القضاء على القوة الصاعدة المصرية التي تهدد على الأقل بالسيطرة على الشرق الاوسط ،  اهم بقعة في العالم . 

المعاهدة التجارية بين انجلترا والدولة العثمانية :

تناولنا خلال الحديث عن الصناعة في عهد محمد على الحرب التجارية التي نشأت بين مصر وأوروبا عموما و بين مصر وانجلترا خصوصا باعتبارها هي زعيمة الثورة الصناعية.  كانت مصر تشكل تهديدا خطيرا لانجلترا و باقي دول اوروبا اذ هى بدأت تبرع في بعض الصناعات خاصة النسيج وكان هو الصناعة الأهم في إنجلترا،  وبدأت منافسة حقيقية بين الصناعات المصرية من ناحية و الصناعات الانجليزية والاوروبية من ناحية أخرى، ووصل الأمر إلى اختراق المصنوعات المصرية للاسواق الاوروبية، وظهور حرب الحماية الجمركية بين الطرفين والى انكماش الصادرات الأوروبية لمصر ، بل كانت الصناعة المصرية منافسا في اسواق الشرق الأوسط عموما : تركيا – سوريا – اليونان وغيرها.

كانت الحرب الاقتصادية تسير بصورة متوازنة مع تصاعد المواجهة العسكرية بل كانت معركة واحدة تستهدف تركيع مصر وضرب نهضتها والقضاء على قوتها العسكرية والحضارية واستقلالها السياسي و المؤسف ان الدولة العثمانية كان طرفا أصيلا في هذه الحرب الاقتصادية – العسكرية حيث أصبح القضاء على النهضة المصرية  هو هدفها الأول مثل أوروبا تماما .

وفي هذا الإطار تم إبرام معاهدة تجارية بين انجلترا وتركيا للانتاج التجاري وكان من شروطها إلغاء الاحتكار في جميع أنحاء السلطنة العثمانية وهي تسري على مصر لأنها كانت لا تزال من الناحية القانونية جزءا من السلطنة ،  كما وافقت فرنسا على هذه المعاهدة  وانضمت إليها وكما يطلب صندوق النقد الدولي من الدول المستقلة في القرن العشرين وحتى الآن ،  برنامجا للخصخصة ، ( اي بيع القطاع العام)  اى ضرب القلعة الصناعية الأساسية في البلدان النامية حتى تسقط تماما كسوق مفتوحه للبضائع الأجنبية من أجل تعظيم أرباح القطاع الصناعي الحديث في الغرب ،  فان هذه المعاهدة كانت بداية لتطبيق هذه السياسة الجائرة ، والتي تتعدى على النظم الاقتصادية الداخلية للدول الاخرى ، فلا يكتفون بالاتفاق على تخفيف او إلغاء الحواجز الجمركية ،  بل يريدون تصفية الصناعة الوطنية بالأساس،  ويريدون تصفية المنافس نفسه بدلا من منافسته في حلبة التبادل التجارى الحر ،  ومهما تكن لدينا ملاحظات انتقادية على أسلوب الاحتكار الصناعي في عهد محمد علي إلا أن جوهره كان صحيحا ،  ففي غياب حركة صناعية خاصة ( برجوازية كما يسمونها في الغرب)  فان الصناعة الوطنية الكبرى لن تقوم الا علي اكتاف الدولة (القطاع العام) ،  طالما ان القوة المالية للاقطاعيين أو التجار لا تتجه لإنشاء صناعة حديثة فلابد للدولة ان تقوم بذلك وهذا ما حدث في اليابان في ما بعد ،  وفي بدايه عهد محمد علي لم يكن وعى الاقطاعيين والتجار المماليك ومن تعاون معهم من العثمانيين يمكن أن يصل الى فكرة الصناعة ، فقد اوصحنا انهم استنزفوا طاقتهم في الصراعات اللصوصية بين بعضهم البعض ، فبدأ محمد علي باحتكار الزراعة والتجارة ثم الصناعة .  بالتأكيد كان يمكن القيام بذلك بصورة أفضل ،  وبدون احتكار كامل شامل وإن كان هذا الاحتكار خفف تدريجيا كما ذكرنا . ومع ذلك وبدون الوقوع فى خطأ هندسة التاريخ (كان يجب فعل كذا  وعدم فعل كذا) فقد كان ما قام به محمد علي في جوهره هو ما نسميه الآن (دور الدوله في التنمية الاقتصادية ) أو( دور القطاع العام ) ولا شك ان النهضة الآسيوية  والأمريكية اللاتينية المعاصرة كان عمادها (دور الدولة الأساسي في الاقتصاد)- في زمن محمد علي كان – كما نكرر دائما – اعتماد المشروع على دور الفرد وأفكاره (محمد علي نفسه) وغياب أو ضعف المؤسسية هو نقطة الضعف الأساسية التي لم تسمح للمشروع بالاستمرار ، وكان محمد علي بذكائه يدرك ضرورة المؤسسية  فأنشأ مجالس الشورى والدواوين ، وفي الصناعة أنشأ ديوان الفبريكات (وزارة صناعة) ولكن لا أتصور أن المؤسسية اخذت مداها وآليتها حتى النهاية ،  ولا شك ان الشخصية الطاغية لمحمد علي كانت هى محور أهم القرارات ،  كما أن المؤسسية ليست عملا فنيا تخصصيا ، ولكنها تقوم أساسا على الرؤى السياسية الشاملة للنخبة السياسية ، والشورى التي تفترض تعدد الأراء وتصارعها قبل اتخاذ القرار ، ولم يكن نظام محمد علي يتسع لكل ذلك ، وإذا عدنا للمعاهدة التجارية اللئيمة بين انجلترا والدولة العثمانية ، نرى الدرك الأسفل الذي كانت قد انحطت له الدولة العثمانية ،  فهذه المعاهدة تفتح الطريق للسيادة الاقتصادية الشاملة لانجلترا وفرنسا علي الاقتصاد العثمانى ،  والموافقة عليها تعني ان نوايا التفكير في أي نهضة صناعية لم تكن واردة في أذهان حكام الاستانة ، فهذه المعاهدة تلغي أي حواجز جمركية أمام البضائع الانجليزية والفرنسية .

مرة أخرى الجيش المصري يسحق العثمانيين في نصيبين

وتأكيدا لما ذكرناه فلم تكن اتفاقية كوتاهية إلا وقف إطلاق نار اجباري من قبل السلطنة العثمانية ففي عام 1839 زحف الجيش التركي على بلاد الشام بدون أي مبرر ظاهرى ، فالمسالة واضحة السلطنة تريد طرد النظام المصري من الشام ، ومحاولة الاستمرار لضربه في مصر إن أمكن !

وقام ابراهيم باشا كعادته كقائد عسكري متألق بالتصدي للجيش العثماني في نصيبين التي تقع شمال حلب وتعتبر داخل الأراضي السورية ولكن على الحدود مباشرة بين البلدين ، كانت القوات متكافئة من حيث العدد : كان العثمانيون 38 ألف تساعدهم مجموعة من كبار الضباط الألمان. وكان الجيش المصري 40 ألف مقاتل ، ولكن بنفس الفارق النوعى لصالح المصريين تسليحا و تكتيكا وخططا وقدرات فنية باعتراف الضباط الأوروبيين الذين كانوا في معسكر الجيش العثماني حيث شهدوا بأن تحركات الجيش المصري كانت تسير طبقا لخطط الجيوش الأوروبية المدربة علي أرقى فنون القتال العلمية ، وكان الجيش العثماني يتضمن أعداد كبيرة من الاكراد ضمن أخلاط أخرى ،  و انتصر الجيش المصري انتصارا ساحقا ، وبدد شمل الجيش العثماني وهرب حافظ باشا قائد القوات العثمانية وترك أوراقه ، ومستنداته في خيمة القيادة.

وكانت خسائر الترك في معركة نصيبين 4 الاف  قتيل وجريح من بينهم بعض القواد والضباط ، وأسر  15 الف ، واستولى المصريون على 20 ألف بندقية و 74 مدفعا ، وخزانة الجيش بها ست ملايين فرنك ، مقابل خسائر بشرية موازية في صفوف الجيش المصري ( 4 الاف قتيل وجريح ) ، ولكنها كانت أكبر هزيمة للجيش العثماني في مواجهة الجيش المصري ، بل وآخر مواجهة، لأن الانجليز هم الذين سيقاتلون بعد ذلك!!

ومات السلطان محمود على فراش الموت قبل أن تصله أنباء هذه الهزيمه وتولى الحكم السلطان عبد المجيد وكان عمره 17 عاما !!  بينما واصل إبراهيم باشا تقدمه داخل الأناضول من جديد : بيرة جك – عينتاب – مرعش – أورفه . وأصبح الطريق مفتوحا مرة أخرى إلى الأستانة، ولكن التراجيديا العثمانية وصلت الى ذروة لم تعرف الحروب لها مثيلا إذ تمرد الأسطول العثماني وانضم بكامل قواته الى مصر محمد علي بالإسكندرية !!

والقصة تقول أن السلطان عبد المجيد أرسل يستدعي فوزي باشا قائد الأسطول العثماني للاستانة للتشاور ، ولكن لما كان قد عين خسرو باشا (الذي كان واليا في مصر عام 1803)، وكان معاديا  لمحمد علي ، صدرا أعظم ( أي رئيس وزراء ) و كان بينه وبين فوزي باشا عداء قديم فظن ان استدعاءه إلي الأستانة لم يكن إلا لعزله أو لقتله فقرر أن يلجأ إلي محمد علي خاصة وقد أصبح الرجل الذى يمثل  بعث مجد الدولة العثمانية وتجديد شبابها ،واقلع من الدردنيل إلي الإسكندرية بقوة مؤلفة من 9 بوارج كبيرة و11 فرقاطة وخمس سفن من نوع الكورفت وعلي ظهرها 16107 من الملاحين وألايان من الجنود  وعددهم 5 ألاف فيصبح المجموع 21,107 . وخرج الأسطول المصري ليستقبل الأسطول العثماني خارج بوغاز الأسكندرية ، ودخلا إلى  الميناء معا وعدد سفنهما خمسين سفينة حربية تقل نحو 30 ألف مقاتل وعليهما 3 آلاف مدفع ، فكان منظر دخول تلك العمارة الضخمة إلي الإسكندرية مهيبا ، وصارت مصر بهذه القوة البحرية المزدوجة أقوي دولة بحرية في البحر المتوسط ، ووصلت مصر بذلك إلي أوج قوتها . وهو أمر ما كان لأوروبا أن تصمت عليه . أضيئت كل المصابيح الحمراء في مختلف العواصم الأوروبية ،وبدأت عملية تشاور مكثفة لمواجهة الأزمة: أزمة اختلال التوازن تجاه وراثة ممتلكات الدولة العثمانية ، حيث تهدد مصر الجميع ، بأن تكون هي الوارث الأكبر لها.    

وقبل توضيح الموقف الأوروبي وتحركاته نقول أن موقف محمد علي قد أصبح واضحا ، فهذه هي المرة الثالثة التي تنهار فيها قدرات الجيش العثماني ويصبح الطريق مفتوحا أمامه لدخول الأستانة ثم يحجم عن ذلك ، لذا أستطيع أن أجزم أن محمد علي كان يستبعد تماما فكرة الاستيلاء علي الدولة العثمانية وإدارتها من الأستانة ، لأسباب نفسية بينه وبين نفسه  من أنه رغم كل إنجازاته ليس هو الشخص المؤهل والقادر علي القيام بذلك ، ولأسباب الحسابات الدولية لأنه يدرك أن هذا سيشعل حربا شاملة بينه وبين أوروبا ، وكان كل تفكير محمد علي أن يكتفي بضم سوريا إلي جانب مصر والسودان والجزيرة العربية والحصول علي اعتراف دولي وعثماني له بدولة مستقلة تماما ، أو مستقلة فعليا ولكن مع روابط شكلية مع الدولة العثمانية .

ومرة أخري أقول أن هذه الحسابات كانت خاطئة ، وأن موقف إبراهيم باشا كان هو الأصح

1- لأن الأوروبيين إذا تركوا الأحداث تتطور علي هذا الشكل ، فإن الدولة العثمانية ستظل تذبل ولكن لصالح دولة محمد علي وهي دولة عربية إسلامية قوية وفتية مستقلة ستقضي علي مطامح الأوروبيين في وراثة الرجل المريض وتقسيم أراضيه وممتلكاته.

2- كان علي محمد علي أن يدرك أن أوروبا خاصة إنجلترا لا تتسامح مع قيام دولة مستقلة قوية خاصة في الشرق الأوسط وأنها سواء قضت علي الدولة العثمانية أم لم تقض عليها فهي مرفوضة في حد ذاتها ، بل أن الدولة العثمانية لم تعد عدوا حقيقيا للغرب فهي أضعف من أن تضره، بل هي تستسلم رويدا رويدا لكل مطالب أوروبا الاقتصادية والعسكرية والسياسية.

3- وبالتالي لم يكن هناك مجال للحلول الوسط ، فإما أن يقود محمد علي إعادة بناء دولة إسلامية موحدة  كبديل للدولة العثمانية أو سيتعرض لضرب الإبل من التحالف العثماني -الأوروبي، وهذا ما حدث ولعل محمد علي كان محقا في شئ واحد ، وهو أنه يمكن أن يحتفظ – كخط  دفاعي أخير –  بمصر والسودان كمقر أساسي ووحيد لدولته ، وهذا ما حدث في النهاية، ويبدو ظاهريا أنه ظفر به. ولكن ليس هذا بالنصر الحقيقي ، فمصر محاصرة منزوعة السلاح مضروبة في إمكانياتها الصناعية لا يمكن أن تعيش طويلا حتي كدولة مستقلة لأن مصر في حد ذاتها ليست بالموقع الذي يمكن للدولة العظمي أن تفرط فيه إلا مكرهة أو مضطرة.  

وبعد وفاة محمد علي 1849 ، لم تحتج بريطانيا إلا ثلاثين سنة لتحتل مصر ، وتحولها إلي مستعمرة صريحة تحت حكم أحفاد محمد علي .

لا مجال للحلول الوسط مع هؤلاء القوم المحتالين ، وإن الدخول معهم في مواجهة شاملة هو الذي كان يمكن أن يشعل الروح العربية الإسلامية الحقيقية ، للحفاظ علي الأقل علي دولة للإسلام ترفع رايته علي أراضيها ، مرفوعة الرأس موفورة الكرامة.   ليس لدينا بديل خاصة في المستطيل القرآني \الشرق الأوسط\ مركز العالم ، إما أن نكون نحن سادة أرضنا وقوة عظمي بين العالمين ، وإلا أن نكون عبيدا تحت أقدام الصليبيين واليهود ، لا يوجد خيار ثالث ، والخيار الأول هو الأشرف والأفضل لحياتنا واقتصادنا ، وهو الخيار الذي يتوافق مع الإيمان الإسلامي بالله ، وهذه هي رسالتنا في الحياة ،والمذكرة التي نرفعها لله جل شأنه في الآخرة كي يتقبلنا في الصالحين وأن يدخلنا جنته التي وعدنا وهو لا يخلف الميعاد.

لقد أصبح المسلمون حتي عصرنا الراهن ( أوائل القرن الواحد والعشرين) يتصور معظمهم أنهم سيدخلون الجنة ببعض الأعمال هنا وهناك مع النطق بالشهادتين ، ولا أدري ما معني أن تنطق بالشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ثم تركع أمام مطالب اليهود والصليبيين، أي نوع من التوحيد هذا ؟!   بل كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن أراد أن يدخل الإسلام دون أن يلتزم بالجهاد – بعد أن سحب يده من مصافحة المبايعة – ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله هي الجنة .

ويتصور البعض أن جائزة الجنة بسيطة وهي ليست كذلك بنصوص القرآن ، فكيف نستحقها لمجرد القيام ببعض الشعائر ، كما يفعل أصحاب العقائد الأخرى ، وببعض الأعمال الخفيفة التي لا تعرض للخطر ، أي الدخول للجنة مع السير بجوار الحائط ( أو داخل الحائط كما يبدعون الله في القول ) ، فهؤلاء إما يخدعون الله فهو خادعهم ، أو يخدعون أنفسهم

أقول ذلك للحاضر والمستقبل، وبعيدا عن هندسة التاريخ ، فان محمد علي بنظام حكمه ورغم كل ما كيلت له من مديح على إنجازاته ، لم يكن مؤهلا للقيام بدور تجديد الدولة الإسلامية ، بل كان يستبعد أصلا الفكرة ( دخول الأستانة) فكيف سينجح فيها إذا اضطر لها.   والأغلب أن خطة إبراهيم باشا كانت ستنجح عسكريا في الدخول للأستانة ، ولكن فرصة إعادة بناء الدولة الإسلامية ربما لم تكن متاحة ، فالأمر يحتاج لمؤسسات ودعاة  وتفجر الشعب التركي بقادة جدد وهو ما لم نر بوادره ، بل كان اعتماد محمد علي – كالدولة العثمانية في فجرها – علي الجيش والعمل العسكري بدون توازن مع الواجبات الأخري التي لا تقل أهمية إن لم تزد. ما حدث إذن قد حدث . ولكن أتحدث عن الحاضر والمستقبل ولا أتحدث عن محمد علي إلا كمجرد دروس مستفادة.

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading