- الصورة لابن الايهم -الحلقة الرابعة من دراسة حد الردة والحلقة 74 من دراسة المستطيل القرآنى
كان جبلة بن الايهم ملك الغساسنة وهم القسم الأهم والأكبر من متنصرة العرب المتحالفين مع الرومانوقاتل معهم بقواته حتى هزيمة اليرموك فانحاز إلى الأنصار وهو مثلهم من أصل يمنى وأعلن إسلامه وذهب للقاء عمر بن الخطاب الذى أكرم وفادته. ولكن أثناء أدائه لفريضة الحج داس أحد رجال فزارة على ثوب بن الايهم دون قصد ، فوقع على الأرض وسقط ثوبه ، فقام وضرب الفزارى ضربة شديدة حطمت أنفه . وهنا ثار أهل قبيلة فزارة وطالبوا عمر بن الخطاب بالقصاص . واستدعى عمر بن الايهم ، فلما أتى وسأله عمر : كا حملك على أن صنعت بهذا الرجل ما أرى ؟ فقال : يا أمير المؤمنين تعمد حل إزارى ليبدى سوأتى ولولا حرمة هذا البيت ودين الاسلام ما ترددت فى قتله . قال عمر : فأرضى الرجل إن رضى وألا أنصفته منك . فقال جبلة : أو تفعل ؟ إنما أنا ملك ابن ملك وهو رجل من السوقة . قال عمر : إن الاسلام جمعك وإياه فما تفضله إلا بالتقوى . قال جبلة : فإن أرضيته ولم يرض ؟ قال : يقتص منك بمثل ما فعلت به . فقال : تالله لقد ظننت أن أكون فى الاسلام أعزمنى فى الجاهلية ، وطلب من الخليفة أن ينظرهمن ليلته حتى الصباح ، فلما كانت الغدتة بذل جبلة للفزارى عشرة آلاف درهم عوضا عن لطمته إياه فلم يقبلها وأبى إلا أن يهشم أنفه .. فاستعظم ذلك من حضر الموسم من أهل اليمن وتداعت قبائلهم طاف أهل اموسم الفتنة وأقبلت الأنصار أوسا وخزرجا إلى عمر بن الخطاب وقالوا : يا أمير المؤمنين نحن نرضى هذا الفزارى عن جبلة فإنه رجل من سادات غسان ونحن نفتدى هذه اللطمة فلم يقبل عمرأن يقتص الفزارى إلا من جبلة واستمر الكلام وكثر اللغط حتى حل الليل .
لما رأى جبلة عزم الخليفة انتظر حتى نامت العيون وسكنت الحراك وجمع رواحله والذين جاءوا معه زمضى متوجها نحو قومه بالشام مرتدا عن الاسلام. وعندما اكتشف عمر ذلك أرسل إلى عبيدة بن الجراح قائد الشام يعلمه بهذا التطور ويطلب إليه الحيطة والحذر منه ومن قومه ومن سائر المتنصرة من قبائل عرب الشام .وبالفعل فقد عاد جبلة إلى العمل والنشاط مع الرومان .ولكن ظل المسلمون فى تقدم من نصر إلى نصر حتى بلغوا أقصى شمال الشام فانسحب جبلة بقواته التى كانت تبلغ 30 ألف مجهزين بأفضل الأسلحة ومدربين جيدا على القتال ، وهو عدد يقارب عدد كل قوات المسلمين . وهذا دليل آخر على أن العدد تتراجع أهميته فى مقابل العقيدة . ثم انسحب جبلة إلى بلاد الرومحتى القسطنطينية حيث استقبله هرقل أحسن استقبال فرحا به وليكون فألا طيبا وأن يتبعه المزيد من العرب المتنصرة لإعداد جيش جديد لاستعادة الشام ! وهو الأمر الذى لم يحدث بفضل الله . ولكن المعركة مع الروم لم تنته وظلت الحملات بين كر وفر ولكن أغلبها على أرض الروم ( آسيا الصغرى ) وليس فى الشام . وكان المسلمون يهاجمون فى حملات متوالية ( صوائف وشواتى ) أى حملة فى الصيف وحملة فى الشتاء كهجوم باعباره هو خير وسيلة للدفاع عن الشام . وفى عام 21 هجرية أرسل عمر بن الخطاب عميرا بن سعد الأنصارى ليتفاوض مع جبلة ويتلطف معه للرجوع إلى بلاد الاسلام على أساس احتمالين : العودة الصريحة إلى الاسلام أو أن يبقى على دينه ويدفع الصدقة ( أى الجزية فقد كان العرب يأنفون من كلمة الجزية وكان عمر والصحابة قد اتفقوا على استخدام مصطلح الصدقة مع قبيلة تغلب فى الشام لذات الأسباب وفالمهم هو المضمون لا الاسم ) . ويقول عمير : فلما رآنى حيانى ورحب بى وأدنانى ثم سألنى عن أمر الناس وعن عمر بن الخطاب فجعلت اخبره بما أرجو به عطفه ورجوعه إلى الاسلام والعودة إلى الشام ( الفتوح – ابن أعثم ) وكان البلاذرى هو الذى تحدث عن احتمال ( دفع الصدقة والبقاء على الدين ) فقال جبلة : أبعد ما كان منى من الارتداد ؟! قلت : نعم ، إن الأشعث بن قيس الكندى ارتد وقاتل المسلمين ، فلما رجع إلى إلى الحق قبل منه أبو بكر رجوعه وزوجه بأخته أم فروة ( تنفيذا لاتفاق قديم ) كذلك قاتل الأشعث فى القادسية والمدائن وجلولاء ونهاوند واليرموك، كذلك ارتد طليحة بن خويلدالأسدى وعاد إلى الاسلام .ولكن جبلة غير الموضوع وسأله : ألك عهد بحسان بن ثابت . فقلت : شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : نعم . كم لك منذ فارقته . قلت عهدى به قريب . فقال جبلة : لله در حسان كثيرا ما كان يزورنا فى سالف الدهر ( لاشك قبل الاسلام ) بمنازلنا فى الغوطة . ثم سأل عن حاله فقلت : كف بصره فلم يعد يهتدى برا ولا بحرا ، فدعا بخمسمائة دينار هرقلية وخمس ديباجات وخمسة أثواب من الحرير و قال : أحب أن توصل هذه إلى حسان وأراد أن يأمر لى بمثلها فأبيت عليه . فلما أردت الرحيل قلت لجبلة : أتريد أن توصينى بشىء أبلغه عنك لأمير المؤمنين فقال جبلة : وما عسى أن أوصى به بعد ما حدث بيننا . فقلت : إنما أراد أخذ الحق لأهله . فقال : صدقت ولكن اللجاج والشقاق غلب على فأحلنى هذا المحل وودت لوأنى فى ديار قومى فى أسوأ ما أكون أو مت قبل ذلك .
وعندما علم عمر بن الخطاب بتفاصيل اللقاء قال : أبعده الله ، ضل فما اهتدى ، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته . ومع ذلك فقد وافق عمر على توصيل الهدية لحسان بن ثابت وبعث له كى يحضر ويأخذها . فى العام الثالث والخمسون هجرية أرسل معاوية بن أبى سفيان عبد الله بن مسعود الفزارى رسولا إلى ملك الروم فاجتمع بجبلة بن الايهم ورأى مافيه من السعادة الدنيوية والأموال والخدم والذهب والخيول فقال له جبلة : لو أ‘لم أن معاوية يقطعنى أرض البثنية ( فى نواحى دمشق ومشهورة بالزراعة خاصة الحنطة ) فأنها كانت منازلنا بالشام . ووافق معاوية وكتب إليه كتابا مع البريد يجيبه إلى ما طلب فما أدركه البريد إلا وقد مات فى هذه السنة ( ابن كثير – البداية والنهاية ). ولعل هذا دليل على أن الله سبحانه وتعالى لم يرض عنه فانتهى النهاية التى يستحقها فى الغربة والردة .
ولكن لماذا اهتم سيدنا عمر بن الخطاب بجبلة بن الايهم ؟
ذكرنا مرارا ان جيوش فتح الشام بدأت ب 30 ألف فى عهد أبى بكر وارتفع عددها إلى 45 ألف فى عهد عمر بن الخطاب ، بينما حين دخل جبلة بن الايهم بلاد الروم كان معه من غسان وحدعا 30 ألف وكان معه مثلهم من متنصرة العرب الآخرين من لخم وخذام وقضاعة أى كان مجموع مامعه 60 ألف محارب وهو مايفوق عدد المقاتلين المسلمين . وغن كانت الفتوحات كما كررنا لم تتوقف على العدد بل على قوة الايمان بالرسالة والاستعداد بلاستشهاد ، فليس معنى ذلك استبعاد الحسابات السياسية والعسكرية بصورة مطلقة ، وقد رأينا مثلا كيف انسحب المسلمون من حمص فى اتجاه الشام عندما علموا بحشود الروم الضخمة القادمة من الشمال ، وذلك لتقصير الخطوط وجمع شمل أكبر عدد من المسلمين وحتى تصير المعادلة أقرب ما تكون إلى المعادلة القرآنية ( 1 : 10 ) فليس من المصلحة مواجهة الأعداء والنسبة 1 : 20 أو 1 : 30 وهذا هو سبب اعتبار غزوة مؤته نصرا لأن المسلمين بقيادة خالد بن الوليد قتلوا المئات من الروم والمتنصرة مقابل 12 شهيدا مسلما مع الانسحاب الآمن لأن التفوق العددى للروم كان فوق التصور 100 أو 200ألف مقابل 3 آلاف مقاتل مسلم !!
هذه كانت حسابات عمر رغم أن المسلمين سيطروا على مجمل الشام ولكن خطوط القتال ظلت ساخنة مع الروم عبر الحدود ولم تنه الحرب . وكان عمر يضع فى اعتباره الأصل العربى لهؤلاء المقاتلين كنقطة قد يسهل من خلالها استقطابهم كما حدث مع معظم أهل الشام والعراق من أصول عربية .
أرسل عمر بن الخطاب وفدا للتفاوض مع جبلة ومحاولة إقناعه ولم يرسل مجموعة فدائية سرا لقتله باعتباره مرتدا . فإذا كان هناك حكم شرعة صريح بقتل المرتد فإن عمر أكثر الناس تمسكا بأحكام الاسلام بل ورأينا فى هذه الفصة كيف انه لم يجامل الملك ( ابن الايهم ملك الغساسنة ) فى حكم القصاص . وقد يقول قائل : ولكن جبلة انضم للروم المحاربين للمسلمين ، وواقع الأمر أنه كان كامنا على بعد آلاف الأميال من حدود الشام ولم يكن عبر عدة سنوات بعد انسحابه من الشام طرفا فى المعارك مع المسلمين بل كان يعيش ويعسكر بقواته فى القسطنطينية ، ويفهم من هذه القصة أيضا ان كل حالة تقدر بقدرها .
ولكن ماذا جاء عن حد الردة فى كتب الفقه ؟