تأملات فى ثورة عرابى وسيرة عبد الله النديم – مذكرات السجن

-الصورة للزعيم أحمد عرابى-


الجمعة 21/4/2000

الساعة 9 مساءا :

كما جاء فى مذكرات سابقة فان يوم الجمعة فى السجن هو يوم الراحة .. و الدعة .. و الشئون الادارية .. استيقظت كالمعتاد – وفقا للساعة البيولوجية – الساعة الحادية عشر صباحا .. الافطار بسكويت .. و قراءة الأهرام و الشعب ..

و ذهبت اليوم لصلاة الجمعة .. و هى فرصة لملاقاة الطرف الآخر من السجن .. عنبر 2 موئل التائبين المصريين و المجاهدين العرب الاردنيين و الفلسطينيين و ثورة مصر .. و كان مجرد سلام عابر لأن اطالة الحديث معهم تضرهم .. و شاهدت تطورات جديدة فى السجن أهمها ان ملعب التنس أصبح ملعبا حقيقيا .. من سوء حظى اننى اعتزلت بسبب نصيحة الطبيب .. و لكن اذا طال سجنى فلن أقاوم رغبتى فى استعادة “أمجادى” فى التنس !!

ثم قام “النبطشى” الذى استقام على الطريقة .. و بدأ ينفذ تعليماتى .. بحملة نظافة شاملة بالزنزانة .. و استغليت الوقت فى الاستجابة لدعوة لتناول الشاى فى غرفة 2 بالعنبر .. مع مجموعة من الأصدقاء .. و كان الحديث حول قضية يوسف والى الملعون .. و قمت برياضة المشى لمدة ساعة وسط ذهولى المتزايد من روعة الطقس و الهدوء الذى يكتنف المكان .. فعدد المساجين فى تناقص .. و السجن هادئ بصورة لا توصف .. و كأنه أعد خصيصا لراحة أمثالى .. و لسعادتى تم الإغلاق مبكرا فى الساعة الرابعة (على خلاف رأى باقى المساجين الذين يجبون التأخير فى الغلق و لا أدرى لماذا و لديهم كل وسائل التسلية داخل العنبر ) !!

و كان الغذاء الذى يقترب موعده من المغرب .. قلقاس السجن .. و قد حدثت طفره كبرى فى طهيه بالمقارنة مع الجمعة الماضية .. حيث ظهر دور التوابل و كان مسبكا بصورة رائعة و كأنه مطبوخ بيتى .. و لو حافظ السجن على الأكل بهذا المستوى فان الحمقى وحدهم هم الذين يرفضون تناوله .. كذلك أكلت برتقالة واحدة من برتقال وزارة الداخلية .. و ذهبت أغط فى نوم عميق .. حتى حوالى الثامنة و النصف مساءا ..

لم أنم ليلة أمس حتى صلاة الفجر .. و حتى أنهيت الكتاب الرائع “العودة الى المنفى” للأستاذ أبو المعاطى أبو النجا .. و أحسب انه القصة الأكثر إكتمالا لسيرة عبد الله النديم .. و من الصعب ان نصف الكتاب بانه رواية .. انه سبيكة جمعت بين الرواية و التوثيق التاريخى و المناقشات السياسية و الفكرية المعمقة و نوع من التأريخ لثورة عرابى .. و هو لذلك لا يمكن أن يقرأ بطريقة قراءة القصص المسلية .. و هو فى أجزاء منه يتحول الى حالة شديدة من الجفاف .. و تنقصه أحيانا سمات التشويق القصصى .. ألم أقل انه لا يمكن ان يصنف كرواية .. لقد درست الكتاب و لم أقرأه فقط لذلك فقد أخذ منى 10 أيام (لأننى أيضا لست متفرغا له ) و استفدت منه و أثار فى ذهنى أفكارا كثيرة .. و هو فى جزئه الأخير أبكانى .. فأنا فى كل سجن لى موعد غير مرتب مع ثورة عرابى .. فى المرة السابقة (حبسة الألفى) قرأت مذكرات أحمد شفيق باشا .. من وجهة نظر معارضة الثورة .. و فى هذه المرة وجدت مع أخى عصام حنفى هذا الكتاب بالاضافة لمذكرات أحمد عرابى التى بدأت فى قراءتها لتوى .. و أنا أيضا أتابع قراءتى عن الثورة العرابية بنفس الروح .. التى تأبى الهزيمة .. و أتمنى خلال قراءتى ان تنتصر الثورة و هذا أمر مضحك شبيه بمن يشاهد فيلما سينمائيا للمرة الثانية أو الثالثة و يتمنى ان تتغير الاحداث رغم علمه بنهاية الفيلم .. و الحقيقة ان ثورة عرابى أو ثورة الشعب لم تهزم بالمعنى التاريخى .. لان الثورة هى التى ربت و أنشأت مصطفى كامل .. و كذلك فان ثورة عرابى كانت نبتا لأفكار وجهاد جمال الدين الأفغانى .. نعم نحن لانحرث فى البحر و كل جيل يسلم الراية لجيل تال و لولا جهاد و مجاهدى كل مرحلة ما تولد مجاهدو المرحلة التالية و لقمعت الأمة و هذا لن يحدث باذن الله .

اما الذى أبكانى .. فهى لحظة احساس النديم بالوحدة و العزلة فى بداية فترة هربه حين تم اخماد الثورة .. و اضطر الشعب للتخلى عن قيادته ..

و مع اختلاف الظروف (لا توجد ثورة ) و مع اختلاف المقامات (فأنا لم أفعل ما فعله عبد الله النديم)  الا اننى وجدت فى مناجاته لنفسه شيئا قريبا مما يعتمل فى نفسى عندما أصبحت وحيدا فى هذه الزنزانة فقد قال لنفسه :

من أنت يا نديم ؟ ماذا كنت و ماذا تريد ؟ معلم صبية، كاتب صحفى و خطيب و فلاح و تاجر خسر تجارته و مؤلف روايات و مضحك للأغنياء و الفقراء و زجال و داعية و مهيج جماهير و مسكنها و حالم بكل ما يورث الجنون و عاشق للناس أجل .. عاشق للناس.. تلك هى المسألة .. عاشق مجنون ليس يرضى بأقل من كل الناس فى كل الوقت ! و لم تكن كل المدن التى تقلب فيها سوى مجرد وسائط يقترب من خلالها ممن أحب ! الناس بصخبهم و عرقهم و مشكلات و لفح أنفاسهم ، و ماذا يفعل و قد اختصرت حشوده العظيمة فى خادمه “حسين” و قد أصبح كل همه أن يخاف و يحذر ممن قد أحب !

ماذا يفعل بيديه و عينيه و رجليه ولسانه؟ ماذا يفعل بقلبه و جسده فى مثل تلك الحجرة الرطبة المظلمة ؟ كيف يروض نديم نديما ؟  و لم يكن أمامه سوى أن يكتشف جسده و فكره و يقلب فيهما معا ، يكتشف آلام السكون و هو الذى ظل يشكو طوال عمره آلام النَصَب ! و يضبط نفسه متلبسا بالتفكير فى أجل الأمور و فى أكثرها تفاهة ، و لم تكن ثمة حدود بين أجمل الذكريات و أبشعها ، بين النوم و اليقظة ، بين الحلم و الواقع ! ]

أما الآن .. فالى برامجى المعتادة فى التلاوة والقراءة و نواصل غدا باذن الله .

اترك رد

اكتشاف المزيد من مجدى أحمد حسين

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading