تأملات السجن :  (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) هل قرأت هذه الآية من قبل؟!

MagdyahmedHussein@gmail.comما أكثر الذين يحبون سورة يوسف، يحبون سماعها وقراءتها, ولكنهم عادة يتوقف اهتمامهم عند الآية (101) أى عند النهاية السعيدة، وحقا ما أجمل هذه النهاية السعيدة, إنها تمدنا بالأمل وتقول لنا مهما كانت وعورة الطريق فإن الإصرار على التمسك بجنب الله سيؤدى إلى الفلاح فى الدنيا والآخرة. ولكن هذه القصة الندية الثرية أشبه بالمادة الغذائية بين شطيرتين، بين المقدمة من الآيات 1-3 وبين الخاتمة الآيات 101-111 وهى تتضمن مجموعة مكثفة من القوانين التى تحكم حياة البشر، وأن القصص القرآنى هو وعاء لشرح وتوضيح هذه القوانين. فى الخاتمة نجد (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (يوسف: 103), وهذا ما نشهده ونلمسه باليد فى عصرنا الراهن، فالإسلام رغم انتشاره الواسع ورغم أن معدلات انتشاره أكبر من معدلات أى دين آخر، إلا أن المسلمين لا يزالون أقلية لا تزيد عن ربع البشرية. وقد تعرضنا لبعض أسباب ذلك فى الرسالة السابقة (وفى دراستنا: كيف تدخل الجنة) فالإنسان ينجذب لما هو مرئى وملموس وحال عما هو غيبى ومؤجل: (كَلا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) (القيامة: 20), والله لا يترك الناس سدى, بل يلح عليهم لينتبهوا لمفتاح الإيمان بالله الذى لا نراه ولكن نرى آياته: (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) (يوسف: 105), وأذكر أننى خلال حواراتى مع بعض الملحدين فإنهم كانوا يتبرمون من الحديث فى الفلك وعجائب عمارة الكواكب والنجوم، رغم أننى هم لسنا من المتخصصين فى الفلك، ولكن من الحقائق المذهلة المعروفة عن الكون والتى لا خلاف عليها تجعل الإيمان بالله أكثر اتساقا معها، من القول بأنها هكذا نشأت بقانون “الضرورة والصدفة” كما تقول المادية الجدلية، فهكذا ظهر قانون من تلقاء نفسه ينظم الكون بدقة متناهية لأن المسافات بين الكواكب وأوزانها ومحور دورانها إذا اختلفت قليلا لاصطدم بعضها ببعض، إذن فهذا القانون عاقل جدا ويعرف ماذا يفعل؟ لماذا لا نعبد هذا القانون بعد تعديل اسمه فلا يصح أن يسمى “الضرورة والصدفة”، لأن الصدف لا يمكن أن تنتظم هكذا فى كل مجال وليس فى مجال الأفلاك فحسب، ثم ندرك أن هذا القانون العاقل جدا (أو الطبيعة) لابد أن تكون مريدة وفاعلة وتعلم ماذا تصنع؟! إن هناك قوة علوية خلقت كل ذلك وتديره، هو الله عز وجل. ولكن رغم هذه الآيات فإن أكثر الناس: (يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ).ولكن هناك بالتأكيد من يؤمن بالله فتقول لنا الآية التالية مباشرة: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ) (يوسف: 106), وأنا أعترف أننى كنت قبل سنوات مع الجمهور الذى بدأت الحديث عنه من محبى سورة يوسف, وأن أنفاسى كانت تتقطع كل مرة مع أحداثها رغم أننى أصبحت أعرفها، ولكن مجرد الوصول للنهاية السعيدة أشعر بالاسترخاء والسعادة فأواصل قراءة ما تبقى من آيات وكأنى أمر عليها مر السحاب. كما أن بعض التفسيرات التقليدية تحيل مثل هذه السنن القرآنية إلى أحداث مكة والمدينة فى صدر الدعوة، وتسقط عنها طابع القانون العام، رغم أنها جاءت بعد إغلاق القوس على قصة يوسف للتأكيد أنها قانون عام, وهو الأمر الذى تكرر مع قصص أخرى، بل كثيرا ما ذكرت هذه القوانين بعيدا عن أى قصة محددة. إذن نحن هنا إزاء دائرتين: الدائرة الأوسع هى كل الناس وما أكثرهم – مهما بذلت معهم من قصارى جهدك لهدايتهم – بمؤمنين. أما الدائرة الأضيق فهى الإيمان بالله مع خلط ذلك بالشرك: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ). ونحن لا نرفض أسباب نزول الآيات لتفسيرها, بالعكس نرى ضرورة ذلك ونعتبرها بمنزلة المذكرة التفسيرية الملحقة بالقانون، لتفسيره وشرحه وتوضيح المقصود منه والذى يهدف إليه. ولكن القانون – كما فى التشريع المعاصر – عندما يصدر يأخذ شكل القاعدة العامة المجردة وينفصل عن مذكرته التفسيرية حتى لا يظن أحد أن القانون ينظم هذه الواقعة وحدها، فى حين أنه يشير إلى معنى عام يتضمن هذه الواقعة وغيرها من الوقائع اللامتناهية التى ستحدث, وهى تتشابه مع الواقعة الأصلية (سبب النزول) فى الجوهر, ولكن ستختلف فى كثير من أشكالها وملابساتها. يقول المفسرون أن هذه الآية تشير إلى إعلان مشركى مكة أنهم يؤمنون بالله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (العنكبوت: 61), ولكنهم يشركون معه عبادة صنم أو أكثر كواسطة أو تقرب (زلفى), وهذا أحد أشكال ميل الناس لما هو مادى وملموس ومرئى حتى وإن كان حجرا لا يضر ولا ينفع فى الواقع! ولا مراء فى صحة ذلك، ولكن هذه الآية (106 من سورة يوسف) لم تشر من قريب أو بعيد إلى مشركى مكة، وإن كان موقفهم يندرج تحت قاعدتها العامة. كما أن آيات أخرى فى القرآن أشارت إلى أشكال أخرى من الشرك جرت فى عصور أخرى وبلاد أخرى. كعبادة الملوك، أو إشراكهم مع الله، وأمرنا الله بالكفر بهم حتى يصح إيماننا (الكفر بالطاغوت) أو الإيمان بأن الأنبياء أبناء الله عزير أو المسيح.إن دور أولى الأمر من المفكرين والعلماء هو الحديث عن الكفر المعاصر وتحصين الناس ضده: وهو الشرعية الدولية والعولمة فى مجال السياسة والاقتصاد, والقضايا الاجتماعية كشئون الأسرة والمرأة والطفولة (مقررات بكين وما بعدها), ومهمة أولى الأمر كشف أشكال الشرك المعاصر حتى لا يسرى بين المؤمنين, وأن يخففوا حديثهم قليلا عن اللات والعزى!! فنحن الآن نصلى ونصوم ونحج ونزكى، ولكننا نقرأ خلال ذلك القرآن ونتعبد به، وننفذ غيره، ونلتزم بذلك حكاما ومحكومين، الحكام يفرضون والمحكومون ينصاعون، ونظم المجتمع قائمة على قوانين الشرعية الدولية، وطلبات الولايات المتحدة، وأوامر الصندوق الدولى، حتى وإن حاصرنا المسلمين وقتلناهم خارج مصر، وجوعناهم وأفقرناهم داخل مصر بل وسرطناهم حتى لا نغضب أمريكا وإسرائيل برفض بضائعهم المشبوهة والمهندسة وراثيا, فالعبادة هى بالأساس مسألة إتباع, وليست مسألة طقوس وشعائر.فلنسأل أنفسنا: من نتبع؟!

من كتاب رسائل الايمان – كتب فى سجن المرج فى عامى 2009 – 2010

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading